بسم
الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم يا من
بيده ملكوت الأرض والسماء وإليه يتشوق ويدور الأشياء يا حي يا قيوم إياك نروم ولك
نصلي ونصوم أنت قيام الوجود وفائض الخير والجود ومنزل البركات والخيرات وغاية
الميول والحركات ومبدأ الأشراق ومنتهى الأشواق ومدبر الأمور ونور النور وواهب حياة
العالمين وجاعل السماوات والأرضين أيّدنا بأنوار كلماتك ونور قلوبنا بأسرار كتابك
وآياتك وطهر نفوسنا من غسق الطبيعة والجهالة وأخرجنا من رجس عالم الظلمات إلى
مشاهدة أنوارك ومعاينة أضوائك ومجاورة مقربيك ومصاحبة سكان ملكوتك ومسبحيك واحشرنا
مع النبيين والصديقين سيما محمد المبعوث إلى كافة الخلائق أجمعين وأهل بيته
الأطهرين الأنجبين عليهم أشرف صلاة المصلين وأزكى تسليمات المسلمين.
أما بعد فيقول
أنزل خلق الله وأحوجهم إلى كرامة رب العالمين «محمد المدعو بصدر الدين» (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)» ، هذه أنوار علوم إلهية وأسرار مسائل ربانية ومقاصد
قرآنية مستفادة من آيات الكتاب المبين النازل إلى الخلق من عند رب العالمين ، وهي
مفاتيح ينفتح بها باب الجنة والرضوان ويظهر بها كنوز خزائن الرحمن ويعاين بها
جواهر عالم الملكوت وينكشف بها أنوار عالم الجبروت فيها قرة عيون السالكين وشفاء
صدور المؤمنين الموحدين ومرض لقلوب الجاحدين المنكرين وفيها
هدى للمتقين وعمي
وغشاوة على أبصار المنافقين المتكبرين ، (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) وسميتها «بأسرار الآيات وأنوار البينات» وجمعتها في مقدمة
وأطراف مشتملة على مشاهد.
المقدمة
في
بيان طريق السالكين إلى الله ومنهج الراسخين في العلم وفيها عدة قواعد.
قاعدة
في
أن رأس السعادات ورئيس الحسنات هو اكتساب الحكمة الحقة ، أعني : العلم بالله وصفاته وأفعاله وملكه وملكوته ،
والعلم باليوم الآخر ومنازله ومقاماته من البعث والحشر والكتاب والميزان والحساب
والجنة والنار وهي الإيمان الحقيقي والخير الكثير والفضل العظيم المشار إليه في
قوله تعالى (وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) ، إلى قوله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ) وقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، ...) إلى آخر الآية ، والإشارة إلى أن الكفر والضلال مقابل هذا
العلم ، أعني الجهل بهذه المعارف. قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) فظهر أن الاعتقاد بهذه الأمور هو الإيمان الحقيقي وبه يحصل
الكرامة عند الله والزلفى لديه. وذلك ، لأن الإنسان باكتساب هذه العلوم الإلهية
يصير من حزب الملائكة المقربين بعد ما كان من جنس الحيوانات المبعدين ، لما تقرر
في مقامه بالبرهان : أن النفس الناطقة يترقى في الاستكمالات العلمية من حد العقل
الهيولاني الذي هو جوهر نفساني بالفعل ، لكنه مادة روحانية
إلى حد العقل
بالفعل ، وهو جوهر عقلي نوراني فيه صور جميع الموجودات على وجه مقدس ، وهو نور
يتراءى فيه الأشياء كما هي وإنما يحصل له هذا العقل البسيط والنور الشريف بالنظر
في حقائق الموجودات والتدبر في آيات الله الكائنة في الأرض والسماوات لا بالإعراض
عنها كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ومما يدل على وجوب النظر والتفكر واكتساب الحكمة والمعرفة
قوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى
أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) وفي هذه الآية دلالة على أن حياة الإنسان بعد الموت
والمفارقة عن هذه النشأة الزائلة بالمعارف والتصديق بحقائق الأشياء كما هي ، وقوله
: (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ).
وهذا السير
المأمور به ليس إلا السير الفكري والحركة المعنوي دون تعب الجوارح ، وستعلم بيان
ما أشرنا إليه من أن بناء النشأة الآخرة للإنسان وعمارتها إنما هي بما يتقرر في
نفسه من صور الاعتقادات ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ثم إنه قد مدح الله الناظرين في ماهيات الأشياء والمتفكرين
في خلق السماوات والأرض والذاكرين لله من ملاحظة آثار صنعه وجوده في مواضع كثيرة :
كقوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللهَ قِياماً وَقُعُوداً ، وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والإشارة إلى العروة الوثقى والعمدة العظمى في التقرب إلى
الله والفوز بالسعادة الأخروية ، هي اقتناء العلم والمعرفة دون مجرد العمل والطاعة
، وإن كان العمل الصالح وسيلة إليه ، وأنها هي الثمرة والغاية والعمل كالزرع وهي
النتيجة والعمل كالمقدمة وهي المخدومة والسلطان ، والعمل كالخادم والعبد والأجير ،
قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وقال : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) وقال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ
سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ).
ففيه إشارة إلى أن
فعل الصلاة وفعل الحج الذين هما عمدتا الأعمال البدنية والطاعات ليسا مثل الإيمان
واليقين بالأمور المذكورة. وقال (الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) هذا تعريف المؤمن ولم يدخل في حده إلا هذه المعارف
الحقيقية لا شيء من الأعمال ، فلو فرض حصول هذه المعارف على وجهها في قلب أحد من
الآدميين من دون عمل حسنا كان أو قبيحا ، لكان مؤمنا حقا فائزا بالسعادة الحقيقية
من غير قصور وخلل في إيمانه. وهذا وإن كان مجرد فرض لكن الغرض التنبيه على أن
العرفان هو الأصل والعمود والعمل فرع له. وقد حث سبحانه عباده في كثير من الآيات
على اكتساب العلم بالنظر والاعتبار والتأمل في أفعاله والتدبر في آياته وآثاره ،
مثل قوله : (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ، أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا) وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ) وقوله : (وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).
قاعدة
في
أن الجهل بهذه المعارف الإلهية وجحودها مع وجود الاستعداد وقوة التعلم ومكنة التحصيل رأس الشقاوات
والعقوبات وأنه مادة كل مرض ونفاق نفساني ومغرس كل شجرة ملعونة وشجرة خبيثة في
الدنيا والآخرة وهو منشأ العذاب الأليم والخسران العظيم والحسرة والندامة يوم
القيامة.
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ، لا
جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى
قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ : كَذلِكَ
أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) وقوله (اسْتَحْوَذَ) ، أي غلب (عَلَيْهِمُ
الشَّيْطانُ ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللهِ
أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ). والوجه في أن من نسي ذكر الله يكون من أهل العذاب وأنه
يحشر أعمى وأصم ، أن بناء الآخرة على المعرفة والذكر ، لأنها نشأة إدراكية ودار
حيوانية كما سنبين ، فعمارتها بالاعتقادات والعلم والنيات الصالحة والإدراكات
الخالصة ، وبناء الدنيا على الظلمة المادية وعمارتها بالأمور الشهوية والأماني
الباطلة. لأنها نشأة كدرة جرمانية (وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ثم إن من جهل بالله جهل بالأشياء كلها ، لما تقرر من أن
العلم بذات السبب لا يحصل إلا من جهة العلم بسببها ، ومن جهل بالأشياء كان من
الهالكين في الآخرة ، لما مر من أن وجود الآخرة وجود إدراكي فيكون منسيا عند الله
إذ لو كان مذكورا كان موجودا في نفسه إذ المعلومية لا ينفك عنه الموجودية في
الأمور التي وجودها وجود إدراكي وصورتها صورة إدراكية ، وقال أيضا : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) وهذا بمنزلة عكس النقيض لقوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»
على ما أوضحناه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ،
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) جعل الله سبحانه الجهل بالله وآياته منشأ الرجوع إلى نار
الجحيم والعذاب الأليم ، وذلك لأن نفوس الجهال أبدا متوجهة نحو لذات الأجسام
وأغراض الدنيا وشهواتها ، إذ لا تعرف غير هذه الأمور. وأما العارف الرباني فنفسه
لأجل الاستكمال بالعلم والإعراض عن الأمور الدنيوية الجسمانية ، متوجهة دائما نحو
العالم القدس الإلهي ، راغبة إلى قربه تعالى ، لأن من أحب شيئا كان حشره الله إليه
والجاهل لا يحب إلا الأمور الباطلة والأماني العاجلة الزائلة. ولا شك أن الدنيا
وشهواتها أمور باطلة وهمية ، فكان حشره إلى عالم البوار والشرور والظلمات ، فمآله
إلى نار الحجيم ونصيبه العذاب الأليم. قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ
مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى
الْآخِرَةِ ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي
ضَلالٍ بَعِيدٍ).
تنبيه
اعلم أن الكفر
الذي هو منشأ العذاب الأليم الشديد هو ضرب من الجهل أعني المركب مع الاعتقاد
المشفوع بالاستكبار والعناد ، لا مجرد الجهل البسيط بالمعارف ولذلك وصف الله تعالى
أولئك الكافرين بمحبة الدنيا والصد عن سبيل الله وطريق الحق والضلال والاعوجاج عن
سبيله. قوله تعالى : (وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ، إلى قوله : (لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) قوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي معرفة الحق لذاته وعمل الخير لأجله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، (وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) ، (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى
جَهَنَّمَ وِرْداً) أي غاية سكون العارفين وما يئول إليه سعيهم هو الله وغاية
مسلك الجهال المنهمكين في الدنيا وشهواتها إلى النار.
واعلم أن الوصول
إلى الله خير من كل نعيم وسعادة ، لأن كل خير وكمال ونعيم وسعادة في الدنيا
والآخرة رشح من بحر وجوده وفيض من نور شهوده. وقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً
، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) إذ ليس له الحياة الدنيوية الحسية ، لأنها بطلت ، ولا
الحياة الأخروية أعني حياة العلم والمعرفة ، لأنها ما حصلت ، ولا ما اكتسبت. قوله
تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ
مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) إلى قوله : (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ
تَزَكَّى) أي تجردت نفسه عن الهيئات الدنية والأغراض الدنيوية ، (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ
يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ
حِمْلاً). لا شبهة في أن هذه الأوزار والأحمال التي يثقل ظهر القلب
ويمنع النفس عن الصعود إلى الدرجات العلى ليست أجساما ثقيلة محسوسة بل هي من باب
الهيئات النفسانية والأعراض التعلقية التي تجر النفس عن عالم النور إلى عالم
الغرور من سلاسل الشهوات وأغلال التعلقات. قوله تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ) لما بين في موضعه من أن الأخلاق والملكات ستصير صورا
جوهرية يتصور بها النفس الإنسانية ويتلبس بها في الآخرة ، فيكون لها شعارا ودثارا.
ثم إن الهيئات
المتمكنة في نفوس الأشقياء المبعدين من دار الكرامة هي من باب الشهوات الدنيوية
واللذات الحيوانية والأغراض البهيمية ، فهي حاصلة من القوى العمالة للأجرام
السفلية بالتقطيع والجمع والتفريق والتحليل والتركيب (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) ، أي ينزل عليهم من القواهر العلوية ما يتسخن به أبدانهم ،
و (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) ، من قوة قوية لفاعل غليظ شديد يدعوهم إلى الأعمال
الطبيعية وخدمة الشهوات الشيطانية واشتعال النيرانات الكامنة. ويقمعهم عن الميل
إلى جهة السعادة وجانب القدس ، ويردهم إلى الجحيم التي وردوها أولا ، (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها) بواسطة سماع وعظ أو نصيحة أو قراءة آية أو رواية حديث أو
صحبة عالم ، (أُعِيدُوا فِيها) ، لغلبة دواعي سلطان الطبيعة على قلوبهم القاسية واستيلاء
النفس الأمارة بالسوء على نفوسهم. قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) فدلت الآية على أن الغفلة والجهالة صارت سببا لخسران
الآخرة ، وقد مر بيانه. قوله : (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا ، وَلَّى مُسْتَكْبِراً ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ
آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، مِنْ
وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، هذا هُدىً
وَالَّذِينَ كَفَرُوا (بِآياتِ رَبِّهِمْ) لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) فهذه الآيات دلت على
أن رأس الشقاوة
ومنشأ العذاب الأليم ، هو الكفر الذي ضرب من الجهل والاحتجاب عن الحق بما يلزمه من
الأعمال والملكات المؤدية إلى البعد عن دار الكرامة ومعدن الرحمة والانغمار في بحر
الظلمة الجرمية والهوى في الهاوية السفلية والقرية الظلمانية الظالم أهلها ، كما
أن أصل كل سعادة وبهجة هو الإيمان بالله وكلماته وآياته وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر والخروج من هذه النشأة الدنية المظلمة والصعود إلى عالم الطهارة
والقدس والنور من عالم الطبيعة ومعدن الرجس والظلمة والدثور.
تنبيه
اعلم أن محبة
الدنيا والكفر يتلازمان ويتسبب أحدهما بالآخر ، ولهذا ورد في الكتاب الإلهي تعليل
العذاب الأخروي والشقاوة تارة بهذا وتارة بهذا كما في قوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، ذلِكَ
بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) دلت على أن محبة الدنيا مغرس الكفر ومنبت النفاق ، لكن
نتيجة محبة الدنيا هي العذاب العظيم ، الحاصل عن مفارقتها يوم القيامة ، ونتيجة
الكفر هي غضب الله في يوم القيامة. ولا شك عند العارف المحقق أن عذاب الغضب أشد من
عذاب النار ، لأن الأول عذاب روحاني ، والثاني جسماني حسي ، والجحيم صورة غضب الله
، كما أن الجنة صورة رحمة الله وكما أن لذة رضوان الله ـ أكبر من لذة نعيم الجنة
من الحور والقصور والأنهار والأشجار وغيرها ، كما قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) فكذا ألم الحجاب عن الحق أشد من ألم النار ، ولذلك وقع
مقدما في الذكر في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).
ومما يدل على أن
الجهل بالمعارف الإلهية يوجب السقوط عن الفطرة ويؤدي الإنسان إلى أن يصير مرآة
قلبه مكدرة مظلمة بالغواشي والظلمات إلى حد يفسد ظاهرها وباطنها ، قوله تعالى : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ)
وقوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها
بِكُفْرِهِمْ) ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا
قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً).
وتوضيح ذلك
بالبيان الحكمي : أن الروح الإنسانية من جهة أن من شأنها أن يتجلى فيها الأشياء
مشابهة للمرآة ، لكن هذه الحالة في أول الفطرة للنفس أمر بالقوة لكل أحد من الناس
ثم يصير بمزاولة الأعمال والأفعال خارجة من القوة إما إلى الفعل والكمال ، أو إلى
البطلان والزوال. فإذا وقع الإنسان في السلوك العلمي والرياضة الدينية والتكاليف
الشرعية التي هي بمنزلة تصقيل المرآة يخرج النفس من القوة إلى الفعل ويصير عقلا
بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة ، فيكون كمرآة مجلوة يتراءى فيها صور الموجودات
على ما هي عليها ، وإذا لم يقع في هذه الطريقة وهي الصراط المستقيم المذكور في
القرآن ولم يخرج ذاته في طريق الآخرة بالتصفية والرياضة والتطهير والتنوير من
القوة إلى الفعل ، بل سلك مسلك الدنيا وصارت نفسه متدنسة بدنس الشهوات ، متنجسة
برجس الفسوق والسيئات ، بطلت فيه القوة والاستعداد ، لأن يصير منورة بأنوار العلوم
، ولأن يتجلى فيها حقائق الأمثال والرسوم ، ولأن يكون عقلا ومعقولا بالفعل لا
بالقوة. وبالجملة ، قد بطلت القوة وزالت الفرصة بالكلية وصارت النفس حسا بالفعل
بعد ما كانت عقلا بالقوة ، وظلمة بالفعل بعد ما كانت نورا بالقوة ، وبهيمة أو
شيطانا بالفعل بعد ما كانت ملكا بالقوة ، كحديد كان أولا قابلا للإذابة والتصقيل
لتظهر فيها مثل المحسوسات فإذا غاص في جرمه الرين والنداوة والوسخ ، بطل استعداده
في كونه مرآتا ، فكذلك إذا بطل استعداد النفس لأن يكون جوهرا إدراكيا ووجودا علميا
، صارت جوهرا من جواهر الدنيا بالفعل ، وكل ما كان الشيء جوهرا دنيويا ظلمانيا
بالفعل ، يحترق في الآخرة بنار السعير ، إذ الدنيا وما فيها يجاء بها يوم القيامة
بصورة نار جهنم وشرارتها وظلماتها فيحترق بمن فيها ، كما في قوله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ، فَيَجْعَلَهُ
فِي جَهَنَّمَ). وقوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ
أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) وقوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ،
فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ ، كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ) وقوله : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ
ذِكْرِي ، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) ، وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الأمور الدنيوية لا
يمكن أن يكون لها وجود يوم القيامة ، وأن النفس الآدمية ما دامت من جنس هذه
الأكوان الدنيوية ، فهي حطب جهنم وصلى النار ، كما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وإنما يستحق النعيم ويستأهل لجوار الله والجنة من تبدل
وجوده ، وصار جوهرا علميا بعد ما كان جوهرا دنيويا ، وذلك بمزاولة اكتساب العلوم
وملكة التجريد. فظهر أن محبة الدنيا منشأ الكفر والاحتجاب ومادة الشقاوة والعذاب ،
وأن بناء التنعم في الآخرة والحياة الدائمة على العلم والمعرفة ، إذا ما لم يصر
جوهر الإنسان جوهرا إدراكيا علميا لم يجعل من جنس الجواهر الحية القريبة من الله
ودار كرامته المرتفعة عن عذاب النار ومنزل البوار المتنعمة بنعم دار الحيوان
المنسرحة في طبقات الجنان.
قاعدة
في
الإشارة إلى أن هذا المنهج أعني : منهج التوحيد وهو طلب العلم بالله وآياته وملكه وملكوته وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر هو مسلك جميع الأنبياء والأولياء عليهمالسلام ، وأن لا خلاف بينهم في شيء من العلوم الإلهية والأصول
الإيمانية ، وأن طريقتهم في العلم واحد ودينهم دين واحد ، وإنما الخلاف بين
شرائعهم في المسائل الفرعية العملية التي قد يختلف باختلاف الأزمنة والأوقات ،
قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي
إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ، ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) وقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ،
وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ...) وقوله : (ما يُقالُ لَكَ
إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ، (قُلْ : هاتُوا
بُرْهانَكُمْ) ، (هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ
مُعْرِضُونَ) وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، (ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله : (إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).
واعلم أن هذا
المنهاج العلمي والإيمان الحقيقي في غاية الندرة والشذوذ ولا يوجد منهم في كل عصر
إلا عدد قليل كواحد أو اثنين كما قيل : «جل جناب الحق من أن يكون شريعة لكل وارد
أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ...» وذلك لأن علم التوحيد والإيمان الحقيقي نور
يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ، ليس تحصيله بمجرد إقرار بالشهادة ولا ببحث
وتكرار ، أو تلفيق أدلة كلامية ، كما هو شأن أكثر المنتسبين إلى العلم المشهورين
بالإفادة والتدريس ، وأكثر أهل الإسلام ظاهرا هم أهل الكفر والإشراك باطنا ، كما
قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وقوله : (وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) والمراد : يا أيها الذين آمنوا ظاهرا ولفظا ، آمنوا ضميرا
وعلما ، وقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).
ومما يدل على أن
المؤمنين بالحقيقة هم الراسخون في العلم الكاملون
في الحكمة
والمعرفة ، قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وقوله : (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ
وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ...)
هذه الآية دالة
على أن غير هؤلاء القوم لا يشهد حقية الرسول ولا يعلم حقيقة إنزال الكتاب الهادي
إلى صراط التوحيد. وبالجملة أن المؤمنين بالحقيقة هم العلماء بالله واليوم الآخر ،
وهذا العلم نور عزيز المنال وفضل رفيع المثال لا يوجد بمجرد القيل والقال والبحث
والجدال ، أو رواية الحديث وحفظ الأقوال.
قال بعض العارفين
: «أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت» وهذا العلم المشار
إليه ، هو علم الوراثة لا علم الدراسة يعني أن علوم الأنبياء عليهمالسلام لدنية ، فمن كان علمه مستفادا من الكتب والرواية والدراسة
فليس هو من ورثة الأنبياء لأن علومهم لا يستفاد إلا من الله ، كما قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).
ولا تظن ، أن
التعليم من عند الله يختص بهم لا يتجاوز غيرهم فقد قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) فكل من وصل إلى حقيقة التقوى فلا بد أن يعلمه الله ما لم
يعلم ويكون معه ، كما قال (إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).
قاعدة
في
نعوت القرآن وأساميه
اعلم أن القرآن في
اللغة بمعنى الجمع ، كما أن الفرقان بمعنى الفرق والتفصيل ، قال الله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ،
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).
والأول إشارة إلى
العلم الإجمالي المعروف عند العلماء بالعقل البسيط وهو العلم بجميع الموجودات على
وجه بسيط إجمالي وذلك العقل هو فعال
تفاصيل العلوم
النفسانية.
والثاني ، إشارة
إلى العلم النفساني المتكثر بصور عقلية حاصلة في النفوس الفاضلة ، وربما يحصل
الثاني دون الأول لكن الأول لا ينفك عن الثاني ، فكل قرآن لا ينفك عن الفرقان دون
العكس ، ونفس نبينا ، صلىاللهعليهوآله ، في مقام (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنى) عقل بسيط قرآني متحد مع المعقولات كلها ، وهو قلم الحق
الأول ، وكلامه بوجه وهو كلمة الله التامة التي فيها جوامع الكلم ، كما في قوله ، صلىاللهعليهوآله : «أوتيت جوامع الكلم» وفي مقام آخر لوح نفساني فيه تفاصيل
العلوم وصور الحقائق المرسومة فيه من قبل قلم الحق الفعال لصور العلوم ، وتلك
الصور أو محلها هو الكتاب الفرقاني ، فهذا المصحف الذي بين أظهرنا قرآن بوجه
وفرقان بوجه ، وهو كلام الله بوجه وكتابه بوجه ، وسينكشف لك وجوه الفرق بين كلام
الله وكتابه ، وأن المنزل على سائر الأنبياء كتابه لا كلامه ، وأن ذلك فرقان لا
قرآن. إذا علمت هذا فاعلم ، أن من أسمائه نور ، لأنه نور عقلي ينكشف به أحوال
المبدإ والمعاد ، يتراءى به حقائق الأشياء ، ويهتدى به في سلوك يوم القيامة وطريق
الجنة ، كما قال تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقال : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ
سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقوله : (نُورٌ) إشارة إلى مرتبة العقل القرآني البسيط. وقوله : (كِتابٌ) إشارة إلى مرتبة العلم التفصيلي ، كما قال : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) وقال : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وقال : (تَفْصِيلَ الْكِتابِ
لا رَيْبَ فِيهِ). ومن أسمائه العظام الحكمة ، كما في قوله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطابِ) فإن الموجودات أعني الممكنات متميزة حال عدمها الكوني في
علم الله الواحد ويعلم الله تعالى بعلم واحد بسيط صور جميع الأشياء ، ويراها
ويأمرها بالتكوين بأمر واحد هي كلمة كن الوجودي ، فما عند الله إجمال ، بل الأمر
كله في نفسه ، وفي علم الله مفصل ، وإن كان كله معلوما بعلم واحد لكن معلوماته
كثيرة ،
كثرة لا تحصى ،
وإنما وقع الإجمال في حقنا. فمن كوشف بالتفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا
، فذلك العالم الذي أعطاه الله تعالى (الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطابِ) ، وليس ذلك إلا الأنبياء عليهمالسلام والورثة لهم من العلماء الراسخين. وأما الفلاسفة المشهورون
فليسوا من هذا المقام في شيء ، ولا يعلمون التفصيل في عين الإجمال ، كما يراه صاحب
هذا المقام الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وهذه الحكمة عناية ربانية وموهبة
إلهية لا يؤتى بها إلا من قبله تعالى ، كما قال (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَما
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).
فهذه الآية تدل
على أن الحكمة من مواهب الله التي لا تحصل بمجرد السعي ، بل حصولها بالمشية
الربانية لا غير. ولأجل ذلك ذكر أنه من فضل الله في قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بعد قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).
وفي هذه الآية
إشارة إلى أن هذه الحكمة المعبر عنها تارة بالقرآن ، وتارة بالنور وعند الحكماء
بالعقل البسيط ، هو من فضل الله وكمال ذاته ، أتاها الله لمن اختاره واصطفاه من
خواص عباده ومحبوبيه ، كملك من الملوك يعطي خلعته ولباسه المخصوص لمن أحبه من
مقربيه لأن الحكمة الحقة من صفاته الذاتية ، ولا ينالها أحد من الخلق إلا بعد
تجرده عن الدنيا وعن نفسه بالتقوى والزهد الحقيقي ، والفناء من شوائب الخليقة
والانخراط في سلك المهيمين من ملائكته وعباده المقربين حتى يعلمه الله من لدنه
علما ويؤتيه حكمة وخيرا كثيرا وفضلا عظيما ويحييه حياة طيبة ، وجعل له نورا يمشي
به في ظلمات الدنيا وبرازخ القبور ، كما في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) فقوله : (كانَ مَيْتاً
فَأَحْيَيْناهُ) أي فانيا عن غير الله باقيا به. والنور الذي يمشي به في
الناس هو نور الله ، كما في قوله صلىاللهعليهوآله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». ومن أسمائه
الروح ، قوله ، «تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) وقوله تعالى
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ومن نعوته ، الحق ، قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، (بَلْ هُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ). وقوله : (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) وقوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). ومن ألقابه الشريفة الهدى ، لأنه يهدي إلى الحق بل هو
الحق. قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). ومن ألقابه الذكر ، لأنه يتذكر به الأمور الآخرة وأحوال
المبدإ والمعاد (فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ومنها الشفاء ، لأن به يقع النجاة عن الأمراض النفسانية
والأسقام الباطنية والآلام الأخروية من الجهل والحسد والكبر والرياء والنفاق
والرعونة والشهوة والغضب وحب الجاه وسائر المهلكات والأمراض التي إذا استحكمت أعيت
الأطباء الروحانيين عن علاجها. قوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني : أن القرآن هدى وشفاء بالقياس إلى قوم ، وهم الذين
لم يفسد قرائحهم ، ولم يتغير فطرتهم الأصلية التي فطرهم الله عليها ، وهو بعينه
ضلال بالقياس إلى من فسدت قريحته وتغيرت فطرته ، كما أن نور الشمس يقوي للإبصار
وهو عمى للخفافيش ، كما في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ، فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقوله : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ومنها الهدى والرحمة ، قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ). وصفات القرآن ونعوته كثيرة يؤدي ذكرها إلى الإطناب
فاكتفينا بما ذكر ، لأنه كاف للمتدبر المستبصر.
قاعدة
في
وجوه الفرق بين كلام الله وكتابه
الفرق بين كلامه
تعالى وكتابه ، كالفرق بين البسيط والمركب كما مر. وقد قيل : إن الكلام من عالم
الأمر ، والكتاب من عالم الخلق ، وإن الكلام إذا تشخص صار كتابا ، كما أن الأمر
إذا تشخص صار فعلا ، كما قال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
فالفرق بين الكلام
والكتاب بوجه ، كالفرق بين الأمر والفعل ، فالفعل زماني متجدد كما ستعلم ، والأمر
بريء عن التغير والتجدد ، والكلام غير قابل للنسخ والتبديل ، بخلاف الكتاب : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ،
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).
فصحيفة وجود
العالم الفعلي الخلقي هي كتاب الله عزوجل ، وآياته أعيان الموجودات (إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ).
وأما كلمات الله
التامات ، فهي الهويات العقلية النورية التي وجودها عين الشعور والإشعار والعلم
والإعلام ، وكما أن كتاب الله مشتمل على الآيات (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) فكلام الله مشتمل على الآيات (تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ).
واعلم أن الأمر
منه تكويني ومنه تشريعي ، والأمر التكويني موجب للطاعة والقبول كإطاعة الملك
والملكوت ، بخلاف الأمر التشريعي لأنه أمر بالواسطة ، فتطرق إليه الإباء والعصيان
والطاعة والإتيان «فمنهم من أطاع ومنهم من عصى».
واعلم أن النازل
على أكثر الأنبياء ، عليهمالسلام ، من الله هو الكتاب دون كلام الله. وهذا القرآن الذي أنزل
على محمد ، صلىاللهعليهوآله ، كلام الله وكتابه جميعا باعتبارين ، وأما سائر الكتب
السماوية المنزلة على سائر
المرسلين ، سلام
الله عليهم أجمعين ، فإنها ليست بكلام الله ، بل كتب يدرسونها ، ويكتبون بأيديهم.
فهذا المنزل بما هو كلام الله نور من أنوار الله المعنوية النازل من عنده على قلب
من يشاء من عباده المحبوبين (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) وقوله : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) قوله : «نزل على قلبك بالحق» وقوله : (بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ
نَزَلَ).
وهو بما هو كتاب
نقوش وأرقام وصور وألفاظ وفيها آيات أحكام نازلة من السماء نجوما على صحائف قلوب
المحبين وألواح نفوس الطالبين ، وغيرهم يكتبونها في صحائفهم وألواحهم الحسية بحيث
يتلوها كل تال ويقرؤها كل قار ، ويتكلم بها كل متكلم ، وبها يهتدون وبما فيها
يعملون ، ويتساوى في هداها الناس العوام والخواص والأنبياء والأمم ، كقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى وَالْفُرْقانِ) وقوله : (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) وقوله : (وَعِنْدَهُمُ
التَّوْراةُ ، فِيها حُكْمُ اللهِ).
وأما القرآن
العظيم الكريم ، ففيه عظائم الأمور الإلهية التي لا يصل إلى دركه إلا أهل الله
خاصة ، لقوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) وفيه كرائم أخلاق الله التي تخلق بها رسول الله ، صلىاللهعليهوآله لقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) وكان خلقه القرآن ، كما نقل.
ويدل على ذلك قوله
(هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ) بيان ذلك : أن القرآن نور كما مر من قوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) فإذا خرجت به نفوس أمته من الظلمات إلى النور ، صاروا
متصفين بالنور متخلقين به ، فإذا كان حال الأمة هذا الحال ، فما ظنك بحال نبيهم ، صلىاللهعليهوآله.
دقيقة كشفية
واعلم أنه قد يكون
شيء واحد كلاما وكتابا باعتبارين لما علمت ،
أن الأمر كلام ،
والفعل كتاب ، وأن القائم بالمتكلم كلام ، والصادر منه كتاب. فالإنسان مثلا لكونه
ذا درجات بحسب النفس والبدن وهو بحسب كل مقام غير خارج عن الهوية الإنسانية إذا
تكلم بألفاظ وحروف مسموعة ، فإذا نسبت تلك الألفاظ والحروف إلى نفسه ، كان كتابا
له وفعلا صادرا عنه صنعه وكتبه في لوح الهواء وفي مخارج الحروف من الأعضاء ، وإذا
نسبت إلى شخص بدنه كان كلاما قائما بشخصه ، لا كتابة صادرة عنه. وكذا القياس إذا
تحدث بحديث النفس ، كان باعتبار نسبته إلى عقله المجرد بالصدور كتابا ، ومن حيث
قيامه بالنفس واتصافها به كلاما لها ، فهو كتاب لعقله وكلام لنفسه. وكذا الحال في
الكتابة الموجودة في لوح وقرطاس يمكن اعتبار الحالين فيها بالصدور والقيام ولو
بتعمل. تأمل في ذلك فإنه دقيق لطيف يرفع به الخلاف بين الطائفتين.
قاعدة
في وجوه الفرق بين إنزال كلام الله على
قلب النبي ، صلىاللهعليهوآله
، وبين إنزال الكتب السماوية وتنزيلها إلى سائر الأنبياء عليهمالسلام.
قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي نزل على قلبك حقائق القرآن وأنواره متجلية بسرك ، لا
صورة ألفاظ مسموعة أو مكتوبة على ألواح زمردية مقروة لكل قارئ.
دليل ذلك قوله
تعالى : (وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) يعني نزل بالحقيقة لا بالتصوير والحكاية. وقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) يعني ما كنت تكتسب بالدراية والفهم صورة ما في الكتب العلمية
، ولست تتعلم الإيمان من معلم غير الله ، ولكن جعل الله قلبك نورا عقليا تتنور به
حقائق الأشياء ويهتدي بها إلى ملكوت الأرض والسماء. وقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ، بَلْ هُوَ
آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وقد
وقعت الإشارة إلى
أن تعليم القرآن من قبل الله بأن يتجلى بنور الحكمة الذي هو حقيقة الكلام ونور
الإيمان على قلب من كان من عباده الكرام وأحبائه العظام. وبالجملة ، القرآن خلق
النبي ، صلىاللهعليهوآله ، كما مر وسائر الكتب ليست كذلك. وبالجملة من علمه الله
القرآن بهذا التعليم ، كان عليه من الله فضلا عظيما ، كما قال لحبيبه ، صلىاللهعليهوآله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).
بل نقول التعليم
على ثلاثة أقسام : تعليم بشري ، وتعليم ملكي ، وتعليم إلهي. والأول ، كما لسائر
الناس ، والثاني ، كما لسائر الرسل «عليهمالسلام» ، كان يمثل لهم الملك ويعلمهم
الكتاب ، والثالث ، كما لخواص الأنبياء وعظماء الأولياء عند عروجهم المعنوي إلى
الله. وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار بقوله : تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) فالأول هو التعليم الإلهي ، والثاني هو الملكي ، والثالث
هو البشري ، فافهم أن كنت من أهله. ولا يفهم هذه الرموز إلا من خرج طائر روحه الأمري
من قالبه البشري ونفسه فإنه منطق الطير ، وأنت بعد بيضة محبوسة في القشر الصوري ،
لست من السيارين في أرض الملكوت ولا من الطيارين في جو الجبروت.
وجه
آخر من الفرق ، إنه
قال تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقال : (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) وقال في حق القرآن : (ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والفرق ظاهر بين كتاب فيه هدى للناس ويستوون في هداه
الأنبياء والأمم ، وبين كتاب فيه هدى الأنبياء والمتقين من هذه الأمة المخصوصين
بالعناية ، كما قال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وجه آخر ، قال : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) وقال في حق القرآن : (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى) وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).
والفرق عظيم بين
الكتابة والوحي ، وكذا بين الموعظة والبرهان ،
ثم إنه جعل الله
تشريف سائر الأنبياء عليهمالسلام ، مثل تشريف هذه الأمة ـ المرحومة لمحمد صلىاللهعليهوآله ، حيث قال لهذه الأمة : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، فشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح ، وبين
نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم.
وجه
آخر : القرآن تنزل
على قلب الرسول ، وسائر الكتب نازلة على صدر الأنبياء ، وفرق بين تعلمهم الكتاب
وبين تعلم نبينا الكتاب ، فكانوا يتدارسون الكتب ، وخاتمهم صلىاللهعليهوآله كان متخلقا بالقرآن.
وجه
آخر في الفرق بين ما
أفاد له صلىاللهعليهوآله ، تنزيل الكلام ، وبين ما أفاد لهم عليهمالسلام ، أنزل الكتب ، فإن أفاد الإنزال لهم الحكمة ، فقد أفاد له
صلىاللهعليهوآله ، إن أوتي جوامع الكلم ، وبه فضل على الأنبياء عليهمالسلام وبخمسة أمور أخرى ، لقوله صلىاللهعليهوآله : «فضلت على الأنبياء بست» وكذا تحقق الفرق بين تصرف تنزيل
الكلام على قلبه وتصرف الإنزال عليهم ، فإن كان إنزال الكتب تصرف فيهم بأن كان
الكتاب مع أحدهم نورا من الله يجيء به إلى أمته ليكون هدى لهم ، كما قال تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي
جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) ، فإن تصرف تنزيل القرآن على قلبه جعله نورا من الله يجيء
إلى الأمة ومعه الكتاب لقوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ) وهو محمد صلىاللهعليهوآله ، وكتاب مبين ، فشتان بين نبي يجيء ويكون هو بذاته نورا
ومعه كتاب ، وبين نبي يجيء ويكون معه نور من الكتاب.
هذا وقد انكشف
عليك من تضاعيف ما ذكرناه لك أن الكلام غير الكتاب وأن الحكمة والنور والقرآن والكلام
الإلهي يجري مجرى الألفاظ المترادفة في لسان هذا الكتاب ، وأنها جميعا عبارة عن
مرتبة العقل البسيط الذي فيه حقائق الأشياء مجملة ، وأن الكتاب عبارة عن مقام نفسي
فيه صور العلوم التفصيلية ونسبة الأول إلى الثاني كنسبة الكيمياء إلى الدنانير
وكنسبة البذر إلى الشجرة ، بل كنسبة المبدإ الفعال إلى مجعولاته.
قاعدة
في
الإشاره إلى عمدة مقاصد الكتاب الإلهي وأصول معاقده وأحكامه
اعلم أولا ، أن سر
نزول القرآن ومقصده الأقصى ولبابه الأصفى ، دعوة العباد إلى الملك الأعلى ، رب
الآخرة والأولى ، والغاية المطلوبة فيه تعليم ارتقاء العبد من حضيض النقص والخسران
إلى أوجه الكمال والعرفان وبيان كيفية السفر إلى الله طلبا لمرضاته ولقائه ومجاورة
لمقربيه ، وتنعما للروح السعيدة بما في حضرة ملكوته ، وانسراحا للنفس في روضات
جنانه ، ونجاتا لها عن دركات الجحيم ومجاورة مؤذياتها والتعذيب بنيرانها وعقاربها
وحياتها ، ولأجل ذلك انحصرت فصوله وأبوابه وسوره وآياته في ثلاثة مقاصد هي
كالدعائم والأصول والأعمدة المهمة ، وثلاثة أخرى هي كالروادف والمتممات واللواحق
والمعينات.
أما
الأصول المهمة فأولها ، معرفة الحق الأول وصفاته وأفعاله.
وثانيها ، معرفة الصراط المستقيم
ودرجات الصعود إلى الله وكيفية ـ السلوك عليه وعدم الانحراف عنه.
وثالثها ، معرفة المعاد
والمرجع إليه وأحوال الواصلين إليه وإلى دار رحمته وكرامته ، وأحوال المبعدين عنه
والمعذبين في دار غضبه وسجن عذابه ، وهو علم المعاد والإيمان باليوم الآخر.
وأما
الثلاثة الأخيرة ، فأحدها ، معرفة المبعوثين من عند الله لدعوة الخلق ونجاة النفوس عن حبس الجحيم
وسوقهم إلى الله ، وهم قواد سفر الآخرة ورؤساء القوافل ، والمقصود منه الترغيب إلى
الآخرة والتشويق إلى الله.
وثانيها ، حكاية أقوال الجاحدين وكشف فضائحهم وتسفيه عقولهم في غوايتهم
وضلالتهم وتحريهم طريق الهلاك ، والمقصود فيه التحذير عن طريق الباطل والتثبت على
الطريق المستقيم.
وثالثها ، تعليم عمارة المنازل والمراحل إلى الله والعبودية وكيفية
أخذ الزاد
والاستعداد برياضة المركب وعلف الدابة لسفر المعاد ، والمقصود منه كيفية معاملة الإنسان
مع أعيان هذه الدنيا التي بعضها داخلة فيه ، كالنفس وقواها الشهوية والغضبية
برياضتها وإصلاحها حتى لا يكون جموحا بل رائضة حمولة يصلح للركوب في السفر إلى
الآخرة والذهاب إلى الرب تعالى ، كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليهالسلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ) وهذا العلم يسمى تهذيب الأخلاق. وبعضها خارجة ، إما مجتمعة
في منزل واحد كالوالد والولد والأهل والخدم ، ويسمى تدبير المنزل ، أو في مدينة
واحدة أو أكثر ، ويسمى علم السياسة وأحكام الشريعة ، كالقصاص والديات والأقضية
والحكومات وغيرها ، فهذه ستة أقسام من مقاصد القرآن ونحن نقتصر في هذا الكتاب على
إيراد القواعد المتعلقة بالثلاثة المهمة التي هي بالحقيقة أركان الإيمان وأصول
العرفان ، وقد فتح الله على قلبنا من أبوابها ما لم يذكر في شيء من المصنفات من
أسرار الآيات ورموز الكلام الإلهي.
وأما
قواعد العلوم الفرعية فقد نصب الله لها أقواما قد استفرغوا جهدهم في تحصيلها وفنوا أعمارهم في شرحها
وتفصيلها شكر الله حسنات مساعيهم وأثابهم جنات الأعمال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
فالمقصد الأول ، وهو المعروف بمعرفة
الربوبية مشتمل كما أشرنا إليه على ثلاث مراتب : معرفة الذات الإلهية ، ومعرفة
صفاتها وأسمائها ، ومعرفة أفعالها.
أما معرفة الذات ، فهي أضيقها مجالا ، وأرفعها منالا ، وأبعدها عن الفكر
والذكر ، إذ حقيقة الواجب ، جل مجده ، هوية بسيطة غير متناهية الشدة في ـ النورية
والوجود ، وحقيقته عين التشخص والتعين ، لا مفهوم له ، ولا مثل ولا ـ مجانس ولا
مشابه ، ولا حد له ، ولا برهان عليه ، بل هو البرهان على كل شيء فلا أعرف من ذاته
ولا شاهد عليه ، بل هو الشاهد على الكل (أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، وهو القائم (عَلى كُلِّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ) ، (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) ، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وليس للمعلول المقهور عليه أن يحيط بعلمه العلة له والقاهر
عليه ، وإلا ، لانقلب المعلول علة ، والمقهور
قاهرا ، وهو محال (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ
رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ولهذا ورد النهي عن التفكر في ذات الله ، لقوله صلىاللهعليهوآله : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في ذات الله» ولأنه
تحترق النفس في إدراك أشعة نور وجهه ، فكيف في نور وجهه فلا يمكن الوصول إلى معرفة
ذاته إلا بفناء السالك عن نفسه ، وباندكاك جبل إنيته ، حتى شهد ذاته تعالى على
ذاته ، كما قال بعض العارفين «عرفت ربي بربي ، ولو لا ربي ما عرفت ربي» وعن أبي
عبد الله عليهالسلام «من زعم أنه يعرف
الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ، لأن حجابه ومثاله وصورته غيره ، وإنما هو
واحد متوحد ، وكيف توحده من زعم أنه عرفه بغيره. وإنما عرف الله من عرفه بالله ،
فمن لم يعرفه به ، فليس يعرفه وإنما يعرف غيره» ولأجل ذلك لا يشتمل القرآن من
معرفة الذات في الأغلب ، إلا على تقديسات محضة وتنزيهات صرفة وسلوب عن نقائص
وإمكانات كقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وكقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وكقوله : (وَاللهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ ـ الْفُقَراءُ) وكسورة الإخلاص ، أو على تلويحات وإشارات إلى التعظيم
المطلق ، كقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) وقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ، و (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) وقوله تعالى (عَمَّا يَصِفُونَ) أو إضافات محضة كقوله :
(بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ).
وأما
الصفات ، فالمجال للفكر فيها أفسح ، ونطاق النطق فيها أوسع ، لأنها
مفهومات عقلية يقع فيها الاشتراك ، إلا أنها فيه على وجه أشرف وأعلى ، وأن مصداقها
في الأول تعالى ذاته بذاته ، وفي غيره ليس كذلك. ولأجل ذلك اشتمل القرآن على ذكر
تفاصيلها في كثير من الآيات ، كما في قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) وقوله : (هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) وكقوله : (الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ) وقوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ
الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وفي هذا القسم أيضا غموض شديد ، وتعسر تام ، ولا يمكن
معرفة بعض الصفات ، كالكلام والصفات التشبيهية ، إلا لأهل البصائر الثاقبة ،
كالسمع ، والبصر ، والاستواء على العرش ، والابتلاء ، والمماكرة ، والتردد ،
والذهاب ، والمجيء ، والكراهة ، والتأذي ، وكالوجه ، واليد ، والجنب ،
والقدم ، وغير ذلك
مما لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
وأما
الأفعال ، فبحر متسع
أطرافه ، ولكل أحد أن يخوض فيه ويسبح في غمراته بقدر غزارة علمه وقوة سباحته ، لكن
لا ينال بالاستقصاء أطرافه ، لأنها مرتبطة بالصفات كالصفات بالذات ، بل ليس في
الوجود إلا ذاته وصفاته وأفعاله التي هي صور أسمائه ومظاهر صفاته ، لكن القرآن
مشتمل على الجلي منها ، الواقع في عالم الشهادة تصريحا وتفصيلا ، وعلى الخفي منها
، الواقع في عالم الغيب تلويحا وإجمالا.
فالأول ، كذكر
السماوات والأرض والكواكب والشمس والقمر والجبال والبحار والسحب والأمطار وسائر
أسباب الكائنات ، والحيوان ، والنبات. لكن أشرف صنائع الله وأعجبها وأعظمها وأدلها
على جلال الله وعلوه ومجده ، ما هو محجوب عن الحس ، بل هو من عالم الملكوت ، وهي
الملائكة والروحانيات والروح والعقل والنفس واللوح والقلم ، بل العرش والكرسي عند
بعض ، فإن هذه كلها خارجة من عالم الملك والشهادة ، ومن أداني عالم ـ الملكوت هي
الملائكة العمالة الموكلة بعالم الأرضين ، ومنهم كتبة الأعمال ، وملائكة جانب
الشمال وكرام الكاتبين. قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) فالسائق للعمل والشهيد للاعتقاد ، (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ
عَتِيدٌ) وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ومنهم أعوان ملك الموت وسدنة النيران ، (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ومنهم الساكنين في البراري والجبال ، ودونهم الجن
والشياطين المسلطين على جنس الإنس الذين امتنعوا عن السجود لآدم عليهالسلام ، ومن أعاليهم الملائكة السماويون ، أي ، (الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ... ، (يُسَبِّحُونَ لَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ). وأعلى منهم حملة العرش والكروبيون ، وهم العاكفون في
حظيرة القدس ، لا الالتفات لهم إلى هذا العالم ، بل لا التفات لهم إلى غير الله ،
لذهولهم عن ذواتهم واستغراقهم في شهود الحضرة الإلهية ، وهم من أهل الفناء في
التوحيد ، ويقال لهم الملائكة المهيمة ، ولا يستبعد أن يكون في
عباد الله من
يشغله مطالعة جلال الله عن الالتفات إلى نفسه فضلا عن غيره.
وقد ورد في الحديث
عن رسول الله صلىاللهعليهوآله : «إن لله أرضا بيضاء ، مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما ، هي
مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة ، مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض ، ولا
يعلمون أن الله خلق آدم وإبليس» وأكثر الخلق إدراكهم مقصور على عالم الحس والتخيل
وإنهما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى من اللب الأصفى ،
ومن لم يجاوز هذه الدرجة لا يعرف من القرآن إلا ما له نسبة القشر الأخير من الجوز
، والبشرة من الإنسان. فهذه مجامع القسم الأول من الثلاثة للأصول ، وقد انقسم إلى
ثلاثة أقسام ، فهي مع القسمين الأخيرين اللذين أحدهما معرفة النفس وأحوال الآخرة
وكيفية صعودها إلى الله ومرورها على الصراط المستقيم وسلوكها درجات طريق الحق
وهبوطها وانحرافها عن الصراط وسقوطها عن الفطرة ، ومرورها على دركات الجحيم.
وثانيهما ، معرفة المعاد وأحوال يوم القيامة والبعث والحشر والصراط والميزان
والحساب والكتاب والثواب والعقاب في الجنة والنار ، فالمجموع خمسة أقسام نذكرها في
أطراف ثلاثة.
الطرف الأول في علم الربوبية وفيه مشاهد :
المشهد الأول
في معرفة الحق
الأول جل ذكره ووحدانيته وفيه قواعد :
قاعدة
في
إثبات وجوده (شَهِدَ
اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)
اعلم أن أعظم البراهين
وأسد الطرق وأنور المسالك وأشرفها وأحكمها هو الاستدلال على ذاته بذاته ، وذلك لأن
أظهر الأشياء هو طبيعة الوجود المطلق بما هو مطلق ، وهو نفس حقيقة الواجب تعالى ،
وليس شيء من الأشياء غير الحق الأول نفس حقيقة الوجود ، لأن غيره إما ماهية من
الماهيات ، أو وجود من ـ الوجودات الناقصة المشوبة بنقص أو قصور أو عدم ، فليس شيء
منها مصداق معنى الوجود بنفس ذاته ، وواجب الوجود هو صرف الوجود الذي لا أتم منه
ولا حد له ولا نهاية ولا يشوبه شيء آخر من عموم أو خصوص ، أو صفة غير ـ الوجود
بخلاف غيره.
فنقول : لو لم يكن
حقيقة الوجود موجودا ، لم يكن شيء من الأشياء موجودا ، لأن غير حقيقة الوجود إما
ماهية من الماهيات ، ومعلوم أنها من حيث ذاتها غير موجودة ، أو وجود ناقص غير تام
، فلا محالة يلزمه تركيب وتخصيص بمرتبة معينة وحد خاص من مطلق الوجود ، فيفتقر
بالضرورة إلى سبب به يتم
وجوده ، ومحدد
يحدده بحد الخاص ، ويخرجه من القوة إلى الفعل ، ومن الإمكان إلى الوجوب ، إذ كل ما
ليست حقيقته حقيقة الوجود فلا يقتضي ماهيته وجود ، ولا هويته حدا خاصا من الوجود ،
فيحتاج إلى قاهر عليه محدد له مفيد لمرتبة المعين في الوجود ، وذلك المقتضي يجب أن
يكون مقدما في الوجود على الجميع تقدم البسيط على المركب ، والواحد على الكثير ،
والتام على الناقص ، والغني على الفقير ، والفياض على المفاض عليه فحقيقة الحق
الأول هو البرهان على ذاته والبرهان على كل شيء ، كما قال جل شأنه : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهذه سبيل الصديقين الذين يتوسلون به إليه ويستدلون به
عليه ويستشهدون بوجوده على سائر الأشياء لا بوجود الأشياء عليه ، كما في طريقة
غيرهم من السالكين الذين يستدلون بوجود الأثر على الصفات وبالصفات على الذات ، وهي
طرق كثيرة ، أجودها منهجان :
أحدهما ، معرفة النفس الإنسانية (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) ، وهذا أجود الطرق بعد طريق الصديقين ، لأن المسلك هاهنا
عين الطالب وفي طريقهم عين المطلوب.
وثانيهما ، النظر في الآفاق والأنفس ، كما أشار إليه تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) وفي القرآن آيات كثيرة في هذا المنهج ، قد مدح الله على
الناظرين في خلق السماوات والأرض ، وأثنى على المتفكرين في آثار صنعه وجوده.
قاعدة
في
تحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر ، قال الله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ...) وقال : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً بَعِيداً) دلت الآيتان على أن الإيمان يحصل بمعرفة هذه الأمور
والتصديق بها وقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا ، رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ ، أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ) دلت الآيتان على أن المؤمن الحقيقي من يكون قلبه منزل
كلمات الله ومورد الملائكة ، وقال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقال : (هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ) وقال : (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ ...) وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وقال : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ) دلت الآيات على أن الإيمان نور عقلي يخرج به النفس من
القوة والنقص إلى الفعل والكمال ، ويرتقي من عالم الأجسام والظلمات إلى عالم
الأرواح والأنوار ، ويستعد للقاء الله تعالى ، وذلك النور هو المسمى عند الحكماء
السابقين بالعقل بالفعل ، وقالوا : إن النفس بسبب مزاولة العلوم العقلية اليقينية
يصير ذاتها عقلا قدسيا صائرة نورا إلهيا من حزب الملائكة المقربين.
تنبيه واعلم أن الإيمان إيمانان
أحدهما ، تقليدي
سمعي ، كإيمان العوام يصدقون بما يسمعون ويستمرون عليه وبه يمتازون عن الحيوانات
وفائدته في الدنيا حقن الأموال والدماء وإيمان كشفي قلبي يحصل بانشراح الصدر وتنور
القلب بنور الله ، كما أشار الله تعالى إليه (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ، فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ
مِنْ ذِكْرِ اللهِ) وينكشف بذلك النور حقيقة الأشياء الأصلية على ما هي عليه ،
فيتضح حينئذ أن الكل من الله ابتداؤه ، وإلى الله مرجعه ومصيره. وهذا الصنف هم
المقربون النازلون في الفردوس الأعلى ، وهم على غاية القرب من الحضرة الربوبية.
وهم أيضا على أصناف فمنهم السابقون ، ومنهم من دونهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله
وصفاته وأفعاله ، ودرجات العارفين غير محصورة ، كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) إذ الإحاطة بكنه جلال الله غير ممكن ، وبحر المعرفة ليس له
ساحل ، فكل له درجة بقدر قوة غوصه وخوضه فيه. وأما المؤمن إيمانا تقليديا فهو من
أصحاب اليمين إن كان عمله صالحا ، فهو يثاب في الآخرة بحسب ميزان عمله وسلامة صدره
من الغل والغش ، فمن أدى الفرائض واجتنب الكبائر ، فيدخل في الجنة ، وكذا من أهمل
الفرائض وارتكب الكبائر ، إلا أنه تاب توبة نصوحا ، فإن التائب من الذنب كمن لا
ذنب له. وأما من لم يتب من الكبائر حتى مات ، فأمره خطير ، إذ ربما كان موته على
الإصرار سببا لزوال إيمانه ، فختم له بسوء الخاتمة ، لا سيما إذا كان إيمانه
تقليديا ، فإن التقليد وإن كان جزما فإنه قابل للانحلال بأدنى شبهة ، والعارف
البصير أبعد عن أن يخاف عليه سوء الخاتمة ، وكلاهما إن ماتا على الإيمان يدخلان
الجنة ولو بعد حين ، ويعذبان عذابا يزيد على عذاب المناقشة في الحساب بحسب قوة
الإصرار وكثرة مدته وبحسب قبح الكبيرة ، إلا أن يعفو الله ويتجاوز عنه فإنه غفور
رحيم. وكما أن الإيمان على ضربين ، حقيقي وتقليدي ، فالكفر أيضا كفران : كفر عن
جحود وعناد وانحراف عن منهج السداد ، وهو مضاد الحق ، لأنه صفة وجودية وجهل مشفوع
بالإصرار والاستنكار مركب مع البغض واللجاج ، وكفر عن قصور ونقص وعدم استعداد ،
وكلاهما منشأ الخلود في النار ، إلا أن المنافق أشد عذابا وأسوأ حالا من الكافر
الفطري لمكنة استعداده وقوة نفسه.
وتفصيل
المقام : أن الأشقياء
على ضربين ، أما المطرودون في الأزل الذين حق عليهم القول ، وهم أهل الظلمة
والحجاب الكلي لغلظ طبائعهم وكثافتها وانغمارهم في بحر الطبيعة ، فهم المختوم على
قلوبهم أزلا ، كما قال
تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) وكما قال : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ، وَإِنْ
تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) وفي الحديث القدسي «هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي» وأما
المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل قابلين للنور بحسب الفطرة والنشأة ، ولكن
احتجب قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل النفسانية الحاصلة من ارتكاب
المعاصي ومباشرة الأفعال السبعية والبهيمية ومزاولة المكايد الشيطانية حتى رسخت
الهيئات الغاسقة والملكات المضلة وارتكمت على أفئدتهم ، فبقوا شاكين حيارى تائهين
في تيه الجهالة وظلمات الحيرة وحبطت أعمالهم وانتكست رءوسهم ، فهم أشد عذابا وأسوأ
حالا وأردأ مآلا وأعصى جوهرا من الفريق الأول ، لمنافاة مسكة استعدادهم لأحوال
مآلهم ووبالهم. والفريقان هم أصحاب النار ، لأنهم أهل الدنيا ، أحدهما ، أهل
الحجاب ، والأخرى أهل العقاب. فالفريق الأول ما أشار تعالى إليهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ
اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ) والفريق الثاني ما أشار إليهم بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ،
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
فالفريق
الأول من الأشقياء
الذين هم أهل القهر الإلهي ، لا ينجع فيهم الإنذار ، ولا سبيل إلى خلاصهم من النار
(كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ، أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، و (كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) وهؤلاء سدت عليهم الطرق (وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ) وأغلقت عليهم الأبواب ، لأن القلب هو أصل الأبواب ، وهو
المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهامات ، وقد حجبوا عنه بختمه ، وكذا السمع والبصر
اللذان هما بابان للفهم والاعتبار للإنسان ، وقد حرموا عن جدواهما ، لامتناع نفوذ
المعنى فيهما إلى القلب ، فلا سبيل لهم في
الباطن إلى العلم
الكشفي الباطني ولا في الظاهر إلى العلم التعليمي الكسبي ، فحبسوا في سجون الظلمات
وعظم عذابهم وحجابهم.
والفريق
الثاني من الأشقياء هم
الذين سلب عنهم الإيمان مع ادعائهم له ، لأن محل الإيمان هو القلب لا اللسان ، قال
الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا ، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ومعنى قولهم فيما حكى لله عنهم (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ادعائهم علمي التوحيد والمعاد اللذين هما أشرف العلوم
الإلهية وأجل المعارف الربانية ، فكذبهم الله بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فأشار إلى أن علومهم خدع وتلبيسات يشتبه بها الجهل بالعلم
ويظهر بها الباطل بصورة الحق كما هو دأب المغالطين المماكرين على ما قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) ، ... (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ، فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) لكن أهل البصيرة يعرفون وجوه الخلط والتلبيس ، وتدفعون
خداع أصحاب الوهم والظلمات ، وأوهامهم بأنوار الإلهامات وأضواء اليقينيات ، كما
قال : (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، (وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وفي القرآن آيات كثيرة مشيرة إلى أحوال هاتين الطائفتين ،
أعني الضالين الغاوين والمضلين المغوين المكذبين ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا
سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا
يَعْقِلُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ
وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ).
قاعدة
في
توحيده تعالى وأحديته وصمديته
البرهان على
واحديته أيضا ذاته ، كما دلت عليه آية (شَهِدَ اللهُ) فإنك قد علمت أنه حقيقة الوجود وصرفه ، وحقيقة الوجود أمر
بسيط لا ماهية له ولا تركيب فيه أصلا ، فثبت أنه أحد ، صمد ، وكلما هو أحد صمد فهو
واحد فرد لا شريك له ولا تعدد فيه ، إذ لا يتصور كثرة في صرف حقيقة شيء ، وكلما هو
حقيقة نفس الوجود الصرف الذي لا أتم منه فلا يمكن فرض الاثنينية فيه فضلا عن جواز
وقوع المفروض ، إذ تفاوت الوجودات المحضة والأنوار الصرفة بنفس الأتمية والأشدية
ومقابلهما ، فلو فرض وجودان بسيطان ، لا بد وأن يكون أحدهما أتم وأشد من الآخر ،
فيكون الآخر معلولا ، لما مر أن كل ناقص معلول ، إذ لو كانا تامين غير متناهيين في
الشدة ، لزم أن يكون كل منهما نفس حقيقة الوجود بلا شوب شيء آخر ، فلزم أن يكون
حقيقة واحدة من جهة ما هي تلك الحقيقة متكثرة ، إذ لا مميز هناك زائدا على نفس
الوجود. وأيضا : كل اثنين فاثنينيتهما إما من جهة الذات والحقيقة ، كالسواد
والحركة ، وإما من جهة جزء الحقيقة خارجا ، كالإنسان والفرس ، أو ذهنا ، كالسواد
والبياض. أو من جهة كمالية ونقص في نفس الحقيقة المشتركة ، كالسواد الشديد والسواد
الضعيف ، أو بسبب أمر زائد عارض كالكاتب والأمي ، وشيء من هذه الوجوه لا يتصور أن
يكون منشأ لتعدد الواجب. أما الأول ، فلاتحاد حقيقة الوجود ، وأما الثاني ،
فلبساطتها ، وأما الثالث ، فلتمامية الذات الواجبة ، وكون كل ناقص محدود معلولا
لغيره ، وأما الرابع ، فلاستحالة كون الواجب متأخرا عن مخصص خارجي ، بل كل ما فرض
مخصصا من كم أو كيف أو غير ذلك ، يجب أن يكون متأخر الوجود عن حقيقة الوجود ، فإذن
ذات الواجب يجب أن يكون متعينة بذاتها ، فذاته شاهدة على وحدانية ذاته.
والآيات
الدالة على وحدانيته تعالى كثيرة ، منها قوله : (وَقُلِ
الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ومنها (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ، وَأَنَّ
اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ومنها قوله : (سُبْحانَ اللهِ
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ومنها قوله : (هُوَ اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) وقوله : (لا تَدْعُ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقوله : (قُلْ إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ ، أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وقوله : (لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) إلى قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ).
ومن
البراهين الدالة على الواحدية والأحدية قوله
تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) وقد علمت أن معنى الواحد هو الذي يمتنع من وقوع الشركة
بينه وبين غيره ، ومعنى الأحد هو الذي لا تركيب فيه ولا أجزاء له بوجه من الوجوه ،
فالواحدية عبارة عن نفي الشريك ، والأحدية عبارة عن نفي الكثرة في ذاته. ومعنى
الصمد الغني الذي يحتاج إليه كل شيء ، وهذا دليل على أنه أحدي الذات ، إذ لو كان
له جزء لكان مفتقر إلى غيره فلم يكن غنيا ، وقد فرض غنيا ، هذا خلف ، وكل واحد
فرداني لا شريك له ، إذ لو كان له شريك في معنى ذاته لكان مركبا عن ما به يمتاز ،
وما به يشترك ، فيكون مركبا ، ولو كان له شريك في ملكه لم يكن غنيا يفتقر إليه
غيره ، فصمديته دليل أحديته ، وأحديته دليل فردانيته في ذاته وملكه ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) دليل على أن وجوده المستمر الأزلي ليس بقاؤه بالنوع
وبتعاقب الأشخاص التي ينحفظ بها بقاء النوع كالإنسان الطبيعي المستمر نوعه بتوارد
الأفراد المتماثلة ، وكذا غيره من الأمور الطبيعية المستمرة أنواعها بتجدد الأمثال
، وإن كانت على نعت الاتصال. وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) دليل على أنه لا يمكن أنه يوجد في مرتبة وجوده موجودا ، إذ
كل موجود سواه معلول له مفتقر إليه ، متأخر وجوده عن وجوده تعالى ، فلا مكافئ له
ولا ند ولا ضد له ، إذ نسبة الكل إليه كنسبة الأشعة والأظلال إلى ذات الشمس
المحسوسة لو كانت نورا قائما بذاته.
قاعدة
في
توحيده في الإلهية كما في وجوب الوجود
قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) إله العالم واحد لا شريك له في الإلهية وبراهينه كثيرة ،
فمن جملة الطرائق فيه النظر في وحدة العالم ، فإنه قد ثبت بالبرهان أن العالم كله
شخص واحد وحدة طبيعية بعض أجزائه أعلى وأشرف من بعض ، فالكل حيوان واحد ناطق مسمى
بالإنسان الكبير ، وأن عالم الأجسام بمنزلة بدنه وعلنه ، وعالم الأرواح بمنزلة
روحه وسره ، والمجموع منتظم في سلك واحد ، ولا يمكن تعدد العالم الجسماني ولا تعدد
العالم الروحاني ، إلا على سبيل إحاطة بعضها بعضا ، وعلية بعضها لبعض وارتباط
بعضها لبعض كارتباط الجسم بالروح ، فإذا كان كذلك ثبت وحدة إله العالم ، لأن
الإلهية لا يتم إلا بكون الباري صانعا للعالم فإذا كان العالم واحدا كان إله
العالم وصانعه واحدا لا شريك له في الإلهية كما لا شريك له في ذاته ، كما قال : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ) وقال : (وَما كانَ مَعَهُ
مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ) ، (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وذلك لأن تشخص المعلول بتشخص فاعله المفيض لوجوده ، إذ
الوجود في كل شيء عين تشخصه ، وتشخصه عين وجوده ، فمفيض وجوده مفيض تشخصه ، وكما
لا يكون لشيء واحد شخصي وجودان ولا تشخصان ، فكذلك لا يكون له موجدان مشخصان ، لأن
أنحاء الوجود والتشخص متباينة متنافية ، والاتصاف بكل منهما يقتضي نفي الاتصاف
بغيره ، فكذا الحال في الاتصاف بمبدإ به وجود وتشخص ، فإذا فرض لشيء واحد وجودان
فهما متفاسدان ، إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فهذا معنى الآية لا الذي توهمه
بعضهم من وقوع
العربدة والنزاع بين إلهين مفروضين ، لأنه كلام خطابي بل شعري ، جل جناب القرآن عن
أمثال هذه النقصانات.
ويؤيد ذلك قوله : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ
خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).
قاعدة
في
توحيده تعالى في حقيقة الوجود
قال
الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقال : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والنور والوجود حقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بمجرد
الاعتبار والمفهوم ، وكذا الظلمة والعدم ، فمعنى نور السماوات والأرض وجودهما ،
وقال : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) ، (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).
برهان ذلك : «أن
الباري جل ذكره بسيط الذات أحدي الوجود كما مر ، وأن واجب الوجود بالذات واجب
الوجود من جميع الجهات فلا يوجد فيه جهة إمكانية فلو فرض في ذاته فقد شيء من
الأشياء الوجودية ، أو إمكان أمر من الأمور الثبوتية ، لم يكن واجب الوجود من جميع
الوجوه ، فيلزم أن يكون فيه حيثيتان مختلفتان ، حيثية وجوب وجود شيء وحيثية إمكان
وجود شيء آخر أو امتناعه ، فيلزم التركيب في ذاته ولو بحسب العقل ، وهو ممتنع ،
فلا بد أن يكون كل وجود وكل كمال وجمال رشحا من رشحات بحر جماله ولمعة من لمعات
نور كماله ، فجميع الوجودات ثابتة له على وجه أعلى وأشرف ولا سلب له إلا سلب الإمكان
الذي هو معنى سلبي بسيط ، فصفاته السلبية كلها راجعة إلى سلب النقصان ، والسلوب
المندرجة كلها تحت سلب الإمكان ، قال : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ولم يقل ثالث اثنين ، إذ لم يصيروا بذلك كفارا ، بل هو
ثالث الاثنين
ورابع الثلاثة
وخامس الأربعة وسادس الخمسة وهكذا ، كما دلت عليه الآية المذكورة ، وهي قوله تعالى
: (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ...) الآية» وذلك لأن وحدته ليست عددية ، بل وحدة أخرى جامعة
لجميع الآحاد والأعداد ، فلو كانت وحدته عددية لكانت داخلة في باب الأعداد ، فلم
يكن حينئذ فرق بين أن يقال ثالث ثلاثة أو ثالث اثنين ، ولم يكن أحد القولين كفرا
دون الآخر ، بخلاف ما إذا كانت وحدته خارجة عن باب الأعداد ، فكان القول حينئذ
بكونه ثالث الثلاثة أو رابع الأربعة كفرا وباطلا ، إذ ثالث الثلاثة داخل في عدد الثلاثة
وكذا رابع الأربعة داخل في الأربعة وهكذا.
ثم لما كانت وحدته
نحوا آخر مغايرا لسائر الوحدات وليست من جنسها ، فهي مع كونها مغايرة لها جامعة
لها مقومة إياها ، فلكونه تعالى كذلك ، صح أن يقال : إنه رابع الثلاثة ، فإذا انضم
إلى الثلاثة واحد من جنسها ، صار هو سبحانه خامس الأربعة ، وهكذا إلى غير النهاية.
وهذا مما يخفى دركه ، إلا على الراسخين «ف (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، وهو (بِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطٌ). وفي كلام سيد الموحدين أمير المؤمنين عليهالسلام «مع كل شيء لا
بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة».
واعلم أن لنا بعد
الكشف والشهود براهين متعددة على هذا المطلب تركنا ذكرها ، إذا لا تأثير في ذكرها
لغير ذوي بصائر قلبية ومن كان ذا بصيرة قلبية يكفيه ما أوردناه من البرهان المذكور
، لأن من يتنور باطنه بنور الحق الأول ، فيشاهد أنه مع كونه واحدا غير قابل
للتكثير والانقسام ، انبسط على هياكل الموجودات ، ووسع بجميع ما في الأرض
والسماوات ، ولا يخلو منه شيء من الأشياء ولا ذرة من ذرات الكائنات ، وهو مع كونه
مقوما لكل وجود ، مستغن مقدس عن كل موجود ، لا يلحقه من معيته لسائر الأشياء نقص
ولا شين ، ولا تغير ولا تكثر وانقسام ، كالنور الحسي الواقع من الشمس على الروازن
والثقب وعلى النجاسات والقاذورات من غير أن يتكثر ذاته ويتلوث بشيء منها أو يمتزج
بها ، فإذا كان حال النور الحسي ، هكذا ، فما ظنك بحال نور الأنوار العقلية في
انبساطه على الأشياء وعدم مخالطته بها.
تنبيه مشرقي
ومما ينبهك على أن
وجوده تعالى وجود كل شيء ، أن وجوده عين حقيقة الوجود وصرفه من غير شوب عدم وكثرة
، فلو لم يكن وجودا لكل شيء لم يكن بسيط الذات ولا محض الوجود ، بل يكون وجودا
لبعض الأشياء وعدما للبعض ، فلزم فيه تركيب من وجود وعدم ، وخلط بين إمكان ووجوب ،
وهو محال. فإذن يجب أن يكون وجوده تعالى لكونه صرف حقيقة الوجود ، وجودا لجميع
الموجودات (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) فلا يخرج من كنه ذاته شيء من الأشياء ، لأنه تمام كل شيء
ومبدؤه وغايته ، وإنما يتعدد ويتكثر وينفصل لأجل نقصاناتها وإمكاناتها وقصوراتها
عن درجة التمام والكمال ، فهو الأصل والحقيقة في الموجودية ، وما سواه شئونه
وحيثياته ، وهو الذات ، وما عداه أسماؤه وتجلياته ، وهو النور ، وما عداه ظلاله
ولمعاته ، وهو الحق ، وما خلا وجهه الكريم باطل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) ، (ما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ).
المشهد الثاني
في صفاته وأسمائه وفيه قواعد :
قاعدة
في
توحيد صفاته الكمالية
اعلم أن صفات الله
مجردة ، أي غير عارضة لماهية أصلا ، وكل صفة منه حق صمد فرد يجب أن يكون قد خرج
فيه جميع كمالاته إلى الفعل لم يبق شيء منها في مكمن القوة والإمكان ، لأنه لا جهة
فيه سواه ، فكما أن وجوده تعالى حقيقة الوجود من غير شوب عدم وإمكان ، فيكون كل
الوجود وكله الوجود فكذلك جميع صفاته الكمالية التي هي عين ذاته ، فعلمه حقيقة
العلم ، وقدرته حقيقة القدرة ، وما هذا شأنه يستحيل فيه التعدد ، وإلا لكان الشيء
قاصرا عن ذاته ، فيكون علمه علما بكل شيء وقدرته قدرة على كل شيء ، وإرادته إرادة
لكل شيء ، وهكذا في جميع ما له من الصفات. فالعلم هناك واحد ومع وحدته يجب أن يكون
علما بكل شيء. ولا يعزب عنه شيء من الأشياء الكلية والجزئية ، إذ لو بقي شيء من
الأشياء لا يكون ذلك العلم علما به ، ولا شك في أن العلم به من جملة مطلق العلم ـ فلم
يخرج جميع العلمية في ذلك إلى الفعل ، وقد قلنا إن ذلك واجب ضروري وإلا لم يكن صرف
حقيقة العلم ، بل علما من جهة وجهلا من جهة أخرى ، ففيه شوب تركيب من علم وجهل
ووجود وعدم ووجوب وإمكان «فهو تعالى (بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) وكذا قدرته
حقيقة القدرة ،
فلا يخرج عنها شيء من المقدورات ، وإلا لم يكن قدرة محضة ، بل قدرة من وجه وعجزا
من وجه (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقوله : (قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) وهكذا قياس إرادته لقوله صلىاللهعليهوآله : «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» وقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقس عليه سائر صفاته الكمالية.
فعليك بهذه
القاعدة الشريفة التي علمنا الله بها من لدنه ، فإنها عظيم الجدوى في باب التوحيد
الخاصي ، لكن يجب عليك أن تعلم أن هذه القاعدة إنما يجري في الحقايق الكلية
والمعاني الكمالية العامة التي يعرض للموجود بما هو موجود ، ولا مدخل في حدها
تخصيص بمادة معينة أو استعداد خاص أو تجسم أو تغير كالإنسانية ، حيث إنها عبارة عن
جوهر مخصوص بنمو واغتذاء وحس وحركة ، وهو لا محالة مغاير للفلكية والنارية
والفرسية وغيرها ، فلا يمكن أن يكون حقيقة شاملة لكل شيء ويكون إنسانية لكل شيء.
وكالسواد فإنه عرض مخصوص ينفعل عنه البصر الذي هو أيضا قوة مخصوصة في مادة وضعية
مخصوصة ، فلا يمكن أن يكون السواد سوادا لكل شيء. والسر في ذلك ، أن كل حقيقة من
هذه الحقائق المختصة ليست محض تلك الحقيقة ، بل هي بالضرورة ممتزجة بغيرها من الأعدام
والنقائص والمضادات ، فالإنسان مثلا لا يمكن أن يوجد في الخارج بصرف الإنسانية من
غير مخالطة أشياء مباينة له مخالفة لمعناه ، فلا محالة يتعين في ذاته بأن يكون
مباينا لسائر الأنواع ، وذلك بخلاف الأمور الشاملة ، كالوجود والعلم والقدرة
والحياة وغيرها ، إذ يمكن أن يكون من أفراد مفهوم الوجود وجود بسيط ، هو محض حقيقة
الوجود من غير أن يكون معه شيء مباين للوجود ، فيكون لا محالة وجودا لكل شيء لا
يعوزه شيء من الأشياء ، وكذا من أفراد العلم علم هو محض حقيقة العلم لا حيثية له
مغايرا للعلم ، فيكون علما بكل شيء ، وعلى هذا القياس القدرة والحياة والإرادة.
فإن قلت : مفهوم
العلم غير مفهوم القدرة ومفهوماهما غير مفهوم
الإرادة ومفهومات
هذه الثلاثة غير مفهوم الحياة ، فكيف يكون الجميع في حق الواجب تعالى حقيقة واحدة
بسيطة لا تغاير فيها.
قلنا : الاختلاف
في المفهوم لا ينافي البساطة الحقة ، لأن قولنا صفات الواجب عين ذاته ، معناه أن
وجوده بعينه وجود هذه المعاني ، وحيثية ذاته بعينها حيثية سائر الصفات ، وهي ليست
بأمور زائدة من حيث وجودها وحقيقتها على وجود الواجب وحقيقته ، وليس معناه أن هذه
الألفاظ مترادفة لها مفهوم واحد ، وإلا لم يكن حملها مفيدا. وقول أمير المؤمنين عليهالسلام «كمال التوحيد نفي
الصفات عنه» ليس المراد نفي معانيها عن ذاته ، وإلا يلزم التعطيل ، وهو كفر فضيح ،
بل معناه نفي كونها صفات زائدة على ذاته بحسب الوجود والحقيقة. فعلى هذا صح قول من
قال : إن صفاته عين ذاته ، وصح قول من قال : إنها غيره. وصح قول من قال : إنها لا
عينه ولا غيره ، لو علم ما حققناه.
فكن على بصيرة في
هذا الأمر ولا تكن من الغافلين.
قاعدة
في
تحقيق أسمائه تعالى
قال الله سبحانه :
(وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، فَادْعُوهُ بِها ، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ).
واعلم أن العلم
بالأسماء الإلهية علم شريف دقيق ومعرفة لطيفة غامضة ، وبه فاق أبونا آدم عليهالسلام على الملائكة حيث قال : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، فَقالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، ... (فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ، قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ويستفاد من هذه الآيات أحكام علمية شريفة.
منها ، أن المراد
من الاسم ليس كما فهمه المتكلمون من أنه لفظ موضوع في اللغة بإزاء معنى من المعاني
، يدل على ذلك أمور :
أحدها ، قوله : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فوصفها بالحسنى من قبل الله مشعر بأنها ليست من قبيل
الهيئة العارضة للصوت ، إذ لا شرافة معتد بها لبعض الألفاظ على بعض ، إذ كلها من
نوع واحد ، فكما لا فرق بين لفظ الإيمان والكفر والنور والظلمة في الحسن والقبح من
حيث إنها هيئات مسموعة ، بل في مدلولاتها ومعانيها التي وضعت هذه الألفاظ بإزائها.
وثانيها ، قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) اذ معلوم أن الاسم مما يسبح به لا مما يسبح له.
وثالثها ، أن الذي صار سببا لمزية منزلة آدم ، عليهالسلام ، على الملائكة لم يكن مجرد حفظ الألفاظ ، بل الاسم هو ما
يعرف به حقيقته وحده ، كمفهوم الحيوان الناطق للإنسان ، فقد يكون لشيء واحد في
الوجود والهوية والذات مفهومات كثيرة كلها موجودة بوجود واحد ، كالجوهر ، والجسم ،
والنامي ، والحساس ، والناطق ، والموجود ، والممكن ، والمتحيز والمتقدر ، والمتمكن
، وغير ذلك في باب الإنسان ، فإنها مع كثرتها بحسب المعنى والمفهوم صارت ذاتا
واحدة موجودة بوجود واحد. فالمراد من الاسم في عرف العرفاء هو المعنى المحمول على
الذات والفرق بين الاسم والصفة ، كالفرق بين المركب والبسيط بوجه ، فإن الاسم
كالأبيض والصفة كالبياض ، والفرق بين العرضي والعرض عند محققي أهل النظر ، أن
المأخوذ «لا بشرط شيء» هو العرضي والمأخوذ «بشرط لا شيء» هو العرض ، فالمسمى قد
يكون واحدا والأسماء كثيرة وهي محمولات عقلية وليس المراد بها الألفاظ ، لأنها غير
محمولة حملا اتحاديا ، وهذه الألفاظ التي هي بإزائها أسماء الأسماء عندهم ، وأما
تلك المحمولات فهي بالحقيقة علامات ومعرفات للذات الموسومة بها.
واعلم أن عالم
الربوبية عظيم الفسحة جدا ، فيه جميع ما في عالم الإمكان على وجه أعلى وأشرف مع ما
يزيد عليها مما استأثره الله بعلمه ، ومن لم يكن عنده علم الأسماء ، تعذر عليه
إثبات عالميته تعالى بجميع الموجودات ، لأنها بحسب وجوداتها الخاصة متأخرة عن
مرتبة ذاته تعالى ، مع أنه تعالى عالم بجميعها علما مقدما على وجوداتها الإمكانية
، فلو لم يكن الممكنات
على كثرتها
وتفصيلها موجودة بوجود واحد في مرتبة الذات الأحدية ، لم يكن علمه تعالى
بخصوصياتها وماهياتها مقدما عليها ثابتا له قبل وجودها.
ومنها ، أنه وقعت الإشارة إلى ما ذكرناه من كيفية علمه
بالموجودات من جهة اشتمال أسمائه تعالى على كل شيء ، بقوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ
قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،
وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) كأنهم حيث لم يحصل لهم العلم بالأسماء ، لم يعرفوا كيفية
علمه تعالى بكل خفي وجلي وجزئي وكلي. وسبب اختصاص الإنسان بهذا التعليم دون
الملائكة وغيرهم ، أن حقيقة الإنسان مظهر جامع لمظاهر كل الأسماء ، بخلاف غيره من
الموجودات ، فإن كل واحد منها مظهر لبعض الأسماء ، كالملائكة للسبوح والقدوس
والسلام ونحوها ، والشياطين للمضل والمتكبر ، والعزيز ، والجبار وما يجري مجراها ،
والحيوانات مظاهر للسميع والبصير والحي والقدير وأشباهها ، والنار مثلا للقهار ،
والهواء للطيف ، والماء للنافع ، والأرض للصبور والأدوية السمية للضار ، والدنيا
للأول ، والآخرة للآخر ، وعلى هذا القياس ، فلو لم يكن الإنسان مما يوجد فيه مظاهر
جميع الأسماء والصفات لم يكن من شأنه العلم بالأسماء ومعرفة الأشياء كما هي ،
والملائكة كل منهم له مقام معلوم ، فالقائم منهم لا يركع والراكع منهم لا يسجد.
ومنها ، إيراد ضمير ذوي العقول في قوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) مع أن المراد بها ليس أسماء الملائكة بل الأسماء كلها ،
كما دل عليه سياق الآية. ففيه إشعار بما ذهب إليه أساطين الحكماء الأقدمون ، من أن
لكل نوع من أنواع الموجودات جوهرا نورانيا عقليا هو كلي ذلك النوع وتمام حقيقته
ومثاله القائم عند الله فهي المظاهر الأولى للأسماء الإلهية والصور النوعية
الخارجية ، هي المظاهر الثانية ومظاهر المظاهر ، كما بين في مقامه على نحو البيان
الحكمي البرهاني ، وليس غرضنا في هذا الكتاب إلا إشارة إجمالية إلى أسرار بعض آيات
القرآن. وأما إيراد البراهين على وجه مبسوط مشروح ، فهو موكول إلى سائر كتبنا
وتفاسيرنا سيما كتاب الأسفار الأربعة.
فإذا تقرر ما
ذكرناه ، فنقول : أسماء الله تعالى بالحقيقة هي المحمولات
العقلية المشتملة
عليها ذاته الأحدية لا يتعلق بها جعل وتأثير ، بل هي موجودة باللاجعل الثابت للذات
، ولها أحكام ثابتة وآثار لازمة هي مظاهرها ، وربما يطلق عند العرفاء الاسم ويراد
بها المظهر لأنه أيضا فرد من معنى ذلك الاسم ، كما في قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) وأليق المجعولات بأن يعرف بها ذاته تعالى ويكون مظاهرا
لأسمائه وصفاته ، هي كلمات الله التامات والأرواح العاليات التي هي بمنزلة أشعة
نور وجهه وكماله ، ومعرفات جماله وجلاله ، فهي الأسماء الحسنى ، والله اسم للذات
الإلهية باعتبار جامعيته لجميع النعوت الكمالية ، وصورته الإنسان الكامل ، وأشير
بقوله صلىاللهعليهوآله : «أوتيت جوامع الكلم» والرحمن هو المقتضي للوجود المنبسط
على الكل بحسب ما يقتضيه الحكمة ويحتمله القوابل على وجه البداية ، والرحيم هو
المقتضي للكمال المعنوي للأشياء بحسب النهاية ، ولذا قيل : «يا رحمان الدنيا ورحيم
الآخرة» بمعنى بسم الله الرحمن الرحيم بالصورة الكاملة الجامعة للرحمة الخاصة
والعامة التي مظهر الذات الإلهية والاسم الأعظم مع جميع الصفات. وإلى هذا المعنى
أشار النبي صلىاللهعليهوآله : «أوتيت جوامع الكلم» وبقوله : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
إذ الكلمات هي حقائق الموجودات وأعيانها وخصوصا صورها المجردة ، كما سمي عيسى كلمة
من الله وسميت المفارقات العقلية كلمات الله التامات ، ومكارم الأخلاق كمالاتها
وقواها التي هي مصادر أفعالها ، وجميعها محصورة في الحقيقة الجامعة الإنسانية.
قاعدة
في
تعيين الاسم الأعظم ومظهره
لا شك أن الاسم
الأعظم ينبغي أن يكون معناه مشتملا على جميع المعاني للأسماء الإلهية على الإجمال
، وكذا مظهره يجب أن يكون حقيقة مشتملة على مجموع حقائق الممكنات التي هي مظاهر
الأسماء ولا يصلح من الأسماء
لهذه الجمعية
الأسمائية إلا اسم الله ، كما ذكر ، وكذلك الحي القيوم ، إلا أن الأول بحسب الوضع
العلمي والثاني بحسب الوضع اللقبي ، لاشتماله على جميع معاني الأسماء الإلهية تضمنا
أو التزاما ، ولأجل ذلك كل ذكر أو دعاء قيل إن فيه الاسم الأعظم ، فهو مشتمل لا
محالة على أحدهما أو عليهما جميعا ، كقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وإنما قلنا : إن الحي القيوم مشتمل على جميع الصفات
الكمالية والنعوت الإلهية ، لأن اسمه الحي مشتمل على جميع الأسماء الذاتية ، فيدل
على وجوب الوجود ووجوب الإيجاد ، ومستلزم من الإرادة والقدرة والسمع والبصر
والكلام ، والقيوم لكون معناه مبالغة في القيام لإدامة الموجودات على وجه التمام
عدة ومدة وشدة ، فهو مشتمل على جميع الأسماء الفعلية كالخالقية والرازقية والكرم
والجود واللطف والرأفة والرحمة والعطوفة والإبداع والتكوين والإنشاء والإعادة
والتقديم والتأخير والإرسال والإنزال والبعث وغير ذلك من صفات الفعل. فإذا تجلى
الباري بعبد بهاتين الصفتين فالعبد يكاشف عند صفة الحي معاني جميع أسمائه وصفاته
الجمالية ، وعند تجلي اسمه القيوم معاني أسمائه وصفاته الجلالية ، إذ يرى عنده
فناء جميع المخلوقات لأن قوامها وقيامها بقيومية القيوم الحق لا بأنفسهم ، فلا يرى
في الوجود إلا الحي القيوم. وأيضا قد تحقق وانكشف من قاعدتنا الممهدة المذكورة في
توحيد صفاته ، أن حياته حقيقة الحياة ، وحقيقة الحياة يجب أن يكون حياة كل شيء ،
فلو لم يكن كذلك لم يكن حياته صرف الحياة. وكذا قيوميته يجب أن يكون محض حقيقة
القيام والإقامة فلا قائم ولا مقيم إلا بقيامه وإقامته ، فهذان الاسمان هما الاسم
الأعظم لمن تجلى له ، فمن ذكرهما بلسان العيان لا بلسان البيان فقط ، فقد ذكر الله
باسمه الأعظم الذي إذا دعي أجاب وإذا سئل به أعطى. وكذا الذاكر إذا غاب عن ذاته
فعند غيبته عن ذاته وفنائه في عظمة الوحدانية ، بكل اسم دعا ربه يكون الاسم
الأعظم. ولذلك لما سئل أبو يزيد عن الاسم الأعظم قال : ليس له حد محدود ، ولكن فرغ
بيت قلبك لوحدانيته فإذن كل اسم هو الاسم الأعظم.
قال صاحب الفتوحات
المكية في الجواب عن أسئلة الحكيم محمد بن علي الترمذي : الاسم الأعظم الذي لا
مدلول له سوى عين الجمع وفيه الحي القيوم ، فإن قلت هو الله قلت لا أدري ، فإنه
يفعل بالخاصية وهذا اللفظ إنما يفعل بالصدق إذا صار صفة للمتلفظ به ، بخلاف ذلك
الاسم. وقال في موضع آخر منها : ومعلوم عند الخاص والعام ، أن ثمة أسماء عاما يسمى
الاسم الأعظم وهو في آية الكرسي وأول آل عمران ، ومن الأسماء ما هي حروف مركبة
ومنها ما هي كلمات مركبة مثل الرحمن الرحيم هو اسم مركب كبعلبك. واعلم أن الحروف
كالعقاقير لها خواص بانفرادها ولها خواص بتركيبها.
قاعدة
في
علمه تعالى بذاته وبغيره
كل وجود لا يشوبه
عدم ولا يغطيه حجاب وغشاوة ولا التباس ولا يغشاه الظلمات ، فهو مكشوف لذاته حاضر
غير غائب عن ذاته ، فيكون ذاته علما وعالما بذاته ومعلوما لذاته ، إذ الوجود
والنور شيء واحد ولا حجاب له إلا العدم والقصور ، فكل وجود بحسب سنخه يصلح أن يكون
معلوما ، وإنما المانع له ذلك إما العدم والعدمي كالهيولى الأولى لتوغلها في
الإبهام ، أو الخلط بالعدم الذي هو أصل الظلمات ، كالجسم وما يحله ، إذ كل جزء من
الجسم محجوب عن صاحبه غائب عن جزء آخر ، وكذا كل بعد وحجم وكل ذي بعد وحجم مكاني
أو زماني ، كالحركة وما معها حكمه هذا الحكم ، سواء كان بالذات أو بالعرض ،
كالسواد والبياض وغيرها من الوضعيات المادية ، فالكل مما لا يتعلق به إدراك ،
وإنما المدرك من كل منها صورة أخرى وجودها غير هذا الوجود المادي الوضعي الواقع في
جهة من جهات هذا العالم ، فكل ما وجوده وجود صوري غير منقسم الذات إلى أمور منفصل
بعضها عن بعض ، فهو معلوم الهوية مدرك الذات بالفعل لا يمكن انسلاب الشعور عن ذاته
، ولا يحتاج في
كونه مشعورا به
إلى عمل من تجريد أو تلخيص ، بل وجوده وجود إدراكي ، وهو حي بحياة ذاتية ، وهكذا
جميع الصور الأخروية سواء كانت محسوسة أو معقولة ، والواجب جل ذكره لكونه بريء
الذات عن شوب العدم والجسمية والتركيب والإمكان ، فهو في أعلى مرتبة المدركية
والمدركية والعاقلية والمعقولية ، ولأنه مبدأ وجود العقلاء وفياض الصور العلمية
على ذواتهم وواهب الروح والحياة على الكل ، فيكون عاقلا لذاته ولسائر الأشياء فإن
العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول. قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) قوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ
مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الى قوله : (فِي كِتابٍ مُبِينٍ).
قاعدة
في
مراتب علمه تعالى بالأشياء إجمالا وتفصيلا
فمنها ، العناية
وهي العلم بالأشياء الذي هو عين ذاته المقدسة ، وهو العقل البسيط لا تفصيل فيه ولا
إجمال فوقه. والعناية علم تفصيلي متكثر ، وهي نقش زائد على ذاته تعالى عند أصحاب
أرسطاطاليس وأتباعه من المشائين. والتحقيق أنها غير زائدة على الذات وليس لها محل
لما أشرنا إليه سابقا من أن حقيقة الوجود يجب أن يكون كل الأشياء على وجه مقدس
عقلي وإليه الإشارة بقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).
ومنها ، القلم
واللوح ، فالقلم موجود عقلي متوسط بين الله وبين خلقه فيه جميع صور الأشياء على
الوجه العقلي ، وهو أيضا عقل بسيط ، إلا أنه دون الحق الأول في البساطة والشرف.
وأيضا : الحق الأول واحد حقيقي بسيط من كل وجه والعقول الفعالة متعددة كثيرة. وإلى
تلك الأقلام أشار تعالى بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) وقوله :
(وَلِلَّهِ خَزائِنُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإنما سمي العقل الفعال قلما ، لأن شأنه تصوير الحقائق في
ألواح النفوس وصحائف القلوب ، وبه يستكمل النفوس بالصور العلمية ، ويخرج ذاتها من
القوة إلى الفعل ، كما بالأقلام ينتقش الألواح والصحائف ويتصور مادتها بصور
الأرقام ونقوش الكتابة.
وأما اللوح ، فهو
جوهر نفساني وملك روحاني يقبل العلوم من القلم ، ويسمع كلام الله عنه.
ومنها ، القضاء
والقدر ، فالقضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات بحقائقها الكلية وصورها العقلية في
العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع ، وتلك مرتبطة بالحق الأول ، موجودة
في صقع الإلهية ، لا ينبغي عدها من جملة العالم بمعنى ما سوى الله ، بل الحق أنها
معدودة من لوازم ذاته الغير المجعولة ، لأنها صور علمه التفصيلي بما عداه ، ولذلك
قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) فالعالم كله جوده ورحمته وخزائن جوده ورحمته يجب أن يكون
قبل الجود والرحمة ، فلو كانت تلك الخزائن من جملة جوده ، أي من مخلوقاته
ومقدوراته ، فلا بد لها أيضا من خزائن سابقة عليها ، فظهر أن خزائن الله ليست من
جملة المصنوعات والأفاعيل ، بل هي سرادقات نورية ولمعات جمالية وجلالية.
وأما القدر ، فهو
قدران : قدر علمي ، وقدر خارجي ، فالأول عبارة عن وجود تلك الأشياء مقدرة مصورة
بشخصياتها وجزئياتها في قوة إدراكية ونفس انطباعية. وأما الثاني ، فهو عبارة عن
وجودها في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد مرهونة بأوقاتها وأزمنتها ،
موقوفة على موادها واستعدادتها ، متسلسلة من غير انقطاع ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) وقال : (وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) وأشار إلى القدر العلمي بقوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ) وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وسيأتي لك مزيد توضيح وتفصيل لهذا المقام.
قاعدة
في
أن صدور الأشياء المكونة عن علمه تعالى
فالذي يعقله
العاقلون ويعرفه الحكماء الإلهيون في كيفية صدور الأشياء المتجددة عن علمه ، أن
الرحمة الإلهية والعناية الربانية لما لم يجز انقطاعها على عدد ، ولم يمكن وقوفها
عند حد يبقى وراءه الإمكان الغير المتناهي على القوة والكمون من غير أن يخرج إلى
الوجود والظهور ، وعالم الأجسام المادية عالم ضيق قصير الفسحة قليل الوسعة ، إذ لا
يسع الصور الغير المتناهية دفعة ، بل المكان الواحد لا يسع الجسمين ولا المادة
الواحدة لصورتين في زمان واحد فضلا عن غير المتناهي ، قدر بلطيف قدرته وعلمه زمانا
غير منقطع الطرفين ، ومادة ذات قوة انفعالية غير متناهية في الانفعال التجددي ،
كما أن الواهب ذو قوة غير متناهية في الفعل ، وحيث لا بد في دوام تجدد الفيض من
أمر متجدد الذات ، ضروري الحركة والتغير في ذاته ، فأوجد الباري بوسائط عقلية
أشخاصا فلكية دوارة بإذن الله دائمة الدوران لأغراض علوية وغايات قدسية كمالية
يتبعها استعدادات وانفعالات غير متناهية في مادة سفلية ينضم إلى فاعل غير متناهي
التأثير ، وقابل غير متناهي القبول ، فانفتح بذلك باب نزول البركات وتواتر الرشحات
، وقطرات أمطار الرحمة من بحار خزائن السماوات على الدوام (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) فتصير الصور كلها موجودة في جميع ذلك الزمان على التعاقب
التدريجي واحدة بعد واحدة في موادها الخارجية على نعت الاتصال التعاقبي ، والمادة
مستكملة بها. ثم لا يخفى أن أشرف الحوادث وما معها مما يتعلق بالهيولى هي النفوس
الإنسية الناطقة ولم يمكن حدوثها إلا مع الأبدان ، ولم يمكن خروج جميع ما هو
الممكن منها من القوة إلى الفعل دفعة واحدة ، لأن عددها غير متناه وعدد الأبدان
الموجودة معها متناهية ، لوجوب تناهي الأبعاد وجهات
اقتضاء العلل
متناه أيضا ، فلا بد من وجود مدة غير منقطعة ، وأدوار غير متصرمة ليحصل بحسب
الأدوار والحركات واستعدادات القوابل المتعاقبات ، نفوس ناطقة قرنا بعد قرن ونسلا
بعد نسل ، ليتم الأزل بالأبد ويكمل البداية بالنهاية ، ولا يصير نعمة الله بتراء ،
ولا جوده منقطعا وفضله معطلا. ولذلك قال : (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) وقال : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ
اللهِ) وقال : (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).
فإذا تقرر هذا ،
فالقضاء كما أشير إليه عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي ، مجتمعة
بعد وجودها في العناية الإلهية مجملة ومحلها القلم. والقدر عبارة عن وجوده
التفصيلي في كتاب المحو والإثبات وفي مواد الخارجية الجارية بسواد مداد الهيولى
الظلماني ، كما جاء في التنزيل (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) إشارة إلى وجودها على النحو البسيط في العناية الإلهية.
وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إشارة إلى وجودها في الخزائن العقلية على سبيل الانحفاظ
دائما. وقوله : (وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين القدريتين ، فالمتنزل هو
القدر الخارجي ، لكونه آخر التنزلات ، والمتقدر المعلوم هو القدر العلمي ، وهو سبب
للقدر الخارجي ، كما دلت عليه باء السببية ، فالجواهر العقلية وما معها موجودة في
القضاء والقدر مرة واحدة باعتبارين ، والجواهر الجسمانية وما معها موجودة فيهما
مرتين. فظهر مما ذكرنا أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء الكلية والجزئية ، لأن كل
شيء من لوازم ذاته بوسط أو بغير وسط ، يتأدى إليه بعينه قضاؤه وقدره الذي هو تفصيل
قضائه تأديا واجبا ، إذ كل ما لم يجب وجوده أولا لم يوجد أخيرا ، فالعناية الإلهية
هي إحاطة علمه البسيط الذي هو نفس وجوده بالكل ، وبالواجب أن يكون عليه الكل ، حتى
يكون على غاية الجودة والنظام ، وأبلغ الكمال والتمام وأحسنه ، وبأن ذلك واجب عنه
تعالى وعن إحاطة علمه به ، ليكون الموجود على وفق المعلوم على أكمل الوجوه في
النظام ، فعلمه سبحانه بكيفية الخير والصواب في ترتيب وجود عالمي الغيب والشهادة
هو منبع لفيضان الكل.
قاعدة
في
شمول قدرته وانبساط وجوده وسعة رحمته على الأشياء
قال تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) وقال : (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ).
اعلم أن موجودية
الممكنات بهوية الحق الأول ، وبه قوام كل شيء وحياة كل حي ، كما أن بالروح
الإنساني وهو خارج عن هذا العالم وجود أجزاء البدن وقوام آلاته وقواه ، وبه حياة
كل عضو من الأعضاء وحسه وحركته ، إلا أن الروح قد ينفعل عن البدن ويستعين به
وبآلاته وأعضائه في تحصيل الكمالات ، بخلاف الباري الأول ، فإنه غني عن العالمين ،
وهو مبدأ وجوب وجود الأشياء بذاته ، وهو واسع لها منبسط على كلها ، لما مر أنه
بسيط الذات لا يعزب عنه وعن علمه الذي هو عين ذاته شيء ، فالأشياء كلها بالقياس
إليه واجبات ، وإن كانت بالقياس إلى أنفسها ممكنات ، فلو فرض شيء من الأشياء
مسلوبا عنه تعالى من حيث هو هو ، فحيثية كونه هو غير حيثية كونه ليس بكذا ، وإلا
لكان شيء واحد من جهة واحدة هو ولا هو. مثلا لو فرض أن ذاته «ألف» وقد صدق عليه
أنه ليس «بب» فنقول حيثية كونه «ألف» هل هي بعينها حيثية كونه ليس «بب» أم لا ،
فعلى الثاني يلزم في ذاته شيء دون شيء ، فلم يكن واحدا محضا ، وهذا خلف. وعلى
الأول يلزم أن يكون المعقول من كونه ـ ألف ـ هو بعينه المعقول من كونه ليس ـ بب ـ وهو
محال ، لأن المعقول من الأول هو الثبوت ، ومن الثاني هو السلب ، ويستحيل أن يكون
المعقول من السلب نفس المعقول من الإيجاب وإن كان كل منهما مضافا إلى شيء آخر ،
فإن المضاف إليه معناه خارج عن معنى المضاف والإضافه ، فالتخصيص به تخصيص بأمر
خارج والتخصيص بالأمر الخارج لا يغير حقيقية الشيء في نفسها ، فإذن لو كان معنى
ثبوت ـ ألف ـ بعينه معنى سلب ـ ب ـ لكانت طبيعة الثبوت بعينها طبيعة السلب ، فيكون
الشيء غير
نفسه وهو محال.
فقد ثبت أن الأول
تعالى لكونه بسيط الحقيقة يجب أن يكون كل ـ الأشياء الوجودية على وجه أعلى وأشرف ،
ولهذا ورد من الأذكار الشريفة «يا هو يا من هو يا من لا هو إلا هو» فإذا كان هذا
هكذا ، فجميع الموجودات آثار ذاته ، فلا قدرة بالحقيقة إلا قدرته ، كما لا وجود
إلا لمعة من وجوده. وكما لا ينافي كونه أصل الوجود تعدد الموجودات المصحوبة
بالنقائص والإمكانات ، كذا لا ينافي كونه مؤثرا في جميع المقدورات ثبوت الوسائط من
القادرين بينه وبين المقدورات ، فإن الإيجاد كالوجود مترتب ذو درجات ومراتب بعضها
أعلى وبعضها أدون ، قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ، وقال : (هُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) وقال : (هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وقال : (أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِؤُنَ) إشارة إلى أن الأفعال المنسوبة إلى القوى ـ المؤثرة ،
كالمصورة في تصوير الأعضاء وتشكيلها ، وكالماء والنار في التسخين والتبريد ،
وكالإنسان في أفاعيله الصادرة عنه ، وغير ذلك كلها بالحقيقة صادرة عنه تعالى واقعة
بتأثيره مع كمال وحدانيته وفردانيته ، فكل ما هو مقدور ومجعول لفاعل ، فهو من حيث
صدوره عن ذلك الفاعل صادر عن الحق تعالى ، كما أن وجود كل ممكن من حيث وجوده شأن
من شئون الحق ووجه من وجوهه ، ولذلك نسب الأفعال إليه تعالى من حيث نسب إلى
مباديها المباشرة لها كما في قوله : (قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقال أيضا : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) وفيه دلالة على أن الوجود كله خير ، لكن الخيرات متفاوتة
بعضها أشد ، وبعضها أضعف ، فبعضها خير محض لا يشوبه شر بوجه من الوجوه أصلا ،
وبعضها مشوب بشر أو شرور قليلة أو كثيرة بالإضافة ، فالخير الذي في عالم الجسم ليس
مثل الخير الذي في عالم الروح ، بل عالم الأمر خير كله وعالم الخلق لا يخلو من شر
أو شرور ، ومع ذلك خيره غالب على شره ، لأن وجوده خير وعدمه شر
محض ، والإنسان من
جملة المخلوقات ، له أن يسلك سبيل القدس وصراط الحق ويتطور في الأطوار الوجودية
ويستبق في الخيرات حتى تزول عنه الشر بالكلية ويدخل في دار السلام ، ولذلك أمر
الله لنا في الاستباق في الخيرات والافتراق من الشرور والظلمات والدخول في دار
السلام ، كما في قوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ
آمِنِينَ) وقال : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).
قاعدة
في
تحقيق كلامه تعالى
اعتقادنا في
الكلام أنه ليس كما زعمته الأشاعرة من أنه معان نفسية قائمة بذاته تعالى وسموها
الكلام النفسي ، ولا كما ذهب إليه المعتزلة من أنه خلق أصوات وحروف دالة على
المعاني في جسم من الأجسام ، وإلا لكان كل كلام كلام الله وهو باطل. ولا يكفي
تقييده على قصد إعلام الغير من قبل الله ، أو على قصد الإلقاء من عنده ، ولو أريد
بغير واسطة فهو غير ممكن وإلا لم يكن أصواتا وحروفا ، بل حقيقة التكلم إنشاء كلمات
تامات وإنزال آيات محكمات وأخر متشابهات في كسوة الألفاظ والعبارات ، والكلام قرآن
وهو العقل البسيط والعلم الإجمالي ، وفرقان وهو المعقولات التفصيلية ، وهما جميعا
غير الكتاب ، لأنهما من عالم الأمر وعالم القضاء ، ومظهرهما وحاملهما القلم واللوح
المحفوظ ، والكتاب من عالم الخلق والتقدير ومحله عالم القدر الذهني والقدر العيني
، والأولان غير قابلين للنسخ والتبديل ، لأنهما فوق الزمان والمكان بخلاف الكتاب
لأنه موجود زماني ، ومحله لوح قدري نفساني هو لوح المحو والإثبات ، أو مواد خارجي
، وكلاهما متغيران ، والكتاب يدركه كل أحد ، والقرءان (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من أدناس البشرية. وربما يقال : الكتاب للفرقان فإنه
بالنسبة إلى القرءان كتاب منزل ، أو باعتبار أنه منزل أيضا في صورة مكتوبة
في لوح القدر ، بل
الذي بين أظهرنا كلام منزل من عند رب العالمين ، منزله ـ الأول القلم الرباني ،
والثاني اللوح المحفوظ ، والثالث لوح القدر وسماء ـ الدنيا ، والرابع لسان جبرئيل
تلقاه الرسول الأمين ، صلىاللهعليهوآله ، في جميع المقامات ، تارة أخذه من الله بلا واسطة ملك ،
كما قال (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما
أَوْحى ، ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) وتارة بواسطة جبرئيل (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) وتارة في مقام غير ذلك المقام الشامخ الإلهي (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ،
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ، إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى ، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ
رَبِّهِ الْكُبْرى) وتارة كان يسمع كلام الله في هذا العالم ـ الحسي ، (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ
الْأَوَّلِينَ). ومن هذا المقام ما كان في أول البعثة في جبل حراء ، أو في
جبل فاران ، فأتاه جبرئيل عليهالسلام بصورة محسوسة وسمع منه (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) كما سمع موسى كلامه تعالى النازل في طور سيناء (إِذْ رَأى ناراً ، فَقالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا ، إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ
عَلَى النَّارِ هُدىً ، فَلَمَّا أَتاها ، نُودِيَ يا مُوسى ، إِنِّي أَنَا
رَبُّكَ ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ، وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ، إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي) ومن منازل كلام الله تعالى ما يدون في الكتب والقراطيس ،
يبدو لكل أحد ويتكلم به كل متكلم ويقرؤه كل قار ويسمعه كل مستمع ، كما في قوله
تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ثم قد اختص محمد صلىاللهعليهوآله ، من بين سائر الأنبياء عليهمالسلام بتلقي الوحي والكتاب بأن جاوز مقامات الأنبياء كلها وجاوز
منازلهم كلهم في السماوات السبع دون البلوغ إلى مقام الأفق الأعلى أو أدنى ، كما
أخبر النبي صلىاللهعليهوآله عن ليلة الإسراء حيث قال : ورأيت آدم في السماء الأولى ،
ويحيى في الثانية ...» إلى أن قال : «ورأيت
إبراهيم عليهالسلام في السماء السابعة» فجاز عن مقاماتهم جميعا إلى كمال القرب
وغاية الوصول.
وقال تعالى في حق
علماء أمته وأولياء ملته «لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته ، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي به يسمع ...» وهذا هو حقيقة الوصول والإيصال ، لكن الفرق بين
النبي والولي في ذلك أن النبي مستقل بنفسه في السير إلى الله تعالى والوصول إليه ،
ويكون حظه في كل مقام بحسب استعداده الأتم الأكمل ، والولي لا يمكنه السير إلا في
متابعة النبي صلىاللهعليهوآله ، وتسليكه إياه في سبيل الله ، كما قال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى
اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ويكون حظه في كل من المقامات بحسب استعداده وقوة فطرته
فافهم جدا.
قاعدة
في
دوام أمره وخطابه للمكونات
قال الله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) وقال : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ولا شك أن إرادته أزلية وتخصيص بعض الأشياء بتعلق الإرادة
في أوقاتها المعينة الجزئية عند حضور استعداداتها ، أنما هو لأجل قصور قابلياتها
عن القبول الأتم ونقصاناتها الذاتية عن الوجود الدائم ، وإذا كانت الإرادة دائمة
فالقول واحد والخطاب دائم ، وإن كان المقول له والمخاطب حادثا متجددا ، وقد أخبر
تعالى عن جهل أهل العناد بأنهم الذين لا يعلمون أن الله متكلم بالقول الثابت ،
والمتكلمية صفة من صفاته وكل صفة من صفاته واحدة مستمرة ثابتة لم يزل ولا يزال ،
إذ لا كثرة ولا زوال في عالم الوحدة ، فكلامه الذي هو أمره متعلق بجميع المكونات
أمر التكوين وهو خطاب بكلمة كن ، وهي كلمة وجودية ، فسمعت أعيان المكونات خطابه
ودخلت في باب الوجود بأمره وإذنه ، وأطاعت السماوات قوله وكلمته ودعوته (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) ،
فسمعتا كلمته ،
وأجابتا دعوته ، وأطاعتا قوله ، و (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) ويتناول المكلفين أمر تكليف وتشريع ، وإلى ذلك أشار بقوله
: (قالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) وما علموا أن الله يكلمهم على الدوام ، ولكن (لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) ، و (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) ، و (لَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) كما أسمع قوما آخرين أخبر عنهم بقوله (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِّ) فالسمع الحقيقي ما هو قرين معرفة القلب لا اصطكاك الصماخ
بالهواء الخارج ، وكل قلب يكون حيا بحياة المعرفة ، يسمع كلام الحق. وأما القلوب
الميتة بموت الجهل فحالهم كما قال تعالى فيهم : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) ... (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) الخطاب بمقارعة الهواء لسمعهم الظاهر ، وقلوبهم موتى ، (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، كما أسمع نفرا من قوم موسى خطابه تعالى ، فلم ينفذ إلى
بواطنهم نور كلامه ولم يطيقوا إسماعه ، فبعد ما رأوا من عظيم الآيات ، وأن الله
أماتهم ثم أحياهم حرفوا وبدلوا ، فما يغني الآيات والدلالات ، وإن وضحت عمن حق
عليهم القول ولزمهم الشقاوة وطبع على قلوبهم ، وقال الله تعالى فيهم : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ...)
واعلم أن بإزاء
هؤلاء من كل أمة قوما وقع بينهم وبين الله مكالمة حقيقية ، يكلمهم الله وينظر
إليهم وهم يسمعون كلامه بسمع قلبي بلا واسطة تعليم بشري خارجي ، فيكون الفهم لازما
لسماعهم ، وقد ورد عن النبي صلىاللهعليهوآله «إن في أمتي
محدثين مكلمين» ولا يشترط أن يكون هؤلاء ـ أنبياء تشريع ورسالة ، لأن الرسالة قد
انقطعت وأبوابها قد غلقت وختمت ببعثة نبينا ، صلىاللهعليهوآله ، وما بقي إلا إلهامات من الحق وإعلامات وتعليمات ، وإليهم
الإشارة بقوله صلىاللهعليهوآله : «إن لله عبادا ليسوا بأنبياء يغبطهم النبيون» أي ليسوا
بأنبياء تشريع ، بل هم في الشريعة تابعون لمحمد ، صلىاللهعليهوآله ، وقد علمت أن التكلم الحقيقي ليس من شرطه أن يكون بكسوة
الألفاظ والحروف ،
ولا أيضا من شرطه تمثل المتكلم بصورة شخصية ، بل إلقاء كلام معنوي إلى قلب مستمع
من الله ، قوله عزوجل : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
عِنْدَ اللهِ ، الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ
اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) دلت هذه الآية على أن المراد بالسمع هو التعقل وهو السمع
الباطني ، كما أن المراد بالبصر هو الرؤية الباطنية. قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ... ، (أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) ففي الآيتين دلالة على أن أولي العلم هم الذين يعرفون الحق
ويرون بنور عرفانهم ، أن المنزل على الرسول علوم حقيقية ومعارف إلهية ، ولو لا أن
وقع لهم بالسمع الباطني مقارعة الكلام المعنوي ، وبالبصيرة الباطنية مشاهدة آيات
الملكوت ، لم يعرفوا حقيقة الكلام المنزل على الرسول وأنه الحق من ربه.
قاعدة
في
سر الحروف المقطعة القرآنية
اعلم أن الأنبياء عليهمالسلام ، وضعوا بأمر الله حروف التهجي ، أعني ، حروف الجمل بإزاء
مراتب الموجودات ، وقد وجد في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام ، ما يدلك على ذلك ، وإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الألف
إشارة إلى المبدإ الأول ، لأنه أول الآحاد ومبدأ الأفراد والأعداد ، وأن يكون
الباء إشارة إلى عالم العقل ، ولذلك قيل : ظهرت الموجودات من باء بسم الله. إذ هي
الحروف التي تلي الألف الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الكلي وهو
أول ما خلق الله ، المخاطب بقوله تعالى : «ما خلقت خلقا أكرم علي ولا أحب إلي منك
، بك آخذ وبك أعطي ، وبك أثيب وبك أعاقب» وهذا حديث متفق على روايته جميع فرق
الإسلام بحسب المعنى ، وإن وقع الاختلاف في صورة اللفظ. والمراد به جملة عالم
العقل ، لما بينا في مقامه ، أن العقول القادسات
كلها موجودة بوجود
واحد ، والتعدد فيها باعتبار مراتب الشدة والضعف ، بل بحسب تفاوت الآثار الصادرة
من الله بتوسطها وتوسط جهاتها في القرب والبعد من الله وبحسب قوة النورية والوجود
وضعفهما.
وبالجملة ، الكل
كأنها شيء واحد ذو درجات متفاوتة متصلة بعضها ببعض ، منطوية بعضها في بعض. وأن يدل
بالجيم على النفس الكلية وعالمها ، وبالدال على الطبيعة السارية في الأجسام
وآحادها وأنواعها من الصور ـ النوعية للأفلاك والعناصر والمركبات الطبيعية ، فهذه
حروف أربعة لموجودات أربعة مترتبة في الوجود والإيجاد ، إذا أخذت من حيث ذواتها
ووجوداتها. وأما إذا أخذت من حيث إضافتها ومبدئيتها ، فبالحري أن يدل بالهاء على ـ
الباري ، وبالواو على العقل ، وبالزاء على النفس ، وبالحاء على الطبيعة ، وبقي
الطاء للمادة الجسمية وعالمها. وليس لها وجود فاعلي وإضافة إلى ما دونها ، لأنها
قابلة محضة وقوة استعدادية صرفة ، فيها نفدت رتبة الآحاد وعالم الإبداع للبسائط
والأفراد. ثم ينبغي أن يكون المأخوذ من إضافة الأول إلى العقل ، والعقل ذات غير
مضافة إلى ما بعده مدلولا عليه بالياء ، لأنه من ضرب ـ ه ـ في ـ ب ـ ولا يحصل من
إضافة الباري إلى العقل أو العقل إلى النفس عدد يدل عليه بحرف واحد ، لأن ضرب ـ ه
ـ في ـ ج ـ يه ـ وضرب وفي ـ ج ـ يح ـ وأن يكون الأمر وهو من إضافة الأول إلى العقل
مضافا مدلولا عليه باللام وهو من ضرب ه في و، ويكون الخلق وهو من إضافة الباري إلى
الطبيعة بما هي مضافة مدلولا عليه بالميم ، وهو من ضرب ه في ح لأن الحاء دلالة
الطبيعة مضافة ويكون التكوين وهو من إضافة الباري إلى الطبيعة ، وهي ذات مدلولا
عليه بالكاف ويكون جميع نسبتي الأمر والخلق أعني ترتيب الخلق بواسطة الأمر ، أعني
اللام والميم ومدلولا عليه بحرف عين. وجميع نسبتي الخلق والتكوين كذلك أعني الميم
والكاف مدلولا عليه بالسين ، ويكون مجموع نسبتي طرفي الوجود والتكوين أعني ، ل وم
، مدلولا عليه بالصاد ، ويكون اشتمال الجملة في الإبداع أعني ضرب ى في نفسه مدلولا
عليه بق ، وهو أيضا من جمع ص وي ، ويكون ردها إلى الأول وهو مبدأ الكل ومنتهاه على
أنه أول وآخر ،
أعني أنه فاعل
وغاية كما بين في الإلهيات مدلولا عليه بالراء ضعف ق.
فإذا تقرر هذا
فلنرجع إلى بيان المطلوب ، فنقول : إن المدلول عليه ب (الم) هو القسم بذات الأول ، ذي الأمر والخلق ، وبالراء القسم
بالأول ، ذي ـ الأمر والخلق الذي (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ) والمبدأ والغاية ، وب (المص) القسم بالأول ، ذي الأمر والخلق والمنشئ للكل ، وب (ص) القسم بالعناية الكلية وب (ق) ، القسم بالإبداع المشتمل على الكل بواسطة الإبداع السماوي
للعقل ، وب (كهيعص) ، القسم بالنسبة التي للكاف ، أعني عالم التكوين إلى المبدإ
الأول وبنسبة الإبداع الذي هو ، ي ، ثم الخلق بواسطة ص ر لوقوع الإضافة بسبب
النسبة إلى ر ، وهو ع ، ثم التكوين بواسطة الخلق والأمر وهو ص ، فبين ك وه ضرورة
نسبة الإبداع ، ثم نسبة الخلق والأمر ، ثم نسبة التكوين والخلق والأمر ، و (يس) ، قسم بأول الفيض وهو الإبداع وآخره وهو التكوين ، و (حم) ، قسم بالعالم الطبيعي الواقع في الخلق و (حم عسق) ، قسم بمدلول وسائط الخلق في وجود العالم الطبيعي بالخلق
بينه وبين الأمر بنسبة الخلق إلى الأمر ، ونسبة الخلق إلى التكوين ، بأن نأخذ من
هذا ونرده إلى ذلك قسم به بالإبداع الكلي المشتمل على العوالم كلها ، فإنها إذا
أخذت على الإجمال لم يكن لها نسبة إلى الأول غير الإبداع الكلي الذي يدل عليها ب (ق) و (طس) يمين بعالم الهيولى ، الواقع في التكوين ، و (ن) ، قسم بعالم التكوين ، وعالم الأمر أعني ن ، لمجموع الكل.
ولا يمكن أن يكون للحروف دلالة غير هذا البتة.
وهذه جملة ما ذكره
بعض حكماء الإسلام في سر هذه الحروف المجملة ، وهي أجود ما قيل في هذا الباب واحكم
، والله الهادي إلى طريق الصواب وهو أعلم.
قاعدة
في
أن العالم الربوبي والصقع الإلهي عظيم جدا
واعلم أن حقائق
الأشياء كلها وصورها العلمية الأصلية موجودة
عند الله تعالى
واجبة بوجوبه الذاتي باقية ببقاء الله لا ببقاء أنفسها ، وهي واحدة من حيث الوجود
بحيث لا كثرة في وجودها وإن كانت كثيرة من حيث معانيها وأعيانها التي هو صور أسماء
الله وصفاته ، كما قال الله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ
لِكَلِماتِ اللهِ) وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) وقوله : (وَما مِنْ غائِبَةٍ
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وقوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) وقوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ ، أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ولا شك أن قبضته ويمينه مقدستان عن التغير والدثور ، ومعنى
الآية (ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) أي اليهود ومن يحذو حذوهم ، أو يجري مجراهم ممن لم يعلموا
ارتفاع ذاته عن عالم المفارقات فضلا عن عالم الأجسام ، فشبهوه ونسبوه إلى المثل
والنظير والصاحبة والولد (وَقالَتِ الْيَهُودُ
: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وأيضا : نسبوا إليه التعطيل في الإفاضة والإمساك عن الجود
، إذ (قالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) فيداه غير زائلتين ، بل دائمتان قائمتان بالجود والرحمة.
وقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي أرض الآخرة ، وهي الأعيان الثابتة المنورة بنور الوجود
الفائض عليها من ذات الله تعالى ، والمراد بها ذات النفس الكلية المنورة بنور
العقل الكلي المتحدة به الصائرة إياه بحسب الاستكمال الذاتي ، ومن حيث التفصيل
نسبتها إليه نسبة القابل إلى المقبول ونسبة ما بالقوة إلى ما بالفعل. ويحتمل أن
يكون المراد بأرض الآخرة ، جملة النفوس الإنسانية القابلة لفيضان النور العقلي
الإلهي على ذواتها وعقولها الهيولانية ، أو النفوس الحيوانية الخيالية من الإنسان
القابلة للأنوار الحسية التي يتمثل بها عند النفس ، الأشباح الأخروية والصور
الشخصية المثالية.
قاعدة
في أن صور المكونات الموجودة في هذا
العالم مرتسمة متمثلة في
نفوس السماوات وفي قواها المنطبعة على الوجه الجزئي ، والإشارة إلى معنى القضاء
والقدر ، واللوح والقلم.
اعلم أن العالم
الجسماني كله بمنزلة إنسان كبير ، وأن جوهر السماء بمنزلة أم الدماغ من بدن
الإنسان ، وطبقاتها بمنزلة تجاويف الدماغ. وكما أن الدماغ الإنساني لمكان الروح
النفساني الذي هو ألطف الأجرام الكونية مظهر يظهر فيه الصور الإدراكية والأشباح
العينية والأشخاص المثالية للنفس ، وكما أن المرآة الخارجية مظهر يظهر بسببها
الصور المبصرة للنفس ، فهكذا الروح الدماغي للطافتها وصفائها مرآة روحانية للنفس
لما حقق في موضعه ، أن الصور الإدراكية سواء كانت كلية أو جزئية عقلية أو حسية غير
حالة في جرم مادي كوني ، ولا أيضا قائمة بمادة جسمية ، فكذلك جوهر السماء وجرمها
اللطيف مرآة يظهر فيها الصور الموجودة في نفسها الكلية من عالم الأمر. وبيان ذلك ،
أن العالم الروحاني بجوهره المجرد القدسي مخزن القضاء الرباني ، وكذلك العالم
النفساني بجرمه السماوي مظهر لقدره ، إذ الصور الإلهية التي في عالم القضاء في
غاية الوحدة والصفاء ، لا ينفصل ولا تتمثل في معلوميتها لغيرها لشدة نوريتها ،
كمرآة مضيئة ترد البصر عن إدراك ما فيها من الصور بشعاعها ، كما قال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا
يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) فينتسخ من تلك الصور بالعقل الكلي الذي بمنزلة القلم
الناسخ في لوح النفس الناطقة الكلية التي هي قلب الإنسان الكبير ، كما ينسخ بالقلم
في اللوح صورا معلومة مضبوطة بعللها وأسبابها على وجه كلي ، كما يظهر في قلوبنا
عند استحضارنا للمعلومات الكلية ، كالصور النوعية وكبريات القياس عند الطلب للأمر
الجزئي المنبعث عنه العزم على الفعل ، وهو اللوح المحفوظ لانضباط تلك
الصور فيها وانحفاظها
عن التغير ، كما قال : (وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ) وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ثم ينبعث ويتمثل منها في النفوس السماوية الجزئية التي هي
قواها الخيالية نقوشا ومثالا جزئية مشخصة بهيئات وأشكال وأوضاع معينة مقارنة
لأوقات معينة ، مثل ما يوجد في الخارج كما يتمثل في خيالنا الصور الجزئية وصغريات
القياس مثلا ، ليحصل بانضمامها إلى تلك الكليات والكبريات رأيا جزئيا ينبعث عنه
إرادة وقصد جازم إلى الفعل المعين ، فيجب عنه الفعل ، وذلك العالم هو لوح القدر ،
أي مرآته ومظهره ، وهو خيال العالم ، والسماء الدنيا التي تنزل إليها الكائنات
الجزئية أولا من غيب الغيوب ، ثم يظهر في عالم الشهادة على وجه يطابق لما فيها ،
وتلك الصور والنقوش من قوى النفس الناطقة السماوية كالصور الخيالية من قوة الخيال
لنفوسنا ، وكل منها كتاب مبين ، لقوله تعالى : (وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، (وَما مِنْ غائِبَةٍ
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، و (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها) وقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وحصول تلك الصور المعينة الموقتة بوقتها المعين في موادها
الخارجية هو القدر الخارجي ، كما قال : (وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ولا شك أن وقوعها في الخارج عند حضور ذلك الزمان ضروري ولا
مرد لحكمه ، ولا دافع لقضائه ، لأنها موجودة قبل وقوعها الخارجي في عالم آخر ،
وذلك العالم هو عالم الملكوت العمالة بإذن الله ، أي المسخرة لأمره المطيعة لكلمته
المدبرة لأمور العالم بتحريك المواد وإعدادها وتهيئة القوابل واستعداداتها ، وحامل
القدر بما فيه هو عالم الملكوت ، كما أن لوح القضاء بما فيه هو عالم الجبروت.
قاعدة
في
كيفية نزول القضاء من عند الله وبروز الأحكام من مكامن
الغيب
إلى مظاهر الشهادة
. اعلم أنه تعالى
قد عظم أمر السماء ، وجعلها واسطة الأرزاق وقبلة الدعوات ، ورفع الحاجات ، قال : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ) إذ جعلها منشأ الحركات الكلية ، وحدوث الكائنات ، وتولد
النباتات والحيوانات ، سيما نوع الإنسان الفائق بنفسه الناطقة ، العارفة لربها على
سائر الأكوان ، وذلك لأجل أنه جعلها ذوات نفوس ناطقة كاملة متشوقة إلى لقاء الله ،
عاشقة لملكوته الأعلى ، طائفة حول كعبة الجلال ، فلها إدراكات وإرادات عقلية
بنفوسها الكلية ، ولها أيضا إدراكات وإرادات بنفوسها الحيوانية الجزئية ، كحال
نفوسنا المدركة للكليات المريدة إرادة كلية من جهة العقل ، والمدركة للجزئيات
المريدة إرادة جزئية من جهة قوة التخيل ، كل بحسب مرتبة ومقام ، وكل منها يشتاق
إلى جوهر قدسي مفارق ، هو مفيض وجودها ومكملها القريب ، تقربا إليه وتشبها به ،
لإدراكها لذلك الكمال الذي من شأنها التشبه به ، والخروج من القوة إلى الفعل بسببه
، والتقرب إلى المبدإ الأعلى بواسطته ، فإن النفس بحسب الكمال العقلي بالقوة
والإمكان ، وشأنها أن يخرج من ـ القوة إلى الفعل ، ومن الإمكان إلى الوجوب ، وهذا
الخروج لا محالة بحركة ، والحركة لا يكون إلا لتعلق بمادة جسمانية ، لأن المفارق
عن الجسم بالكلية المجردة عن المادة رأسا لا حركة له ، فحركة السماء نفسانية تابعة
لحركة جسمانية ، فلا بد فيها من إرادة كلية وأخرى جزئية. أما الأولى ، فلأن أغراض
الفلك ليست كأغراض الحيوان العنصري شهوية أو غضبية ، أو لأجل طلب غذاء أو لدفع آفة
أو عدو ، إذ أجسادها ليست مخلوقة من العناصر المتضادة المتكونة من مادة ناقصة غير
مستكملة بالصورة حتى يحتاج إلى التكميل والتعديل والتصوير ، وليس لصورة جسمها ضد
ولا لنفسها مرض ، فليس لها شهوة ولا غضب ، لأن حركتها
ليست لأجل غرض
جسماني بل لأجل مقصد علوي ونيل كمال قدسي يكون من شأنها الوصول إليه ولا يمكن إلا
بالسعي والتوجه لنفوسها وأبدانها ، لما علمت أن فعل النفس وحركتها لا يكون إلا مع
البدن ، فلا بد لأجرامها أن يتحرك ضربا من الحركة. وحركة الأجسام منحصرة في أن
يكون في أربع مقولات ، إما في الأين أو في الكم أو في الكيف أو في الوضع ، لكن الفلك
لا يمكن أن يكون له حركة إلا الوضعية فقط ، لأنه بالفعل في جميع ما يمكن له من
المقدار والأين والكيف ، إلا الوضع بمعنى النسبة إلى الغير ، فيطلب وضعا كليا
يستعد به لذلك الكمال وينضم إلى إدراكه الكلي إدراكات جزئية متقدمة بعضها ومتأخرة
بعضها.
فينبعث من إرادتها
الكلية إدراكات جزئية ، فيتبعها أشواق جزئية يوجب حركات جزئية ، يقع الوصول بها
إلى مرادات جزئية ، نسبة الإرادة الكلية إلى الإرادة الجزئية كنسبة المراد الكلي
إلى المراد الجزئي ، ولما علمت أن المراد الكلي للفلك التشبه بجوهر كامل عقلي ، بل
الاتحاد والصيرورة إياه لا مجرد تحصيل معنى التشبه ، فإنه أمر ذهني لا وجود له في
الخارج ، وما لا وجود له لا يكون مقصودا حقيقيا. فالمراد الكلي جوهر كامل عقلي ،
والمراد الجزئي أحد جزئياته وهو جوهر نفساني جزئي ، فدائما يتجدد للنفس الفلكية
أمثال ويتصل كل منها إلى العالم الأعلى ويتحد بالجوهر المفارق ويوجد بدله. ونحن قد
بينا في سائر كتبنا أن طبيعة كل جسم التي هي مبدأ حركته وسكونه وسائر صفاته
الذاتية وأفعاله الطبيعية ، أمر متجدد سيال دائما ، فكذلك طبيعة الفلك أمر متجدد
سيال. وأيضا قد بينا أن الحيوانية في الفلك ينبعث في كل حين من عالم الطبيعة إلى
عالم الملكوت العقلي ويحشر إلى الملإ الأعلى ويوجد بدلها نازلا إلى الفلك من ذلك
العالم ، وهكذا يتوارد الأمثال النفسانية ويتجدد الأشكال والأوضاع والطبائع
والمواد الجسمانية في هذا العالم في كل وقت ، وتنشأ الآخرة من الدنيا إلى أن يرث
الله (الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها) والله (خَيْرُ ـ الْوارِثِينَ) ، والخلق غافلون عن ذلك ، لتشابه الأمثال ، كما قال الله
تعالى : (أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ومن هاهنا يعلم أن العالم حادث
كله أفلاكه
وكواكبه وبسائطه ومركباته حدوثا زمانيا ، وأن أشخاصها الفلكية والعنصرية كلها
متبدلة ، أما الفلكيات فعلى نهج الاتصال ، وأما العنصريات فعلى نهج الانفصال ،
وصورها العقلية ثابتة عند الله باقية في علم الله ، فإن علم الله مصون عن التغير
والتصرم ، كما قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ
وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) وهي كلمات الله التامات التي لا تبيد ولا تنفد ، وقال
تعالى : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).
والحاصل ، أن كل
حركة سماوية شوقية دورية يحصل للمتحرك بها في كل آن وضع جديد يفيض بذلك الوضع على
نفسه من مبدئه العقلي المتشوق إليه صورة عقلية هي كمال له وإشراق نوري توجب لها
بقاء بعد فناء وحياة جديدة بعد موت وليسا بكمال بعد خلع فيتجدد منه حركة أخرى وشوق
جديد إلى كمال آخر ، فينطبع من تلك الصورة العقلية في قوتها الخيالية صورة حيوانية
جزئية أخرى مع لذة جزئية أخرى ، فينبعث منها شوق جزئي واهتزاز وطلب لوضع جزئي
يحاكي به الصورة النفسانية المحاكية لتلك الصورة العقلية ، فيتخصص بذلك الوضع
الإرادة الأولى الكلية في ذلك الوقت المعين وينزل بحسب كل وضع شخصي وإرادة جزئية
من تلك المبادي العقلية ثم النفسانية على مواد هذا العالم بحسب استعداداتها
المتعاقبة التابعة للأوضاع السماوية صور تتكمل بها تلك المواد ويتهيأ لقبول الصور
التالية لهذه الصور الحاصلة التي سيحدث بالوضع اللاحق السماوي لهذا الوضع الحاصل ،
وعلى هذا القياس يتعاقب الحركات ويتوارد الأوضاع فيتوالى الصور على جواهر السماوات
ويتلاحق اتصال النفوس بغاياتها ومعشوقاتها العقلية ، ففي كل آن لها حشر جديد
وقيامة ساعة قائمة ورجوع إلى الله.
عقدة وحل
فإن قيل : كيف
يكون الحركة المتقدمة علة للمتأخرة والوضع السابق علة للوضع اللاحق ، والعلة يجب
أن يكون مع معلولها ، والحركة المتقدمة
لا تبقى مع الحركة
المتأخرة ، والوضع السابق لا يبقى مع الوضع اللاحق.
قلنا : إن النفوس
المحركة لها إرادة كلية سابقة لحركة دائمة لغرض عقلي دائم ، ولها إرادة جزئية من
نقطة كذا إلى نقطة كذا ، أي من وضع شخصي إلى وضع شخصي آخر ، والإرادة علة للحركة ،
والحركة علة للوصول إلى ذلك الوضع وإلى الغرض الجزئي الآخر ، فلا يزال الوصول مع
الإرادة الكلية علة للإرادة الجزئية لغرض جزئي آخر ، ولا يتوقف إرادة جزئية على
نفس تلك الحركة التي توقفت عليها ـ وإن توقفت على غيرها من نوعها ـ وإلا لزم الدور
المستحيل ، ولا يتصرم الإرادة الكلية السماوية وإن تصرمت جزئياتها ، ويدل دوامها
على دوام السماوات وتنزهها عن الكون والفساد ، وعلى هذا الوجه من جهة التضاد بين
المتفاسدات من الكائنات كما دل على ذلك قوله تعالى : (فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) وقوله : (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ، ... (إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ).
وهم وإنارة
ولعلك تقول تجدد
اللازم ودثوره دليل تجدد الملزوم ودثوره ، كما أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم
، ولا شك أن إرادة الفلك وحركته ووضعه لازم لطبيعته ونفسه ، وإذا تجددت الإرادة
والحركة والوضع ، فبالضرورة يكون للفلك في كل وقت نفس أخرى وطبيعة أخرى ووجود آخر
، فلما لم يكن لكل فلك إلا ذات واحدة ثابتة لها ، ووجود واحد شخصي ، فلا محالة لم
يكن لها من ماهية كل لازم إلا شخص واحد مستمر بالعدد. وأيضا : لما يلزم من تبدل
اللازم تبدل الملزوم ، فيلزم أن يكون عالم الأجرام الفلكية عالم ـ الكون والفساد.
فنقول : لما كان
تجدد النفوس الفلكية وطبائعها على نعت الاتصال والمتصل الواحد موجود بوجود واحد
ضربا من الوحدة ، وإن كان على سبيل التدرج ، وكذا أوضاع الفلك وضع واحد متجدد نسبة
ذلك الواحد إلى المتجددات
الوضعية كنسبة
الحركة التوسطية إلى الحركة القطعية ، فهكذا طبيعة الفلك شخص واحد من حيث لها وحدة
مستمرة جامعة محفوظة بواحد عقلي هو عقله المدبر له المقيم لنفسه بإذن الله تعالى ،
وإن كان له في كل وقت تشخص آخر ، فبذلك الواحد العقلي والحافظ القدسي صح القول بأن
الفلك له ذات واحدة باقية غير داثرة ولا كائنة فاسدة ، فيكون له في كل آن هوية
أخرى غير الهوية السابقة ، وصح القول بأنه يحدث في كل آن منه شخص آخر لا بقاء له
في زمانين ، ولهذا أطبقت الشرائع الحقة في القول بحدوث العالم جملة لأنه في كل آن
يحدث منه شخص غير الذي كان قبله وبعده.
وبالجملة ،
فالعالم العقلي مصون عن التغير والفساد ، ولكل موجود في عالم الطبيعة صورة باقية
في القضاء الإلهي واللوح المحفوظ عن المحو والزوال ، وله صورة إدراكية في كتاب
المحو والإثبات ، وله أيضا صورة أخرى مادية غير إدراكية في المادة الهيولانية التي
من شأنها الدثور والاضمحلال ، وهي القدر الخارجي ، والأولى هي القدر العلمي ، وكل
منهما قابل للتغير والتبدل ، ففي الأولى المحو والإثبات ، وفي الأخرى الكون
والفساد ، وهكذا عند المحققين. وعند بعضهم ، أن القدر هو الثانية دون الأولى ،
ويرون أن المحو والإثبات لا يكونان إلا في المواد العنصرية ، والصور الجزئية
المنطبعة في الفلكيات ثابتة أبدا بحالها من غير استحالة ، والتحقيق يصادمه من جهة
العقل والقرآن جميعا. وقوم جوزوا المحو والإثبات في الصور الإدراكية الفلكية دون
الصور المادية الخارجية. ونحن بإذن الله وتوفيقه نرى ، أن ـ المحو والإثبات في
نفوسها وفي أجرامها جميعا فيقع في ألواح نفوسها المحو والإثبات أولا ويتبعها الكون
والفساد في مواد أجرامها ثانيا ، ثم في سائر المواد الجزئية العنصرية ، ولا شك أن
الثاني لازم للأول وكذا الثالث للثاني. ومن نطر إلى أحوال عقله ونفسه وبدنه نظرا
وجدانيا ، يجد أن عقله أمر ثابت من أول العمر إلى آخره ، وأن كلا من نفسه
الحيوانية وبدنه الطبيعي في التبدل والسيلان ، وكما أن بدنه الطبيعي لأجل الحرارة
الغريزية والخارجية في الذوبان والاستحالة والسيلان ، فكذلك هوية نفسه الجزئية
الحيوانية المدركة
بإدراك حضوري
المشعور بها له على الوجه الجزئي ليست إلا متجددة ، حتى أن الحاضر الآن من ذاته
الشخصية ليس بعينه هو الهوية العينية الحاضرة له فيما سبق من الزمان. فإذا نعلم
جزما بأن مع حكمنا باستمرار ذاتنا ضربا من الاستمرار ، أن هويتنا الحاضرة عندنا
الآن غير هويتنا التي كانت منذ سنة ، كذا أيام الصبى والشباب ، وأن هذا الحضور غير
ذلك الحضور وأن هذا الحاضر الآن غير ذلك الحاضر من قبل ، إذا ندرك نفسنا التي الآن
بعلم شهودي وجودي ، والتي كانت حاضرة لنا في الأمس مثلا ندرك نحو وجودنا الأمسي
بعلم ذهني حصولي. نعم نعلم استمرار ذاتنا على نعت الاتصال التجددي ، ولنا
كتاب حفيظ يحفظ السابق واللاحق والغائب والحاضر من هويتنا وهو جوهرنا النطقي ،
وكأن شيئا من هذا الأمر لاح ـ لبهمنيار ـ حيث أنكر بقاء الذات في الإنسان وباحث مع
شيخه ـ أبي علي بن سينا ـ في ذلك إلا أنه لم يسهل له التفصي عما ذكره الشيخ في
المفاوضات بينهما بقوله : فلست أنا المسئول عنه ، فلم يلزمني جوابك.
وكان بهمنيار أن
يقول له إن للنفس الإنسانية مرتبتان في الوجود : إحداهما ، متصلة بالطبيعة البدنية والأخرى متصلة بالجوهر
العقلي مستمدة منه ، فبوجهها الذي يلي الطبيعة ويتعلق بالبدن وتدرك الجزئيات
الزمانية ، يكون متبدلة غير باقية ، وبوجهها الذي يلي العقل ، تكون ثابتة باقية
مستمرة ، وحال هاتين المرتبتين من ذات الإنسان كحال الحركة التوسطية المستمرة
والحركة القطعية المتجددة.
وبالجملة العالم
العقلي محفوظ عن التغير والانقطاع ، والعالم الطبيعي متجدد كائن فاسد ، والنفس
مترددة بين العالمين ، ولها وجه إلى الطبيعة ووجه إلى العقل ، فبوجهها الطبيعي
تدثر وتضمحل ، وبوجهها العقلي يحشر إلى عالم العقل ومأوى الأرواح ويرجع إلى الله
تعالى.
حكمة عرشية
اعلم أن السابقين
الأولين من الفلاسفة الكاملين ، كأرسطو وأتباعه ،
رأوا أن نفوس
الأفلاك منطبعة لا غير ، والمتأخرون منهم كأبي علي بن سينا ومن يحذو حذوه ، ذهبوا
إلى أنها مجردة فقط. وبعض المتأخرين رأى أن الفلك ذا نفسين ، أحدهما ، منطبعة
والأخرى مجردة.
والذي لاح لهذه
الفقراء بنور الهداية الربانية ، أن لكل من الأفلاك هوية واحدة نفسانية جامعة
لمرتبتي التجرد والتجسم ، فلها نشأتان : إحداهما ، عقلية باقية عند الله ، والأخرى
، نفسانية جزئية متجددة في كل وقت. فبالنظر إلى الجهة العقلية قالت الفلاسفة : إن
العالم قديم ، وبالنظر إلى هويتها المتجددة قالت أصحاب الشرائع الحقة : إن العالم
حادث. والقول الفصل هو الذي نطق به الكتاب الإلهي : (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ولو اجتمعت فصحاء العالم كلهم على أن يأتوا بمثل هذا
الكلام الفصيح المعرب عن هذا المعنى اللطيف والمطلب الشريف على هذا الوجه من
الوجازة والبيان ، لما قدروا على ذلك (وَاللهُ يَقُولُ
الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).
تعليم تمثيلي
اعلم أن صورة
العالم كصورة الإنسان ، فكما أن لأفعال الإنسان من لدن صدورها منه وبروزها من مكمن
غيبها إلى مظاهر شهادتها أربع مقامات ومراتب ، لكونها أولا في مكمن روحه الذي هو
غيب غيوبه في غاية الخفاء والبطون كأنه غير مشعور به ، ثم يتنزل الأمر منه إلى عين
قلبه عند استحضارها وإخطارها بالبال كلية ، ثم يتنزل إلى مخزن خياله ولوح قدره
مشخصة جزئية ، ثم يتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهارها في الخارج فيظهر في مادة جسمانية
ذات وضع شخصي ، وهذا آخر تنزلاتها. فكذلك لما يحدث في هذا العالم من الحوادث ، إذ
المقام الأول بمثابة القضاء البسيط الإجمالي ، والثاني بمثابة صور اللوح المحفوظ
ومعدنه العرش الأعظم ، والثالث بمثابة نقش القدر ومحله السماء الدنيا أعني
السماوات السبع من حيث نفوسها الانطباعية الخيالية على ما نراه ، والرابع بمثابة
الصور الحادثة في المواد الخارجية. ولا شك أن النزول الأول
لا يكون إلا
بإرادة كلية ، والنزول الثاني بإرادة جزئيه تنضم إلى الإرادة الكلية ، فيتخصص
ويصير جزئية ، فينبعث بحسب ملاءمتها ومنافرتها رأي جزئي وشوق جزئي يستلزم إرادة
جازمة داعية إلى إظهارها في الخارج ، ويبرز من الغيب إلى الشهادة. فحركة الأعضاء
بواسطة الأعصاب والرباطات في الإنسان الصغير ، بمثابة حركة السماء بواسطة الأشعة
والأنوار في الإنسان الكبير ، وظهور الفعل في الخارج هو القدر الخارجي ، وكما أن
سلطان الروح الكلي الذي هو روح العالم الكبير لا يكون إلا في العرش ، فهو من عالم
الكبير بمنزلة الدماغ منا ، وكما أن مظهره الأول فينا هو القلب الذي هو منبع
الحياة والحرارة الغريزية ، فكذلك مظهره في العالم هو الفلك الرابع الذي ارتكز فيه
الشمس ، وهي سلطان الكواكب النورية ومعطي الأضواء والأنوار الحسية ومنبع حياة
العالمين ، فهي من العالم بمنزلة القلب الصنوبري منا. وأما القلب المعنوي الذي هو
محل الإيمان والمعرفة والحكمة وهو المذكور في لسان الشريعة والقرآن كقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وقوله : (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فهو النفس الناطقة من ـ الإنسان لتقبلها في الأطوار ،
وكونها تارة مع الطبيعة ، وتارة مع العقل ، وهي متجاذبة إلى الجانبين ، مترددة بين
النشأتين ، كما ورد في الحديث عن النبي ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء»
وروح هذا الفلك الرابع بمنزلة النفس الحيوانية منا المتعلقة بالبخار اللطيف
الدخاني المنبعث من القلب الذي حياته ، كأنه ذاتية كالأجسام الأخروية التي حياتها
ذاتية لا واردة عليها من خارج ، كما سينكشف في مباحث المعاد وبهذا الروح يحيى جميع
الأعضاء وهو كجرم الفلك ، ولذلك وصف الله السماء بالدخان للطافته ، وقبوله النارية
والنورية بسرعة ، وهو ، أي الفلك الرابع البيت المعمور المشهور في الشريعة إنه في
السماء الرابعة الذي أقسم الله به في التنزيل في قوله : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي
رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ) ولهذا جعلت مقام عيسى روح الله ، وكانت معجزته إحياء
الموتى لغلبة روحانيته وتجرده وقوة حياته ونورانيته. والطور يراد به العرش ،
والكتاب المسطور
بالقلم الأعلى ، هو صورة القضاء الأول البسيط الثابت في الروح الأعظم الأول ،
والرق المنشور هو النفس الكلية المدبرة للعالم ، والسقف المرفوع هو السماء الدنيا
على المعنى الذي سبق. فإن هذه السماوات الجسمانية بإزاء سماوات عقلية روحانية في
العالم الأعلى العقلي ، فهي السماوات العلى في الحقيقة. إذ لا شك أن عالم الأجسام
كله بالنسبة إلى عالم الروحانيات بمنزلة الأرض السفلى والمنزل الأدنى ، والبحر
المسجور هو بحر الهيولى السيالة الممتلئة بالصور الطبيعية الكائنة الفاسدة
المتواردة عليها على التعاقب كأمواج البحر ، وإنما وصف بحر الهيولى بالمسجور ، لأن
هذه الطبائع الجسمية والصور الكونية باطنها نار الجحيم وهي نار كامنة في كل جسم ،
وإن كان مثل الماء والأرض والجبال ، إلا أنها منغمرة في بعضها بحيث لا يبرز إلا
بجهد جهيد وتحريك وسحق شديد ، بخلاف البعض الآخر ولذلك ما من جسم طبيعي إلا وينقلب
إلى النار بالحركة والتلطيف والخضخضة ، وأهل الكشف يشاهدون النار الكامنة في بواطن
الأجسام الطبيعية كلها رطبها ويابسها وباردها وحارها ، ويرون النار الأخروية في
باطن جواهر الدنيا ، كما قال تعالى في حق آل فرعون : (أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) وقوله : (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وعن بعض الصحابة رأى بحرا فقال يا بحر ، متى تصير نارا
المشهد الثالث
في دوام إلهيته وجوده ورحمته وكيفية صنعه وإبداعه وفيه
قواعد :
قاعدة
اعلم أن جماعة من
المتكايسين الخائضين فيما لا يغنيهم ، زعموا أن إله العالم كان في أزل الآزال
ممسكا عن جوده وإنعامه ، واقفا عن فيضه وإحسانه ، ثم سنح له في أن يفعل ، فشرع في
الفعل والتكوين والتقويم ، فخلق هذا الخلق العظيم الذي بعضه مكشوف بالحس والعيان
وبعضه معلوم بالقياس والبرهان. وهذا الرأي من سخيف الآراء ومن قبيح الأهواء ، فإن
صفات الحق تعالى عين ذاته وكمالاته الفعلية التي هي مبادي أفعاله كالقدرة والعلم
والإرادة والرحمة والجود كلها غير زائدة على ذاته تعالى ، وكذا الغاية في فيضه
وجوده ، والداعي له على ذلك ليس إلا نفس علمه بالنظام الأكمل الذي هو عين ذاته ،
فإن ذاته هو النظام المعقول الواجبي الذي يتبعه النظام الموجود الممكني ، لا
كاتباع الضوء للمضيء واتباع السخونة للجوهر الحار. والذي دعاهم إلى هذا الظن
القبيح المستنكر ، ما توهموا أن حدوث العالم حسبما اتفق عليه أهل الشرائع الحقة من
اليهود والنصارى والمسلمين تبعا لإجماع الأنبياء عليهمالسلام ، يستدعي ذلك ، ولا يستصح إلا بنسبة الإمساك عن الجود
وتعطيل الفيض إلى الله المعبود. وقدا وضحنا السبيل وأقمنا الدليل كما ستقف إن شاء
الله تعالى حسبما فصلنا في كتبنا ورسائلنا ، على أن العالم بكله وجزئه حادث زماني
، وذلك
لا ينافي كونه
تعالى قائما بالقسط والعدل والجود والكرم أزلا وأبدا.
وربما توهموا أن
مختاريته تعالى أوجبت تجدد الفاعلية واستيناف الفعل بعد ما لم يكن. وهذا أيضا من
تلفيقات الأوهام ومختلقات الذهن التي من قبيل أضغاث الأحلام ، فإن اختياره جل ذكره
أجل وأرفع من النمط الذي تصوروه من طرفي الجبر والاختيار ، إذ لم يفهم جمهورهم من
الجبر إلا في الطبائع العديمة الشعور ، ولا من الاختيار إلا في القصد الذي يكون في
الحيوان بعد حصول الداعي عقيب القدرة التي شأنها القوة الإمكانية المتساوية نسبتها
إلى الضدين والطرفين ، وهذه لا يوجد إلا في الناقصين في القدرة المفتقرة في كونها
مبدأ للفعل إلى انضمام الداعي من الخارج. وأما القدرة الأزلية فليست كما زعموه وجلت
وتقدست عما اعتقدوه في حقها ، لأنها عين الإرادة وعين الداعي الذي هو علمه تعالى
بالكل على الوجه الأتم الأعلى ، فهو تعالى بنفسه قادر مريد خالق لما يشاء كيف يشاء
فاعل لما يريد كيف يريد فكان خالقا لم يزل ولا يزال ، فاعلا للعالم كما يعلم في
الآباد والآزال ، فيكون الخلق قديما والمخلوق حادثا والعلم قديما والمعلوم متجددا
، وكذا الإرادة والإفاضة والرازقية كلها مستمرة أزلية ، لكن المرادات والمفاضات
والأرزاق حادثة متجددة (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لعدم تغيره في ذاته وكمالات ذاته وما يقتضيه صفاته الكمالية
(وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) إذ لا محول لفيضه وإعطائه ولا مبطل لقيوميته وإنشائه ولا
مبدل لكلماته. قوله : (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) وقوله : (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ) وقد علمت أن قوله إبداعه وأمره كلمته وتكوينه. وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) وأمره دائم ، والأمر الدائم لا يتغير ولا يوجب تغير
المأمور في ذاته تغير الأمر ، كما لا يوجب تغير الأمر لأن الأمر من عالم الإلهية
والبقاء والمأمور من عالم الخلق والفناء والدثور.
وإياك أن تشتبه
عليك وتلتبس ما قررناه من تجدد الخلق والتكوين مع بقاء الأمر والإبداع بكلام
الأشاعرة ، أتباع أبي الحسن الأشعري ، حيث قالوا : إن العلم قديم والتعلق حادث
وكذا القدرة قديمة وتعلقها بالمقدورات حادثة
فشتان بين ما
ذكروه وبين ما قررناه فإن الذي تخيلوه لا يمكن تصحيحه على نمط البيان العلمي ، لأن
مبناه على الإرادة الجزافية التي ذهبوا إليها ، وعلي إبطالهم القول بالعلة
والمعلول. وأيضا : كون العلم والقدرة وغيرهما من الصفات التي تلزمها الإضافة قديمة
ومتعلقاتها حادثة غير معقولة بناء على مذهبهم من انقطاع الفيض وتخصيص آن من الآنات
بأول الحدوث. وكذا قول جمهور قدماء المعتزلة بكون علمه تعالى بالأصلح علة مقتضية
لوجود العالم في الوقت الذي وجد فيه دون غيره من الأوقات ، وليس يلزم من هذا تخلف
المعلول عن العلة المقتضية ، لأن الذي اقتضاه العلم بالأصلح هو وجود المعلول على
هذا الوجه ، فلم يلزم تخلف أصلا. وكذا قول بعضهم بأن الداعي ذات الوقت على سبيل
الأولوية أو على سبيل الوجوب ، إذ لا وقت قبله ونحو ذلك من الملفقات الكلامية التي
لا جدوى فيها إلا تضييع الوقت. فإن كون الصفات الفعلية قديمة والآثار اللازمة
حادثة أنما يستقيم ويستثبت إذا كان نحو وجود الخلق والمواد الجسمانية وطبائعها
متجددة منقضية بحيث لا بقاء لها زمانين ، لأن شأنها التجدد والحدوث وماهيتها يقتضي
الزوال والانصرام والانقضاء ، كالحركة والزمان ، لكن معنى الحركة نفس المعقول من
تجدد شيء وخروجه من القوة إلى الفعل تدريجا بالمعنى الذهني المصدري.
وأما الذي كلامنا
فيه فهو نفس الموجود الذي وجوده بعينه يخرج من القوة إلى الفعل على التدريج ، وهو
من مقولة الجوهر الذي يقع فيه وبه الحركة الذاتية والحدوث والتجدد من لوازمه الغير
المجعولة بجعل مستأنف يتخلل بين الشيء وموصوفه ، فالجاعل القديم بقدرته القديمة
وبنحو ثباته يفعل الجوهر الجسمانية ، وهي من حيث أصل ذاتها وثبات وجودها الذي هو
عين الحدوث والتجدد مرتبطة بالفاعل وبقدرته التامة ، ولا لمية لها في نحو حدوثها
وتجددها إذ لا يتصور لها وجود خارجي إلا على هذا النحو فلا صنع للفاعل إلا في إفاضة
الوجود عليها على الوجه الأتم الأبلغ ، لا في كونها حادثة الوجود ناقصة الكون
متجددة الهوية والذات ، إذ الذاتي لا يعلل ، فعلى هذا الوجه صح القول بأن القدرة
والإرادة والجود أزلية والعالم حادث ، لا على
ما لفقوه ، كما لا
يخفى على ذي بصيرة. قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) قوله : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وقوله : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) وقوله : (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً).
قاعدة
في
تحقيق كلماته التامات
اعلم أن بين
الباري جل مجده وبين العالم وسائط نورية وأسبابا فعالة هي كأنها فوق الخلق ودون
الخالق ، لأنها حجب إلهية وسرادق نورية وأضواء قيومية كأضواء هذه الشمس المحسوسة ،
كأنها برزخ بين الذات النيرة وبين الأشياء المستنيرة بها ، وتلك الوسائط قد يعبر
عنها بكلمات الله وبالكلمات التامات كما ورد عنه صلىاللهعليهوآله في الأدعية والأذكار «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما
خلق ، وقوله : أعوذ بكلمات التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر كل شيطان
مريد» وإنما وقعت الاستعاذة من الشرور بكلمات الله ، لأنها من عالم الأمر ، وهو
خير كله لا شر فيه ، وكل ما في عالم الخلق كالأجسام وعوارضها اللازمة والمفارقة
كلها مملو بالشرور والنقائص والآفات. قوله : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) فالكلمات إشارة إلى ذوات نورية بها يصل فيض الوجود إلى
الأجسام والجسمانيات ، والبحر إشارة إلى هيولى الأجسام التي شأنها القبول والتجدد.
وإنما يقع تجدد الفيض بحسب توارد انفعالاتها واستعداداتها ، وإنما يتلاحق
استعداداتها بمدد بعد مدد من العوالي ، فشأن المواد النفاد والانقطاع ، وشأن
الكلمات الإفاضة بعد الإفاضة ، ولا شك أن الوسائط هويات وجودية بسيطة وذوات مجردة
عن المواد الجسمية مرتفعة عن عالم الأزمنة والأمكنة ، وكل مجرد أمر روحاني وجوده
عين العلم والإدراك ، فهي لا محالة عقول قدسية وأرواح عالية ، قال الله
تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ) وهي متصلة بالحق الأول اتصال الشعاع بالشمس ، ولهذا أضيفت
إليه تعالى بقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) وإنما وصفت بأنها تامات ، إذ جميع ما لها من الكمال هو
بالفعل ، ليس فيها شوب قوة استعدادية ولا كمال ينتظر ولا أحوال مترقبة الحصول. وقد
يعبر عنها بعالم الأمر كما يعبر عن الأجسام وما معها بعالم الخلق ، قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فجميع ما في عالم الأجسام إنما يصدر عن المبدإ الأعلى
بواسطته. وقد يعبر عنها بقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال : (لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والأسماء متكثرة والمسمى واحد باعتبار حيثيات مختلفة ، فمن
حيث يقع بها إعلام الحقائق من الله ، يقال لها الكلمات ، ومن حيث يجب بها وجود
الكائنات كل في وقته ، يقال أمر الله وقضاؤه الحتمي ، ومن حيث يكون بها حياة
الموجودات يقال لها روح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) وهي في ذاتها واحدة (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ) وإنما يتعدد ، بتعدد أنواع الآثار (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أو باعتبار جهات فيضانها على الأشياء ، أو باعتبار
تعلقاتها بها ، فيتكثر بتكثرها ، كالوجود حقيقة واحدة تتكثر بتكثر الماهيات ، لا
بأن يكون للماهيات تأثير في الوجود ، بل باعتبار اتحاد الماهية بالوجود. وبالجملة
كلمات الله أمر موجود روحاني مؤيد للأنبياء بالوحي ، قال الله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا) وملهم للأولياء بالكرامة ، ومحيي لقلوب السالكين من
المؤمنين بالإيمان ، وأيدهم بروح منه ، وهو والد لنفوس المكرمين ، (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ) وهذا هو الروح العلوي الذي قيل : إنه لم يقع تحت ذل كن ،
لأنه نفس كلمة كن ، وهو بعينه نفس الأمر ، لأنه أمر الله الذي به يوجد الأشياء ،
ولا شبهة في أن قول الحق وكلامه فوق الأكوان وأعلى منها ، إذ بها يقع الفعل
والتأثير والتكوين. فكيف يقع تحت الكون وقال : (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا).
قاعدة
في
أن الله سبحانه فاعل لما سواه وموجد لما عداه على أربعة أنحاء
: الأول ، الإبداع
وهو إيجاده لأفعال تولاها بذاته ، وهي الإبداعيات. ومعنى الإبداع هو إيجاد الشيء
عن العدم ، أي إيجاده لا من شيء ، لست أقول من لا شيء وإليه أشار بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ ...). والثاني التكوين ، وهو إيجاد أفعال استعبد فيها ملائكته
وسماها قوم : التكوينيات. والثالث ، التدبير وهو إخراج الشيء من النقص إلى الكمال
إخراجا غير محسوس ، وهو معنى الربوبية ، كقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) وقوله : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) وبذلك وصف الله تعالى ملائكته بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). فالمقسمات وهم ثلاثة أضرب : ضرب إليهم القيام بالأجرام
السماوية ، وقيل هم إسرافيل وميكائيل وجبرئيل ورضوان والمحتفون بالعرش الموصوفون
بقوله : (حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ) وقوله : (الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) وضرب إليهم تدبير الأركان الهوائية ، كالملائكة الباعثة
للرياح والموجبة للسحاب الموصوفين بقوله (وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) وكما وصفه النبي صلىاللهعليهوآله في صفة الجنين «إنه تعالى يبعث ملكا فينفخ فيه الروح»
وكالحفظة كما في قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) وقوله : (يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ...) إلى قوله : (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). والرابع ، التسخير ، وهي أفعال سخر الله تعالى لها
موجودات هذا العالم ، كالإضاءة للشمس والإنارة للقمر والإحراق والإذابة للنار
والترطيب للماء ، وبالجملة ما سخر الله له شيئا من الأجسام كالأفلاك والعناصر
والجمادات والنباتات وغير ذلك. ونبه عليه بقوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) وقوله :
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) و (سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إلى غير ذلك من الآيات.
الخامس ، الصناعة
وهي المهنة وهي التي استعبد الإنسان فيها واستخلفه ، وهي الأشياء التي يحتاج صنعة
أكثرها إلى ستة أشياء. إلى عنصر يعمل منه ، وإلى مكان ، وإلى زمان ، وإلى حركة ،
وإلى أعضاء ، وإلى آلة. وهذا الضرب خص الإنسان به ولم يستصلح لها الملائكة كما
استصلح الملائكة لأمور لم يستصلح لها الناس ، وجعل لكل ملك مقاما معلوما (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) وكذا جعل لكل من أصناف الناس مقاما معلوما كما نبه بقوله :
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ) وقوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وقوله صلىاللهعليهوآله : «كل ميسر لما خلق له» ولكن عامة الملائكة ، لا يعصون
الله في ما أمرهم ، (وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) ، لبساطتهم وعدم تركبهم من أمشاج. والناس فيما أمروا
وكلفوا بين مطيع وعاص ، فهم على القول المجمل ثلاثة أضرب : ضرب أخلوا بأمره
وانسلخوا عما خلقوا لأجله واتبعوا خطوات الشيطان وعبدوا الطاغوت. وضرب وقفوا بغاية
جهدهم حيثما وقفوا كالموصوف بقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً). وضرب ترددوا بين الطريقين كما قال : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً) فمن رجح حسناته على سيئاته ، فهو موعود بالإحسان إليه. وعلى
الأنواع الثلاثة دل بقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً ، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وعلى هذا قسم في آخر السورة وقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ...).
وكثير من الناس
يعصون الله ولا يأتمرون له ولكن يستعملهم الله تعالى بغير إرادة للسعي في تصرفه من
حيث لا يشعرون ، كفرعون في أخذ موسى ابنا له وتربيته إياه ، وكجمعه السحرة في
إيمانهم بالله وبموسى ، وكإخوة يوسف في فعلهم بيوسف ما أفضي به إلى ملك مصر وتمكنه
مما مكن فيه ، ويكون مثلهم في ذلك كما قيل :
قصدت مساءتي
فاجتلبت مسرتي
|
|
وقد يحسن الناس
من حيث لا يدري
|
فيكون فعله محمودا
وفاعله مذموما ، كما قيل : رب امرئ أتاك لا يحمد الفعال فيه ويحمد الأفعالا.
قاعدة
في
عالم أمره تعالى.
أول الصوادر عن
ذاته تعالى بذاته يجب أن يكون أشرف الممكنات وأفضل المفطورات وأكرم المربوبات ،
وهي الصور المجردة الإلهية والأنوار المفارقة العقلية دون شيء من الجواهر
الجسمانية وطبائعها وقواها التي هي من عالم الظلمات ومعدن الشياطين والشرور
والآفات ، فإن الواهب الحق والجواد المطلق لا يترك الأشرف ويفعل الأخس ، بل يجب أن
يصدر من فيض جوده الأشرف فالأشرف إلى أن ينتهي إلى الأخس فالأخس ، فما من شيء من
الممكنات سواء كانت شريفا أو خسيسا ، عاليا أو دنيا ، روحانيا أو جسمانيا إلا ويجب
أن يسع إليه رحمته ولا يقصر رداء جوده وكرمه أن يشمله ، إذ لا منع في فاعليته ولا
راد لقضائه ولا قصور في إحسانه ولا دافع لأمره ، لكن يجب في قضية البرهان أن يصدر
عنه الأشياء على حسن الترتيب والنظام وجودة الهيئة والتمام على حسب توسيط وسائط في
جوده ووسائل لكرمه وفيض وجوده ، عبر عنها تارة بالملكوت لقوله : (وَكَذلِكَ ، نُرِي إِبْراهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وتارة باليمين المقدس (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وتارة باليد المبسوطة المنسوبة إليه تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، ، (قالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ ، يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) وتارة بالأعين الإلهية (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) وتارة بمفاتيح الغيب (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وتارة بالخزائن لاختزان الصور العلمية فيها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ) وتارة باسمه تعالى (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ) ، (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ) وتارة بجنود الرب (وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) لأنها مرتفعة الذوات عن أن يحيط به إدراك الجن والإنس
ولذلك قال (وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ) وإليهم الإشارة بقوله : (وَما لا تُبْصِرُونَ).
والعقل الأول أول
ما ينفتح به باب الفيض والإبداع ، ونسبته إلى سائر الجواهر الروحانية نسبة آدم إلى
أولاده. وقال النبي صلىاللهعليهوآله :
«أول ما خلق الله
العقل» وهذا العقل له وجه إلى الحق ، لأنه يجب به وجوده ، ووجه إلى ذاته ، لأنه
هوية صادرة عن الحق الأول مغايرة له ، فلا بد له من أن يتضمن معنى النقص والإمكان
، وإلا لم يكن بين المفيض والمفاض عليه فرق ، فلتضمنه جهة الخير والوجوب يصدر
بواسطته عقل آخر دونه في الرتبة ، ولتضمنه معنى النقص والإمكان ، يصدر منه جوهر
جسماني فيه الإمكان الاستعدادي ، وهو أول الأفلاك وأعلاها ، وهكذا صدر عن كل عقل
بحسب جهتيه جوهر قدسي وجرم سماوي ، الأشرف من الأشرف ، والأخس من الأخس ، حتى
استوفى عدد الكرات إلى فلك القمر ، وعدد العقول إلى عقل أخير. والحق أنها متكثرة
جدا حسب تكثر الأنواع الطبيعية ، حتى يكون لكل كرة سماوية أو كوكبية ولكل نوع من
الطبائع النوعية البسيطة كالنار والهواء والماء والأرض ، والمركبة كأنواع المعادن
والنباتات والحيوانات ، عقل فعال ذو عناية وتدبير وحفظ لأفراد ذلك النوع.
ففي عالم الأرواح
العقلية كثرة وافرة خارجة عن إحصائنا وضبطنا لا يعلم عددها إلا الله كما قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا
هُوَ) وإليها الإشارة بقوله تعالى (وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا) ... (فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً) وقوله (السَّماءَ بَنَيْناها
بِأَيْدٍ ...)
وقوله : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا أَنْعاماً) فللحق الأول أيد عمالة فعالة لا بجوارح جسمانية ، بل ذوات
نورية هي وسائط جوده وجهات فاعليته ، وإفاضته على الأشياء وهي كأنها في طريق
الإيجاد مباد فعالة لهذه الأنواع ، فهي كما أنها مباد لوجود طبائع الأشياء
وحركاتها ، كذلك هي غايات لوجود هذه الطبائع واستكمالاتها ، بها يتم ذواتها ويكمل
وجوداتها ، ولأجلها يفعل آثار حركاتها واستحالاتها ، وبها يتم النظام ويكمل الخلق
، وللتشوق إليها يدور الأفلاك ويتواجد الأملاك ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، وبسبب
ذلك تعمر الدنيا ويدوم الحرث والنسل (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى النظام المحكم والقوام الأتم الأدوم ، ولأجل
وجود هذه المقومات العقلية للأنواع الطبيعية كلها قال : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) وإليها الإشارة بقوله : (وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) وذلك لأن
هذه الطبائع
النوعية هي ظلال وقوالب لتلك الذوات النورية والأرواح المهيمة العقلية ، وهي ظلال
وقوالب للأسماء الإلهية التي هي عند محققي العرفاء بمنزلة أرباب الأرباب لتلك
الأعيان الثابتة النوعية العقلية ، وتلك الأسماء كلها موجودة بوجود واحد إلهي هو
الغيب المطلق وغيب الغيوب ، وما في هذا العالم شهادة مطلقة.
وأما الأسماء
والأعيان العقلية وكذا الصور المثالية ، فكل منها غيب بالنسبة إلى ما تحتها ،
وشهادة بالنسبة إلى ما فوقها. وقد علمت أن أمره تعالى يجب أن يكون موجودا مفارقا
عن الأكوان الخلقية فهو لا محالة متقدم على عالم الأكوان الخلقية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) وهم العارفون بكيفية صنعه تعالى في الإبداع والإيجاد
وإدامته وحفظه للأشياء حسبما يحتمله الأشخاص والأنواع ، فمنها ما يحتمل الدوام
الشخصي ويمكن حفظه بالعدد ، ومنها ما لا يحتمل إلا الدوام النوعي ولا يمكن حفظه
إلا بالنوع لا بالعدد ، يديمه بالنوع ويحفظ نوعه بالصور العقلية التي حقيقته ثابتة
في صقع عالم الربوبية وبتوارد الأمثال التي هي كالأظلال والأشباح. فما من شيء من
الموجودات الكونية إلا وله ظاهر وباطن ، فظاهره قشر ظلماني ، وباطنه لب نوراني على
اختلاف الأشياء في الشرافة والخسة ، فالمنسوب إلى الله من كل شيء لبه ولطيفه
وباطنه النوراني لا قشره وظاهره الكدر الظلماني لأن الظلمة والكدورة منشؤهما العدم
والنقصان ومنبعهما الإمكان (فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.) أي لطائفها وأرواحها ولذلك عقبه بقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).
قاعدة
في
أن جميع الموجودات متوجهة نحو الخير الأقصى والمبدإ
الأعلى
طالبة للحق ، سالكة في طريقه ، مشتاقة إلى لقائه
. قال الله تعالى
: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) ، وهذا سجود
فطري ذاتي عن تجل
وقع من قبل الله لهم ، فأحبوه وانبعثوا إلى الخضوع له تقربا إليه بعبادة ذاتية
وحركة جبلية نحوه من غير تكلف. وقال أيضا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فلزم ذلك وثابر عليه وداوم. وهذا أيضا تسبيح فطري وثناء
ذاتي انبعث عن ذواتهم وبواطنهم التي هي عند ربهم ، فيسري حكم السجود الفطري
والصلاة الحقيقية والتسبيح الذاتي إلى ظواهرهم وأمثالهم وأظلالهم كما في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً
لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ومن لطائف كلامه أنه قال في الآيتين السابقتين (أَلَمْ تَرَ) مخاطبا لنبيه ، وفي هذه الآية (أَوَلَمْ يَرَوْا) بلفظ الجمع المراد به عامة الإنس وكل عاقل ، وذلك لأن
متعلق الرؤية فيهما هو الله من حيث كونه مسجودا ومسبحا له ، وفي هذه متعلق الرؤية
ما خلق الله ، ولا شك في أن تلك الرؤية مرتبة عظيمة مختصة بالنبي صلىاللهعليهوآله شهودا وعيانا ، فهي له صلىاللهعليهوآله عيان كشفي ، ولنا إيمان علمي ، فأشهده الله تعالى سجود كل
شيء وتسبيحه كما أعلمنا بمتابعة دينه وكتابه.
وبالجملة دلت
الآيات أن لهذه الموجودات حتى الجبال والشجر والدواب عبادة ذاتية لله ونسك فطري ،
ثم قال متمما لما سبق : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي ممن يدب عليهما ، يعني أهل السماوات والأرض إشارة إلى
حركتها الذاتية الفطرية حسب ما بيناه بالبرهان. وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) يعني الملائكة التي ليست في سماء ولا أرض لا يستكبرون عن
عبادة ربهم. ثم وصف المأمورين منهم أنهم (يَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) ، ثم قال : (فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون ، لأن مبدأ حركتها وسعيها ليس قوة جسمانية أو
غاية حيوانية شهوية أو غضبية بل تشوقا إلى الله وتقربا عنده وتخلصا من ألم الفراق
ونار الاشتياق كل ذلك يدل على أن العالم كله في مقام الاستقامة على الصراط
والعبودية والخضوع ، إلا كل مخلوق له قوة الفكر وتسلط الوهم وإغواء الشيطان ، وليس
إلا النفوس الإنسانية النطقية من حيث أعيان تلك النفوس ،
وأما أبدانهم
وهياكلهم فهي أيضا كسائر العالم في التسبيح والعبودية الذاتية ، فأعضاء البدن كلها
مسبحة ناطقة ، ألا ترى أنها يشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود
والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر وجميع القوى فالحكم لله العلي الكبير.
ومن الآيات الدالة
على الحركات الذاتية للموجودات نحو الباري جل ذكره قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ،
فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) وقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ... (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ
الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ (وَهِيَ دُخانٌ) ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قوله : (طَوْعاً) وقع حالا عن السماء في إتيانها ، فإن حركات السماء إرادية
نفسانية تقربا إلى الله تعالى ، كما بين في مقامه ، من أن نفوسها يحرك أجرامها
لأجل غايات عقلية ومعشوقات قدسية هي أشعة وأنوار للهوية الإلهية نور الأنوار ،
ولها اتصالات بها واستشراقات بأنوارها ، وكل منها يتصل بمعشوقه العقلي ويتحد به.
وقوله : (كَرْهاً) إشارة إلى حال الأرض في إتيانها ، فإنها لكثافة طبيعتها
وبعد مناسبتها لعالم قدس الحق لا تصير صالحة للتوجه إلى حضرة الأحدية والعبودية
والإنابة إلى الله إلا بعد استحالات وانقلابات بالقسر والجبر من جهة قوى محركة
خارجية كالغاذية والنامية فيصير غذاء للنبات مصورة بصورته ، ثم للحيوان مصورة
بصورته صائرة إياه ، ثم يدخل في باب الإنسانية وهو باب الله الأعظم ، فإذا دخلت في
هذا الباب تطيع الله وتحشر إليه فصارت مطيعة بعد ما كانت متعصية ، وكذلك كل حركة
قسرية فإنها تصير بعد إعداد القاسر طبيعية صادرة عن الطبيعة المقسورة ، ولهذا قال (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فحال السماء في توجهها إلى الله كحال المؤمن الفطري في
عبادته وعبوديته ، وحال الأرض كحال المؤمن الذي كان أولا كافرا ، ثم تاب عن كفره
وآمن وعمل الصالحات. وقوله : (إِنَّا (نَحْنُ)
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) وقوله : (لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) إشارة إلى أن جميع ما في العالم الجسماني سيعود في حركاتها
الذاتية الطبيعية والاستحالات الجوهرية والعرضية إلى عالم الأمر العقلي والمقام
الواحد الجمعي. وإطلاق الدابة على ما في السماء من الكواكب وغيرها وعلى ما في
الأرض من المعادن والنباتات وغيرها لأجل أنها حيوانات سماوية أو أرضية دائمة
الدءوب والسعي إلى الله ، إذ ما من جوهر جسماني ذي طبيعة فلكية أو عنصرية إلا وله
حركة رجوعيه ذاتية إلى الله كما قال (يَوْمَ تَمُورُ
السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) فالسماء والسماوي كالأرض والأرضي في هذه الحركة الذاتية
كما برهن عليه في موضعه.
الطرف الثاني
في أفعاله سبحانه وكيفية صدورها عنه ورجوعها
إليه تعالى وفيه مشاهد :
المشهد الأول
في حدوث هذا العالم وكون وجوده ووجود كل ما فيه
مسبوقا بالعدم الزماني
اعلم أن الحادث
بعد ما لم يكن لا بد له من مرجح لاستحالة حدوث شيء لا عن سبب ، وذلك المرجح لا بد
أن يكون حادثا كله أو شيء من تمامه وإلا لدام الترجيح فدام الأثر ، فلم يكن حادثا
، وقد فرض حادثا ، هذا خلف. ثم نعود الكلام إلى مرجح المرجح فإما أن يتسلسل علل
حادثة مجتمعة لا إلى نهاية ، وهو باطل لما علمت أن الباري جل اسمه مبدأ سلسلة
الممكنات كلها ، وهو أزلي غير حادث ، أو يكون أسبابا متعاقبة كل منها سبب للاحقه ،
وهذا هو المتعين عند جمهور الفلاسفة ، وهذا لا يمكن تصحيحه إلا بأن يكون قبل كل
حادث أمور نحو وجودها الحدوث والتجدد والانقضاء. ولا يكفي في ذلك نفس الحركة
العرضية.
أما أولا ، فلأن
الحركة أمر عقلي لا وجود لها في الخارج ، وما لا وجود له لا يصير سببا من أسباب
وجود الشيء الحادث.
وأما ثانيا ، فلأن
وجود الأعراض بعد وجود الجواهر ، فإذا كان جواهر ، العالم ثابتة في ذاتها ، مستقرة
في أنفسها فمن أين تحدث صفة متجدد بها يتخصص حدوث حادث فإذن لا بد أن يكون من جملة
الجواهر الموجودة جوهر سيال
متجدد في ذاته ،
نحو وجوده الانقضاء والتجدد بحيث لا يتصور له في وجوده ثبات واستمرار ، ولا في
عدمه ثبات واستمرار ، إذ كل ما كان عدمه ثابتا ، فوجوده ممتنع ، وكلما لم يكن عدمه
ثابتا ، فوجوده ليس إلا وجود الانقضاء والتجدد ، وذلك الجوهر لا يمكن أن يكون
جوهرا غير مادي ولا جسماني ، وإلا لم يكن فيه قوة استعدادية ، بل هو جوهر مادي فيه
ضرب من القوة وضرب من الفعل ، وما هو إلا الطبيعة السارية في الأجسام ، فكل حادث
بالذات أو بالعرض يستدعي أن يكون قبله حوادث غير متناهية إلى حد وبعده إيضا حوادث
كذلك لا يتصرم ، وإلا ، عاد الكلام عند انصرامه ، وهذه الحوادث الغير المنقطعة ولا
المتصرمة لا يجوز أن يكون أمورا متفاصلة ، وإلا يلزم تتالي الآنات ، ويعود الكلام
في بداية كل منها ، بل متصلة واحدة بوحدة هي وحدة الكثرة ، وثبات هو عين الزوال ،
واجتماع هو اجتماع المتفرقات ، وما هذا شأنه يجب أن يكون أمرا متجدد الهوية والذات
، وجوده نفس الاتصال التجددي ، وهي الحركة الفلكية عند الفلاسفة ، إذ لا يحتمل من
الحركات الدوام إلا الوضعية المستديرة ، وعندنا هي الطبيعة الجرمية التي يقع فيها
لما أشرنا إليه من أن الحركة نفس مفهوم التغير ، ومعناها إضافي لا وجود له إلا في
الذهن ، فلا يصير سببا للحوادث ، بل المتجدد بالذات وما به التجدد هو أمر متبدل
الهوية في الخارج حادث الوجود بالذات.
فإذن قد ثبت أن
الطبيعة الجوهرية الفلكية حادثة الوجود في كل حين ، وإنما الحدوث نفس وجودها ، وما
كان الحدوث نفس وجوده لا يحتاج في حدوثه إلى علة غير ذات فاعله الجاعل لأصل ماهيته
، لا في صيرورته حادثا ، لأن التدرج في وجوده من صفاته اللازمة لذاته والصفة
الذاتية للشيء لا يفتقر إلى جاعل ، والذاتي لا يعلل.
فإذن قد ثبت أن
العالم الجسماني لاشتماله على الطبيعة الهيولانية حادث بجميع ما فيه وما معه لا
يتصور له قرار في آنين ولا بقاء في زمانين ، ولا ينقطع أيضا إلى مبدإ جسماني ولا
ينتهي كذلك ، بل من الله ابتداؤه وإلى الله انتهاؤه.
ومما يجب أن يعلم
أن الحجة المذكورة لا يلزم منها وجود حوادث
غير متناهية وجوده
، إذ ما لا وجود له بالفعل لا يوصف باللاتناهي كما لا يوصف بالتناهي أيضا ، وفرق
بين قولنا : هذه الحوادث ليس لها ابتداء معين على سبيل الحكم السلبي ، وبين قولنا
: إن الحوادث غير متناهية حكما إيجابيا عدوليا ، إذ الأول لا يستدعي وجود الموضوع
المحكوم عليه ، بخلاف الثاني. فقول من قال : العالم قديم ، والحوادث فيه غير
متناهية ، قول باطل ، إذ ما لا جمعية له من الأعداد لا يوصف باللاتناهي أيضا ، ولا
بالتناهي إلا مبلغ حاضر منه في قوة مدركة جزئية. وفي الكتاب الإلهي آيات كثيرة
دالة على دثور العالم وخرابه واضمحلال وجوده مع بقاء صورها العلمية عند الله
القديم حسب ما رءاه كبراء ـ الحكماء وأساطينهم الأقدمين ما خلا أصحاب أرسطو ومن
لحقهم إلى يومنا هذا ، فإن مسألة حدوث العالم مع إثبات الصانع وتوحيده وتوحيد
صفاته إحدى المسائل الشريفة التي من الله علينا بتحقيقها وفضلنا على كثير من خلقه
تفضيلا ، وهي مما استفدناه من كتاب الله وسنة نبيه ، صلىاللهعليهوآله ، لا من الأفكار البحثية ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ).
أما الآيات فمنها
قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ
مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ، صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فإن إتقانها ببقاء ذاتها في علمه تعالى ، وحفظه إياها
بتوارد الأمثال. وقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فإن لجميع الموجودات الطبيعية حركة جوهرية ذاتية وتحولا من
صورة إلى صورة ، حتى يقع لها الرجوع إلى الله بعد صيرورتها غير نفسها بحسب الصورة
السابقة ، وتحولها إلى نشأة أخرى ، ولو كانت هذه الطبائع ثابتة الجوهرية مستمرة
الهوية لم ينتقل هذه الدار إلى دار الآخرة ، ولم يتبدل الأرض غير الأرض ، ولا
السماوات غير السماوات ، كما دلت عليه الآية ، ولم يرث الله الأرض ومن عليها ، ولم
تصر الأرض مقبوضة يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، كما في قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ومنها قوله : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) دل على أن كل ما في السماوات والأرض يفنى ويزول بنفخ
الإسرافيل
في الصور ، وينطوي
يوم القيامة في يمين الرحمن ، أعني الجنة العالية تحت قهر الكبرياء وسطوة عالم
الجبروت. وإنما عبر عن هذا الفناء بالصعق لا بالموت ونحوه ، تنبيها على أن لها
ضربا من الحياة عند الله لا عند أنفسهم ، كمن صار مغمى عليه ، فإنه زالت عنه
الحياة الحسية وبقي له ضرب من الحياة في مقام أعلى من بدنه وقوة حسه وحركته ،
ولهذا قد يعود ويسري الحياة إلى أعضائه من ذلك المبدإ النفساني.
ومنها قوله تعالى
: (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وقوله : (وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا
تَعْلَمُونَ) وقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً).
والبعث من نشأة
طبيعية إلى نشأة أخروية لا يمكن إلا بانقلاب الجوهر وتبدل الذات ، لأن النشأتين
الأولى والآخرة متخالفتان في النوع متباينتان في نحو الوجود لا في الأوصاف
والأعراض ، وإلا لم يكن كل منها برأسه عالما تاما ، وقد علمت استحالة تعدد العوالم
بالعدد مع اتحادها في النوع ، فإذن جوهر الآخرة نوع آخر من الوجود مباين لجوهر
الدنيا ، فزوال جوهر نشأة الدنيا دليل على حدوثها ، إذ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.
فإذا ثبت أن جميع ـ الموجودات الطبيعية منبعثة إلى نشأة أخرى متوجهة إلى الدار
الآخرة بالسير الحثيث والحركة الذاتية الجوهرية.
فثبت أن الدنيا
دار الانتقال ومنزل الارتحال ومعبر إلى دار القرار ومحل الأبرار. ومنها قوله تعالى
: (إِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) إشارة إلى الانتقال الفطري للجوهر الطبيعي إلى الله ،
ويستوي في هذا التوجه الذاتي والحركة المعنوية المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ،
إذ كلها مأمور بهذا الإتيان والسفر إلى الله والدار الآخرة ، وهذا التوجه الطبيعي
إلى الدار الآخرة لا ينافي الشقاوة والعذاب ، إذ منشأ العذاب أيضا تأكد الوجود
وفعلية الذات وزوال الالتباس ورفع الغشاوة وكشف الغطاء وحدة البصر كما في قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ) فالنفوس الشقية عند كشف الغطاء ينتبهون من نوم
الطبيعة ورقدة
الدنيا فيطلعون على نتائج معاصيهم وجهالاتهم وخسران نفوسهم ، فيتأذون ويتألمون
غاية الأذى والألم ، فيلحقهم الندامة والحسرة ، ويكون حالهم حال من لسعته العقارب
والحيات عند سكرة الشديد والخدر ، فإذا زال عنه السكر وأفاق عن سكره وخدره ، أصبح
متألما متأذيا غاية الألم والأذى ، كما سيأتي توضيحه في مباحث المعاد.
وبالجملة نشأة
الآخرة أشرف من نشأة الدنيا ، مع أن عذاب الآخرة أشد وأقوى ، وأمر وأدهى ، لتأكد
الوجود وشدة الإدراك وقوة الحس وحدة البصر.
ومنها قوله تعالى
: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ...) هذه الأيام ليست من أيام الدنيا التي يتم كل منها في دورة
الشمس بحركة الفلك الأقصى ، بل من أيام الآخرة وأيام الربوبية التي كل يوم منها
مواز لألف سنة من أيام الدنيا المعدودة لقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فهذه الستة الأيام هي ستة آلاف سنة من زمن آدم عليهالسلام مبدأ خلق الكائنات بحسب ما يعده أهل التواريخ ويضبطه
المنجمون إلى بعثة الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله ونزول القرآن ، فالله سبحانه أخبر عن خلق المكونات في هذه
المدة ، وذلك لأن الحادث التدريجي الوجود زمان حدوثه بعينه زمان ثبوته واستمراره ،
إذ لا بقاء له إلا الحدوث ـ التجددي.
فعلم بالبرهان
والقرآن جميعا ، أن هذا العالم الجسماني بكله حادث مسبوق بالعدم الزماني ولا بقاء
للجسم الطبيعي ، لأنه في ذاته لا يخلو عن الحدوث ، وما لا يخلو في ذاته عن الحدوث
فهو حادث الهوية ، تدريجي الذات متغير ـ الكون ، لكن الحقائق النوعية ثابتة الوجود
في علم الله فعلمه تعالى بالأشياء ثابتة غير متغير والمعلومات متكثرة متغيرة ، كما
أن قدرته أزلية والمقدورات حادثة ، كما قال الله : (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).
واعلم أن أيام
الإلهية غير أيام الربوبية لأن اليوم الإلهي هو يوم ذي المعارج مدته توازي خمسين
ألف سنة ، كما قال : (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ
لِلْكافِرينَ
لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ، مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) وقال مشيرا إلى يوم الربوبية (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وذلك لأن وراء هذه النشأة الدنياوية نشأتان أخرويتان :
إحداهما ، صورية حسية وهي المنقسمة إلى جنة محسوسة ونار محسوسة ، والأخرى ، معنوية
وهي عالم الحضرة الإلهية ، مرجع الأرواح العقلية والأعيان الثابتة ، ففي كل ألف
سنة يرتقي الصور الكونية الأرضية على التدريج إلى عالم النفوس السماوية المدبرة
لأجرامها ، ثم في كل سبعة ألف سنة وهو أسبوع واحد من أيام الربوبية ينتقل جميع صور
ما في السماوات وما في الأرض إلى عالم الآخرة ويقوم قيامة وسطى على النفوس بنفخة
الفزع ، ثم في مدة خمسين ألف سنة وهي سبعة أسابيع التي كل منها سبعة آلاف سنة مع
الكبائس والكسورات يقع الفناء الكلي للأرواح بنفخة الصعق وينتقل الأمر كله إلى
الواحد القهار. وبيان ذلك : أن الله خلق الوجود ثلاثة : دنيا وبرزخا وأخرى ، فخلق
الجسم عن الدنيا والنفس عن البرزخ والروح عن الآخرة ، وجعل الوسائط الناقلة
لتنوعات عالم الإنسان ثلاثة ، ملك الموت ونفخة الفزع ونفخة الصعق ، فالموت للأجسام
ونفخة الفزع للنفوس ونفخة الصعق للأرواح ، فإذا أراد الله تعالى نقل الأنفس من
الدار البرزخ حين كمل اليوم البرزخي للآدمي وهو سبعة أيام من أيام الربوبية التي كل
منها منسوب إلى إحدى الكواكب السيارة ، نقلت الأنفس من البرزخ بنفخة الفزع ويعاد
إليها الأجسام الدنيوية ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) وقوله : (كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إشارة إلى أن نفخة الفزع مختصة بنقل الأنفس إلى الأرواح ،
وقوله : (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ) إشارة إلى أن نشأة أخرى تكون بعد صعق الأرواح ، حين يقول
سبحانه : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ ...) فلا يجيبه أحد ويجيب نفسه لنفسه فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).
وهذا الصعق هو
نهاية الأجل المسمى عنده وهو الأجل الروحاني الذي بدؤه قبل الأجسام بألفي عام ،
ونهايته هذا الصعق المشار إليه ، ثم يجيء هذا الصعق بالنفخة الثانية بمزيد اقتضاء
التجلي الأكمل في المظهر الأعظم للأسماء الإلهية الباطنية التي نبه عليها بقوله صلىاللهعليهوآله «فأحمده بمحامد لا
أعرفه الآن». فعن التجلي الأعظم ، ظهر المظهر الأعظم ، ومن المظهر الأعظم ظهرت
الأسماء الباطنة ، وعن ظهور الأسماء الباطنة اتسع العرش ولاتساع العرش تضاعفت
الحملة فصارت ثمانية ، لقوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ (فَوْقَهُمْ) يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) وعن تضاعفها بدلت السماء غير السماء والأرض غير الأرض
لقوله : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) فتوسعت دائرة دار الآخرة ، وعن توسيعها أنشئ الإنسان إنشاء
الآخرة الروحانية ، فكانت الروح هي المشهودة المباشرة للأحكام والمؤثرة للآثار ،
والنفس والجسم من لوازمها وآثارها ، والإمدادات من الله صارت متصلة بهما بواسطة
الروح ، ودخل المؤمن الجنة على الخلق القوي وعلى أحسن تقويم ، فهذا ما جرى على
لسان القلم ، وإن لم يكن مناسبا لطور أهل البحث عصمنا الله عن جحود المنكرين وعناد
المستكبرين والله الهادي إلى سبيل أهل اليقين وبه الاستعاذة من شر الشياطين وجنود
إبليس أجمعين.
حكمة إيمانية وحجة قرآنية
الكتب الإلهية
والآيات الكلامية قائلة بأن العالم بأسره حادث زماني ، لأن الغرض من خلق العالم
ليس نفسه بل هو أشرف منه ، فإن الطبائع الجسمانية وما في حكمها لا يمكن أن يكون هي
الغاية الأقصى في الوجود ، بل البرهان الحكمي ناهض على أن للطبائع غايات أخرى هي
أعلى منها ، وكلما هو أعلى من الطبيعة الكونية لا يكون وجوده في هذا العالم بل في
عالم آخر. فثبت بالبرهان أن هذا العالم بأسره واقع تحت الفساد ويلحقه العدم
والانقراض ، وما يلحقه العدم والانقراض فهو حادث زماني لا محالة ، فالعالم
وكل ما فيه حادث
زماني ، والغرض الأقصى من خلق السماوات وإدارة الأفلاك وتسيير الكواكب وجريان
الأمور على وفق القضاء الإلهي والقدر الرباني بتبليغ الأشياء إلى غاياتها الذاتية
وخيراتها الأصلية ، وإزالة شرورها ونقائصها عنها ، ليكون العالم كله خيرا محضا لا
شر فيه ونورا لا ظلمة فيه وتماما لا نقص فيه (وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ) ، إذ لا شك أن الدنيا طافحة بالشرور والآفات مشحونة بالمحن
والآلام ، والنقائص والأعدام (يَأْبَى اللهُ إِلَّا
أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).
فالغرض من أصل
الإبداع وجود الباري وفيضه أن يصل كل ناقص إلى كماله ، وتبلغ المادة إلى صورتها ،
والصورة إلى معناها ونفسها ، وأن تلحق النفس إلى درجة العقل ومقام الروح ، وهناك
الراحة المطلقة والطمأنينة التامة والسعادة القصوى والخير الأعلى والنور الأتم ،
وهذا هو المقصد الأقصى واللباب الأصفى في بناء الأرض والسماء وجرى سفينة الهيولى
في الطوفان الدنيا ، ولأجله مجيء الأنبياء والرسل من ملكوت السماء بالوحي والأنباء
والكتاب والدعاء ، ليزول الشر وينقرض الظلمة وأهلها ويعود الكائنات إلى ما بدئ منه
، فيصير لاحقا به فيتم الحكمة وتصعد الكلمة وتكمل الخلقة ، وتزول الدنيا وتقوم
القيامة وتجيء الساعة وينمحق الشر وأهله ، وينقرض الكفر وحزبه ، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ
الْباطِلَ). فاحفظ يا حبيبي بهذا العلم المخزون والسر المكنون الذي (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).
فمن الآيات الدالة
على دثور العالم وزواله وانقطاعه قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ
وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...) فانشقاق السماء لخروج روحها ونفسها عن مضيق هذه النشأة
الناقصة استماعا وإجابة لداعي الحق. ليصير متحققة بالوجود الحقاني بعد الموت عن
الوجود الطبيعي والنفساني ، والمعنى ، أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد
انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع ، أنصت له وأدغن ولم
يأب ولم يمتنع ، كقوله تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) ومد الأرض انبساطها وزوال كل اعوجاج وامتتاء وعقد و
تضاريس كالجبال
الرواسي والأشجار وسائر المركبات ، وإلقاء ما فيها من الجثث والموتى والقشور بنزع
صفوها الخالص من عكرها ، فالقشر يرمى واللب يرقى ، وعند ذلك لم يبق منها عين ولا
أثر إذ لحق الخير بالخير ، ورجع الشر إلى البوار. وقوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا
النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ
، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ ...) هذه كلها إشارة إلى تبدل النشأة الطبيعة لجواهر هذا العالم
إلى النشأة الأخروية ، وخروج الأرواح من هذه الأجسام العظام إلى ما عند الله
وقيامها وحشرها إلى مبدئها الأعلى. فتكوير الشمس اندراس طبيعتها ونفاد قوتها
الجسمانية ، لأن تلك القوة متناهية وجودا وتأثيرا ، فلا بد من انقطاعها ، فإذا
انصرمت القوة المحركة للجسم ، بطلت صورته وزالت حياته الحسية وبعثت إلى الدار
الآخرة. وكذا انكدار النجوم دلالة على انطماس طبيعتها بخروج روحها إلى الآخرة عند
انقطاع آجالها الطبيعية ، فإن بطلان اللازم وتبدله ، لازم لبطلان الملزوم وتبدله ،
فانكدار النجوم كناية عن زوال نشأتها ، وتسيير الجبال ، تجديد صورتها بالحركة
الجوهرية وتبدلها في كل آن ، وتسجير البحار ، إحالتها إلى النار الأخروية ، وتزويج
النفوس أنما يكون بالعقول إذا كانت من الكاملين المقربين عند استكمالها وخروجها من
القوة الروحانية إلى الفعل ، أو بصور حور العين إن كانت من أصحاب اليمين.
وأما النفوس
الشقية ، فتزويجها يكون بالشياطين ، أو بالأبدان الحيوانية المناسبة لأخلاقهم
وملكاتهم البهيمية والسبعية كما في قوله : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا) وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وقوله : (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) وقوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) وقوله : (إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) كلمة إذا ، يراد بها وقت قيام القيامة. وحينئذ يكون
الأجسام الطبيعية مدروسة ، وصورتها مطموسة ، وبواطنها مكشوفة ، وأرواحها قائمة ،
كما أن اليوم بعكس ذلك فإن الأجسام هاهنا مشهودة بارزة والأرواح كامنة مستورة ،
والأجسام محسوسة
بالفعل والأرواح موجودة بالقوة.
وبالجملة هذه
الدار دار الحرث والزراعة والسعي ، والآخرة دار حصد الثمار والوصول إلى نتائج
الأعمال والأفكار وتولد مواليد الأرواح عن بطون أمهات الأشباح. قوله : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا
السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ،
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ).
تنبيه
قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) كل ذلك إشارة إلى فناء الدنيا وانقطاع نشأتها وبروز
مكامنها وخروج هويات ما فيها إلى النشأة الآخرة.
قاعدة
خلق العالم الكبير وبعثه كخلق العالم الصغير وبعثه (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) ولكل منها جسم وروح ، فالخلق للجسم والبعث للروح ، فكما أن
أعضاء البدن وأجزاء الشخص متبدلة مستحيلة كائنة فاسدة وروحه باقية ، إلا أنها في
أوائل النشأة ضعيفة الوجود بالقوة شبيهة بالعدم ، ثم يخرج في أيام الحياة البدنية
من القوة إلى الفعل ويشتد وجود الروح ويستكمل ويقوى على التدريج ويخرج من القوة إلى
الفعل ويضعف البدن ويهرم ويكل القوى والآلات شيئا فشيئا ، لأن كلها جسمانية شأنها
الاستحالة والسيلان والدثور ، وهكذا إلى أن يفني البدن ويموت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ويبقى الروح راجعة إلى ربها (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وإنما وصفها بالاطمئنان وهو السكون العقلي لأن النفس قبل
صيرورتها عقلا بالفعل شأنها التغيير والانقلاب ، فإذا صارت مطمئنة عقلية رجعت إلى
بارئها (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، فكذلك جملة العالم ، فإن السماوات والأرض وما بينهما ،
أبدا في الانتقال والتبدل من حال إلى حال ومن نقص إلى كمال ،
وخروج ما فيها من
النفوس والأرواح من القوة إلى الفعل على التدريج في مدة عمر طبيعي للعالم ، ودورة
كاملة لأجرامها الدوارة في مدة خمسين ألف سنة ، فيرجع في تلك المدة جميع تلك النسب
والأوضاع إلى ما كانت أولا ، لقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ) ، وقوله تعالى : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) فإذا انقضت المدة وتمت العدة ، برزت إلى عالم الآخرة حقيقة
الدنيا ، وخرجت من القوة إلى الفعل جميع ما هو مكنون في قبور الأجسام ومخزون في
صدور النفوس وخزائن الأرواح (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) وكما أن الشخص الآدمي إذا عرض له الموت وخرجت روحه من
البدن قامت قيامته ، لقوله صلىاللهعليهوآله : «من مات فقد قامت قيامته» وعند ذلك انفطرت سماؤه التي هي
أم دماغه ، وانتثرت كواكبه التي هي قواه المدركة ، وانكدرت نجومه التي هي حواسه ،
وكورت شمسه التي هي قلبه ومنبع أنوار قواه وحرارته الغريزية وتزلزلت أرضه التي هي
بدنه ، ودكت جباله التي هي عظامه ، وحشرت وحوشه التي هي قواه المحركة سيما الغضبية
، فكذا قياس موت الإنسان الكبير أعني جملة العالم الجسماني الذي هو عند الحكماء
حيوان مطيع لله تعالى متحرك بالإرادة والجبلة ، وله بدن واحد هو جرم الكل وطبع
واحد سار في الجميع وهو طبيعة الكل ، ونفس واحدة كلية مشتملة على جميع النفوس ،
وروح كلي مشتمل على جميع العقول وهو العرش المعنوي يستوي عليه الرحمن فبدن العالم
وطبيعته هالكتان داثرتان ، وأما نفسه وروحه الكليتان. فهما محشورتان إلى الدار
الآخرة راجعتان إلى الله قائمتان عنده.
المشهد الثاني
في تحقيق الانقراض
والنهاية وإثبات الغاية كالبداية للدنيا وما فيها ، وبروز الكل إلى الله وخروجها
من مكامن هوياتها عند انكشاف أستارها ، وارتفاع حجبها وبقاء ما عند الله في علم
الله من الحقائق المتأصلة والأسماء الإلهية والأضواء القيومية.
يجب عليك أن تعلم
أولا ، أن كل هوية عينية سواء كانت واجبة أو ممكنة ، لا بد لها من لوازم عقلية
تابعة لذاته من غير جعل وتأثير ، وأقلها الشيئية والمعلومية والموجودية والإمكان
العام وغير ذلك ، سيما الهوية الإلهية التي هي أصل الهويات ومنبع الإنيات
والماهيات ، فإذا الذات الإلهية لها أشعة وأنوار عقلية ولوازم وآثار ، كيف والوجود
كله من شروق نوره وآيات ظهوره ، وتلك الأشعة والأنوار سماها جمهور الفلاسفة
بالعقول الفعالة ، والمشاءون أتباع أرسطو سموها بالصور العلمية ، وأفلاطونيون
بالمثل النورية ، والصوفية بالأسماء الإلهية ، وجمهور المتكلمين ذهبوا بالصفات الزائدة
، والمعتزلة قالوا بالأحوال كما قالوا بثبوت المعدومات الخارجية ، وتلك الأشعة
الإلهية كيف يفارق أصلها ومنبعها ، أو يكون أشياء مباينة الوجود مستقلة الذوات ،
وإلا لم تكن أشعة فهي ليست من جملة العالم ومما سوى الله ، وإنما هي الدرجات
الإلهية والحجب النورية والسرادقات القدسية ، باقية ببقاء الله لا بإبقائه ،
موجودة بوجود الله لا بوجود أنفسهم ولا بإيجاده ، إذ لا جعل ولا تأثير بين الذات
والشئون الإلهية.
فمن الآيات الدالة
على فناء الكل ورجوعها إلى الواحد القيوم بحركتها المعنوية وتولى وجهها إلى وجه
الحق قوله : (مَتاعَ الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) وقوله : (هُنالِكَ تَبْلُوا
كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وقوله : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وقوله (لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وذلك لأن نسبة القيامة الكبرى وهي فناء جميع الخلائق
وقيامها عند الله ، إلى القيامة الصغرى وهو موت كل أحد كنسبة الولادة الكبرى أعني
خروج الأرواح عن بطن الدنيا إلى الولادة الصغرى وهي خروج الجنين عن بطن أمه. فكما
أن لكل نفس أجل مسمى ولادة وموتا ، كذلك لكل أمة وطائفة بل لجميع الخلائق ميعاد
وأجل معلوم عند الله. وإنما قلنا : معلوم عند الله ، لأن فهم الناس لا يبلغ إلى
درك هذا الأجل والموعد إلا العرفاء الشامخون والأولياء الكاملون عند تجردهم عن
الدنيا ، ولو أمكن تعليم ذلك لهم لما وقع في الجواب عند سؤالهم عن وقت قيام الساعة
(قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) والذي يبلغ فهمهم دركه هو ساعة موت الإنسان الصغير لا ساعة
موت الإنسان الكبير يعني القيامة الكبرى. وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) وهذه الوراثة والرجوع أنما يتحققان إذا صارت الأرض غير
الأرض بأن تصير أرضا حية بيضاء منيرة مشرقة عقلية ، كما في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ) وقوله : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) وإلا فما دامت كثيفة مظلمة ميتة فهي بعيدة المناسبة عن
الحضرة الإلهية. وقوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي مجردا عن الأجسام وعوارضها المادية وأوضاعها الحسية ،
بل عن إنياتهم وهوياتهم المغايرة للحق لاستغراقهم في بحر الطبيعة وانغمارهم في
الدنيا. وذلك التجرد أنما يحصل بالفناء عن هذه النشأة الطبيعية والحشر إلى الله
والبعث في القيامة. وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى
فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) وقوله : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ
كَما
بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا ، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ).
قد مر سابقا أن
هذه الأجسام الطبيعية منشورة في الدنيا مطوية في الآخرة ، والأرواح بعكس ذلك ،
ولهذا الكلام معنيان.
أحدهما ، بحسب
المقايسة والنسبة ، يعني أن هذه الأجسام وإن كانت بالفعل هاهنا ، لكنها لقصور
وجودها وحقارتها بالقياس إلى موجودات عالم الآخرة مقهورة مدروسة ، وكذا الأرواح
وإن كانت موجودة بالفعل هناك فهي بالقياس إلى مشاعر هذه الأدنى ، لقصورها
واحتجابها يغيب عنها تلك الموجودات الجلية الباهرة.
وثانيهما ، أن هذه
الأجسام تستحيل وتتقلب في حركاتها الذاتية واستحالاتها الجوهرية إلى أن تصير
منطوية في صورة عقلية صائرا كل منها روحا محضا كما في الابتداء كانت أرواحا نازلة
إلى منازل الأجسام ، فافهم. وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ...) ففيه استدلال على وقوع النشأة الآخرة بتطورات الإنسان في
أطوارها الوجودية على نحو التوجه إلى الكمال شيئا فشيئا ، فلا بد لهذه الحركة
الرجوعية في القوس العروجي من غاية أخيرة يقف لديها ويقوم عندها ، وتلك الغاية لا
يمكن أن يكون من الأكوان الخلقية الطبيعية ، وإلا لاحتاجت إلى غاية أخرى فيتسلسل
أو يدور وهما محالان ، فهي أمر أخرى وكون تام خارج عن سلسلة ذوي الغايات من
الأكوان الناقصة. قوله : (وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).
واعلم أن هذه
الحجج القرآنية كما يجري في إثبات النشأة الآخرة للإنسان كذلك يجري في إثباتها
لجملة العالم وهو الإنسان الكبير ، لأن العلة مشتركة وهو لزوم الحكمة وترتب الغاية
وبطلان العبث والجزاف ، فإن هذه الحسبان المذكور في قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً) منشؤه غطاء على البصيرة يورث الجهل بأن لكل خلق فائدة
وحكمة ، ولكل طبيعة كونية غاية ذاتية ، وأن لكل أجل كتابا ، ولو لم يكن للطبائع
الكونية غايات
حقيقية ينتهي
إليها وتسكن ، لكان معوقا عن خيراتها ، ممنوعا عن كمالاتها ، فيكون وجودها عبثا
معطلا ، ولا عبث ولا معطل في الوجود كما برهن عليه ، إذ لم يخلق هذه الخلائق
مجازفة ، بل عن علم وتدبير لفاعل مدبر عليم وصانع حكيم ، ومنع الكمال عن مستحقه
قصور في الوجود ونقص في الإعطاء للوجود ، وهو ينافي الرحمة الواسعة والجود الأعم
الأتم. فعلم أن لكل نقص كمالا ولكل قوة فعلا ، وهكذا إلى أن يزول النقائص ، ويصل
كل مخلوق إلى أقصى كماله الذي ليس له زوال ولا انقطاع ، ويستقر عند ذلك صافيا لبه
عن كل دنس وقشر. والعالم الذي فيه لباب الأشياء من غير كدر ، عالم آخر غير هذا
العالم ، إليه رجعى الطاهرات الزاكيات من نفوسنا ، وفيه مأوى القادسات الطيبات من
عقولنا ، وقوله في النور : (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) وقوله في النمل (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
شاءَ اللهُ) وهم الذين سبقت لهم هذه القيامة (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقد سبقت الإشارة إلى أن القيامة قيامتان : قيامة على
النفوس بنفخة الفزع ، وبها يقع النقل من الصور إلى عالم العقول ، وقيامة على
العقول بنفخة الصعق ، وبها يقع الفناء التام وينتقل الأمر إلى الواحد القهار. وفي
العنكبوت (أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ) أي بعد انخلاعه عن كسوة هذا الكون الطبيعي وتحققه بالوجود
الأخروي الباقي بإبقاء الله ، ثم عن لباس الإنانية الأخروية وتحققه بالوجود
الحقاني الباقي ببقاء الله ، وقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) موت البدن الذي هو مقام وجودها الطبيعي (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بعد فنائها عن الوجودين الطبيعي والنفساني ، وانسلاخها عن
الكونين الدنيا والآخرة عند قيامها بوجود الحق. وقوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ).
فإن من اكتحل عين
بصيرته بنور العرفان ، وتنور بيت قلبه بسواطع
آيات القرآن ، يجد
أعيان العالم وصور الكائنات متبدلة وتعيناتها متزايلة مترادفة خلقا بعد خلق ،
سيالة طورا بعد طور إلى طريق الآخرة ، ولهذا سمى الله تعالى هذا الكون الدنياوي
لهوا ولعبا ، لأن أكوانها متبدلة كالحركة ، والمتحرك بما هو متحرك شأنه التأدي إلى
أمر آخر ، فإذا نظر إليه مع قطع النظر عما يئول إليه كان لهوا وعبثا باطلا. وأما
الدار الآخرة فلكون وجودها ووجود ما فيها وجودا علميا وصورة إدراكية بالفعل ، وكل
صورة إدراكية بالفعل وجودها عين الحياة ، فلا محالة كلما في الآخرة حيوان محض ،
حياته عين ذاته ، ليست كأبدان هذا العالم التي حياتها عارضة لها واردة عليها من
خارج ، فهي لا محالة ميتة في ذاتها تقبل صفة الحياة من الأرواح النفسانية المتعلقة
بها.
وأما أجساد الآخرة
وأشكالها فهي بعينها النفوس المتصورة بتلك الصور بحسب ملكاتها وأخلاقها المكتسبة ،
فالجسد والنفس هناك شيء واحد كما يتضح لك في عالم المعاد وحشر الأجساد إن شاء
الله. وقوله في الروم : (ما خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي بما عند الله من حقائقها العلمية وصورها العقلية ، كما
أثبتها الأقدمون من الحكماء كأفلاطون ومن قبله ، وأجل مسمى أي بحسب وجودها الطبيعي
الكوني ، لما علمت مرارا أن هذا الوجود زماني متدرج في الكون ، والتدرج في الكون
لغاية طبيعية لا محالة ، فينقطع بالضرورة لدى الغاية ، وتلك الغاية إن كانت من
الأكوان الخلقية فيعود الكلام إلى غايتها أيضا ، فأما أن يكون لكل غاية غاية ذاتية
إلى ما لا نهاية ، ففي ذلك إبطال للغاية إذا كان الكل أوساطا وإثبات للعبث والجزاف
في خلق هذا العالم ، أو ينتهي إلى غاية خارجة عن هذه الأكوان الخلقية ، وهو
المطلوب.
فغاية الأكوان
الخلقية أكوان عقلية ينتهي الأمر إليه وقوله : (اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوجدهم في عالم الخلق والتقدير والمساحة. وإنما أتى
بصيغة المضارع ، لما علمت أن وجود كل خلق مسبوق بعدم زماني ثم يعيدهم إلى عالم
الآخرة ثم إليه ترجعون بفناء
الكل والصعقة
الكلية. قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) لأن قوامها بمباديها العقلية وصورها القضائية الإلهية كما
ذهب إليه أفلاطون ومن قبله ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض بانقطاع الآجال وانقضاء
الأحوال ونفاد القوى الجسمانية ، إذ أنتم تخرجون من المحابس الكونية والمقابر
الطبيعية إلى فضاء الآخرة وأرض المحشر. وقوله تأكيدا لما سبق وتقريرا : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ) في سلسلة البدو والرجوع ، (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) لأن الرجوع إلى الفطرة الأصلية أنسب من الخروج عنها. وقوله
في لقمان : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) كما في سورة الملائكة تأكيدا وتقريرا (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ،
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي مقدر معلوم عند الله ، ولغاية محدودة. والنكتة في أن
قال في لقمان (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وفي الملائكة (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ، أن الغاية كما حقق في مباحث العلة والمعلول لها اعتباران
: اعتبار أنها ما ينتهي إليه الفعل ، واعتبار أنها ما لأجله الفعل ، فبالاعتبار
الأول يقع التعدي بإلى ، وبالاعتبار الثاني يقع باللام ، وذلك لأن القوى العمالة
في تلك الأجرام العالية قوى جسمانية متناهية الوجود والتأثير ، فلا بد من وقوفها
واندراسها وانتهائها إلى غاية عقلية يتصل بها وينقلب إليها.
وبيان ذلك بوجه
آخر عقلي ، أن محرك الأفلاك ومجرى الكواكب فاعل حكيم وقادر عليم هو أرفع من
الطبيعة ، مختار في صنعه وقدرته ، وكل فاعل كذلك لا بد أن يكون لفعله غرض عقلي
وفائدة حكمية تترتب عليه والغرض إن لم يحصل وقتا من الأوقات ولم يكن مما ينتهي
إليه الفعل فلم يكن غرضا صحيحا ، ومحرك هذه الأجرام العالية يمتنع أن يكون تحريكه
إياها عبثا وجزافا ، كما قال : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) فإذن لا بد أن يكون خلق الأفلاك وتحريكها إلى غرض واجب
البلوغ إليه ، وإذا بلغ الفاعل بفعله غرضه فسبيله لا محالة أن يمسك عن فعله ، فمحرك
الأفلاك ومجرى الكواكب سبيله أن يمسك عن تحريكها وإدارتها ويقطع الفعل والعمل ،
فإذا أمسك عن فعله وعمله وقفت الأفلاك عن الدوران و
الكواكب عن
الجريان ، وقد علمت أن الحركة ذاتية لهذه الطبائع الكونية ، فإذا سكنت بطلت وبطل
ترتيب الزمان ، ووقف الكون والفساد ، وانقطع الحرث والنسل ، وانتقل الأمر إلى
النشأة الآخرة ، كما مر من قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) في الحركة الرجوعية للموجودات المتعلقة بالمواد في يوم من
أيام الربوبية (مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ) و (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) وأما يوم عروج الكل ورجوعهم إلى الله في القيامة الكبرى
وهو (يَوْمَ الْجَمْعِ) ويوم ذي المعارج ، فمقداره كما قال الله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وقوله في الزمر : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) أي صور الأشياء في عالم القضاء الحتمي (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). وقد مر بيانه.
وفي الحديث عن
النبي ، صلىاللهعليهوآله : «إنه يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد ، ويموت أهل السماء
حتى لا يبقى أحد إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل ...» قال : «فيجيء
ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عزوجل ويقال له : من بقي ، وهو أعلم بذلك ، فيقول لم يبق إلا ملك
الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل ، فيقال : فليموتا جبرئيل وميكائيل ، فيقول
الملائكة : وهما رسولاك وأميناك ، فيقول : إني قضيت على كل نفس فيها الروح الموت ،
ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزوجل ، فيقال له من بقي وهو أعلم بذلك ، فيقول لم يبق إلا ملك
الموت وحملة العرش ، فيقول ، قل لحملة العرش فليموتوا ، قال : ثم يجيء ملك الموت
كئيبا حزينا لا يرفع طرفه ، فيقال : من بقي فيقول لم يبق إلا ملك الموت ، فيقال له
: مت يا ملك الموت ، ثم يأخذ الأرض بيمينه والسماوات بيمينه ، ويقول أين الذين
كانوا يدعون معي شريكا ، أين الذين كانوا يجعلون معي إلها ، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا
هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ...» لتحققهم بالوجود الأخروي الباقي بدلا عن الوجود
الدنيوي الداثر وبالوجود التام الحقاني بدلا عن الوجود الناقص الإمكاني. قوله في
حمعسق : (اللهُ يَجْمَعُ
بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وفي الزخرف (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) وفي ق : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنادِ الْمُنادِ
مِنْ
مَكانٍ قَرِيبٍ ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ). وذلك اليوم ليس من أيام الدنيا ، بل من أيام الآخرة. وكذا
في قوله : (يَوْمَ تَمُورُ
السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً). وكذا قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ... (لا رَيْبَ فِيهِ) لأن يوم الدنيا يوم التفرقة في الوجود ، ويوم الشك. وكذا
قوله : (فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) لأن وقوع الأشياء فيه على الحق واليقين. وقوله : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) لأن وجود الأشياء الطبيعية من حيث صورها المادية الوضعية
مضمحلة مدروسة هناك كاضمحلال الظل عند النور وذوبان الثلج والجمد عند الحرور.
فهذه الآيات
وأمثالها من الآيات الكثيرة التي تركنا ذكرها مخافة التطويل ، مشيرة إلى رجوع هذه
الأشياء كلها إلى عالم الآخرة ، ورجوع أهل الآخرة كلهم إلى الحق الأول تعالى. وإلى
زوال هذا العالم بكله ودثور ما فيها من الصور الحسيه وفنائها يوم القيامة ومحو
آثارها وتبدل وجودها يوم بروز مكامنها وظهور حقائقها وكشف بواطنها ونشر صحائف
نفوسها وكتب أعمالها على رءوس الجمع ، وذلك بعد خروجها من مقابرها ، وهي مقابر
أكوانها التدريجية ومدة حركاتها الاستكمالية في دار الدنيا التي هي مقبرة ما في
علم الله الكائن في صقع الربوبية قبل الورود في مقابر الدنيا وبعد الخروج عنها عند
انقضاء مدة مكثها الدنيوي.
تنبيه
إن لكل من الروح
والجسد والقلب والقالب قبرا حقيقيا. أما قبور القوالب والأجساد فهي مقادير أكوانها
التدريجية ، وأما قبور القلوب والأرواح فإلى مأوى النفوس ومرجع الأرواح البشرية ،
وهي سدرة المنتهى قبل ظهور القيامة الكبرى فالله سبحانه أبدع بقدرته الكاملة دائرة
العرش وجعلها مأوى القلوب والأرواح ، وأنشأ بحكمته البالغة نقطة الفرش وجعلها مسكن
القوالب والأجساد ، ثم أمر بمقتضى قضائه الأزلي للأرواح والقلوب
العرشية إن تعلقت
بالقوالب والأبدان الفرشية شطرا من الأزمنة والأوقات ، فإذا بلغ أجل الله الذي هو
آت ، وقرب الممات للملاقاة والحياة ، رجعت الأرواح إلى رب الأرواح قائلين : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) وعادت الأشباح إلى التراب الرميم : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ).
وأما الأرواح
الكدرة الظلمانية المنكوسة ، والنفوس الشقية التي «كفرت (بِأَنْعُمِ اللهِ) فهي أيضا قصدت من حضيض الفرش إلى ذرى العرش ، لكن مع
أثقالها وأوزارها بأجنحة مقصوصة وقلوب مقبوضة وأيدي مغلولة بحبائل التعلقات وأرجل
مقيدة بقيود الشهوات ، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ
قَرارٍ) فصاروا منكوسين معلقين بين العرش والفرش ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
تنبيه آخر
في موت الإنسان الكبير أعني العالم.
اعلم أن العالم
مشتمل على الخلق والأمر ، والخلق كله هو قالب العالم والأمر كله هو روح العالم ثم
قوام الخلق بالأمر كما أن قوام القالب بالقلب فالتعانق بين الأمر والخلق هو حياة
الإنسان الكبير والعالم ، كما أن التعانق بين الروح والجسد هو حياة الإنسان الصغير
وكذا التفارق بينهما هو موت العالم الكبير والقيامة الكبرى ، كما أن الافتراق بين
الروح والجسد هو موت هذا الإنسان والعالم الصغير والقيامة الصغرى ، والله خالق
الموت والحياة ، كما أنه جاعل الظلمات والنور (خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فإذا وقعت الواقعة وقامت القيامة ، رجع الأمر إلى الأمر
إليه ، يرجع الأمر كله إليه (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) ويعود الخلق إلى الخلق (مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ).
قاعدة
في
الخلق والأمر
قال الله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا
تَسْتَعْجِلُوهُ) ، (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
اعلم أن الله خلق
عوالم كثيرة ، كما ورد في الخبر بروايات متعددة وفي بعضها أنه خلق ثلثمائة وستين
عالما.
قال الشيخ محيي
الدين الأعرابي في الباب الثامن من الفتوحات المكية : «إن في كل نفس خلق الله فيها
عوالم (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ... ،)
وخلق الله من جملة
عوالمها عالما على صورتنا إذا أبصرها العارف يشاهد نفسه فيها ، وقد أشار إلى ذلك
ابن عباس فيما روي عنه في حديث : هذه الكعبة وإنها بيت واحد من أربعة عشر بيتا ،
وإن في كل أرض من الأرضين السبع خلقا مثلنا ، حتى أن فيهم ابن عباس مثلي» والعوالم
وإن كانت متعددة ، إلا أن الجميع مترتبة منتظمة في سلك واحد متفاوتة باللطافة
والكثافة والظهور والبطون ، لما مر من استحالة وجود عالمين متباينين غير منتظم
أحدهما بالآخر كما بين في مقامه ، والعوالم مع كثرتها منحصرة في قسمين عالم الأمر
وعالم الخلق ، فعبر عن عالم الدنيا وهو ما يدرك بهذه الحواس الظاهرة الخمس بالخلق
، لقبوله المساحة والتقدير ، وعبر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمسة
الباطنة وهي النفس والقلب والعقل والروح والسر بالأمر ، لأنه وجد بأمر كن دفعة بلا
واسطة شيء آخر ، إذ وجوده غير متعلق بالحركات والاستعدادات ، فيوجد بمجرد الجهات
الفاعلية لا بالجهات القابلية الانفعالية ، فكل ما يقع في تصور الفاعل أو يخطر
بباله يوجد دفعة من غير استعمال آلة أو تهيؤ قابل ، فعالم الأمر هو الأوليات
العظائم التي أوجدها الله تعالى للبقاء ، كالعقل والروح والقلم واللوح والعرش
والجنة ، وآخرها الكرسي ، ولهذا قيل : فرش الجنة الكرسى وسقفها عرش الرحمن.
وأما دار الجحيم
فهي بوجه من الآخرة : وبوجه آخر من الدنيا ، فإنها من حيث تجدد ما فيها وتوارد
الآلام والمحن على أهلها وذوبان جلودهم وتبديلها وتعاقب الكون والفساد عليها من
الدنيا ، ومن حيث خلودها ودوام العذاب فيها لأهلها هي من الآخرة.
وبالجملة فكل ما
كونها الأمر القديم كان باقيا ببقاء الله ، وما كونه بالوسائط كان حادثا ناشئا في
عالم الخلق وسمي عالم الخلق خلقا لأنه أوجده الله تعالى بالوسائط من شيء كما في
قوله (وَما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ) فكلما كان مخلوقا بالوسائط كان قابلا للفناء وإنما خلقه
للفناء لكونه وسيلة إلى غيره. والروح الإنساني وإن كان مكونا مع الخلق ولكنه ليس
مكونا بالخلق ولا مخلوقا من شيء فإن النفس حادثة مع البدن لا بالبدن بل بأمر الله
وتكوينه.
وقد بينا في بعض
كتبنا المبسوطة تحقيق حدوث النفس الإنسانية المجردة بما لا مزيد عليه ، من أن
حدوثها بما هي جوهر مفارق ليس مسبوقا بالمادة ، وإلا لم يكن بقاؤها بعد المادة ،
بل البدن شرط تعلقها وتدبيرها وتصرفها ، ولهذا يزول التعلق والتدبير والتصرف بزوال
البدن. ومن هنا يتبين أن قوله تعالى (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) إنما هو لتعريف الروح ، عني به أنه جوهر بسيط من عالم
الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء ولهذا عبر عنها بالكلمة في قوله (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وأنه ليس للاستبهام كما ظنه جماعة ، من أن الله أبهم علم
الروح على الخلق واستأثره لنفسه ، حتى قالوا لفرط جهلهم بمنصب النبوة : إن النبي صلىاللهعليهوآله لم يكن عالما به ، جل منصب حبيب الله أن يكون جاهلا بالروح
، مع أنه عالم بالله ، وقد من الله عليه لقوله (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).
وأما سكوته عن
جواب السؤال عن الروح وتوقفه انتظارا للوحي حين سألته اليهود ، فقد كان لغموضه ،
فرأى في معنى الجواب دقة لا يفهمها اليهود ، لبلادة طبائعهم ، وقساوة قلوبهم وفساد
عقائدهم ، فإن المدرك لا يدرك شيئا ليس من جنسه ، فالحس لا يدرك غير المحسوسات ،
والخيال
لا يدرك ما وراء
المتخيلات ، والوهم لا يدرك المعقولات ، فمن لا عقل له لا يدرك المعقولات الصرفة ،
قال تعالى : (وَما يَعْقِلُها
إِلَّا الْعالِمُونَ) وهم أرباب العقول الكاملة والسائرون إلى الله فإنهم لما
عبروا بالسلوك عن النفس وصفاتها والقلب وصفاته ووصلوا إلى مقام السر وعرفوا بعلم
السر معنى القلب والنفس والحس كما عرفوا بنور الحس سائر المحسوسات وبنور الخيال
المتخيلات وبنور الوهم الموهومات ، وإذا عبروا عن السر ووصلوا إلى عالم الأرواح
عرفوا بنور الروح السر ، وإذا عبروا عن عالم الروح ووصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة ،
عرفوا بأنوار مشاهدات صفات الجمال عالم الأرواح وما دونها ، وإذا فنوا بسطوات
الجلال عن إنانية وجودهم ووصلوا إلى لجة بحر الحقيقة ، كوشفوا بهوية الحق تعالى ،
وإذا استغرقوا في بحر الهوية الأحدية وبقوا ببقاء الألوهية عرفوا الله بالله ،
ووحدوه وقدسوه وعرفوا به كل شيء.
وهذا هو مسئول
دعاء النبي صلىاللهعليهوآله ، قال : «رب أرنا الأشياء كما هي» وكان قبل هذا وقت (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فحينئذ وقت (أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وهذا مقام «كنت له سمعا وبصرا ويدا ، وبي يسمع وبي يبصر
وبي ينطق وبي يبطش» ففي هذه الحالة كيف يبقى لمعرفة الروح حظر عند من له هذه
المقامات العلية.
واعلم أن الروح
شيء واحد في ذاته وحقيقته ، وتعدده بحسب تعدد النفوس المتصلة به ، وكذا عالم الأمر
موجود واحد بالذات متكثر بحسب جهات الإفاضات والإيجادات (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) وهكذا الكلام ، وغير ذلك من الأمور الإلهية ، فإن من وراء
عالم الخلق وعالم الدنيا وما فيها وما معها وهو عالم النور ، كله مراتب الإلهية ،
كأنها طبقات بسيطة متفاوتة في شدة النورية وضعفها ، وكل طبقة منها منطوية مقهورة
تحت طبقة أعلى منها ، وهكذا إلى نور الأنوار ، فالكل منطوية مطموسة تحت سلطان نوره
، وسطوة كبريائه (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ).
وعالم الخلق
طبقاته ظلمات بعضها فوق بعض ، وكلما هو أبعد من
عالم النور فهو
أظلم وأوحش ، وهكذا إلى أسفل السافلين ومهوى الشياطين والكفرة والمطرودين (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً
فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) والله خالق الظلمات والنور وجاعل الليل والنهار «وهو (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) والناس في أول الخلقة قابل للسلوك إلى الجانبين والسير إلى
السبيلين ، إما إلى عالم النور والحياة ، وإما إلى عالم الموت والظلمة (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
قاعدة
في
كيفية البدو والإعادة والإشارة إلى سلسلتي الهبوط والصعود
قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ) يشير إلى أنه تعالى كما بدأ الخلق بإخراجهم عن مكمن
الإمكان إلى عالم الأرواح ثم أهبطهم من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح عابرين على
الملكوت الأعلى والأسفل من النفوس السماوية والأرضية ، مارين على الأفلاك والأنجم
والأثير والهواء والماء والأرض ، إلى أن يبلغوا إلى أسفل السافلين والهاوية
المظلمة أعني الهيولى والبحر المظلم والقرية الظالم أهلها ، وهي نهاية تدبير الأمر
على ما قال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ثم يقع الإعادة في باب الإنسانية بجذبات العناية إلى
الحضرة الإلهية من حيث وقع النزول مارا على المنازل والمقامات التي كانت على ممره
بقطع التعلق عنها وترك الانتفاع بها ، فإنه حالة العبور على هذه المنازل استعار
خواصها لاستكمال الوجود الإنساني مادة وصورة وروحا وجسما ، فصار محجوبا عن الحضرة
مشتغلا بالكثرة عن الوحدة ، كما في قوله : (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يعني الأبدان المظلمة لكونها مقابر للأرواح ، فإذا جاء وقت
الرجوع بجذبة ارجعي إلى ربك يرد ما استعار من كل منزل ، فإن العارية مردودة إلى أن
يبقى بلا إنانية
عارضة ويصفى وجه
المرآة عن كل صورة فيتصرف فيه جذبة العناية ويتجلى في مرآته وجه الحق الباقي ،
وكان العالم كله كدائرة انعطف آخرها إلى أولها ، إحدى قوسيه نزولية والأخرى صعودية
، ولها نقطتان إحداهما نهاية أولاهما وبداية أخراهما وهي الهيولى ، والثانية
بالعكس وهو الإنسان الكامل ، روح العالم ، مظهر اسم الله وخليفة الرحمن ، كما قيل
:
ليس على الله
بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في واحد
|
قاعدة
في
تحقيق الخلافة الإلهية
اعلم أنه لما
اقتضى حكم الإلهية الجامعة لجميع الكمالات المشتملة على الأسماء الحسنى والصفات
العليا بسط مملكة الإيجاد والرحمة ونشر لواء القدرة والحكمة ، بإظهار الممكنات
وإيجاد المكونات وخلق الخلائق وتسخير الأمور وتدبيرها ، وكان مباشرة هذا الأمر من
الذات الأحدية القديمة بغير واسطة بعيدة جدا ، لبعد المناسبة بين عزة القدم وذلة
الحدوث ، فقضى الله سبحانه بتخليف نائب ينوب عنه في التصرف والولاية والإلايجاد
والحفظ والرعاية ، فلا محالة له وجه إلى القديم يستمد من الحق سبحانه ، ووجه إلى
الحدوث يمد به الخلق ، فجعل على صورته خليفة يخلف عنه في التصرف ، وخلع عليه خلع
جميع أسمائه وصفاته ومكنه في مسند الخلافة بإلقاء مقادير الأمور إليه وإحالة حكم
الجمهور عليه وتنفيذ تصرفاته في خزائن ملكه وملكوته ، وتسخير الخلائق لحكمه
وجبروته ، وجعل له بحكم مظهرية اسميه الظاهر والباطن حقيقة باطنة وصورة ظاهرة.
ليتمكن بهما من التصرف في الملك والملكوت. فالمقصود من وجود العالم وإيجاد الأشياء
فيه شيئا فشيئا ، أن يوجد الإنسان الذي هو خليفة الله في العالم ، فالغرض من
الأركان أن يحصل منها النباتات ، والغرض من النباتات أن يحصل منها الحيوانات ، ومن
الحيوانات أن يوجد الأجساد البشرية ومن
الأجساد البشرية
أن يحصل منها الأرواح الناطقة ، ومن الأرواح الناطقة أن يحصل خليفة الله في أرضه ،
كما دل عليه بقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فحقيقته الباطنية هي الروح الأعظم ، والنفس الكلية وزيره
وترجمانه ، والطبيعة عامله ورئيسه ، والعملة من القوى الطبيعية جنوده ، وكذلك إلى
آخره. وأما صورته الظاهرة فصورة العالم من العرش إلى الفرش وما بينهما من البسائط
والمركبات ، فهذا هو الإنسان الكبير المشير إليه قول المحققين ، العالم إنسان
كبير. وإنما سمي إنسانا ، لإمكان وقوع الإنس بينه وبين الخلق برابطة الجنسية
وواسطة الإنسية وأرادوا بالعالم حقيقة العالم وذاته وروحه الأعظم أعني العقل
البسيط الذي اندمجت فيه صورة ما في العالم ظاهره وباطنه ، وهو أول ما خلق الله
وأبدعه. وأما قولهم : الإنسان عالم صغير ، أرادوا به الكمل من أفراد البشر ، وهو
خليفة الله في الأرض لقوله في حق آدم (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقوله : (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).
والإنسان الكبير
خليفة الله في السماء والأرض ، وماهيتهما واحدة ، وهذا الإنسان نسخة منتسخة ونخبة
منتخبة من الإنسان الكبير بمثابة الولد من الوالد ، فله أيضا حقيقة باطنة وصورة
ظاهرة ، أما حقيقته الباطنة فالروح الجزئي المنفوخ من الروح الأعظم ، نسبته إلى
ذلك كنسبة الشعاع إلى الشمس ، فكذلك عقله الجزئى ونفسه الشخصية والطبيعة الشخصية ،
وأما صورته الظاهرة فنسخة منتخبة من صورة العالم الظاهر ، فيها من كل جزء من أجزاء
العالم ، لطيفها وكثيفها قسط ونصيب ، فسبحان من صانع جمع العالم في واحد.
من كل شيء لبة
ولطيفه ، مستودع في هذه المجموعة وصورة كل شخص كامل نتيجة صورة آدم وحواء ، ومعناه
نتيجة الروح الأعظم والنفس الكلية اللذين هما آدم كلي وحواء كلية ، ومن هذا يصح أن
يقول الكامل من أولادهما.
وإني وإن كنت
ابن آدم صورة
|
|
فلي فيه معنى
شاهد بأبوتي
|
وكذلك كل واحد من
أفراد البشر ناقصا أو كاملا كان له نصيب من الخلافة بقدر حصة إنسانية ، لقوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ، مشيرا إلى أن كل واحد من أفاضل البشر وأراذلهم خليفة من
خلفائه في أرض الدنيا ، فالأفاضل مظاهر جمال صفاته تعالى في مرآة أخلاقهم الربانية
، وهو سبحانه تجلى بذاته وجميع صفاته لمرآة قلوب الكاملين منهم ، المتخلقين بأخلاق
الله ، ليكون مرآة قلوبهم مظهرا لجلال ذاته وجمال صفاته ، والأراذل يظهرون جمال
صنائعه وكمال بدائعه في مرآة حرفهم وصنائعهم ، ومن خلافتهم أن الله استخلفهم في
خلق كثير من الأشياء كالخبز والخياطة والبناء ونحوها ، فإنه تعالى يخلق الحنطة
بالاستقلال والإنسان بخلافته يطحنها ويعجنها ويخبزها ، وكالثوب فإنه تعالى يخلق
القطن والإنسان يغزله وينسج منه الثوب بالخلافة ، وعلى هذا قياس في سائر الصنائع
الجزئية والحرف.
قاعدة
في
الحقيقة المحمدية مظهر اسم الله الجامع الأعظم (يا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى قوله (مُسْتَقِيماً)
قد تقرر في العلوم
الإلهية أن الحق تعالى برهان على كل شيء كما قال (أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وقد ثبت أيضا أن المبدأ عين الغاية والبداية عين النهاية ،
وأن الله فاعل كل شيء ، وأن الإنسان الكامل الذي لا أكمل منه غاية المخلوقات ، «لولاك
لما خلقت الأفلاك» ، فإذن يجب أن يكون هو البرهان على سائر الأشياء ، كما قال (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).
ومن الشواهد
الدالة على هذا المطلب أن الله أعطى لكل نبي آية وبرهانا وجعل نفس النبي الخاتم
برهانا فقال (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ
مِنْ رَبِّكُمْ) ، وذلك لأن برهان الأنبياء كان في أشياء غير أنفسهم ، مثل
برهان موسى في
عصاه وفي يده ،
وفي الحجر الذي انبجست (مِنْهُ اثْنَتا
عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) ، وكان نفس النبي برهانا بالكلية فكان برهان عينه ما قال ،
لا تسبقوني بالركوع فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ، وبرهان بصره (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ
رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، وقوله : زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وبرهان
سمعه قوله أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك
ساجد أو راكع ، وبرهان شمه قوله : إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن ، وبرهان
ذوقه قوله : إن هذا الذراع مسموم ، وبرهان لمسه قوله : وضع الله يده بين كتفي فأحس
برده ، وبرهان لسانه قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، وبرهان بصاقه ما قال جابر : إنه أمر يوم الخندق لا تخبزن عجينكم ولا
تنزلن برمتكم حتى أجيء ، فجاء فبصق في العجين وبارك وبصق في البرمة ، فأقسم بالله
إنهم لأكلوا وهم ألف حتى تركوه وانصرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هي ، وبرهان تفله أنه تفل في
عين علي عليهالسلام وهي ترمد فبرئ بإذن الله يوم خيبر ، وبرهان يده قوله تعالى
: (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، وأنه سبح الحصى في كفه ، وبرهان إصبعه أنه أشار به إلى
القمر فانشق فلقتين ، وكان الماء ينبع من أصابعه حتى شرب منه خلق كثير ، وبرهان
صدره قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ) ، وأنه كان له أزيز كأزيز المرجل وبرهان قلبه أنه كان تنام عيناه ولا ينام قلبه ، وقال
تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) ، وأمثال هذه البراهين في مظاهر وجوده المقدس أكثر من أن
يحصى.
وأما براهين مطاوي
وجوده وقواه المستورة ، فمنها برهان قوة
__________________
حفظه كقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، وبرهان قوة علمه قال علي عليهالسلام : علمني رسول الله صلىاللهعليهوآله ألف باب من العلم فاستنبطت من كل باب ألف باب ، وإذا كان
حال الولي هكذا فكيف حال النبي المعلم ، وأما برهان قوته المحركة العملية فلعروجه
بجسده النوراني إلى أقصى عالم السماوات وهو سدرة المنتهى ، وبروحه المقدس إلى قاب
قوسين أو أدنى ، وأما برهان عقله العملي فقوله : (إِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وقوله : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
قاعدة
في
حقيقة الدنيا والآخرة
قال الله تبارك
وتعالى (أَنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) إلى قوله (وَفِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ شَدِيدٌ) ، وقال : (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ، وقال : (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ) إلى قوله (فَجَعَلْناها
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) وقال : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ
اللهَ عِنْدَهُ).
واعلم أن الدنيا
من عالم الملك والشهادة ، والآخرة من عالم الملكوت والغيب ، وربما قيل : إن الدنيا
عالم المحسوسات والآخرة عالم المعقولات ، وهذا غير سديد عندنا ، وإنما هو قول جمع
من الفلاسفة المنكرين للمعاد الجسماني ، ولوجود الجنة والنار الجسمانيين ، والأجود
أن يقال إن الدنيا عالم الكون والفساد ، والآخرة دار القرار ، أو يقال : إن الدنيا
عالم الظلمات ، والآخرة عالم النور ، أو يقال : إن الدنيا عالم الموت ، والآخرة
عالم الحياة ، والله تعالى هو (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) و (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، يعني الدنيا والآخرة.
وتوضيح ذلك على نسق
البرهان العقلي أن الصورة التي يتعلق بها العلم والإدراك على ضربين ، إما صورة
مادية مغموسة في المادة ، التي شأنها العدم والقوة وقبول الكثرة والانفصال
والتباعد في الجهات ، و
الغيبة والحجاب
وعدم الحضور ، حتى أن كل جزء منها يغيب عن صاحبه وليس لها وجود جمعي حضوري ، فلم
يكن مدركة ولا معلومة ولا محسوسة إلا بالتبع لا بالذات ، فهي مناط الجهل والموت
والظلمة ، وأما صورة مفارقة عن المادة ولواحقها فوجودها وجود حضوري إدراكي ، لأن
وجودها في نفسها بعينه وجودها لمدركها ، سواء كانت صورة جزئية أو كلية ، محسوسة أو
معقولة ، فهي المدركة بالفعل دائما ، والأولى ليست مدركة بالفعل ما لم ينتزع عن
مادتها ، والقسم الأول هو وجود الدنيا وما فيها ، ولا يكون لها في نفسها حياة إلا
بأمر خارج عنها وارد عليها ، والقسم الآخر ، هو وجود الآخرة وما فيها ، وإن حياتها
ذاتية لها لا بأمر خارج ، ولهذا قال الله تعالى في حق الدنيا : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ) ، وقال في حق الآخرة : (وَإِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، ولأجل ذلك قيل : إن حال الإنسان في كل ما يراه من الدنيا
كحال النائم في المنام عن الرؤيا التي يراها ، ما هي إلا أمثال وحكايات لما هي
حقائق موجودة في الخارج يحتاج إلى التعبير.
فالعارف بمنزلة
المعبر الذي يعبر عنها بأمور أخروية ، كما قال سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ، وقيل أيضا : إن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عالم الشهادة
ويرى فيها ما في عالم الغيب وهي الآخرة.
وما أحسن تشبيه
الدنيا بالمرآة ، حيث إن سطح المرآة من جهة اللون لأجل الصقالة صار عدميا ، لكنه
يصير لأجل صقالته وقوة إمكانه مظهرا لما يقابله من الأشكال والألوان ، كذلك الدنيا
أمر عدمي إمكاني حامل للعدم والقوة الإمكانية ، فصارت مظاهر لما يقابله من عالم
الآخرة ، فيرى فيها صور الأشياء الثابتة في عالم آخر على وجه محسوس جزئي ، لتطرق
النقائص والأعدام إلى تلك الصور من جهة المظهر الدنياوي ، فهذا العالم في الوجود
تابع لعالم الغيب ، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر ، ألا ترى أن
صورتك في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة
الوجود فإنها قد
صارت أولى في حق نفسك فإنك لا ترى نفسك ، وترى صورتك في المرآة أولا ، وربما تغيرت
بحسب حال المرآة مستقيمة ومعوجة واحدة ومتكثرة ، ثم تعرف بها صورتك التي هي قائمة
بك لا بالمرآة أصلا على سبيل المحاكاة في ثاني الحال ، فانقلب التابع في الوجود
متبوعا في حق المعرفة ، وانقلب المتأخر متقدما ، وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس
ضرورة هذا العالم ، وكذلك عالم الدنيا محاك لعالم الآخرة ، فمن الناس من وفقه الله
ويسر له النظر والاعتبار فلا ينظر إلى شيء من هذا العالم إلا ويعبر به إلى عالم
الآخرة ، فيسمى عبوره عبرة ، وقد أمر الله تعالى عباده به وقال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر ولم يعبر عن هذا الحبس ،
فاحتبس في عالم الحس والشهادة ، وسيفتح إلى حبسه أبواب جهنم ، وهي مشاعره التي
كانت تصلح أن تكون أبوابا إلى فسحة الجنان أيضا كما تصلح لأن تكون أبوابا إلى
النيران ، وهذا الحبس ممتلئ نارا شأنها أن تطلع على الأفئدة ، إنها عليهم مؤصدة في
عمد ممددة ، إلا أن بينه وبين إدراك حرقها وألمها حجاب ، فإذا رفع الحجاب بالموت
أدركها بعين اليقين ، وهذه النار موجودة اليوم كما دل عليه قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ) ، وقوله : (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ، وقوله : (أُولئِكَ ما
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، وقد أظهر الله الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا
: الجنة والنار مخلوقتان ، نظرا إلى ظاهر قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، وقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، وقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، وقوله : (أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) ، وقوله : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ).
وهذا هو المروي عن
الأئمة الطاهرين عليهم السلم ، روى قدوة المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه
القمي رضي الله عنه في عيون أخبار الرضا بسنده المتصل إلى عبد السلام بن صالح
الهروي ، قال قلت لعلي بن
موسى الرضا عليهالسلام يا ابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنار ، أهما اليوم
مخلوقتان ، قال نعم قد دخل رسول الله (ص) الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء
، قال فقلت له إن قوما يقولون إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين ، فقال عليهالسلام : ما أولئك منا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنة والنار
فقد كذب النبي صلىاللهعليهوآله وكذبنا ، وليس في ولايتنا على شيء ويخلد في نار جهنم ، قال
تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ، وقال النبي (ص) : لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل
فأدخلني الجنة ، فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي ، فلما هبطت إلى
الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليهاالسلام ففاطمة حوراء فكلما اشتقت إلى الجنة شممت رائحة ابنتي
فاطمة عليهاالسلام.
وبالجملة الدنيا
هي النشأة النارية الداثرة الكائنة الفاسدة ، من ركن إليها استحق النار ، والآخرة
هي النشأة النورية العلمية الباقية ، وهي صورة الجنة ومنازلها ، إلا أنها محجوبة
عن هذه الحواس لانغمارها في البدن الذي هو أيضا من الدنيا ، فمن عرف نفسه وعرف ربه
تجرد ذاته عن غشاوة الدنيا وصار من أهل الآخرة ونعيمها ، ومن لم يستكمل ذاته بقوة
الإيمان ونور العرفان ، ولم ينتزع صورته عن المادة البدنية ، ولم يتجرد ذاته عن
مقبرة الدنيا وتابوت البدن الذي استحق بذاته أن يصير صندوقا من صناديق الجحيم ،
فلا نجاة له من عذاب النار ، ولا خلاص له منها إلى محل الأبرار ومعدن الأنوار.
والعارف يشاهد
ببصيرته أن الدنيا ضد الآخرة وأنها معدن الجهل والكفر ومنشأ الظلمة والعذاب في يوم
القيامة ، وأنها مذمومة ، شهواتها مهلكة ، ظلماتها مغوية ، وهي مع ذلك لا بد منها
لأنها مزرعة الآخرة في حق من عرفها ، إذ منها ينشأ بذر الثمرات الأخروية ، فمن
تزود منها للآخرة واقتصر على قدر الضرورة فقد حرث وبذر وسيحصد في الآخرة ما زرع ،
وحقيقة هذه الحراثة هي الإيمان والزهد ، أعني اكتساب أنوار المعلومات
والتجرد عن
الماديات والظلمات وهي يخالف حراثة الدنيا ، وهي تحصيل المال والجاه ، فلا نجاة
لأحد إلا لمن كان حاله في الدنيا كحال المسافر الذي يقتصر منها على قدر الضرورة ،
ولا سعادة لأحد إلا لمن قدم إلى الله عارفا به وبملكوته وآيات جلاله وعظمته ، وأحب
الله بقلبه ، فإن المعرفة والمحبة لا ينالان إلا بدوام الطلب والفكر ، ولا يفرغ
القلب إليهما إلا بالإعراض عن شواغل الدنيا والفراغ عن محبة غير الله ، وغير صفاته
وأفعاله من حيث هي أفعاله ، فإن من أحب أحدا أحب آثاره لأجله.
فأنت يا حبيبي إن
كنت من أهل البصيرة فقد علمت أن مدار النجاة على الأعراض عن الدنيا وأهلها ، ومدار
السعادة الحقيقية والتقرب عند الله بالحكمة الإلهية التي هي المعبر عنها بالإيمان (بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وإن لم تكن من أهل الكشف والبصيرة فكن لا أقل من أهل
التقليد والإيمان بظاهر القرآن ، وانظر إلى تحذير الله تعالى إياك في عدد كثير من
الآيات كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) الآية ، وكقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى
وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) ، وكقوله : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ
الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ (يَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ وَ) يَبْغُونَها عِوَجاً
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، وكقوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) ، وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها) الآية» ، (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) الآية ، وفي حمعسق (مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وقوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وقوله : (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ
وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ
تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ
مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، وقوله : (وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الآية ، ولعل ثلث القرآن في ذم الدنيا وأهلها.
وفي الحديث عن
النبي صلىاللهعليهوآله «الدنيا ملعون ،
ملعون ما فيها ، الدنيا دار من لا دار له ، الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ،
الدنيا جيفة وطالبها كلاب ، وإن الله عزوجل لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا ، وإنه لم ينظر إليها
منذ خلقها بغضا».
قاعدة
في
اللوح والقلم
قال تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ، وقال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، وقال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ) ... (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ... (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) ، وقال : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، وقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).
وفي الخبر أن
إسرافيل ملك موكل باللوح ينظر فيه وينتظر متى يؤمر أن ينفخ في الصور ، واللوح مجمع
علوم الكوائن ، وقيل أصله من ذهب دفتاه ياقوتتان حمراوان ، عرض كل منهما من المشرق
إلى المغرب ، وطوله من العرش إلى الثرى ، وأما القلم فهو درة بيضاء طوله ألف سنة.
وفي الأثر : لما
خلق الله القلم قال اكتب ، قال ما أكتب قال علمي في خلقي ، فجرى القلم بما هو كائن
إلى يوم القيامة.
وروي عن رسول الله
صلىاللهعليهوآله سبق القلم وجف القلم وتم القضاء بتحقيق الكتاب وتصديق
بالسعادة من الله والشقاوة من الله.
وفي كتاب
الاعتقادات لابن بابويه القمي رضوان الله عليه ، إن اللوح والقلم هما ملكان ،
فإثباتهما من طريق الخبر والرواية هكذا ، وأما طريق الاعتبار والاستبصار ،
فالبرهان العقلي يجوز جميع ما ذكروا ولا يأبى
عنه ، ويشبه أن
يكون إحداهما وهو القلم جوهرا عقليا بل العقل الكلي وهو العالم العقلي بجملته ،
وثانيهما أعني اللوح جوهرا نفسانيا بل النفس الكلية وهو العالم النفساني بجملته.
قاعدة
في
العرش والكرسي
قيل سئل محمد بن
الحنفية رضي الله عنه عن الكرسي فقال : فلك البروج ، فمن جعله فلك البروج جعل
العرش فلك الكل أو فلك الأفلاك ، وذهبت المشبهة إلى أن العرش موضع التدبير
والتقدير ، والكرسي موضع التجلي والزيارة ، وذكروا أن الله ينزل من العرش إلى
الكرسي فيتجلى للخلق ويقضي بينهم بالحق.
أقول : «إنما
قالوا ذلك وأمثاله لآثار بلغت إليهم منقولة عن النبي صلىاللهعليهوآله في هذا الباب ، لو عرفوها حق معرفتها لما ضلوا وأضلوا ،
وقال بعضهم إن
العرش مظهر الرب ، والكعبة معلمه ، فدعا الله العباد إلى مظهره بقلوبهم وإلى معلمه
بأبدانهم ، ومنهم من قال : إن الله متمكن على العرش وقدماه على الكرسي ، جل الباري
عن صفات المخلوقين ونعوت المحدثين ، وقال بعض أرباب القلوب العرش هو قلب العالم
والإنسان الكبير والكرسي هو صدره ، وهذا أصح الأقوال وأسدها وأحسنها ، وذلك لأن المراد
من القلب المعنوي هو مرتبة النفس المدبرة المدركة للكليات ، والقلب الصوري مظهرها
، وكذا المراد من الصدر المعنوي هو مرتبة النفس الحيوانية المدركة للجزئيات ، وهذا
الصدر الجسماني مظهرها ، ونسبة استواء النفس الإنسانية على قلبه بالتدبير إلى
استواء الرحمن على عرشه بالعناية والرحمة كنسبة القلب الصنوبري إلى العرش الصوري ،
وكذلك نسبة تصرف النفس الحساسة الحيوانية في الصدر المحيط بجوهر الكبد لمكان الدم
الطبيعي المنتشر في البدن كله إلى تصرف
القوة الملكوتية
بإذن الله في الكرسي المحيط بجوهر السماوات السبع بأنوارها النافذة في الكل كنسبة
الصدر الجزئي إلى الكرسي الجسماني ،
وأيضا نسبة العرش
إلى الكرسي كنسبة القلم إلى اللوح ، فالقلم واللوح جوهران بسيطان عقليان في عالم
الأمر ، ولكن القلم أبسط وأشرف وأقوى عقلا ، وكذا العرش والكرسي جوهران بسيطان
حيان من عالم الخلق ، لكن العرش أبسط وأنور وأقوى حياة ، والله أعلم بحقائق أموره
وخزائن ظهوره ومنازل شهوده ومجالي وجوده.
وقال الشيخ أبو
جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي رضوان الله عليه ، اعتقادنا في اللوح والقلم
أنهما ملكان كشف الله بهما مخفيات علمه واطلعهما على علومه الغيبية ، وهو قريب مما
ذكرناه من أنهما واسطتان في إفاضة العلوم من الله على خلقه ، وقال عظم الله قدره
في الاعتقاد في الكرسي : إنه وعاء جميع الخلق والعرش والسماوات والأرض وكل شيء خلق
الله في الكرسي ، وقال وجه آخر : قد سئل الصادق عليهالسلام عن قول الله عزوجل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، قال هو علمه ، وقال في الاعتقاد في العرش : إنه حملة
جميع الخلق ، والعرش في وجه آخر هو العلم ، وسئل الصادق عليهالسلام عن قول الله عزوجل (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) ، فقال : «استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء» ، «وأما
العرش الذي هو حملة جميع الخلق فحملته ثمانية من الملائكة» ، لكل واحد منهم ثمانية
أعين كل عين طباق الدنيا ، واحد منهم على صورة بني آدم يسترزق الله تعالى لولد آدم
، وواحد منهم على صورة الثور يسترزق الله للبهائم ، وواحد منهم على صورة الأسد
يسترزق الله للسباع ، وواحد منهم على صورة الديك يسترزق الله للطيور ، فهم اليوم
أربعة وإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية ، وأما العرش الذي هو العلم فحملته أربعة
من الأولين وأربعة من الآخرين ، فأما الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى
وعيسى عليهمالسلام ، وأما الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين عليهمالسلام ، قال : هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة عليهمالسلام ، في العرش وحملته.
المشهد الثالث
في أحكام المخلوقات الواقعة في سلسلة العود إلى الله معاكسة
للمبدعات الكائنة في سلسلة البدو منه تعالى وفيه قواعد :
قاعدة
في
المركبات الناقصة
اعلم أنه إذا وقعت
آثار القوى السماوية من الأضواء والأشعة الكوكبية وغيرها بإذن الله وملكوته
العمالة في العناصر والمواد السفلية ، فحركتها وهيجتها ، اختلط بعضها ببعض واستحال
بعضها إلى بعض ، حصل من اختلاطها واستحالتها موجودات شتى ، فإذا هيج النور الفلكي
بإسخانه الحرارة ، بخر من الأجسام الرطبة المائية ، ودخن من الأجسام اليابسة
الأرضية ، وأثار من البخار والدخان من مهبطي الأرض والماء وأصعده ، أما الدخان فقد
يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل ، وربما يبقى فيه الاشتغال
لغلظ المادة الدخانية ، فرأى كأنه كوكبا في السماء فيتحرك بمشايعة حركة الأثير مدة
، وربما لم يبق فيه الاشتعال بل احترق بسرعة وانطفى ولم يثبت فيه أثر الاحتراق وهو
الشهاب الثاقب ، وقد ثبت فيه أثر الاحتراق ، فيرى العلامات الهائلة الحمر والسود ،
وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جدا فيتراكم ويبقى مدة في أقصى الجو عند
منقطع الشعاع فيبرد ويكشف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحابا ماطرا و
المتقاطر مطرا ،
ومنه ما يقصر عن الارتفاع لثقله ، بل يبرد سريعا وينزل ، فما يوافيه برد الليل قبل
أن يتراكم فهو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان
ثلجا ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان
ضعيفا ، وما يسقط بالليل من السماء شبيها بالثلج ، وربما انجمد البخار بعد ما
استحال قطرات ماء فكان بردا ، وإنما يكون جموده في الربيع ، وقد فارق السحاب في
الشتاء وهو داخل السحاب ، وذلك لشدة برد الشتاء وضعف برد الربيع ، والمشهور أنه
إذا سخن خارجه بطنت البرودة إلى داخله فيتكاثف داخله لشدة البرد واستحال ماء
وأجمده شدة البرد ، وهو كما ترى ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال
سحابا ثم مطرا.
وأما الجواهر
البخارية الدخانية الحاصلة من مادتي الرطوبة واليبوسة فمنها ما يتخلص من الأرض
فيكون منها الرياح ، وإذا تصعدت فيتميز البخار من الدخان ، انعقد البخار سحابا
فيبرد ويقلقل فيه الدخان طلبا للنفوذ إلى العلو ، فحصل من تقلقله فيه ضرب من الرعد
، وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التقلقل لكثرة وصول المواد
وتكون أعالي الجو أكثف ، لأن البرد هناك أشد ، وتكون هناك ريح مقادمة يعوقه عن
النفوذ فيندفع إلى أسفل ، وقد أشعلته المحاكة والحركة نارا تبرق ، وتشق السحاب
شعلة كجمر يطفي ، ويسمع من ذلك ضرب من الرعد ، وإن كان قويا شديدا غليظ المادة كان
صاعقة ، وربما وجد مندفعا فيه سهل الانشقاق فخرج بالرعد واشتعل.
فهذا القدر من
الحقائق لا ضير في معرفتها ، والكتاب أشار إليها ، ولا شك في انتهاء أسبابها إلى
ملائكة السماوات والأرضين ، ثم إلى مدبر الكل تعالى عما يصفه الجاهلون ويعتقده
الظالمون من المعطلة والمجسمة.
فللإشارة إلى
إيجاده تعالى لهذه الكائنات الناقصة بتهييجه لأسبابها قال : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها
مَنْ يَشاءُ) ، و
قال : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ
فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى
الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها
مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ
سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا
أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) ، وقوله : (وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) ، وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
قاعدة
في
خلق أنواع المعادن من المركبات التامة التركيب ، التي لها
صور نوعية حافظة للتركيب ، فاعلة لآثار مخصوصة».
لما أراد الله
سبحانه ، بمقتضى قضائه الأزلي وعنايته أن يجعل في الأرض خليفة وخلق من هذه العناصر
المتضادة الوجود ، البعيدة عن عالم القدس والجود ، موجودا كاملا يصلح لأن يكون
نائبا من الله في عمارة النشأتين ، وكان لا يتصور وجوده من هذه المواد إلا بعد
تعديلها وتهذيبها عن الكدورة والظلمة اللازمة لهذه الأجسام ، سيما الأرض التي هي
العنصر الغالب فيه ، فقلبها في الأطوار ، وخمر طينة الغالب بفنون من التخميرات ،
فجعلها أولا جمادا ، ثم نباتا ، ثم حيوانا ، وهكذا استوفى درجات هذه الأكوان
ليتهيأ منها ويعدها خلقة الإنسان ، فأول تعديل وتصفية وقعت في هذه المواد بأن حصل
منها صورة الجماد ، قال تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ
سَرابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ) ، وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها
وَغَرابِيبُ سُودٌ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ
سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ
فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) ، وقوله : (أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ).
قاعدة
في
خلقة النبات والحيوان والإنسان من صفوة العناصر والأركان.
إن العناصر إذا
امتزجت بإذن الله واستخدامه للقوى العالية ، وخرجت بسبب اعتدال مزاجها عن صرافة
تضادها وتعصيها عن قبول الفيض الرحماني ، فتصير قابلة لأثر من الحياة ، فأول ما
قبلته من إفاضة الله هي الصورة الحافظة لتركيبها ، وهي الصورة المعدنية ، ثم إذا
وقع لها امتزاج أتم وحصل مزاج أعدل وأقرب إلى الوحدة والجمعية قبلت أثرا آخر من
آثار الحياة أشرف ، وهي النفس النباتية ، شأنها التغذية والتنمية والتوليد ، فإذا
امتزجت امتزاجا وحصل لها مزاج أتم وأفضل وإلى الوحدة الخالصة أميل ، تهيئت لقبول
أصل الحياة بعد ما استوفت درجات المعادن والنبات بفيضان النفس الحيوانية الشاعرة
المحركة بالاختيار ، ولها قوتان مدركة ومحركة ، كما قال : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ
وَشَهِيدٌ) ، فالمدركة منقسمة إلى ظاهرة ، هي الحواس الخمس المشهورة ،
وباطنة هي الحواس الخمس الباطنة للحيوانات الكاملة ، الحس المشترك والخيال
والمتصرفة والواهمة والحافظة ، وأما القوة المحركة ، فمنها الباعثة ذات شعبتين ،
الشهوة و
الغضب ، ومنها
الفاعلة لجذب الأوتار وإرخائها وآلتها الأعصاب المنشعبة بعضها عن الدماغ وبعضها عن
النخاع ، وقد جعله الله خليفة الدماغ ، وحامل هذه القوى الروح البخاري الذي جعله
الله خليفة النفس ورسولا منها إلى البدن ، وهو الحار الغريزي عند الأطباء ،
المنبعث أولا من القلب الصنوبري صورة القلب المعنوي ، وإذا لطف جدا حتى يشبه الجرم
الفلكي صار محل استواء الروح النطقي المضاف إلى الله في قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي).
قاعدة
في أن الغرض من هذه الموجودات وقواها
الطبيعية والنباتية والحيوانية كلها خلقة الإنسان الذي هو غاية خلقة العناصر والأركان ، لأنه صفوها وأصلها
وخلق من فضالتها وثفلها سائر الأكوان ، فهو الصفوة العليا واللباب الأصفى وغيره
كالقشور لصيانة وجوده عن الآفة ، ولذلك تزول هي وترمى ، وهو يدوم ويبقى محشورا
راجعا إلى ربه ، والإشارة إلى أن كل ما يوجد في العالم من سائر الأكوان إنما خلق
لأجل الإنسان.
قال تعالى في باب
المعادن والجماد : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ) ، وقال : (هُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ، وقال : (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) ، وقال : (وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ، وقال : (وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ، وقال في باب النبات : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ، وقال أيضا في حقه : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) ، وقال : (وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وقال في حق الحيوان : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ
لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ
ما لا تَعْلَمُونَ) ، وقال أيضا : (إِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، وقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ
شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ، وقال مشيرا إلى أن جميع ما في عالم الأرض مخلوق لأجل
الإنسان ، و (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، وقال مشيرا إلى أن ما في السماء لأجله ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ ،) وقال مشيرا إلى أن إيجاد الكل لأجله. (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ).
فللإنسان أن ينتفع
بكل ما في هذا العالم على وجه من الوجوه ، إما في غذائه وفي دوائه ، أو ملبوساته
أو مركوباته أو زينته أو الالتذاذ بشيء منها بصورته أو صوته أو طيبه أو رؤيته ، أو
الاعتبار به وباستفادته العلم منه والاقتداء بفعله فيما يستحسن منه ، والاجتناب
عنه فيما يستقبح منه ، وقد نبه الله على منافع جميع الموجودات إما بألسنة الأنبياء
عليهمالسلام ، وإما بإلهام الأولياء ، أو بغير ذلك من الإعلامات بالفكر
والقياس والحدس ، فحق الإنسان أن ينتفع بكل شيء في السماء والأرض ، فقد أحسن من
قال :
تعلمت من كل شيء
أحسن ما فيه ، حتى من الكلب حمايته على أهله ، ومن الغراب بكوره في حاجته ، ولا
يبعد أن يكون قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) الآية تنبيها للإنسان على التعلم والاقتداء بالنحل في
مراعاته لوحي الله تعالى ، فكما أنها لا يتخطى وحي الله في مجرى المصالح طبعا ،
كذا يجب على الإنسان أن لا يتخطى وحي الله اختيارا.
قاعدة
في خلقة الإنسان وأنه الثمرة العليا
واللباب الأصفى والغاية القصوى من وجود سائر الأكوان ، والكلام هاهنا في مادة وجوده ، وسيجيء الكلام في صورة
وجوده.
اعلم أن الطبيعة
ما لم توف بالمادة جميع درجات النوع الأخس لم يتجاوز بها إلى النوع الأشرف ، وقد
حقق بالبرهان أن الموجود الأشرف يجب أن يندرج فيه جميع المعاني المتحققة في
الموجود الأخس على وجه أعلى وألطف ، وقد أشرنا آنفا إلى أن العناصر إذا امتزج
بعضها ببعض وخرجت بسبب اعتدال كيفياتها عن صرافة تضادها وتعصيها عن قبول الفيض
الإلهي تصير قابلة لأثر من آثار الحياة ، فأول ما قبلته من إفاضة الله هي صورة
حافظة لتركيبها مبقية لوجودها بإذن الله تعالى ، ثم إذا حصل لها امتزاج أتم
واعتدال أفضل وأقرب إلى الوحدة الجامعة ، قبلت أثرا آخر من آثار الحياة أشرف ، وهي
النفس النباتية التي شأنها التغذية والتنمية والتوليد للمثل ، وإذا امتزجت امتزاجا
أكثر اعتدالا وأرفع قدما من التسفل والتضاد والتفرقة ، وأقرب مقاما إلى عالم
الصفاء والنور ، تهيأت لقبول أصل الحياة بعد أن يستوفي درجات الجماد والنبات
بفيضان النفس الحيوانية الحساسة المتحركة بالإرادة ، وإذا لطفت المادة العنصرية
جدا حتى تشبه الجرم الفلكي صار محل استواء الروح النطقي الإضافي الذي من الله
مشرقه وإلى الله مغربه ، ففي الإنسان شيء كالفلك وشيء كالملك ، وبهما جميعا يصلح
عمارة الدارين ويستحق خلافة الله أولا في العالم الأسفل
الأرضي ثم في
العالم الأعلى السماوي ، فقد تبين أن وجود الإنسان لم يحدث من الله إلا بعد
استيفاء الطبيعة جميع درجات الأكوان ، وطيها منازل النبات والحيوان ، فيجتمع في
ذاته جميع القوى الأرضية والآثار النباتية والحيوانية ، وهذا أول درجات الإنسانية
التي اشترك فيها جميع أفراد الناس ، ثم في قوته الارتقاء إلى عالم السماء ومجاورة
الملكوت الأعلى بتحصيل العلم والعمل ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، ثم له أن يطوي بساط الكونين ويرتفع من العالمين بأن
يستكمل ذاته بالمعرفة الكاملة والعبودية التامة ، ويفوز بلقاء الله بعد فنائه عن
ذاته ، وحينئذ يصير رئيسا مطاعا في العالم العلوي ، مسجودا للملائكة السماوية ،
يسري حكمه في الملك والملكوت ، ويسمع دعاؤه في حظيرة قدس الجبروت ، قال تعالي في
خلقة بدن الإنسان : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، فالطين مادته الأولى ، لأنه الجزء الغالب من عناصره ،
كالنار في الجن ، والسلالة مادته الثانية مرتبتها مرتبة المعدنيات لكون صورتها
حافظة لتركيبها ، ولهذا عقب بقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ، وقوله (ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ، إشارة إلى المراتب السابقة على الإنسانية المشتركة جميع
الحيوانات مع الإنسان ، وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، إشارة إلى نحو آخر من الوجود ، مخالف الذات والحقيقة لما
سبق من الأطوار السابقة على الإنسانية ، وهي كلها صور كونية قائمة بالجسم ، وهذا
نور فائض من الله قائم بذاته ، بل بذات الله تعالى ، قيام الضوء الوارد على وجه
الأرض بذات الشمس لا بذاته ولا بذات الأرض بل الأرض مظهر قابل لظهوره ، وكذلك
البدن العنصري باستعداده مظهر قابل لظهور هذا النور الرباني الذي من الله مشرقه
وإلى البدن مغربه ومهبطه ، وسيرد إلى الله يوم طلعت الشمس من مغربها ، فتطلع هذه
النفس عند خراب القالب إلى خالقها ومنشئها ، ويرجع إلى الله إما زاهرة مشرقة ،
وإما مظلمة منكسفة ، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة الإلهية ، إذ مرجع الكل
ومصيره إليه ، إلا أنها ناكسة الرءوس
عن أعلى عليين إلى
أسفل السافلين ، ولذلك قال : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، وهؤلاء هم المنافقون الذين هم أسوأ حالا من الكفار
المحضة ، لأنهم المحجوبون أزلا وأبدا.
واعلم أن التحقيق
يقتضي أن قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) مختص ببعض أفراد الناس كما ستعلم ، وبالجملة ظهر أن
المقصود الأصلي من إيجاد الكائنات هو الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله ، قوله
تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وقوله : (إِنِّي خالِقٌ
بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ ساجِدِينَ) ، وقوله : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وقوله ، (يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي
الْأَرْضِ) ، وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) ، وقوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيها) ، كل ذلك إشارة إلى أنه لا يستصلح لخلافة الله وعمارة
الدارين إلا الإنسان الكامل ، وهو الإنسان الحقيقي مظهر اسم الله الأعظم كما نبه
بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ).
قاعدة
في
ذكر العناصر التي منها تكون الإنسان
واعلم أنه ذكر
الله تعالى في غير موضع من القرآن العناصر التي منها أوجد الإنسان ونبه على أنه
جعله إنسانا في سبع درجات ، وأشار إلى ذلك في عدة مواضع مختلفة حسب ما اقتضت
الحكمة ، فقال في موضع (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى المبدإ الأول ، وفي آخر (مِنْ طِينٍ) إشارة إلى الجمع بين التراب والماء ، وفي آخر من (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إلى الطين المتغير بالهواء أدنى تغير ، وفي آخر (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إشارة إلى الطين المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول
الصورة ، وفي آخر (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ
حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه ، وفي آخر (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخزف ، وبهذه القوة
النارية حصل في
الإنسان أثرا من الشيطنة ، وعلى هذا المعنى دل بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ
كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ، فنبه على أن الإنسان فيه من القوة الشيطانية بقدر ما في
الفخار من أثر النار ، وأن الشيطان ذاته من المارج الذي لا استقرار له ، ثم نبه
على تكميل الإنسان بنفخ الروح فيه ، بقوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً
مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، ثم نبه على تكميل نفسه بالعلوم والمعارف بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، وليس المراد منها صور الألفاظ ، بل المعاني والمفهومات ،
ثم ذكر مادة خلقة الإنسان وتقلبها في الأطوار وتدرجها من حالة إلى حالة ومن خلق
إلى خلق ، فقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
فإن قيل لم قال (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ولم يقل فخلقنا العظام لحما كما في السوابق.
قلنا لأن النطفة
انتهت إلى صورة العظم التي هي صورة نوعية جوهرية كغيرها من الأعضاء البسيطة ، وليس
من شأنها الاستحالة إلى شيء آخر إلا بعد فساد صورتها ، وهي باقية الصورة في بدن
الإنسان ، وليس اللحم متكونا من النطفة كالعظم والرباط والعصب وغيرها ، بل أنشأ
الله اللحم من الغذاء لا من النطفة ، وأجراها مجرى الكسوة التي تحصل لا من مادة
البدن ، ولذلك إذا قطع من الإنسان أو الحيوان اللحم عاد ، ولم يكن كالعظم الذي لا
يعود بعد قطعه ، وكذلك العصب وغيره ، وقال أيضا : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، «فهذا هو الأشد الصوري والبلوغ الحيواني» (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) «بأسباب قدرية
مانعة عن الوصول إلى حد الشيخوخية» ، والغاية في هذا المقدار من العمر الوصول إلى
الأشد المعنوي والبلوغ العقلي ، فإن هذا الكمال أعني صيرورة النفس عقلا بالفعل بعد
ما كانت عقلا بالقوة ينشأ غالبا في حدود الأربعين وما بعدها كما قال : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ
لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) ، وأردف هذا الكلام بقوله : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، إشارة إلى الحياة العقلية النورية ، ومقابلها وهو موت
الجهل كما في قوله : (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) الآية ، إشارة إلى أن مبدأ هذه الحياة من عالم الأمر الذي
وجوده بكلمة الله التامة الوجودية ، ولا يتعلق وجوده بشيء آخر كبدن أو مادة أو
طبيعة أو غيرها.
وقال تعالى إشارة
إلى مبادي تكون الإنسان ونفسه : (إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، وهذه التسوية فعل وقع من جانب الله في محل قابل لفيضان
الروح بعد تردده في أطوار الخلقة بالتسوية والتعديل ، وكما أن القابل للصورة
النارية لا يمكن أن يكون جسما يابسا محضا كالتراب والحجر ولا رطبا محضا كالماء
والشجر الرطب ، بل لا بد لقبولها من مادة دخانية تحدث من نبات يابس لطيف فتشبث به
النار وتشتعل فيه ، كذلك الطين ، بعد أن أنشأه الله خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة
يصير نباتا ، فيأكله الآدمي فيصير دما ، فينزع القوة المميزة المركوزة في كل حيوان
من الدم صفوه الذي هو أقرب إلى الاعتدال وأبعد من الكثرة والتضاد ، فيصير نطفة
يقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فيزداد اعتدالا ، ثم ينضجها الرحم بحرارته
فيزداد تناسبا حتى ينتهي في الصفا ، واستوى نسبة الأجزاء إلى غاية يستعد لقبول
النفس وإمساكها ، كما يستعد الفتيلة الممتزجة بالدهن لقبول النارية وإمساكها ، ثم
هذه النفس الآدمية كأنها نطفة روحانية وقعت من صلب القضاء في مشيمة البدن ورحم
الدنيا ، يحتاج إلى تصفية وتعديل الأخلاق والملكات النفسانية ، بأدهان المعارف
ولبوب الأغذية العلمية ، لتصير مادة لفيضان الروح الإلهي المنفوخ بإذن الله في
قالب العقل الهيولاني بعد تطوره بالأطوار الملكية ، والتسوية عبارة عن هذه الأفعال
المرددة لمادة خلقة الإنسان في الأطوار السالكة بها إلى صفة الاستواء صورة ومعنى.
فالتسوية تسويتان
، بإحداهما يحصل الإنسان البشري لأجل فيضان
النفس عليه ،
وبالأخرى يحصل الإنسان الملكي بواسطة فيضان الروح الإلهي على نفسه ، فالتسوية
الأولى للبدن والثانية للنفس ، كما قال : (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ، وقوله أيضا مشيرا إلى مبادي أطوار الخلقة ونهايات كمالها
، (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ، وهذه التسوية المذكورة هاهنا هي التي وقعت من فعل الله
بعد خلق الإنسان ونسله ، وهذا الروح المنفوخ المضاف إلى الله هو الروح الأمري الذي
من عالم الأمر لا النفس التي وقع فيه الاشتراك لجميع الناس ، وقوله (وَجَعَلَ لَكُمُ) على سبيل الخطاب لجماعة مخصوصين من هذه الأمة المرحومة دال
على أن المراد بهذا السمع والبصر والأفئدة ما هي المخصوصة بأهل الفضل والكمال ، لا
الذين أصمهم الله (وَأَعْمى
أَبْصارَهُمْ) ، فهم ممن ليس لهم سمع عقلي ولا بصر عقلي ولا فؤاد نوراني
، فيظهر من هذا أن المراد من الروح المذكور هو الروح العلوي الإلهي لا البشري
النفساني.
ثم أشار إلى أن
هذا الروح هو المستحق للقاء الله ، وهو يكون في قليل من أفراد الناس ، ولهذا قال :
(قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) إلى قوله (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ
رَبِّهِمْ كافِرُونَ) وهذا حال أكثر الناس.
قاعدة
في
فضل معرفة الإنسان نفسه
اعلم أن في معرفة
النفس الإنسانية اطلاعا على أمور كثيرة.
أحدها أنه بواسطتها يتوصل إلى معرفة غيرها ، ومن جهلها جهل كل ما
عداها.
والثاني أن النفس الإنساني مجمع الموجودات كما سيظهر ، فمن عرفها
فقد عرف الموجودات كلها ، ولذلك قال تعالى : (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ
ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ
وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ، تنبيها على أنهم لو تدبروا أنفسهم وعرفوها ، عرفوا
بمعرفتها حقائق الموجودات فانيها وباقيها ، وعرفوا بها حقيقة السماوات والأرض ،
ولما أنكروا البعث الذي هو لقاء ربهم وقال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ، وقال : (وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).
والثالث أن من عرف نفسه عرف العالم ، ومن عرف العالم صار في حكم
المشاهد لله تعالى ، لأنه خالق السماوات والأرض ، ولم يك كالكفرة الجهلة الذين
اتكلهم الله ووبخهم في جهلهم وانحطاطهم عن هذه المنزلة ، فقال فيهم : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً).
والرابع أنه يعرف بمعرفة روحه العالم الروحاني وبقاءها ، وبمعرفة
جسده العالم الجسداني ودثورها وفناءها ، فيعرف خسة الفانيات الداثرات ، وشرف
الباقيات الصالحات ، كما قال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
والخامس أن من عرف نفسه عرف أعداءه الكامنة فيها المشار إليه بقوله
صلىاللهعليهوآله «أعدى عدوك نفسك
التي بين جنبيك» فيستعيذ منها ، كما في قولهم عليهمالسلام : «اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ، وقوله : لا
تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك» ، ومن عرف أعاديه الكامنة ومكايدها وكيفية
انبعاثها ، أحسن أن يحترز منها وأن يجاهدها ، فيستحق ما وعد الله به المجاهدين في
سبيله ، ومن لم يعرفها فجدير أن يتراءى له عدوه الذي هواه بصورة العقل ، فيسول له
الباطل بصورة الحق ، كما قال : (أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ، وقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، وكما ورد في قوله صلىاللهعليهوآله : الهوى شيطان ، وقوله : الهوى إله يعبد من دون الله ،
وروي أيضا أنه قال : ما عبد في الأرض إله أبغض إلى الله تعالى من الهوى ، ثم تلا (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ).
والسادس أن من عرف نفسه عرف أن يسوسها ، ومن أحسن أن يسوس نفسه
وجنودها أحسن أن يسوس العالم فيستحق أن يصير من خلفاء الله تعالى المذكورة في قوله
تعالى ، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ) ، ومن الملوك المذكورة في قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً).
السابع أن من عرفها لم يجد عيبا في أحد إلا رءاه موجودا في ذاته ،
إما ظاهرا مشهودا وإما كامنا كمون النار في الحجر ، فلا يكون غيابا همازا لمازا
معجبا متفاخرا ، فإن كل عيب تراءى له من غيره وجده في نفسه ، ومن تراءى له عيب
نفسه فجدير به أن يكون ممن دعا له النبي صلىاللهعليهوآله بقوله : رحم الله من أشغله عيبه عن عيب غيره.
والثامن أن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وقد روي أنه ما أنزل الله
كتابا إلا وفيه ، اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك ، وفي الخبر ثلاثة تأويلات.
أحدها أن بمعرفة النفس يتوصل إلى معرفة الرب ، كقولك : اعرف
العربية تعرف الفقه ، أي بمعرفة العربية يتوصل إلى معرفة الفقه ، وإن كان بينهما
وسائط.
والثاني أنه إذا حصل معرفتها حصل بحصول معرفتها معرفة الله بلا
فاصل ، كقولك : بطلوع الشمس يحصل الضوء ، مقترنا بها وبطلوعها غير متأخر عنه
بزمان.
والثالث أن معرفة الله ليست تحصل إلا أن تعرف النفس ، لأنك إذا
عرفتها على الحقيقة تعرف العالم ، وإذا عرفت العالم تعرف الحق تعالى.
وفيه وجه رابع وهو
أنك إذا عرفت النفس فقد عرفت الرب ، وهذا هو الغاية في معرفته ، لا يمكن لك فوق
هذه المعرفة ، وإليه الإشارة بما قال علي عليهالسلام : إن العقل لإقامة رسم العبودية لا لإدراك الربوبية ، ثم
تنفس الصعداء وأنشأ يقول :
كيفية النفس ليس
المرء يدركها
|
|
فكيف معرفة
الجبار في القدم
|
هو الذي أنشأ
الأشياء مبتدعا
|
|
فكيف يدركه
مستحدث النسم
|
وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، تنبيه على أنهم لو عرفوا أنفسهم لعرفوا الله ، فلما
جهلوا دل جهلهم إياه على جهلهم أنفسهم.
قاعدة
في
الإشارة إلى قوى الأشياء التي جمعت في الإنسان
قد جمع الله فيه
قوى العالم ، وأوجده بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه ، قال تعالى تنبيها على ذلك ،
(الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ، فإنه تعالى أوجد فيه بسائط العالم ومركباته وروحانياته
وجسمانياته ومبدعاته ومكوناته ، فالإنسان من حيث إنه جمع فيه جميع ما وجد في
العالم من أقسام الجواهر والأعراض والبسائط والمركبات والأرواح والأجسام هو العالم
ومن حيث إنه صغر شكله وجمع فيه قوى العالم ، فهو كالمختصر من الكتاب والنسخة
الموجزة المنتخبة منه ، لأن المختصر الموجز من الكتاب هو الذي قلل لفظه واستوفى
معناه ، والإنسان هو هكذا إذا قابلناه مع العالم ، ومن حيث إنه صفوة العالم ولبابه
وخلاصته وثمرته فهو كالزبد من المخيض والدهن من السمسم والزيت من الزيتونة ،
ومعرفة الله فيه إذا حصلت فكنور المصباح إذا اشتعل الزيت ، قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) ، أي في قلب المؤمن كما في قراءة ابن مسعود (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ
فِي زُجاجَةٍ) الآية ، فالمشكاة البدن ، والزجاجة الروح الحيواني التي هي
بمنزلة المرآة لصفائها وقبولها لصور المحسوسات ، التي هي عكوس الصور الحقيقية
وأشباحها المثالية ، والزيت القوة القدسية التي هي أفضل ضروب العقل الهيولاني ،
وهو أول درجة النفس الناطقة وآخر درجة النفس الحساسة ، وهو بعينه القوة الخيالية
عندنا ، لأنها أيضا مجرد عن البدن موجودة لا في عالم الطبيعة ، بل فيما فوق هذا
العالم ، والشجرة المباركة هي القوة الفكرية التي هي أفضل ضرب من القوة الخيالية ،
لأنها إذا قويت تصير متفكرة.
فإذن نقول في بيان
أن الإنسان مطابق للعالم : إن فيه أشياء هي أمثال ما في العالم الكبير ، ففيه
أشياء كالعناصر من حيث ما فيه من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، أو من حيث
ما فيه الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) ، أي مختلطة من قوى أمور مختلفة ، وفيه أشياء كالمعادن
والجبال من حيث ما فيه من العظام والأعضاء ، وشيء كالنبات من حيث ما يتغذى وينمو
ويولد ، وشيء كالبهيمة من حيث ما يحس ويتخيل ويلتذ ويتألم ويشتهي ويغضب ، وشيء
كالسباع من حيث ما يحارب ويصول ، وكالشيطان من حيث ما يغوي ويضل ، وكالملائكة من
حيث ما يعرف الله ويعبده ويهلله ويحمده ويسبحه ويقدسه ، وكاللوح المحفوظ لقوة حفظه
لمدركات الأشياء أو من حيث ما جعله مجمع الحكم التي كتبها فيه على سبيل الاختصار.
وقد ذكر بعض
الحكماء أن في بدن الإنسان أربعة آلاف حكمة وفي نفسه قريبا من ذلك ، وكالقلم من
حيث ما يستحضر ويستثبت صور المعقولات في نفسه على وجه التفصيل بقوة عقله البسيط
الذي كمن فيه الكل على وجه الإجمال ، أو من حيث ما يثبت بكلامه صور الأشياء في
قلوب الناس ، كما أن القلم يثبت الحكم والعلوم في اللوح المحفوظ وقلوب الملائكة ،
ولأجل صحة المطابقة بين الإنسان والعالم قال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).
قاعدة
في
ذكر تكون الإنسان شيئا فشيئا حتى يصير إنسانا كاملا
الإنسان يتكون
أولا من أمر عدمي ، وهي قوة هيولانية ، وإليه الإشارة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، ويتكون أيضا جمادا ميتا ، لقوله تعالى : (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ، وذلك حيث كان ترابا وطينا وصلصالا ونحوها ، ثم يصير
نباتا ناميا لقوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، وذلك حيث ما كان نطفة وعلقة ومضغة ، ثم يصير حيوانا
لقوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، ثم يصير إنسانا بشريا متفكرا متصرفا في الأمور ، لقوله :
(إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، وقوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ، ثم يصير إنسانا معنويا ذا نفس ناطقة ، لقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، ثم يصير إن ساعده التوفيق والعناية جوهرا قدسيا وروحا
إلهيا ، لقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).
وأول ما يظهر فيه
قوة النزاع الموجودة في النبات والحيوان وهو الميل إلى الملائم ميلا بالطبع ، ثم
قوة تناول الموافق ودفع المخالف ، وهي قوة الشهوة والنفره ، ثم الإحساس ثم التخيل
ثم التصور ثم التفكر ثم التعقل النفساني التفصيلي ثم العقل البسيط الإجمالي ، لكنه
لم يصر إنسانا إلا بالفكرة وبالعقل الذي به يتميز في الجملة بين الحلال والحرام في
الأفعال ، وبين الخير والشر في الذوات ، والجميل والقبيح في الصفات ، وهو أول درجة
الإنسانية.
وإلى العقل أشار
بقوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، فالإنسان صار بعقله معدن العلم ومركز الحكمة ، ووجود
العقل فيه في ابتداء الأمر بالقوة ، كوجود النار في الحجر المحتاج في أن يوري إلى
القدح وكوجود النخل في النواة المحتاج في أن يثمر إلى غرس وسقي ، ونفس الإنسان
واقعة بين عالمين عالم الملكوت وعالم الملك ، بل بين قوتين قوة العقل وقوة الشهوة
، فبقوة الشهوة يحرص على تناول اللذات والمشتهيات البهيمية والسبعية ، وبقوة العقل
يحرص على تناول العلوم الحكمية والأفعال الجميلة ، وإلى هاتين القوتين أشار بقوله
: (إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، والأغلب على أكثر الناس هي قوة الشهوة والميل إلى الدنيا
، ولذلك قال تعالى : (كَلَّا بَلْ
تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) ، ولذلك قال صلىاللهعليهوآله : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، ولأجله لا
يستغني أكثر الناس في سلوك طريق الآخرة عن سياسة قاهر زاجر إياه ، حتى ورد أنه قال
عليهالسلام : يا عجبا لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
وبالجملة فذات
الإنسان من حيث ما اجتمع قوى جميع الموجودات صار معدن آثارها ومجمع حقائقها ،
مستودعا فيه معاني العالم ، وكأنه مركب من جماد ونبات وبهائم وسباع وشياطين
وملائكة ، ولذلك يظهر في شعار كل واحد منها ، فيجري تارة مجرى الجمادات في الكسل
وقلة التحرك والانبعاث ، وعلى هذا نبه بقوله : (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، وقد يظهر في شعار النباتات الجميلة والذميمة ، فيصير إما
كالأترج في لونه وطيبه وطعمه ، أو كالنخل والكرم في المنافع ، أو كالحنظل في خبث
المذاق ، وكالكشوث في عدم الخير ، وعلى هذا نبه بقوله : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) و (مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) الآية ، ويظهر تارة في شعار الحيوانات المحمودة أو
المذمومة ، فيصير إما كالنحل في كثرة منافعه وقلة مضاره وفي حسن سياسته ، كما في
قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) الآية ، او كالخنزير في الشره ، او كالذئب في العيث ، أو كالكلب في الحرص ، أو كالنمل في الجمع والادخار ، او
كالفأرة في السرقة ، أو كالثعلب في المراوغة ، أو كالقرد في المحاكاة ، أو كالحمار في البلادة ، أو
كالثور في الأكل ، وإلى هذا النحو من المشابهات دل بقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، ويظهر تارة في صفات الشياطين ويسول الباطل في صورة الحق
كما دل بقوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).
وأفضل قوة فيه
التي بها يستحق خلافة الله في العالم هي القوة العقلية ، وأشرف صفاتها التي بها
يفوق على الملائكة كلها هي العلم والحكمة ، كما جعل الله النبات زبدة العناصر
والحيوان زبدة النبات ، وجعل الإنسان سلالة العالم وزبدته ، وهو المخصوص بالكرامة
، كما قال : (وَلَقَدْ
__________________
كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) الآية ، فكذا جعل قوة العقل والمعرفة غاية وجود الإنسان
والغرض منه ، إذ ليس فضل الإنسان بقوة الجسم ، فالفيل والبعير أقوى منه أجساما ،
ولا بطول البقاء في الدنيا ، فالنسر والفيل أطول منه عمرا ، ولا بقوة الغضب وشدة
البطش ، فالأسد والنمر منه أشد بطشا ، ولا باللباس والزينة ، فالطاوس والدراج أحسن
منه لباسا ، ولا بقوة النكاح ، فالحمار والعصفور أقوى منه نكاحا ، ولا بكثرة الذهب
والفضة ، فالمعادن والجبال أكثر منه ذهبا وفضة ، وما أحسن قول الشاعر.
لو لا العقول
لكان أدنى ضيغم
|
|
أدنى إلى شرف من
الإنسان
|
لما تفاضلت
النفوس ودبرت
|
|
أيدي الكماة
عوالي المران
|
وليس فضل الناس
على غيره بعنصره الموجود منه ، كما زعم إبليس اللعين حيث قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ) ، بل ذلك بما خصه الله تعالى من المعنى الذي ضمنه فيه ،
والأمر الذي أعطاه له وبه استحق سجدة الملائكة ، فأشار إليه بقوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، والملئكة لما تنبهوا بذلك فأذعنوا وسجدوا له ، كما أمرهم
الله ، وإبليس لما نظر ظاهر آدم ومبدأ أمره تغلظ وتعامى فيما ذكره الله تعالى ،
ولم يتأمل المعنى الذي ضمنه الله فيه ، والعاقبة التي حوله الله إليها (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) ، وقد اقتدى بإبليس الكفار في رد الأنبياء حيث «قالوا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) ، وقوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، ونبه الله تعالى أن الاعتبار بفضلهم ليس بظاهر أبدانهم ،
وإنما ذلك لمعنى مستودع في نفوسهم تعمى الكفار عنها فقال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ
لا يُبْصِرُونَ) ، أي لا يعرفون ما فضلهم الله به (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ... (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ..
قاعدة
في
تفاوت أفراد الناس واختلافهم
الأشياء كلها
متساوية غير متفاوته من حيث إنها مصنوعة بحكمة صانع واحد حكيم ، وعلى ذلك نبه
بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، وذلك لاشتراكها بقبول فيض الرحمة والجود ، ولاتفاقها في
التوجه إلى جانب الحق المعبود ، ولكن يختلف من حيث إن كل نوع يختص بمعنى معين وحد
محدود ، بعد اتفاقها في الاتصاف بالوجود ، فاختلاف الماهيات أنما نشأ من اختلاف
مراتبها في القرب والبعد من منبع الوجود ومعدن الفيض والجود ، وكذلك يختلف أفراد
ماهية واحدة بعد اتفاقها في النوع بأمور لاحقة لها مخصصة لأفرادها ، ثم لا شيء من
أفراد نوع واحد أكثر اختلافا وتفاوتا من أفراد البشر ، كما قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ، وقال : (وَرَفَعْنا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ، وقال : (انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً).
واعلم أن اختلاف
أفراد الإنسان بحسب هذه النشأة اختلاف بالعوارض ، وبحسب النشأة الآخروية اختلاف
بالذاتيات ، وتحقيق ذلك موكول إلى بعض كتبنا ، وسنشير إليه فيما سيأتي من أحوال
المعاد ، وقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ، وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ).
واعلم أن الحكمة
مقتضية لاختلاف الناس في هذه النشأة ، وذلك لأن الإنسان لما كان غير مكفي بتفرده
لأن يعيش ، حتى لو أن إنسانا حصل وحده لامتنع أو تعذر بقاؤه أدنى مدة ، فإن أول ما
يحتاج إليه ما يغذوه وما يواريه ، وليس يجد ما يغذوه مطبوخا ، ولا ما يواريه
مصنوعا ، كما يكون لكثير من الحيوانات بل هو مضطر إلى إصلاحهما ، وإصلاح شيء منهما
يحوجه إلى آلات غير مفروغ عنها ، والإنسان الواحد لا توصل له إلى إعداد جميع ما
يحتاج لتعيش به المعيشة الحميدة ، فلم يكن بد للناس ممن
يشارك ويعاون ،
فجعل لكل قوم صنعة وهيئة مفارقة للصنعة الأخرى وهيئاتها ، فقسمت الصناعات بينهم
كما قال : (نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) ، فيتولى كل صنعا من الصناعات فيتعاطاه باهتزاز ، كما قال
: (فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، فاقتضى ذلك أن يختلف جثثهم وقواهم وهممهم وأغراضهم ،
ليكون كل ميسرا لما خلق له ، وقال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ) ، فيكون معايشهم مقتسمة بينهم كما نبه تعالى بالآيات
المتقدمة ويمثل قوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ
النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) ، فالناس إذا اعتبروا من حيث اختلاف أغراضهم ودواعيهم
وهممهم فهم في تعاطي صناعاتهم في حكم المسخرين ، وإن كانوا في الظاهر من المختارين
، وقد وقعت الإشارة إلى ما يتعلق بالمصلحة بتباين الناس في ما روي أنه قال صلىاللهعليهوآله : لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا.
تذكرة فيها تبصرة
واعلم أن أسباب
تفاوت الناس في الصنائع والأغراض أمور سبعة.
أولها اختلاف الأمزجة وتفاوت الطينة واختلاف الخلقه ، كما أشير
إليه فيما روي «إن الله لما أراد خلق آدم أمر أن يؤخذ قبضة من كل أرض فجاء بنو آدم
على قدر طينتها الأحمر والأبيض والأسود والسهل والحزن والطيب والخبيث» ، وإلى هذا
أشار بقوله : (وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ
إِلَّا نَكِداً) ، وبقوله : (هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ).
وثانيها اختلاف أحوال الوالدين في الصلاح والفساد ، وذلك أن
الإنسان قد يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة أو قبيحها ، كما يرث
تشابههما في خلقتهما ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما
صالِحاً) ، وعلى نحو ما روي أنه قال في التوراة إني إذا رضيت باركت
، وإن بركتي
لتبلغ البطن
السابع ، وإذا سخطت لعنت وإن لعنتي لتبلغ البطن السابع تنبيها على أن الخير والشر
الذي يكتسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثره موروثا إلى البطن السابع.
والثالث اختلاف ما يتكون منه النطفة التي تكون منها الولد ، ودم
الطمث الذي يتربى به ، فلذلك تأثر بحسب طيب ما يكونان منه وخبثه ، ولهذا قال صلىاللهعليهوآله : تخيروا لنطفكم ، وقال : الناكح غارس فلينظر أين يضع غرسه
، وقال : إياكم وخضراء الدمن قيل وما خضراء الدمن ، قال : المرأة الحسناء في منبت
السوء.
ورابعها اختلاف ما يتغذى به من طيب الرضاع وطيب المطعم الذي يتربى
به ، ولتأثير الرضاع الطيب ورد في الحديث «الرضاع يغير الطباع» ، ويقول العرب لمن
تصفه بالفضل «لله درك».
وخامسها اختلاف أحوالهم في تأديبهم وتلقينهم وتعويدهم العادات
الحسنة والقبيحة ، فحق الوالد أن يأخذ الولد بالآداب الشرعية ، وإخطار الحق بباله
، وتعويده فعل الخيرات ، كما قال صلىاللهعليهوآله : مروهم بالصلاة لسبع ، واضربوهم لعشر ، ويجب أن يصان عن
مجالسة الأردياء في حال صباه ، فإنه كالشمعة يتشكل بكل شكل ، وأن يحسن في عينه
الكرامة والشرف والمدح ، ويقبح عنده المهانة والمذلة والخسة والذم ، ويعوده مخالفة
الشهوة ومجانبة الهوى ، قال بعض الحكماء : من سعادة الإنسان أن يتفق له في صباه من
يعوده تعاطى الشريعة ، حتى إذا بلغ الحلم وعرف وجوبها فوجدها مطابقة لما يعودها
قويت بصيرته ونفذت في تعاطيها.
وسادسها من يتخصص به ، فيأخذ طريقة فيما يتمذهب به.
وسابعها اختلاف اجتهاده في تزكية نفسه بالعلم والعمل حين استقلاله
بنفسه.
فالفاضل التام
الفضيلة من اجتمعت له هذه الأسباب المسعدة ، وهو أن يكون طيب الطينة معتدل الأمزجة
، جاريا في أصلاب آباء صلحاء ذوي أمانة واستقامة ، متكونا من نطفة طيبة ودم طمث
طيب على مقتضى الشرع ،
ومرتضع بدر طيب ،
مأخوذا في صغره من قبل مربية بالآداب الصالحة ، وبالصيانة عن مصاحبة الأشرار ،
ومتخصصا بعد بلوغه بمذهب حق ، ومجتهدا بنفسه في تعرف الحق مسارعا إلى الخير فمن
وفق في هذه الأشياء يجمع فيه الخيرات من جميع الجهات ، كما قال تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، ويكون جديرا أن يعد ممن وصفه الله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) ، والرذل التام الرذيلة ، هو من يكون بعكس ذلك في الأمور
التي ذكرناها.
قاعدة
في
أن أفراد البشر ذوات نفوس حيوانية جزئية مجردة
كلها
عن البدن الطبيعي لا عن الصورة المثالية
اعلم أن لكل من
أفراد البشر قوة خيالية يحضر عندها الصور الإدراكية الغير الموجودة في مواد هذا
العالم ، إذ ليست هي ذوات جهات وأوضاع وأحياز من هذا العالم الطبيعي ، وكل قوة هذا
شأنها فهي مجردة الذات عن المواد الطبيعية ، فلكل من أفراد البشر خيال بالفعل ،
ولأجل ذلك يحشرون في الآخرة ويبعثون إلى عالم آخر قوله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) ، ولسائر الحيوانات نفوس حساسة بالفعل متخيلة بالقوة ،
فليس لها نشأة أخرى ، ولا حشر ولا نشر ، اللهم إلا على ضرب آخر لا على وجه
الامتياز والاستقلال كما بيناه في بعض رسائلنا.
قاعدة
في
أن أفراد الإنسان تصير متخالفة الحقائق والماهيات في
آخر
الأمر بحسب الباطن ، بعد ما كانت متفقة الحقيقة
والماهية
في بداية الخلقة ، بيان ذلك
أن النفس
الإنسانية هي آخر الصور الجسمانية وأفضلها ، وأول
المعاني الروحانية
وأدونها ، لأنها جسمانية الحدوث روحانية البقاء ، وأنها إنما تحدث بسبب استعداد
البدن ، وتبقى بسبب ملكات نفسانية راسخة تصير صورة ذاته ، وتخرج بها من القوة إلى
الفعل ، لأنها في أول الحدوث أمر بالفعل في هذه النشأة الطبيعية ، وهي بعينها أمر
بالقوة في النشأة الآخرة ، فهي صورة في هذا العالم وهيولى في عالم آخر ، فلها أن
تخرج ذاتها من القوة إلى الفعل بواسطة حركات واستحالات نفسانية تستعد بها لصورة من
أجناس الصور الأخروية وتتحد بها ، وتصير ذاتها بعينها كالهيولى للأجسام الطبيعية
أن يخرج من القوة إلى الفعل بواسطة حركات جسمانية تستعد بها لصورة من أجناس الصور
الدنياوية ويتحد بها ، كما هو التحقيق من الاتحاد بين المادة والصورة ، وكما أن الله
خلق في هذا العالم من المادة الجسمانية أنواعا من الحيوانات كالسباع والبهائم
والوحوش والحيات والعقارب وغيرها ، فكذلك يخلق في الآخرة من المادة النفسانية من
الإنسان أنواعا من المخلوقات كالملك والشيطان والسبع والبهيمة وكل نوع من أنواع
الحيوانات ، وهي كلها مخلوقة من النفس الإنسانية ، والإنسان نوع واحد في هذا
العالم ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ) ، وستصير أنواعا من أجناس كثيرة متخالفة ، وفي القرآن آيات
كثيرة دالة على ما ذكرناه من التحقيق ، وهو مما ألهمنا الله به خاصة من بين أهل
النظر ولم أجد في كلام أحد من الحكماء وغيرهم ، والحمد لله العزيز الوهاب الذي
شرفنا به من بين الأصحاب ، منها قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) ، وقوله : (وَما كانَ النَّاسُ
إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
يعني حكم عليهم في
الدنيا بما هو مقتضى صور قلوبهم وظهورها في الخارج وتشكل أبدانهم بأشكال مناسبة
لهيئات نفوسهم كما في الآخرة ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، وقوله : (أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) ، وقوله : (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، وقوله : (وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) ، وقوله : (ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ) الآية ، وقوله في حق بلعم بن باعور : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) ، وفي حق حملة الأسفار من غير فهم : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) ، وقوله : (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) ، وقوله في حق بعض أفراد البشر (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) وفي حق بعض آخر (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ).
ولا شبهة في أن
نفس من هو خير الخلائق لا تساوي في الحقيقة النوعية لنفس من هو شر الخلائق ، وما
أشد في السخافة والبطلان قول من زعم أن نفس أفضل البرية خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله مع نفس أبي جهل متماثلان في تمام الحقيقة النوعية
الإنسانية ، وإنما التخالف بينهما بواسطة عوارض وأحوال خارجة عن تمام الماهية
النوعية وعن أصل الجوهر والذات.
واعلم أن الله قد
حكم بكفر من قال بأن نفس النبي صلىاللهعليهوآله مماثلة لنفوس سائر البشر في قوله : (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا
فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) ، وقوله تعالى : (أَبَشَراً مِنَّا
واحِداً نَتَّبِعُهُ) وأما قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فإنما ذلك بحسب هذه النشأة الظاهرة.
قاعدة
في
أن الروح الناطقة باقية بعد خراب البدن وبيانه على ما هو المشهور
أن أجزاء البدن
يتحلل ويتبدل والمدرك منك ثابت ، فلو كانت النفس تبطل ببطلان البدن لبطلت عند
التبدل ، كيف وعلاقتها مع الروح البخاري وهو أبدا في التحلل والسيلان ، ولأن كل ما
ينعدم فانما ينعدم بانعدام شيء من علله وأسبابه ، والنفس ليست لها مادة ولا صورة
بل صورتها ذاتها وفاعلها غير قابل للفناء ، وكذا غايتها ، وإذ لا محل لها فلا مضاد
ولا
مزاحم لها حتى
يبطلها أو يتغير به استعداد محلها ، وليس بينها وبين البدن إلا علاقة شوقية وهي
إضافة والإضافة أضعف الأعراض ، وزوالها لا يوجب زوال الذات المضافة ، وإلا لكان
أضعف الأعراض مقوما لوجود الجوهر وهو محال ، هذا خلاصة كلام الفلاسفة في هذا الباب
وفيه بحث من وجهين.
الأول أن النفس الإنسانية عندهم جوهر عقلي وإنها عندهم أولا عقل
بالقوة وإنما يصير عقلا بالفعل بعد مزاولة الاكتساب وتحصيل العلوم الحقيقية ، حتى
يخرج ذاتها من القوة إلى الفعل ، فقبل صيرورتها عقلا كيف يبقى بدون البدن مستقل
الوجود مفارق الذات ، فإن كل مفارقة الذات مستقل الوجود عندهم عقل بالفعل ، وكل
عقل بالفعل كامل في العلم والمعرفة ، والمقدر خلافه ، هذا خلف ، ولهذا وقع
الاختلاف بين تلامذة المعلم الأول وشراح كلامه في بقاء العقل الهيولاني بعد بوار
البدن ، فذهب الإسكندر الأفروديسي إلى أن النفوس الإنسانية إذا فارقت الأبدان وهي
هيولانية ، فإنها تبطل إذ لم يتصور بشيء من الصور العقليه التي تقوم بها بالفعل ،
وأما ثامسطيوس فإنه كان يخالفه في هذا الرأي ويرى أن هذه القوة باقية ، وأما
رئيسهم أبو علي فقد مال إلى مذهب ثامسطيوس في أكثر كتبه ومال إلى مذهب الإسكندر في
بعض رسائله.
واعلم أن الموافق
لأصول الفلاسفة القائلين بعرضية القوة الخيالية ، الغافلين عن جوهريتها وقوامها
بذاتها لا بالعضو الدماغي ، هو المذهب الأول لما أشرنا إليه من أن المادة العقلية
لا وجود ولا بقاء لها إلا بصورة عقلية تقومها بالفعل.
وأما ما رأينا
وتفردنا بإثباته بالبرهان من تجرد القوة الخيالية عن البدن الطبيعي ، واتحادها
ببدن محشور باق في عالم البرزخ ، فجميع نفوس الإنسانية حتى العوام والصبيان باقية
بعد هذا البدن ، كما هو موافق للشريعة والكتاب والسنة ، بل هو من ضروريات الملة
الحنيفة.
وثانيهما أن نفسية النفس نحو وجودها الخاص الذي يلزمه الإضافة إلى
البدن الطبيعي ، وليست هذه الإضافة كإضافة الأشياء التي عرضت
لها الإضافة بعد
تمام وجودها وهويتها ، كالملك والربان والرئيس والأب وغير ذلك مما يعرض له الإضافة
بعد تمام الذات فالإضافة التي من قبيل القسم الأول يزول بزوالها ذات المضافة
بنفسها كهيولية الهيولى ، وكذا حكم نفسية النفس ، فيلزمهم بطلان جوهر النفوس
ببطلان إضافاتها إلى البدن ، اللهم إلا أن يذهبوا إلى ما ذهبنا إليه من إثبات
الحركة الجوهرية وإثبات الاشتداد في وجود الجوهر النفساني ، كما دلت عليه البراهين
المذكورة في كتبنا ، والآيات القرآنية المذكورة آنفا ، والمتأخرون من الحكماء كأبي
علي ومن يحذو حذوه مصرون غاية الإصرار في نفي هذه الاستحالة الجوهرية ، ولذلك
قصروا وعجزوا عن إثبات كثير من المقاصد الحقة ، كحدوث الأجسام ودثور العالم
الطبيعي كله ، وكاتحاد العاقل بالمعقول ، وكإثبات المعاد الجسماني ، وبقاء أكثر
النفوس وهي الناقصة والمتوسطة في الكمال وغير ذلك من المطالب الشريفة التي من
أوتيها (فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً).
أما الآيات الدالة
على بقاء النفوس بعد خراب هذا البدن الطبيعي فكثيرة منها قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وكان المراد من هذه الحياة هي الحياة العقلية المختصة
بالكاملين في العلم ، فإنهم الأحياء حياة عقلية ، الساكنون في حظيرة القدس عند
ربهم المرزوقون بالأرزاق المعنوية والأنوار العقلية ، ويكون فرحهم أي ابتهاجهم
ولذتهم العقلية بالحكمة لا بغيرها من اللذات الحسية والخيالية ، وقد وقع التعبير
عن الحكمة بما آتاهم الله من فضله على وفاق قوله : (مَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ، وقوله في سورة الجمعة بعد ذكر تعليم الكتاب والحكمة : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، فعلم أن المراد هاهنا بما آتاهم الله من فضله هو بعينه
المذكور في تينك الآيتين ، ومنها قوله : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ، وقوله : (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) ، وقوله : (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) ، وقوله : (إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) ، وقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، وقوله : (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقوله : (إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) و (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) ، والمراد منه كتاب النفس ، وكذا قوله : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) ، فإن النفوس في هذا العالم مطوية بما فيها من الهيئات
والنقوش ، والأجسام بما فيها من الأعراض والصور منشورة ، وفي الآخرة بالعكس من ذلك
، فإن أجرام السماوات مطوية هناك لقوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، والأجرام الأرضية مقبوضة لقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) ، والنفوس والأرواح مكشوفة بارزة.
واعلم أن جمهور
الفلاسفة لم يعلموا من حقيقة الروح وماهية النفس إلا قدرا يسيرا ، يلزم من أحوال
بعض مراتبها ومقاماتها من جهة ما نظروا في أحوال البدن وعوارضه ، وذلك مثل كونها
مدركة مدبرة ، وهاتان صفتان نسبيتان يشترك فيهما الحيوانات ، وأما ما ادركوا من
بقائها بعد انقطاع تصرفها عن البدن فإنما عرفوا ذلك من كونها محل العلوم ، وإن
العلم لا ينقسم ، فلا يتصور انقسام محله ، وفيه مواضع أنظار كما ذكرناه في كتبنا
العقلية ، سيما عند المحقق العارف أنه ليس العلم بالحقائق العقلية بحلول صورتها في
النفس ، وأما الحكم بكونها قبل البدن فأكثرهم أنكروا ذلك ، ومن قال منهم به فلم
يقم عليه برهانا ولم يقدر على دفع الشكوك الواردة على ذلك ، ولم يمكنه اختيار أحد
الشقين ، من كون النفس قبل البدن هل كانت واحدة أو كثيرة ، لأنه يلزم على كل من
الشقين ما يخالف أصولهم الاعتقادية ، وإذا كان حال هؤلاء العقلاء الفضلاء من أمر
النفس هكذا ، فكيف حال من سواهم من أهل الجدال وأولى وساوس الخيال ، ولأجل ذلك قال
تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً).
قاعدة
في
بطلان التناسخ
التناسخ أعني
انتقال النفس الشخصية من بدن إلى بدن محال ، سواء كان البدن عنصريا أو فلكيا أو
طبيعيا أو برزخيا ، ببرهان أفادنا الله تعالى إياه ، وهو أن النفس في أول تكونها
الطبيعي متحدة مع البدن ، وهي بالقوة في كل ما لها من الأحوال والإدراكات ، حتى في
كونها حساسة ، ثم يتدرج في الاشتداد والترقي ، فيصير أولا طبيعية حافظة ، ثم جوهرا
غاذيا منميا مولدا ، ثم حساسا على التدريج من أكثف الحواس إلى ألطفها ، فكانت أولا
قوة اللمس ثم الذوق ثم الشم ثم السمع والبصر ثم يصير متخيلا ، وهاهنا أوان تجرده
عن البدن الطبيعي كما أشرنا إليه ، ثم يصير متفكرا ذاكرا ، ثم عاقلا ومعقولا ،
وعند ذلك أوان تجردها عن العالمين ومفارقته للنشأتين ، فقد بان أن للنفس قبل
تجردها مطلقا مقامات طبيعية ، يناسب كل منها لمزاج خاص وتكون معين ، وسن مخصوص من
أسنان البدن من الجنينية والطفولية والصبوية المراهقية والشباب والكهولة والشيخوخة
والموت والبعث.
وبالجملة النفس
والبدن يتحركان معا في التحولات الطبيعية ، ويستكملان معا في الكمالات التي تناسب
كلا منهما بحسبه إلى أن يقع لها التفرد بذاتها منسلخة عن البدن ، والحاصل أن لكل
طبيعة حركة جوهرية ذاتية إلى غاية ما ، ولها في كل حد من حدود الانتقال مرتبة من
الوجود يكون بحسبها فعلا وقوة ، فعلا بالقياس إلى سابقها ، وقوة بالقياس إلى
لاحقها ، وكل موجود صار بالفعل شيئا ، فلا يمكن عوده إلى الحالة التي كانت فيها
بالقوة ، ولأن الحركات الطبيعية متوجهة إلى ما لها من الكمال ، فيمتنع أن يقع شيء
منها على وجه الانتكاس مخالفا للمجرى الطبيعي.
فإذا تمهد هذا
فنقول : كما لا يمكن أن تصير القوة الحيوانية نباتية ولا النباتية معدنية ولا
المعدنية صورة عنصرية على عكس ما هو المجرى
الطبيعي الذي فطر
الله الأشياء عليه ، فكذا يمتنع أن يتعلق النفس التي كانت متعلقة ببدن وخرجت في
بعض ما لها من الأحوال من القوة إلى الفعل تارة أخرى بمادة بدنية حادثة عند أول
تكونها كالنطفة أو الجنين ونحو ذلك ، فإن النفس المنسلخة عن بدن من الأبدان قد
خرجت في بعض ما لها من كمالات الوجود من القوة إلى الفعل ، وظاهر أنها لا يمكن فرض
تعلقها الثانوي ببدن جديد إلا عند حدوثه وأول تكونه ، فإذن يلزم من انتقال النفس
إلى بدن آخر كون إنسان واحد بحيث يكون نفسه بالفعل وبدنه بالقوة ، وهذا محال كما
أوضحناه ، فثبت أن التناسخ بالمعنى المذكور محال.
أما التناسخ بمعنى
تحول النفس وانتقالها على سبيل الاتصال من نوع إلى نوع فليس بممتنع ، كنقل الصورة
الطبيعية لمادة خلقة الإنسان من الجمادية إلى النباتية ومنها إلى الحيوانية ومنها
إلى الإنسانية ثم إلى الملكية وما بعدها ، أو على وجه النزول كما في أمة موسى عليهالسلام ظاهرا وفي هذه الأمة باطنا ، وهذا الانتقال على وجه النزول
لا ينافي ما ذكرناه آنفا ، من توجه كل نفس إلى ما فوقها ، وذلك لأن الخروج من
القوة إلى الفعل في شيء من الكمالات الحيوانية لا ينافي الشقاوة في الآخرة بل
يؤكده ، فإن الطرق إلى الدار الآخرة متفاوتة ، بعضها طرق السعادة والوصول إلى دار
الكرامة والقرب من عند الله ، وبعضها طرق الشقاوة والوصول إلى دار الانتقام والبعد
من رضوانه.
ومما ورد في مسخ
الباطن لهذه الأمة هو قول النبي صلىاللهعليهوآله في حق طائفة : إخوان العلانية أعداء السريرة ، يلبسون جلود
الكباش وقلوبهم كالذئاب ، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر.
كشف خفاء لبسط ضياء
اعلم أن ما نسب
إلى قدماء الحكماء كالفلاطن ومن سبقه من أساطين الحكمة وهم المقتبسون أنوار علومهم
من مشكاة النبوة ، هو بعينه ما ورد
في الشرائع الحقة
الإلهية من صيرورة النفوس الآدمية على صور أنواع الحيوانات ، مناسبة لأعمالهم
وأفعالهم المؤدية إلى ملكاتهم ، ولهذا قيل : ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ
، ثم إن المتأخرين كأبي نصر وأبي علي ومن يقتفي أثرهما ، لما لم يظفروا بتحقيق
النشأة الأخروية الجزئية للنفوس الحيوانية المنسلخة عن الأبدان الطبيعية ، التجئوا
تارة إلى القول بأن النفوس الشقية الفاجرة ينتقل بعد هذا البدن إلى أبدان
الحيوانات الصامتة في جهنم ، وهي عالم العناصر عندهم والنفوس الكاملة العارفة
يرتقى إلى عالم السماوات وهي الجنة عندهم ، وهذا ما ذهب إليه إخوان الصفا ، وتارة
التجئوا إلى القول بأن بعض النفوس كنفوس البله والعوام لا حشر لها ، وأن بعض
الصلحاء الغير العارفين ينتقل نفوسهم ببعض الأجرام السماوية وتصير موضوعا
لتخيلاتهم حسب ما وعدهم الشريعة ، ونفوس الأشقياء أيضا يتعلق بتلك الأجرام ، وعند
بعضهم كصاحب التلويحات تتعلق هذه النفوس الشقية بجرم دخاني غير منخرق تحت كرة
القمر وفوق العناصر ، وكل هذه الأقوال خروج عن طريق الصواب وانحراف عن جادة الحق ،
وقد علمت من طريقتنا خراب الأفلاك ومن فيها فضلا عما تحتها ، وأيضا لزوم التناسخ
المستحيل بحاله ، وأيضا الجسم التام الصورة والكمال يستحيل أن يصير منفعلا عن مؤثر
آخر ليس طبيعة له ولا مدبرا لجرمه ، وما لم ينفعل عن مؤثر آخر كيف يصير موضوعا
لتصرفاته وتأثيراته.
والعارف بكيفية
ارتباط النفس بالأجرام الطبيعية يكفيه في الحكم بفساد ما ذكروه أدنى تأمل ، بل
الحق القراح ما لوحناك إليه من تصور النفوس بصور ملكاتهم وهيئاتهم ، وهي أبدانهم
المكتسبة المحشورة في النشأة الآخرة ، وتلك الأبدان معلقة ليست قائمة بمادة طبيعية
، ولا في جهة من جهات العالم الوضعي ، ونسبتها إلى النفوس نسبة الفعل اللازم إلى
فاعله لا نسبة القابل إلى المقبول ، ولا نسبة المادة المستعدة لتعلق النفس إلى
النفس ، وهذا مطابق لما ذهب إليه أهل الشرائع الحقة وعليه يحمل كلام قدماء الحكماء
في باب التناسخ ، وهو المراد من الآيات القرآنية الدالة
على المسخ ، كقوله
تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ، وقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ، وقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقوله : (وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ، وقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) ، وقوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) ، إشارة إلى انقلاب جواهر نفوسهم إلى نفوس الوحوش لغلبة
صفاتها عليهم ، فتصورت نفوسهم في القيامة بصورة الحيوانات الوحشية ، المناسبة
لأخلاقها وهيئات نفوسها ، وكذا قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) ، وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) ، وقوله : (وَنَحْشُرُ
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) ، وقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى) ، وقوله : (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ، وقوله : (الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ
سَبِيلاً) ، وقوله : (وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ
أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) ، (وَيَوْمَ نَحْشُرُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، وقوله : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) ، إلى غير ذلك من الآيات المشيرة إلى تبديل الصور والأشكال
بواسطة تبدل الأخلاق والأحوال ، وكذا قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ
السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ، إياك وأن تظن من ظاهر هذه الآية وغيرها أن الجنة
وطبقاتها هي بعينها ظواهر أجرام السماوات كما زعمه الناقصون في العلم الذين يريدون
أن يدخلوا بيوت العلم من ظهورها ولا يدخلون البيوت من أبوابها ، فإن الجنة باقية
لأنها هي دار البقاء ، والأفلاك وما فيها دار الفناء ، وهي من عالم الدنيا ،
والجنة من عالم الآخرة وعالم الصورة الغائبة عن
هذه الحواس
الداثرة الطبيعية ، وأيضا إن الجنة كما لوحناه إليك تكون في داخل حجب السماوات والأرضين
، ومنزلتها من هذا العالم منزلة الجنين من الرحم ، فافهم إن كنت من أهله وإلا فغض
بصرك عن مطالعة هذا الكتاب والتدبر في غوامض علم القرآن ، وعليك بممارسة القصص
والأخبار والروايات ، وعلم السير والأنساب ، وتتبع العربية واللغة ، وتحمل الرواية
من غير دراية ، وما هو كالنتيجة عندك للكل من البحث عن المسائل الفرعية الخلافية ،
ونوادر تفريعات الطلاق والعتاق والسلم والإجارة والرهانة ، وقسمة المواريث
المشتملة فروضها على الكسور التي يدق فيها تحصيل المخرج ، إلى غير ذلك من المهمات
التي يحتاج إليها على الندرة بعض الآحاد في بعض الأوقات ، وقد نصب الله لها كسائر
الأمور التي هي أدون منزلة منها أقواما يعظمون الأمر فيها ويصرون عليها ويفرحون
بها ، و (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، وقيمة كل أحد على قدر همته ، (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ
أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) ... ، (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ومما يدل على
التناسخ المعنوى الأخروى ما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله من قوله : يحشر الناس على صور نياتهم ، وقوله صلىاللهعليهوآله : يحشر الناس على صورة يحسن عندها القردة والخنازير ،
وقوله : كما تعيشون تنامون وكما تنامون تبعثون ، وقوله ص : من خالف الإمام في
الصلاة يحشر ورأسه رأس حمار.
تذكرة قرآنية
قد انكشف لك فيما مر
وسيتضح لك زيادة إيضاح ، أن جميع أفراد الناس متوجهون بحسب ما أودع الله في
غرائزهم نحو المبدإ الأعلى ، فما من أحد إلا وفيه الحركة المعنوية نحو الآخرة ،
إلا أنهم متفاوتون في هذا التوجه والحركة الجبلية والسير الباطني بحسب جهات الحركة
ودرجات القرب والبعد ، فمنهم من يسعى نوره إلى الله وإلى جهة الآخرة ، لقوله تعالى
:
(نُورُهُمْ يَسْعى
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، ومنهم من يجذبهم العناية الإلهية بخطاب ارجعي كما قال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، ومنهم من يساق إلى الموت جبرا وقهرا بسطوة من سطوات سدنة
عالم الجحيم وسوط من سياط ملائكة العذاب ، كما أشير إليه بقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) وكذا عند المصير بعضهم فرحون بلقاء الله وبعضهم كارهون ،
ومن كره لقاء الله كره الله لقائه ، كما في قوله : (كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) ، وقوله : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) ، وبعضهم نواكس الرءوس من أعلى عليين ، كما في قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.)
المشهد الرابع
في بيان النبوة وأحكامها وفيه قواعد :
قاعدة
في
إثبات الشجرة النبوية وفضلها على جواهر سائر البرية
اقتضت الحكمة
الإلهية أن يكون الشجرة النبوية صنفا مفردا بل نوعا واقعا بين الإنسان وبين الملك
، جالسا في حد المشترك ، بين عالمي الملك والملكوت ، مشاركا لكل واحد منهما على
وجه ، فإنهم كالملائكة في اطلاعهم على ملكوت السماوات والأرض ، وكالبشر في أحوال
المطعم والمشرب والمنكح ، ومثلهم واقعا بين نوعين مختلفين مثل المرجان ، فإنه حجر
تشبه الأشجار يتشعب أغصانه ، وكالنخل فإنه شجر يشبه الحيوان في كونها محتاجة إلى
تلقيح ، وبطلانها إذا قطع رأسها ، وجعل سبحانه النبوة في ولد إبراهيم عليهالسلام ومن قبله في ولد نوح عليهالسلام ، كما نبه بقوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ) ، فهم عليهمالسلام وإن كانوا من حيث الأبدان بشريين أرضيين ، فهم من حيث
الأرواح ملكيون سماويون ، قد أيدوا بقوة روحانية قدسية خصوا بها ، كما قال في عيسى
عليهالسلام : (وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، وقال في محمد صلىاللهعليهوآله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، وتخصيصهم بهذا الروح ليمكنهم أن يقبلوا من الملائكة بما
بينهم من المناسبة الروحانية ، ويفيدوا للأمة بما بينهم من المناسبة ،
البشرية ، فلذلك
قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ، تنبيها على أنه ليس في قوة عامة البشر الذين لم يخصوا
بذلك الروح أن يقبلوا إلا من البشر ، ولما عمى الكفار عن إدراك هذه المنزلة ،
عزلوا الأنبياء عليهمالسلام من فضيلة النبوة وأنكروا منزلتهم ونبوتهم ومنزلة علمهم عليهمالسلام ، كما قال تعالى : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ، فالأنبياء بالإضافة إلى سائر الناس ، كالإنسان بالإضافة
إلى سائر الحيوانات ، وكالقلب بالقياس إلى سائر الأعضاء والجوارح ، وأيضا منزلة
الأنبياء من أممهم منزلة ضوء الشمس من الأرض ومنزلة علمهم وعلم وارثهم ونائبهم من
علم الأمم منزلة ضوء الشمس ونور القمر من ضوء نواحي الأرض كما قال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً) ، وكما أن وجه الأرض لا يستضيء إلا بنور الشمس والقمر
والنجوم ، ونور الشمس هو المفيض على القمر والنجوم وغيرها ، فكذلك منزلة علوم
الخلائق لا تحصل ولا يتزكى نفوسهم إلا بواسطة نبوة الأنبياء ، وعلى هذا دل بقوله :
(رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) ، وقوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) ، فالله تعالى يزكي الأنبياء بواسطة الملك ويزكي الناس
بواسطتهم ، كالطابع الذي حصل له كتابة ثم بواسطته تثبت في الشموع المختلفة مثل تلك
الكتابة ، ونسبة الملكية إلى نفس النبي صلىاللهعليهوآله كنسبة ضوء الشمس إلى جرمها ، ونسبتها إلى سائر الناس كنسبة
نور الشمس إلى سطوح الأرض.
قاعدة
في
هداية الله تعالى الأشياء إلى مصالحها
كلما أوجده الله
تعالى فإنه هداه لما فيه مصلحته ، كما نبه عليه بقوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدى) ، وهدايته لكل شيء ما يناسب خلقه ، فهدايته للجمادات
بالتسخير فقط ، كالأشياء الأرضية التي إذا خليت و
طبائعها ينحو نحو الأرض
، وكالنار ينحو نحو العلو ، وهدايته للحيوانات إلى أفعال يتعاطاها بالتسخير
وبالإلهام ، كالنحل فيما يتعاطاه من السياسة وأخذ البيوت المسدسات من غير إسراف
ومن عمل العسل ، كما أشار بقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً) ، وكالعنكبوت في نسجه ، وهدايته للملائكة بالتسخير
والإلهام في أفاعليهم المختصة بهم وببديهة العقل ، لأن علومهم كلها ضرورية فطرية ،
فأما الإنسان فهدايته تعالى إياه بكل ذلك وبالفكر ، وذلك أنه هداه تارة بالتسخير
كما في تسخير نفسه لقواها بالتحريك ، والاستخدام في أفاعليها الجزئية وإدراكاتها
الحسية ، ومن هذا القبيل حركة نبضه وجذبه للغذاء وهضمه ودفعه وغير ذلك من أفاعيله
التسخيرية ، وتارة بالإلهام ، كما عند الطفولية للارتضاع ومص الثدي والتشكي من
الألم بالبكاء ، وطورا ببديهة العقل ، فإنه يعرف الأوليات ومبادي العلوم ، وطورا
بالفكر حيث يتوصل إلى استنباط المجهول بالمعلوم ، فهو تعالى وإن خلق الإنسان عاريا
من المعارف التي جعلها للحيوانات بالإلهام ، ومن الملابس والأسلحة التي جعلها
للحيوانات بالتسخير ، ومن العلوم التي جعلها للملائكة بالفطرة والبديهة ، فقد جعل
للإنسان بالعقل والفكرة قوة التعلم وقوة تحصيل الأدوات والأسباب المتنوعة والآلات
المختلفة كالملابس والأسلحة ، فهو مكتف بذاته في تحصيل ما ينفعه في عاجله وآجله ، حيث
مكنه الله في استفادة ذلك ووكله إلى نفسه ، وذلك فضيلة له لا رذيلة ، وإنه رفعة له
لا ضعة ونقيصة ، فإن الله بإعطائه إياه العقل والفكرة واليد العاملة قد أعطاه كل
شيء ، ولو أعطى له حسب ما أعطى غيره من البهائم شيئا شيئا لكان قد منع منه سائر
الأشياء ، لأن فعلية البعض يمنع عن قوة سائر الأشياء.
وتحقيق هذه
المسألة يحتاج إلى مقدمات غامضة ذهل عنها أكثر المنسوبين إلى العلم ، وقد ظن قوم
إن الله خلق الناس من بين الحيوانات خلقا منقوصا ، إذ لم يعط سلاحا يدفع به عن
نفسه كالأسد والنمر من الأنياب
والمخالب ، ولا
جناحا يهرب به عن الأعداء كما للطير ، ولا قوة المشي والجري في الماء كما للحيتان
، ولا الكفاية في لباسهم كما في سائر الحيوان ، حيث أغناها عن كثير ما يفتقر إليه
الناس ، ولأجل ذلك قال تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) ، وذلك الظن صحيح من وجه ، فاسد من وجه ، أما وجه صحته
فلما أشرنا إليه من أن فعلية الوجود وتأكد الصورة يمنع عن قبول الكمال الأعلى
والفضيلة القصوى ، وأما وجه فساده فلما زعموا أن ذلك تمام صورة الإنسان ، ولم
يعلموا أن ذلك ابتداء خلقته ومادة نشوه وكماله ، كالحبة بالقياس إلى الشجرة
والنطفة بالقياس إلى الحيوان ، ولو كانت للحبة صلابة الحجر لم يمكن وصولها إلى
غاية النمو ، ولو كانت للنطفة قوة الشجرية استحال أن يصل إلى قبول الحياة ، فلو لم
يكن في الإنسان بحسب أول الفطرة الخلو عن كل فضيلة وعلم ، لما كان في جوهر ذاته
صلوح كل فضيلة وعلم ، ولأجل التنبيه على ذلك قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، ولا حاجة إلى ما ذكره بعضهم في معنى قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ، من أن المراد أنه ضعيف بالقياس إلى الملإ الأعلى لا
بالإضافة إلى الحيوانات ، بل أن هذا الضعف أعده للوصول إلى الدرجة العليا
والاستحقاق لخلافة الله تعالى.
قال بعض الحكماء
جعل الله لكل شيء كمالا ينساق إليه طبعا ، وقد هداه إلى التخصيص به تسخيرا ، كما
نبه عليه بقوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ، وللإنسان سعادات كثيرة أبيحت له ، وهي النعم المذكورة في
قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، وجميع النعم على القول المجمل ضرب دائم لا يبيد ولا يحول
وهو النعم الأخروية ، وضرب يبيد ويحول وهو النعم الدنيوية ، وما أحد إلا وهو نازع
إلى سعادة يطلبها بجهده ، ولكن كثيرا يخطئ فيظن ما ليس بسعادة في ذاته أنه سعادة ،
فيغتر بها فيكون كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ، وقوله : (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ
بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) ، لأنها كلها غرور وفتنة كما قال الشاعر :
إنما الدنيا
كرؤيا أفرحت
|
|
من رآها ساعة ثم
انقضت
|
قاعدة
في
تحقيق قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، وبيان أن الموت حق
اعلم أن من الحكمة
البالغة والنعمة السابغة أن الله تعالى قد جمع في طينة الإنسان ما أفرد به
الملائكة المقربين وما أفرد به الحيوانات المبعدين ، فأفرد الملك بروح علوي باق ،
وأفرد الحيوانات بروح سفلي فان ، وخص الإنسان بمعجون مركب من الروحين ، فان حيواني
وباق ملكي ، اتحدا ذاتا أحدية كما بين في موضعه ، فالحكمة في ذلك أن الروح الملكي
غير مستحيل ولا نام ولا متغذ ، وإنما غذاؤه التسبيح والتقديس ، وهو بمثابة التنفس
الضروري للحيوان ولذلك ليس للملك ترق من مقام معلوم ، والروح الحيواني
مستحيل متغذ نام قابل للتحول والانتقال ، إلا أنه إذا مات مات ولم يبق منه شيء ،
فجعل الله الإنسان جامعا للروحين ، لينطبع روحه الملكي بطبع روحه الحيواني في
التغذي وقبول الفناء الذي يعبر عنه بالموت ، ليصير بروحه الحيواني كائنا مستحيلا
قابلا للفناء ، وينطبع روحه الحيواني بطبع روحه الملكي ، ليصير عارفا بالله مسبحا
مقدسا له كالملك ، باقيا بعد الموت أي موت كان طبيعيا أو حيوانيا أو إراديا.
فخاصية الروح
الحيواني أن يجعل الغذاء من جنس المغتذي ولونه وكيفه وصائرا من جنسه ، وخاصية
الروح الملكي أن يسبح الله ويقدسه
__________________
ويتغذى بذكر الله
وطاعته والشوق إلى لقائه الكريم فيتقوى فيه النور الإلهي ويتجوهر به ، ولأجل ذلك
يزداد الجذبة الإلهية ، وفي تجوهره يحصل له نوع من الفناء عن وجوده والبقاء بنور
ربه فهو في كل انتشاء بنشأة وتطور بطور بمثابة ميت ذاق الموت والبعث ، فكأنه مات
عن نشأة ثم بعث إلى ربه في نشأة أخرى وأحياه الله بنور ربه ، كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) ، فهذا الموت الذي استحق به الروح الإنساني الأحياء بنور
الله ، إنما استفاده من جهة النفس الحيوانية التي هي ذائقة الموت على الوجه
المذكور ، ولذلك عقبه بقوله : (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ، أي نبلوكم بما فيهما من موت النفس وحياة الروح ، فالأول
كالمكروهات من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وسائر ما تسمونه شرا
، وفيها موت النفس وحياة القلب ، والثاني كالمحبوبات التي تسمونها خيرا ، وهي
الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة
والأنعام والحرث ، وفيها حياة النفس وموت القلب ، ففي كلتا الحالتين ابتلاء ، فمن
صبر على موت النفس بالمكروهات فله البشارة بحياة القلب واطمينان النفس ، ولها
حينئذ استحقاق الرجوع إلى ربها بجذبة ارجعي إلى ربك باللطف والكرامة ، كما قال : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ).
فقد ظهر مما ذكرناه
أن الإنسان السعيد السالك إلى صراط الله المستقيم الواصل إلى درجة الواصلين ، هو
الذي حصل له في كل وقت من أوقات حياته الطبيعية له موت وبعث وحشر إلى الله تعالى ،
حتى ينتهي به الغاية والمنتهى والرجوع إلى المبدإ الأعلى ، وأن قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) محمول على الحقيقة من غير حاجة إلى التأويل كما فعله
المفسرون.
قاعدة
في
الكشف عن ماهية الإنسان الحقيقي مظهرا لاسم الله وخليفة الرحمن
قال الله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ
فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً جَهُولاً) ، قد تشعب أقوال العلماء وأئمة التفسير ، واختلفت آرائهم
في أن المراد من هذه الأمانة المخصوص يحملها الإنسان ما ذا ، فقائل إن المراد منها
هو العقل فينتقض بالملك ، وقائل إنه التكليف فهو منقوض بالجن ، لأنه مساهم للإنسان
في كونه مكلفا ، وقائل إنه التركيب بين الروح والجسد فنوقض بالفلك ، وقائل إنه
الهيئة الاجتماعية الحاصلة من اجتماع القوى الفاعلة والمنفعلة والنفسانية والبدنية
المدركة بأنواع الإدراكات الحسية والخيالية والوهمية والعقلية المحركة بأنواع
الحركات الفكرية والإرادية والطبيعية والكمية والكيفية والأينية والوضعية ،
وبالجملة كون الذات الواحدة بحيث يوجد فيها أنموذج سائر الأشياء ، وهو أيضا كما
ترى لانتفاضه بصورة العالم الكبير ، لأنه أيضا شخص واحد له وحدة طبيعية ، ولأن شبه
الجمعية المذكورة يوجد في بعض الحيوانات التامة الحواس سيما عند من يرى أن لها
نفسا مدركة للكليات ، على أنه قد أهمل في كل من هذه الاحتمالات رعاية معنى الأمانة
ومؤداها ، من كونها عارية مدة من الزمان ثم مردودة إلى أهلها وصاحبها. وتحقيق هذا
المقام يستدعي تمهيد قاعدة ، وهي أن جميع الموجودات سوى الإنسان له حد خاص من قسط
الوجود لا يتعداه ، وكل له مقام معلوم ، لا يتجاوزه ، وهو له ثابت بالفعل ليس فيه
قوة الانتقال من طور إلى طور ومن كون إلى كون ، فالفلك في فلكيته ، والملك في
ملكيته ، والشيطان في شيطنته ، والجماد في جماديته والنبات في نشوه ونمائه ،
والحيوان في شهوته وغضبه ، كل منها في غاية ما له من الكمال والفعلية والتمام ،
وأما الإنسان الكامل فإنه في كل ما له من الكمالات بلغ إليه ما بين صرافة القوة
ومحوضة الفعل ، كما هو شأن المتحرك بما هو متحرك ، ألا ترى أنه ضعيف الجسمية ليس
كالجبال والمعادن ، وأنه ضعيف النباتية ليس كالأشجار في قوة التغذية والتنمية
والتوليد ، وأنه ناقص الحيوانية ليس كالأسد والفيل والحية والطير وغيرها من
الحيوانات التامة في قوة
الحس والحركة ،
ولهذا يحتاج في بقائه الدنيوي إلى معاونات ومعونات خارجية تعاونه وتعينه وتحفظه
وتصونه عن الآفات والأضداد ، كما قال : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ، وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، وإليه الإشارة بقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) ، وبقوله : (إِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
وبالجملة ليس له
ما دام الحياة الدنيوية مقام خاص في الوجود لا يتعداه ، (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) ، ولأجل هذه الخاصية يمكنه التطور في الأطوار والخروج من
كل ما له من الكون المستعار ، والانتقال من هذه الدار إلى عالم الآخرة ودار
الأبرار ، والمهاجرة من بيته الذي فيه مهاجرا إلى الله الواحد القهار ، كما في
قوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، وإذ ليس له مقام معين ، فله السير إلى جميع المقامات ،
وإذ ليس له صورة معينة ، فله التصور بكل صورة والتحلي بكل حلية ، قال الشاعر :
لقد صار قلبي
قابلا كل صورة
|
|
فمرعى لغزلان
وديرا لرهبان
|
إذا تقرر ما
ذكرناه فنقول : إن حقيقة الأمانة وهي المعبر عنها تارة بفضل الله (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، هي الفيض الإلهي الأتم بلا واسطة ، والمراد منه الفناء
عن كل شيء والبقاء بالله ، والإنسان من بين الممكنات مخصوص بذلك ، وإنما سميت
أمانة لأن الفيض بلا واسطة هو من صفات الحق تعالى وقد حمله الإنسان لا غير ، لما
ذكرنا من أن ما سواه غير مستعد لقبوله ، لتقيد كل منها بوجوده الخاص ، فالفلكية
غير منسلخة من الفلك حتى يبقى فارغا عنها قابلا لغيرها ، وهكذا الأرضية من الأرض
والجبلية من الجبال ، وكذا كل من في السماوات والأرض والجبال ، إذ المراد من الآية
عرض الأمانة على كل الممكنات لا على بعضها ، والتقدير أنا عرضنا الأمانة على أهل
السماوات والأرض والجبال ، ومعنى عرض الأمانة عرض تحمل الفيض الوجودي على وجه
العارية المأخوذة أولا ، المردودة إلى أهلها أخيرا ، وقبول الفيض الوجودي الفائض
من الله
بلا واسطة على
الوجه المذكور مختص بالإنسان الكامل دون غيره كما علمت ، فكان العرض عاما على
الممكنات مارا على المخلوقات كلها ، فلم يقبلها أحد للعلة المذكورة إلا الإنسان
الكامل لفقره وعجزه وضعف قوته وبراءة ذمته عن جميع الشواغل الوجودية ، وقطع
التفاته عن ما سوى الحبيب المطلق ، كما حكى الله عن خليله بقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ
الْعالَمِينَ) ، وبقوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ).
تنوير تمثيلي
إن نسبة الإنسان
إلى سائر المخلوقات كنسبة القلب إلى سائر الأعضاء ، وقد تحقق في علم الطبيعة أن
قوة الحياة تفيض من الروح إلى القلب ، وبواسطته إلى سائر البدن ، فيصير ذا حياة
وحس وحركة ، فكما أن فيض الروح عام على أعضاء البدن كلها على وجه العارية المردودة
إلى أهلها ، وهو الروح عند الموت ، إلا أن قبوله وحمله مختص بالقلب ، ثم من القلب
يسري أثر الحياة بواسطة الشرايين وعروق ما سأريقا إلى سائر الأعضاء ، لكل منها ما
يناسبه ، فيكون به ذا قوة حياة وحس وحركة ، فكذلك عرض الفيض الإلهي عام على جميع
المخلوقات على وجه يقوم عليها مدة ثم يرجع إلى مبدعه ومفيضه عند القيامة الكبرى ،
إلا أن قبوله بلا واسطة وحمل أصله مختص بالإنسان الكامل ، ومنه يصل أثر الفيض إلى
سائر المخلوقات ، وهذا هو سر الخلافة المخصوصة بالإنسان.
تتمة
وأما قوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) على صيغة المبالغة ففيه الإشارة إلى أن الظالم من يظلم غيره
، والظلوم من يظلم نفسه ، وكذا الجاهل من يجهل غيره ، والجهول من يجهل نفسه ، أما
ظلم الإنسان على نفسه فإفناؤه ذاته وإماتته نفسه بالإرادة ، وأما جهله بنفسه فلأنه
ما عرف نفسه ولم يعلم أنه
ليست ذاته هذه
البهيمة الآكلة الشاربة الناكحة المائتة ، وما علم أن هذه البهيمة الحيوانية هي
قشر ذاته ، ولها لب هو روحها وروحها أيضا قشر وله لب هو روح روحها وهو محبوب الحق
، كما قال : (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ) ، ومعلوم عند أهل البصيرة أن محبوب الحق ما ذا يمكن أن
يكون ، وأن محب الحق ما ذا يمكن أن يكون ، فإن الشيء لا يحب إلا ذاته ، ولا يحبه
أيضا إلا ذاته ، فمن أحب غير الله فقد رغب عن ملة إبراهيم ، حيث إنه قال حكاية عن
حاله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وأيضا لا جهل أعظم من جهل الإنسان نفسه لاستلزام ذلك
جهله بربه ، قال تعالى : (نَسُوا اللهَ
فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، وهو بمنزلة عكس النقيض لقوله صلىاللهعليهوآله : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وفي الحكمة العتيقة «من عرف
ذاته تأله ، فمن جهل نفسه فقد ظلم على نفسه غاية الظلم» ، (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) و (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).
واعلم أن علم
النفس بذاتها حيث لا يمكن إلا بحضور ذاتها لها ، فتحصيل هذه المعرفة لا يمكن ولا
يتصور إلا بتبديل الوجود الظلماني النفساني إلى الوجود النوراني الروحاني ، وفي
قوله صلىاللهعليهوآله : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، فمن
أصابه ذلك النور فقد اهتدى ، إشارة إلى هذا المطلب ، فإن الظلمة إشارة إلى ذوات
الأشخاص النفسانية الظلمانية قبل خروجها من القوة إلى الفعل ، ومن الظلمة إلى
النور ، ومخرج الأشياء من الظلمات إلى النور هو الله تعالى ، والنور هو الفيض
الوارد على النفوس القابلة ، الخارجة به من الظلمات إلى النور ، كما تخرج القوة
البصرية بإشراق النور الشمسي عليها من القوة إلى الفعل ، فيصير به مبصرة بالفعل
بعد ما كانت مبصرة بالقوة.
إذا تقرر هذا
فنقول : لما عرض الله الأمانة على المخلوقات فكل مخلوق لم يكن منورا برشاش نور
الله ما عرف شرف الأمانة وما قصدها ، أما الأجسام فلبعد مناسبتها ، وأما أرواح
الملائكة وغيرهم فلأنهم لم يكن لهم راحلة تحملها بقوة الظلومية والجهولية ، فما
قصدوا وما عرفوا حق المعرفة ، (فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لخطر حملها ، (وَحَمَلَهَا
الْإِنْسانُ) لأجل
استعداد الجسدية
وقوة الظلومية والجهولية ، فصارت الظلومية والجهولية في حق حامل الأمانة ومؤدي
حقها مدحا ، وفي حق الخائنين فيها ذما.
تبصرة أخرى
اعلم أن لهذه
الآية الكريمة تأويلا آخر غير ما مر يشعر بذم الإنسان ، كما أن الأول كان مشعرا
بمدحه ، وهو أيضا يستدعي بيان تمهيد مقدمتين.
إحداهما أن كل ما عدا الإنسان من الأفلاك والعناصر والمركبات
وغيرها فلها ضرب من الوصول والشهود له سبحانه والفناء عن ذواتها ، لانخراط وجود كل
منها في وجود علته وفاعله ، فإن فاعل كل شيء هو بعينه غايتها وتمامها كما بين في
موضعه ، فوجود كل معلول لمعة من وجود علته ، ووجود كل علة تمام لوجود معلولها ،
وكذا الكلام في وجود علة العلة بالقياس إلى تلك العلة ، ومعلول المعلول بالقياس
إلى ذلك المعلول ، فثبت أن جميع الممكنات المجعولة وجوداتها مضمحلة منطمسة في وجود
القيوم تعالى ، وجميع أنوارها مستهلكة في سطوع النور الإلهي إلا أفراد الإنسان ،
فإنهم بواسطة داعية سلطان الوهم واستيلائه عليهم وجهلهم بكيفية الصنع والإيجاد
يزعمون أن لهم وجودا وأنانية وقدرة مستقلة.
وثانيهما أنه ما من موجود جسماني أو روحاني في هذا العالم إلا وله
سلوك وجودي واستحالة ذاتية وحركة معنوية إلى جانب الحق صائرا إياه ، كما في قوله :
(أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، فوجود كل موجود إمكاني بمنزلة أمانة عارية يرد إلى
صاحبها آخر الأمر ، وما سوى الإنسان لا يعوق له شيء عن سلوكه سبيل الحق وخروجه عن
تحمل هذه الأمانة.
فعلى هذا نقول :
المراد من الأمانة ، الوجود الفائض على كل موجود ، لأن وجودات الممكنات هي بمنزلة
أشعة ولوامع لوجود الحق تعالى ، فهي ليست قائمة بالممكنات بل قائمة بذاته تعالى ،
فلما وقع عرض الأمانة يعني بسط ضوء الوجود على هياكل أهل السماوات والأرض والجبال
، فأبوا أن يحملوها بزعمهم أن لهم وجودا مباينا لوجود الحق ، كالإنسان الغير
الكامل حيث يزعم
أن له وجودا ، بل خرجوا عنها وانفكوا عن وجودهم الذي كانوا عليه وأشفقوا عن تحمله
، لأن التقيد بقيد الوجود الخاص الإمكاني مناط الظلمة والبعد عن منبع الفيض والجود
ومعدن الكرامة والرحمة ، وحملها الإنسان لظلمه على نفسه بعدم الخروج عن ظلمة البعد
إلى نور القرب ، وجهله بأن السلامة والسعادة في الخروج عن هذا الوجود الظلماني
والذهاب إلى عالم الحق تعالى ، فقوله : (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً جَهُولاً) علي هذا التأويل مذمة للإنسان ، وعلى التأويل الأول مدح له
ولا منافاة بين التأويلين بل الكل محتمل فافهم.
الطرف الثالث
في علم المعاد وبيان حشر النفوس والأجساد وفيه مشاهد :
المشهد الأول
في بيان الفطرة الأولى للإنسان والعود إليها وفي التقابل
بين مراتب البدو ومراتب النهاية
اعلم أن المبدأ هي
الفطرة الأولى كما قال (فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، والمعاد هو العود إليها ، لقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، فالإشارة إلى المبدإ قوله صلىاللهعليهوآله : كان الله ولم يكن معه شيء ، وقوله : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ
تَكُ شَيْئاً) ، وقوله : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، فهذا الوجود للممكن هو الخروج من العدم الأصلي إلى الكون
وهو الحدوث ، والإشارة إلى المنتهى قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، وهذا خروج من هذا الوجود الناقص المجازي إلى العدم
الأصلي ، والبدو والرجوع متقابلان في الجهة ، متحدان في الموضوع ، كما وقعت
الإشارة إليه ، فبحكم المبدإ ينبغي أن يسأل الرب تعالى ويجيب الخلق ، فقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، وبحكم المعاد ينبغي أن يسأل الرب ويجيب هو عن نفسه ،
فقال : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فالسقوط الأول للإنسان من
الفطرة أي من
العدم إلى الوجود هو الجنة التي كان فيها أبونا آدم وأمنا حواء ، كما قال : (يا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، والسقوط الثاني له من العدم إلى الوجود ، هو الهبوط منها
إلى دار الدنيا ، لقوله تعالى : (اهْبِطُوا مِنْها
جَمِيعاً) ، والرجوع إلى الفطرة هو العود من هذا الوجود المجازي إلى
العدم ، وهو إما عدم القالب بالموت الطبيعي ، (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) وبه يستحق المؤمن من أصحاب اليمين جنة السعداء ، والكافر
من أصحاب الشمال جحيم الأشقياء ، والثاني عدم النفس بموت الفزع قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وبه يستحق جنة الكاملين ، (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، والثالث عدم الروح بموت الصعق والفناء في التوحيد ، قوله
: (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وبه يستحق جنة الموحدين ، (فَادْخُلِي فِي
عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).
اعلم أن المجيء
إلى الدنيا هو النزول من الكمال إلى النقص والسقوط من الفطرة الأولى ، ولا محالة
صدور الخلق من الخالق ليس إلا على
__________________
هذا السبيل
والذهاب من الدنيا إلى الجنة ، ثم إلى جوار الله هو العود إلى الفطرة والتوجه من
النقص إلى الكمال ، ولا محالة رجوع الخلائق إلى خالقهم يكون على هذا السبيل ، (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالأول هو أفول النور وغروب الشمس ، (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، والثاني هو صعود الكلمة وطلوع الشمس من مغربها ،
فالعبارة من الأول ليلة القدر ، والعباره من الثاني يوم القيامة ، ففي ليلة القدر (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) ، وفي يوم القيامة (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ.)
المشهد الثاني
في الإشارة إلى علم الساعة وسر القيامة وفيه قواعد :
قاعدة
في
معنى الساعة
قال صاحب الكشف
إنما سميت الساعة ساعة لأنها تسعى إليها النفوس ، لا بقطع المسافات المكانية بل
بقطع الأنفاس الزمانية بحركة جوهرية ذاتية وتوجه غريزي إلى الله تعالى ، كما بينا في
لمية ضرورة الموت الطبيعي ، فمن مات وصلت إليه ساعته وقامت قيامته ، وهي ساعة
القيامة الصغرى ، وعلى هذا القياس حصول يوم القيامة العظمى والطامة الكبرى التي
لساعات الأنفاس كاليوم للساعات أو كالسنة للأيام.
واعلم أن أهل
المعرفة واليقين لا يشكون في أمر الساعة ولا ينتظرون قيامها ، كانتظار أهل الحجاب
والغفلة الذين يشكون في وقوعها ، ويسألون عن وقتها ، (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، بل أهل اليقين يستعدون لقاءها ويرونها كأنها قائمة عليهم
، كما في قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا
إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ
إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما
شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وقوله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ
عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ، وقوله : (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ
لا رَيْبَ فِيها) و (لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ).
قال بعض أهل
المعرفة : الحق الذي لا شك فيه أن علم الساعة مردود إلى الله ، كما قال : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، وليس للمحجوبين أن يؤمنوا بشيء من أسرارها وأشراطها ،
إلا كإيمان الأكمه بالألوان من طريق الإيمان بالغيب ، كما قال تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، وكما أن مدركات العقل أسرار على الحواس فكذلك مدركات
القيامة أسرار على العقل النظري ، فلا يتصور أن يحيط بها أحد ما دام في الدنيا ولم
يتخلص عقله عن أسر الوهم وقيد الخيال ، وقول الكفار (مَتى هذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه ، فإن أمر الساعة
كان (كَلَمْحِ الْبَصَرِ
أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، ومتى سؤال عن زمان معين للحركات والمتحركات الزمانية ،
فاستحال الجواب عنه ، وهو كقول القائل الأكمه إذا وصفنا له المبصرات من الألوان
وغيرها كيف نشم أو نذوق هذه الألوان ، والجواب الحق عن ذلك أن العلم بها أن يقال
لهم إن العلم بذلك عند الله ، فمن رجع إلى الله تعالى وحشر إليه كان يعرف حينئذ
علم الساعة وأنه عند الله كما قال : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها).
واعلم أن أهل
الحجاب وأصحاب الظن والارتياب يزعمون يوم القيامة بعيدا عن الإنسان بحسب الزمان
كما قال : (وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً) ، وغائبا عنه بحسب المكان ، كما قال : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ) ، وأما أهل العلم واليقين فيرونه قريبا بحسب الزمان كما
قال : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، ويرونه حاضرا بحسب المكان كما قال : (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ، وقوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) ، وكان نبينا صلىاللهعليهوآله يشاهد الجنة وخازنها ويتناول من ثمارها ، وكان أيضا يشاهد
النار و
يستعيذ بالله من
شرها وحرها ، كما روي عنه في حال صلاة الكسوف ، ولذلك لم يحكم ولم يصدق بكون حارثة
مؤمنا حقا ما لم يكن مشاهدا لأمور الآخرة وأحوال الجنة وأهلها وأحوال النار
وأصحابها بعين اليقين ، إذ سأله كيف أصبحت قال أصبحت مؤمنا حقا ، قال صلىاللهعليهوآله لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك ، قال رأيت أهل الجنة في
الجنة يتزاورون وأهل النار في النار يتعاوون الحديث.
قاعدة
في
سر القيامة وزمانها ومكانها
اعلم أن القيامة
كما مرت إليه الإشارة من داخل حجب السماوات والأرض ، ومنزلتها من هذه الحجب كمنزلة
الجنين من الرحم لأمه ، ولذلك لا يقوم القيامة إلا (إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ، و (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ
ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ، و (إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ، و (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) و (إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا
الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) واذا (النُّجُومُ طُمِسَتْ
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) و (إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) و (إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا
السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) ، (يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ) ، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ ما سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) ، (يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) ، (يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ، (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً
واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ، (يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ
لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) ، (إِذا بُعْثِرَ ما فِي
الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ)» ، فما دام السالك خارج حجب السماوات والأرض فلا تقوم له
القيامة ، لأن القيامة كما مر داخل هذه الحجب عند الله ، (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، وقوله صلىاللهعليهوآله : لا تقوم الساعة وفي وجه الأرض من يقول الله الله ، إشارة
إلى أن الرجل ما دام خارج الحجب فالقيامة سر على علمه ، فإذا قطع الحجب وتبحبح في حضرة العندية سارت القيامة علانية عنده بعد ما كانت
غيبا عنه ولذلك لم يجز أن يرى الله ولا أمور الآخرة لا نبي ولا ولي ما دام في
الدنيا ، وما لم يصر الأبصار بصائر ، وإن نبينا صلىاللهعليهوآله إنما كانت القيامة علانية عنده حين قطع حجب السماوات
والأرض ونفذ من أقطارها (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ
رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، ثم إذا رجع إلى مستقره ومهبطه من خارج هذه الحجب صار ذلك
الشهود عنده سرا وغيبا ، وانقلبت المعاينة خبرا كما كان قبل العروج ، وإنما كان
عينا وعلانية حين قطع حجب السماوات والأرض وكان من وراء الحجب ، وعلى الجملة فالسر
سر أبدا حيث هو سر ، والعلانية علانية حيث هي علانية.
واعلم أن سر
القيامة من الأسرار العظيمة التي لم يجز للأنبياء عليهمالسلام كشفها ، لأنهم من حيث كونهم رسلا أصحاب شرائع ، والقيامة
يوم جزاء بلا عمل ، ويوم الشريعة يوم عمل بلا جزاء ، وتعب بلا ثواب ، والأولياء
أهل قيامة من حيث ولايتهم وقربهم عند الله ، كما في قوله صلىاللهعليهوآله : لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ،
أخبر عن حاله ومرتبته الباطنية ، وأما حاله في غير ذلك المقام فكما في قوله تعالى
: (ما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ... (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) ، وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ
__________________
أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) ، وقوله : (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، قال لعلي عليهالسلام : أنا المنذر وأنت الهادى ، وبالجملة الشريعة هي المشرع
العام والقيامة هي المقصد والغاية ، فصاحب الشريعة من حيث هو كذلك يقول (لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ
لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ... (وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ).
تبصرة عقلية
لا يخفى عليك أن
الدنيا كون ناقص وما فيها أكوان ناقصة ، وجواهرها جواهر ضعيفة الوجود متعلقة
الذوات بغيرها ، ولنقص جواهرها وضعف وجودها التدريجي يحتاج النفوس الآدمية ما دامت
فيها كالأطفال إلى مهد وداية ، فالمهد كالمكان ، والداية كالزمان ، فكل من الزمان
والمكان لغاية ضعف وجودها غير مجتمع الوجود ولا قار الذات ، فوجود كل جزء من
الزمان يقتضي غيبة صاحبه ، وحضور كل حصة من المكان يستدعي فقد صاحبه ، وأما وجود
الآخرة فهي كون تام مستقل بنفسه ، مستكف بذاته ، وكذا الموجودات الأخروية ، فهي
أكوان ثابتة قائمة بذاتها وبذات مبدعها ومنشئها بريئة الذوات عن القوة والاستعداد
، وعن الافتقار إلى الأزمنة والمواد ، وإنما هي مفتقرة بمبدئها الجواد ، «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ و كُلُّهُمْ
آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» ، فليس لمكان الآخرة انقسام وانفصال ولا انصرام وزوال ،
ولا لزمانها تجدد وانقضاء ، ولا شروع وانتهاء ، بل هذان على هذا النحو مسلوبان
هناك ، لكن إذا أريد أن يخبر عنهما لأهل هذا العالم ، المقيدين بسلاسل الزمان
وأغلال المكان ، لا يمكن ذلك إلا بضرب من المثال ، فإذا أشير إلى زمان الآخرة وأجيب
عن السؤال عن متاها يعبر عنه بأقل زمان وألطفه ، وهو ما يسميه الجمهور الآن ، (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، وإذا أشير إلى مكانها وأجيب عن أينها ، يعبر عنه بأوسع
مكان فيقال (جَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقد مر أن أمر الإبداع مثل أمر الإعادة ، قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، وقوله : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ
خَلْقٍ
نُعِيدُهُ) ، والأول غير زماني ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ، فكذا الثاني (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) ، (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).
حكمة كشفية
قال صاحب الكشف :
القيامة قيامتان ، الصغرى وهي معلومة ، من مات فقد قامت قيامته ، والكبرى ووقتها
مبهمة ولها ميعاد عند الله ، ومن وقتها فهو كاذب لقوله صلىاللهعليهوآله : كذب الوقاتون ، وكل ما في القيامة الكبرى فله نظير في
الصغرى ، لما علمت أن الإنسان عالم صغير وأحواله أنموذج من أحوال الإنسان الكبير ،
ومفتاح معرفة هذه الحقائق معرفة النفس الإنسانية ، وقس الآخرة بالأولى ، والموت
بالولادة ، والولادة الكبرى بالولادة الصغرى ، والدنيا بالأم والقبر بالرحم ،
والبدن بالمشيمة ، فمن أراد أن يعرف معنى القيامة الكبرى وظهور الحق بالوحدة
التامة ، وطي السماوات وقبض الأرض ، واندراس الأزمنة والأمكنة ، واضمحلال المواد
والأشخاص ، ورجوع الخلائق كلهم إلى الله ، وعود الروح الأعظم ومظاهره وآثاره إليه
تعالى ، وفناء الكل عنده حتى الأفلاك والأملاك والنفوس والأرواح ، كما قال : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ، وهم الذين سبقت لهم القيامة الكبرى ، فليتأمل في القواعد
السابقة والشواهد الماضية ، من إثبات الحركة الجوهرية والاستحالة الذاتية ، وتوجه
كل سافل إلى عال ، ورجوع كل شيء إلى أصله ، وعود كل ناقص إلى كماله ، ومن إثبات
الغايات الذاتية للأشياء الطبيعية وأفاعيلها الذاتية ، فما من موجود إلا ويقع له
الرجوع إلى الله يوما ، ولو بعد أحقاب وأكوار كثيرة ، إما بموت أو فناء أو استحالة
أو انقلاب ، فكل حركة وانقلاب لا بد له من غاية ولغايته أيضا غاية إلى أن ينتهي
إلى غاية يجتمع فيها الغايات ، وهي يوم واحد إلهي ، بل لحظة واحدة أو أقرب منها ،
حاوية لجميع الأوقات والأزمنة والآنات التي يقع فيها النهايات ، كما أن جميع
البدايات يبتدأ
من بداية واحدة
لمبدإ واحد يتشعب منه كل بداية ومبدإ أثر.
ومن تنور باطنه
بنور اليقين ، وشاهد حشر جميع القوى الإنسانية مع تباينها واختلاف ماهياتها
وهوياتها إلى ذات واحدة بسيطة روحانية ، ورجوعها إليها واستهلاكها فيها ، كما أنها
نشأت وانبسطت منها وتكثرت بوحدتها ، فالروح منه انبساط أشعة القوى على مواضع البدن
، وإليه رجوع أنوارها من محابس مظاهرها ، هان عليه التصديق برجوع الكل إلى الواحد
القهار ، وسهل له سلوك سبيل الاهتداء لهذا المطلب الشريف الذي أكثر الخلق عنه
غافلون ، وهو «النبأ العظيم الذي عنه معرضون». أما شاهدت يا حبيبي تبدل أجزاء
العالم وطبائعها في كل لحظة؟
وأ ما رأيت أنها
متزايلة متبدلة دائما بعضها إلى بعض بحركة جوهرية ذاتيه وتوجها جبليا إلى مبدإها
وأصلها ، كما قال : (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقال : (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، (قُلْ كُونُوا
حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.
قاعدة
في
معرفة طريق الآخرة ومنشإ إعراض الخلق عن سلوكها
اعلم أن طريق
الآخرة سهلة يسيرة غير وعرة ولا صعبة ، والنفوس مجبولة على سلوكها ، لأنها التي
وقع المرور عليها عند المجيء من ذلك العالم إلى الدنيا ، وقد علمت أن الطبائع كلها
متوجهة إلى الغايات ، ثم إن هذا الطريق واضحة والعلامات منصوبة ، والهداة قائمون ،
والقواد موجودون ، والمعلمون من قبل الله مرسلون ، والكتب والرسائل منزلة ، كما
قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) ، وقوله : (وَلَقَدْ
__________________
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) ، إلى غير ذلك من الآيات والحجج والبينات ، ومع ذلك فالناس
غافلون عنها معرضون عن سلوك الآخرة ، كما قال : (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) ، وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ، إشارة إلى أنهم مع كونهم مارين على منازل الآخرة بحسب
الغريزة والطبع معرضون عنها بحسب الإرادة والكسب ، لآفة ومرض قد طرأت على نفوسهم ،
وغيرتها عما جبلت عليه ، وقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، وقوله : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، وأما سبب إعراضهم عن سلوك طريق الآخرة فهو أشياء كثيرة ،
لكن مع كثرتها وكثرة شعبها مندرجة تحت ثلاثة أمور ، كما قيل : رؤساء الشياطين
ثلاثة ، شوائب الطبيعة ، ووساوس العادة ، ونواميس الأمثلة.
أما الأولى فعبارة
عن دواعي الطبيعة وشهوات النفس والهوى المشار إليها في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) إلى قوله (ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وهي كلها حجب وأغطية على القلوب إذا استغرقت فيها
واستحكمت تصير غشاوة وطبعا ورينا على مرآة القلب ، وعمى على عينه ، ووقرا على أذنه
، كما في قوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) و (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ، وقوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) ، وقوله : (وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، وذلك لأن السمع والبصر وغيرهما من المدارك التي يمكن بها
إدراك الأمور الآخرة ليست هذه الظواهر المادية التي اشتركت فيها سائر الحيوانات مع
الإنسان ، بل هذه قشور وملابس على تلك الحواس التي تدرك بها أمور الآخرة ، كما أن
مدركات هذه المشاعر قشور وقبور وحجب على مدركات تلك المشاعر ، وهي الصور الموعودة
في الجنان ، المستورة عن أعين الخلائق من الإنس والجان ، كما قال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما
أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وإدراكها متوقف على نزعها من القشور وإخراجها عن موادها
التي هي كالقبور ، (كَلَّا إِنَّها
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) والأبصار ، فمن نظر اعتبر ومن اعتبر عبر.
وأما وساوس العادة
فهي تسويلات النفس الأمارة بالسوء وتزيينها الأعمال الغير الصالحة ، وترويجها
الاعتقادات الكاسدة ، وتصويرها الآراء الفاسدة بصورة الحق ، ومنشؤها قوة الخيال
والوهم ، كما أن منشأ القسم الأول قوة الطبع والحس ، (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
وأما نواميس
الأمثلة فهي كمتابعة أهل الضلال وتقليد المشهورين بالفضل والدراية ، واستهواء
الشياطين من الإنس ، أعني علماء السوء ، وإجابة دعوتهم وتتبع آرائهم الفاسدة
واقتفاء آثارهم المغوية المضلة ، قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ، (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، و (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ... ، وقالوا (رَبَّنا هؤُلاءِ
أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ، وهذا سد عظيم وحجاب شديد وقع على أكثر الناس أعني تقليد
الجهال المتشبهين بالعلماء ، من الجدليين الضالين المضلين المكذبين لأنبياء الله
وهم لا يشعرون ، وهم الذين قال الله فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ
عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، وقال : (مِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ
السَّعِيرِ) ، وقال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ).
قاعدة
في نتائج الإعراض عن سلوك سمت المعاد
بتكميل النفس وتطهيرها ، وتنوير القلب
وتهذيبه ، وهي الظلمة وضيق الصدر وعذاب القبر والاحتراق بنار الجحيم والحرمان عن
لذات النعيم والاحتجاب عن جمال رب العالمين.
وذلك لما مر أن
قوام النشأة وحياة القلب أنما يكون بالعلم والمعرفة فمن لا علم له لا قوام لنفسه
ولا حياة لقلبه ولا نور له.
واعلم أن دار
الآخرة دار حيوانية علمية ، ووجودها وجود إدراكي ، ليست كدار الدنيا التي هي دار
الموت والزوال والجهل والظلمة ، قال تعالى (إِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فبقدر نور المرفة تكون قوة السعي وسرعة المشي إلى منازل
الآخرة ، قال (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ) ، فمن لا نور له لا عيش له هناك ، قوله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).
واعلم أن للعمى
مراتب ، أعني عمى القلب الحقيقي (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، والمراد من الصدر أيضا الصدر المعنوي الذي هو النفس
الحيوانية البشرية المدركة للجزئيات ، وتلك المراتب هي مثل الغشاوة ، (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، والختم ، (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) ، والطبع ، (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ، والرين (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وهذا غاية مراتب العمى المؤدية إلى الحرمان واليأس وأعظم
الحجب الاحتجاب من الحق ، (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).
المشهد الثالث
في تحقيق القبر وعذابه وثوابه
قال بعض الأكابر
إن نفس الإنسان إذا تجردت عن البدن ربما لا يتجرد عن آثاره وغباره ، بل يصحبها
الهيئات المكتسبة ، وهي عند الموت عارفة بمفارقة البدن عن دار الدنيا ، مدركة ذاتها بقوتها الوهمية عين الإنسان المقبور الذي
مات على صورته ، كما كان في الرؤيا يشاهد نفسها على صورته التي كانت في الخارج
بعينها ، ويشاهد الأمور مشاهدة عيان بحسها الباطني ، ويشاهد الآلام الواصلة إليها
على سبيل العقوبات الحسية على ما وردت به الشرائع الحقة ، وهو عذاب القبر ، وإن
كانت سعيدة فيتصور ذاتها وصور أعمالها ونتائج ملكاتها وسائر المواعيد النبوية على
وفق ما كانت تعتقده أو فوق ما يتصوره ، فهذا ثواب القبر ، ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوآله
__________________
القبر روضة من
رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، فالقبر الحقيقي هذه الهيئات وعذابه وثوابه ما
ذكرناه انتهى كلامه.
واعلم أن ما ذكره
هذا العالم النحرير غاية ما يمكن أن يقول هو ومن يحذو حذوه من الذين زعموا أن
الجزء الباقي من الإنسان بعد الموت ليس إلا جوهرا عقليا لا يصحبه قوة الخيال فضلا
عن قوة الحس فصعب عليهم إثبات عذاب القبر وثوابه على الوجه الإدراك الجزئي الحسي.
وأما نحن بحمد
الله فلما ذهبنا إلى أن للإنسان غير هذا القشر الطبيعي بدنا نفسانيا ذا حواس جزئية
من السمع والبصر والذوق والشم واللمس ، يدرك بها الصور والأشكال الأخروية من
المثوبات والعقوبات الموعودة في لسان النبوات ، فلا يعسر علينا إثبات كثير من أمور
القيامة وما بعد الموت على الوجه المسموع المنقول.
ثم العجب من هذا
القائل ومن في طبقته كيف يمكنهم إثبات هذه الإدراكات الجزئية بعد الموت ، لأنها
التي يتوقف عندهم على الآلات الجسمانية والقوى الطبيعية المادية ، والوهم أيضا
عندهم قوة قائمة بجزء من الدماغ فكيف يبقى العرض بعد فساد موضوعه ، والحق عندنا أن
الجوهر المتخيل الحساس من الإنسان أمر باق بعد الموت الطبيعي.
قال أعظم المحدثين
أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه طاب ثراه : اعتقادنا في المساءلة في القبر أنها حق
لا بد منها ، فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره وبجنة نعيم في الآخرة ،
ومن لم يجب بالصواب فله نزل من حميم في قبره وتصلية جحيم في الآخرة ، وأكثر ما
يكون في عذاب القبر من النميمة وسوء الخلق والاستخفاف بالبول ، وأشد ما يكون عذاب
القبر على المؤمن ، مثل اختلاج العين أو شرطة الحجام ويكون ذلك كفارة لما بقي من
الذنوب التي لم تكفرها الهموم والغموم والأمراض ، وشدة النزع عند الموت.
قال بعض أهل الكشف
والشهود كل من كشف الغطاء عن بصيرته وشاهد بعين القلب باطنه في الدنيا ، لرآه
مشحونا بأنواع الموذيات وأصناف السباع ، مصورة عنده مثل صورة الغضب والشهوة والحقد
والحسد والكبر
والعجب والرياء ،
إذ لكل من هذه المعاني صورة في الباطن كما لها صورة في الدنيا ، لكن صورتها التي
في الدنيا مغشوشة بغيرها ، مغموسة في مادتها ممنوعة عن تأثيرها بعوائق خارجية.
فسبع الدنيا يمكن
الاحتراز عنها بمانع أو حجاب أو عدم قصد من جانبه أو غير ذلك ، بخلاف السبع
الباطني فإن كله حقيقة السبعية ، وهو مع ذلك متمكن من صميم قلب من رسخت ملكة
السبعية فيه ، وكذلك الحيات والعقارب التي في البرزخ أو في الآخرة ، فإنها لازمة
الإيلام والإيذاء من غير دافع ولا معارض ، لأنها صور خالصة بلا امتزاج بغيرها ولا
افتراق وانفكاك بعد ، إذ الصور كلها في القيامة صور محضة بسيطة غير مشوبة بغواش
وملابس ومواد ، وكذا نار الآخرة ليست كنار الدنيا ممزوجة بغيرها من دخان أو هواء
أو مادة حطب أو فتيلة دهن أو غيرها ، بل نار محضة قطاعة (نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى).
وقد ورد في الحديث
عن النبي صلىاللهعليهوآله في عذاب القبر أنه قال هل تدرون فيما ذا أنزلت (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قالوا الله ورسوله أعلم ، قال عذاب الكافر في قبره أن يسلط
عليه تسعة وتسعون تنينا ، هل تدرون ما التنين تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رءوس
ينهشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون ، فانظر يا عارف بين التدبر
والاعتبار في هذا الحديث وتبصر واهتد.
فإني والحمد لله
أعلم بعين اليقين أن هذا الحديث ونظائره الواردة من طريق الكتاب والسنة في أحوال
القيامة وأهوالها حق وصدق ، فآمنت بها إيمانا عيانيا مقرونا بالكشف والشهود «و (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا) و (جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) ، ولست كالمتفلسف الجاهل بأحكام الآخرة وأحوال القيامة
ينكر هذا وأمثاله ويجحدها ، ويقول إني نظرت في قبر فلان فلم أر شيئا من تلك الحيات
أصلا ، وليعلم الجاهل المتفلسف العنين في معرفة الله واليوم الآخر أن هذا التنين
له صورة غائبة عن هذا الحواس ، إذ مدركاتها مختصة بما له وضع مادي بالنسبة إلى محل
الحس الداثر ، ولأجل ذلك
لم يقع الإحساس
بهذا التنين وما يجري مجراه من حيات الآخرة ومؤذياتها ولدغها وإيلامها لخدر
الطبيعة وغشاوة الحس الظاهري ، وأن تلك الحيات والمؤذيات ليست لها صور خارجة عن
ذات الميت ، أعني صميم قلبه وعين باطنه ونفسه المصورة في القيامة بصورة أخلاقه
وأعماله ، وقد مرت الإشارة إلى أن الصور المحسوسة بما هي محسوسة بالذات متحد
بالجوهر الحاس ، بل الروح هي بالحقيقة الحساس اللامس الذائق الشام ، وهي التي
يتألم ويلتذ ويتنعم ويتعذب في الدنيا والآخرة جميعا ، لكن في الدنيا مع غواش
وظلمات وملابس ، وهي خالصة يوم القيامة ، فصورة هذا التنين كانت مع الكافر المنافق
قبل موته أيضا متمكنة من باطنه ، لكن لم يكن شاعرا بهذه الحيات ورءوسها ومباديها
وصورها وموادها المعنوية ، لخدر حسه وغشاوة طبعه وأمور شاغلة له عن دركها ، وحجب
حاجبة إياها عن بصيرته ، لغلبة الشهوات والأغراض ، فما أحس بلدغ هذا التنين وعدد هذه الحيات التي عددها بقدر عدد الشهوات وعدد رءوسها
بقدر عدد الأخلاق النفسانية الرديئة التي هي مبادي الشهوات.
قال بعض العلماء :
أصل هذا التنين حب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة ، ويتشعب منه رءوس بعدد ما يتشعب
من حب الدنيا من الأخلاق الذميمة وما يتبعها من الشهوات ، وأصل هذا التنين معلوم
بنور البصيرة ، وكذا كثرة رءوسه ، وأما انحصاره فيما ورد في الحديث المذكور فإنما
توقف عليها بنور النبوة لا غير ، فهذا التنين متمكن من صميم فؤاد الكافر لا لمجرد
كفره بالله وجهله البسيط ، بل لما يدعوه إليه كفره من حب الدنيا ، كما قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا
الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ).
__________________
المشهد الرابع
في البعث والحشر
قاعدة
أما البعث فهو
خروج النفس عن غبار الهيئات البدنية المحيطة بها ، كما يخرج الجنين من القرار
المكين ، ومدة كون الميت في القبر ككون الجنين في الرحم ، ونسبة حالة القبر إلى
حالة البعث كنسبة الجنين إلى المولود ، قوله تعالى (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وقد مرت الإشارة إلى أن للإنسان أنحاء من الوجود بعضها
أقوى وأتم من بعض ، وأن له بعد هذه النشأة العنصرية نشئات أخرى ، وأما قول صاحب
الإحياء إن دنياك وآخرتك ليستا إلا حالتاك ، وهما من جنس المضاف ، فليس كما ينبغي
إلا أن يراد بالحالة نحو من الوجود الجوهري ، وليس المراد من كون الدنيا والأخرى
أمران إضافيان ، أن هوية الإنسان نحو واحد من الوجود ، يكون أولا في هذا العالم
وثانيا في ذلك العالم من غير تحول جوهري وحركة معنوية ، بل الدنيوية والأخروية
والأولية والآخرية صفتان جوهريتان له ، وطوران وجوديتان لذاته لما سبق ، من أن
الإنسان من لدن حدوثه يشتد وجوده شيئا فشيئا ويتطور في الأطوار الوجودية تدريجا ،
إلا أن الدنيا جامعة لطائفة من تلك الأطوار والآخرة جامعة لما بعد هذه الأطوار إلى
ما لا نهاية له ، وجميع الأطوار الدنياوية على تفاوتها في الدناءة والشرف خسيسة
دنية
بالقياس إلى
الأطوار الأخروية ، ولهذا المعنى يصح أن يقال إنهما واقعتان تحت جنس المضاف ،
وإليه الإشارة بقوله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) ، فكل من علم أن هذه النشأة الدنيوية من أوائل تكوناته
الطبيعية الواقعة فيه على التدريج ، يعلم أن ذاته متوجهة دائما من نشأة أدنى إلى
نشأة أخرى ، وأن له أطوار مختلفة بعضها بعد بعض ، على سبيل منازل السفر إلى الله
تعالى بعض هذه المنازل في الدنيا وبعضها في الأخرى ، فأصل مادة وجوده من الدنيا ،
وكذا صورته العنصرية ثم الصورة النباتية ثم الصورة الحسية كلها من الدنيا ، وبعد
هذه الأطوار نشأة النفس ثم القلب والروح والسر والخفي ، وما وراء كلها من الآخرة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).
وأقوى البراهين
عندنا في تحقيق النشأة الآخرة هو المأخوذ من إثبات الغاية في الحركات الطبيعية
سيما الحركة الجوهرية الإنسانية ، لأنها واقعة في جميع الحدود الإمكانية من أدونها
، كالنطفة بل التراب إلى أعلاها إذا قطع بها القوس الصعودية كلها ، ولهذا وقع هذا
السياق من البرهان في كثير من آيات القرآن مثل قوله ، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) ، يعني (كُنْتُمْ أَمْواتاً) قبل ولوج الروح الحيواني فيكم كسائر النباتات والجمادات ، (فَأَحْياكُمْ) بهذه الحياة الحسية ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن هذه الحياة الطبيعية بإفادة الحياة النفسانية الروحانية
، (ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) بحياة أخرى قدسية ، وقوله حكاية عمن قال في جواب من قال ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ... ، (قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ، مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ، وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، إلى هنا من الأطوار الدنياوية ، ولا بد لهذه الحركة
الذاتية من غاية في الطبيعة ، وإلا لكانت عبثا وباطلا ، وتلك الغاية لا بد أن يكون
أمرا خارجا عن حدود الدنيا لوقوع المرور على مراتبها كلها ، والغاية بالضرورة
خارجة عن حدود المسافة ومراحلها ، فهي من منازل الآخرة ، وهي لا تحصل إلا
بعد الموت والبعث
، فالموت هو آخر منزل من منازل الدنيا وأول منزل من منازل العقبى ، ولأجل هذا قال
: (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) ، وقال أيضا : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ
ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ، وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، وقال : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ
كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ) ، ، إلى غير ذلك من الآيات التي وقع الاستدلال بها على
ثبوت البعث تارة من جهة إثبات الغايات ، وتارة من جهة البدايات ، فإن للإنسان
نشئات بعد هذه النشأة الطبيعية ، كما أن له نشئات سابقة على هذه ، والقوم ربما
ذهلوا عن بعض مقاماته اللاحقة أو كلها ، كما أنهم ربما غفلوا عن بعض مقاماته
السابقة ، فتارة أنكروا بعض مراتب المعاد ومنازل النفس كالظاهريين المنكرين للمعاد
الروحاني وكالفلاسفة المنكرين للمعاد الجسماني ، وتارة كلها كالدهريه المنكرين
للمعادين جميعا الزاعمين أن الإنسان إذا مات بطل ، (قالُوا ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ، كما أنهم ربما أنكروا أن كان للإنسان كينونة سابقة على
حدوث هذا البدن ، كأتباع أرسطو المنكرين لتقدم النفس على البدن تقدما عقليا كما
رآه أفلاطون ومن قبله ، وأما أهل المعرفة والشهود المقتبسون أنوار الحكمة من مشكاة
النبوة فيعلمون أن للإنسان نشئات وجودية بعد هذا الوجود ، ونشئات وجودية قبله ، كل
بإزاء نظيره قال تعالى إشارة إلى بعض المقامات السابقة : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ، مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية ، أي
أخذ أرواحهم من
ظهور آبائهم العقلية ، فهذا مقام عقلي تفصيلي لأفراد الناس بعد وجود أعيانهم في علم الله على وجه بسيط
عقلي ، وقال إشارة إلى مقام آخر بعد المقامين المذكورين : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) الآية ، فهذه أيضا نشأة سابقة للإنسان على نشأته الدنياوية
، فإذا ثبت أن له أطوارا سابقة على هذا الوجود ثبت أن له العود إليها تارة أخرى ،
إما سعيدا ، أو شقيا محبوسا في بعض المحابس والسجون.
وبالجملة من علم
أنه من أين يجيء إلى هذه الدار ، يعلم أنه إلى أين يذهب ، بقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ، وقوله (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ).
تنبيه استبصاري
اعلم أن الإنسان
لو علم ذهاب بدنه وقلد طبيعته في السلوك إلى الكمال ، وسلك في ذهاب نفسه وتصرف
أحوالها كما سلك في مذهب جسده وصورة بدنه ، سيبلغ أقصى الغايات إن شاء الله ، فما
سلكت فيه طبيعة بدنه وذهب إليه مسافر جسده ، أنه ابتدئ من تراب ثم من نطفة ثم كان
علقة ثم مضغة ثم جنينا مصورا ثم طفلا متحركا حساسا ، ثم صار صبيا زكيا ، ثم شابا
متصرفا قويا نشيطا متفكرا ، ثم يكون كهلا مجربا عاقلا أو مكارا محيلا ، ثم يكون
شيخا حكيما كاملا أو زنديقا كافرا ، فله أن يصير بعد الموت إن
__________________
استقامت طريقته
وصلحت سريرته ملكا مقربا ملتذا بلقاء الله تعالى وقربه ، وإن اعوجت سبيله وانسلخت
فطرته فيصير مطرودا عن باب الله معذبا عذابا أليما ، ومعلوم أن في الاستحالات
والانقلابات الطبيعية كان له ذهاب من طور أدنى إلى طور أعلى ، وكان كلما انخلع عنه
صورة ناقصة تلبس بما هو أعلى منزلة وأجود من الأولى ، وكان له في كل موت حياة
جديدة أشرف من الحياة السابقة ، فهكذا ينبغي أن يتحرى في مذهب نفسه في العلم
والعمل ، فلا يروم أن يرقى إلى درجة من الكمال إلا ويخلع عن نفسه آراء وأخلاقا
وعاداتا كانت مألوفة له معتادا بها أولا ، حتى يمكنه أن يفارق الصور البشرية كلها
ويصعد إلى ملكوت السماء ويجازي هناك بأحسن الجزاء ، ويكون (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).
قاعدة
في
الحشر
اعلم أن الزمان
علة التعاقب والتسابق في الوجود ، والمكان علة التكثر والافتراق في الحضور ، فهما
سببان لاختفاء الموجودات بعضها عن بعض ، فإذا ارتفعا في القيامة ارتفعت الحجب بين
الخلائق فيجتمع الخلائق كلهم الأولون والآخرون ، (قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ، فهو يوم الجمع (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) ، وبوجه آخر هو يوم الفصل ، لأن الدنيا دار الاشتباه
والاختلاط ، متشابك فيها الحق مع الباطل ، ويتخالط فيها الوجود والعدم والخير
والشر والخبيث والطيب ، وفي الآخرة يتفرق المتخالفات لقوله : (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ) ، وفيها يتميز المتشابهون لقوله ، (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ) الآية ، وينفصل الخصمان لقوله ، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ
الْباطِلَ) ، وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، ولا منافاة بين هذا الفصل وذلك الجمع ، بل هذا يوجب ذاك
كما قال : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ
جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) ، والحشر أيضا بمعنى الجمع قوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ
مِنْهُمْ أَحَداً).
إعلام كشفي
اعلم ن حشر
الخلائق على أنحاء مختلفة لما علمت سابقا من أن الإنسان سيصير أنواعا مختلفة بحسب
الباطن والروح ، بعد أن كان نوعا بحسب الطبيعة البشرية ، وذلك من جهة اختلاف
ملكاتهم الحاصلة من تكرر أعمالهم ، فالحشر لقوم على سبيل الوفد إلى الحق (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً) ، ولقوم على سبيل الانسياق إلى جهنم وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى
جَهَنَّمَ وِرْداً) ، ولقوم على سبيل التعذيب (يَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) ، وقوم كما في قوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ، وقوله (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ، وقوم كما قال : (وَنَحْشُرُ
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) ، وقوم كما قال : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى).
وبالجملة يحشر كل
أحد إلى غاية سعيه وعمله ونهاية قصده ونيته وهمته وما يحبه ويشتاق إليه ، «المرء
يحشر مع من أحب» ، كما قال : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) ، حتى أنه «لو أحب أحدكم حجرا يحشر معه».
بصيرة برهانية
قد سبق أن تكرر
الأفاعيل من الإنسان يوجب حدوث ملكات وأخلاق في نفسه ، وكل ملكة وصفة تغلب على
جوهر النفس يتصور النفس في القيامة بصورة تناسبها ، ولا شك أن أفاعيل الأشقياء
المدبرين المردودين إلى أسفل سافلين بحسب هممهم القاصرة عن الارتقاء إلى جهة عليين
، مقصور على أغراض بهيمية أو سبعية غلبت عليهم شقوتهم ، ونفوسهم مردودة في البرازخ
الحيوانية ، فيحشرون على صور تلك الحيوانات في الدار الآخرة ، فإن حقيقة كل نوع
ليست مادتها بل صورتها التي هي بها بالفعل ، سواء كانت بلا مادة أو في مادة ،
وسواء كانت المادة من هذا العالم أو من عالم
آخر ، فصورة
البهيمية أو السبعية إذا حصلت في قابلية النفس ورسخت فيها صارت بهيمة أو سبعا بحسب
الباطن ، وسيبرز في الآخرة عند كشف الغطاء ويحشر فيها كذلك كما في قوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) ، وفي الحديث «يحشر بعض الناس على صورة يحسن عندها القردة
والخنازير» وبالجملة يحشر الخلائق على صور ضمائرهم ونياتهم ، وعليه يحمل معنى
التناسخ الوارد في لسان الأقدمين.
المشهد الخامس
في الصراط
الصراط طريق الحق ودين التوحيد الذي جميع الأنبياء والرسل عليهمالسلام ومتابعيهم عليه ، وجميع المقامات السنية وأحوال السالكين
في السير إلى الله وفي الله راجعة إليه ، وعلم التوحيد أنفع العلوم وأنورها
وأشرفها وأوثقها ونقاوتها وصفوتها ، وهو المقصد الأقصى والمنزل الأعلى ، وليس وراء
عبادان قرية ولا مطمع في النجاة إلا باقتنائه ، ولا فوز بالدرجات إلا باجتنائه ،
ولعلو مرتبته انقلبت البصائر عنه كليلة ، والعقول عليلة ، والنواظر خواسر ، وحقيقة
التوحيد يجل عن أن يحيط بها فهم ، أو يحوم حوم حماها وهم ، ولا يصعد أحد إلى جوار
الله وقربه إلا صاحب علم التوحيد ، وما يمر على درجات السلوك نحوه والصعود إليه
إلا بقوة هذا اليقين ، فهو السالك الواصل إليه تعالى بقطع منازل الاحتجاب ، وطي
طبقات الحسنات و
__________________
سجلات الكتاب ،
وغيره لا يمكن له السعي والمشي إلا بالاقتداء به والاعتصام بعروته والتمسك بضياء
نوره وقوته ، كالأعمى في المشي بالقائد الآخذ بيده ، على أن لكل طائفة صراطا تمر
عليه كما قال تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وقد علمت أن لكل
موجود حركة جبلية وتوجها غريزيا إلى مسبب الأسباب ، وللإنسان مع تلك الحركة
الجبلية حركة إرادية نفسانية لباعث ديني ، وهذا المعنى أي تقلب الوجود في أطواره
الكمالية مشاهد مكشوف لأهل البصيرة في أكثر الموجودات ، وخصوصا في الإنسان لسعة
دائرة وجوده وعظم قوسه الصعودية إذا لم ينحرف عن صراط ربه ولم يسقط عن فطرته ، قال
تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) ، فالاستقامة عليه والتثبت فيه هو الذي كلف الله عباده به
وأرسل رسوله إليهم ، وأنزل الكتاب عليهم لأجله وباقي الصراطات ليس شيء منها ، هو
هذا الصراط المختص بأهل الله ، لأن كلا منها يؤدي سلوكه إلى غاية أخرى غير لقاء
الله ، وإلى مظهر اسم آخر غير الرحمن الرحيم ، كالقهار والمنتقم والجبار وغير ذلك
، وإلى منزل آخر غير الجنة والرضوان كطبقات النيران ، كما حققه العرفاء قال تعالى
: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ، والاستقامة عليه هي المراد بقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) ، والانحراف عنه يوجب السقوط عن الفطرة والهوي إلى جهنم
التي «قيل لها (هَلِ امْتَلَأْتِ
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)» ، وهذا الصراط هو المدعو للمصلي في كل صلاة بقوله اهدنا
الصراط المستقيم ، وهو «أدق من الشعر وأحد من السيف» ، لأن كمال الإنسان منوط
باستعمال قوتيه ، أما القوة النظرية فلإصابة نور اليقين في الأنظار الدقيقة التي
هي أدق من الشعر ، وأما القوة العملية فبتوسيط قواها الثلاثة التي هي الشهوية
والغضبيه والفكرية في الأعمال ، لتحصل للنفس حالة اعتدالية متوسطة بين الأطراف
غاية التوسط ، وهي أحد من السيف ، فالصراط له وجهان ، أحدهما أدق من الشعر ،
والآخر أحد من السيف ، والانحراف عن الوجه الأول
السقوط عن الفطرة
، (إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) والوقوف على الوجه الثاني يوجب الشق والقطع ، كما قيل : من
وقف عليه شقه ، وإليه الإشارة بقوله (يُسْحَبُونَ فِي
الْحَمِيمِ) ، وقوله : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) ، وعن النبي صلىاللهعليهوآله في قوله تعالى : (أَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) ، أي «مروا على صراط الآخرة مستويا من غير انحراف وميل»
فمعنى حسن الخلق الوسط بين الإفراط والتفريط ، فخير الأمور أوسطها ، وكلا طرفي قصد
الأمور في الدنيا ذميم ، ولذلك قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، وقال (وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، وقال (أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).
وتحقيق ذلك أن
كمال الآدمي بحسب العمل ، التجرد والبراءة عن هذه الأوصاف المتضادة الحيوانية ،
وليس في قدرة البشر الانفكاك عنها بالكلية ، لكن التوسط بين الأضداد بمنزلة الخلو
عنها ، وكلا جانبي هذا الصراط الجحيم ، ووسطها طريق الجنة ، ولهذا قيل «اليمين
والشمال مضلة» وكماله بحسب العلم هو تحصيل نور الإيمان واليقين ، وغايته أن يصير
إيمانه عيانا ، وعلمه عينا ، ويقينه شهودا حقا.
مشاهدة قلبية
هذا الصراط يظهر
يوم القيامة على الأبصار وعلى قدر نور اليقين للمارين عليه إلى الآخرة ، وبحسب شدة
نور يقينهم يكون قوة سلوكهم وسرعة مشيهم ، فيتفاوت درجات السعداء بتفاوت نور
معرفتهم وقوة يقينهم وإيمانهم ، لأن المعارف أنوار ولا يسعى المؤمنون إلى لقاء
الله إلا بقوة أنوارهم ، كما قال : (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ).
وقد ورد في الخبر
أن بعضهم يعطي نورا مثل الجبل ، وبعضهم أصغر ، ويكون آخرهم رجلا يعطي نورا على قدر
إبهام قدمه ، فيضيء مرة ويطفي
مرة ، فإذا أضاء
قدام قدمه مشى وإذا طفئ قام ، ومرورهم على الصراط على قدر نورهم ، فمنهم من يمر
كطرف العين ، ومنهم كالبرق الخاطف ، ومنهم كالسحاب ، ومنهم يمر كشد الفرس ، والذي
أعطى نورا على قدر إبهام قدمه يجثو على وجهه ويديه ورجليه يجر يدا ويعلق أخرى
ويصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص الحديث ، وبهذا يظهر تفاوت الناس في
الإيمان ، فرب إيمان رجل بالقياس إلى إيمان رجل آخر إذا وزن معه كان آلاف ألف مثله
في القوة النورية والرسوخ العلمي.
بصيرة كشفية
عند كشف الغطاء
يظهر لك أن النفس الآدمية السعيدة صورة صراط الله المستقيم ، الذي إذا سلكته
متدرجا على منازله ومقاماته أوصلك إلى الجنة ، فهو في هذه الدار كسائر الأمور
الأخروية غائبة عن الأبصار ، فإذا انكشف عند الغطاء بالموت ورفع الحجاب عن عين
روحك ، يمد لك يوم القيامة كجسر محسوس على متن جهنم ، أوله في الموقف وآخره على
باب الجنة ، يعرف ذلك من يشاهده أنه صنعتك وبناك ، وتعلم حينئذ أنه كان في الدنيا
جسرا ممدودا على متن جهنم طبيعتك التي قيل إنها (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ
شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) لأنها الذي تقود النفس إلى لهب الشهوات التي يظهر أثر حرها
في الآخرة ، فالسعيد من أطفى ناره بماء العلم وطهارة التوبة.
زيادة كشف وتوضيح
قال الشيخ الصدوق
محمد بن على بن بابويه القمي رحمهالله اعتقادنا في الصراط أنه حق وأنه جسر جهنم وأن عليه ممر
جميع الخلق ، قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ، قال : والصراط في وجه آخر اسم حجج الله ، فمن عرفهم في
الدنيا وأطاعهم أعطاه الله جوازا
على الصراط الذي
هو جسر جهنم يوم القيامة ، وقال النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على
الصراط ولا يجوز على الصراط أحد إلا من كانت معه براءة بولايتك ، عن الحسن البصري
في صفة الصراط : أنه مسيرة ثلاثة آلاف سنة ، أدق من الشعر وأحد من السيف ، ألف
صعود ، وألف استواء ، وألف هبوط ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : شعار المؤمنين على الصراط رب سلم رب سلم ، وقال صلىاللهعليهوآله : ثلاث مواطن لا يذكر أحد أحدا ، عند الميزان حتى يعلم أيخف
ميزانه أو يثقل ، وعند تطاير الصحف حتى يعلم أيقع كتابه في يمينه أم في شماله أم
من وراء ظهره ، وعند الصراط إذا وضع بين ظهر جهنم حتى يجوز.
قال أهل الشهود إن
الله تعالى خلق الصراط من رحمته أخرجها للمؤمنين ، فالصراط للموحدين خاصة ،
والكفار لا جواز لهم عليه ، لأن النار قد التقطت من الموقف جبابرهم ، وسائر الكفار
قد اتبعوا ما كانوا يعبدون من دون الله عزوجل إلى النار ، فقسم النور بين الموحدين على قدر ما جاءوا به
من الدنيا ، والصراط يدق ويتسع على حسب منازل الموحدين ، الدقة للمذنبين والسعة
للمتقين ، والأصل الواسع للأنبياء والأولياء يصير لهم كالبساط سعة وبسطا ، ولهم
السرعة والإبطاء ، فأولهم كلمح البصر وآخرهم كعمر الدنيا سبعة آلاف سنة ، تزل قدم
تحترق ، ثم يخرجها فتبرأ من الرحمة ، ثم تزل قدم والأخرى قد برئت ، فالإسلام خرج
لهم من الرحمة ، فلما قبلوه ولم يفوا به ضرب لهم جسرا من تلك الرحمة ، فيمرون
عليها فمن ضيع منهم شيئا من أعمال الإسلام فإنما ضيع الرحمة التي رحم بها فزلت ،
فالدقة والاتساع على قدر الرحمة من الله للعبد فبحظ العبد من الرحمة التي قسمه
سبحانه في أيام الدنيا يتسع الصراط عليه هناك ، والسرعة والإبطاء في قطع الصراط
على قدر القرب ، فبحظ العبد من نور القربة يسرع ويبطأ ، فأولهم زمرة يقطع في مثل
طرف العين ولمع البرق وهم الأنبياء عليهمالسلام ، والثانية في مثل الريح والطير وهم الصديقون والأولياء ،
والثلاثة مثل حضر
__________________
الفرس وأجاويد الخيل
وهم المجاهدون أنفسهم الذين صدقوا الله في جميع حركاتهم ، والرابعة مثل الراكب
رحله وهم المتقون ، والخامسة في مثل سعي الرجل وهم العابدون ، والسادسة مشيا وهم
العمال المستورون ، والسابعة جثوا وهم المتهتكون من الموحدين وكل زمرة لها نور ،
نور النبوة ونور الولاية ونور الصدق ونور التقوى ونور العبادة ونور الستر ونور
التوحيد ، فمنهم من نوره مد بصره ، ومنهم من نوره عند إبهام قدمه ، وهو آخرهم وليس
النور هناك بكثرة الأعمال ، إنما النور بعظم نور الأعمال ، وإنما يعظم نور العمل
على قدر ما في القلب من نور القربة وكل نور أقرب إلى الله فهو أقوى وأنور ، فكم من
رجل قل عمله هناك سبق إلى الجنة ممن هو أربى بعمله منه أضعافا مضاعفة ، ألا ترى
إلى قوله صلىاللهعليهوآله لمعاذ بن جبل ، خلص يكفيك القليل من العمل ، ولذلك روي في
الحديث «يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم ، ولمثقال حبة
من خردل من يقين أفضل عند الله من أمثال الجبال عبادة».
المشهد السادس
في نفخ الصور
لما سئل النبي صلىاللهعليهوآله عن معنى الصور فقال قرن من نور التقمه إسرافيل فوصفه
بالسعة والضيق ، فقيل إن أعلاه أوسع وأسفله أضيق ، وقيل بالعكس ولكل من القولين
وجه صحة كما لا يخفى على العارف ، والصور بضم الصاد وسكون الواو وقرئ بفتحها أيضا
جمع الصورة ، لأن نافخها واهب الصور بإذن الله.
قال الشيخ العربي
في الفتوحات المكية بعد ذكر الناقور والصور ليعلم بعد ما قررناه أن الله تعالى إذا
قبض الأرواح من هذه الأجسام الطبيعية والعنصرية ، أودعها صورا أخذها في مجموع هذا
القرن النوري ، فجميع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور يدركها بعين
الصورة التي هو بها في القرن ، والنفخة نفختان ، نفخة تطفئ النار ، ونفخة تشعلها ،
فكذلك نفخة الصور ، نفختان.
الأولى لإماتة
الإنسان ولمن يزعم أن له حياة ، سواء كان من أهل السماوات أو من أهل الأرض ، قال
تعالى : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) ، وهم الذين سبقت لهم القيامة الكبرى ، وإليهم الإشارة
بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) إلى قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، إذ الفزع الأكبر هو إشارة إلى قوله : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ) ، وأولئك ليسوا
من أهل السماوات
والأرض ، لكون ذواتهم خارجة من عالم الأجسام وصورها ونفوسها ، ولا يجري عليهم تجدد
الأكوان ولا تغير الزمان ، لاستغراقهم في بحر قهر الأحدية وسطوة نور القيومية
كالملائكة المهيمين ومن يجري مجراهم في أن هوياتهم مطوية تحت الشعاع القيومي ، فلا
التفات لهم إلى ذواتهم ، ولا علم لهم إلى غير الله (لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). والثانية لأجل الإحياء بعد الإماتة حياة أخرى أرفع من
الأولى ، قوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، أي أرض المحشر وأرض الجنة وكذا النفوس. واعلم أن المواد
الكونية بصورها الطبيعية القابلة للاستنارة بالأرواح كالفحم في استعداده للاشتعال
، والصورة البرزخية كامنة فيها بحسب ذلك الاستعداد كمون الحرارة والحمرة في الفحم
، والصور النفسانية كامنة في الصور البرزخية كمون الاشتعال والإنارة في الحرارة ،
ففي النفخة الأولى زالت الصور الطبيعية بالإماتة ، والصور البرزخية استعدت لقبول
الاستنارة بالأرواح الكامنة فيها استعداد الفحم بالنار التي كمنت فيه لقبول
الاشتعال ، فينفخ إسرافيل وهو المنشئ للأرواح في الصور نفخة ثانية فتستنير
بأرواحها (فَإِذا هُمْ قِيامٌ
يَنْظُرُونَ) ، فيقوم تلك الصور إحياء ناطقة بما ينطقهم (اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ، فمن ناطق بالحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ، ومن ناطق «ب (مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا هذا) وكل واحد ينطق بحسب علمه وحاله وما كان عليه ، ونسي حاله
في البرزخ ، فيتخيل أن ذلك منام كما يتخيله المستيقظ من هذه النوم ، وقد كان عند
موته وانتقاله كالمستيقظ وأن الحياة الدنيا كالمنام وهي في جنب البرزخ والآخرة
كمنام في منام ، وهذا القيام إنما يتحقق عند القيامة وفي القيامة يتحقق البعث ،
لقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ، وعند البعث يتحقق الثواب والعقاب.
تنوير وتذكير
اعلم أن من الناس
من يرى أمور القيامة وأحوالها بعين البصيرة ويحضر عنده شهود الآخرة ، فلا فرق في
شهوده بين أن يكون قبل قيام الساعة أو بعده ، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، فلا يحتاج مثله في الوصول
إلى عالم اليقين وبروز الحقائق له إلى البعث ، لزوال الحجب عن عين بصيرته كما في
قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ، وذلك لا يمكن إلا بتبدل نشأتهم الدنيوية إلى نشأتهم
الأخروية ، وإذا تبدلت نشأتهم ، تبدلت أسماعهم وأبصارهم وحواسهم إلى أسماع وأبصار
وحواس أخروية تدرك بها أمور الآخرة ، وإلى هذا التبديل أشار تعالى بقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، وبقوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) ، وبقوله : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ، وبهذا التبديل في الوجود سواء وقع قبل الموت أو بالموت
أو بعده يستحق الإنسان لدخول الجنة ودار السلام ، ويتحقق الفرق بين أهل الجنة وأهل
النار ، فأهل الجنة لهم أبدان مطهرة وصور مجردة عن رجس هذه المواد ، بخلاف أهل
الجحيم لعدم تبدل نشأتهم كما قال تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ، كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا
يَعْلَمُونَ) ، قال المفسرون المعنى أنكم مخلوقون من نطفة قذرة لا يناسب
المكون من هذه المادة عالم القدس والطهارة ، وقوله : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) عقيب قوله : (أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، يجري جواب عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : إذا كان المخلوق من
ماء مهين لا يستأهل جوار رب العالمين ، إذ ما للتراب ورب الأرباب ، فكيف يدخل
المؤمنون جنة النعيم ، فقيل نبدلهم بنشأة خير من هذه النشأة ، فيحصل لهم بما أهلية
الدخول في دار القدس ، كما قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً) ، وكما قال : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ، إذ لا يستأهل دار الله وجواره ولا الصعود إلى المنزل
الأعلى ، كما قال : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي
سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) لكثافة جوهرهم وثقلهم وتعلقهم بهذا البدن الطبيعي ،
وتثبطهم وقعودهم عن الارتقاء إلى عالم السماء وإخلادهم إلى الأرض ، لقوله : (لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَواهُ).
قاعدة
في
أحوال تعرض يوم القيامة
إذا ظهر نور
الأنوار وانكشف جلال وجه الله القيوم ، وغلب سلطان الأحدية ، واشتدت جهات الفاعلية
والتأثير والتنوير ، وأخرجت القوابل والمستعدات من القوة إلى الفعل ، وانتهت
الحركات إلى غاياتها ، وبرزت الحقائق من مكامن غيبها وحجب موادها وإمكاناتها إلى
مجالي ظهوراتها ، انخرط كل ذى مبدإ في مبدئه ، ورجع كل شيء إلى أصله وعاد كل نقص
إلى كماله وكل ذي غاية إلى غايته ، قوله : (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ،) ، وقوله : (لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ) ، وقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فإذا اتصل كل فصل إلى وصله ، والتحق كل فرع بأصله ، وبلغ
كتاب كل شيء أجله ، وجمع كل مستفيض بمفيضه ، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) ، فلم يبق لأنوار الكواكب عند ذلك ظهور ، (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) ، ولا لأجرامها قدر ووضع ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ) ، وزال ضوء الشمس وانكدر نور الكواكب (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ، ومحى نور القمر (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ولم يبق بعد ومسافة بين المنير والمستنير ، ولا تفاوت ولا
تباين (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) ، واتحدت النفوس بالأرواح وزالت المباينة بين الأشباح
والأرواح ، ولهذا يكون أبدان أهل الجنة بصورة نفوسها كالشخص وظله ، ورجعت السماوات
والأرض على ما
كانتا عليه قبل
انفتاقها من الرتق ، فعادتا إلى مقام الجمعية المعنوية من هذه التفرقة الطبيعية
حيث كانتا رتقا قبل الفتق فعادتا كما كانتا رتقا بعد الفتق ، وكذا العناصر الأربعة
يصير كلها عنصرا واحدا مظلما (لا يَرَوْنَ فِيها
شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) ، والجبال لكونها متكونة من الرمال المتفتتة فعادت كما
كانت عليه ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى
فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) ، وتنقلب كل العنصريات والمركبات نارا غير هذه النار
الأسطقسية وتصير الهيولى كلها بحرا مسجورا ، (وَإِذَا الْبِحارُ
سُجِّرَتْ) ، كما وقعت الإشارة إليه في حق آل فرعون ، (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ، وبالجملة يتصل البر بالبحر ويتحد الفوق والتحت ، ويزول
الأبعاد والأحجام ويرتفع الحواجز والحوائل ، ويرق الحجب لأهل البرازخ ومواقف
الأشهاد ، «يَوْمَ
تُبْلَى السَّرائِرُ ، يَوْمَ
يَقُومُ الْأَشْهادُ» ويقام الخلائق عن مكامن الحجب إلى مواقف كشف الأسرار ، لقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ، والمتخلصون عن محابس البرازخ يتوجهون إلى الحضرة الإلهية
، لقوله : (فَإِذا هُمْ مِنَ
الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).
قال بعض العرفاء
المكاشفين إذا (أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقالَها) حتى ما بقي فيها شيء اختزنته ، جيء بها إلى الظلمة التي هي
دون المحشر ، كما قال : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) ، فيمد مد الأديم وبسطه فلا يرى فيها عوجا ولا أمتا ، وهي الساهرة
فلا نوم فيها كما قال : (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) ، ويرجع ما تحت مقعر فلك الكواكب جهنم ، وسميت بهذا الاسم
لبعد قعرها يقال بئر جهنام أي بعيد القعر ، ويوضع الصراط من الأرض علوا إلى سطح
فلك الكواكب وهو فرش الكرسي من حيث باطنه ، إذ كل أمور الآخرة يقع في باطن حجب
الدنيا ، ولذلك قيل أرض الجنة الكرسي وسقفها عرش الرحمن ، ويوضع الموازين في أرض
المحشر لكل مكلف ميزان يخصه بعد الميزان العام ، قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) للرحمن ، وضرب بسور يسمى الأعراف بين الجنة والنار وجعل
مكانا لمن اعتدلت كفتا ميزانه ، ووقعت الحفظة بأيديهم الكتب التي كتبوها في الدنيا
من أعمال
المكلفين وأقوالهم
ليس فيها شيء من الاعتقادات القلبية ، لقوله : (كُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) ، وقوله : (وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ، وقوله : (لِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، فعلقوها في أعناقهم وأيديهم كما في قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ، وقال (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ، فمنهم من أخذ
كتابه بيمينه ومنهم من أخذه بشماله ومنهم من أخذه وراء ظهره ، وهم الذين نبذوا
الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وليس أولئك إلا أئمة الضلال ، قال ويأتي مع كل إنسان قرينه
من الشياطين والملائكة لقوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا
عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ
عَتِيدٌ) ، وقوله : (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، ثم يأتي الله عزوجل على عرشه والملائكة يحمل ذلك العرش فيضعونه على تلك الأرض
المشرقة بنوره ، كما قال : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) ، وقوله : (وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ، والجنة عن يمين العرش والنار من جانب الآخر ، وقد غلبت
الهيبة الإلهية على أهل الموقف من ملك وإنسان وجان ، قوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ
فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) ، ويرتفع الحجب بين الله وبين عباده وهو معنى كشف الساق ،
قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ، فلا يبقى أحد على أي دين كان إلا يسجد السجود المعهود ،
ومن سجد في الدنيا اتقاء أو رياء خر على قفاه ، ويشرع في الفصل والقضاء والحكم بين
عباده فيما كان بينهم ، وأما ما كان بينهم وبين الله ، فإن الكرم الإلهي يسقطه ولا
يؤاخذ به ، وقد ورد من الأخبار في ذلك اليوم ما ورد ، ودون الناس ما دونوا ، ونحن
بصدد توضيح بعض منها ما يبلغ إليه طاقتنا ويناله جهدنا.
المشهد السابع
في الإشارة إلى نشر الصحائف وإبراز الكتب وكرام الكاتبين
اعلم أن القول
والفعل ما دام وجودهما في أكوان الحركات والأصوات فلاحظ لهما من البقاء والثبات ،
ولكن من فعل فعلا أو نطق بقول يحصل منه أثر في نفسه وحاله يبقى زمانا ، وإذا تكررت
الأفاعيل والأقاويل استحكمت الآثار في النفس ، فصارت الأحوال ملكات ، إذ الفرق بين
الحال والملكة بالشدة والضعف ، والاشتداد في الكيفية يؤدي إلى حصول صورة ، أي مبدإ
جوهري لها كالحرارة الضعيفة في الفحم إذا اشتدت صارت صورة نارية محرقة ، كذلك
الكيفية النفسانية إذا اشتدت صارت ملكة راسخة ، أي صورة نفسانية هي مبدأ لآثار
مختصة بها فيصدر بسببها الفعل المناسب لها بسهولة من غير روية وحاجة إلى تعمل
وتجشم اكتساب من خارج ، ومن هذا الوجه يحدث ملكة الصناعات والمكاسب العلمية
والعملية ، ولو لم يكن للنفوس الآدمية هذا التأثر أولا ثم الاشتداد يوما فيوما لم
يكن لأحد اكتساب شيء من الصناعات والحرف ، ولم ينجع التأديب والتعليم لأحد ، ولم
يكن في تأديب الأطفال وتمرينهم على الأعمال فائدة ، وذلك ، قبل رسوخ أخلاق مضادة
لما هو المطلوب في نفوسهم ، ولأجل ذلك يتعسر تعليم الرجال البالغين وتأديبهم ،
لاستحكام صفات حيوانية في نفوسهم بعد ما كانت هيولانية قابلة لكل صنعة وعلم ،
كصحيفة خالية من النقوش والصور ، فالآثار الحاصلة من الأعمال والأقوال في القلوب
بمنزلة النقوش الكتابية في الألواح والصحائف ،
كما قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمانَ) ، وتلك الألواح القلبية يقال لها صحائف الأعمال وتلك
النقوش والصور الكتابية كما يحتاج إلى قابل يقبلها كذلك يحتاج إلى فاعل أي مصور
وكاتب ، والمصورون والكتاب في مثل هذه الكتابة هم الكرام الكاتبون ، لكرامة ذاتهم
وفعلهم عن المواد الجسمانية ، فهم لا محالة ضرب من الملائكة المتعلقة بأعمال
العباد وأقوالهم ، قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ، وهم طائفتان ، ملائكة اليمين ، وهم الذين يكتبون أعمال
أصحاب اليمين ، وملائكه الشمال وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب الشمال ، قوله تعالى
: (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، وقوله : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ، وقوله : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي
ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) ، لأن كتابه من جنس العلوم والاعتقادات اليقينة والأخلاق
الحسنة ، والظن هاهنا بمعنى اليقين ، (وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ
أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) لأن كتابه من جنس الأكاذيب الباطلة والأغاليط الواهية
والأوصاف الشيطانية والشهوات الدنيوية المحرقة للنفوس المولمة للقلوب ، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ
ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً).
وقد ورد في الخبر
أن من عمل حسنة كذا يخلق الله منها ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة ، كما قال :
تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، وهكذا قياس الحكم في جانب الكفر والسوء ، من فسد اعتقاده
وبالغ في كفره وسوء اعتقاده يتنزل عليه شيطان يوعده بالشر والجحيم ، وكان قرينه في
القبر وفي القيامة ويتعذب به في الآخرة كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، وقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ، وهذه الهيئة الراسخة في الباطن المتمثلة للنفس هي
المسماة في عرف
الحكمة بالملكة وفي لسان النبوة بالملك والشيطان في جانبي الخير والشر ، والمآل
فيهما واحد بشرط أن يكون معلوما عندك أن الملكات الراسخة النفسانية تصير صورا جوهرية
، بل ذواتا مستقلة متمثلة فعالة في النفس منعمة أو موذية لها ، ولو لم يكن لتلك
الملكات من الثبات والتجوهر ما يبقى أبد الآباد ، لم يكن لخلود أهل الجنة في
الثواب أبدا وأهل النار في العقاب سرمدا وجه صحة ، فإن منشأ الثواب والعذاب لو كان
نفس العمل أو القول وهما أمران زائلان يلزم بقاء المعلول مع زوال العلة المقتضية ،
وذلك غير صحيح ، والفعل الجسماني الواقع في زمان متناه كيف يصير منشأ للجزاء
الواقع في أزمنة غير متناهية ، ومثل هذه المجازاة لا سيما في جانب العقاب لا يليق
بالحكيم ، وقد قال : (وَما أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وقال : (بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ) ، ولكن إنما يخلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار
بالثبات في النيات ، ومع ذلك فإن من فعل مثقال ذرة من الخير والشر يرى أثره مكتوبا
في صحيفة ذاته أو صحيفة أرفع من ذاته مخلدا أبدا ، كما قال : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) ، وإذا حان وقت أن يقع بصره إلى وجه ذاته عند فراغه عن
شواغل هذه الحياة الدنيا وما تورده الحواس ، ويلتفت إلى صفحة باطنه ولوح ضميره
وقلبه ، وهو المعبر عنه بقوله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ) ، فمن كان في غفلة عن أحوال نفسه وروحه وحساب حسناته
وسيئاته يقول عند حضور ذاته لذاته ومطالعة صفحة وجهه (ما لِهذَا الْكِتابِ
لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا
حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ... ، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً).
وقد ورد في هذا
الباب من طريق أهل البيت عليهمالسلام وغيرهم أحاديث كثيرة عن النبي صلىاللهعليهوآله ، منها ما روي عن قيس بن عاصم أنه قال صلىاللهعليهوآله : يا قيس إن مع العز ذلا وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا
آخرة ، وإن لكل شيء رقيبا ، وعلى كل شيء حسيبا ، وإن لكل أجل
كتابا ، وإنه لا
بد لك من قرين يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريما أكرمك ، وإن
كان لئيما أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه ، ولا تسئل إلا عنه فلا
تجعله إلا صالحا ، فإنه إن صلح آنست به ، وإن فسد لا تستوحش إلا منه ، وهو فعلك.
فانظر يا وليي في
هذا الحديث تجد فيه لباب معرفة النفس ، وفيه إشارة إلى عدة أصول من مسائل علم
النفس وأحكامها ليس هاهنا موضع بيانها وشرحها ، من أراد الاطلاع فليطالع كتابنا
الكبير المسمى بالأسفار الأربعة ، والمجلد الأول من تفسيرنا الكبير المسمى ذلك
المجلد المفتتح بمفاتيح الغيب وغيرهما من المطولات والمتوسطات ، ومنها قوله صلىاللهعليهوآله : إن الجنة قيعان وإن غراسها سبحان الله ، ومنها المرء
مرهون بعمله ، ومنها خلق الكافر من ذنب المؤمن ، ومنها ما ورد من فعل كذا خلق الله
له ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة ، وأمثال ذلك من الأخبار.
وفي كلام فيثاغورس
وهو من أعاظم الحكماء السابقين أنك ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك ، وسيظهر
لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صور روحانية وجسمانية ، فإن كانت الحركة
غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك
، وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى
جوار الله وكرامته.
ومما يدل على أن
صورة الإنسان في الآخرة نتيجة عمله وغاية فعله في الدنيا قوله تعالى في حق ابن نوح
عليهالسلام : (إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ) على قراءة فتح الميم ، ومما يدل على أن نفس العمل يعني
الملكة الحاصلة منه نفس الجزاء ، وقوله تعالى : (وَلا تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، وقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، لم يقل بما كنتم تعملون ، تنبيها على هذا المطلب ، وقوله
: (ذلِكَ جَزاءُ
أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) ، وتوضيح ذلك أن مواد الأشخاص الأخروية كما مر هي التصورات
الباطنية والتأملات النفسانية ، لأن دار الآخرة ليست من جنس هذه الدار ، فما في
الدنيا مادة يطرأ عليها صورة أو نفس من
خارج ولها حياة
عرضية ، وما في الآخرة أرواح هي بعينها صور معلقة قائمة بذاتها حياتها نفس ذاتها ،
وهي مع وحدتها الشخصية متكثرة الصور ، والإنسان إذا انقطع عن الدنيا وتجرد عن لباس
هذا الأدنى وكشف عن بصره هذا الغطاء ، كانت قوته الإدراكية قدرة وعلمه عينا وغيبه
شهادة وسره معاينة ، فيصير مبصرا لنتائج أعماله وأفكاره ، مشاهدا لآثار حركاته
وأفعاله ، قارئا لصحيفة أعماله ولوح كتابه ، مطلعا على حساب حسناته وسيئاته ، كما
في قوله تعالى (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً) ، ومما يدل على أن الإنسان الكائن في دار الآخرة غير متكون
من مادة طبيعية ، بل من صورة نفسانية إدراكية ، قوله تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ
يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، فعلم أن المرء متكون في القيامة من معلومه ومعتقده ، فإن
كان علمه من باب الشهوات والأماني وإلا هواء الفاسدة ، يكون من أهل النار محترقا
بنار الجحيم ، ويكون كتابه في السجين ، وإن كانت معلوماته من باب الأمور القدسية
ومعرفة الله وعالم ملكوته وكتبه ورسله وسائر المعارف الحقة مع صفاء ذاته من
الأمراض والأغشية والظلمات ، فيكون لا محالة من أهل الملكوت الأعلى ، ويكون نفسه
ككتاب الأبرار (لَفِي عِلِّيِّينَ
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) ، وللآية تأويل آخر هو أيضا صحيح وبالجملة فقد ظهر أن كل
واحد من أفراد الناس يتكون من مادة النيات والاعتقادات كما يتكون في الدنيا من
مواد النطفة والأغذية.
المشهد الثامن
في الميزان والحساب
قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) ، وقال تعالى : (وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما
كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) ، أوتي بلفظ الجمع إشارة إلى أن الموازين أنواع كثيرة ،
بعضها ميزان العلوم وبعضها ميزان الأعمال ، وسئل الصادق عليهالسلام عن قول الله عزوجل (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، قال عليهالسلام : الموازين الأنبياء والأوصياء.
وقال شيخ الطائفة
أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه رحمهالله ، اعتقادنا في الحساب أنه حق منه من يتولاه الله عزوجل ، ومنه من يتولاه حججه ، فحساب الأنبياء والأئمة يتولاه
الله عزوجل ، ويتولى كل نبي حساب أوصيائه ، ويتولى الأوصياء حساب
الأمم ، والله تبارك وتعالى هو الشهيد على الأنبياء والرسل ، وهم الشهداء على
الأوصياء ، والأئمة شهداء على الناس ، وذلك قول الله عزوجل : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).
أما ميزان العلوم
فاعلم أن الله قد وضع ميزانا مستقيما أنزل من السماء ليعرف بأقسامه مكاييل الأغذية
المعنوية ومثاقيل الأرزاق الروحانية
الباطنية ، ويعلم
بها حقها من باطلها ، ويوزن بها نقود الحقائق العقلية وجواهر الصور الإدراكية ،
ليميز رائجها في سوق الآخرة من زيفها وخالصها من مغشوشها ، وعلمنا بتعليم رسول
الله صلىاللهعليهوآله كيفية الوزن به ومعرفة أقسامه الخمسة وتميز مستقيمها عن
مائلها ، حيث قال : (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) ، فمن يعلم هذه الموازين الخمسة التي أنزلها في كتابها
المنزل على رسوله وعلم بها أنبيائه وعباده الصالحين فقد اهتدى ، ومن عدل عنها وعمل
بالرأي والتخمين فقد ضل وغوى وتردى إلى الجحيم.
فإن قلت : أين
ميزان العلوم في القرآن وهل هذا إلا إفك وبهتان ، قلنا : ألم تسمع قوله تعالى في
سورة الرحمن ، (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) إلى أن قال : (وَالسَّماءَ رَفَعَها
وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ... (وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ، ألم تسمع في سورة الحديد : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ، أتزعم أيها العاقل أن الميزان المنزل من عند الله مع
إنزال الكتاب المقرون اسمه باسم الكتاب هو ميزان البر والشعير والأرز والأقط وغيرها؟ أتتوهم أن الميزان المقابل وضعه لرفع السماء هو
القبان والطيار وأمثالهما ، ما أبعد هذا الحسبان ، وما أسخف هذا البهتان ، واتق
الله يا أخي ولا تتعسف في باب التأويل واترك الجهالة واللجاج (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ).
واعلم أن هذا
الميزان برهان معرفة الله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته ،
ليعلم كيفية الوزن به تعليما من قبل أنبيائه عليهمالسلام كما تعلم الأنبياء من ملائكته ، فالله هو المعلم الأول ،
والمعلم الثاني جبرئيل ، وثالث المعلمين هو الرسول صلىاللهعليهوآله ، وأول من استعمل هذا الميزان بتعليم الله وتعليم جبرئيل
هو أب الأنبياء وشيخهم إبراهيم الخليل ثم سائر الأنبياء إلى ابنه المقدس محمد صلىاللهعليهوآله وقد
__________________
شهد الله لهم
بالصدق ، وتفصيل ذلك مذكور ، في المفاتيح الغيبية.
واعلم أن الموازين
الواردة في القرآن في الأصل ثلاثة ، ميزان التعادل ، وميزان التلازم ، وميزان
التعاند ، لكن ميزان التعادل تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، الأكبر والأوسط والأصغر ،
فيصير الجميع خمسة وتفاصيلها وبيان كل منها وكيفية استنباطها من القرآن المجيد
مذكورة هناك.
الأول الميزان
الأكبر من موازين التعادل وهو ميزان الخليل عليهالسلام وقد استعلمه مع نمرود وهو كما حكى الله بقوله : (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) إلى قوله : (فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ) ، وقد أثنى الله عليه في استعماله لهذا الميزان ، قال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ) ، فإن في حجته الثانية التي بها صار نمرود مبهوتا ، لأنه
أدركها ولم يبلغ دركه إلى الحجة الأولى ، أصلين ، إذ مدار القرآن على الحذف
والإيجاز ، وكمال صورة هذا الميزان أن يقال : كل من قدر على اطلاع الشمس من المشرق
هو الإله ، هذا أحد الأصلين ، وإلهي هو القادر على اطلاعها منه الأصل الآخر ، فلزم
من مجموعها أن إلهي هو الإله دونك يا نمرود ، والأصل الأول مقدمة ضرورية متفق
عليها ، والثاني من المشاهدات ويلزم منهما النتيجة ، فكل حجة صورتها هذه الصورة
وصح فيها أصلان كان حكمها في لزوم النتيجة المناسبة هذا الحكم ، إذ لا دخل لخصوص
المثال ، فإذا جردنا روح الميزانية عن خصوصية المثال نستعملها في أي موضع أردنا
وننتفع بها ، كما يأخذ الناس معيارا صحيحا وصنجة معروفة ، فيزنون الذهب والفضة
وغيرهما بتلك الصنجة المعروفة.
الثاني الميزان
الأوسط وهو أيضا واضعه الله ومستعمله الأول خليل حيث قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، وكما صورته أن القمر آفل ، والإله ليس بآفل ، فالقمر ليس
بإله ، وأما حد هذا البرهان وروحه فهو أن كل شيئين وصف أحدهما بوصف يسلب عن الآخر
فهما متباينان.
الثالث الميزان
الأصغر فهو أيضا مبناه من الله ، حيث علم به نبيه محمدا صلىاللهعليهوآله في القرآن وهو قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ
إِذْ
قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ) الآية ، ووجه الوزن به أن يقال قولهم بنفي إنزال الوحي على
البشر قول باطل للازدواج بين أصلين ، أحدهما أن موسى وعيسى بشر ، والثاني أنه منزل
عليهما الكتاب ، فيبطل بها الدعوى العامة بأنه لا ينزل الكتاب على بشر أصلا.
الرابع ميزان
التلازم وهو مستفاد من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، وكذا من قوله : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً ما وَرَدُوها) ، وأما حد هذا الميزان وروحه وعياره ، فهو أن من علم لزوم
أمر لأمر آخر وعلم وجود الملزوم يعلم منه وجود اللازم ، وكذا لو علم نفي اللازم
يعلم منه نفي الملزوم ، أما الاستعلام من وجود اللازم على وجود الملزوم أو من نفي
الملزوم على نفي اللازم فهو ملحق بموازين الشيطان ، إذ ربما كان الملزوم أخص من
لازمه.
الخامس ميزان
التعاند أما موضعه من القرآن فهو قوله تعالى تعليما لنبيه ، (ص) (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، ففيه إضمار أصل آخر لا محالة ، إذ ليس الغرض منه ثبوت
التسوية بينه وبينهم ، وهو أنه معلوم أنا لسنا في ضلال مبين ، فيعلم من ازدواج
هذين الأصلين نتيجة ضرورية وهي أنكم في ضلال مبين ، وأما حد هذا الميزان وعياره ،
فكل ما انقسم إلى قسمين متباينين فيلزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر وبالعكس ، لكن
بشرط أن القسمة حاصرة لا منتشرة ، فالوزن بالقسمة الغير المنحصرة وزن الشيطان ،
فهذه هي الموازين المستخرجة من القرآن وهي بالحقيقة سلاليم العروج إلى عالم السماء
بل إلى معرفة خالق الأرض والسماء ، وهذه الأصول المذكورة فيها هي درجات السلاليم.
وأما المعراج
الجسماني فلا يفي به سعة قوة كل أحد بل يختص ذلك بالقوة النبوية.
فإن قلت : فما وجه
التطابق بين الميزان الروحاني والميزان الجسماني ، وأين في ميزان الآخرة العمود
الواحد والكفتان ، وأين في
موازين الآخرة ما
يشبه القبان.
قلنا : قد مر أن
هذه المعارف التي هي سبب عروج النفس إلى معارج الملكوت مستفادة من أصلين ، فكل أصل
كفة ، والحد المشترك بين الأصلين الداخل فيهما عمود ، وأما ما يشبه القبان فهو
ميزان التلازم ، إذ أحد طرفيه أطول ، والآخر أقصر ، ويتولد النتيجة من ازدواج
أصلين يدخل شيء من أحدهما في الآخر ، فهذه الموازين الخمسة التي يعرف بها مثاقيل
الأفكار ومكاييل الأنظار في العلوم الحقيقية التي هي الأرزاق المعنوية لأهل الآخرة
، وقد أنزل الله تعالى هذه الموازين من السماء ليعلم كل أحد مقدار علمه وعقله
وميزان سعيه وعمله ، ويحسب حساب رزقه وأجله ، ويحضر كتاب عمره وأمله ، فإن لكل
مخلوق رزقا خاصا وبحسب كل رزق له أجل مكتوب وحساب محسوب ، والأرزاق المعنوية
كالأرزاق الحسية متفاوتة في الأكل متفاضلة في دوام الحياة والأجل كما وكيفا ونفعا
وضرا بل الأرزاق الأخروية أكثر تفاوتا وأشد تفضيلا من الأرزاق الدنيوية ، كما في
قوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، وقال أيضا مخاطبا لنبيه المنذر : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فأمر الله نبيه بدعوة الخلائق إلى أنواع مختلفة من الرزق
حسب تفاوت الغرائز والجبلات للخلق ، فالقرآن بمنزلة مائدة نازلة من السماء إلى
الأرض مشتملة على أقسام من الرزق لطوائف من الناس ، ولكل منها رزق معلوم وحياة
مقسوم ، فالحكمة والبرهان لقوم ، والموعظة والخطابة لقوم ، والجدل والشهرة لقوم ،
ويوجد فيه لغير هؤلاء الطوائف الثلاث أغذية ليست بهذه المثابة من اللطف ، بل أنزل
منها على حسب مقاماتهم في الكثافة والسفالة إلى حد القشور والنخالة ، كما في قوله
تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، فكما يوجد فيه اللبوب كذلك يوجد فيه التبن والقشور ، وهي
للعوام الذين درجتهم درجة الأنعام كما قال : (مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ) ، وذلك لأن الغذاء يجب أن يكون مشابها للمغتذي.
تبصرة ميزانية
ومن الأمور التي
لا بد من معرفتها لكل أحد ممن آمن بالله وباليوم الآخر ، وهو أن يعلم كيفية الموازنة
بين الأمور الدنيوية والأخروية ، وتحقق التطابق بين النشأتين ، فمن فتح على قلبه
بإذن الله باب الموازنة بين العالمين ، عالم الملك والملكوت ، عالمي الغيب
والشهادة ، يسهل عليه سلوك سبيل الله وملكوته ، واطلع على أكثر أسرار القرآن
وأغواره ، وشاهد حقائق آياته وأنواره ، مما غفل كافة علماء الرسوم ومتفلسفة
الحكماء المشهورين بالفضل والذكاء من هذه الموازنة ، وهي باب عظيم في معرفة أحوال
الأشياء وحقائق الموجودات على ما هي عليها ، سيما معرفة أمور المعاد ، وهو أول
مقامات النبوة ، لأن مبادي أحوال الأنبياء عليهمالسلام أن يتجلى لهم في المنام النشأة الثانية ، ويتصوروا حقائق
الأشياء في كسوة الأشباح المثالية ، لأن الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة ، ولا
يتجلى حقائق الأشياء بلا التباس إلا في عالم القيامة لقيامها بذواتها ، وأما في
هذا العالم فهي في أغطية من الصور الحسية ، والآن (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ، فتأمل في هذا المقام فعساك تنفتح لك روزنة إلى عالم
الملكوت ، وإلا فما زلت متوجها إلى ملابس عالم التقليد الحيواني ، مصروف الهمة
والوجهة إليه من أنوار الملكوت ، مستفيدا من آثار الحس والتقليد ، فمحال أن يتجلى
لك شيء من عجائب الحكمة وغوامض أسرار القيامة.
تذكير
اعلم يا حبيبي إنك
مسافر من الدنيا إلى الآخرة ، وأنت تاجر أيضا ورأس مالك حياتك الدنياوية ، وتجارتك
هي اكتساب القنية العلمية ، وهي زاد سفرك إلى معادك ، وفائدتك وربحك هي حياتك
الأبدية تنعمها بلقاء الله ورضوانه ، وخسرانك هو هلاك نفسك باحتجابك عن جوار الله
ودار كرامته.
واعلم أن الناقد
بصير لا يقبل منك إلا الخالص من ذهب المعرفة وفضة الطاعة ، فوزن حسناتك بميزان صدق
، واحسب حساب نفسك قبل أن توافي عمرك ، وقبل أن يحاسب عليك في وقت لا يمكنك
التدارك والتلافي ، فالموازين مرفوعة ليوم الحساب وفيه الثواب والعقاب (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ
هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ).
وأما القول في
ميزان الأعمال ، فاعلم أن لكل عمل من الأعمال الحسنة كالصلاة والصيام والقيام
وغيرها ، باعتبار تأثيره في النفس وتخليصها من أسر الشهوات وتطهيرها عن غواسق
الطبيعة وجذبها من الدنيا إلى الآخرة وإصعادها عن المنزل الأدنى الأسفل إلى المحل
الأرفع الأعلى مقدارا معينا وقوة معينة ، وكذلك لكل عمل من الأعمال السيئة قدرا
معينا من التأثير في أظلام جوهر النفس وتكثيفها وتكديرها وتعليقها بالدنيا
وشهواتها وتقييدها بسلاسلها وأغلالها ، وكل ذلك محجوب عن مشاهدة الخلق في الدنيا ،
وعند وقوع القيامة ينكشف لهم ، لأجل رفع الحجاب وكشف النقاب حقيقة الأمر في ذلك ،
فكل أحد يرى غاية عمله وسعيه في الدنيا والآخرة ، وقوة انجذابه إلى النعيم والجحيم
، ويرى ثقل أحد جانبي ميزانه ورجحان أحد كفتي ميزانه رفعا ووضعا ، وبالجملة كل
واحد من أفراد الناس له تفاريق أعمال ، إما حسنات أو سيئات أو مختلفات ، فإذا جمعت
يوم القيامة متفرقات حسناته أو سيئاته كان إما لأحدهما الرجحان أو لا ، فإن كان
الرجحان للأولى كان من أهل السعادة وإن كان للثاني كان من أهل الشقاوة ، ومن استوت
حسناته وسيئاته كان متوسطا بين الجانبين حتى يحكم الله فيه ، وهاهنا قسم آخر أرفع
من الثلاثة ، وهم الذين استغرقوا في شهود جلال الله ولا التفات لهم إلى عمل صالح
أو سيئ فكسروا كفتي ميزانهم وخلصوا من عالم الموازين والأعمال إلى عالم المعارف
والأحوال وأنوار الجمال والجلال.
فنقول من الرأس :
كل أحد ما لم يتخلص ذاته بقوة اليقين ونور
الإيمان عن قيد
الطبيعة وأسر الدنيا فذاته مرهونة بعمله ، فهو بحسب مزاولة الأعمال والأفعال
وثمراتها ونتائجها وتجاذبها للنفس إلى شيء من الجانبين بمنزلة ميزان ذي كفتين ،
إحدى كفتيه تميل إلى الجانب الأسفل أعني الجحيم بقدر ما فيها من متاعها متاع
الدنيا الفانية وزادها ، والأخرى تميل إلى العالم الأعلى ودار النعيم بقدر ما فيها
من متاع الآخرة وزادها ، ففي يوم القيامة ويوم العرض الأكبر إذا وقع تعارض بين
الكفتين ، والتجاذب إلى الجنبتين ، فالحكم من الله العلي الأكبر لكل أحد في إدخاله
إحدى الدارين ، دار النعيم ودار الجحيم على حسب ميزانه من جهة رجحان إحدى الكفتين
، كفة الحسنات وكفة السيئات.
واعلم أن كفة
الحسنات في جانب المشرق وكفة السيئات في جانب المغرب ، وأن الأولى كفة أصحاب
اليمين والأخرى كفة أصحاب الشمال ، ثم لا يذهب عليك أنه إذا وقع الترجيح والمجازاة
ونفذ الحكم وقضي الأمر ، تصير الكفتان كلتاهما في حكم واحدة في اليمينية والشمالية
والمشرقية والمغربية والجنانية والجحيمية ، فأهل السعادة كلتا يديهم تصير يمينية ،
وكلتا يدي أهل الشقاوة تصير شمالية.
قاعدة
في
الحساب
الحساب جمع
متفرقات شتى ليعلم حاصل مجموعها ، وقد سبق أنه ما من إنسان إلا وله متفرقات أعمال
وأقوال ، ولأعماله وأقواله المتفرقة آثار ونتائج في القلب تنويرا وإظلاما وتقريبا
إلى الله تعالى وتبعيدا عنه ، ولا يعلم فذلكتها ولا يعرف جمع متفرقاتها الآن إلا
الله ، فإذا أحضرت الملائكة فذلكة متفرقاتها ، وحاصل أعدادها ، وصورة نتائجها
وجمعية ثمراتها بإذن الله تعالى كانت حسابا بهذا الاعتبار ، وباعتبار إثباتها في
صحيفة مكتوبة كتبها كرام الكاتبين كانت كتابا ، فكل أحد يصادف يوم الآخرة جامع كل
دقيق وفيدخلون جهنم بلا حساب ، وقسم منهم صدر منهم بعض الحسنات لكن وقع في حقهم
قول : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا
فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقوله : وقدمنا
جليل من أعماله
وأقواله في صحيفة باطنية ، طويت منا اليوم ونشرت يوم القيامة ، وهي كتاب حفيظ
لقوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ) ، وقوله : (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، ففي قدرة الله تعالى أن يكشف في لحظة واحدة للخلائق كلهم
حاصل حسناتهم وسيئاتهم (وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحاسِبِينَ).
قاعدة
في
الإشارة إلى طوائف الناس من جهة الحساب
الناس يوم القيامة
صنفان ، صنف يدخلون الجنة ويرزقون من نعيمها ، وهم ثلاثة أقوام ، منهم المقربون
الكاملون في المعرفة والتجرد ، وهم لتنزههم وارتفاع مكانتهم عن شواغل الكتاب
والحساب يدخلون الجنة بغير حساب ، كما قال تعالى في حقهم : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، ومنهم جماعة من أصحاب اليمين لم يقدموا في الدنيا على
معصية ولم يقترفوا سيئة ولا فسادا في الأرض ، لصفاء ضمائرهم وقوة نفوسهم على فعل
الطاعات وإيتاء الحسنات ، فهم أيضا يدخلون الجنة بغير حساب ، كما قال : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ) ، ومنهم جماعة نفوسهم ساذجة وصحائف أعمالهم خالية عن آثار
السيئات والحسنات جميعا ، «فينالهم الله برحمة منه وفضل لم يمسسهم سوء العذاب » ، لأن جانب الرحمة أرجح من جانب الغضب ، إذ لا يمكن هنا
رجحان إلا مجرد الإمكان ، وتحقق قابليته مع عدم المنافي ، فهؤلاء أيضا يدخلون
الجنة بغير حساب ، وقد قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) ، وقال : سبقت رحمتي غضبي.
وأما الصنف الثاني
الذين هم أهل العقاب فهم أيضا ثلاثة أقسام ، منهم صحيفة أعمالهم خالية من العمل
الصالح ولا محالة يكون كافرا محضا ،
__________________
فيدخلون جهنم بلا
حساب ، وقسم منهم صدر منهم بعض الحسنات لكن وقع في حقهم قول : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ، وقسم منهم وهم في الحقيقة من أهل الحساب ، حيث (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً) ، فهؤلاء قسمان ، قسم من نوقش معهم في الحساب بكل دقيق
وجليل ، لأنهم بهذه الصفة عاشوا في الدنيا وعاشروا مع الخلائق فاستوفوا حقوقهم في
المعاملات مع الخلق من غير مسامحة ، فعومل معهم في الآخرة هكذا ، والقسم الثاني
وهم الذين كانوا (يَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ) ويشفقون من عذاب يوم القيامة ، فهؤلاء لا يعذبون كثيرا
بالمناقشة معهم في الحساب ، فكيف في العذاب بالنار.
المشهد التاسع
في الجنة والنار والإشارة إلى أبواب النيران
قال محمد بن علي
بن بابويه القمي رحمهالله اعتقادنا في الجنة أنها دار البقاء ودار السلامة لا موت
فيها ولا هرم ، ولا سقم ولا مرض ، ولا آفة ولا زوال ولا زمانة ولا هم ولا غم ولا
حاجة ولا فقر وأنها دار الغنى ودار السعادة ودار المقامة ودار الكرامة لا يمس
أهلها نصب ولا يمسهم فيها لغوب و (فِيها ما تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) ، وأنها دار أهلها جيران الله وأولياؤه وأحباؤه وأهل
كرامته ، وهم أنواع على مراتب الجنة ، منهم المتنعمون بتسبيح الله وتقديسه وتكبيره
في جملة ملائكته ، ومنهم المتنعمون بأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك وحور
العين ، واستخدام الولدان المخلدون ، والجلوس على النمارق والزرابي ولباس السندس
والحرير ، وكل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلقت عليه همته ،
ويعطى ما عند الله من أجله ، واعتقادنا في النار أنها دار الهوان ودار الانتقام من
أهل الكفر والعصيان ، ولا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك ، فأما المذنبون من أهل
التوحيد فإنهم يخرجون منها بالرحمة التي تدركهم ، والشفاعة التي تنالهم ، وفي
الرواية أنه لا يصيب أحدا من أهل التوحيد ألم في النار إذا دخلوها ، وإنما يصيبهم
الله الآلام عند الخروج منها ، فيكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم وما الله (بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وأهل النار هم المشركون حقا (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ، (لا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً
وَغَسَّاقاً) ، وإن استطعموا أطعموا من الزقوم وإن استغاثوا أغيثوا (بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ
بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ... (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) ، فيمسك الجواب عنهم أحيانا ثم قيل لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ، (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ).
وأبواب الجنان هي
التي أشير إليها في القرآن بقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) ، وقوله : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) ، وقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) ، وأبواب النيران هي المشار إليه بقوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها) ، وقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) ، وقوله : (لَها سَبْعَةُ
أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ، لكنهم اختلفوا في تعيين ماهيتها فقيل هي المدارك السبعة
، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحاستان الباطنتان يعني الخيال والوهم ، أحدهما مدرك
الصور والآخر مدرك المعاني الجزئية ، وهذه الأبواب كما أنها أبواب النيران فهي
أبواب الجنان ، إذا استعملها الإنسان في الطاعات وفيما خلقها الله لأجله ، وللجنة
باب ثامن مختص هو باب القلب ، وقيل هي الأعضاء السبعة التي وقع التكليف بها ، وقيل
هي الأخلاق السيئة للجحيم ، ومقابلاتها من الأخلاق الحسنة للجنة ، وهي مثل الحسد
والكبر والبخل والعجب والنفاق وغير ذلك ، فلا يبعد أن يكون لها سبعة جوامع ، لكل
منها شعب كثيرة ، أو هي أبواب ، والقول الأول أقرب إلى الصواب ، فإن كلا من المشاعر
السبعة باب إلى الشهوات الدنيوية التي ستصير نيرانات محرقة في الآخرة ، وهي أيضا
أبواب لإدراكات المعارف التي يثاب بها في الجنة ، وإن كلا منها فيه باطن وظاهر ، (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ
مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) ، وإذا غلقت أبواب النيران فتحت أبواب الجنان ، بل هي على
شكل الباب الذي إذا فتح على موضع انسد عن موضع آخر ، فعين غلقه على منزل عين فتحه
إلى منزل آخر إلا باب القلب وهو الباب الثامن ، فإنه مغلق دائما على أهل الحجاب
الكلي والكفر ، وهو مختص بأهل الجنة ولا ينفتح لأهل النار ،
(فَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ، والنار لها على الأفئدة اطلاع لا دخول لغلق ذلك الباب
عليها ، فما ذكر الله من أبواب النار إلا السبعة التي يدخل منها الناس والجان ،
وأما الباب المغلق الذي لا يدخل فيه أهل الكفر والاحتجاب ، فباطنه محل الإيمان
والعبودية. وفي الحديث التراب لا يأكل محل الإيمان ، وما فيه ، سعيد في الدنيا
والآخرة ليس للعذاب والشقاء فيه مدخل ، فهو كالجنة حفت بالمكاره ، وباطنه فيه
الرحمة وظاهره فيه العذاب ، وهي النار (الَّتِي تَطَّلِعُ
عَلَى الْأَفْئِدَةِ). وأما منازل جهنم ودركاتها وخوخاتها فعلى قياس ما يذكر في الجنان ، وأما أسماء أبوابها السبعة
فهي باعتبار الإضافة إلى منازلها ، باب جهنم ، وباب الجحيم ، وباب السعير ، وباب
السقر ، وباب اللظى ، وباب الحطمة ، وباب السجين ، والباب الثامن المغلق الذي لا
يفتح فهو الحجاب والسد ، وأما خوخات النار فهي شعب الكفر والفسوق ، وكذا خوخات
الجنة هي شعب الإيمان والطاعة ، فمن عمل من خير فإنه يراه في الآخرة ، وأما الشر
فقد يراه وقد يعفى عنه.
تنبيه
اعلم أن باطن
الإنسان في الدنيا هو ظاهره في الآخرة ، وما كان لها غيبا هاهنا يصير شهادة هناك ،
والحق أن إطلاق أبواب الجنان على هذه المشاعر من باب التوسع ليس على الحقيقة ، لأن
باب الدار ما إذا فتح فتح إليها ، وبه يقع الدخول إليها بلا مهلة ، وما هي إلا
الحواس المحشورة مع النفس الباقية معها ، فإن للنفس في ذاتها كما مر سمعا وبصرا
وشما وذوقا ولمسا وتخيلا وتصرفا وفعلا وحركة ، وإن لها عينا باصرة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، وأذنا سامعة يسمع بها كلمات الملائكة وأصوات طيور الجنان
ونغماتها ، وشما يشم به روائح الأنس ونسائم القدس ، وذوقا يذوق به طعوم
__________________
الجنة ، ولمسا يمس
به حور العين ، وهي المشاعر الروحانية والحواس الباطنية ، وإنها مع محسوساتها من
أهل الجنة إن لم يحجبها سد ولم يمنعها مانع ، وأما هذه الحواس فهي داثرة
ومحسوساتها مستحيلة كائنة فاسدة توجب العذاب الأليم والحرمان عن النعيم ، ويؤدي
إلى الهاوية ويحترق بنار الجحيم ، فكل نفس تتبع الهوى وتسخر الشهوة عقلها ،
ويستخدمها الشيطان ويستعبدها ، كما قال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ، فيصير على كل من مشاعره السبعة له سببا من أسباب طاعته
للهوى وانقياده للشهوات وعدوله عن طريق الهدى ، وبابا من أبواب الوقوع في المهالك
، (فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، فيكون حاله كما أفصح عنه قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) ، فظهر أن كل مشعر من المشاعر باب من أبواب جهنم ، (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ، وأما القلب فإذا تنور بنور المعرفة والإيمان وخرج من
القوة إلى الفعل كالحديد إذا صقل وخرج من الحديدية إلى المرآتية ، صار كعين صحيحة
استنارت بنور الملكوت الأعلى ، فيطالع بكل مشعر آية من آيات ربه الكبرى وبابا من
أبواب معرفة ربه الأعلى فينتزع من صورها المحسوسة معاني كلية ، ويفهم منها أسرار
إلهية يقف عليها ويستعد بذلك للسعادة القصوى ومجاورة الرحمن (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ، وهذا بخلاف حال أهل الهوى والجهالة المعرضين عن سماع
آيات الله ،
مصرين مستكبرين
كما قال سبحانه : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ
تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ... (كَأَنَّ فِي
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، وهم الذين غلقت عليهم الأبواب وسدت عليهم الطرق كقوله
تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ) ، فلا لهم قوة نظرية لإدراك المعقولات الإلهية ، ولا أيضا
لهم سلامة قلب في تلقي السمعيات الدينية ، فلا جرم حالهم في القيامة كما اعترفوا
به حين ما لا تنفعهم ذلك الاعتراف ، (قالُوا لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ، فقد وضح وانكشف
أن جميع هذه
المشاعر الثمانية يصلح لأن يصير أبواب الجنان في حق من صرفها فيما خلق الله لأجله
، (وَأَمَّا مَنْ خافَ
مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ، والسبعة منها أبواب الجحيم في حق من صرفها في الدنيا
ولذاتها ، لذات عالم الزور وآلات القبور (فَأَمَّا مَنْ طَغى
وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى).
فإن قلت : باب
الدار يشبه الدار ، والجنة والنار داران متخالفتان في نحو الوجود وتجوهر الحقيقة ،
فكيف يصح أن يكون المشاعر الإنسانية تصلح لأن يكون أبواب الجنة وأبواب الجحيم
جميعا.
قلنا السمع والبصر
وغيرهما التي لأهل السعادة تخالف بالنوع عندنا لما بإزائها من التي لأهل الشقاوة ،
وإن وقع الاشتراك بينهما في أصل الحاسية والشعور ، فإن مدارك أهل الجنة ومرائيهم
منورة بنور المعرفة والتقوى ، ومرائي هؤلاء المخذولين مغشاة بغشاوة الطبع ، مظلمة
بظلمات النفس والهوى ، وبالجملة السمع والبصر والفؤاد التي لأولئك الأصحاب قد وقع
لها التبديل الأخروي والتحويل الإلهي الذي به يستأهل لأن يكون من أبواب الجنة التي
هي دار الحسنات ومنزل الخيرات ، وأما السمع والبصر والفؤاد التي لأصحاب النار فقد
وقع لها التبديل أيضا ولكن صار أنجس وأظلم مما كانت فصلحت وناسبت لأن يكون مداخل
وأبوابا لدار الظلمات ومعدن البوار والشرور والآفات ، قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى
وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ
الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، فما أشد حال المكبين على وجوههم في استعمال الحواس وصرف
القوى ، وما أبعد عن حال من يمشي سويا على سبيل الله الذي أفاده سمعا وبصرا وفؤادا
استعملها في المعرفة والعبودية شاكرا لله ، فأين هؤلاء ومداركهم من هؤلاء ومداركهم
فافهم إن شاء الله.
المشهد العاشر
في الإشارة إلى الزبانية وعددها
قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، ... (وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا
مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ).
واعلم أن مدبرات
الأمور في برازخ عالم الظلمات وأشباح عالم الطبيعة التي ظاهرها الدنيا وباطنها
طبقات الجحيم هي المشار إليه بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً) بعد قوله : (فَالسَّابِقاتِ
سَبْقاً) ، لأن وجود كل منها تحت وجود جوهر قدسي مفارق الذات سابق
الوجود على النفسانيات والطبيعيات المدبرات كروحانيات العالم الكبير الجسماني
والعالم الصغير الإنساني ، فهي في العالم الكبير العلوي أرواح الكواكب السيارة
والبروج الاثني عشرية والمجموع تسعة عشر مدبرا ، وكذا في العالم الصغير البشري هي
رءوس القوى المباشرة للتدبير والتصرف في البرازخ السفلية تسعة عشر قوى ، سبعة منها
مبادي الأفعال النباتية وأسبابها وقواها ، ثلاثة منها الأصول في فعل التغذية
والتنمية والتوليد ، وأربعة منها الفروع والخوادم ، واثنا عشر منها مبادي
الإدراكات ، خمسة ظاهرة وخمسة باطنة واثنان مبدءان قريبان للتحريك ، أحدهما الشهوة
مبدأ الجذب الملائم ، والثاني الغضب مبدأ الدفع
المنافر ، فإن لكل
من هذه التسعة عشر مدخلا في إنارة نار الجحيم التي منشؤها ثوران حرارة جهنم
الطبيعة وشهواتها التي هي نيرانات كامنة اليوم عن نظر الخلائق ، وستبرز يوم
القيامة بحيث يراها الناس محرقة للجلود مذيبة للأبدان ، قطاعة (نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ
أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) ، (وَأَمَّا
الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)» ، والإنسان ما دام كونه محبوسا في الدنيا بهذه المحابس
الداخلية والخارجية التي باطنها مملوءا بنار الجحيم ، مسجونا بسجن الطبيعة مقبوضا
أسيرا في أيدي المدبرات العلوية التسعة عشر ، والمؤثرات السفلية التسعة عشر ، لا
يمكنه الصعود إلى عالم الجنان ودار الحيوان ومنبع الروح والريحان ، فهو لا يزال
معذب بعذاب الجحيم محترق بنار الحميم مقيد بالسلاسل والأغلال كالأسارى والعبيد ،
وحاله كما أفصح الله عنه بقوله : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً
فَاسْلُكُوهُ) ، لعدم استكمال نفسه بالعلم والعمل ، ليصير كالأحرار خلاصا
عن الأسر والقيد ، ولذا وقع التعليل بترك العلم والعمل في قوله : (إِنَّهُ) أي لأنه (كانَ لا يُؤْمِنُ
بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، فالأول إشارة إلى ترك العلم ، والثاني إلى ترك العمل
الصالح ، فإذا انتقل من هذا العالم إلى عالم الآخرة التي هي في داخل حجب السماوات
والأرض كما مر ينتقل من السجن إلى السجين ، وكان هاهنا أيضا مسجونا محاطا بالجحيم
، ولكن لا يحس بألم السجن وعذاب الحبس ، (فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا
الْخاطِؤُنَ) ، فإذا كشف عنه الغطاء أحس بذلك وانتقل العذاب من باطنه في
الدنيا إلى ظاهره في الآخرة ، فيؤديه المالك إلى أيدي هذه الزبانية التسعة عشر
التي هي من نتائج تلك المدبرات الكلية ، فيتعذب في الآخرة بها ، كما كان يتعذب بها
في الدنيا من حيث لا يشعر ، ومن كان على هدى من ربه مستويا على صراط مستقيم صراط
الله (الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) ، فيسلك سبيل الله بنور الهداية بقدمي العلم والعمل يصل
إلى دار السلام ويسلم من هذه المعذبات والمهلكات ، ويتخلص عن رق الدنيا وأسر
الشهوات ، (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
المشهد الحادي عشر
في الإشارة إلى درجات الجنان ودركات النيران
قال بعض المحققين
: الخلق اتصف أولا بالوجود ، ثم بالعلم ، ثم بالقدرة ، ثم بالإرادة ، ثم بالفعل ،
وحيث يكون المعاد عودا إلى الفطرة الأصلية ورجوعا إلى البداية في النهاية ، فلا بد
أن ينتفي منه هذه الصفات على التدريج والترتيب المعاكس للترتيب الأول الحدوثي ،
فالسالك إلى الله تعالى بقدم الإيمان ونور العرفان لا بد ان ينتفي منه أولا الفعل
، وهو مرتبة التقوى والزهد في الدنيا ، ثم لا بد أن ينتفي منه الاختيار ، ولم يبق
فيه إرادة واختيار ، بل يستهلك إرادته في إرادة الله ، (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ، لأن جميع الأشياء صادرة عنه تعالى على أبلغ وجه وأحكم
نظام ، فإذا تقرر له هذا المقام واستقام فيه ، رضي بالقضاء وحصل له مقام الرضا
واستراح له من كل هم وغم ، لأنه رأى الأشياء كلها في غاية الجودة والحسن والنظام
والتمام ، ورأى رحمة الله (وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ) بل رأى في كل شيء وجه الحق الباقي ، ورأى الحسن المطلق
والجمال المطلق متجليا عليه وعلى كل شيء فيكون مبتهجا به ملتذا راضيا ، فإن من رأى
صورة جملة العالم مكشوفة لديه ، حاضرة عنده حضورا علميا على أحسن ترتيب وخير نظام
وأجود نسق وتمام ، من جهة العلم بأسبابه ومباديه الآخذة من عند الله ، وعند ذلك قد
تبدلت عليه صور الأشياء عما كانت هي عليه عنده أولا ، فصارت الأرض غير الأرض
والسماوات غير السماوات ، وهكذا كل شيء
حتى نفس ذلك
السالك ، فإنه قد تبدل وجوده الظلماني بوجود نوراني مطهرا مذهوبا عنه رجس الجاهلية
، فيكون في جنة (عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، وبهذا الوجه يسمى خازن الجنة الرضوان ، لأن الإنسان ما
لم يبلغ إلى هذا المقام من الرضا لا يدخل الجنة ولا يصل إلى دار الكرامة والقرب ،
كما ورد في الحديث الإلهي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليعبد ربا سوائي
وليخرج من أرضي وسمائي ، وقال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ) ، ثم بعد هذا المقام لا بد أن ينتفي عن السالك القدرة ،
حتى لا يرى لنفسه حولا ولا قوة وقدرة مغايرة لقدرة الحق وقوته التي لا يخرج منها
شيء من المقدورات ، فيكون في مقام التوكل (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ، وهو مقام التفويض (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللهِ) ، ثم بعد ذلك لا بد أن ينتفي منه صفة العلم لاضمحلال علمه
في علم الله الذي (لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، كما في قوله حكاية عن الملائكة الذين انخرطت علومهم في
علم الله : (لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ، وهو مقام التسليم كما قال : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، وقوله : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ) ، وقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، ثم بعد ذلك لا بد أن ينتفي وجوده الذي به يوجد الآن في
وجود الحق الذي به يوجد كل شيء ويقوم ، وبنوره يظهر كل ظل وفيء ويدوم ، حتى لا
يكون له في نفسه عند نفسه وجود ، وهذا مقام أهل الوحدة ، وهو أجل المقامات وأفضلها
أعني الفناء في التوحيد ، «اولئك الذين (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) ، قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ... (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فهذه نهاية درجة السالكين إلى الله «وليس وراء عبادان قرية».
وأما من لم يسلك
سبيل أهل الوحدة والعرفان ، وكانت أفعاله على حسب إرادته ومقتضى طبعه كان كما أشير
إليه بقوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) ، فيصير لا محالة ممنوعا عما استدعاه هواه ، محجوبا عن
مقتضى طبعه ومشتهاه ، كما قال : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) ، فوقع في سخط الله ونار غضبه ، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ
كَمَنْ
باءَ
بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) ، وأوصله الهواء إلى الهاوية محروما عن جميع ما يهواه قلبه
وهواه ، ويقيد ويغل بالسلاسل والأغلال كما هو صفة المماليك والعبيد ولهذا الوجه
يسمى خازن النار والهاوية بالمالك ، فيكون له بإزاء كل درجة من درجات أهل الجنة
دركة في الجحيم ، فله بإزاء درجة التوكل دركة الخذلان كما في قوله : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) ، وبإزاء درجة التسليم دركة الهوان قوله : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ) ، وفي مقابلة درجة القرب والوحدة دركة الطرد واللعنة (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، وكما أن انتفاء القدرة والعلم والوجود في الطائفة الأولى
أوجب لهم القدرة الغير المتناهية والعلم الذاتي اللدني والوجود المخلد الأبدي ،
فكذلك في هذه الطائفة اقتضى استبدادهم بهذه الصفات عجزا غير متناه وجهلا كليا
وهلاكا سرمديا ، وذلك هو الخزي العظيم.
ومما ورد في هذا
الباب من أحاديث رواها ثقات أصحابنا رضوان الله عليهم ما رواه شيخ المحدثين محمد
بن علي بن بابويه في كتابه المسمى بمعاني الأخبار.
المشهد الثاني عشر
في سر شجرة الطوبى وشجرة الزقوم
قال سبحانه : (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ، وقال (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) أي طعام الآثمين ، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم يعني
طبيعة الدنيوية ، طلعها كأنه رءوس الشياطين والطلع عبارة عن مبدإ وجود البذر
الموجب لحصول الأثمار وبروزها عن الأكمام ، والأثمار هي الأغذية ، كأنه أي كل طلع
منها رأس شيطان من الشياطين وهي الأهوية المردية المغوية والأماني الباطلة التي تتغذى
بها وتتقوى نفوس أهل الضلال ، ويمتلي بها طبائعهم وبواطنهم من الشهوات الدنيوية
الموجبة لنار الجحيم والعذاب الأليم ، قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) ، أي يملئون بطونهم أي نفوسهم من الشهوات ومواد الأمراض
النفسانية الباعثة لفنون من العذاب وأنواع من المحن والآلام في الآخرة ، كمن أدى
به نهمته إلى الحمى والصداع وغيرها من الأوجاع والأمراض.
واعلم أن النفس
الإنسانية إذا كملت في العلم والعمل صارت كشجرة طيبة فيها ثمرات العلوم الحقيقية
وفواكه المعارف اليقينية ، وكانت أصولها علوم ثابتة ، وفرعها نتائج هي حقائق عالم
الملكوت ومعارف عالم اللاهوت ، هذا من حيث قوة العلم والإدراك ، وأما من حيث قوة
العمل والتأثير ، فكون الإنسان بحيث كلما تريده نفسه وتشتهيه فيحضر عنده بقوته الباطنية
القوية على إحضار الصور المطلوبة دفعة من غير مهلة ، لما مرت الإشارة إليه سابقا
أن باطن الإنسان
في الدنيا هو ظاهره في الآخرة وظاهره في الآخرة باطنه في الدنيا ، والإنسان يتصور
ويخترع هاهنا بقوته الخيالية مشتهيات كثيرة ، يحضر صورها في عالم التمثل الذهني ،
إلا أن تلك الصور ليست بمحسوسة ولا حاضرة عند حسه في العين ، بل عند خياله في
الذهن ، ولأجل ذلك لا يعظم لذته منها ، بل لا يلتذ منها أصلا للشواغل الحسية ،
وأما إذا كان يوم القيامة ، وكان الباطن مكشوفا ظاهرا والعلم عينا والغيب شهادة
والذهن خارجا ، كانت اللذة على حسب الظهور والوجود ، لأنها نزلت تلك الصور بمنزلة
الصورة الموجودة في العين ، ولن تفارق الآخرة الدنيا في هذا المعنى ، إلا من حيث
كمال القوة والقدرة للنفس الإنسانية على تصوير الصور عند القوة الحاسة ، كما
تشتهيه ، وكلما تشتهيه الإنسان السعيد حضر عنده دفعة ، وتكون شهوته سبب تخيله
وتخيله سبب تمثل الصورة بين يديه وحضورها لديه كما قال تعالى : (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) ، وقوله : (وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ) ، وهذه القدرة أوسع وأكمل من القدرة على إيجاد الشيء في
الدنيا أي في خارج الحس ، فإن الموجود في الدنيا لا يوجد في مكانين ولا في مكان
واحد يوجد اثنان للتزاحم والتضايق الواقعين في هذا العالم ، وأيضا النفس إذا
اشتغلت بمحسوس خارجي احتجبت به عن الآخر ، فشغلها محسوس عن محسوس وحجبتها لذة عن
لذة أخرى ، والملذ أيضا ليس بقوي في إلذاذه لانغماره في المادة وامتزاجه بغيره ،
وكذا في الآلم والمولم وهاهنا كله بخلاف ما في الدار الأخرى ، فإن الصور المحسوسة
هناك ، يتضاعف عند الإنسان بلا مزاحمة ولا تضايق ، ولا يستحيل هناك وجود محسوسات
غير متناهية دفعة ، إذ لا يجري فيه براهين امتناع الأمور الغير المتناهية مجتمعة ،
وأيضا لا يشغل النفس بعض تلك المحسوسات عن بعض ، ولكونها صورا بلا مادة تكون اللذة
بها مفطرة لخلوصها عن الشوائب والمكدرات.
فإذا تقرر هذا
فثبت أن مثال شجرة طوبى مثال للنفس السعيدة
الكريمة علما
وعملا.
وقد روي عن طريق
أصحابنا رضوان الله عليهم أن طوبى شجرة أصلها في دار علي بن أبي طالب عليهالسلام وليس مؤمن إلا وفي داره غصن من أغصانها ، وذلك قوله تعالى
: (طُوبى لَهُمْ
وَحُسْنُ مَآبٍ) فتأويل ذلك من جهة العلم أن المعارف الإلهية سيما ما يتعلق
بأحوال الآخرة وما لا يستقل بإدراكه العقول على طريقة الفكر البحثي إنما يحتاج
فيها إلى اقتباس النور عن مشكاة نبوة خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله بواسطة أول أوصيائه وأشرف أولياء أمته ، فإن أنوار العلوم
الإلهية إنما انتشرت في نفوس المستعدين من بدر ولايته ونجم هدايته ، كما أفصح قول
النبي صلىاللهعليهوآله : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وذاته المقدسة بالقياس إلى
سائر الأولياء والعلماء بالولادة المعنوية كذات آدم أبي البشر في الولادة الصورية
، ولهذا ورد عن النبي صلىاللهعليهوآله : يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة.
قال العارف المحقق
في الفتوحات المكية : إن شجرة طوبى لجميع شجرات الجنان كآدم لما ظهر منه من البنين
، فإن الله لما غرسها بيده وسواها ونفخ فيها من روحه ، ولما تولى الحق غرس شجرة
طوبى بيده ونفخ فيها من روحه زينها بثمرة الحلي والحلل اللذين هما زينة للابسها ،
فنحن أرضها فإن الله جعل ما على الأرض زينة لها وأعطت في ثمرة الجنة كله من
حقيقتها عين ما هي عليه ، كما أعطت النواة النخلة وما يحمله مع النوى التي في
ثمرها انتهى كلامه.
وقد ظهر منه أن
شجرة طوبى يراد بها أصول المعارف والأخلاق ليكون الزينة للنفوس القابلة ، كما أن
ما على الأرض زينة لها ، وذلك لأن أرض تلك الشجرة إذا كانت نفوسنا فحللها لا بد أن
تكون من قبيل زينة العلوم والمعارف ومحاسن الأخلاق والملكات.
قاعدة
في
كيفية تجدد الأحوال والآثار على أصحاب الجنة وأصحاب النار
أما أهل النار فلا
شبهة في تجدد أحوالهم وتبدل جلودهم واستحالة أبدانهم ، وتقلبها من صورة إلى صورة
لقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ، ولا شبهة في أن تبدل الأبدان واستحالة المواد لا بد فيه
من حركة دورية صادرة عن أجسام سماوية محيطة بأجسام ذوات جهات متباينة كائنة فاسدة
، فيكون الحكم في أهل النار بحسب ما يعطيه الأمر الإلهي بما أودعه من القوة
المحركة الجابرة للفلك الأقصى على حركاته ، والكواكب الثابتة في سباحة الدراري
السبعة المطموسة الأنوار ، فهي كواكب لكنها ليست بثواقب ولا مضيئة ولها تأثيرات في
حق أهل النار بفنون من العذاب وصنوف من العقاب بحسب ما يقتضيه سوابق أعمالهم
ومبادي أفعالهم واعتقاداتهم ونياتهم ، ولهذا قال بعض العرفاء إن حكم النار وأهلها
يقرب من حكم الدنيا وأهلها ، وليس للذين هم من أهلها الخالدين فيها بعد استيفاء
العذاب وانقضاء مدة العقاب نعيم خالص ولا عذاب خالص ، كما قال : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ، والسبب في ذلك أنه بقي فيهم ما أودع الله فيهم من آثار
حركات الأفلاك ، ولم يقع لهم توفيق الخروج من حكم الطبيعة وتأثيرها ، فلا جرم لم
ينجوا من عذاب النار وإن تغير منهم على قدر ما تغير من صور الأفلاك والكواكب من
التبديل والطمس والانكدار والانتثار ، ولا تغير لها بحسب الذات إلا ما شاء الله
كما قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ).
وأما أصحاب الجنة
فليس لهم هذا التبدل والاستحالة والكون والفساد ، لارتفاع نشأتهم عن نشأة الطبيعة
وحكمها ، فحركاتهم وأفاعليهم نوع آخر ، ما فيها نصب ولا تعب وأعمالهم ما فيها لغوب
لأن السماوات و
حركاتها مطوية في
حقهم ، لأنهم من أصحاب اليمين ، ولهم مقام فيه يطوي الزمان والمكان ، فزمانهم زمان
يجمع فيه الماضي والمستقبل من هذا الزمان ، ومكانهم مكان يحضر فيه جميع ما يسعه
السماوات والأرض ، ومع ذلك تكون الجنة ونعيمها من المحسوسات بلا شبهة ، إلا أنها
ليست طبيعية مادية ، بل محسوسة ، ووجودها وجود إدراكي حيواني مجرد عن عالم الطبيعة
والهيولى المستحيلة الكائنة الفاسدة ، كما أن ما يراه الإنسان في عالم نومه
محسوسات بلا شبهة إلا أنها غير طبيعية ، والنوم جزء من أجزاء النبوة ونشأته مثال
نشأة الآخرة.
قال العارف المحقق
في الفتوحات المكية في الباب السابع والأربعين منها ، فلا يزال الآخرة دائمة
التكوين ، فإنهم يقولون في الجنان للشيء الذي يريدونه كن فيكون ، فلا يتمنون أمرا
ولا يخطر لهم خاطر في تكوين أمر إلا ويتكون بين أيديهم ، وكذلك أهل النار لا يخطر
لهم خاطر خوفا من عذاب أكبر مما هم فيه إلا ويكون فيهم ذلك العذاب ، وهو حضور
الخاطر ، فان الدار الآخرة يقتضي تكوين الأشياء حسا بمجرد حصول الخاطر والهم
والإرادة والشهوة ، كل ذلك محسوس وليس ذلك في الدنيا أعني الفعل بمجرد الهمة لكل
أحد انتهى كلامه.
ومن عرف كيفية
قدرة الله في وجود الخيال ، وما تجده النفس من صور الأجرام والأبعاد العظيمة
وصفاتها وأحوالها في طرفة عين ، هان عليه التصديق بتجسد الأرواح وتصور النيات
وحضور المشتهيات دفعة بمجرد الهمة والقصد والشهوة ، لا من جهة مادة جسمانية ، ومن
هذا القبيل تمثل الأشخاص الملكية عند الأنبياء والأولياء عليهمالسلام ونزولهم بالوحي والكرامات في صور الأجسام المحسوسة ، لظهور
سلطان الآخرة على قلوبهم وقوة باطنهم ، وقد يقع الاشتباه لبعض المكاشفين فيما يراه
من الصور المتمثلة الحاضرة عنده هل رآه بعين الحس أو بعين الخيال ، والحق أنها صور
محققة الوجود وهي أقوى تحصلا من الصور الطبيعية ، إلا أن شرط تحققها على الوجه
الأتم غلبة القوة الفاعلة النفسانية أعني المصورة وحفظها
إياها بالهمة
الشديدة ، فإن هذه الصور كما توجد بمشاركة المادة واستعدادها وجهات القابلية ،
كذلك توجد من الفاعل بمجرد جهات الفاعلية من غير مشاركة المادة ، وهكذا الصور التي
أوجدها الله لأهل الجنة وأعطاهم الاقتدار على إنشائها وحفظها بقوة العزيز الحميد ،
ولا يؤدهم حفظهم إياها ، لأن ذلك الإنشاء والحفظ ليس من جهة قوة مادية أو آلة
طبيعية يكلها تكرر الأفعال ، ولا بوسيطة حركة توجب التعب والانفعال والتغير ، بل
بمجرد القصد والهمة والشهوة ، كما أن الحال في تخيلات الإنسان وإحضار الصور
المتمثلة في الخيال على هذا المنوال ، حيث لا يوجب بقوته الإدراكية كلالا وتعبا
ولا فيها نصب ولا لغوب ، ومن هاهنا يعلم أن القوة الخيالية منا ليست من القوى
الطبيعية بل النفسانية ، ولا من الأمور الدنيوية بل من الأمور الأخروية التي ستبرز
عند القيامة فهي مفارقة الجوهر عن هذا العالم ، نعم لها تعلق تصرف وتحريك بهذه
الطبيعة المنطبعة في هذا الجسم المستحيل ، وهذه الطبيعة أيضا متصلة بها وواسطة
لتعلقها بهذا البدن المتبدل الكائن الفاسد في كل آن كما مر ذكره مرارا فما دامت
الطبيعة البدنية موجودة طرية قوية ، فتلك القوة النفسانية ضعيفة القوام والتأثير
في تصويراتها المثالية وإنشائها النشأة الثانية ، وإذا دثرت الطبيعة وبادت المادة
أو ضعفت ووهنت ، قويت قوة الباطن وأصبحت القوة النفسانية مخترعة للصور الخيالية
على الوجه الأقوى ، فصار الحس والخيال واحدا حينئذ ، والمتخيل بعينه محسوسا
والمحجوب مكشوفا والمعلوم حاضرا ، كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ).
تمت
فهرس الاات القرآنة
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الفاتحة
|
|
٨٧
|
١٥٤
|
١
|
٧٦
|
٩٩
|
١٧٦
|
البقرة
|
|
١١٦
|
٨٠
|
٢
|
١٥ ، ١٩
|
١١٧
|
٢٣ ، ٧٦
|
٣
|
١٥ ، ١٧٠
|
١١٨
|
٥٥
|
٦
|
٣٠ ، ١٤٤
|
١٢٩
|
١٥٥
|
٧
|
٣٠ ، ١٤٤ ، ١٧٨
|
١٣٧
|
٢٣
|
٨
|
٣٠
|
١٤٨
|
٥١
|
٩
|
٣٠
|
١٥٤
|
١٤٦
|
١٠
|
١٥ ، ٣٠
|
١٥٦
|
١٠٣
|
٢٢
|
٦١ ، ١١٧ ، ١٢٥
|
١٥٩
|
٢٢١
|
٢٤
|
١١٤
|
١٦٣
|
٣٤
|
٢٦
|
٢ ، ١٥
|
١٦٧
|
١١٤
|
٢٨
|
١٣٥ ، ١٨٤
|
١٧١
|
١٧٦
|
٢٩
|
١٢٥
|
١٧٤
|
١١٤
|
٣٠
|
١٠٩ ، ١٢٨
|
١٧٧
|
٣
|
٣١
|
١٢٩
|
١٨٢
|
١٢
|
٣٢
|
٢٢٥
|
١٨٥
|
١٧
|
٣٣
|
٤٠ ، ٤٢
|
٢٠٠
|
١١٦
|
٣٥
|
١٦٧
|
٢١٢
|
١١٦
|
٣٨
|
١٦٧
|
٢٢٥
|
٢٠٤
|
٦٥
|
١٥١
|
٢٤٧
|
٥٠
|
|
|
٢٥٥
|
٣٩ ، ٤٤ ، ١١٩
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
البقرة
|
|
١٠٠
|
١٦١
|
٢٥٧
|
٢٨ ، ٥٢ ، ١٠٧
|
١١٣
|
١٧ ، ١٩ ، ١٠٥
|
٢٥٨
|
٢٠٩
|
١٣٦
|
٢ ، ١١ ، ٢٧
|
٢٦٩
|
٢ ، ١٤ ، ١٣٨ ، ٢٦٩
|
١٥٥
|
١٧٧ ، ٩
|
٢٨٤
|
٣٩
|
١٦٢
|
١٢
|
٢٨٥
|
٢ ، ٣ ، ٢٧
|
١٦٣
|
١٠
|
آل عمران
|
|
١٧١
|
٧٥ ، ١٠٥
|
٣
|
١٨ ـ ١٩
|
١٧٤
|
١٩ ، ١١٠ ، ١٧٥
|
٤
|
١٧
|
المائدة
|
|
٦
|
٥١ ، ١٤٠
|
٦
|
٨٧
|
١٤
|
١٧٦
|
١٣
|
٩
|
١٨
|
٢٦
|
١٥
|
١٣ ، ١٧ ، ٢٠
|
٣٠
|
٢٣ ، ٢٠٤
|
١٦
|
١٣ ، ١٧٦
|
٣٤
|
١٥٤
|
١٨
|
٨٧
|
٥٩
|
١٢٨
|
٢٠
|
١٣٣
|
٨٣
|
٨٢
|
٣٠
|
١٣٢
|
١٢٤
|
٧٦
|
٤٣
|
١٧
|
١٢٥
|
٧٦
|
٤٨
|
١٣٩
|
١٣٣
|
١١٤
|
٥٤
|
١٦١
|
١٦٠ ـ ١٦٢
|
٢٢٦
|
٦٠
|
١٥١
|
١٦٩
|
١٤٦
|
٦٤
|
٥٩ ، ٧٨
|
١٧٤
|
٢١٥
|
٧٣
|
٣٥
|
١٧٩
|
١٤٤
|
٨٣
|
٥٥
|
١٨٠
|
١٨٥ ، ١٩٩
|
١٢٠
|
٤٩
|
١٨٥
|
٩٣
|
الانعام
|
|
١٩٢
|
٣
|
١
|
١١٢
|
١٩٢
|
٤
|
٢
|
١٢٨
|
النساء
|
|
٩
|
١٥٥
|
٢٨
|
١٥٧ ، ١٦١
|
١٨
|
١٦١ ، ٢٣
|
٤١
|
١١٠ ، ٢٠٧
|
٢٥
|
٣٠ ، ١٧٦
|
٥٦
|
٢٣٠
|
٣٨
|
١٣٧ ، ١٥١
|
٦٩
|
٢٢٥
|
٥٠
|
١٧٣
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الانعام
|
|
١٤٥
|
١٩
|
٥٢
|
٢١٥
|
١٥٦
|
٥٠ ، ٢١٥
|
٥٧
|
١٧٢
|
١٦٠
|
١١١
|
٥٩
|
٤٦ ، ٤٩ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٧٨ ، ٢١١
|
١٧٢
|
١٦٦
|
٦١
|
٢٠١
|
١٧٦
|
١٤٤ ، ١٩٩
|
٧٠
|
١١٦
|
١٧٩
|
٣٠ ، ٥٥ ، ١٤٤
|
٧٥
|
٧٨
|
١٨٠
|
٤٠
|
٧٦
|
٢٠٩
|
١٨٥
|
١٠٥
|
٨٣
|
٢٠٩
|
١٨٧
|
٩٦ ، ١٦٩
|
٨٨
|
١١
|
١٨٨
|
١٧٣
|
٩٠
|
١١
|
١٩٨
|
٦٥
|
٩١
|
٢٠ ، ٢١٠
|
٢٠٦
|
|
٩٣
|
١٥٣
|
الانفال
|
|
١٠٤
|
١٧٦
|
١٧
|
٣٩ ، ٥١ ، ١١١
|
١١٢
|
١٣٧
|
٢١
|
٣١ ، ٥٦
|
١٥٥
|
٧٥
|
٢٢
|
٥٦
|
١١٦
|
١٧٧
|
٢٣
|
٣١ ، ٥٥ ، ٥٦
|
١٢٢
|
١٤ ، ١٣٠ ، ١٥٨
|
٣٧
|
٩
|
١٢٨
|
١٥١
|
التوبه
(البرائة)
|
|
الاعراف
|
|
٦
|
٥٣
|
٨
|
٢٠٠ ، ٢٠٧
|
١٤
|
٣٩ ، ٥١
|
٢٩
|
١٦٦ ، ١٧٣
|
١٩
|
٣
|
٣٤
|
٩٦
|
٣٠
|
٥٩
|
٣٨
|
١٧٧
|
٣٢
|
٩١
|
٤٠
|
١٥١ ، ٢١٨
|
٤٠
|
٧٥
|
٤١
|
١٥١
|
٤٦
|
١٥٣
|
٤٣
|
٨٦
|
٤٨
|
١٥٣
|
٤٩
|
١٧٠
|
٤٩
|
١١٤
|
٥٤
|
٧٥ ، ٧٩ ، ١٠٤
|
٦٧
|
٥
|
٥٧
|
١٢٣
|
٧٢
|
٨ ، ٢٢٥
|
٥٨
|
١٤٠
|
|
|
١٢٩
|
١٣٣
|
|
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
التوبة (البرائة)
|
٢١٩
|
٤٦
|
٢٠٥ ، ٢٠٨
|
٨٧
|
٧٧ ، ٢١٦
|
٦١
|
١٢٨
|
١٠٢
|
|
١٠٦
|
٢٣٠
|
ونس
|
١٢٥ ، ١٥٥
|
١٠٨
|
٧٤
|
٥
|
١٦
|
يوسف
|
|
٦
|
٥ ، ١١٦
|
١
|
١٦
|
٧ و ٨
|
١٤٣
|
٦
|
٥٣
|
١٩
|
٩٦
|
١٠٣
|
١١
|
٢٣
|
١١٢
|
١٠٥
|
٣ ، ١٧٦
|
٢٤
|
٩٦
|
١٠٦
|
١١
|
٣٠
|
٣٠
|
١٠٨
|
١ ، ٥٣
|
٣٣
|
٩٦
|
الرعد
|
|
٣٤
|
١٧٧
|
١
|
١٥
|
٣٦
|
١٣
|
٤
|
٨٠
|
٣٧
|
٣١
|
٧
|
١٧٣
|
٣٩
|
٣١
|
١١
|
٧٦ ، ١٦١
|
٤٣
|
١٧٠
|
١٢
|
١٢١
|
٤٨
|
٤٦
|
١٣
|
٧٦ ، ١٦١
|
٦١
|
٢٨ ، ٥٩
|
١٦
|
٣٥
|
٦٤
|
١١٢
|
١٧
|
١٢٣
|
٩٢
|
٣
|
١٩
|
١٥ ، ٥٦ ، ١٧٧
|
١٠١
|
|
٢٣
|
٢١٨
|
هود
|
|
٢٩
|
٢٢٧ ، ٢٢٩
|
١
|
١٣
|
٣٣
|
٢٣
|
٦
|
٦١
|
٣٩
|
١٦ ، ٤٨ ، ١١٧
|
٧
|
٨٨
|
ابراهيم
|
|
١٥
|
١٠ ، ١١٦
|
٢
|
٥
|
١٦
|
٢١٥
|
٣
|
٥ ، ١١٦
|
١٨ و ١٩
|
١٣٩
|
١٠
|
٣٤ ، ١٥٥
|
٢١
|
١٥٢
|
١٨
|
١٥٧
|
٣٤
|
٧٨
|
١٩
|
٨٦
|
٣٧
|
|
|
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
ابراهيم
|
|
٧٨
|
١٥٧
|
٢٤
|
١٣٧
|
٨١
|
١٢٣ ، ١٢٤
|
٢٦
|
١٠٣ ، ١٣٧
|
٨٣
|
١١
|
٣٢
|
٧٧
|
٩٣
|
١٤٣
|
٣٣
|
٧٧
|
٩٦
|
٦٤ ، ٦٨ ، ٨٨
|
٣٤
|
٤٨ ، ١٥٧
|
١٠٢
|
١٥
|
٤٨
|
٨٦ ، ٩٦
|
١٠٦
|
٨ ، ١١٦
|
الحجر
|
|
١٠٧
|
٨ ، ١١٦ ، ١٨٢
|
١٩
|
١٢٤
|
١٠٨
|
٤ ، ٧
|
٢٠
|
١٢٤
|
١١٢
|
١٠٣
|
٢١
|
٤٦ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٥٩ ، ٦١ ، ٧٨
|
١٢٥
|
٢١١
|
٢٦
|
١٢٨
|
١٢٨
|
١٢
|
٢٩
|
١٢٨ ، ١٣٦ ، ١٣٨
|
الاسرا (بني اسرائيل)
|
٤٤
|
٢١٨
|
٢
|
١٩
|
٤٦
|
٥٢
|
٩
|
٦
|
النحل
|
|
١٠
|
٦
|
١
|
١٠٤
|
١٣
|
٢٠١ ، ٢٠٦
|
٥ ـ ٨
|
١٢٥
|
١٨
|
٦ ، ١١٦
|
٨
|
٧٨
|
١٩
|
٦ ، ١١٦
|
١٠ و ١١
|
١٢٥
|
٢٠
|
٦ ، ٤٩ ، ٧٤
|
١٣ و ١٤
|
١٢٤
|
٢١
|
٦ ، ١٣٩ ، ١٨٤ ، ٢١١
|
١٥
|
١٢٤
|
٢٢
|
٦
|
٤٠
|
٧٥
|
٣٩
|
٦
|
٤٨
|
٨١
|
٥٠
|
١٧٥
|
٤٩
|
٨١
|
٧٠
|
١٣٨
|
٥١
|
٣٣
|
٧١
|
٢٠٣
|
٦٠
|
٢٣
|
٧٢
|
٥
|
٦٤
|
١٥
|
٨٤
|
٤٣ ، ٧٧ ، ١٤٠
|
٦٦ و ٦٧
|
١٢٥
|
٨٥
|
٧٥ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٤٧
|
٦٨
|
١٢٥ ، ١٢٦ ، ١٣٧ ، ١٥٦
|
٩٧
|
١٥١
|
٦٩
|
١٢٥
|
١٠٥
|
١٧ ، ١٨
|
٧٧
|
١٧٠ ، ١٧٣ ، ١٧٤
|
١١١
|
٣٣
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الكهف
|
|
١٠٢
|
١٥١
|
٢٩
|
٢١٨
|
١٠٥
|
٩٦ ، ٢٠٠
|
٣٥
|
١٨٤
|
١٠٨
|
٢٠١
|
٣٦
|
١٧٠
|
١١١
|
٢٣
|
٣٧
|
١٣٦
|
١١٥
|
١٧٦
|
٤٦
|
١٣٢
|
١٢٤
|
١٥١ ، ١٧٨ ، ١٨١
|
٤٩
|
٣٧ ، ٢٠٤ ، ٢١٥
|
١٢٦
|
٤
|
٥١
|
١٣٢
|
الانبياء
|
|
٨٢
|
١٤٠
|
١٦
|
١٠٠
|
١٠٠
|
١٠
|
٢٠
|
٦٥
|
١٠٣
|
١٧٧
|
٢٢
|
٣٤ ، ٢١٠
|
١٠٩
|
٤٩ ، ٦٤ ، ٧٤
|
٢٤
|
١٠
|
١١٠
|
١٤٣ ، ١٤٤
|
٢٥
|
١٠
|
مريم
|
|
٣٨
|
١٦٩
|
٦
|
٦
|
٤٧
|
٢٠٧
|
٩
|
١٦٦
|
٩٨
|
١٠
|
٣٧
|
٦
|
٩٩
|
٢١٠
|
٤٠
|
٩٦
|
١٠٤
|
٩٧ ، ١٤٧ ، ١٧٤
|
٦٥
|
٧٦
|
الحج
|
|
٦٨
|
٩٢
|
٣
و ٤
|
١٧٧
|
٧٦
|
٦
|
٥
|
٩٧ ، ١٨٤
|
٨٥
|
٦
|
٦
و ٧
|
١٨٥
|
٩٣ ـ ٩٦
|
٩٦
|
٨
و ٩
|
١٧٧
|
٩٥
|
١٧٣
|
١١
|
١٦١
|
طه
|
|
١٨
|
٨٠ ، ٢٢٦
|
٥
|
١١٩
|
١٩
|
٧
|
١٠ ـ ١٤
|
٥٣
|
٢٠
و ٢١
|
٧
|
٥٠
|
١٥٥ ، ١٥٧
|
٤٦
|
١٧٨
|
٥٥
|
١٠٣
|
٤٧
|
٨٨
|
٧٦
|
٦
|
٥٦
|
١٧٣
|
٧٥ و ٧٦
|
٦
|
٧٣
|
١٦١
|
٩٦
|
١٨١
|
٧٨
|
٢٠٧
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
المؤمنون
|
|
الشعراء
|
|
٧
|
٧٦
|
٧٧
|
١٦١
|
١٢ و ١٣
|
١٢٧ ، ١٢٩ ، ١٨٥
|
١٨٢
|
٢٠٨
|
١٤
|
١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣٦ ، ١٨٥
|
١٩٤
|
١٥٤
|
١٥ و ١٦
|
١٨٥
|
١٩٢
ـ ١٩٦
|
٥٣
|
٢٤
|
١٣٨
|
٢١٢
|
٥٥
|
٥٣
|
٧٧ ، ١٤٠
|
٢٢١
و ٢٢٢
|
٢٠٣
|
٧١
|
٢٢٥
|
النمل
|
|
٧٩
|
٩٧ ، ١٤٧
|
٦
|
١٧
|
٨٦ ـ ٨٩
|
٣٤
|
٧٥
|
٥٩
|
٩١ و ٩٢
|
٣٤
|
٨٠
|
٥٥
|
١٠٠
|
١٨٣
|
٨٢
|
١٥١
|
١٠٣
|
٢١٣
|
٨٣
|
١٤٣ ، ١٥١
|
١٠٧ و ١٠٨
|
٢١٨
|
٨٥
|
١٥١
|
١١٥
|
٩٧ ، ١٨٥
|
٨٧
|
٩٨ ، ١٦٧
|
النور
|
|
٨٨
|
٧٩ ، ٨٦
|
٢٤
|
١٥١
|
القصص
|
|
٣٥
|
١٦٨
|
٧٠
|
٣٣ ، ١٩٩
|
٣٩
|
١١٢ ، ١٥٧
|
٧٢
|
٣٣
|
٤٠
|
١٠٧
|
٨٣
|
١١٧ ، ٢١٥
|
٤١
|
٨١
|
٨٨
|
٣٣ ، ٣٥ ، ٣٧ ، ١١٦
|
٤٢
|
٩٨
|
العنكبوت
|
|
٤٣ و ٤٤
|
١٢٢
|
١٩
|
٣ ، ٩٨ ، ١٠٠
|
٥٥
|
١٢٨
|
٢٠
|
٣ ، ٨٩ ، ٩٨
|
الفرقان
|
|
٢١
|
٨٢ ، ٩٨
|
٧
|
١٣٨
|
٤٣
|
١٠٦ ، ١١٣
|
٢٣
|
٢١٦
|
٤٨
|
١٨
|
٣٤
|
١٥١
|
٥٧
|
٩٨
|
٤٣
|
١٣٢
|
٦٤
|
٩٨ ، ١١٣ ، ١٧٨
|
٦٣
|
٧٧
|
|
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الروم
|
|
سباء
|
|
٨
|
٩٩ ، ١٣٢
|
٣
|
٢٢٥ ، ٤٦
|
١١
|
٩٩ ، ١٦٨
|
٦
|
١٢ ، ٥٦
|
٢٤
|
١٢٢
|
٢٤
|
٢١٠
|
٢٥
|
٧٢ ، ٨٢ ، ١٠٠
|
٥١
ـ ٥٣
|
١٧٠
|
٢٧
|
١٠٧
|
٥٤
|
٢٢٥
|
٣٠
|
٧٢
|
فاطر
(الملائكة)
|
|
٤٠
|
٣٣
|
٢
|
١٥٢
|
٤٨
|
١٢٢
|
٩
|
١٢٢
|
القمان
|
|
١٠
|
٣ ، ١٠٥ ، ١٢٧
|
٧
|
٧ ، ٢٢٠
|
١٣
|
١٠٠
|
٢٠
|
١٢٥
|
٢٧
|
١٢٣
|
٢٧
|
٤٩
|
٣٩
|
١١٠
|
٢٨
|
٩٣ ، ١٣٥ ، ١٧٤
|
٤١
|
٧٤
|
٢٩
|
١٠٠
|
٤٣
|
٣١ ، ٧٢
|
٣٠
|
٣٣
|
يس
|
|
السجدة
|
|
٧
|
٧٥
|
٣
|
١٥
|
٩
|
٣٠ ، ١٧٦ ، ١٧٨ ، ٢٢٠
|
٥
|
٨٨ ، ١٠١ ، ١٠٧
|
١٠
|
١٧٦
|
٧
|
١٣١ ، ١٣٤
|
٣٢
|
٥٩
|
٨ ـ ١٠
|
١٣١
|
٥١
|
٢٠٠
|
١٢
|
١٠٣ ، ١٧٨ ، ١٥٣
|
٥٤
|
٢٠٥
|
١٧
|
١٧٧
|
٥٩
|
١٤٤
|
٥٣
|
٢٣ ، ٣٧
|
٧١
|
٧٩
|
الاحزاب
|
|
٧٧
ـ ٧٩
|
١٨٥
|
٤
|
٦٨
|
٨٢
|
١٦ ، ٥٤ ، ٧٦ ، ١٠٤
|
١٣
|
١٦١
|
٨٣
|
٨٠
|
٣٦
|
٢٢٤
|
الصافات
|
|
٦٣
|
١٧٠
|
١
|
٧٩
|
٥٦
|
٢٢٥
|
٢٤
|
٢٠٠
|
٧٢
|
١٦
|
٦٤
|
٢٢٧
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الصافات
|
|
٢٦
|
٢٠٧
|
٩٩
|
٢٢ ، ١٦١
|
٤٦
|
٧٠ ، ١١٤
|
١٦٤
|
٧٧
|
٥١
|
٢٠٠
|
١٨٠
|
٢٣
|
٥٩
|
١٧٠
|
ص
|
|
٦٤
|
١٣٦
|
٢٠
|
١٣
|
٦٧
|
١٢٩ ، ١٣٠
|
٢٦
|
١٠٩
|
٦٨
|
١٣٠
|
٥٠
|
٢١٨
|
٧٢
|
١٥١
|
٦٨
|
١٧٦
|
٧٦
|
٢١٨
|
٧١
|
١٢٩ ، ١٣٠
|
٧٩
|
١٢٥
|
٧٢
|
١٢٤
|
فصلت (حم سجدة)
|
الزمر
|
|
٣
|
١٣
|
٥
|
٧٦
|
١١
|
٥٤ ، ٨٢ ، ٩١
|
٩
|
١٤٤
|
١٢
|
٧٥
|
٢١
|
٤
|
٢١
|
١٥١
|
٢٢
|
٢٨
|
٢٨
|
٢٠٥
|
٢٣
|
١١ ، ١٥
|
٢٩
|
١٧٧
|
٢٩
|
٢٢٣
|
٣٠
|
٢٨ ، ٢٠١
|
٣٠
|
١٥٨
|
٣١
|
٢٢٨ ، ٢٠١
|
٦٢
|
٣٩
|
٣٨
|
٦٥ ، ٨١
|
٦٧
|
٥٩ ، ٧٨ ، ٨٦ ، ١٤٧
|
٤٣
|
١٠
|
٦٨
|
٨٦ ، ٨٩ ، ١٠١ ، ١٦٧ ، ١٧٤
|
٤٤
|
١٥
|
٦٩
|
٥٩ ، ٩٠ ، ٩٦ ، ٢٠١
|
٤٧
|
١٧٠
|
٧٠
|
٢٠١
|
٥٣
|
٢٧ ، ١٠٦ ، ١١٠ ، ١٣٢
|
٧١
|
٢١٨
|
٥٤
|
٥١
|
٧٣
|
٢٢٥
|
الشورى
(حمق)
|
|
٧٥
|
٧٦ ، ٢٠١
|
٣
|
١٠
|
المؤمن (الغافر)
|
|
١١
|
٢٣
|
١٥
|
١٤
|
١٣
|
١٠
|
١٦
|
٨٩ ، ١٦٦ ، ١٩٩ ، ٢٢٥
|
١٥
|
١٠١
|
٢٥
|
٢٠٧
|
١٧
و ١٨
|
١٦٩
|
|
|
٢٠
|
١١٦
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الشورى
|
|
الاحقاف
|
|
٢٤
|
٥٩
|
٣
|
٣٨
|
٢٩
|
٨٣
|
٩
|
١٧٢
|
٥١
|
١٩
|
محمد
(القتال)
|
|
٥٢
|
١٣ ، ١٥ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٧٥
|
١٢
|
١٠
|
٥٣
|
١٠٣ ، ١٠٦ ، ١٦٤ ، ١٧٥ ، ١٩٩
|
١٦
|
٩
|
الزخرف
|
|
٣٨
|
٢٣
|
٤
|
١١٧
|
الفتح
|
|
١٤
|
٨٧ ، ١٠١
|
١٠
|
٧٨
|
٣٢
|
١٣٩ ، ١٤٠
|
٢٣
|
٧٢
|
٣٣
|
١٤٠
|
الحجرات
|
|
٣٦
|
٢٠٣
|
١٤
|
١١ ، ٣١ ، ٦٩
|
٤٣ و ٤٤
|
١٥
|
ق
|
|
٦١
|
١٧٠
|
٤
|
٦١ ، ٢١٥
|
٦٨
|
١٠١
|
٧
|
١٢٤
|
٧١
|
٢٢٨
|
٨
|
١٢٤
|
٧٧
|
٢١٨
|
١٥
|
٦٣ ، ٨٦ ، ٢٠١
|
٨٤
|
٢٣ ، ٥١
|
١٦
|
٢٠١
|
٨٥
|
١٧٠ ، ١٧٢
|
١٧
و ١٨
|
٢٠١ ، ٢٠٣
|
الدخان
|
|
٢١
|
٢٤ ، ١٢٣ ، ٢٠١
|
٤٣
|
٢٢٧
|
٢٢
|
٨٧ ، ٢٠١ ، ٢١٢
|
الجاثية
|
|
٢٣
|
٢٤ ، ٢٠١
|
٦
|
١٦
|
٢٩
|
٧٢ ، ٢٠٤
|
٧ و ٨
|
٧
|
٣٧
|
٦٩
|
٩ و ١٠
|
٧
|
٤١
|
١٠٢
|
٢٢
|
٢٠١
|
٤٢
|
١٠٢
|
٢٣
|
١٧٧ ، ٢٢٠
|
٤٣
|
٨٢
|
٢٤
|
١٨٥
|
الذاريات
|
|
٣٥
|
١٠
|
٢١
|
٤ ، ٢٧ ، ١٣٢
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الذاريات
|
|
٧٨
|
٧٨
|
٢٢
|
٦٢
|
الواقعة
|
|
٤٧
|
٧٩
|
٧
و ٨
|
٧٧
|
٥٦
|
١٢٨
|
٥١
ـ ٥٣
|
٢٢٧
|
الطور
|
|
٦٠
و ٦١
|
٨٦
|
١ ـ ٦
|
٦٩
|
٦٢
|
١٨٤
|
٩
|
٧٦ ، ١٠٢
|
٦٣
|
٥١
|
١٠
|
١٠٢
|
٦٤
|
٥١
|
١٦
|
٢٠٥
|
٧١
|
٥١
|
٣٧
|
٥٩
|
٧٢
|
٥١
|
النجم
|
|
٧٤
|
٢٣
|
٣ و ٤
|
٥٣ ، ١١١
|
٧٧
|
٦١ ، ١١٧
|
٦ و ٧
|
٥٣
|
٧٩
|
٧٧ ، ١١٧
|
١٠
|
١٩ ، ١٧٢
|
٨٨
|
٧٧
|
١١
|
١١١ ، ١٧٢
|
٩١
|
٢٢٥
|
١٢ ـ ١٨
|
١٧٢
|
الحديد
|
|
٢٩ و ٣٠
|
١١٧
|
٣
|
٣٦
|
القمر
|
|
٩
|
١٧ ، ٢٨
|
١
|
١٧٠
|
١٢
|
٢٨ ، ١٧٨
|
٢٤
|
١٤٤
|
١٣
|
٢١٨
|
٤٩
|
٤٨
|
١٩
|
٢٨
|
٥٠
|
٥٣ ، ٧٥ ، ١٠٦ ، ١٧٤
|
٢٠
|
١١١
|
٥٢
|
٢٠١
|
٢١
|
١١٤ ، ١٣٨ ، ١٧٣
|
٥٥
|
٢٢٠
|
٢٢
|
٦١
|
الرحمن
|
|
٢٥
|
١٢٨ ، ١٧٥ ، ٢٠٨
|
١ ـ ٧
|
٢٠٨
|
المجادلة
|
|
١٤
|
١٢٨ ، ١٢٩
|
٧
|
٣٥ ، ٣٦
|
٢٦
|
١٦٦
|
١١
|
٢٩
|
٢٧
|
١٦٦ ، ٢٢٥
|
١٩
|
٤
|
٤٣
|
١١٥
|
٢٢
|
٢٠ ، ٧٥ ، ٢٠٣
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الحشر
|
|
القلم
(النون)
|
|
٢
|
٤ ، ١١٤
|
١
|
١١٧
|
١٩
|
١٣٤ ، ١٦١
|
٤
|
١٧ ، ١١٢
|
٢٣
|
٢٣
|
٣٦
|
١٤٤
|
٢٤
|
٢٣
|
٤٢
|
٢٠١
|
الجمعة
|
|
الحاقة
|
|
٢
|
١٤ ، ١٥٥
|
١٤
|
٢٠٠
|
٤
|
٢ ، ١٤ ، ١٦١
|
١٥
|
١٠٢
|
٥
|
١٤٤ ، ١٤٦
|
١٣
ـ ١٦
|
١٧١
|
المنافقون
|
|
١٦
|
١٠٢
|
٧
|
٤٧
|
١٧
|
٩٠
|
التغابن
|
|
١٩
و ٢٠
|
٢٠٣
|
٣
|
١٤٧
|
٢٥
و ٢٦
|
٢٠٣
|
٦
|
١٤٤
|
٣٠
ـ ٣٧
|
٢٢٣
|
الطلاق
|
|
٣٩
|
٧٨
|
٣
|
٢٢٥
|
المعراج
|
|
١١
|
٢٨
|
١
ـ ٣
|
٨٨
|
١٢
|
١٦
|
٤
|
٨٨ ، ٩٤ ، ١٠١ ، ١٦٨
|
التحريم
|
|
٥
|
٨٨
|
٨
|
١٥٣
|
٧
|
١٧٠
|
الملك
|
|
١٦
و ١٧
|
١٨١ ، ٢٢٣
|
٢
|
١٠٣ ، ١٠٧ ، ١١٢
|
٣٨
|
٢٠٦
|
٣
|
٧٩ ، ١٣٩
|
٤٣
|
١٧١
|
١٠
|
٩ ، ٢٢٠
|
نوح
|
|
١٤
|
٤٦
|
١٤
|
١٣٩
|
٢٢
|
٢٢١
|
١٧
|
١٣٥
|
٢٣
|
٢٢١
|
٢٢
|
٣١
|
|
|
٢٥
|
٧٠ ، ١١٤ ، ٢٠٠
|
|
|
الجن
|
|
|
|
١٥
|
٢٢٣
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
المزمل
|
|
٣٨
|
٩٤
|
١٤
|
١٧١
|
٤٠
|
١٧١
|
١٧
|
١٧١
|
النازعات
|
|
المدثر
|
|
٥
|
٧٦ ، ٧٩ ، ٢٢٢
|
٣٠
|
٢٢٢
|
١٣
|
٢٠٠
|
٣١
|
٧٨ ، ٧٩ ، ٢٢٢
|
٣٣
|
٢١٢
|
٥٥
|
١٧٧
|
٣٥
|
١٧١
|
القيامة
|
|
٣٦
|
١٧١
|
٨
|
١٩٩
|
٣٧
|
١١٦ ، ٢٢٠ ، ٢٢١
|
٩
|
١٩٩
|
٣٨
ـ ٤١
|
٢٢١
|
١٢
|
١٤٦
|
٤٢
ـ ٤٥
|
١٧٣
|
١٦ ـ ١٩
|
١٢
|
عبس
(الاعمى)
|
|
٢٠
|
١٣٦
|
١٣
ـ ١٦
|
٢٠٤
|
٣٠
|
١٤٦
|
التكوير
(كورت)
|
|
٣٦ ـ ٤٠
|
١٨٥
|
١
|
٩٢ ، ١٧١ ، ١٩٩
|
الدهر (الانسان)
|
٢
|
٩٢ ، ١٧١
|
١
|
١٣٥ ، ١٦٦
|
٢
ـ ٤
|
٩٢
|
٢
|
١٣٥ ، ١٣٦
|
٥
|
٩٢ ، ١٥١
|
٣
|
١٣٦
|
٦
|
١٧١ ، ٢٠٠
|
١٣
|
٢٠٠
|
١٠
|
٩٣ ، ١٤٧ ، ١٧١ ، ٢٠٤
|
٣٠
|
٣٩
|
١١
ـ ١٤
|
٩٣ ، ١٧١
|
المرسلات
|
|
١٤
|
٢٣٢
|
٨
|
١٧٧ ، ١٩٩
|
الانفطار
|
|
٩ و ١٠
|
١٧١
|
١
و ٢
|
١٧١
|
٥٠
|
٣
|
٢
|
١٩٩
|
النباء
|
|
٣
ـ ٥
|
١٧١
|
١٨
|
١٤٢ ، ١٧١
|
١١
|
٢٤ ، ٢٠٣
|
١٩ و ٢٠
|
١٧١
|
١٣
|
١٤٧
|
٢٤ و ٢٥
|
٢١٨
|
١٦
|
١١٤
|
|
|
١٩
|
١٧٢
|
الاية
|
الصفحة
|
الاية
|
الصفحة
|
الطففين
|
|
الشمس
|
|
٦
|
١٤٧ ، ١٧١
|
٧
و ٨
|
١٣١
|
٧
|
١٤٧
|
الانشراح
|
|
١٤
|
٨ ، ١٧٨
|
١
|
١١١
|
١٥
|
٨ ، ١٢٨ ، ١٧٨
|
العلق
|
|
١٦
|
٨ ، ١٧٨
|
١
ـ ٥
|
٥٣
|
١٨
|
١٤٧
|
٣
ـ ٥
|
١٢ ، ١١٧
|
١٩
|
٢٠٦
|
٨
|
١٤٧
|
الانشقاق
|
|
القدر
|
|
١ ـ ٥
|
٩١ ، ١٧١
|
٤
|
١٦٨
|
٦
|
٨٧
|
البينة
|
|
١٠
|
٢٠٣
|
٦
و ٧
|
١٤٤
|
البروج
|
|
الزلزال
(الزلزله)
|
|
٢٢
|
١١٧
|
١
و ٢
|
١٧١
|
الطارق
|
|
٦
|
١٤٣ ، ١٥١
|
٩
|
١٧٢ ، ٢٠٠
|
العاديات
|
|
١١
|
٩٤
|
٩
|
١٧٢
|
١٥ ـ ١٧
|
٣١
|
١٠
|
١٧٢
|
الاعلى
|
|
التكاثر
|
|
١
|
٢٣ ، ٤١ ، ٧٨
|
١
و ٢
|
١٠٧
|
١٣
|
٢٣٠
|
الهمزة
|
|
١٨ و ١٩
|
١١
|
٧
ـ ٩
|
١١٤
|
الفجر
|
|
الاخلاص
|
|
٢٣
|
٩
|
١
ـ ٤
|
٣٣
|
٢٧
|
٩٣ ، ١٥٣
|
|
|
٢٨
|
٩٣ ، ١٦٧
|
|
|
٢٩
|
١٦٧
|
|
|
٣٠
|
١٦٧
|
|
|
|