بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

لقاضى القضاة الامام أبى السعود

سبحان من أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، وبين له من شعائر الشرائع كل ما جل ودق ، أنزل عليه أظهر بينات وأبهر حجج قرآنا عربيا غير ذى عوج ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ، ناطقا بكل أمر رشيد هاديا إلى صراط العزيز الحميد آمرا بعبادة الصمد المعبود ، كتابا متشابها مثانى تقشعر منه الجلود ، تكاد الرواسى لهيبته تمور ويذوب منه الحديد ويميع صم الصخور ، حقيقا بأن يسير به الجبال ، وييسر به كل صعب محال ، معجزا أفحم كل مصقع من مهرة قحطان ، وبكت كل مفلق من سحرة البيان ، بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على معارضته ومباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ، نزله عليه على فترة من الرسل ، ليرشد الأمة إلى أقوم السبل ، فهداهم إلى الحق وهم فى ضلال مبين ، فاضمحل دجى الباطل وسطع نور اليقين ، فمن اتبع هداه فقد فاز بمناه ، وأما من عانده وعصاه واتخذ إلهه هواه فقد هام فى موامى الردى وتردى فى مهاوى الزور ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، صلى الله عليه وعلى آله الأخيار وصحبه الأبرار ما تناوبت الأنواء وتعاقبت الظلم والأضواء ، وعلى من تبعهم بإحسان مدى الدهور والأزمان.

وبعد : فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الهادى (أبو السعود محمد بن محمد العمادى) إن الغاية القصوى من تحرير نسخة العالم وما كان حرف منها مسطورا والحكمة الكبرى فى تخمير طينة آدم ولم يكن شيئا مذكورا ليست إلا معرفة الصانع المجيد وعبادة البارىء المبدىء المعيد ، ولا سبيل إلى ذاك المطلب الجليل سوى الوقوف على مواقف التنزيل ، فإنه عز سلطانه وبهر برهانه وإن سطر آيات قدرته فى صحائف الأكوان ونصب رايات وحدته فى صفائح الأعراض والأعيان ، وجعل كل ذرة من ذرات العالم وكل قطرة من قطرات العلم وكل نقطة جرى عليها قلم الإبداع وكل حرف رقم فى لوح الإختراع مرآة لمشاهدة جماله ومطالعة صفات كماله حجة نيرة واضحة المكنون وآية بينة لقوم يعقلون ، برهانا جليا لا ريب فيه ومنهاجا سويا لا يضل من ينتحيه بل ناطقا يتلو آيات ربه ، فهل من سامع واع ومجيب صادق ، فهل له من داع يكلم الناس على قدر عقولهم ويرد جوابهم بحسب مقولهم يحاور تارة بأوضح عبارة ويلوح أخرى


بألطف إشارة ، لكن الإستدلال بتلك الآيات والدلائل والإستشهاد بتيك الأمارات والمخايل والتنبيه لتلك الإشارات السرية والتفطن لمعانى تلك العبارات العبقرية وما فى تضاعيفها من رموز أسرار القضاء والقدر وكنوز آثار التعاجيب والعبر مما لا يطيق به عقول البشر إلا بتوفيق خلاق القوى والقدر فإذن مدار المراد ليس إلا كلام رب العباد إذ هو المظهر لتفاصيل الشعائر الدينية والمفسر لمشكلات الآيات التكوينية ، والكاشف عن خفايا حظائر القدس والمطلع على خبايا سرائر الأنس وبه تكتسب الملكات الفاخرة وبه يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة كما وأنه أيضا من علو الشأن وسمو المكان ونهاية الغموض والإعضال وصعوبة المأخذ وعزة المنال فى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية أعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق لا يتسنى العروج إلى معارجه الرفيعة ولا يتأتى الرقى إلى مدارجه المنيعة كيف لا وأنه مع كونه متضمنا لدقائق العلوم النظرية والعملية ومنطوبا على دقائق الفنون الخفية والجلية حاويا لتفاصيل الأحكام الشرعية ومحيطا بمناط الدلائل الأصلية والفرعية منبئا عن أسرار الحقائق والنعوت مخبرا بأطوار الملك والملكوت عليه يدور فلك الأوامر والنواهى وإليه يستند معرفة الأشياء كما هى قد نسج على أغرب منوال وأبدع طراز واحتجبت طلعته بسبحات الإعجاز طويت حقائقه الأبية عن العقول وزويت دقائقه الخفية عن أذهان الفحول يرد عيون العقول سبحانه ويخطف أبصار البصائر بريقه ولمعانه. ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته أساطين أئمة التفسير فى كل عصر من الأعصار وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير فى كل قطر من الأقطار فغاصوا فى لججه وخاضوا فى ثبجه فنظموا فرائده فى سلك التحرير وأبرزوا فوائده فى معرض التقرير وصنفوا كتبا جليلة الأقدار وألفوا زبرا جميلة الآثار.

أما المتقدمون المحققون فاقتصروا على تمهيد المعانى وتشييد المبانى وتبيين المرام وترتيب الأحكام حسبما بلغهم من سيد الأنام عليه شرائف التحية والسلام.

وأما المتأخرون المدققون فراموا مع ذلك إظهار مزاياه الرائقة وإبداء خباياه الفائقة ليعاين الناس دلائل إعجازه ويشاهدوا شواهد فضله وامتيازه عن سائر الكتب الكريمة الربانية والزبر العظيمة السبحانية فدونوا أسفارا بارعة جامعة لفنون المحاسن الرائعة يتضمن كل منها فوائد شريفة تقربها عيون الأعيان وعوائد لطيفة يتشنف بها آذان الأذهان لا سيما الكشاف وأنوار التنزيل المتفردان بالشأن الجليل والنعت الجميل فإن كلا منهما قد أحرز قصب السبق أى إحراز كأنه مرآة لاجتلاء وجه الإعجاز صحائفهما مرايا المزايا الحسان وسطورهما عقود الجمان وقلائد العقبان ولقد كان فى سوابق الأيام وسوالف الدهور والأعوام أوان اشتغالى بمطالعتهما وممارستهما وزمان انتصابى لمفاوضتهما ومدارستهما يدور فى خلدى على استمرار آناء الليل وأطراف النهار أن أنظم درر فوائدهما فى سمط دقيق وأرتب غرر فرائدهما على ترتيب أنيق وأضيف إليها ما ألفيته فى تضاعيف الكتب الفاخرة من جواهر الحقائق وصادفته فى أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق وأسلك خلالها بطريق الترصيع على نسق أنيق وأسلوب بديع حسبما يقتضيه جلالة شأن التنزيل ويستدعيه جزالة نظمه الجليل ما سنح الفكر العليل بالعناية الربانية وسمح به


النظر الكليل بالهداية السبحانية من عوارف معارف يمتد إليها أعناق الهمم من كل ماهر لبيب وغرائب رغائب ترنوا إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب وتحقيقات رصينة تقيل عثرات الأفهام فى مداحض الأقدام وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام من خواطر الأنام فى معارك أفكار يشتبه فيها الشؤن ومدارك أنظار يختلط فيها الظنون وأبرز من وراء أستار الكمون من دقائق السر المخزون فى خزائن الكتاب المكنون ما تطمئن إليه النفوس وتقر به العيون من خفايا الرموز وخبايا الكنوز وأهديها إلى الخزانة العامرة الغامرة للبحار الزاخرة لجناب من خصه الله تعالى بخلافة الأرض واصطفاه لسلطنتها فى الطول والعرض ألا وهو السلطان الأسعد الأعظم والخاقان الأمجد الأفخم مالك الإمامة العظمى والسلطان الباهر وارث الخلافة الكبرى كابرا عن كابر رافع رايات الدين الأزهر موضح آيات الشرع الأنور مرغم أنوف الفراعنة والجبابرة معفر جباه القياصرة والأكاسرة فاتح بلاد المشارق والمغارب بنصر الله العزيز وجنده الغالب الهمام الذى شرق عزمه المنير فانتهى إلى المشرق الأسنى وغرب حتى بلغ مغرب الشمس أو دنا بخميس عرمرم متزاحم الأفواج وعسكر كخضم متلاطم الأمواج فأصبح ما بين أفقى الطلوع والغروب وما بين نقطتى الشمال والجنوب منتظما فى سلك ولاياته الواسعة ومندرجا تحت ظلال راياته الرائعة فأصبجت منابر الربع المسكون مشرفة بذكر اسمه الميمون فياله من ملك استوعب ملكه البر البسيط واستعرق فلكه وجه البحر المحيط فكأنه فضاء ضربت فيه خيامه أو نصبت عليه ألويته وأعلامه مالك ممالك العالم ظل الله الظليل على كافة الأمم قاصم القياصرة وقاهر القروم سلطان العرب والعجم والروم وسلطان المشرقين وخاقان الخافقين الإمام المقتدر بالقدرة الربانية والخليفة المعتز بالعزة السبحانية المفتخر بخدمة الحرمين الجليلين المعظمين وحماية المقامين الجميلين المفخمين ناشر القوانين السلطانية عاشر الخواقين العثمانية السلطان ابن السلطان السلطان سليمان خان بن السلطان المظفر المنصور والخاقان الموقر المشهور صاحب المغازى المشهورة فى أقطار الأمصار والفتوحات المذكورة فى صحائف الأسفار السلطان سليم خان بن السلطان السعيد والخاقان المجيد السلطان بايزيد خان لا زالت سلسلة سلطنته متسلسلة إلى انتهاء سلسلة الزمان وأرواح أسلافه العظام متنزهة فى روضة الرضوان.

وكنت أتردد فى ذلك بين إقدام وإحجام لقصور شأنى وعزة المرام أين الحضيض من الذرى شتان بين الثريا والثرى وهيهات اصطياد العنقاء بالشباك واقتياد الجوزاء من بروج الأفلاك فمضت عليه الدهور والسنون وتغيرت الأطوار وتدلت الشئون فابتليت بتدبير مصالح العباد برهة فى قضاء البلاد وأخرى فى قضاء العساكر والأجناد فحال بينى وبين ما كنت أخال تراكم المهمات وتزاحم الأشغال وجموم العوارض والعلائق وهجوم الصوارف والعوائق والتردد إلى المغازى والأسفار والتنقل من دار إلى دار وكنت فى تضاعيف هاتيك الأمور أقدر فى نفسى أن أنتهز نهزة من الدهور ويتسنى لى القرار وتطمئن بى الدار وأظفر حينئذ بوقت خال أتبتل فيه إلى جناب ذى العظمة والجلال وأوجه إليه وجهتى وأسلم له سرى وعلانيتى وأنظر إلى كل شىء بعين الشهود وأتعرف سر الحق فى كل موجود تلافيا لما قد فات واستعدادا لما هو آت وأتصدى لتحصيل ما عزمت عليه وأتولى لتكميل ما توجهت إليه برفاهة واطمئنان وحضور


قلب وفراغ جنان فبينما أنا فى هذا الخيال إذ بدا لى ما لم يخطر بالبال تحولت الأحوال والدهر حول فوقعت فى أمر أشق من الأول أمرت بحل مشكلات الأنام فيما شجر بينهم من النزاع والخصام فلقيت معضلة طويلة الذيول وصرت كالهارب من المطر إلى السيول فبلغ السيل الزبى وغمرنى أى غمر غوارب ما جرى بين زيد وعمر وفأضحيت فى ضيق المجال وسعة الأشغال أشهر ممن يضرب بها الأمثال فجعلت أتمثل بقول من قال :

لقد كنت أشكوك الحوادث برهة

وأستمرض الأيام وهى صحائح

إلى أن تغشتنى وقيت حوادث

تحقق أن السالفات منائح

فلما انصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال ورأيت أن الفرصة على جناح الفوات وشمل الأسباب فى شرف الشتات وقد مسنى الكبر وتضاءلت القوى والقدر ودنا الأجل من الحلول وأشرفت شمس الحياة على الأفول عزمت على إنشاء ما كنت أنويه وتوجهت إلى إملاء ما ظلت أبتغيه ناويا أن أسميه عند تمامه بتوفيق الله تعالى وإنعامه (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) فشرعت فيه مع تفاقم المكاره على وتزاحم المشادة بين يدى متضرعا إلى رب العظمة والجبروت خلاق عالم الملك والملكوت فى أن يعصمنى عن الزيغ والزلل ويقينى مصارع السوء فى القول والعمل ويوفقنى لتحصيل ما أرومه وأرجوه ويهدينى إلى تكميله على أحسن الوجوه ويجعله خير عدة وعتاد أتمتع به يوم المعاد فيامن توجهت وجوه الذل والإبتهال نحو بابه المنيع ورفعت أيدى الضراعة والسؤال إلى جنابه الرفيع أفض علينا شوارق أنوار التوفيق وأطلعنا على دقائق أسرار التحقيق وثبت أقدامنا على مناهج هداك وأنطقنا بما فيه أمرك ورضاك ولا تكلنا إلى أنفسنا فى لحظة ولا آن وخذ بناصيتنا إلى الخير حيث كان جئاك على جباه الإستكانة ضارعين ولأبواب فيضك قارعين أنت الملاذ فى كل أمرمهم وأنت المعاذ فى كل خطب ملم لارب غيرك ولا خير إلا خيرك بيدك مقاليد الأمور لك الخلق والأمر وإليك النشور.


[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (٧)

سورة فاتحة الكتاب وهى سبع آيات

الفاتحة فى الأصل أول ما من شأنه أن يفتح كالكتاب والثوب أطلقت عليه لكونه واسطة فى فتح الكل ثم أطلقت على أول كل شىء فيه تدريج بوجه من الوجوه كالكلام التدريجى حصولا والسطور والأوراق التدريجية قراءة وعدا ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية أو هى مصدر بمعنى الفتح أطلقت عليه تسمية للمفعول باسم المصدر إشعارا بأصالته كأنه نفس الفتح فإن تعلقه به بالذات وبالباقى بواسطئه لكن لا على معنى أنه واسطة فى تعلقه بالباقى ثانيا حتى يرد أنه لا يتسنى فى الخاتمة لما أن ختم الشىء عبارة عن بلوغ آخره وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأول بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولا وبالذات وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته لكونه جزأ منه وكذا الكلام فى الخاتمة فإن بلوغ آخر الشىء يعرض للآخر أولا وبالذات وللكل بواسطته على الوجه الذى تحققته والمراد بالأول ما يعم الإضافى فلا حاجة إلى الإعتذار بأن إطلاق الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول والمراد بالكتاب هو المجموع الشخصى لا القدر المشترك بينه وبين أجزائه على ما عليه اصطلاح أهل الأصول ولا ضير فى اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم فى أوائل عهد النبوة قبل تحصل المجموع بنزول الكل لما أن التسمية من جهة الله عز اسمه أو من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإذن فيكفى فيها تحصله باعتبار تحققه فى علمه عزوجل أو فى اللوح أو باعتبار أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزله على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجو ما فى ثلاث وعشرين سنة كما هو المشهور والإضافة بمعنى اللام كما فى جزء الشىء لا بمعنى من كما فى خاتم فضة لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه لا جزئى له ومدار التسمية كونه مبدأ للكتاب على الترتيب المعهود لا فى القراءة فى الصلاة ولا فى التعليم ولا فى


النزول كما قيل أما الأول فبين إذ ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ فى الصلاة حتى تعتبر فى التسمية مبدئيتها له وأما الاخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليم أو من حيث النزول يستدعى مراعاة الترتيب فى بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ولا ريب فى أن الترتيب التعليمى والترتيب النزولى ليسا على نسق الترتيب المعهود وتسمى أم القرآن لكونها أصلا ومنشأ له إما لمبدئيتها له وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عزوجل والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التى هى سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء والمراد بالقرآن هو المراد بالكتاب وتسمى أم الكتاب أيضا كما يسمى بها اللوح المحفوظ لكونه أصلا لكل الكائنات والآيات الواضحة الدالة على معانيها لكونها بينة تحمل عليها المتشابهات ومناط التسمية ما ذكر فى أم القرآن لا ما أورده الإمام البخارى فى صحيحه من أنه يبدأ بقراءتها فى الصلاة فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه وتسمى سورة الكنز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها أنزلت من كنز تحت العرش أو لما ذكر فى أم القرآن كما أنه الوجه فى تسميتها الأساس والكافية والوافية وتسمى سورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة لاشتمالها عليها وسورة الصلاة لوجوب قراءتها فيها وسورة الشفاء والشافية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى شفاء من كل داء والسبع المثانى لأنها سبع آيات تثنى فى الصلاة أو لتكرر نزولها على ما روى أنها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حولت القبلة وقد صح أنها مكية لقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وهو مكى بالنص (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) اختلف الأئمة فى شأن التسمية فى أوائل السور الكريمة فقيل إنها ليست من القرآن أصلا وهو قول ابن مسعود رضى الله عنه ومذهب مالك والمشهور من مذهب قدماء الحنفية وعليه قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها وقيل إنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيح من مذهب الحنفية وقيل هى آية تامة من كل سورة صدرت بها وهو قول ابن عباس وقد نسب إلى ابن عمر أيضا رضى الله عنهم وعليه يحمل إطلاق عبارة ابن الجوزى فى زاد المسير حيث قال روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنها أنزلت مع كل سورة وهو أيضا مذهب سعيد بن جبير والزهرى وعطاء وعبد الله بن المبارك وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وهو القول الجديد للشافعى رحمه‌الله ولذلك يجهر بها عنده فلا عبرة بما نقل عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعى لم يسبقه إليه أحد وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآنا فى سائر السور أيضا من غير تعرض لكونها جزأ منها أو لا ولا لكونها آية تامة أولا وهو أحد قولى الشافعى على ما ذكره القرطبى ونقل عن الخطابى أنه قول ابن عباس وأبى هريرة رضى الله عنهم وقيل إنها آية تامة فى الفاتحة وبعض فى البواقى وقيل بعض آية فى الفاتحة وآية تامة فى البواقى وقيل إنها بعض آية فى الكل وقيل إنها آيات من القرآن متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزأ منها وهذا القول غير معزى فى الكتب إلى أحد وهناك قول آخر ذكره بعض المتأخرين ولم ينسبه إلى أحد وهو إنها آية تامة فى الفاتحة وليست بقرآن فى سائر السور ولولا اعتبار كونها آية تامة لكان ذلك أحد محملى تردد الشافعى فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية فى الفاتحة وأما فى غيرها فقوله فيها


متردد فقيل بين أن يكون قرآنا أو لا وقيل بين أن يكون آية تامة أو لا قال الإمام الغزالى والصحيح من الشافعى هو التردد الثانى وعن أحمد بن حنبل فى كونها آية كاملة وفى كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزى ونقل أنه مع مالك وغيره ممن يقول أنها ليست من القرآن هذا والمشهور من هذه الأقاويل هى الثلاث الأول والاتفاق على إثباتها فى المصاحف مع الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله عزوجل يقضى بنفى القول الأول وثبوت القدر المشترك بين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعى كونها جزأ من كل سورة منه كما لا يستدعى كونها آية منفردة منه وأما ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أن من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى وما روى عن أبى هريرة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وما روى عن أم سلمة من أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة الفاتحة وعد (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آية وإن دل كل واحد منها على نفى القول الثانى فليس شىء منها نصا فى إثبات القول الثالث أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آيات من كتاب الله تعالى متعددة بعدد السور المصدرة بها لا على ما هو المطلوب من كونها آية تامة من كل واحدة منها إلا أن يلتجأ إلى أن يقال أن كونها آية متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزأ منها قول لم يقل به أحد وأما الثانى فساكت عن التعرض لحالها فى بقية السور وأما الثالث فناطق بخلافه مع مشاركته للثانى فى السكوت المذكور والباء فيها متعلقة بمضمر ينبئ عنه الفعل المصدر بها كما أنها كذلك فى تسمية المسافر عند الحلول والارتحال وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال ومعناها الإستعانة أو الملابسة تبركا أى باسم الله أقرأ أو أتلو وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص كما فى إياك نعبد وتقدير أبدأ لاقتضائه اقتصار التبرك على البداية مخل بما هو المقصود أعنى شمول البركة للكل وادعاء أن فيه امتثالا بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معا وفى تقدير اقرأ من جهة المعنى فقط ليس بشىء فإن مدار الامتثال هو البدء بالتسمية لا تقدير فعله إذ لم يقل فى الحديث الكريم كل أمر ذى بال لم يقل فيه أو لم يضمر فيه أبدأ وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقول على ألسنة العباد تلقينا لهم وإراشادا إلى كيفية التبرك باسمه تعالى وهداية إلى منهاج الحمد وسؤال الفضل ولذلك سميت السورة الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها بلزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الإبتداء والاسم عند البصريين من الأسماء المحذوفة الأعجاز المبنية الأوائل على السكون قد أدخلت عليها عند الإبتداء همزة لأن من دأبهم البدء بالمتحرك والوقف على الساكن ويشهد له تصريفهم على أسماء وسمى وسميت وسمى كهدى لغة فيه قال[والله أسماك سمى مباركا آثرك الله به إيثاركا] والقلب بعيد غير مطرد واشتقاقه من السمو لأنه رفع للمسمى وتنويه له وعند الكوفيين من السمة وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلالها ورد عليه بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره فى كلامهم ومن لغاتهم سم وسم قال باسم الذى فى كل سورة سمه وإنما لم يقل بالله للفرق بين اليمين والتيمن أو لتحقيق ما هو المقصود بالإستعانة ههنا فإنها تكون تارة بذاته تعالى وحقيقتها طلب المعونة على إيقاع


الفعل وإحداثه أى إفاضة القدرة المفسرة عند الأصوليين من أصحابنا بما يتمكن به العبد من أداء مالزمه المنقسمة إلى ممكنة وميسرة وهى المطلوبة بإياك نستعين وتارة أخرى باسمه عز وعلا وحقيقتها طلب المعونة فى كون الفعل معتدا به شرعا فإنه ما لم يصدر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعة وجب تعيين المراد بذكر الاسم وإلا فالمتبادر من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هى الإستعانة الأولى إن قيل فليحمل الباء على التبرك وليستغن عن ذكر الاسم لما أن التبرك لا يكون إلا به قلنا ذاك فرع كون المراد بالله هو الاسم وهل التشاجر إلا فيه فلا بد من ذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمى ويتعين حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا وطولت الباء عوضا عنها. و (اللهِ) أصله الإله فحذفت همزته على غير قياس كما ينبئ عنه وجوب الإدغام وتعويض الألف واللام عنها حيث لزماه وجردا عن معنى التعريف ولذلك قيل يا لله بالقطع فإن المحذوف القياسى فى حكم الثابث فلا يحتاج إلى التدارك بما ذكر من الإدغام والتعويض وقيل على قياس تخفيف الهمزة فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسماه عما سواه بما لا يوجد فيه من نعوت الكمال والإله فى الأصل اسم جنس يقع على كل معبود بحق أو باطل أى مع قطع النظر عن وصف الحقية والبطلان لامع اعتبار أحدهما لا بعينه ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصعق وأما الله بحذف الهمزة فعلم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره أصلا واشتقاقه من الإلاهة والألوهة والألوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهرى على أنه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب لا على أنه صفة منها بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يقال إله واحد ولا يقال شىء إله كما يقال كتاب مرقوم ولا يقال شىء كتاب والفرق بينهما أن الموضوع له فى الصفة هو الذات المبهمة باعتبار اتصافها بمعنى معين وقيامه بها فمدلولها مركب من ذات مبهمة لم يلاحظ معها خصوصية أصلا ومن معنى معين قائم بها على أن ملاك الأمر تلك الخصوصية فبأى ذات يقوم ذلك المعنى يصح إطلاق الصفة عليها كما فى الأفعال ولذلك تعمل عملها كاسمى الفاعل والمفعول والموضوع له فى الاسم المذكور هو الذات المعينة والمعنى الخاص فمدلوله مركب من ذينك المعنيين من غير رجحان للمعنى على الذات كما فى الصفة ولذلك لم يعمل عملها وقيل اشتقاقه من إله بمعنى تحير لأنه سبحانه يحار فى شأنه العقول والأفهام وأما أله كعبد وزنا ومعنى فمشتق من الإله المشتق من إله بالكسر وكذا تأله واستأله اشتقاق استنوق واستحجر من الناقة والحجر وقيل من أله إلى فلان أى سكن إليه لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته وقيل من أله إذا فزع من أمر نزل به وآلهه غيره إذا أجاره إذ العائذ به تعالى يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو فى زعمه وقيل أصله لاه على أنه مصدر من لاه يليه بمعنى احتجب وارتفع أطلق على الفاعل مبالغة وقيل هو اسم علم للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد فى قولنا لا إله إلا الله ولا يخفى أن اختصاص الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقه على غيره أصلا كاف فى ذلك ولا يقدح فيه كون ذلك الاختصاص بطريق الغلبة بعد أن كان اسم جنس فى الأصل وقيل هو وصف فى الأصل لكنه لما


غلب عليه بحيث لا يطلق على غيره أصلا صار كالعلم ويرده امتناع الوصف به واعلم أن المراد بالمنكر فى كلمة التوحيد هو المعبود بالحق فمعناها لافراد من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبود بالحق وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الثانية وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة وقيل مطلقا وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين وقد جاء لضرورة الشعر فى قوله[ألا لا بارك الله فى سهيل إذا ما الله بارك فى الرجال] . و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان مبنيتان من رحم بعد جعله لازما بمنزلة الغرائز بنقله إلى رحم بالضم كما هو المشهور وقد قيل إن الرحيم ليس بصفة مشبهة بل هى صيغة مبالغة نص عليه سيبويه فى قولهم هو رحيم فلانا والرحمة فى اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها والمراد ههنا التفضل والإحسان وإرادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه البعيد أو القريب فإن أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التى هى أفعال دون المبادىء التى هى انفعالات والأول من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى وإنما امتنع صرفه إلحاقا له بالأغلب فى بابه من غير نظر إلى الاختصاص العارض فإنه كما حظر وجود فعلى حظر وجود فعلانة فاعتباره يوجب اجتماع الصرف وعدمه فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص بأن تقاس إلى نظائرها من باب فعل يفعل فإذا كان كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فعلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضا فى أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى فتمنع من الصرف وفيه من المبالغة ما ليس فى الرحيم ولذلك قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياس تأخيره رعاية لأسلوب الترقى إلى الأعلى كما فى قولهم فلان عالم نحرير وشجاع باسل وجواد فياض لأنه باختصاصه به عزوجل صار حقيقا بأن يكون قرينا للاسم الجليل الخاص به تعالى ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحق بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد هو النعت بالجميل على الجميل اختياريا كان أو مبدأ له على وجه يشعر ذلك بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتاز عن المدح فإنه خال عنها يرشدك إلى ذلك ما نرى بينهما من الاختلاف فى كيفية التعلق بالمفعول فى قولك حمدته ومدحته فإن تعلق الثانى بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها وأما الأول فتعلقه بمفعوله منبىء عن معنى الإنهاء كما فى قولك كلمته فإنه معرب عما يقيده لام التبليغ فى قولك قلت له ونظيره وشكرته وعبدته وخدمته فإن تعلق كل منها منبئ عن المعنى المذكور وتحقيقه أن مفعول كل فعل فى الحقيقة هو الحدث الصادر عن فاعله ولا يتصور فى كيفية تعلق الفعل به أى فعل كان اختلاف أصلا وأما المفعول به الذى هو محله وموقعه فلما كان تعلقه به ووقوعه عليه على أنحاء مختلفة حسبما يقتضيه خصوصيات الأفعال بحسب معانيها المختلفة فإن بعضها يقتضى أن يلابسه ملابسة تامة مؤثرة فيه كعامة الأفعال وبعضها يستدعى أن يلابسه أدنى ملابسة إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلا أو بالإبتداء منه كالإستعانة مثلا اعتبر فى كل نحو من أنحاء تعلقه به كيفية لائقة بذلك النحو مغايرة لما اعتبر فى النحوين الأخيرين فنظم القسم الأول من التعلق فى سلك التعلق بالمفعول الحقيقى مراعاة لقوة الملابسة وجعل كل واحد من القسمين الأخيرين


من قبيل التعلق بواسطة الجار المناسب له فإن قولك أعنته مشعر بانتهاء الإعانة إليه وقولك استعنته بابتدائها منه وقد يكون لفعل واحد مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالآخر على الثانية أو الثالثة كما فى قولك حدثنى الحديث وسألنى المال فإن التحديث مع كونه فعلا واحدا قد تعلق بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فإنه فعل واحد وقد تعلق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب فى أن اختلاف هذه الكيفيات الثلاث وتباينها واختصاص كل من المفاعيل المذكورة بما نسب إليه منها مما لا يتصور فيه تردد ولا نكير وإن كان لا يتضح حق الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير وإن مدار ذلك الاختلاف ليس إلا اختلاف الفعل أو اختلاف المفعول وإذ لاختلاف فى مفعول الحمد والمدح تعين أن اختلافهما فى كيفية التعلق لاختلافهما فى المعنى قطعا هذا وقد قيل المدح مطلق عن قيد الإختيار يقال مدحت زيدا على حسنه ورشاقة قده وأيا ما كان فليس بينهما ترادف بل أخوة من جهة الاشتقاق الكبير وتناسب تام فى المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنى من غير ترادف لما ترى بينهما من الاختلاف فى كيفية التعلق بالمفعول وإنما مرادف النصر الإعانة ومرادف التأييد التقوية فتدبر ثم إن ما ذكر من التفسير هو المشهور من معنى الحمد واللائق بالإرادة فى مقام التعظيم وأما ما ذكر فى كتب اللغة من معنى الرضى مطلقا كما فى قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وفى قولهم لهذا الأمر عاقبة حميدة وفى قول الأطباء بحران محمود مما لا يختص بالفاعل فضلا عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة ههنا استقلالا أو استتباعا بحمل الحمد على ما يعم المعنيين إذ ليس فى إثباته له عزوجل فائدة يعتد بها وأما الشكر فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح وعقد القلب على وصف المنعم بنعت الكمال كما قال من قال[أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا فإذن هو أعم منهما من جهة وأخص من أخرى ونقيضه الكفران ولما كان الحمد من بين شعب الشكر أدخل فى إشاعة النعمة والاعتداد بشأنها وأدل على مكانها لما فى عمل القلب من الخفاء وفى أعمال الجوارح من الاحتمال جعل الحمد رأس الشكر وملاكا لأمره فى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده وارتفاعه بالابتداء وخبره الظرف وأصله النصب كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المضمرة التى لا تكاد تستعمل معها نحو شكرا وعجبا كأنه قيل نحمد الله حمدا بنون الحكاية ليوافق ما فى قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لاتحاد الفاعل فى الكل وأما ما قيل من أنه بيان لحمدهم له تعالى كأنه قيل كيف تحمدون فقيل إياك نعبد فمع أنه لا حاجة إليه مما لا صحة له فى نفسه فإن السؤال المقدر لابد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام وينساق إليه الأذهان والأفهام ولا ريب فى أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بيانا لكيفية حمدهم والاعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالموهوم المقدر وبعد اللتيا والتى أن فرض السؤال من جهته عزوجل فأتت نكتت الإلتفات التى أجمع عليها السلف والخلف وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابه تعالى


وبهذا يتضح فساد ما قيل أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنكم معه وكيف توجهكم إليه فأجيب بحصر العبادة والاستعانة فيه فإن تناسى جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله والحق الذى لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هناك شىء آخر كما ستحيط به خبرا وإيثار الرفع على النصب الذى هو الأصل للإيذان بأن ثبوت الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مثبت وأن ذلك أمر دائم مستمر لا حادث متجدد كما تفيده قراءة النصب وهو السر فى كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحية والسلام أحسن من تحيتهم له فى قوله تعالى (قالُوا سَلاماً) قال سلام وتعريفه للجنس ومعناه الإشارة إلى الحقيقة من حيث هى حاضرة فى ذهن السامع والمراد تخصيص حقيقة الحمد به تعالى المستدعى لتخصيص جميع أفرادها به سبحانه على الطريق البرهانى لكن لا بناء على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى فتكون الأفراد الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعة إليه تعالى بل بناء على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها فى المقام الخطابى منزلة العدم كيفا وكما وقد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققها فى ضمن جميع افرادها حسبما يقتضيه المقام وقرىء الحمد لله بكسر الدال اتباعا لها باللام وبضم اللام اتباعا لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمة واحدة مثل المغيرة ومنحدر الجبل. (رَبِّ الْعالَمِينَ) بالجر على أنه صفة لله فإن إضافته حقيقية مفيدة للتعريف على كل حال ضرورة تعين إرادة الاستمرار وقرىء منصوبا على المدح أو بما دل عليه الجملة السابقة كأنه قيل نحمد الله رب العالمين ولا مساغ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب فى الأصل مصدر بمعنى التربية وهى تبليغ الشىء إلى كماله شيئا فشيئا وصف به الفاعل مبالغة كالعدل وقيل صفة مشبهة من ربه يربه مثل نمه ينمه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل بالضم كما هو المشهور سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كرب الدار ورب الدابة ومنه قوله تعالى (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) وقوله تعالى (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) وما فى الصحيحين من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك ولا يقل أحدكم ربى وليقل سيدى ومولاى فقد قيل إن النهى فيه للتنزيه وأما الأرباب فحيث لم يكن إطلاقه على الله سبحانه جاز فى إطلاقه الإطلاق والتقييد كما فى قوله تعالى (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) الآية والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع تعالى من المصنوعات أى فى القدر المشترك بين أجناسها وبين مجموعها فإنه كما يطلق على كل جنس جنس منها فى قولهم عالم الأفلاك وعالم العناصر وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضا كما فى قولنا العالم بجميع أجزائه محدث وقيل هو اسم لأولى العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لما سواهم بطريق الاستتباع وقيل أريد به الناس فقط فإن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما فى العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالم على حياله ولذلك أمر بالنظر فى الأنفس كالنظر فى الآفاق فقيل (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) والأول هو الأحق الأظهر وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع


الأجناس والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها إذ لو أفرد لربما توهم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هى أو استغراق إفراد جنس واحد على الوجه الذى أشير إليه فى تعريف الحمد وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نزل العالم وإن لم ينطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع حتى قيل أنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمع المعرف يستغرق آحاد مفرده وإن لم يصدق عليها كما فى مثل قوله تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أى كل محسن كذلك العالم يشمل أفراد الجنس المسمى به وإن لم ينطلق عليها كأنها آحاد مفرده التقديرى ومن قضية هذا التنزيل تنزيل جمعه منزلة جمع الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كل واحد من آحاد الأقوال يتناول لفظ العالمين كل واحد من آحاد الأجناس التى لا تكاد تحصى روى عن وهب ابن منبه أنه قال لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم والدنيا عالم منها وإنما جمع بالواو والنون مع اختصاص ذلك بصفات العقلاء وما فى حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العلم مع اعتبار تغليب العقلاء على غيرهم واعلم أن عدم انطلاق اسم العالم على كل واحد من تلك الآحاد ليس إلا باعتبار الغلبة والاصطلاح وأما باعتبار الأصل فلا ريب فى صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق حتما فإنه كما يستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته فى الكل فإن كل ما ظهر فى المظاهر مما عز وهان وحضر فى هذه المحاضر كائنا ما كان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد وأما شمول ربوبيته عزوجل للكل فمما لا حاجة إلى بيانه إذ لا شىء مما أحدق به نطاق الإمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو فى حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا فى مطمورة العدم ومهاوى البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس فى كل زمان يمضى وكل آن يمر وينقضى من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط به فلك التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شىء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبى وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التى هى علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهى ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التى لها دخل فى وجوده وهى المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة فى أن يكون لشىء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أى بقائها على العدم مع إمكان وجودها فى نفسها فإبقاء تلك الموانع التى لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشىء من وجوه غير متناهية وبالجملة فآثار تربيته عزوجل الفائضة على كل فرد من أفراد الموجودات فى كل آن من آنات الوجود غير متناهية فسبحانه سبحانه ما أعظم سلطانه لا تلاحظه العيون بأنظارها ولا تطالعه العقول بأفكارها شأنه لا يضاهى وإحسانه لا يتناهى ونحن فى معرفته حائرون وفى إقامة مراسم شكره قاصرون نسألك اللهم الهداية


إلى مناهج معرفتك والتوفيق لأداء حقوق نعمتك لا نحصى ثناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يفيض على الكل بعد الخروج إلى طور الوجود من النعم فوجه تأخيرهما عن وصف الربوبية ظاهر وإن أريد ما يعم الكل فى الأطوار كلها حسبما فى قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فوجه الترتيب أن التربية لا تقتضى المقارنة للرحمة فإيرادهما فى عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضل فيها فاعل بقضية رحمته السابقة من غير وجوب عليه وبأنها واقعة على أحسن ما يكون والاقتصار على نعته تعالى بهما فى التسمية لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين باسمه الجليل والأوفق لمقاصده. (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) صفة رابعة له تعالى وتأخيرها عن الصفات الأول مما لا حاجة إلى بيان وجهه وقرأ أهل الحرمين المحترمين ملك من الملك الذى هو عبارة عن السلطان القاهر والإستيلاء الباهر والغلبة التامة والقدرة على التصرف الكلى فى أمور العامة بالأمر والنهى وهو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين كما فى قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقرىء ملك بالتخفيف وملك بلفظ الماضى ومالك بالنصب على المدح أو الحال وبالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب واليوم فى العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفى الشرع عما بين طلوع الفجر الثانى وغروب الشمس والمراد ههنا مطلق الوقت والدين الجزاء خيرا كان أو شرا ومنه الثانى فى المثل السائر كما تدين تدان والأول فى بيت الحماسة[ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا وأما الأول فى الأول والثانى فى الثانى فليس بجزاء حقيقة وإنما سمى به مشاكلة أو تسمية للشىء باسم مسببه كما سميت إرادة القيام والقراءة باسمهما فى قوله عز اسمه (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ولعله هو السر فى بناء المفاعلة من الأفعال التى تقوم أسبابها بمفعولاتها نحو عاقبت اللص ونظائره فإن قيام السرقة التى هى سبب للعقوبة باللص نزل منزلة قيام المسبب به وهى العقوبة فصار كأنها قامت بالجانبين وصدرت عنهما فبنيت صيغة المفاعلة الدالة على المشاركة بين الإثنين وإضافة اليوم إليه لأدنى ملابسة كإضافة سائر الظروف الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث كيوم الأحزاب وعام الفتح وتخصيصه من بين سائر ما يقع فيه من القيامة والجمع والحساب لكونه أدخل فى الترغيب والترهيب فإن ما ذكر من القيامة وغيرها من مبادىء الجزاء ومقدماته وإضافة مالك إلى اليوم من إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على نهج الإتساع المبنى على إجرائه مجرى المفعول به مع بقاء المعنى على حاله كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار أى مالك أمور العالمين كلها فى يوم الدين وخلو إضافته عن إفادة التعريف المسوغ لوقوعه صفة للمعرفة إنما هو إذا أريد به الحال أو الإستقبال وأما عند إرادة الإستمرار الثبوتى كما هو اللائق بالمقام فلا ريب فى كونها إضافة حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها فى قراءة ملك يوم الدين ويوم الدين وإن لم يكن مستمرا فى جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعه وبقائه أبدا أجرى مجرى المتحقق المستمر ويجوز أن يراد به الماضى بهذا الاعتبار كما يشهد به القراءة على صيغة الماضى وما ذكر من إجراء الظرف مجرى المفعول به إنما هو من حيث المعنى لا من حيث الإعراب حتى يلزم كون الإضافة لفظية ألا ترى أنك تقول فى مالك عبده


أمس أنه مضاف إلى المفعول به على معنى أنه كذلك معنى لا أنه منصوب محلا وتخصيصه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر فيه وانقطاع العلائق المجازية بين الملاك والأملاك حينئذ بالكلية وإجراء هاتيك الصفات الجليلة عليه سبحانه تعليل لما سبق من اختصاص الحمد به تعالى المستلزم لاختصاص استحقاقه به تعالى وتمهيد لما لحق من اقتصار العبادة والإستعانة عليه فإن كل واحدة منها مفصحة عن وجوب ثبوت كل واحد منها له تعالى وامتناع ثبوتها لما سواه أما الأولى والرابعة فظاهر لأنهما متعرضتان صراحة لكونه تعالى ربا مالكا وما سواه مربوبا مملوكا له تعالى وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعى أن يكون الكل منعما عليهم فظهر أن كل واحدة من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوت الأمور المذكورة له تعالى دلت على امتناع ثبوتها لما عداه على الإطلاق وهو المعنى بالإختصاص. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) التفات من الغيبة إلى الخطاب وتلوين للنظم من باب إلى باب جار على نهج البلاغة فى افتنان الكلام ومسلك البراعة حسبما يقتضى المقام لما أن التنقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى استجلاب النفوس واستمالة القلوب يقع من كل واحد من التكلم والخطاب والغيبة إلى كل واحد من الآخرين كما فى قوله عزوجل (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) الآية وقوله تعالى (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) إلى غير ذلك من الإلتفاتات الواردة فى التنزيل لأسرار تقتضيها ومزايا تستدعيها ومما استأثر به هذا المقام الجليل من النكت الرائقة الدالة على أن تخصيص العبادة والإستعانة به تعالى لما أجرى عليه من النعوت الجليلة التى أوجبت له تعالى أكمل تميز وأتم ظهور بحيث تبدل خفاء الغيبة بجلاء الحضور فاستدعى استعمال صيغة الخطاب والإيذان بأن حق التالى بعد ما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب للمعبودية وامتيازه بذاته عما سواه بالكلية واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له عن جميع أفراد العالمين وافتقار الكل إليه فى الذات والوجود ابتداء وبقاء على التفصيل الذى مرت إليه الإشارة أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان وينتقل من عالم الغيبة إلى معالم الشهود ويلاحظ نفسه فى حظائر القدس حاضرا فى محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه ماثل بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والإستعانة فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل من استحقاق الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان ولعل هذا هو السر فى اختصاص السورة الكريمة بوجوب القراءة فى كل ركعة من الصلاة التى هى مناجاة العبد لمولاه ومئنة للتبتل إليه بالكلية و(إيا) ضمير منفصل منصوب وما يلحقه من الكاف والياء والهاء حروف زيدت لتعيين الخطاب والتكلم والغيبة لا محل لها من الإعراب كالتاء فى أنت والكاف فى أرأيتك وما ادعاه الخليل من الإضافة محتجا عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب فمما لا يعول عليه وقيل هى الضمائر وإيا دعامة لها لتصيرها منفصلة وقيل الضمير هو المجموع وقرىء إياك بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء والعبادة أقصى غاية التذلل والخضوع ومنه طريق معبد أى مذلل والعبودية أدنى منها وقيل العبادة فعل ما يرضى به الله والعبودية


الرضى بما فعل الله تعالى والاستعانة طلب المعونة على الوجه الذى مر بيانه وتقديم المفعول فيهما لما ذكر من القصر والتخصيص كما فى قوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) مع ما فيه من التعظيم والاهتمام به قال ابن عباس رضى الله عنهما معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتكرير الضمير المنصوب للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ولإبراز الاستلذاذ بالمناجاة والخطاب وتقديم العبادة لما أنها من مقتضيات مدلول الاسم الجليل وإن ساعده الصفات المجراة عليه أيضا وأما الاستعانة فمن الأحكام المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادة من حقوق الله تعالى والاستعانة من حقوق المستعين ولأن العبادة واجبة حتما والاستعانة تابعة للمستعان فيه فى الوجوب وعدمه وقيل لأن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول هذا على تقدير كون إطلاق الاستعانة على المفعول فيه ليتناول كل مستعان فيه كما قالوا وقد قيل إنه لما أن المسئول هو المعونة فى العبادة والتوفيق لإقامة مراسمها على ما ينبغى وهو اللائق بشأن التنزيل والمناسب لحال الحامد فإن استعانته مسبوقة بملاحظة فعل من أفعاله ليستعينه تعالى فى إيقاعه ومن البين أنه عند استغراقه فى ملاحظة شئونه تعالى واشتغاله بأداء ما يوجبه تلك الملاحظة من الحمد والثناء لا يكاد يخطر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبال الكلى عليه والتوجه التام إليه ولقد فعل ذلك بتخصيص العبادة به تعالى أولا وباستدعاء الهداية إلى ما يوصل إليه آخرا فكيف يتصور أن يشتغل فيما بينهما بما لا يعنيه من أمور دنياه أو بما يعمها وغيرها كأنه قيل وإياك نستعين فى ذلك فإنا غير قادرين على أداء حقوقه من غير إعانة منك فوجه الترتيب حينئذ واضح وفيه من الإشعار بعلو رتبة عبادته تعالى وعزة منالها وبكونها عند العابد أشرف المباغى والمقاصد وبكونها من مواهبه تعالى لا من أعمال نفسه ومن الملائمة لما يعقبه من الدعاء ما لا يخفى وقيل الواو للحال أى إياك نعبد مستعينين بك وإيثار صيغة المتكلم مع الغير فى الفعلين للإيذان بقصور نفسه وعدم لياقته بالوقوف فى مواقف الكبرياء منفردا وعرض العبادة واستدعاء المعونة والهداية مستقلا وأن ذلك إنما يتصور من عصابة هو من جملتهم وجماعة هو من زمرتهم كما هو ديدن الملوك أو للإشعار باشتراك سائر الموحدين له فى الحال العارضة له بناء على تعاضد الأدلة الملجئة إلى ذلك وقرىء نستعين بكسر النون على لغة بنى تميم. (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إفراد لمعظم أفراد المعونة المسئولة بالذكر وتعيين لما هو الأهم أو بيان لها كأنه قيل كيف أعينكم فقيل اهدنا والهداية دلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية ولذلك اختصت بالخير وقوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) وارد على نهج التهكم والأصل تعديته بإلى واللام كما فى قوله تعالى (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) فعومل معاملة اختار فى قوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وعليه قوله تعالى (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وهداية الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تحصر منحصرة فى أجناس مترتبة منها أنفسية كإفاضة القوى الطبيعية والحيوانية التى بها يصدر عن المرء أفاعيله الطبيعية والحيوانية والقوى المدركة والمشاعر الظاهرة والباطنة التى بها يتمكن من إقامة مصالحه المعاشية والمعادية ومنها آفاقية فإما تكوينية معربة عن الحق بلسان الحال وهى نصب الأدلة المودعة فى كل فرد من أفراد العالم حسبما لوح به فيما سلف وإما تنزيلية مفصحة عن تفاصيل الأحكام النظرية والعملية بلسان المقال بإرسال الرسل


وإنزال الكتب المنطوية على فنون الهدايات التى من جملتها الإرشاد إلى مسلك الاستدلال بتلك الأدلة التكوينية الآفافية والأنفسية والتنبيه على مكانها كما أشير إليه مجملا فى قوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وفى قوله عز وعلا (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) ومنها الهداية الخاصة وهى كشف الأسرار على قلب المهدى بالوحى أو الإلهام ولكل مرتبة من هذه المراتب صاحب ينتحيها وطالب يستدعيها والمطلوب إما زيادتها كما فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وإما الثبات عليها كما روى عن على وأبى رضى الله عنهما اهدنا ثبتنا ولفظ الهداية على الوجه الأخير مجاز قطعا وأما على الأول فإن اعتبر مفهوم الزيادة داخلا فى المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضا وإن اعتبر خارجا عنه مدلولا عليه بالقرائن كان حقيقة لأن الهداية الزائدة هداية كما أن العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقرىء أرشدنا والصراط الجادة أصله السين قلبت صادا لمكان الطاء كمصيطر فى مسيطر من سرط الشىء إذا ابتلعه سميت به لأنها تسترط السابلة إذا سلكوها كما سميت لقما لأنها تلتقمهم وقد تشم الصاد صوت الزاى تحريا للقرب من المبدل منه وقد قرىء بهن جميعا وفصحاهن إخلاص الصاد وهى لغة قريش وهى الثابتة فى الإمام وجمعه صرط ككتاب وكتب وهو كالطريق والسبيل فى التذكير والتأنيث والمستقيم المستوى والمراد به طريق الحق وهى الملة الحنيفية السمحة المتوسطة بين الإفراط والتفريط. (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بدل من الأول بدل الكل وهو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة وفائدته التأكيد والتنصيص على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العلم فى الاستقامة والمشهود له بالاستواء يحيث لا يذهب الوهم عند ذكر الطريق المستقيم إلا إليه وإطلاق الإنعام لقصد الشمول فإن نعمة الإسلام عنوان النعم كلها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها وقيل المراد بهم الأنبياء عليهم‌السلام ولعل الأظهر أنهم المذكورون فى قوله عز قائلا (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) بشهادة ما قبله من قوله تعالى (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقيل هم أصحاب موسى وعيسى عليهما‌السلام قبل النسخ والتحريف وقرىء صراط من أنعمت عليهم والإنعام إيصال النعمة وهى فى الأصل الحالة التى يستلذها الإنسان من النعمة وهى اللين ثم أطلقت على ما تستلذه النفس من طيبات الدنيا. ونعم الله تعالى مع استحالة إحصائها ينحصر أصولها فى دنيوى وأخروى والأول قسمان وهبى وكسبى والوهبى أيضا قسمان روحانى كنفخ الروح فيه وإمداده بالعقل وما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة فى أنفسها وجسمانى كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وسلامة الأعضاء والكسبى تخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات البهية وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية وحصول الجاه والمال. والثانى مغفرة ما فرط منه والرضى عنه وتبوئته فى أعلى عليين مع المقربين والمطلوب هو القسم الأخير وما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول اللهم ارزقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتك الواسعة. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) صفة للموصول على أنه عبارة عن إحدى الطوائف المذكورة المشهورة بالإنعام عليهم وباستقامة المسلك ومن ضرورة


هذه الشهرة شهرتهم بالمغايرة لما أضيف إليه كلمة غير من المتصفين بضدى الوصفين المذكورين أعنى مطلق المغضوب عليهم والضالين فاكتسبت بذلك تعرفا مصححا لوقوعها صفة للمعرفة كما فى قولك عليك بالحركة غير السكون وصفوا بذلك تكملة لما قبله وإيذانا بأن السلامة مما ابتلى به أولئك نعمة جليلة فى نفسها أى الذين جمعوا بين النعمة المطلقة التى هى نعمة الإيمان ونعمة السلامة من الغضب والضلال وقيل المراد بالموصول طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم فيكون بمعنى النكرة كذى اللام إذا أريد به الجنس فى ضمن بعض الأفراد لا بعينه وهو المسمى بالمعهود الذهنى وبالمغضوب عليهم والضالين اليهود والنصارى كما ورد فى مسند أحمد والترمذى فيبقى لفظ غير على إبهامه نكرة كمثل موصوفة وأنت خبير بأن جعل الموصول عبارة عما ذكر من طائفة غير معينة مخل ببدلية ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارها كون صراط المؤمنين علما فى الاستقامة مشهودا له بالاستواء على الوجه الذى تحققته فيما سلف ومن البين أن ذلك من حيث إضافته وانتسابه إلى كلهم لا إلى بعض مبهم منهم وبهذا تبين أن لا سبيل إلى جعل غير المغضوب عليهم بدلا من الموصول لما عرفت من أن شأن البدل أن يفيد متبوعه مزيد تأكيد وتقرير وفضل إيضاح وتفسير ولا ريب فى أن قصارى أمر ما نحن فيه أن يكتسب مما أضيف إليه نوع تعرف مصحح لوقوعه صفة للموصول وأما استحقاق أن يكون مقصودا بالنسبة مفيدا لما ذكر من الفوائد فكلا وقرىء بالنصب على الحال والعامل أنعمت أو على المدح أو على الاستثناء إن فسر النعمة بما يعم القبيلين والغصب هيجان النفس لإرادة الانتقام وعند إسناده إلى الله سبحانه يراد به غايته بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه القريب إن أريد به إرادة الانتقام وعلى مسببه البعيد إن أريد به نفس الانتقام ويجوز حمل الكلام على التمثيل بأن يشبه الهيئة المنتزعة من سخطه تعالى للعصاة وإرادة الانتقام منهم لمعاصيهم بما ينتزع من حال الملك إذا غضب على الذين عصوه وأراد أن ينتقم منهم ويعاقبهم وعليهم مرتفع بالمغصوب قائم مقام فاعله والعدول عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرى على منهاج الآداب التنزيلية فى نسبة النعم والخيرات إليه عزوجل دون أضدادها كما فى قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وقوله تعالى (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ولا مزيدة لتأكيد ما أفاده غير من معنى النفى كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب جواز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب والضلال هو العدول عن الصراط السوى وقرىء وغير الضالين وقرىء ولا الضألين بالهمزة على لغة من جد فى الهرب من التقاء الساكنين. (أمين) اسم فعل هو استجب وعن ابن عباس رضى الله عنهما سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى آمين فقال افعل بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وفيه لغتان مدألفه وقصرها قال ويرحم الله عبدا قال آمينا وقال آمين فزاد الله ما بيننا بعدا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقننى جبريل آمين عند فراغى من قراءة فاتحة الكتاب وقال إنه كالختم على الكتاب وليست من القرآن وفاقا ولكن يسن ختم السورة الكريمة بها والمشهور عن أبى حنيفة رحمه‌الله أن المصلى يأتى بها مخافتة وعنه أنه لا يأتى بها الإمام لأنه الداعى وعن الحسن رحمه‌الله مثله وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل وأنس بن مالك عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم


(الم)(١)

____________________________________

وعند الشافعى رحمه‌الله يجهر بها لما روى وائل بن حجر أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ (وَلَا الضَّالِّينَ) قال آمين ورفع بها صوته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأبى بن كعب ألا أخبرك بسورة لم ينزل فى التوراة والإنجيل والقرآن مثلها قلت بلى يا رسول الله قال فاتحة الكتاب إنها السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته. وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبى من صبيانهم فى الكتاب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة.

(سورة البقرة مدنية وهى مائتان وسبع وثمانون آية)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الم) الألفاظ التى يعبر بها عن حروف المعجم التى من جملتها المقطعات المرقومة فى فواتح السور الكريمة أسماء لها لاندراجها تحت حد الاسم ويشهد به ما يعتريها من التعريف والتنكير والجمع والتصغير وغير ذلك من خصائص الاسم وقد نص على ذلك أساطين أئمة العربية وما وقع فى عبارات المتقدمين من التصريح بحرفيتها محمول على المسامحة وأما ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (الم) حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف وفى رواية التزمذى والدارمى لا أقول (الم) حرف و (ذلِكَ الْكِتابُ) حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف والذال حرف والكاف حرف فلا تعلق له بما نحن فيه قطعا فإن إطلاق الحرف على ما يقابل الاسم والفعل عرف جديد اخترعه أئمة الصناعة وإنما الحرف عند الأوائل ما يتركب منه الكلم من الحروف المبسوطة وربما يطلق على الكلمة أيضا تجوزا فأريد بالحديث الشريف دفع توهم التجوز وزيادة تعيين إرادة المعنى الحقيقى ليتبين بذلك أن الحسنة الموعودة ليست بعدد الكلمات القرآنية بل بعدد حروفها المكتوبة فى المصاحف كما يلوح به ذكر كتاب الله دون كلام الله أو القرآن وليس هذا من تسمية الشىء باسم مدلوله فى شىء كما قبل كيف لا والمحكوم عليه بالحرفية واستتباع الحسنة إنما هى المسميات البسيطة الواقعة فى كتاب الله عزوجل سواء عبر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما فى قولك السين مهملة والشين معجمة مثلثة وغير ذلك مما لا يصدق المحمول إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلت الألف مؤلف من ثلاثة أحرف فكما أن الحسنات فى قراءة قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) بمقابلة حروفه البسيطة وموافقة لعددها كذلك فى قراءة قوله تعالى (الم) بمقابلة حروفه الثلاثة المكتوبة وموافقة لعددها لا بمقابلة أسمائها الملفوظة وإلالفات الموافقة فى العدد إذ الحكم بأن كلا منها حرف واحد مستلزم للحكم بأنه مستتبع لحسنة واحدة فالعبرة فى ذلك بالمعبر عنه دون المعبر به ولعل السر فيه أن استتباع الحسنة منوط بإفادة المعنى المراد بالكلمات القرآنية فكما أن سائر الكلمات الشريفة لا تفيد معانيها إلا بتلفظ حروفها بأنفسها كذلك الفواتح المكتوبة لا تفيد المعانى المقصودة بها إلا بالتعبير عنها بأسمائها فجعل ذلك تلفظا بالمسميات كالقسم


الأول من غير فرق بينها ألا يرى إلى ما فى الرواية الأخيرة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذال حرف والكاف حرف كيف عبر عن طرفى ذلك بإسميهما مع كونهما ملفوظين بأنفسهما ولقد روعيت فى هذه التسمية نكتة رائعة حيث جعل كل مسمى لكونه من قبيل الألفاظ صدرا لاسمه ليكون هو المفهوم منه أثر ذى أثير خلا أن الألف حيث تعذر الابتداء بها استعيرت مكانها الهمزة وهى معربة إذ لا مناسبة بينها وبين مبنى الأصل لكنها ما لم تلها العوامل ساكنة الأعجاز على الوقف كأسماء الأعداد وغيرها حين خلت عن العوامل ولذلك قيل صاد وقاف مجموعا فيهما بين الساكنين ولم يعامل معاملة أين وكيف وهؤلاء وإن وليها عامل مسها الإعراب وقصر ما آخره ألف عند التهجى لابتغاء الخفة لا لأن وزانه وزان لا تقصر تارة فتكون حرفا وتمد أخرى فيكون اسما لها كما فى قول حسان رضى الله عنه [ما قال لا قط إلا فى تشهده لو لا التشهد لم تسمع له لاء] هذا وقد تكلموا فى شأن هذه الفواتح الكريمة وما أريد بها فقيل إنها من العلوم المستورة والأسرار المحجوبة روى عن الصديق رضى الله عنه أنه قال فى كل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور وعن على رضى الله عنه أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال عجزت العلماء عن إدراكها وسئل الشعبى عنها فقال سر الله عزوجل فلا تطلبوه وقيل إنها أسماء الله تعالى وقيل كل حرف منها إشارة إلى اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته تعالى وقيل إنها صفات الأفعال الألف آلاؤه واللام لطفه والميم مجده وملكه قاله محمد بن كعب القرظى وقيل إنها من قبيل الحساب وقيل الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أى أنزل الله الكتاب بواسطة جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام وقيل هى أقسام من الله تعالى بهذه الحروف المعجمة لشرفها من حيث أنها أصول اللغات ومبادىء كتبه المنزلة ومبانى أسمائه الكريمة وقيل إشارة إلى انتهاء كلام وابتداء كلام آخر وقيل وقيل ولكن الذى عليه التعويل إما كونها أسماء للسور المصدرة بها وعليه إجماع الأكثر وإليه ذهب الخليل وسيبويه قالوا سميت بها إيذانا بأنها كلمات عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ فيكون فيه إيماء إلى الإعجاز والتحدى على سبيل الإيقاظ فلو لا أنه وحى من الله عزوجل لما عجزوا عن معارضته ويقرب منه ما قاله الكلبى والسدى وقتادة من أنها أسماء للقرآن والتسمية بثلاثة أسماء فصاعدا إنما تستنكر فى لغة العرب إذا ركبت وجعلت اسما واحدا كما فى حضر موت فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها والمسمى هو المجموع لا الفاتحة فقط حتى يلزم اتحاد الاسم والمسمى غاية الأمر دخول الاسم فى المسمى ولا محذور فيه كما لا محذور فى عكسه حسبما تحققته آنفا وإنما كتبت فى المصاحف صور المسميات دون صور الأسماء لأنه أدل على كيفية التلفظ بها وهى أن يكون على نهج التهجى دون التركيب ولأن فيه سلامة من التطويل لاسيما فى الفواتح الخماسية على أن خط المصحف مما لا يناقش فيه بمخالفة القياس وإما كونها مسرودة على نمط التعديد وإليه جنح أهل التحقيق قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظا بمن تحدى بالقرآن وتنبيها لهم على أنه منتظم من عين ما ينظمون منه كلامهم فلو لا أنه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلاق القوى والقدر لما تضاءلت قوتهم ولا تساقطت قدرتهم وهم


فرسان حلبة الحوار وأمراء الكلام فى نادى الفخار دون الإتيان بما يدانيه فضلا عن المعارضة بما يساويه مع تظاهرهم فى المضادة والمضاره وتهالكهم على المعازة والمعاره أو ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما فى الباقى من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف فى تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام من الأعراب والأعجام لكن التفلظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط وأما ممن لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق لا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبئ عن سر سرى مبنى على نهج عبقرى بحيث يحار فى فهمه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول كيف لا وقد وردت تلك الفواتح فى تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم مشتملة على نصفها تقريبا بحيث ينطوى على انصاف أصنافها تحقيقا أو تقريبا كما يتضح عند الفحص والتنقير حسبما فصله بعض أفاضل ائمة التفسير فسبحان من دقت حكمته من أن يطالعها الأنظار وجلت قدرته عن أن ينالها أيدى الأفكار وإيراد بعضها فرادى وبعضها ثنائية إلى الخماسية جرى على عادة الافتتان مع مراعاة أبنية الكلم وتفريقها على السور دون إيراد كلها مرة لذلك ولما فى التكرير والإعارة من زيادة إفادة وتخصيص كل منها بسورتها مما لا سبيل إلى المطالبة بوجهه وعد بعضها آية دون بعض مبنى على التوقيف البحت أما الم فآية حيثما وقعت وقيل فى آل عمران ليست بآية والمص آية والمر لم تعد آية والر ليست بآية فى شىء من سورها الخمس وطسم آية فى سورتيها وطه ويس آيتان وطس ليست بآية وحم آية فى سورها كلها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وص وق ون لم تعد واحدة منها آية هذا على رأى الكوفيين وقد قيل إن جميع الفواتح آيات عندهم فى السور كلها بلا فرق بينها وأما من عداهم فلم يعدوا شيئا منها آية ثم إنها على تقدير كونها مسرودة على نمط التعديد لا تشم رائحة الإعراب ويوقف عليها وقف التمام وعلى تقدير كونها أسماء للسور أو للقرآن كان لها حظ منه إما الرفع على الإبتداء أو على الخبرية وإما النصب بفعل مضمر كاذكر أو بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن وأما الجر بتقدير حرفه حسبما يقتضيه المقام ويستدعيه النظام ولا وقف فيما عدا الرفع على الخبرية والتلفظ بالكل على وجه الحكاية ساكنة الأعجاز إلا أن ما كانت منها مفردة مثل ص وق ون يتأتى فيها الإعراب اللفظى أيضا وقد قرئت بالنصب على إضمار فعل أى اذكر أو اقرأ صاد وقاف ونون وإنما لم تنون لامتناع الصرف وكذا ما كانت منها موازنة لمفرد نحو حم ويس وطس الموازنة لقابيل وهابيل حيث أجاز سيبويه فيها مثل ذلك قال باب أسماء السور من كتابه وقد قرأ بعضهم ياسين والقرآن وقاف والقرآن فكأنه جعله اسما أعجمى ثم قال اذكر ياسين انتهى وحكى السيرافى أيضا عن بعضهم قراءة ياسين ويجوز أن يكون ذلك فى الكل تحريكا لالتقاء الساكنين ولا مساغ للنصب بإضمار فعل القسم لأن ما بعدها من القرآن والقلم محلوف بهما وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد قبل انقضاء الأول وهو السر فى جعل ما عدا الواو الأولى فى قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) عاطفة ولا مجال للعطف ههنا للمخالفة بين الأول والثانى فى الإعراب نعم يجوز ذلك بجعل الأول مجرورا


(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٢)

____________________________________

بإضمار الباء القسمية مفتوحا لكونه غير منصرف وقرىء ص وق بالكسر على التحريك لا لتقاء الساكنين ويجوز فى طاسين ميم أن تفتح نونها وتجعل من قبيل دارا يجرد ذكره سيبويه فى كتابه وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكاية وسيجىء تفاصيل سائر أحكام كل منها مشروحة فى مواقعها بإذن الله عز سلطانه أما هذه الفاتحة الشريفة فإن جعلت اسما للسورة أو القرآن فمحلها الرفع إما على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هذا الم أى مسمى به وإنما صحت الإشارة إلى القرآن بعضا أو كلا مع عدم سبق ذكره لأنه باعتبار كونه بصدد الذكر صار فى حكم الحاضر المشاهد كما يقال هذا ما اشترى فلان وإما على أنه مبتدأ أى المسمى به والأول هو الأظهر لأن ما يجعل عنوان الموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه عند المخاطب وإذ لا علم بالتسمية قبل فحقها الإخبار بها وادعاء شهرتها يأ باد التردد فى أن المسمى هى السورة أو كل القرآن. (ذلِكَ) ذا اسم إشارة واللام عماد جىء به للدلالة على بعد المشار إليه والكاف للخطاب والمشار إليه هو المسمى فإنه منزل منزلة المشاهد بالحس البصرى وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وكونه فى الغاية القاصية من الفضل والشرف أثر تنويهه بذكر اسمه وما قيل من أنه باعتبار التقصى أو باعتبار الوصول من المرسل إلى المرسل إليه فى حكم المتباعد وإن كان مصححا لا يراده لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وضع للإشارة إلى القريب وتذكيره على تقدير كون المسمى هى السورة لأن المشار إليه هو المسمى بالاسم المذكور من حيث هو مسمى به لا من حيث هو مسمى بالسورة ولئن ادعى اعتبار الحيثية الثانية فى الأولى بناء على أن التسمية لتمييز السور بعضها من بعض فذلك لتذكير ما بعده وهو على الوجه الأول مبتدأ على حدة وعلى الوجه الثانى مبتدأ ثان وقوله عز وعلا. (الْكِتابُ) إما خبر له أو صفة أما إذا كان خبرا له فالجملة على الوجه الأول مستأنفة مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من نباهة شأن المسمى لا محل لها من الإعراب وعلى الوجه الثانى فى محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ الأول واسم الإشارة مغن عن الضمير الرابط والكتاب إما مصدر سمى به المفعول مبالغة كالخلق والتصوير للمخلوق والمصور وإما فعال بنى للمفعول كاللباس من الكتب الذى هو ضم الحروف بعضها إلى بعض وأصله الجمع والضم فى الأمور البادية للحس البصرى ومنه الكتيبة للعسكر كما أن أصل القراءة الجمع والضم فى الأشياء الخافية عليه وإطلاق الكتاب على المنظوم عبارة لما أن مآله الكتابة والمراد به على تقدير كون المسمى هى السورة جميع القرآن الكريم وإن لم يتم نزوله عند نزول السورة إما باعتبار تحققه فى علم الله عزوجل أو باعتبار ثبوته فى اللوح أو باعتبار نزوله جملة إلى السماء الدنيا حسبما ذكر فى فاتحة الكتاب واللام للعهد والمعنى أن هذه السورة هو الكتاب أى العمدة القصوى منه كأنه فى إحراز الفضل كل الكتاب المعهود الغنى عن الوصف بالكمال لاشتهاره به فيما بين الكتب على طريقة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج عرفة وعلى تقدير كون المسمى كل القرآن فالمراد بالكتاب الجنس واللام للحقيقة والمعنى أن ذلك هو الكتاب


الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد فى حيازة كمالات الجنس كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه كما يقال هو الرجل أى الكامل فى الرجولية الجامع لما يكون فى الرجال من مراضى الخصال وعليه قول من قال هم القوم كل القوم يا أم خالد فالمدح كما ترى من جهة حصر كمال الجنس فى فرد من أفراده وفى الصورة الأولى من جهة حصر كمال الكل فى الجزء ولا مساغ هناك لحمل الكتاب على الجنس لما أن فرده المعهود هو مجموع القرآن المقابل لسائر أفراده من الكتب السماوية لا بعضه الذى ينطلق عليه اسم الكتاب باعتبار كونه جزأ لهذا الفرد لا باعتبار كونه جزئيا للجنس على حياله ولأن حصر الكمال فى السورة مشعر بنقصان سائر السور وإن لم يكن الحصر بالنسبة إليها لتحقق المغايرة بينهما هذا على تقدير كون الكتاب خبرا لذلك وأما إذا كان صفة له فذلك الكتاب على تقدير كون الم خبر مبتدأ محذوف إما خبر ثان أو بدل من الخبر الأول أو مبتدأ مستقل خبره ما بعده وعلى تقدير كونه مبتدأ إما خبر له أو مبتدأ ثان خبره ما بعده والجملة خبر للمبتدأ الأول والمشار إليه على كلا التقديرين هو المسمى سواء كان هى السورة أو القرآن ومعنى البعد ما ذكر من الإشعار بعلو شأنه والمعنى ذلك الكتاب العجيب الشأن البالغ أقصى مراتب الكمال وقيل المشار إليه هو الكتاب الموعود فمعنى البعد حينئذ ظاهر خلا أنه إن كان المسمى هى السورة ينبغى أن يراد بالوعد ما فى قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) كما قيل وإن كان هو القرآن فهو ما فى التوراة والإنجيل هذا على تقدير كون الم اسما للسورة أو القرآن وأما على تقدير كونها مسرودة على نمط التعديد فذلك مبتدأ والكتاب إما خبره أو صفته والخبر ما بعده على نحو ما سلف أو يقدر مبتدأ أى المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرىء الم تنزيل الكتاب وقوله تعالى. (لا رَيْبَ فِيهِ) إما فى محل الرفع على أنه خبر لذلك الكتاب على الصور الثلاث المذكورة أو على أنه خبر ثان لالم أو لذلك على تقدير كون الكتاب خبره أو للمبتدأ المقدر آخرا على رأى من يجوز كون الخبر الثانى جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) وإما فى محل النصب على الحالية من ذلك أو من الكتاب والعامل معنى الإشارة وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مؤكدة لما قبلها وكلمة لا نافية للجنس مفيدة للاستغراق عاملة عمل إن بحملها عليها لكونها نقيضا لها ولازمة للاسم لزومها واسمها مبنى على الفتح لكونه مفردا نكرة لا مضافا ولا شبيها به وأما ما ذكره الزجاج من أنه معرب وإنما حذف التنوين للتخفيف فمما لا تعويل عليه وسبب بنائه تضمنه لمعنى من الاستغراقية لا أنه مركب معها تركيب خمسة عشر كما توهم وخبرها محذوف أى لا ريب موجود أو نحوه كما فى قوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) والظرف صفة لاسمها ومعناه نفى الكون المطلق وسلبه عن الريب المفروض فى الكتاب أو الخبر هو الظرف ومعناه سلب الكون فيه عن الريب المطلق وقد جعل الخبر المحذوف ظرفا وجعل المذكور خبرا لما بعده وقرىء لا ريب فيه على أن لا بمعنى ليس والفرق بينه وبين الأول أن ذلك موجب للاستغراق وهذا مجوز له والريب فى الأصل مصدر رابنى إذا حصل فيك الريبة وحقيقتها قلق النفس واضطرابها ثم استعمل فى معنى الشك مطلقا أو مع تهمة لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة وفى


الحديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ومعنى نفيه عن الكتاب أنه فى علو الشأن وسطوع البرهان بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب فى حقيته وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا ألا يرى كيف جوز ذلك فى قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) الخ فإنه فى قوة أن يقال وإن كان لكم ريب فيما نزلنا أو إن ارتبتم فيما نزلنا الخ إلا أنه خولف فى الأسلوب حيث فرض كونهم فى الريب لا كون الريب فيه لزيادة تنزيه ساحة التنزيل عنه مع نوع إشعار بأن ذلك من جهتهم لا من جهته العالية ولم يقصد ههنا ذلك الإشعار كما لم يقصد الإشعار بثبوت الريب فى سائر الكتب ليقتضى المقام تقديم الظرف كما فى قوله تعالى (لا فِيها غَوْلٌ). (هُدىً) مصدر من هداه كالسرى والبكى وهو الدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية أى ما من شأنه ذلك وقيل هى الدلالة الموصلة إليها بدليل وقوع الضلالة فى مقابلته فى قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) وقوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولا شك فى أن عدم الوصول معتبر فى مفهوم الضلال فيعتبر الوصول فى مفهوم مقابله ومن ضرورة اعتباره فيه اعتباره فى مفهوم الهدى المتعدى إذ لا فرق بينهما إلا من حيث التأثير والتأثر ومحصله أن الهدى المتعدى هو التوجيه الموصل لأن اللازم هو التوجه الموصل بدليل أن مقابله الذى هو الضلال توجه غير موصل قطعا وهذا كما ترى مبنى على أمرين اعتبار الوصول وجوبا فى مفهوم اللازم واعتبار وجود اللازم وجوبا فى مفهوم المتعدى وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت أما الأول فلان مدار التقابل بين الهدى والضلال ليس هو الوصول وعدمه على الإطلاق بل هما معتبران فى مفهوميهما على وجه مخصوص به ليتحقق التقابل بينهما وتوضيحه أن الهدى لا بدفيه من اعتبار توجه عن علم إلى ما من شأنه الإيصال إلى البغية كما أن الضلال لابد فيه من اعتبار الجور عن القصد إلى ما ليس من شأنه الإيصال قطعا وهذه المرتبة من الاعتبار مسلمة بين الفريقين ومحققة للتقابل بينهما وإنما النزاع فى أن إمكان الوصول إلى البغية هل هو كاف فى تحصل مفهوم الهدى أو لا بد فيه من خروج الوصول من القوة إلى الفعل كما أن عدم الوصول بالفعل معتبر فى مفهوم الضلال قطعا إذا تقرر هذا فنقول إن أريد باعتبار الوصول بالفعل فى مفهوم الهدى اعتباره مقارنا له فى الوجود زمانا حسب اعتبار عدمه فى مفهوم مقابله فذلك بين البطلان لأن الوصول غاية للتوجه المذكور فينتهى به قطعا لاستحالة التوجه إلى تحصيل الحاصل وما يبقى بعد ذلك فهو إما توجه إلى الثبات عليه وإما توجه إلى زيادته ولأن التوجه إلى المقصد تدريجى والوصول إليه دفعى فيستحيل اجتماعهما فى الوجود ضرورة وأما عدم الوصول فحيث كان أمرا مستمرا مثل ما يقتضيه من الضلال وجب مقارنته له فى جميع أزمنة وجوده إذ لو فارقه فى آن من آنات تلك الأزمنة لقارنه فى ذلك الآن مقابله الذى هو الوصول فما فرضناه ضلالا لا يكون ضلالا وإن أريد اعتباره من حيث أنه غاية له واجبة الترتب عليه لزم أن يكون التوجه المقارن لغاية الجد فى السلوك إلى ما من شأنه الوصول عند تخلفه عنه لمانع خارجى كاخترام المنية مثلا من غير تقصير ولا جور من قبل المتوجه ولا خلل من جهة المسلك ضلالا إذ لا واسطة بينهما مع أنه لا جور فيه عن القصد أصلا فبطل اعتبار وجوب الوصول فى مفهوم اللازم قطعا


وتبين منه عدم اعتباره فى مفهوم المتعدى حتما وأما اعتبار وجود اللازم فيه وجوبا وهو الأمر الثانى فبيانه مبنى على تمهيد أصل وهو أن فعل الفاعل حقيقة هو الذى يصدر عنه ويتم من قبله لكن لما لم يكن له فى تحققه فى نفسه بد من تعلقه بمفعوله اعتبر ذلك فى مدلول اسمه قطعا ثم لما كان له باعتبار كيفية صدوره عن فاعله وكيفية تعلقه بمفعوله وغير ذلك آثار شتى مترتبة عليه متمايزة فى أنفسها مستقلة بأحكام مقتضية لإفرادها بأسماء خاصة وعرض له بالقياس إلى كل أثر من تلك الآثار إضافة خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له بالقياس إلى سائرها وكانت تلك الآثار تابعة له فى التحقق غير منفكة عنه أصلا إذ لا مؤثرلها سوى فاعله عدت من متمماته واعتبرت الإضافة العارضة له بحسبها داخلة فى مدلوله كالاعتماد المتعلق بالجسم مثلا وضع له باعتبار الإضافة العارضة له من انكسار ذلك الجسم الذى هو أثر خاص لذلك الاعتماد اسم الكسر وباعتبار الإضافة العارضة له من انقطاعه الذى هو أثر آخر له اسم القطع إلى غير ذلك من الإضافات العارضة له بالقياس إلى آثاره اللازمة له وهذا أمر مطرد فى آثاره الطبيعية وأما الآثار التى له مدخل فى وجودها فى الجملة من غير إيجاب لها تترتب عليه تارة وتفارقه أخرى بحسب وجود أسبابها الموجبة لها وعدمها كالآثار الاختيارية الصادرة عن مؤثراتها بواسطة كونه داعيا إليها فحيث كانت تلك الآثار مستقلة فى أنفسها مستندة إلى مؤثراتها غير لازمة له لزوم الآثار الطبيعية التابعة له لم تعد من متمماته ولم تعتبر الإضافة العارضة له بحسبها داخلة فى مدلوله كالإضافة العارضة للأمر بحسب امتثال المأمور والإضافة العارضة للدعوة بحسب إجابة المدعو فإن الامتثال والإجابة وإن عدا من آثار الأمر والدعوة باعتبار ترتبهما عليهما غالبا لكنهما حيث كانا فعلين اختياريين للمأمور والمدعو مستقلين فى أنفسهما غير لازمين للأمر والدعوة لم يعدا من متمماتهما ولم يعتبر الإضافة العارضة لهما بحسبهما داخلة فى مدلول اسم الأمر والدعوة بل جعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلق بالمأمور والمدعو سواء وجد الامتثال والإجابة أو لا إذا تمهد هذا فنقول كما أن الامتثال والإجابة فعلان مستقلان فى أنفسهما صادران عن المدعو والمأمور باختيارهما غير لازمين للأمر والدعوة لزوم الآثار الطبيعية التابعة للأفعال الموجبة لها وإن كانا مترتبين عليهما فى الجملة كذلك هدى المهدى أى توجهه إلى ما ذكر من المسلك فعل مستقل له صادر عنه باختياره غير لازم للهداية أعنى التوجيه إليه لزوم ما ذكر من الآثار الطبيعية وإن كان مترتبا عليها فى الجملة فلما لم يعدا من متممات الأمر والدعوة ولم يعتبر الإضافة العارضة لهما بحسبهما داخلة فى مدلولهما علم أنه لم يعد الهدى اللازم من متممات الهداية ولم يعتبر الإضافة العارضة لها بحسبه داخلة فى مدلولها إن قيل ليس الهدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما فإن تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعو لا يقتضى إلا اتصافهما بكونهما مأمورا ومدعوا وليس من ضرورته اتصافهما بالامتثال والإجابة إذ لا تلازم بينهما وبين الأولين أصلا بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية فإن تعلقها بالمهدى يقتضى اتصافه به لأن تعلق الفعل المتعدى المبنى للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذ من المبنى للمفعول قطعا وهو مستلزم لاتصافه بمصدر الفعل اللازم وهل هو الاعتبار وجود اللازم فى مدلول المتعدى حتما قلنا كما أن تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعو لا يستدعى إلا اتصافهما بما ذكر


من غير تعرض للامتثال والإجابة إيجابا وسلبا كذلك تعلق الهداية التى هى عبارة عن الدلالة المذكورة بالمهدى لا يستدعى إلا اتصافه بالمدلولية التى هى عبارة عن المصدر المأخوذ من المبنى للمفعول من غير تعرض لقبول تلك الدلالة كما هو معنى الهدى اللازم ولا لعدم قبوله بل الهداية عين الدعوة إلى طريق الحق والاهتداء عين الإجابة فكيف يؤخذ فى مدلولها واستلزام الاتصاف بمصدر الفعل المتعدى المبنى للمفعول للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقا إنما هو فى الأفعال الطبيعية كالمكسورية والانكسار والمقطوعية والانقطاع وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك كما تحققته فيما سلف إن قيل التعلم من قبيل الأفعال الاختيارية مع أنه معتبر فى مدلول التعليم قطعا فليكن الهدى مع الهداية كذلك قلنا ليس ذلك لكونه فعلا اختياريا على الإطلاق ولا لكون التعليم عبارة عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل فإن المعلم ليس بمستقل فى ذلك ففى إسناده إليه ضرب تجوز بل لأن كلا منهما مفتقر فى تحققه وتحصله إلى الآخر فإن التعليم عبارة عن إلقاء المبادىء العلمية على المتعلم وسوقها إلى ذهنه شيئا فشيئا على ترتيب يقتضيه الحال بحيث لا يساق إليه بعض منها إلا بعد تلقيه لبعض آخر فكل منهما متمم للآخر معتبر فى مدلوله وأما الهدى الذى هو عبارة عن التوجه المذكور ففعل اختيارى يستقل به فاعله لا دخل للهداية فيه سوى كونها داعية إلى إيجاده باختياره فلم يكن من متمماتها ولا معتبرا فى مدلولها إن قيل التعليم نوع من أنواع الهداية والتعلم نوع من أنواع الاهتداء فيكون اعتباره فى مدلول التعليم اعتبارا للهدى فى مدلول الهداية قلنا إطلاق الهداية على التعليم إنما هو عند وضوح المسلك واستبداد المتعلم بسلوكه من غير دخل للتعليم فيه سوى كونه داعيا إليه وقد عرفت جلية الأمر على ذلك التقدير إن قيل أليس تخلف الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم فحيث لم يكن ذلك تعليما فى الحقيقة فليكن الهداية أيضا كذلك وليحمل تسمية ما لا يستتبع الهدى بها على التجوز قلنا شتان بين التخلفين فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه كما أن تخلف الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك وأما تخلف الهدى عن الهداية فليس لشائبة قصور من جهتها بل إنما هو لفقد سببه الموجب له من جهة المهدى بعد تكامل ما يتم من قبل الهادى وبهذا التحرير اتضح طريق الهداية وتبين أنها عبارة عن مطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال إلى البغية بتعريف معالمه وتبيين مسالكه من غير أن يشترط فى مدلولها الوصول ولا القبول وأن الدلالة المقارنة لهما أو لأحدهما والمفارقة عنهما كل ذلك مع قطع النظر عن قيد المقارنة وعدمها افراد حقيقية لها وأن ما فى قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ) ونحو ذلك مما اعتبر فيه الوصول من قبيل المجاز وانكشف أن الدلالات التكوينية المنصوبة فى الأنفس والآفاق والبيانات التشريعية الواردة فى الكتب السماوية على الإطلاق بالنسبة إلى كافة البرية برها وفاجرها هدايات حقيقية فائضة من عند الله سبحانه والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لو لا أن هدانا الله (لِلْمُتَّقِينَ) أى المتصفين بالتقوى حالا أو مآ لا وتخصيص الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآناره وإن كان ذلك شاملا لكل ناظر من مؤمن وكافر وبذلك الاعتبار قال الله هدى للناس والمتقى اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية وهى فرط الصيانة والتقوى فى عرف الشرع عبارة عن كمال التوقى عما يضره فى


الآخرة قال عليه‌السلام جماع التقوى فى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية وعن عمر بن عبد العزيز أنه ترك ما حرم الله وأداء ما فرض الله وعن شهربن حوشب المتقى من يترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه بأس وعن أبى يزيد أن التقوى هو التورع عن كل ما فيه شبهة وعن محمد بن حنيف أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالى وعن سهل المتقى من تبرأ عن حوله وقدرته وقيل التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك وعن ميمون بن مهران لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر وعن أبى تراب بين يدى التقوى خمس عقبات لا يناله من لا يجاوزهن إيثار الشدة على النعمة وإيثار الضعف على القوة وإيثار الذل على العزة وإيثار الجهد على الزاحة وإيثار الموت على الحياة وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون بحيث لو جعل ما فى قلبه فى طبق فطيف به فى السوق لم يستحى ممن ينظر إليه وقيل التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق والتحقيق أن للتقوى ثلاث مراتب الأولى التوقى عن العذاب المخلد بالتبرؤ عن الكفر وعليه قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى فى الشرع وهو المعنى بقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) والثالثة أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق عزوجل ويتبتل إليه بكليته وهو التقوى الحقيقى المأمور به فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ولهذه المرتبة عرض عريض يتفاوت فيه طبقات أصحابها حسب تفاوت درجات استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة الإلهية المبنية على الحكم الأبية أقصاها ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث جمعوا بذلك بين رياستى النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج إلى معالم الأرواح ولم يصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق فى شئون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلها فالمراد بهم المشارفون للتقوى مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل إيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عنى بالمتقين أصحاب الطبقة الأولى تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقبة وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإنه إن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز ولفظ الهداية حقيقة فى جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه أو إرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومها داخلا فى المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة على كل حال واللام متعلقة بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أو حالا منه ومحل هدى الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هو هدى أو خبر مع لا ريب فيه لذلك الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف المقدم كما أشير إليه أو النصب على الحالية من ذلك أو من الكتاب والعامل معنى الإشارة أو من الضمير فى فيه والعامل ما فى الجار


(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣)

____________________________________

والمجرور من معنى الفعل المنفى كأنه قيل لم يحصل فيه الريب حال كونه هاديا على أنه قيد للنفى لا للمنفى وحاصله انتفى الريب فيه حال كونه هاديا وتنكيره للتفخيم وحمله على الكتاب إما للمبالغة كأنه نفس الهدى أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل هذا والذى يستدعيه جزالة التنزيل فى شأن ترتيب هذه الجمل أن تكون متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يتخلل بينها عاطف فالم جملة برأسها على أنها خبر لمبتدأ مضمر أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها دالة على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يؤلفون منه كلامهم وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدى لما دلت عليه من كونه منعوتا بالكمال الفائق ثم سجل على غاية فضله بنفى الريب فيه إذ لا فضل أعلى مما للحق واليقين وهدى للمتقين مع ما يقدر له من المبتدأ جملة مؤكدة لكونه حقا لا يحوم حوله شائبة شك ما ودالة على تكميله بعد كماله أو يستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول فإنه لما نبه أو لا على إعجاز المتحدى به من حيث أنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته بالمرة ظهر أنه الكتاب البالغ أقصى مراتب الكمال وذلك مستلزم لكونه فى غاية النزاهة عن مظنة الريب إذ لا أنقص مما يعتريه الشك وما كان كذلك كان لا محالة هدى للمتقين وفى كل منها من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة شأنه حسبما تحققته (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إما موصول بالمتقين ومحله الجر على أنه صفة مقيدة له إن فسر التقوى بترك المعاصى فقط مترتبة عليه ترتب التحلية على التخلية وموضحة إن فسر بما هو المتعارف شرعا والمتبادر عرفا من فعل الطاعات وترك السيئات معا لأنها حينئذ تكون تفصيلا لما انطوى عليه اسم الموصوف إجمالا وذلك لأنها مشتملة على ما هو عماد الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر القرب الداعية إلى التجنب عن المعاصى غالبا ألا يرى إلى قوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وقوله عليه‌السلام الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام أو مادحة للموصوفين بالتقوى المفسر بما مر من فعل الطاعات وترك السيئات وتخصيص ما ذكر من الخصال الثلاث بالذكر لإظهار شرفها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسم التقوى من الحسنات أو النصب على المدح بتقدير أعنى أو الرفع عليه بتقديرهم وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء خبره الجملة المصدرة باسم الإشارة كما سيأتى بيانه فالوقف على المتقين حينئذ وقف تام لأنه وقف على مستقل ما بعده أيضا مستقل وأما على الوجوه الأول فحسن لاستقلال الموقوف عليه غير تام لتعلق ما بعده به وتبعيته له أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر وأما على تقدير النصب أو الرفع على المدح فلما تقرر من أن المنصوب والمرفوع مدحا وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورة حيث لم يتبعاه فى الإعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة ألا يرى كيف التزموا حذف الفعل والمبتدأ فى النصب والرفع روما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبيها على شدة الاتصال بينهما قال أبو على إذا ذكرت صفات للمدح وخولف فى بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان أى للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجد فى الإصغاء فإن تغيير الكلام المسوق لمعنى


من المعانى وصرفه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من المخاطب إن قيل لا ريب فى أن حال الموصول عند كونه خبر المبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبره أولئك على هدى فى أنه ينسبك به جملة اسمية مفيدة لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة ضرورة أن كلا من الضمير المحذوف والموصول عبارة عن المتقين وإن كلا من اتصافهم بالإيمان وفروعه وإحرازهم للهدى والفلاح من النعوت الجليلة فما السر فى أنه جعل ذلك فى الصورة الأولى من توابع المتقين وعد الوقف غير تام وفى الثانية مقتطعا عنه وعد الوقف تاما قلنا السر فى ذلك أن المبتدأ فى الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين لكن الخبر فى الأولى لما كان تفصيلا لما تضمنه المبتدأ إجمالا حسبما تحققته معلوم الثبوت له بلا اشتباه غير مفيد للسامع سوى فائدة التفصيل والتوضيح نظم ذلك فى سلك الصفات مراعاة لجانب المعنى وإن سمى قطعا مراعاة لجانب اللفظ كيف لا وقد اشتهر فى الفن أن الخبر إذا كان معلوم الانتساب إلى المخبر عنه حقه أن يكون وصفا له كما أن الوصف إذا لم يكن معلوم الانتساب إلى الموصوف حقه أن يكون خبرا له حتى قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات وأما الخبر فى الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملا على ما لا ينبئ عنه المبتدأ من المعانى اللائقة كما ستحيط به خبرا مفيدا للمخاطب فوائد رائقة جعل ذلك مقتطعا عما قبله محافظة على الصورة والمعنى جميعا والإيمان إفعال من الأمن المتعدى إلى واحد يقال آمنته وبالنقل تعدى إلى إثنين يقال آمننيه غيرى ثم استعمل فى التصديق لأن للصدق يؤمن المصدق أى يجعله أمينا من التكذيب والمخالفة واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فإن الواثق يصير ذا أمن وطمأنينة ومنه ما حكى عن العرب ما آمنت أن أجد صحابة أى ما صرت ذا أمن وسكون وكلا الوجهين حسن ههنا وهو فى الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما علم ضرورة أنه من دين نبينا عليه الصلاة والسلام كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها وهل هو كاف فى ذلك أو لابد من انضمام الإقرار إليه للمتمكن منه والأول رأى الشيخ الأشعرى ومن شايعه فإن الإقرار عنده منشأ لاجراء الأحكام والثانى مذهب أبى حنيفة ومن تابعه وهو الحق فإنه جعلهما جزأين له خلا أن الإقرار ركن محتمل للسقوط بعذر كما عند الإكراه وهو مجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بموجبه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرار فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقا وكافر عند الخوارج وخارج عن الإيمان غير داخل فى الكفر عند المعتزلة وقرىء يومنون بغير همزة والغيب إما مصدر وصف به الغائب مبالغة كالشهادة فى قوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أو فيعل خفف كقيل فى قيل وهين فى هين وميت فى ميت لكن لم يستعمل فيه الأصل كما استعمل فى نظائره وأياما كان فهو ما غاب عن الحس والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة وهو قسمان قسم لا دليل عليه وهو الذى أريد بقوله سبحانه (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع واليوم الآخر وأحواله من البعث والنشور والحساب والجزاء وهو المراد ههنا فالباء صلة للإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف أو


يجعله مجازا من الوثوق وهو واقع موقع المفعول به وإما مصدر على حاله كالغيبة فالباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل كما فى قوله تعالى (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) وقوله تعالى (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أى يؤمنون متلبسين بالغيبة إما عن المؤمن به أى غائبين عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة لما روى أن أصحاب ابن مسعود رضى الله عنه ذكروا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانهم فقال رضى الله عنه إن أمر محمد عليه الصلاة والسلام كان بينا لمن رآه والذى لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من الإيمان بغيب ثم تلا هذه الآية وإما عن الناس أى غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وقيل المراد بالغيب القلب لأنه مستور والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم فالباء حينئذ للآلة وترك ذكر المؤمن به على التقادير الثلاثة إما للقصد إلى إحداث نفس الفعل كما فى قولهم فلان يعطى ويمنع أى يفعلون الإيمان وإما للاكتفاء بما سيجىء فإن الكتب الإلهية ناطقة بتفاصيل ما يجب الايمان به. (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع فى شىء من فرائضها وسننها وآدابها زيغ من أقام العود إذا قومه وعدله وقيل عن المواظبة عليها مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذى يرغب فيه وقيل عن التشمر لأدائها عن غير فتور ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه واجتهد وقيل عن أدائها عبر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام كما عبر عنه بالقنوت الذى هو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح والأول هو الأظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخم وإنما سمى الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء وقيل أصل صلى حرك الصلوين وهما العظمان الناتئان فى أعلى الفخذين لأن المصلى يفعله فى ركوعه وسجوده واشتهار اللفظ فى المعنى الثانى دون الأول لا يقدح فى نقله عنه وإنما سمى الداعى مصليا تشبيها له فى تخشعه بالراكع والساجد. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرزق فى اللغة العطاء ويطلق على الحظ المعطى نحو ذبح ورعى للمذبوح والمرعى وقيل هو بالفتح مصدر وبالكسر اسم وفى العرف ما ينتفع به الحيوان والمعتزلة لما أحالوا تمكين الله تعالى من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه قالوا الرزق لا يتناول الحرام ألا يرى أنه تعالى أسند الرزق إلى ذاته إيذانا بأنهم ينفقون من من الحلال الصرف فإن إنفاق الحرام بمعزل من إيجاب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) وأصحابنا جعلوا الاسناد المذكور للتعظيم والتحريض على الانفاق والذم لتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما روى عنه عليه‌السلام فى حديث عمرو بن قرة حين أتاه فقال يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أرى أرزق إلا من دفى بكفى فأذن لى فى الغناء من غير فاحشة من أنه قال عليه‌السلام لا إذن لك ولا كرامة ولا تعمة كذبت أى عدو الله والله لقد رزقك الله حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله وبأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذى به طول عمره مرزوقا وقد قال الله تعالى وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها والانفاق والانفاد أخوان خلا أن


(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤)

____________________________________

فى الثانى معنى الإذهاب بالكلية دون الأول والمراد بهذا الانفاق الصرف إلى سبيل الخير فرضا كان أو نفلا ومن فسر بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها والجملة معطوفة على ما قبلها من الصلة وتقديم المفعول للاهتمام والمحافظة على رموس الآى وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن التبذير هذا وقد جوز أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التى منحهم الله تعالى من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله عليه‌السلام إن علما لا ينال به ككنز لا ينفق منه وإليه ذهب من قال ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) معطوف على الموصول الأول على تقديرى وصله بما قبله وفصله عنه مندرج معه فى زمرة المتقين من حيث الصورة والمعنى معا أو من حيث المعنى فقط اندراج خاصين تحت عام إذ المراد بالأولين الذين آمنوا بعد الشرك والغفلة عن جميع الشرائع كما يؤذن به التعبير عن المؤمن به بالغيب وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزلة قبل كعبد الله بن سلام وأضرابه أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة ويكون تخصيصهم بوصف الاتقاء للإيذان بتنزههم عن حالتهم الأولى بالكلية لما فيها من كمال القباحة والمباينة للشرائع كلها الموجبة للاتقاء عنها بخلاف الآخرين فإنهم غير تاركين لما كانوا عليه بالمرة بل متمسكون بأصول الشرائع التى لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار ويجوز أن يجعل كلا الموصولين عبارة عن الكل مندرجا تحت المتقين ولا يكون توسيط العاطف بينهما لاختلاف الذوات بل لاختلاف الصفات كما فى قوله[إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتبية فى المزدحم] وقوله يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب للإيذان بأن كل واحد من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبة والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل أحدهما تتمة للآخر وقد شفع الأول بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائع المندرجة تحت تلك الأمور المؤمن بها تكملة له فإن كمال العلم العمل وقرن الثانى بالإيقان بالآخرة مع كونه منطويا تحت الأول تنبيها على كمال صحته وتعريضا بما فى اعتقاد أهل الكتابين من الخلل كما سيأتى هذا على تقدير تعلق الباء بالإيمان وقس عليه الحال عند تعلقها بالمحذوف فإن كلا من الإيمان الغيبى المشفوع بما يصدقه من العبادتين مع قطع النظر عن المؤمن به والإيمان بالكتب المنزلة الشارحة لتفاصيل الأمور التى يجب الإيمان بها مقرونا بما قرن به فضيلة باهرة مستدعية لما ذكر والله تعالى أعلم وقد حمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع وتكرير الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين فليتأمل وأن يراد بالموصول الثانى بعد اندراج الكل فى الأول فريق خاص منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب بأن يخصوا بالذكر تخصيص جبريل وميكائيل به إثر جريان ذكر الملائكة عليهم‌السلام تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم وأقرانهم فى تحصيل ما لهم من الكمال والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل وتعلقه


(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

____________________________________

بالمعانى إنما هو بتوسط تعلقه بالأعيان المستتبعة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم‌السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملك من جنابه عزوجل تلقيا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ فينزل بها إلى الرسل فيلقيها عليهم عليهم‌السلام والمراد بما أنزل إليك هو القرآن بأسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن إنزاله بالماضى مع كون بعضه مترقبا حينئذ لتغليب المحقق على المقدار أو لتنزيل ما فى شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما فى قوله تعالى (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) مع أن الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا ولا كان الجميع إذ ذلك نازلا وبما أنزل من قبلك التورية والإنجيل وسائر الكتب السالفة وعدم التعريض لذكر من أنزل إليه من الأنبياء عليهم‌السلام لقصد الإيجاز مع عدم تعلق الغرض بالتفصيل حسب تعلقه به فى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) الآية والإيمان بالكل جملة فرض وبالقرآن تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض كفاية فإن فى وجوبه على الكل عينا حرجا بينا وإخلالا بأمر المعاش وبناء الفعلين للمفعول للإيذان بتعين الفاعل والجرى على سنن الكبرياء وقد قرئا على البناء للفاعل. (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الإيقان إتقان العلم بالشىء بنفى الشك والشبهة عنه ولذلك لا يسمى علمه تعالى يقينا أى يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان أهل الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التى من جملتها زعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات واختلافهم فى أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا وهل هو دائم أو لا وفى تقديم الصلة وبناء يوقنون على الضمير تعريض بمن عداهم من أهل الكتاب فإن اعتقادهم فى أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين والآخرة تأنيث الآخر كما أن الدنيا تأنيث الأدنى غلبتا على الدارين فجرتا مجرى الأسماء وقرىء بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وقرىء يؤقنون بقلب الواو همزة إجراء لضم ما قبلها مجرى ضمها فى وجوه ووقتت ونظيره ما فى قوله[لحب المؤقدان إلى مؤسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود] وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين حكيت خصالهم الحميدة من حيث اتصافهم بها وفيه دلالة على أنهم متميزون بذلك أكمل تميز منتظمون بسببه فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله عز وعلا (عَلى هُدىً) خبره وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمه كأنه قيل على أى هدى هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره وإيراد كلمة الاستعلاء بناء على تمثيل حالهم فى ملابستهم بالهدى بحال من يعتلى الشىء ويستولى عليه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارة تبعية متفرعة على تشبيهه باعتلاء الراكب واستوائه على مركوبه أو على جعلها قرينة للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوب للإيذان بقوة تمكنهم منه وكمال رسوخهم فيه وقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة له مبينة لفخامته الاضافية إثر بيان فخامته الذاتية


مؤكدة لها اى على هدى كائن من عنده تعالى وهو شامل لجميع أنواع هدايته تعالى وفنون توفيقه والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيم الموصوف والمضاف إليهم وتشريفهما ولزيادة تحقيق مضمون الجملة وتقريره ببيان ما يوجبه ويقتضيه وقد أدغمت النون فى الراء بغنة أو بغير غنة والجملة على تقدير كون الموصولين موصولين بالمتقين مستقلة لا محل لها من الإعراب مقررة لمضمون قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مع زيادة تأكيد له وتحقيق كيف لا وكون الكتاب هدى لهم فن من فنون ما منحوه واستقروا عليه من الهدى حسبما تحققته لا سيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح وقيل هى واقعة موقع الجواب عن سؤال ربما ينشأ مما سبق كأنه قيل ما للمنعوتين بما ذكر من النعوت اختصوا بهداية ذلك الكتاب العظيم الشأن وهل هم أحقاء بتلك الأثرة فأجيب بأنهم بسبب اتصافهم بذلك ما لكون لزمام أصل الهدى الجامع لفنونه المستتبع للفوز والفلاح فأى ريب فى استحقاقهم لما هو فرع من فروعه ولقد جار عن سنن الصواب من قال فى تقرير الجواب إن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا وأما على تقدير كونهما مفصولين عنه فهى فى محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ الذى هو الموصول الأول والثانى معطوف عليه وهذه الجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهن من تخصيص ما ذكر بالمتقين قبل بيان مبادى استحقاقهم لذلك كأنه قيل ما بال المتقين مخصوصين به فأجيب بشرح ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما يستدعيه من النتيجة أى الذين هذه شئؤنهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك كقولك أحب الأنصار الذين قارعوا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلوا مهجتهم فى سبيل الله أولئك سواد عينى وسويداء قلبى واعلم أن هذا المسلك يسلك تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث كقولك أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك ولا ريب فى أن هذا أبلغ من الأول لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الاشارة بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه بسبب ذلك فى سلك الأمور المشاهدة والإيماء إلى بعد منزلته كما مر هذا وقد جوز أن يكون الموصول الأول مجرى على المتقين حسبما فصل والثانى مبتدأ وأولئك الخ خبره ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيث كانوا يزعمون أنهم على الهدى ويطمعون فى نيل الفلاح (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تكرير اسم الاشارة لاظهار مزيد العناية بشأن المشار إليهم وللتنبيه على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى نيل كل واحدة من تينك الأثرتين وأن كلا منهما كاف فى تميزهم بها عمن عداهم ويؤيده توسيط العاطف بين الجملتين بخلاف ما فى قوله تعالى (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) فإن التسجيل عليهم بكمال الغفلة عبارة عما يفيده تشبيههم بالبهائم فتكون الجملة الثانية مقررة للأولى وأما الإفلاح الذى هو عبارة عن الفوز بالمطلوب فلما كان مغايرا للهدى نتيجة له وكان كل منهما فى نفسه أعز مرام يتنافس فيه المتنافسون فعل ما فعل وهم ضمير فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون فى الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٦)

____________________________________

حقيقة المفلحين وخصائصهم هذا وفى بيان اختصاص المتقين بنيل هذه المراتب الفائقة على فنون من الاعتبارات الرائقة اللائقة حسبما أشير إليه فى تضاعيف تفسير الآية الكريمة من الترغيب فى اقتفاء أثرهم والارشاد إلى اقتداء سيرهم ما لا يخفى مكانه والله ولى الهداية والتوفيق (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مستأنف سيق لشرح أحوال الكفرة الغواة المردة العتاة إثر بيان أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم فى الحال والمآل وإنما ترك العاطف بينهما ولم يسلك به مسلك قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) لما بينها من التنافى فى الأسلوب والتباين فى الغرض فإن الأولى مسوقة لبيان رفعة شأن الكتاب فى باب الهداية والإرشاد وأما التعرض لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد سواء جعل الموصول موصولا بما قبله أو مفصولا عنه فإن الاستئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام المتقدم فهو من مستتبعاته لا محالة وأما الثانية فمسوقة لبيان أحوال الكفرة أصالة وترامى أمرهم فى الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتبشير ولا يؤثر فيهم العظة والتذكير فهم ناكبون فى تيه الغى والفساد عن منهاج العقول وراكبون فى مسلك المكابرة والعناد متن كل صعب وذلول وإنما أو ثرت هذه الطريقة ولم يؤسس الكلام على بيان أن الكتاب هاد للأولين وغير مجد للآخرين لأن العنوان الأخير ليس مما يورثه كمالا حتى يتعرض له فى أثناء تعداد كمالاته وإن من الحروف التى تشابه الفعل فى عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء ودخول نون الوقاية عليها كأننى ولعلنى ونظائرهما وإعطاء معانيه والمتعدى خاصة فى الدخول على اسمين ولذلك أعملت عمله الفرعى وهو نصب الأول ورفع الثانى إيذانا بكونه فرعا فى العمل دخيلا فيه وعند الكوفيين لا عمل لها فى الخبر بل هو باق على حاله بقضية الاستصحاب وأجيب بأن ارتفاع الخبر مشروط بالتجرد عن العوامل وإلا لما انتصب خبر كان وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف وأثرها تأكيد النسبة وتحقيقها ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ويؤتى بها فى مواقع الشك والإنكار لدفعه ورده قال المبرد قولك عبد الله قائم إخبار عن قيامه وإن عبد الله قائم جواب سائل عن قيامه شاك فيه وإن عبد الله لقائم جواب منكر لقيامه وتعريف الموصول إما للعهد والمراد به ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم وأحبار اليهود أو للجنس وقد خص منه غير المصرين بما أسند إليه من قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) الخ والكفر فى اللغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح أى الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر قال تعالى (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) وعليه قول لبيد فى ليلة كفر النجوم غمامها ومنه المتكفر بسلاحه وهو الشاكى الذى غطى السلاح بدنه وفى الشريعة إنكار ما علم بالضرورة مجىء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم به وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرهما كفرا لدلالته على التكذيب فإن من صدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكاد يجترىء على أمثال ذلك إذ لا داعى إليه كالزنى وشرب الخمر واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضى على وجه الأخبار


فإنه يستدعى سابقة المخبر عنه لا محالة وأجيب بأنه من مقتضيات التعلق وحدوثه لا يستدعى حدوث الكلام كما أن حدوث تعلق العلم بالمعلوم لا يستدعى حدوث العلم (سواء) هو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال تعالى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) وقوله تعالى (عَلَيْهِمْ) متعلق به ومعناه عندهم وارتفاعه على أنه خبر لأن وقوله تعالى (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مرتفع به على الفاعلية لأن الهمزة وأم مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الأمر والنهى لذلك عن معنييهما فى قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وحرف النداء فى قولك اللهم اغفر لنا أيتها العصابة عن معنى الطلب لمجرد التخصيص كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كقولك إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه أو مبتدأ وسواء عليهم خبر قدم عليه اعتناء بشأنه والجملة خبر لأن والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه بقائه على حقيقته أما لو أريد به اللفظ أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على طريقة الاتساع فهو كالاسم فى الإضافة والإسناد إليه كما فى قوله تعالى (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) وفى قولهم تسمع بالمعيدى خير من أن تراه كأنه قيل إنذارك وعدمه سيان عليهم والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد والتوصل إلى إدخال الهمزة ومعادلها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده كما أشير إليه وقيل سواء مبتدأ وما بعده خبره وليس بذاك لأن مقتضى المقام بيان كون الإنذار وعدمه سواء لا بيان كون المستوى الإتذار وعدمه والإنذار إعلام المخوف للاحتراز عنه إفعال من نذر بالشىء إذا علمه فحذره والمراد ههنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصى والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلا ولأن الإنذار أوقع فى القلوب وأشد تأثيرا فى النفوس فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا أولى وقرىء بتوسيط ألف بين الهمزتين مع تحقيقهما وبتوسيطها والثانية بين بين وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط وبحذف حرف الاستفهام وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء قد أفلح وقرىء بقلب الثانية ألفا وقد نسب ذلك إلى اللحن. (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة له أو بدل منه أو خبر لأن وما قبلها اعتراض بما هو علة للحكم أو خبر ثان على رأى من يجوزه عند كونه جملة والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون فظهر استحالة إيمانهم لاستلزامه المستحيل الذى هو عدم مطابقة أخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان باقين على التكليف ولأن من جملة ما كلفوه الإيمان بعدم إيمانهم المستمر والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث أن الأحكام لا تستدعى أغراضا لا سيما الامتثال لكنه غير واقع للاستقراء والإخبار بوقوع الشىء أو بعدمه لا ينفى القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره وليس ما كلفوه الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر بل هو الإيمان بجميع ما جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجمالا على أن كون الموصول عبارة عنهم ليس معلوما لهم وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزام الحجة وإحراز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضل الإبلاغ ولذلك قيل سواء عليهم ولم يقل عليك كما قيل لعبدة الأصنام سواء عليكم أدعو تموهم أم أنتم صامتون


(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧)

____________________________________

وفى الآية الكريمة إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهى من المعجزات الباهرة (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) استئناف تعليلى لما سبق من الحكم وبيان لما يقتضيه أو بيان وتأكيد له ٧ والمراد بالقلب محل القوة العاقلة من الفؤاد والختم على الشىء الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه صيانة له أو لما فيه من التعرض له كما فى البيت الفارغ والكيس المملوء والأول هو الأنسب بالمقام إذ ليس المراد به صيانة ما فى قلوبهم بل إحداث حالة تجعلها بسبب تماديهم فى الغى وانهما كهم فى التقليد وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ولا ينفذ فيها الحق أصلا إما على طريقة الاستعارة التبعية بأن يشبه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبواب المنازل الخالية المبنية للسكنى تشبيه معقول بمحسوس بجامع عقلى هو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبله ويستعار له الختم ثم يشتق منه صيغة الماضى وإما على طريقة التمثيل بأن يشبه الهيئة المنتزعة من قلوبهم وقد فعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هى لأجله من الأمور الدينية النافعة وحيل بينها وبينه بالمرة بهيئة منتزعة من محال معدة لحلول ما يحلها حلولا مستتبعا لمصالح مهمة وقد منع من ذلك بالختم عليها وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله بالكلية ثم يستعار لها ما يدل على الهيئة المشبه بها فيكون كل من طرفى التشبيه مركبا من أمور عدة قد اقتصر من جانب المشبه به على ما عليه يدور الأمر فى تصوير تلك الهيئة وانتزاعها وهو الختم والباقى منوى مراد قصدا بألفاظ متخيلة بها يتحقق التركيب وتلك الألفاظ وإن كان لها مدخل فى تحقيق وجه الشبه الذى هو أمر عقلى منتزع منها وهو امتناع الانتفاع بما أعد له بسبب مانع قوى لكن ليس فى شىء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز بل هى باقية على حالها من كونها حقيقة أو مجازا أو كناية وإنما التجوز فى المجموع وحيث كان معنى المجموع مجموع معانى تلك الألفاظ التى ليس فيها التجوز المعهود ولم تكن الهيئة المنتزعة منها مدلولا وضعيا لها ليكون ما دل على الهيئة المشبه بها عند استعماله فى الهيئة المشبهة مستعملا فى غير ما وضع له فيندرج تحت الاستعارة التى هى قسم من المجاز اللغوى الذى هو عبارة عن الكلمة المستعملة فى غير ما وضع له ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبد القاهر وأضرابه إلى جعل التمثيل قسما برأسه ومن رام تقليل الأقسام عد تلك الهيئة المشبه بها من قبيل المدلولات الوضعية وجعل الكلام المفيد لها عند استعماله فيما يشبه بها من هيئة أخرى منتزعة من أمور أخر من قبيل الاستعارة وسماه استعارة تمثيلية وإسناد إحداث تلك الحالة فى قلوبهم إلى الله تعالى لاستناد جميع الحوادث عندنا من حيث الخلق إليه سبحانه وتعالى وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم ووخامة عاقبتهم لكون أفعالهم من حيث الكسب مستندة إليهم فإن خلقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيب على ما اقترفوه من القبائح كما يعرب عنه قوله تعالى (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ونحو ذلك وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل وذكروا فى ذلك عدة من الأقاويل منها أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك فى قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم شبه بالوصف الخلقى المجبول عليه ومنها أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التى خلقها


الله تعالى خالية عن الفطن أو بقلوب قدر ختم الله تعالى عليها كما فى سأل به الوادى إذا هلك وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته ومنها أن ذلك فعل الشيطان أو الكافر وإسناده إليه تعالى باعتبار كونه بإقداره تعالى وتمكينه ومنها أن أعراقهم لما رسخت فى الكفر واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف عبر عن ذلك بالختم لأنه سد لطريق إيمانهم بالكلية وفيه إشعار بترامى أمرهم فى الغى والعناد وتناهى انهماكهم فى الشر والفساد ومنها أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه مثل قولهم قلوبنا فى أكنة مما تدعوننا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب تهكما بهم ومنها أن ذلك فى الآخرة وإنما أخبر عنه بالماضى لتحقق وقوعه ويعضده قوله تعالى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً) ومنها أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة يعرفها الملائكة فيبغضونهم ويتنفرون عنهم. (وَعَلى سَمْعِهِمْ) عطف على ما قبله داخل فى حكم الختم لقوله عزوجل (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) وللوفاق على الوقف عليه لا على قلوبهم ولاشتراكهما فى الإدراك من جميع الجوانب وإعادة الجار للتأكيد والإشعار بتغاير الختمين وتقديم ختم قلوبهم للإيذان بأنها الأصل فى عدم الإيمان وللإشعار بأن ختمها ليس بطريق التبعية بختم سمعهم بناء على أنه طريق إليها فالختم عليه ختم عليها بل هى مختومة بختم على حدة لو فرض عدم الختم على سمعهم فهو باق على حاله حسبما يفصح عنه قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) والسمع إدراك القوة السامعة وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا إذ هو المختوم عليه أصالة وتقديم حاله على حال أبصارهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم فى تلك الحال أو لأن جنايتهم من حيث السمع الذى به يتلقى الأحكام الشرعية وبه ينحقق الإنذار أعظم منها من حيث البصر الذى به يشاهد الأحوال الدالة على التوحيد فبيانها أحق بالتقديم وأنسب بالمقام قالوا السمع أفضل من البصر لأنه عز وعلا حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ولأن السمع شرط النبوة ولذلك ما بعث الله رسولا أصم ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقل بالمعارف التى تتلقف من أصحابها وتوحيده للأمن عن اللبس واعتبار الأصل أو لتقدير المضاف أى وعلى حواس سمعهم والكلام فى إيقاع الختم على ذلك كما مر من قبل. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) الأبصار جمع بصر والكلام فيه كما سمعته فى السمع والغشاوة فعالة من التغشية أى التغطية بنيت لما يشتمل على الشىء كالعصابة والعمامة وتنكيرها للتفخيم والتهويل وهى على رأى سيبويه مبتدأ خبره الظرف المقدم والجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الاسمية للإيذان بدوام مضمونها فإن ما يدرك بالقوة الباصرة من الآيات المنصوبة فى الآفاق والأنفس حيث كانت مستمرة كان تعاميهم من ذلك أيضا كذلك وأما الآيات التى تتلقى بالقوة السامعة فلما كان وصولها إليها حينا فحينا أوثر فى بيان الختم عليها وعلى ما هى أحد طريقى معرفته أعنى القلب الجملة الفعلية وعلى رأى الأخفش مرتفع على الفاعلية مما تعلق به الجار وقرىء بالنصب على تقدير فعل ناصب أى وجعل على أبصارهم غشاوة وقيل على حذف الجار وإيصال الختم إليه والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة وقرىء بالضم والرفع وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها وغشوة بالكسر مرفوعة وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوة بالعين غير المعجمة والرفع. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعيد وبيان لما يستحقونه


(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨)

____________________________________

فى الآخرة والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال أعذب عن الشىء إذا أمسك عنه ومنه الماء العذب لما أنه يقمع العطش ويردعه ولذلك يسمى نقاخا لأنه ينقخ العطش ويكسره وفراتا لأنه يرفته على القلب ويكسره ثم اتسع فيه فأطلق على كل ألم فادح وإن لم يكن عقابا يراد به ردع الجانى عن المعاودة وقيل اشتقاقه من التعذيب الذى هو إزالة العذاب كالتقذية والتمريض والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فمن ضرورة كون الحقير دون الصغير كون العظيم فوق الكبير ويستعملان فى الجثث والأحداث تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره ووصف العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكير من التفخيم والهويل والمبالغة فى ذلك والمعنى أن على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس وهى غشاوة التعامى عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يبلغ كنهه ولا يدرك غايته اللهم إنا نعوذبك من ذلك كله يا أرحم الراحمين. (وَمِنَ النَّاسِ) شروع فى بيان أن بعض من حكيت أحوالهم السالفة ليسوا بمقتصرين على ٨ ما ذكر من محض الإصرار على الكفر والعناد بل يضمون إليه فنونا أخر من الشر والفساد وتعديد لجناياتهم الشنيعة المستتبعة لأحوال هائلة عاجلة وآجلة وأصل ناس أناس كما يشهد له إنسان وأناسى وأنس حذفت همزته تخفيفا كما قيل لوقة فى ألوقه وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يجمع بينهما وأما ما فى قوله [إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا] فشاذ سموا بذلك لظهورهم وتعلق الإناس بهم كما سمى الجن جنا لاجتنانهم وذهب بعضهم إلى أن أصله النوس وهو الحركة انقلبت واوه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وبعضهم إلى أنه مأخوذ من نسى نقلت لامه إلى موضع العين فصار نيسا ثم قلبت ألفا سموا بذلك لنسيانهم ويروى عن ابن عباس أنه قال سمى الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسى واللام فيه إما للعهد أو للجنس المقصور على المصرين حسبما ذكر فى الموصول كأنه قيل ومنهم أو من أولئك والعدول إلى الناس للإيذان بكثرتهم كما ينبئ عنه التبعيض ومحل الظرف الرفع على أنه مبتدأ باعتبار مضمونه أو نعت لمبتدأ كما فى قوله عزوجل ومنادون ذلك أى وجمع منا الخ ومن فى قوله تعالى (مَنْ يَقُولُ) موصولة أو موصوفة ومحلها الرفع على الخبرية والمعنى وبعض الناس أو وبعض من الناس الذى يقول كقوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) الآية أو فريق يقول كقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) الخ على أن يكون مناط الإفادة والمقصود بالأصالة اتصافهم بما فى حيز الصلة أو الصفة وما يتعلق به من الصفات جميعا لا كونهم ذوات أولئك المذكورين وأما جعل الظرف خبرا كما هو الشائع فى موارد الاستعمال فيأبأه جزالة المعنى لأن كونهم من الناس ظاهر فالإخبار به عار عن الفائدة كما قيل فإن مباه توهم كون المراد بالناس الجنس مطلقا وكذا مدار الجواب عنه بأن الفائدة هو التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافى الإنسانية فحق من يتصف بها أن لا يعلم كونه من الناس فيخبر به ويتعجب منه وأنت خبير بأن الناس عبارة عن المعهودين أو عن الجنس المقصور على المصرين وأيا ما كان فالفائدة ظاهرة بل لأن خبرية الظرف تستدعى أن يكون اتصاف هؤلاء بتلك الصفات القبيحة المفصلة فى ثلاث عشرة آية عنوانا


(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٩)

____________________________________

للموضوع مفروغا عنه غير مقصود بالذات ويكون مناط الإفادة كونهم من أولئك المذكورين ولا ريب لأحد فى أنه يجب حمل النظم الجليل على أجزل المعانى وأكملها وتوحيد الضمير فى يقول باعتبار لفظة من وجمعه فى قوله (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وما بعده باعتبار معناها والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إذ لا حد وراءه وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباء لادعاء أنهم قد حازوا الإيمان من قطريه وأحاطوا به من طرفيه وأنهم قد آمنوا بكل منهما على الأصالة والاستحكام وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانهم بواحد منهما إيمانا فى الحقيقة إذ كانوا مشركين بالله بقولهم عزير ابن الله وجاحدين باليوم الآخر بقولهم. لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. ونحو ذلك وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم ودعارتهم فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك إيمانا فكيف وهم يقولونه تمويها على المؤمنين واستهزاءبهم (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) رد لما ادعوه ونفى لما انتحلوه وما حجازية فإن جواز دخول الباء فى خبرها لتأكيد النفى اتفاقى بخلاف التميمية وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية الموافقة لدعواهم المردودة للمبالغة فى الرد بإفادة انتفاء الإيمان عنهم فى جميع الأزمنة لا فى الماضى فقط كما يفيده الفعلية ولا يتوهمن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت فعند دخول النفى عليها يتعين الدلالة على نفى الدوام فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفى قطعا كما أن المضارع الخالى عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع لا على امتناع الاستمرار كما فى قوله عزوجل (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) فإن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرار التعجيل وإطلاق الإيمان عما قيدوه به الاذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان فى شىء أصلا فضلا عن الإيمان بما ذكروا وقد جوز أن يكون المراد ذلك ويكون الإطلاق للظهور ومدلول الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان واعتقاده بخلافه لا يكون مؤمنا فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوه بكلمتى الشهادة فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمن (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بيان ليقول وتوضيح لما هو غرضهم مما يقولون أو استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل ما لهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين فقيل يخادعون الله الخ أى يخدعون وقد قرىء كذلك وإيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة فى الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعا أو فى الكمية كما فى الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروء ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب أو يوهمه المساعدة على ما يريد هو به ليغتر بذلك فينجوا منه بسهولة من قولهم ضب خادع وخدع وهو الذى إذا أمر الحارش يده على باب جحره يوهمه الإقبال عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنيين مناسب للمقام فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائر


(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(١٠) ٢ البقرة

____________________________________

الكفرة وأياما كان فنسبته إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل لإفادة كمال شناعة جنايتهم أى يعاملون معاملة الخادعين وإما على طريقة المجاز العقلى بأن ينسب إليه تعالى ما حقه أن ينسب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبانة لمكانته عنده تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) مع إفادة كمال الشناعة كما مر وإما لمجرد التوطئة والتمهيد لما بعده من نسبته إلى الذين آمنوا والإيذان بقوة اختصاصهم به تعالى كما فى قوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وإبقاء صيغة المخادعة على معناها الحقيقى بناء على زعمهم الفاسد وترجمة عن اعتقادهم الباطل كأنه قيل يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم أو على جعلها استعارة تبعية أو تمثيلا لما أن صورة صنعهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعه تعالى معهم بإجراء أحكام الاسلام عليهم وهم عنده أخبث الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا لهم وامتثال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأمر الله تعالى فى ذلك مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين كما قيل مما لا يرتضيه الذوق السليم أما الأول فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعهم بمقابلة خدعهم له لم يتصور منهم التصدى للخدع وأما الثانى فلأن مقتضى المقام إيراد حالههم خاصة وتصويرها بما يليق بها من الصورة المستهجنة وبيان أن غائلتها آيلة إليهم من حيث لا يحتسبون كما يعرب عنه قوله عز وعلا (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فالتعرض لحال الجانب الآخر مما يخل بتوفية المقام حقه وهو حال من ضمير يخادعون أى يفعلون ما يفعلون والحال أنهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم فإن دائرة فعلهم مقصورة عليهم أو ما يخدعون حقيقة إلا أنفسهم حيث يغرونها بالأكاذيب فيلقونها فى مهاوى الردى وقرىء وما يخادعون والمعنى هو المعنى ومن حافظ على الصيغة فيما قبل قال وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها لا يحيق إلا بهم أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل وهى أيضا تغرهم وتمنيهم الأمانى الفارغة وقرىء وما يخادعون من التخديع وما يخدعون أى يختدعون ويخدعون ويخادعون على البناء للمفعول ونصب أنفسهم بنزع الخافض والنفس ذات الشىء وحقيقته وقد يقال للروح لأن نفس الحى به وللقلب أيضا لأنه محل الروح أو متعلقه وللدم أيضا لأن قوامها به وللماء أيضا لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وقوله تعالى (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير ما يخدعون أى يقتصرون على خدع أنفسهم والحال أنهم ما يشعرون أى ما يحسون بذلك لتماديهم فى الغواية وحذف المفعول إما لظهوره أو لعمومه أى ما يشعرون بشىء أصلا جعل لحوق وبال ما صنعوا بهم فى الظهور بمنزلة الأمر المحسوس الذى لا يخفى إلا على مؤوف الحواس مختل المشاعر. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المرض عبارة عما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخلل فى أفاعيله ويؤدى إلى الموت استعير ههنا لما فى قلوبهم من الجهل وسوء العقيدة وعداوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم


وغير ذلك من فنون الكفر المؤدى إلى الهلاك الروحانى والتنكير للدلالة على كونه نوعا مبهما غير ما يتعارفه الناس من الأمراض والجملة مقررة لما يفيده قوله تعالى (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل ما لهم لا يؤمنون فقيل فى قلوبهم مرض يمنعه (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بأن طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار والجملة معطوفة على ما قبلها والفاء للدلالة على ترتب مضمونها عليه وبه اتضح كونهم من الكفرة المختوم على قلوبهم مع زيادة بيان السبب وقيل زادهم كفرا بزيادة التكاليف الشرعية لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليف بنزول الوحى يزدادون كفرا ويجوز أن يكون المرض مستعارا لما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور عند مشاهدتهم لعزة المسلمين فزيادته تعالى إياهم مرضا ما فعل بهم من إلقاء الروع وقذف الرعب فى قلوبهم عند إعزاز الدين بإمداد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بانزال الملائكة وتأييده بفنون النصر والتمكين فقوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الخ حينئذ استئناف تعليلى لقوله تعالى (يُخادِعُونَ اللهَ) الخ كأنه قيل ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما فى قلوبهم من الكفر فقيل فى قلوبهم ضعف مضاعف هذه حالهم فى الدنيا. (وَلَهُمْ) فى الآخرة. (عَذابٌ أَلِيمٌ) أى مؤلم يقال ألم وهو أليم كوجع وهو وجيع وصف به العذاب للمبالغة كما فى قوله [تحية بينهم ضرب وجيع] على طريقة جد جده فإن الألم والوجع حقيقة للمؤلم والمضروب كما أن الجد للجاد وقيل هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المسمع وليس ذلك بثبت كما سيجىء فى قوله تعالى (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء للسببية أو للمقابلة وما مصدرية داخلة فى الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أى بسبب كذبهم أو بمقابلة كذبهم المتجدد المستمر الذى هو قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وهم غير مؤمنين فإنه إخبار بإحداثهم الإيمان فيما مضى لا إنشاء للإيمان ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبى بمعنى الإذعان والقبول قطعا ويجوز أن يكون محمولا على الظاهر بناء على رأى من يجوز أن يكون لكان الناقصة مصدر كما صرح به فى قول الشاعر [ببذل وحلم ساد فى قومه الفتى* وكونك إياه عليك يسير أى لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذبون على الاستمرار وترتيب العذاب عليه من بين سائر موجباته القوية إما لأن المراد بيان العذاب الخاص بالمنافقين بناء على ظهور شركتهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم حسب اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ) الخ وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائر جنايانهم العظيمة من العذاب ما لا يوصف وإما للرمز إلى كمال سماجة الكذب نظرا إلى ظاهر العبارة المخيلة لانفراده بالسبية مع إحاطة علم السامع بأن لحوق العذاب بهم من جهات شتى وإن الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه. عن الصديق رضى الله عنه ويروى مرفوعا أيضا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان وما روى أن إبراهيم عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات فالمراد به التعريض وإنما سمى به لشبهه به صورة وقيل ما موصولة والعائد محذوف أى بالذى يكذبونه وقرىء يكذبون والمفعول محذوف وهو إما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن وما مصدرية أى بسبب تكذيبهم إياه عليه‌السلام أو القرآن أو موصولة أى بالذى يكذبونه على أن العائد محذوف ويجوز أن يكون صيغة التفعيل للمبالغة كما فى بين فى بان وقلص


(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُون)(١٢)

____________________________________

فى قلص أو للتكثير كما فى موتت البهائم وبركت الإبل وأن يكون من قولهم كذب الوحشى إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متوقف فى أمره متردد فى رأيه ولذلك قيل له مذبذب. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) شروع فى تعديد بعض من قبائحهم المتفرعة على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق وإذا ظرف زمن مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالبا ولا تدخل إلا فى الأمر المحقق أو المرجح وقوعه واللام متعلقة بقيل ومعناها الانهاء والتبليغ والقائم مقام فاعله جملة لا تفسدوا على أن المراد بها اللفظ وقيل هو مضمر يفسره المذكور والفساد خروج الشىء عن الحالة اللائقة به والصلاح مقابله والفساد فى الأرض هيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلال أمر المعاش والمعاد والمراد بما نهوا عنه ما يؤدى إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم عليهم وغير ذلك من فنون الشرور كما يقال للرجل لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك فى النار إذا أقدم على ما تلك عافيته وهو إما معطوف على يقول فإن جعلت كلمة من موصولة فلا محل له من الإعراب ولا بأس بتخلل البيان أو الاستئناف وما يتعلق بهما بين أجزاء الصلة فإن ذلك ليس توسيطا بالأجنبى وإن جعلت موصوفة فمحله الرفع والمعنى ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد فى الأرض. (قالُوا) إراءة للناهين إن ذلك غير صادر عنهم مع أن مقصودهم الأصلى إنكار كون ذلك إفسادا وادعاء كونه إصلاحا محضا كما سيأتى توضيحه. (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أى مقصورون على الإصلاح المحض بحيث لا يتعلق به شائبة الإفساد والفساد مشيرين بكلمة إنما إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغى أن يرتاب فيه وإما كلام مستأنف سيق لتعديد شنائعهم وأما عطفه على يكذبون بمعنى ولهم عذاب أليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الإفساد إنما نحن مصلحون كما قيل فيأباه أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق ذكره صريحا كما فى قوله تعالى (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) فإن مضمونه عبارة عما حكى عنهم من قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر أو لذكر ما يستلزمه استلزاما ظاهرا كما فى قوله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) فإن ما ذكر من الضلال عن سبيل الله مما يوجب حتما نسيان جانب الآخرة التى من جملتها يوم الحساب وما لم يكن كذلك فحقه أن يخبر بعليته قصدا كما فى قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) الآية وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الآية إلى غير ذلك ولا ريب فى أن هذه الشرطية وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمون شىء منها معلوم الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة حتى تستحق الانتظام فى سلك التعليل المذكور فإذن حقها أن تكون مسوقة على سنن تعديد قبائحهم على أحد الوجهين مفيدة لاتصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف قصدا واستقلالا كيف لا وقوله عزوجل. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ينادى بذلك نداء


(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

____________________________________

جليا فإنه رد من جهته تعالى لدعواهم المحكية أبلغ رد وأدله على سخط عظيم حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدى إلى زيادة تمكن الحكم فى ذهن السامع وصدرت الجملة بحرفى التأكيد ألا المنبهة على تحقق ما بعدها فإن الهمزة الإنكارية الداخلة على النفى تفيد تحقيق الإثبات قطعا كما فى قوله تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة إلا مصدرة بما يلتقى به القسم وأختها التى هى أما من طلائع القسم وقيل هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبيه والاستفتاح وإن المقررة للنسبة وعرف الخبر ووسط ضمير الفصل لرد ما فى قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين ثم استدرك بقوله تعالى (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه وهكذا الكلام فى الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من رد مضمونهما ولو لا أن المراد تفصيل جناياتهم وتعديد خبائثهم وهناتهم ثم إظهار فسادها وإبانة بطلانها لما فتح هذا الباب والله أعلم بالصواب. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) من قبل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثر نهيهم عن المنكر إتماما للنصح وإكمالا للإرشاد. (آمِنُوا) حذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان (كَما آمَنَ النَّاسُ) الكاف فى محل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف أى آمنوا إيمانا مماثلا لإيمانهم فما مصدرية أو كافة كما فى ربما فإنها تكف الحرف عن العمل وتصحح دخولها على الجملة وتكون للتشبيه بين مضمونى الجملتين أى حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم واللام للجنس والمراد بالناس الكاملون فى الإنسانية العاملون بقضية العقل فإن اسم الجنس كما يستعمل فى مسماه يستعمل فيما يكون جامعا للمعانى الخاصة به المقصودة منه ولذلك يسلب عما ليس كذلك فيقال هو ليس بإنسان وقد جمعهما من قال إذ الناس ناس والزمان زمان أو للعهد والمراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأضرابه والمعنى آمنو إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم. (قالُوا) مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان. (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) مشيرين باللام إلى من أشير إليهم فى الناس من الكاملين أو المعهودين أو إلى الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة وسخافة رأى يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والأناة وإنما نسبوهم إليه مع أنهم فى الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك أنفسهم فى السفاهة وتماديهم فى الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لا محالة ضلالا أو لتحقير شأنهم فإن كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد الله بن سلام وأمثاله وأياما كان فالذى يقتضيه جزالة التنزيل ويستدعيه فخامة شأنه الجليل أن يكون صدور هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا


عن نصيحتهم وحيث كان فحواه تسفيه أولئك المشاهير الأعلام والقدح فى إيمانهم لزم كونهم مجاهرين لا منافقين وذلك مما لا يكاد يساعده السباق والسياق وعن هذا قالوا ينبغى أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين قال الإمام الواحدى إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله تعالى نبيه عليه‌السلام والمؤمنين بذلك عنهم وأنت خبير بأن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين فى الخلاء فى معرض ما جرى بينهما فى مقام المحاورة مما لا عهد به فى الكلام فضلا عما هو فى منصب الإعجاز فالحق الذى لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضى كونهم مجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن فى النفاق عريق مصنوع على شاكلة قولهم واسمع غير مسمع فكما أنه كلام ذو وجهين مثلهم محتمل للشر بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما ترضاه ونحوه وللخير بأن يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء به مظهرين إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون فى أنفسهم المعنى الأول مطمئنون به ولذلك نهوا عنه كذلك هذا الكلام محتمل للشر كما ذكر فى تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول فرد عليهم ذلك بقوله عز قائلا. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أبلغ رد وجهلوا أشنع تجهيل حيث صدرت الجملة بحرفى التأكيد حسبما أشير إليه فيما سلف وجعلت السفاهة مقصورة عليهم وبالغة إلى حيت لا يدرون أنهم سفهاء ومن هذا اتضح لك سر ما مر فى تفسير قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأى الجمهور مناف لحالهم ضرورة أن مشافهتهم للناصحين بادعاء كون ما نهوا عنه من الإفساد إصلاحا كما مر إظهار منهم للشقاق وبروز بأشخاصهم من نفق النفاق والاعتذار بأن المراد بما نهوا عنه مدارانهم للمشركين كما ذكر فى بعض التفاسير وبالإصلاح الذى يدعونه إصلاح ما بينهم وبين المؤمنين وأن معنى قوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أنهم فى تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين لإشعارها بإعطاء الدنية وإنبائها عن ضعفهم الملجئ إلى توسيط من يتصدى لإصلاح ذات البين فضلا عن كونهم مصلحين مما لا سبيل إليه قطعا فإن قوله تعالى (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) ناطق بفساده كيف لا وأنه يقتضى أن يكون المنافقون فى تلك الدعوى صادقين قاصدين للإصلاح ويأتيهم الإفساد من حيث لا يشعرون ولا ريب فى أنهم فيها كاذبون لا يعاشرونهم إلا مضارة للدين وخيانة للمؤمنين فإذن طريق حل الإشكال ليس إلا ما أشير إليه فإن قولهم إنما نحن مصلحون محتمل للحمل على الكذب وإنكار صدور الإفساد المنسوب إليهم عنهم على معنى إنما نحن مصلحون لا يصدر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم وإراءة لإرادة هذا المعنى وهم معرجون على المعنى الأول فرد عليهم بقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) الآية والله سبحانه أعلم بما أودعه فى تضاعيف كتابه المكنون من السر المخزون نسأله العصمة والتوفيق والهداية إلى سواء الطريق وتفصيل هذه الآية الكريمة بلا يعلمون لما أنه أكثر طباقا لذكر السفه الذى هو فن من فنون الجهل ولأن الوقوف على أن المؤمنين ثابتون على الحق وهم على


(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(١٤)

____________________________________

الباطل منوط بالتمييز بين الحق والباطل وذلك مما لا يتسنى إلا بالنظر والاستدلال وأما النفاق وما فيه من الفتنة والإفساد وما يترتب عليه من كون من يتصف به مفسدا فأمر بديهى يقف عليه من له شعور ولذلك فصلت الآية الكريمة السابقة بلا يشعرون. (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بيان لتباين أحوالهم وتناقض أفوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبة حسب تباين المخاطبين ومساق ما صدرت به قصتهم لتحرير مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ولذلك لم يتعرض ههنا لمتعلق الإيمان فليس فيه شائبة التكرير. روى أن عبد الله بن أبى وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة فقال ابن أبى انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فلما دنوا منهم أخذ بيد أبى بكر رضى الله عنه فقال مرحبا بالصديق سيد بنى تميم وشيخ الإسلام وثانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله ثم أخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال مرحبا بسيد بنى عدى الفاروق القوى فى دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أخذ بيد على كرم الله وجهه فقال مرحبا بابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه وسيد بنى هاشم ما خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وقيل قال له على رضى الله عنه يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خلق الله تعالى فقال له مهلا يا أبا الحسن أفى تقول هذا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبى لأصحابه كيف رأيتمونى فعلت فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت فأثنوا عليه خيرا وقالوا ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بذلك فنزلت واللقاء المصادفة يقال لقيته ولا قيته أى صادفته واستقبلته وقرىء إذا لاقوا. (وَإِذا خَلَوْا) من خلوت إلى فلان أى انفردت معه وقد يستعمل بالباء أو من خلا بمعنى مضى ومنه القرون الخالية وقولهم خلاك ذم أى جاوزك ومضى عنك وقد جوز كونه من خلوت به إذا سخرت منه على أن تعديته بإلى فى قوله تعالى. (إِلى شَياطِينِهِمْ) لتضمنه معنى الإنهاء أى وإذا أنهوا إليهم السخرية الخ وأنت خبير بأن تقييد قولهم المحكى بذلك الإنهاء مما لا وجه له والمراد بشياطينهم المماثلون منهم للشيطان فى التمرد والعناد المظهرون لكفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة فى الكفر أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم وجعل سيبويه نون الشيطان تارة أصلية فوزنه فيعال على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد من الخير والرحمة ويشهد له قولهم تشيطن وأخرى زائدة فوزنه فعلان على أنه من شاط أى هلك أو بطل ومن أسمائه الباطل وقيل معناه هاج واحترق (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أى فى الدين والاعتقاد لا نفارقكم فى حال من الأحوال وإنما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة لأن مدعاهم عندهم تحقيق الثبات على ما كانوا عليه من الدين والتأكيد للإنباء عن صدق رغبتهم ووفور نشاطهم لا لإنكار الشياطين بخلاف معاملتهم مع المؤمنين فإنهم إنما يدعون عندهم إحداث الإيمان لجزمهم بعد رواج ادعاء الكمال فيه أو الثبات عليه. (إِنَّما نَحْنُ) أى فى إظهار الإيمان عند المؤمنين. (مُسْتَهْزِؤُنَ) بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة وهو استئناف مبنى على سؤال ناشىء من ادعاء المعية كأنه قيل لهم عند قولهم إنا معكم فما بالكم توافقون المؤمنين فى الإتيان بكلمة الإيمان فقالوا إنما نحن مستهزءون بهم فلا يقدح ذلك فى


(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٥)

____________________________________

كوننا معكم بل يؤكده وقد ضمنوا جوابهم أنهم يهينون المؤمنين ويعدون ذلك نصرة لدينهم أو تأكيد لما قبله فإن المستهزئ بالشىء مصر على خلافه أو بدل منه لأن من حقر الاسلام فقد عظم الكفر والاستهزاء بالشىء السخرية منه يقال هزأت واستهزأت بمعنى وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على مكانه وتهزأ به ناقته أى تسرع به وتخف. (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أى يجازيهم على استهزائهم سمى جزاؤه باسمه كما سمى جزاء السيئة سيئة إما للمشاكلة فى اللفظ أو المقارنة فى الوجود أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذى هو لازم الاستهزاء أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم أما فى الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة فى النعمة على التمادى فى الطغيان وأما فى الآخرة فبما يروى أنه يفتح لهم باب إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) وإنما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا فى المبالغة فى استهزاء المؤمنين إلى غاية ظهرت شناعته عند السامعين وتعاظم ذلك عليهم حتى اضطرهم إلى أن يقولوا ما مصير أمر هؤلاء وما عاقبة حالهم وفيه أنه تعالى هو الذى يتولى أمرهم ولا يحوجهم إلى المعارضة بالمثل ويستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذى ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزل بهم من النكال ويحل عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار كما يعرب عنه قوله عز قائلا (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) وما كانوا خالين فى أكثر الأوقات من تهتك أستار وتكشف أسرار ونزول فى شأنهم واستشعار حذر من ذلك كما أنبأ عنه قوله عزوجل (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ). (وَيَمُدُّهُمْ) أى يزيدهم ويقويهم من مدا لجيش وأمده إذا زاده وقواه ومنه مددت الدواة والسراج إذا أصلحتهما بالحبر والزيت وإيثاره على يزيدهم للرمز إلى أن ذلك منوط بسوء اختيارهم لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد وما يجرى مجراه من الحاجة الداعية إليه كما فى الأمثلة المذكورة وقرىء يمدهم من الإمداد وهو صريح فى أن القراءة المشهورة ليست من المد فى العمر على أنه يستعمل باللام كالإملاء قال تعالى (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) وحذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير خلاف الأصل لايصار إليه إلا بدليل. (فِي طُغْيانِهِمْ) متعلق بيمدهم والطغيان مجاوزة الحد فى كل أمر والمراد إفراطهم فى العتو وغلوهم فى الكفر وقرىء بكسر الطاء وهى لغة فيه كلقيان لغة فى لقيان وفى إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم وتأييد لما أشير إليه من ترتب المد على سوء اختيارهم. (يَعْمَهُونَ) حال من الضمير المنصوب أو المجرور لكون المضاف مصدرا فهو مرفوع حكما والعمه فى البصيرة كالعمى فى البصر وهو التحير والتردد بحيث لا يدرى أين يتوجه وإسناد هذا المد إلى الله تعالى مع إسناده فى قوله تعالى (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) محقق لقاعدة أهل الحق من أن جميع الأشياء مستند من حيث الخلق إليه سبحانه وإن كانت أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء النظم الكريم على


(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١٦)

____________________________________

مسلكه نكبوا إلى شعاب التأويل فأجابوا أولا بأنهم لما أصروا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافه فتزايد الرين فى قلوبهم فسمى ذلك مددا فى الطغيان فأسند إيلاؤه إليه تعالى ففى المسند مجاز لغوى وفى الإسناد مجاز عقلى لأنه إسناد للفعل إلى المسبب له وفاعله الحقيقى هم الكفرة وثانيا بأنه أريد بالمد فى الطغيان ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان كما فى قوله تعالى (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فالمجاز فى المسند فقط وثالثا بأن المراد به معناه الحقيقى وهو فعل الشيطان لكنه أسند إليه سبحانه مجازا لأنه بتمكينه تعالى وإقداره. (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها وبيان لكمال جهالتهم فيما حكى عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غاية سماجتها وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز فضلا عن العقلاء والضلالة الجور عن القصد والهدى التوجه إليه وقد استعير الأول للعدول عن الصواب فى الدين والثانى للاستقامة عليه والاشتراء استبدال السلعة بالثمن أى أخذها به لا بذله لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزما له فإن المعتبر فى عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب الذى هو المعتبر فى عقد البيع ثم استعير لأخذ شىء بإعطاء ما فى يده عينا كان كل منهما أو معنى لا للإعراض عما فى يده محصلا به غيره كما قيل وإن استلزمه لما مر سره ومنه قوله[أخذت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا] [وبالطويل العمر عمرا جيدرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا] فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه ولما اقتضى ذلك أن يكون ما يجرى مجرى الثمن حاصلا للكفرة قبل العقد وما يجرى مجرى المبيع غير حاصل لهم إذ ذاك حسبما هو فى البيت ولا ريب فى أنهم بمعزل من الهدى مستمرون على الضلالة استدعى الحال تحقيق ما جرى مجرى العوضين فنقول وبالله التوفيق ليس المراد بما تعلق به الاشتراء ههنا جنس الضلالة الشاملة لجميع أصناف الكفرة حتى تكون حاصلة لهم من قبل بل هو فردها الكامل الخاص بهؤلاء على أن اللام للعهد وهو عمههم المقرون بالمد فى الطغيان المترتب على ما حكى عنهم من القبائح وذلك إنما يحصل لهم عند اليأس من اهتدائهم والختم على قلوبهم وكذا ليس المراد بما فى حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب ونأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة فى استتباع الجدوى ولامرية فى أن هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلة لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما سمعوه من نصائح المؤمنين التى من جملتها ما حكى من النهى عن الإفساد فى الأرض والأمر بالإيمان الصحيح وقد نبذوها وراء ظهورهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلة التى هى العمه فى تيه الطغيان وحمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة


بهم فليس فى إضاعتها فقط من الشناعة ما فى إضاعتها مع مؤيدها من المؤيدات العقلية والنقلية على أن ذلك يقضى إلى كون ذكر ما فصل من أول السورة الكريمة إلى هنا ضائعا وأبعد منه حمل اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونه فى أيديهم بناء على أنه يستعمل اتساعا فى إيثار أحد الشيئين الكائنين فى شرف الوقوع على الآخر فإنه مع خلوه عن المزايا المذكورة بالمرة مخل برونق الترشيح الآتى هذا على تقدير جعل الاشتراء المذكور عبارة عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسب بتجاوب أطراف النظم الكريم وأما إذا جعل ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحة نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقية دينه بما كانوا يشاهدونه من نعوته عليه الصلاة والسلام فى التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبى المبعوث فى آخر الزمان الذى نجد نعته فى التوراة ويقولون لهم قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به كما سيأتى ولا مساغ لحمل الهدى على ما كانوا يظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة. (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) عطف على الصلة داخل فى حيزها والفاء للدلالة على ترتب مضمونه عليها والتجارة صناعة التجار وهو التصدى للبيع والشراء لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال يقال ربح فلان فى تجارته أى استشف فيها وأصاب الربح وإسناد عدمه الذى هو عبارة عن الخسران إليها وهو لأربابها بناء على التوسع المبنى على ما بينهما من الملابسة وفائدته المبالغة فى تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار وعمومه المستتبع لسرايته إلى ما يلابسهم وإيرادهما أثر الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيح للاستعارة وتصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة الذى يتحاشى عنه كل أحد للإشباع فى التخسير والتحسير ولا ينافى ذلك أن التجارة فى نفسها استعارة لانهما كهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرنهم عليه معربة عن كون ذلك صناعة لهم راسخة إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقيا على الحقيقة تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها كما فى قولك رأيت أسدا وافى البراثن فإنك لا تريد به إلا زيادة تصوير للشجاع وأنه أسد كامل من غير أن تريد بلفظ البراثن معنى آخر بل قد يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحا لأصل الاستعاة كما فى قوله[فلما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش فى وكريه جاش له صدرى] فإن لفظ الوكرين مع كونه مستعارا من معناه الحقيقى الذى هو موضع يتخذه الطائر للتفريخ للرأس واللحية أو للفودين أعنى جانبى الرأس ترشيح باعتبار معناه الأصلى لاستعارة لفظ النسر للشيب ولفظ ابن دأية للشعر الأسود وكذا لفظ التعشيش مع كونه مستعارا للحلول والنزول المستمرين ترشيح لتينك الاستعارتين بالاعتبار المذكور وقرىء تجاراتهم وتعددها لتعدد المضاف إليهم. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أى إلى طرق التجارة فإن المقصود منها سلامة رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح فى صفقة فربما يتدارك فى صفقة أخرى لبقاء الأصل وأما إتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعا فهؤلاء الذين كان رأس مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطلبتين فبقوا خائبين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزل فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفة على ما قبلها مشاركة له فى الترتب على الاشتراء


(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١٧)

____________________________________

المذكور والأولى عطفها على اشتروا الخ. (مَثَلُهُمْ) زيادة كشف لحالهم وتصوير لهاغب تصويرها بصورة ما يؤدى إلى الخسار بحسب المآل بصورة ما يفضى إلى الخسار من حيث النفس تهويلا لها وإبانة لفظاعتها فإن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبى وقمع سورة الجامح الأبى كيف لا وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية وإبراز لها فى معرض المحسوسات الجلية وإبداء للمنكر فى صورة المعروف وإظهار للوحشى فى هيئة المألوف والمثل فى الأصل بمعنى المثل والنظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم أطلق على القول السائر الذى يمثل مضربه بمورده وحيث لم يكن ذلك إلا قولا بديعا فيه غرابة صيرته جديرا بالتسيير فى البلاد وخليقا بالقبول فيما بين كل حاضر وباد استعير لكل حال أو صفة أو قصة لها شأن عجيب وخطر غريب من غير أن يلاحظ بينها وبين شىء آخر تشبيه ومنه قوله عزوجل (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أى الوصف الذى له شأن عظيم وخطر جليل وقوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أى قصتها العجيبة الشأن. (كَمَثَلِ الَّذِي) أى الذين كما فى قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) خلا أنه وحد الضمير فى قوله تعالى. (اسْتَوْقَدَ ناراً) نظرا إلى الصورة وإنما جاز ذلك مع عدم جواز وضع القائم مقام القائمين لأن المقصود بالوصف هى الجملة الواقعة صلة له دون نفسه بل إنما هو وصلة لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لاستطالته بصلته ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام فى أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه فحقه أن لا يجمع ويستوى فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته وليس الذين جمعه المصحح بل النون فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج أو الفريق المستوقد والنار جوهر لطيف مضىء حار محرق واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا واستيقادها طلب وقودها أى سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم. (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) الإضاءة فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) وتجىء متعدية ولازمة والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أى فلما أضاءت النار ما حول المستوقد أو فلما أضاء ما حوله والتأنيث لكونه عبارة عن الأماكن والأشياء أو أضاءت النار نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النار المنزل منزلتها لا لنفسها أو ما مزيدة وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران وقيل للعام حول لأنه يدور. (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) النور ضوء كل نير واشتقاقه من النار والضمير للذى والجمع باعتبار المعنى أى أطفأ الله نارهم التى هى مدار نورهم وإنما علق الإذهاب بالنور دون نفس النار لأنه المقصود بالاستيقاد لا الاستدفاء ونحوه كما ينبئ عنه قوله تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ) حيث لم يقل فلما شب ضرامها أو نحو ذلك وهو جواب لما أو استئناف أجيب به عن سؤال سائل يقول


(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(١٨)

____________________________________

ما بالهم أشبهت حالهم حال مستو قد انطفأت ناره أو بدله من جملة التمثيل على وجه البيان والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوف كما فى قوله تعالى فلما ذهبوا به للإيجاز والأمن من الإلباس كأنه قيل فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا فى الظلمات خابطين متحيرين خائبين بعد الكدح فى إحيائها وإسناد. الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى وإما لأن الانطفاء حصل بسبب خفى أو أمر سماوى كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه وما أخذه الله عزوجل فأمسكه فلا مرسل له من بعده ولذلك عدل عن الضوء الذى هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور فى الجملة لعدم استلزام عدم القوى لعدم الضعيف والمراد إزالته بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فإن الظلمة التى هى عدم النور وانطماسه بالمرة لا سيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكبا بعضها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمى وما بعدها من قوله تعالى (لا يُبْصِرُونَ) لا يتحقق إلا بعد أن لا يبقى من النور عين ولا أثر وإما لأن المراد بالنور ما لا يرضى به الله تعالى من النار المجازية التى هى نار الفتنة والفساد كما فى قوله تعالى (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) ووصفها بإضاءة ما حول المستوقد من باب الترشيح أو النار الحقيقية التى يوقدها الغواة ليتوصلوا بها إلى بعض المعاصى ويهتدوا بها فى طرق العيث والفساد فأطفأها الله تعالى وخيب آمالهم وترك فى الأصل بمعنى طرح وخلى وله مفعول واحد فضمن معنى التصيير فجرى مجرى أفعال القلوب قال[فتركته جزر السباع ينشن يقضمن حسن بنانه والمعصم] ه والظلمة مأخوذة من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أى ما منعك لأنها تسد البصر وتمنعه من الرؤية وقرىء فى ظلمات بسكون اللام وفى ظلمة بالتوحيد ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح كأن الفعل غير متعد والمعنى أن حالهم العجيبة التى هى اشتراؤهم الضلالة التى هى عبارة عن ظلمتى الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم وظلمة العقاب السرمدى بالهدى الذى هو النور الفطرى المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذى كانوا حصلوه من التوراة حسبما ذكر كحال من استوقد نارا عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى وتركه فى ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار. (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد بالتأويل المشهور كما فى قولهم هذا حلو حامض والصمم آفة مانعة من السماع وأصله الصلابة واكتناز الأجزاء ومنه الحجر الأصم والقناة الصماء وصمام القارورة سدادها سمى به فقدان حاسة السمع لما أن سببه اكتناز باطن الصماخ وانسداد منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموجه والبكم الخرس والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يبصر وصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما أنهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم وأبوا أن يتلقوها بالقبول وينطقوا بها ألسنتهم ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرة على يدى رسول


(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(١٩)

____________________________________

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينظروا إلى آيات التوحيد المنصوبة فى الآفاق والأنفس بعين التدبر وأصروا على ذلك بحيث لم يبق لهم احتمال الارعواء عنه صاروا كفاقدى تلك المشاعر بالكلية وهذا عند مفلقى سحرة البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسى التشبيه كما فى قول من قال[ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة فى السماء] لما أن المقدر فى النظم فى حكم الملفوظ لا من قبيل الاستعارة التى يطوى فيها ذكر المستعار له بالكلية حتى لو لم يكن هناك قرينة لحمل على المعنى الحقيقى كما فى قول زهير[لدى أسد شاكى السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أى هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون إلى الهدى الذى تركوه وضيعوه أو عن الضلالة التى أخذوها والآية نتيجة للتمثيل مفيدة لزيادة تهويل وتفظيع فإن قصارى أمر التمثيل بقاؤهم فى ظلمات هائلة من غير تعرض لمشعرى السمع والنطق ولاختلال مشعرا لأبصار وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى كالضمائر المتقدمة فالآية الكريمة تتمة للتمثيل وتكميل له بأن ما صابهم ليس مجرد انطفاء نارهم وبقائهم فى ظلمات كثيفة هائلة مع بقاء حاصة البصر بحالها بل اختلت مشاعرهم جميعا واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين فى مكاناتهم لا يرجعون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى ما ابتدأوا منه والعدول إلى الجملة الإسمية للدلالة على استمرار تلك الحالة فيهم وقرىء صما بكما عميا إما على الذم كما فى قوله تعالى (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) والمخصوص بالذم هم المنافقون أو المستوقدون وإما على الحالية من الضمير المنصوب فى تركهم أو المرفوع فى لا يبصرون وإما على المفعولية لتركهم فالضميران للمستوقدين. (أَوْ كَصَيِّبٍ) تمثيل لحالهم أثر تمثيل ليعم البيان منها كل دقيق وجليل ويوفى حقها من التفظيع والتهويل فإن تفننهم فى فنون الكفر والضلال وتنقلهم فيها من حال إلى حال حقيق بأن يضرب فى شأنه الأمثال ويرخى فى حلبته أعنة المقال ويمد لشرحه أطناب الإطناب ويعقد لأجله فصول وأبواب لما أن كل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لابد أن يوفى فيه حق كل من مقامى الإطناب والإيجاز فما ظنك بما فى ذروة الإعجاز من التنزيل الجليل ولقد نعى عليهم فى هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم وهو عطف على الأول على حذف المضاف لما سيأتى من الضمائر المستدعية لذلك أى كمثل ذوى صيب وكلمة أو للإبذان بتساوى القصتين فى الاستقلال بوجه التشبيه وبصحة التمثيل بكل واحدة منهما وبهما معا والصيب فيعل من الصوب وهو النزول الذى له وقع وتأثير يطلق على المطر وعلى السحاب قال الشماخ[عفا آيه نسج الجنوب مع الصبا وأسحم دان صادق الوعد صيب]ولعل الأول هو المراد ههنا لاستلزامه الثانى وتنكيره لما أنه أريد به نوع منه شديد هائل كالنار فى التمثيل الأول وأمد به ما فيه من المبالغات من جهة مادته الأولى التى هى الصاد المستعلية والياء المشددة والباء الشديدة ومادته


الثانية أعنى الصوب المنبئ عن شدة الانسكاب ومن جهة بنائه الدال على الثبات وقرىء أو كصائب. (مِنَ السَّماءِ) متعلق بصيب أو بمحذوف وقع صفة له والمراد بالسماء هذه المظلة وهى فى الأصل كل ما علاك من سقف ونحوه وعن الحسن أنها موج مكفوف أى ممنوع بقدرة الله عزوجل من السيلان وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد فإن كل أفق من آفاقها أى كل ما يحيط به كل أفق منها سماء على حدة قال ومن بعد أرض بيننا وسماء كما أن كل طبقة من طباقها سماء قال تعالى (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) والمعنى أنه صيب عام نازل من غمام مطبق آخذ بالآفاق وقيل المراد بالسماء السحاب واللام لتعريف الماهية. (فِيهِ ظُلُماتٌ) أى أنواع منها وهى ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال ما يلزمه من الغمام الأسحم المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وجعله محلالها مع أن بعضها لغيره كظلمتى الغمام والليل لما أنهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة فى شدته وتهويلا لأمره وإيذانا بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام وهو السر فى عدم جعل الظلمات هو الأصل المستتبع للبواقى مع ظهور ظرفيتها للكل إذ لو قيل أو كظلمات فيها صيب الخ لما أفاد أن للصيب ظلمة خاصة به فضلا عن كونها غالبة على غيرها. (وَرَعْدٌ) وهو صوت يسمع من السحاب والمشهور أنه يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض أو من انقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح إياه سوقا عنيفا. (وَبَرْقٌ) وهو ما يلمع من السحاب من برق الشىء بريقا أى لمع وكلاهما فى الأصل مصدر ولذلك لم يجمعا وكونهما فى الصيب باعتبار كونهما فى أعلاه ومصبه ووصول أثرهما إليه وكونهما فى الظلمات الكائنة فيه والتنوين فى الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل فيه ظلمات شديدة داجية ورعد قاصف وبرق خاطف وارتفاع الجميع بالظرف على الفاعلية لتحقق شرط العمل بالاتفاق وقيل بالابتداء والجملة إما صفة لصيب أو حال منه لتخصصه بالصفة أو بالعمل فيما بعده من الجار أو من المستكن فى الظرف الأول على تقدير كونه صفة لصيب والضمائر فى قوله عزوجل. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) للمضاف الذى أقيم مقامه المضاف إليه فإن معناه باق وإن حذف لفظه تعويلا على الدليل كما فى قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فإن الضمير للأهل المدلول عليه بما قام مقامه من القرية قال حسان رضى الله عنه[يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل] فإن تذكير الضمير المستكن فى يصفق لرجوعه إلى الماء المضاف إلى بردى وإلا لأنث حتما وإيثارا لجعل المنبئ عن دوام الملابسة واستمرار الاستقرار على الإدخال المفيد لمجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل للمبالغة فى بيان سد المسامع باعتبار الزمان كما أن إيراد الأصابع بدل الأنامل للإشباع فى بيان سدها باعتبار الذات كأنهم سدوها بحملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز أن يكون هذا إيماء إلى كمال حيرتهم وفرط دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد وكذا الحال فى عدم تعيين الأصبع المعتاد أعنى السبابة وقيل ذلك لرعاية الأدب والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون فى تضاعيف تلك الشدة فقيل يجعلون الخ وقوله تعالى (مِنَ الصَّواعِقِ) متعلق بيجعلون أى من أجل الصواعق المقارنة للرعد من قولهم سقاه من


(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

____________________________________

العيمة والصاعقة قصفة رعد هائل تنقض معها بثقة نار لا تمر بشىء إلا أتت عليه من الصعق وهو شدة الصوت وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد أو للرعد والتاء للمبالغة كما فى الرواية أو مصدرا كالعافية وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو بشدة الصوت وسد الآذان إنما يفيد على التقدير الثانى دون الأول وقرىء من الصواقع وليس ذلك بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين فى التصرف يقال صقع الديك وخطيب مصقع أى مجهر بخطبته (حَذَرَ الْمَوْتِ) منصوب بيجعلون على العلة وإن كان معرفة بالإضافة كقوله[وأغفر عوراء الكريم ادخاره واصفح عن شتم اللئيم تكرما] ولا ضير فى تعدد المفعول له فإن الفعل يعلل بعلل شتى وقيل هو نصب على المصدرية أى يحذرون حذرا مثل حذر الموت والحذر والحذار هو شدة الخوف وقرىء حذار الموت والموت زوال الحياة وقيل عرض يضادها لقوله تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وردبأن الخلق بمعنى التقدير والأعدام مقدرة (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أى لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط شبه شمول قدرته تعالى لهم وانطواء ملكوته عليهم بإحاطة المحيط بما أحاط به فى استحالة الفوت أو شبه الهيئة المنتزعة من شئونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط مع المحاط فالاستعارة المبنية على التشبيه الأول استعارة تبعية فى الصفة متفرعة على ما فى مصدرها من الاستعارة والمبنية على الثانى تمثيلية قد اقتصر من طرف المشبه به على ما هو العمدة فى انتزاع الهيئة المشبه بها أعنى الإحاطة والباقى منوى بألفاظ متخيلة بها يحصل التركيب المعتبر فى التمثيل كما مر تحريره فى قوله عزوجل (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغنى عنهم شيئا فإن القدر لا يدافعه الحذر والحيل لا ترد بأس الله عزوجل وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيب الإيذان بأن ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) فإن الإهلاك الناشىء من السخط أشد وقيل هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد بالكافرين المنافقون قد دل به على أنه لا مدفع لهم من عذاب الله تعالى فى الدنيا والآخرة وإنما وسط بين أحوال المشبه مع أن القياس تقديمه أو تأخيره لإظهار كمال العناية وفرط الاهتمام بشأن المشبه (يَكادُ الْبَرْقُ) استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل يكاد ذلك (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أى يختلسها ويستلها بسرعة وكاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لتآخذ أسبابه وتعاضد مباديه لكنه لم يوجد بعد لفقد شرط أو لعروض مانع ولا يكون خبرها إلا مضارعا عاريا عن كلمة أن وشذ مجيئه اسما صريحا كما فى قوله [فأبت إلى فهم وما كدت آيبا] وكذا مجيئه مع أن حملا لها على عسى كما فى مثل قول رؤبة [قد كاد من طول البلى أن يمحصا] كما تحمل


هى عليها بالحذف لما بينهما من المقارنة فى أصل المقاربة وليس فيها شائبة الإنشائية كما فى عسى وقرىء يخطف بكسر الطاء ويختطف ويخطف بفتح الياء والخاء بنقل فتحة التاء إلى الخاء وإدغامها فى الطاء ويخطف بكسرهما على اتباع الياء والخاء ويخطف من صيغه التفعيل ويتخطف من قوله تعالى (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) كل ظرف وما مصدرية والزمان محذوف أى كل زمان أضاءة وقيل ما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف أى كل وقت أضاء لهم فيه والعامل فى كلما جوابها وهو استئناف ثالث كأنه قيل ما يفعلون فى أثناء ذلك الهول أيفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم أم لا فقيل كلما نور البرق لهم ممشى ومسلكا على أن أضاء متعد والمفعول محذوف أو كلما لمع لهم على أنه لازم ويؤيده قراءة كلما أضاء (مَشَوْا فِيهِ) أى فى ذلك المسلك أو فى مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطف أبصارهم وإيثار المشى على ما فوقه من للسعى والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) أى خفى البرق واستتر والمظلم وإن كان غيره لكن لما كان الإظلام دائرا على استتاره أسند إليه مجازا تحقيقا لما أريد من المبالغة فى موجبات تخبطهم وقد جوز أن يكون متعديا منقولا من ظلم الليل ومنه ما جاء فى قول أبى تمام[هما أظلما حالى ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب] ويعضده قراءة أظلم على البناء للمفعول (قامُوا) أى وقفوا فى أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لخفقة أخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم وإيراد كلما مع الإضاءة وإذا مع الإظلام للإيذان بأنهم حراص على المشى مترقيون لما يصححه فكلما وجدوا فرصة انتهزوها ولا كذلك الوقوف وفيه من الدلالة على كمال التحير وتطاير اللب ما لا يوصف (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) كلمة لو لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض فيه هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضية الشرط دلالتها على انتفائه قطعا والمنازع فيه مكابر وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل والحق الذى لا محيد عنه أنه إن كان ما بينهما من الدوران كليا أو جزئيا قد بنى الحكم على اعتباره فهى دالة عليه بواسطة مدلولها الوضعى لا محالة ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول أما فى مادة الدوران الكلى كما فى قوله عزوجل (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) وقولك لو جئتنى لأكرمتك فظاهر لأن وجود المشيئة علة لوجود الهداية حقيقة ووجود المجىء علة لوجود الإكرام ادعاء وقد انتفيا بحكم المفروضية فانتفى معلولاهما حتما ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما فى المثالين المذكورين وهو الاستعمال الشائع لكلمة لو ولذلك قيل هى لامتناع الثانى لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثانى لكونه ظاهرا أو مسلما على ابتغاء الأول لكونه خفيا أو متنازعا فيه كما فى قوله سبحانه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وفى قوله تعالى (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) فإن فسادهما لازم لتعدد الآلهة حقيقة وعدم سبق المؤمنين إلى الإيمان لازم لخيريته فى زعم الكفرة ولا ريب فى انتفاء اللازمين فتعين انتفاء الملزومين حقيقة فى الأول وادعاء باطلا فى الثانى ضرورة استلزام انتفاء اللازم لانتفاء الملزوم لكن لا بطريق السببية الخارجية كما فى المثالين الأولين بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثانى للعلم بانتفاء الأول ومن لم يتنبه له زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثانى وأما


فى مادة الدوران الجزئى كما فى قولك لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط الذى هو طلوعها ليس وجود أى ضوء كان كضوء القمر المجامع لعدم الطلوع مثلا بل إنما هو وجود الضوء الخاص الناشىء من الطلوع ولا ريب فى انتفائه بانتفاء الطلوع هذا إذا بنى الحكم على اعتبار الدوران وأما إذا بنى على عدمه فإما أن يعتبر هناك تحقق مدار آخر له أو لا فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين انتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء وإن علق صورة بعدم الطلوع لكنه فى الحقيقة معلق بسبب آخر له ضرورة أن عدم الطلوع من حيث هو هو ليس مدار الوجود الضوء فى الحقيقة وإنما وضع موضع المدار لكونه كاشفا عن تحقق مدار آخر له فكأنه قيل لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بسبب آخر كالقمر مثلا ولا ريب فى أن هذا الجزاء مننف عند انتفاء الشرط لاستحالة وجود الضوء القمرى عند طلوع الشمس وإن لم يكن بينهما مافاة تعين عدم الدلالة كما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بنت أبى سلمة لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلت لى إنها لابنة أخى من الرضاعة فإن المدار المعتبر فى ضمن الشرط أعنى كونها ابنة أخيه عليه‌السلام من الرضاعة غير مناف لانتفائه الذى هو كونها ربيبته عليه‌السلام بل مجامع له ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعنى الحرمة الناشئة من كونها ربيبته عليه‌السلام والحرمة الناشئة من كونها ابنة أخيه من الرضاعة وإن لم يعتبر هناك تحقق مدار آخر بل بنى الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا كيف لا ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالطريق الأولى كما فى قوله عزوجل (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) وقوله عليه‌السلام لو كان الإيمان فى الثريا لنا له رجال من فارس وقول على رضى الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فإن الأجزية المذكورة قد نيطت بما ينافيها ويستدعى نقائضها إيذانا بأنها فى أنفسها بحيث يجب ثبوتها مع فرض انتفاء أسبابها أو تحقق أسباب انتفائها فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية فى مثل قوله تعالى (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) ولها تفاصيل وتفاريع حررناها فى تفسير قوله تعالى (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وقول عمر رضى الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه إن حمل على تعليق عدم العصيان فى ضمن عدم الخوف بمدار آخر نحو الحياء والإجلال وغيرهما مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث ابنة أبى سلمة وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لكمال فظاعة حالهم وغاية هول مادهمهم من المشاق وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بإزالة مشاعرهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما وقيل كلمة لو فيها لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر بمنزلة كلمة أن ومفعول المشيئة محذوف جريا على القاعدة المستمرة فإنها إذا وقعت شرطا وكان مفعولها مضمونا للجزاء فلا يكاد يذكر إلا أن يكون شيئا مستغربا كما فى قوله[فلو شئت أن أبكى دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع] أى لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل ولكن لم يشأ لما يقتضيه من الحكم والمصالح وقرىء لأذهب بأسماعهم على زيادة الباء كما فى قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) والإفراد فى المشهورة لأن السمع مصدر فى الأصل والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها من الجمل الاستئنافية وقيل على كلما أضاء الخ وقوله


عزوجل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل للشرطية وتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهانى والشىء بحسب مفهومه اللغوى يقع على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كائنا ما كان على أنه فى الأصل مصدر شاء أطلق على المفعول واكتفى فى ذلك باعتبار تعلق المشيئة به من حيث العلم والإخبار عنه فقط وقد خص ههنا بالممكن موجودا كان أو معدوما بقضية اختصاص تعلق القدرة به لما أنها عبارة عن التمكن من الإيجاد والإعدام الخاصين به وقيل هى صفة تقتضى ذلك التمكن والقادر هو الذى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل والقدير هو الفعال لكل ما يشاء كما يشاء ولذلك لم يوصف به غير البارى جل جلاله ومعنى قدرته تعالى على الممكن الموجود حال وجوده أنه إن شاء إبقاءه على الوجود أبقاه عليه فإن علة الوجود هى علة البقاء وقد مر تحقيقه فى تفسير قوله تعالى (رَبِّ الْعالَمِينَ) وإن شاء إعدامه أعدمه ومعنى قدرته على المعدوم حال عدمه أنه إن شاء إيجاده أوجده وإن لم يشأ لم يوجده وقيل قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل والترك وقدرة الله تعالى عبارة عن نفى العجز واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل بقدر ما تقتضيه إرادته أو بقدر قوته وفيه دليل على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى حقيقة لأنه شىء وكل شىء مقدور له تعالى واعلم أن كل واحد من التمثيلين وإن احتمل أن يكون من قبيل التمثيل المفرق كما فى قوله[كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالى] بأن يشبه المنافقون فى التمثيل الأول بالمستوقدين وهداهم الفطرى بالنار وتأييدهم إياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها وتمكنهم التام من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم وإزالته بإذهاب النور النارى وأخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلمات الكشيفة وبقائهم فيها ويشبهوا فى التمثيل الثانى بالسابلة والقرآن وما فيه من العلوم والمعارف التى هى مدار الحياة الأبدية بالصيب الذى هو سبب الحياة الأرضية وما عرض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وتصامهم عما يقرع أسماعهم من الوعيد بحال من يهوله الرعد والبرق فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها ولاخلاص له منها واهترازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يحرزونه بمشيهم فى مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيرهم فى أمرهم حين عن لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم لكن الحمل على التمثيل المركب الذى لا يعتبر فيه تشبيه كل واحد من المفردات الواقعة فى أحد الجانبين بواحد من المفردات الواقعة فى الجانب الآخر على وجه التفصيل بل ينتزع فيه من المفردات الواقعة فى جانب المشبه هيئة فتشبه بهيئة أخرى منتزعة من المفردات الواقعة فى جانب المشبه به بأن ينتزع من المنافقين وأحوالهم المفصلة فى كل واحد من التمثيلين هيئة على حدة وينتزع من كل واحد من المستوقدين وأصحاب الصيب وأحوالهم المحكية هيئة بحيالها فتشبيه كل واحدة من الأوليين بما يضاهيها من الأخريين هو الذى يقتضيه جزالة التنزيل ويستدعيه فخامة شأنه الجليل لاشتماله على التشبيه الأول إجمالا مع أمر زائد هو تشبيه الهيئة بالهيئة وإيذانه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئة عجيبة حقيقة بأن تكون مثلا فى الغرابة.


(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢١)

____________________________________

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إثر ما ذكر الله تعالى علو طبقة كتابه الكريم وتحزب الناس فى شأنه إلى ثلاث فرق مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ونعت كل فرقة منها بمالها من النعوت والأحوال وبين ما لهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقى وجبرا لما فى العبادة من الكلفة بلذة الخطاب فأمرهم كافة بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد إما إجلالا كما فى قول الداعى يا ألله ويا رب وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصارا لنفسه واستبعادا لها من محافل الزلفى ومنازل المقربين وإما تنبيها على غفلته وسوء فهمه وقد يقصد به التنبيه على أن ما يعقبه أمر خطير يعتنى بشأنه وأى اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعروف باللام لا على أنه المنادى أصالة بل على أنه صفة موضحة له مزيلة لإبهامه والتزم رفعه مع انتصاب موصوفه محلا إشعارا بأنه المقصود بالنداء وأقحمت بينهما كلمة التنبيه تأكيدا لمعنى النداء وتعويصا عما يستحقه أى من المضاف إليه ولما ترى من استقلال هذه الطريقة بضروب من أسباب المبالغة والتأكيد كثر سلوكها فى التنزيل المجيد كيف لا وكل ما ورد فى تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوب جليلة حقيقة بأن تقشعر منها الجلود وتطمئن بها القلوب الآبية ويتلقوها بآذان واعية وأكثرهم عنها غافلون فاقتضى الحال المبالغة والتأكيد فى الإيقاظ والتنبيه والمراد بالناس كافة المكلفين الموجودين فى ذلك العصر لما أن الجموع وأسماءها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناء منها والتأكيد بما يفيد العموم كما فى قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) واستدلال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعا ذائعا وأما من عداهم ممن سيوجد منهم فغير داخلين فى خطاب المشافهة وإنما دخولهم تحت حكمه لما تواتر من دينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورة أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ولا يقدح فى العموم ما روى عن علقمة والحسن البصرى من أن كل ما نزل فيه يأيّها الناس فهو مكى إذ ليس من ضرورة نزوله بمكة شرفها الله تعالى اختصاص حكمه بأهلها ولا من قضية اختصاصه بهم اختصاصه بالكفار إذ لم يكن كل أهلها حينئذ كفرة ولا ضير فى تحقق العبادة فى بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمور به القدر المشترك الشامل لإنشاء العبادة والثبات عليها والزيادة فيها مع أنها متكررة حسب تكرر أسبابها ولا فى انتفاء شرطها فى الآخرين منهم أعنى الإيمان لأن الأمر بها منتظم للأمر بما لاتم إلا به وقد علم من الدين ضرورة اشتراطها به فإن أمر المحدث بالصلاة مستتبع للأمر بالتوضى لا محالة وقد قيل المراد بالعبادة ما يعم أفعال القلب أيضا لما أنها عبارة عن غاية التذلل والخضوع وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن كل ما ورد فى القرآن من العبادات فمعناها التوحيد وقيل معنى اعبدوا وحدوا وأطيعوا ولا فى كون بعض من الفرقتين الأخيرتين ممن لا يجدى فيهم الإنذار بموجب النص القاطع لما أن الأمر لقطع الأعذار


ليس فيه تكليفهم بما ليس فى وسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلا إذ لا قطع لأحد منهم بدخوله فى حكم النص قطعا وورود النص بذلك لكونهم فى أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا أن كونهم كذلك لورود النص بذلك فلا جبر أصلا نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجه لطيف ستقف عليه عند قوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الأمر بالإشعار بعليتها للعبادة (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة أجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل إثر التعليل وقد جوز كونها للتقييد والتوضيح بناء على تخصيص الخطاب بالمشركين وحمل الرب على ما هو أعم من الرب الحقيقى والآلهة التى يسمونها أربابا والخلق إيجاد الشىء على تقدير واستواء وأصله التقدير يقال خلق النعل أى قدرها وسواها بالمقياس وقرىء خلقكم بإدغام القاف فى الكاف (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) عطف على الضمير المنصوب ومتمم لما قصد من التعظيم والتعليل فإن خلق أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف أى كانوا من زمان قبل زمانكم وقيل خلقهم من قبل خلقكم فحذف الخلق وأقيم الضمير مقامه والمراد بهم من تقدمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عموم الخطاب بيان شمول خلقه تعالى للكل وتخصيصه بالمشركين يؤدى إلى عدم التعرض لخلق من عداهم من معاصريهم وإخراج الجملة مخرج الصلة التى حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول عندهم أيضا مع أنهم غير معترفين بغاية الخلق وإن اعترفوا بنفسه كما ينطق به قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) للإيذان بأن خلقهم للتقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحد إنكاره وقرىء وخلق من قبلكم وقرىء والذين من قبلكم بإقحام الموصول الثانى بين الأول وصلته توكيدا كإقحام اللام بين المضافين فى لا أبالك أو بجعله موصوفا بالظرف خبرا لمبتدأ محذوف أى الذين هم أناس كائنون من قبلكم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المعنى الوضعى لكلمة لعل هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول إما محبوب فيسمى ترجيا أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك المعنى قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم كما فى قولك لعل الله يرحمنى وهو الأصل الشائع فى الاستعمال لأن معانى الإنشاءات قائمة به وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم فى التلبس التام بالكلام الجارى بينهما كما فى قوله سبحانه فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر فى نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع الفعل من متوقع أصلا فإن روعيت فى الآية الكريمة جهة المتكلم يستحيل إرادة ذلك المعنى لامتناع التوقع من علام الغيوب عزوجل فيصار إما إلى الاستعارة بأن يشبه طلبه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنة لها لتعاضد أسبابها برجاء الراجى من المرجو منه أمرا هين الحصول فى كون متعلق كل منهما مترددا بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول فيستعار له كلمة لعل استعارة تبعية حرفية للمبالغة فى الدلالة على قوة الطلب وقرب المطلوب من الوقوع وإما إلى التمثيل بأن يلاحظ خلقه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبه إياها منهم وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها وينتزع من ذلك هيئة فتشبه بهيئة منتزعة من الراجى ورجائه من المرجو منه شيئا سهل المنال فيستعمل فى الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل فى الثانية فيكون هناك استعارة تمثيلية قد صرح من ألفاظها بما هو العمدة فى انتزاع الهيئة المشبه بها أعنى كلمة الترجى والباقى منوى بألفاظ متخيلة بها


(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٢)

____________________________________

يحصل التركيب المعتبر فى التمثيل كما مر مرارا وأما جعل المشبه إرادته تعالى فى الاستعارة والتمثيل فأمر مؤسس على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى فالجملة حال إما من فاعل خلقكم أى طالبا منكم التقوى أو من مفعوله وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أى خلقكم وإياهم مطلوبا منكم التقوى أو علة له فإن خلقهم على تلك الحال فى معنى خلقهم لأجل التقوى كأنه قيل خلقكم لتتقوا أو كى تتقوا إما بناء على تجويز تعليل أفعاله تعالى بأغراض راجعة إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة وإما تنزيلا لترتب الغاية على ما هى ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هى علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه وتقييد خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عليته للمأمور به وتأكيدها فإن إتيانهم بما خلقوا له أدخل فى الوجوب وإيثار تتقون على تعبدون مع موافقته لقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) للمبالغة فى إيجاب العبادة والتشديد فى إلزامها لما أن التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزم والإتيان به أهون وإن روعيت جهة المخاطب فلعل فى معناها الحقيقى والجملة حال من ضمير اعبدوا كأنه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام فى زمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المراد بالتقوى مرتبتها الثالثة التى هى التبتل إلى الله عزوجل بالكلية والتنزه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهى أقصى غايات العبادة التى يتنافس فيها المتنافسون وبالانتظام القدر المشترك بين إنشائه والثبات عليه ليرتجيه أرباب هذه المرتبة وما دونها من مرتبتى التوقى عن العذاب المخلد والتجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك كما مر فى تفسير المتقين ولعل توسيط الحال من الفاعل بين وصفى المفعول لما فى التقديم من فوات الإشعار بكون الوصف الأول معظم أحكام الربوبية وكونه عريقا فى إيجاب العبادة وفى التأخير من زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبار تحقق التوقع بالفعل فأما إن اعتبر تحققه بالقوة فالجملة حال من مفعول خلقكم وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أى خلقكم وإياهم حال كونكم جميعا بحيث يرجو منكم كل راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما برأهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كل راج أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنة لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعا واعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى وتحتم عبادته على كافة الناس مرشدة لهم بإشارتها إلى أن مطالعة الآيات التكوينية المنصوبة فى الأنفس والآفاق مما يقضى بذلك قضاء متقنا وقد بين فيها أو لا من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلق أسلافهم لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) وهو فى محل النصب على أنه صفة ثانية لربكم موضحة أو مادحة أو على تقدير أخص أو أمدح أو فى محل الرفع


على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ قال ابن مالك التزم حذف الفعل فى المنصوب على المدح إشعارا بأنه إنشاء كما فى المنادى وحذف المبتدأ فى المرفوع إجراء للوجهين على سنن واحد وأما كونه مبتدأ خبره فلا تجعلوا كما قيل فيستدعى أن يكون مناط النهى ما فى حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلق من قبلهم مدخل فى ذلك مع كونه أعظم شأنا وجعل بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه وقيل هو بمعنى خلق وانتصاب الثانى على الحالية والظرف متعلق به على التقديرين وتقديمه على المفعول الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين وللتشويق إليه لأن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما بعد الإشعار بمنفعته تبقى مترقبة له فيتمكن لديها عند وروده عليها فضل تمكن أو لما فى المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب أطراف النظم الكريم ومعنى جعلها فراشا جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا فإن كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها وقرىء بساطا ومهادا. (وَالسَّماءَ بِناءً) عطف على المفعولين السابقين وتقديم حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر أى جعلها قبة مضروبة عليكم والسماء اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد أو جمع سماوة أو سماءة والبناء فى الأصل مصدر سمى به المبنى بيتا كان أو قبة أو خباء ومنه قولهم بنى على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأة ضربوا عليها خباء جديدا. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) عطف على جعل أى أنزل من جهتها أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض كما روى ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المراد بالسماء جهة العلو كما ينبئ عنه الإظهار فى موضع الإضمار وهو على الأولين لزيادة التقرير ومن لابتداء الغاية متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول أى كائنا من السماء قدم عليه لكونه نكرة وأما تقديم الظرف على الوجه الأول مع أن حقه التأخير عن المفعول الصريح فإما لأن السماء أصله ومبدؤه وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظام بينه وبين قوله تعالى (فَأَخْرَجَ بِهِ) أى بسبب الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) وذلك بأن أودع فى الماء قوة فاعلة وفى الأرض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما أصناف الثمار أو بأن أجرى عادته بإفاضة صور الثمار وكيفيتها المتخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثر فى الحقيقة قدرته تعالى ومشيئته فإنه تعالى قادر على أن يوجد جميع الأشياء بلا مباد ومواد كما أبدع نفوس المبادى والأسباب لكن له عزوجل فى إنشائها متقلبة فى الأحوال ومتبدلة فى الأطوار من بدائع حكم باهرة تجدد لأولى الأبصار عبرا ومزيد طمأنينة إلى عظيم قدرته ولطيف حكمته ما ليس فى إبداعها بغتة ومن للتبعيض لقوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) ولوقوعها بين منكرين أعنى ماء ورزقا كأنه قيل وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء كل الماء ولا أخرج من الأرض كل الثمرات ولا جعل كل المرزوق ثمارا أو للتبيين ورزقا مفعول بمعنى المرزوق ومن الثمرات بيان له أو حال منه كقولك أنفقت من الدراهم ألفا ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولا ورزقا حالا منه أو مصدرا من أخرج لأنه بمعنى رزق وإنما شاع ورود الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضع


كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة فى قولك أدركت ثمرة بستانه ويؤيده القراءة على التوحيد أو لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض كقوله تعالى (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أو لأنها محلاة باللام خارجة عن حد القلة واللام متعلقة بمحذوف وقع صفة لرزقا على تقدير كونه بمعنى المرزوق أى زرقا كائنا لكم أو دعامة لتقوية عمل رزقا على تقدير كونه مصدرا كأنه قيل رزقا إياكم. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) إما متعلق بالأمر السابق مترتب عليه كأنه قيل إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكا وإنما قيل أندادا باعتبار الواقع لا لأن مدار النهى هو الجمعية وقرىء ندا وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات إثر تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التى عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات وإما معطوف عليه كما فى قوله تعالى (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) والفاء للإشعار بعلية ما قبلها من الصفات المجراة عليه تعالى للنهى أو الانتهاء أو لأن مآل النهى هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى المترتب على أصلها كأنه قيل اعبدوه فخصوها به والإظهار فى موضع الإضمار لما مر آنفا وقيل هو نفى منصوب بإضمار أن جوابا للأمر ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سببا للثانى ولا ريب فى أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذى هو أصلها ومبناها وقيل هو منصوب بلعل نصب فأطلع فى قوله تعالى (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه وحيث كان مدار هذا النصب تشبيه لعل فى بعد المرجو بليت كان فيه تنبيه على تقصيرهم بجعلهم المرجو القريب بمنزلة المتمنى البعيد وقيل هو متعلق بقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ) الخ على تقدير رفعه على المدح أى هو الذى حفكم بهذه الآيات العظام والدلائل النيرة فلا تتخذوا له شركاء وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلق أسلافهم بمعزل من مناطية النهى مع عراقتهما فيها وقيل هو خبر للموصول بتأويل مقول فى حقه وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش فى تنزيل الاسم الظاهر منزلة الضمير كما فى قولك زيد قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيته والند المثل المساوى من ند ندودا إذا نفر وناددته خالفته خص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوى بالمماثل فى المقدار وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى فى صفاته ولا أنها تخالفه فى أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله عزوجل وتمنحهم ما لم يرد الله تعالى بهم من خير فتهكم بهم وشنع عليهم أن جعلوا أندادا لمن يستحيل أن يكون له ند واحد وفى ذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمر وبن نفيل[أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور] [تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير] وقوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهى من قبح المنهى عنه ووجوب الاجتناب عنه ومفعول تعلمون مطروح بالكلية كأنه قيل لا تجعلوا ذلك فإنه قبيح واجب الاجتناب عنه والحال إنكم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وإصابة الرأى أو مقدر حسبما يقتضيه المقام نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك أو تعلمون أنه لا يماثله شىء أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت أو


(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢٣)

____________________________________

تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كما فى قوله تعالى (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) من يفعل من ذلكم من شىء أو غير ذلك وحاصله تنشيط المخاطبين وحثهم على الانتهاء عما نهوا عنه هذا هو الذى يستدعيه عموم الخطاب فى النهى بجعل المنهى عنه القدر المشترك المنتظم لإنشاء الانتهاء كما هو المطلوب من الكفرة وللثبات عليه كما هو شأن المؤمنين حسبما مر مثله فى الأمر وأما صرف التقييد إلى نفس النهى فيستدعى تخصيص الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصر النهى على حالة العلم ضرورة شمول التكليف للعالم والجاهل المتمكن من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة فى التوبيخ والتقريع بناء على أن تعاطى القبائح من العالمين بقبحها أقبح وذلك إنما يتصور فى حق الكفرة فمن صرف التقييد إلى نفس النهى مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضا فقد نأى عن التحقيق إن قلت أليس فى تخصيصه بالكفرة فى الأمر والنهى خلاص من أمثال ما مر من التكلفات وحسن انتظام بين السباق والسياق إذ لا محيد فى آية التحدى من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن جبر الانتظام فى سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر فى صدر السورة الكريمة مستغنون فى ذلك عن الأمر والنهى قلت بلى إنه وجه سرى ونهج سوى لا يضل من ذهب إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه فتأمل (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) شروع فى تحقيق أن الكتاب الكريم الذى من جملته ما تلى من الآيتين الكريمتين الناطقتين بوجوب العبادة والتوحيد منزل من عند الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن ما ذكر فيهما من الآيات التكوينية الدالة على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافه بما ذكر فى مطلع السورة الشريفة من النعوت الجليلة التى من جملتها نزاهته عن أن يعتريه ريب ما والتعبير عن اعتقادهم فى حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يعرب عنه قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا فى غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب فى شأنه وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ونهاية قوتها وإنما لم يقل وإن ارتبتم فيما نزلنا الخ لما أشير إليه فيما سلف من المبالغة فى تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه حسبما نطق به قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته العالية واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافى اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ومن فى مما ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لريب وحملها على السببية ربما يوهم كونه محلا للريب فى الجملة وحاشاه ذلك وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه وليس معنى كونهم


فى ريب منه ارتيابهم فى استقامة معانيه وصحة أحكامه بل فى نفس كونه وحيا منزلا من عند الله عزوجل وإيثار التنزيل المنبئ عن التدريج على مطلق الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم وبناء التحدى عليه إرخاء للعنان وتوسيعا للميدان فإنهم كانوا اتخذوا نزوله منجما وسيلة إلى إنكاره فجعل ذلك من مبادى الاعتراف به كأنه قيل إن ارتبتم فى شأن ما نزلناه على مهل وتدريج فهاتوا أنتم مثل نوبة فذة من نوبه ونجم فرد من نجومه فإنه أيسر عليكم من أن ينزل جملة واحدة ويتحدى بالكل وهذا كما ترى غاية ما يكون فى التبكيت وإزاحة العلل وفى ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عزوجل وانقياده لأوامره تعالى ما لا يخفى وقرىء على عبادنا والمراد هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته أو جميع الأنبياء عليهم‌السلام ففيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه والأمر فى قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) من باب التعجيز وإلقام الحجر كما فى قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) والفاء للجواب وسببية الارتياب للأمر أو الإتيان بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارة عن جزمهم المذكور فإنه سبب للأول مطلقا وللثانى على تقدير الصدق كأنه قيل إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر فأتوا بمثله لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر بنى نوعكم والسورة الطائفة من القرآن العظيم المترجمة وأقلها ثلاث آيات وواوها أصلية منقولة من سور البلد لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها أو محتوية على فنون رائقة من العلوم احتواء سور المدينة على ما فيها أو من السورة التى هى الرتبة قال[ولرهط حراب وقذ سورة فى المجد ليس غرابها بمطار] فإن سور القرآن مع كونها فى أنفسها رتبا من حيث الفضل والشرف أو من حيث الطول والقصر فهى من حيث انتظامها مع أخواتها فى المصحف مراتب يرتقى إليها القارىء شيئا فشيئا وقيل واوها مبدلة من الهمزة فمعناها البقية من الشىء ولا يخفى ما فيه ومن فى قوله تعالى (مِنْ مِثْلِهِ) بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسورة والضمير لما نزلنا أى بسورة كائنة من مثله فى علو الرتبة وسمو الطبقة والنظم الرائق والبيان البديع وحيازة سائر نعوت الإعجاز وجعلها تبعيضية يوهم أن له مثلا محققا قد أريد تعجيزهم عن الإتيان ببعضه كأنه قيل فأتوا ببعض ما هو مثل له فلا يفهم منه كون المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلا عن كونها مدارا للعجز مع أنه المراد وبناء الأمر على المجاراة معهم بحسب حسبانهم حيث كانوا يقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلة الريب فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفه ولو بغير جد وقيل هى زائدة على ما هو رأى الأخفش بدليل قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) بعشر سور مثله وقيل هى ابتدائية فالضمير حينئذ للمنزل عليه حتما لما أن رجوعه إلى المنزل يوهم أن له مثلا محققا قدورد الأمر التعجيزى بالإتيان بشىء منه وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعه إلى المنزل عليه فإن تحقق مثله عليه‌السلام فى البشرية والعربية والأمية يهون الخطب فى الجملة خلا أن تخصيص التحدى يفرد يشاركه عليه‌السلام فيما ذكر من الصفات المنافية للإتيان بالمأمور به لا يدل على عجز من ليس كذلك من علمائهم بل ربما يوهم قدرتهم على ذلك فى الجملة فرادى أو مجتمعين مع أنه يستدعى عراء المنزل عما فصل من النعوت الموجبة لاستحالة وجود مثله فأين هذا من تحدى أمة جمة وأمرهم بأن يحتشدوا فى حلبة المعارضة


بخيلهم ورجلهم حسبما ينطق به قوله تعالى (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل فى صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر ومعنى دون أدنى مكان من شىء يقال هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلا ثم استعير للتفاوت فى الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمر وأى فى الفضل والرتبة ثم اتسع فاستعمل فى كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم من غير ملاحظة انحطاط أحدهما عن الآخر فجرى مجرى أداة الاستثناء وكلمة من إما متعلقة بادعوا فتكون لابتداء الغاية والظرف مستقر والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى للاستظهار من حضركم كائنا من كان أو الحاضرين فى مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم فى الملمات وتعولون عليهم فى المهمات أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم من أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة أو القائمين بنصرتكم حقيقة أو زعما من الإنس والجن ليعينوكم وإخراجه سبحانه وتعالى من حكم الدعاء فى الأول مع اندراجه فى الحضور لتأكيد تناوله لجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وأما فى سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم فى عدوة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه والالتفات لإدخال الروعة وتربية المهابة وقيل المعنى ادعوا من دون أولياء الله شهداءكم الذين هم وجوه الناس وفرسان المقالة والمناقلة ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله إيذانا بأنهم يأبون أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة ما هو بين الفساد وجلى الاستحالة وفيه أنه يؤذن بعدم شمول التحدى لأولئك الرؤساء وقيل المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا بالله تعالى قائلين الله يشهد أن ما ندعيه حق فإن ذلك ديدن المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدعون حقية ما هم عليه من الدين الباطل فلا مساس له بمقام التحدى وإن أريد مثلية ما أتوا به للمتحدى به فمع عدم ملاءمته لابتداء التحدى يوهم أنهم قد تصدوا للمعارضة وأتوا بشىء مشتبه الحال متردد بين المثلية وعدمها وأنهم ادعوها مستشهدين فى ذلك بالله سبحانه إذ عند ذلك تمس الحاجة إلى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهى عن الاستشهاد به تعالى وأنى لهم ذلك وما نبض لهم عرق ولا نبسوا ببنت شفة وإما متعلقة بشهداءكم والمراد بهم الأصنام ودون بمعنى التجاوز على أنها ظرف مستقر وقع حالا من ضمير المخاطبين والعامل ما دل عليه شهداءكم أى ادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة متجاوزين الله تعالى فى اتخاذها كذلك وكلمة من ابتدائية فإن الاتخاذ ابتداء من التجاوز والتعبير عن الأصنام بالشهداء لتعيين مدار الاستظهار بها بتذكير ما زعموا من أنها بمكان من الله تعالى وأنها تنفعهم بشهادتها لهم أنهم على الحق فإن ما هذا شانه يجب أن يكون ملاذا لهم فى كل أمر مهم وملجأ يأوون إليه فى كل خطب ملم كأنه قيل أولئك عدتكم فادعوهم لهذه الداهية التى دهمتكم فوجه الالتفات الإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة لجميع صفات الكمال عبادة مالا أحقر منه وقيل لفظة دون مستعارة من معناها الوضعى الذى هو أدنى مكان من شىء لقدامه كما فى قول الأعشى [تريك القذى من دونها وهى دونه] أى تريك القذى قدامها وهى قدام القذى فتكون ظرفا لغوا معمولا لشهداءكم لكفاية رائحة الفعل فيه من غير حاجة إلى


(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(٢٤)

____________________________________

اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون أى ادعوا شهداءكم الذين يشهدون لكم بين يدى الله تعالى ليعينوكم فى المعارضة وإيرادها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناط الاستعانة بها ووجه الالتفات تربية المهابة وترشيح ذلك المعنى فإن ما يقوم بهذا الأمر فى ذلك المقام الخطير حقه أن يستعان به فى كل مرام وفى أمرهم على الوجهين بأن يستظهروا فى معارضة القرآن الذى أخرس كل منطيق بالجماد من التهكم بهم ما لا يوصف وكلمة من ههنا تبعيضية لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفه بمعنى فى لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل إنما يقع فى بعض تينك الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل وقد يقال كلمة من الداخلة على دون فى جميع المواقع بمعنى فى كما فى سائر الظروف التى لا تتصرف وتكون منصوبة على الظرفية أبدا ولا تنجر إلا بمن خاصة وقيل المراد بالشهداء مداره القوم ووجوه المحافل والمحاضر ودون ظرف مستقر ومن ابتدائية أى ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثله متجاوزين فى ذلك أولياء الله ومحصله شهداء مغايرين لهم إيذانا بأنهم أيضا لا يشهدون بذلك وإنما قدر المضاف إلى الله تعالى رعاية للمقابلة فإن أولياء الله تعالى يقابلون أولياء الأصنام كما أن ذكر الله تعالى يقابل ذكر الأصنام والمقصود بهذا الأمر إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل تركنا إلزامكم بشهداء لا ميل لهم إلى أحد الجانبين كما هو المعتاد واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذرا من اللائمة وأنفة من الشهادة البينة البطلان كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل قطعا وفيه ما مر من عدم الملاءمة لابتداء التحدى وعدم تناوله لأولئك الشهداء وإيهام أنهم تعرضوا للمعارضة وأتوا بشىء احتاجوا فى إثبات مثليته للمتحدى به إلى الشهادة وشتان بينهم وبين ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى فى زعمكم أنه من كلامه عليه‌السلام وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه أى إن كنتم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ واستلزام المقدم للتالى من حيث أن صدقهم فى ذلك الزعم يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه‌السلام فى البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزوالة لأساليب النظم والنثر والمبالغة فى حفظ الوقائع والأيام لا سيما عند المظاهرة والتعاون ولا ريب فى أن القدرة على الشىء من موجبات الإتيان به ودواعى الأمر به (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أى ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم فى السعى غاية المجهود وجاوزتم فى الجد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وإنما لم يصرح به إيذانا بعدم الحاجة إليه بناء على كمال ظهور تهالكهم على ذلك وإنما أورد فى حين الشرط مطلق الفعل وجعل مصدر الفعل المأمور به مفعولا له للإيجاز البديع المغنى عن التطويل والتكرير مع سرسرى استقل به المقام وهو الإيذان بأن المقصود بالتكليف هو إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا لتحصيل المفعول أى المأتى به ضرورة استحالته وأن مناط الجواب فى الشرطية أعنى الأمر باتقاء النار هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المفعول فإن مدلول لفظ


الفعل هو أنفس الأفعال الخاصة لازمة كانت أو متعدية من غير اعتبار تعلقاتها بمفعولاتها الخاصة فإذا علق بفعل خاص متعد فإنما يقصد به إيقاع نفس ذلك الفعل وإخراجه من القوة إلى الفعل وأما تعلقه بمفعوله المخصوص فهو خارج عن مدلول الفعل المطلق وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعال المتعدية عن مفعولاتها وتنزيلها منزلة الأفعال اللازمة فيقولون مثلا معنى فلان يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع يرشدك إلى هذا قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) بعد قوله تعالى (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) فإنه لما كان مقصود يوسف عليه‌السلام بالأمر ومرمى غرضه بالتكليف منه استحضار بنيامين لم يكتف فى الشرطية الداعية لهم إلى الجد فى الامتثال والسعى فى تحقيق المأمور به بالإشارة الإجمالية إلى الفعل الذى ورد به الأمر بأن يقول فإن لم تفعلوا بل أعاده بعينه متعلقا بمفعوله تحقيقا لمطلبه وإعرابا عن مقصده هذا وقد قيل أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرار أو على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال فتدبر وإيثار كلمة إن المفيدة للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلهم مجاراة معهم بحسب حسبانهم قبل التجربة أو النهكم بهم (وَلَنْ تَفْعَلُوا) كلمة لن لنفى المستقبل كلا خلا أن فى لن زيادة تأكيد وتشديد وأصلها عند الخليل لا أن وعند الفراء لا أبدلت ألفها نونا وعند سيبويه حرف مقتضب للمعنى المذكور وهى إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراض بين جزأى الشرطية مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به عزوجل وقد وقع الأمر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشىء يدانيه فى الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف (فَاتَّقُوا النَّارَ) جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد إذ بذلك يتحقق تسببه عنه وترتبه عليه كأنه قيل فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقرر فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه فإنه مستوجب للعقاب بالنار لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على تصوير العناد بصورة النار وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها للمبالغة فى تهويل شأنه وتفظيع أمره وإظهار كمال العناية بتحذير المخاطبين منه وتنفيرهم عنه وحثهم على الجد فى تحقيق المكنى عنه وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى حيث كان الأصل فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد وترككم الإيمان به سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار فاحترزوا منه واتقوا النار (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة أعاذنا الله من ذلك والوقود ما يوقد به النار وترفع من الحطب وقرىء بضم الواو وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده والمعنى أنها من الشدة بحيث لا تمس شيئا من رطب أو يابس إلا أحرقته لا كنيران الدنيا تفتقر فى الالتهاب إلى وقود من حطب أو حشيش وإنما جعل هذا الوصف صلة للموصول مقتضية لكون انتسابها إلى ما نسبت هى إليه معلوم للمخاطب بناء على أنهم سمعوه من أهل الكتاب قبل ذلك أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سمعوا قبل هذه الآية المدنية قوله تعالى (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فأشير ههنا إلى ما سمعوه أولا وكون سورة التحريم مدنية لا يستلزم كون


(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)

____________________________________

جميع آياتها كذلك كما هو المشهور وأما أن الصفة أيضا يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب فالخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بالحجارة الأصنام وبالناس أنفسهم حسبما ورد فى قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أى هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عدة لعذابهم والمراد إما جنس الكفار والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا وإماهم خاصة ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وقرىء اعتدت من العتاد بمعنى العدة وفيه دلالة على أن النار مخلوقة موجودة الآن والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مقررة لمضمون ما قبلها ومؤكدة لإيجاب العمل به ومبينة لمن أريد بالناس دافعة لاحتمال العموم وقيل حال بإضمار قد من النار لا من ضميرها فى وقودها لما فى ذلك من الفصل بينهما بالخبر وقيل صلة بعد صلة أو عطف على الصلة بترك العاطف (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بأنه منزل من عند الله عزوجل وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصود عطف نفس الأمر حتى يطلب له مشاكل يصح عطفه عليه بل على أنه عطف قصة المؤمنين بالقرآن ووصف ثوابهم على قصة الكافرين به وكيفية عقابهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد وكان تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين وقرىء وبشر على صيغة الفعل مبنيا للمفعول عطفا على أعدت فيكون استئنافا وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما فى حين الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما فإنهما لا يكافئان النعم السابقة فضلا من أن يقتضيا ثوابا فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر والخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل لكل من يتأتى منه التبشير كما فى قوله عليه‌السلام بشر المشائين إلى المساجد فى ظلم الليالى بالنور التام يوم القيامة فإنه عليه‌السلام لم يأمر بذلك واحدا بعينه بل كل أحد ممن يتأتى منه ذلك وفيه رمز إلى أن الأمر لعظمه وفخامة شأنه حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه والبشارة الخبر السار الذى يظهر به أثر السرور فى البشرة وتباشير الصبح أوائل ضوئه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الصالحة كالحسنة فى الجريان مجرى الاسم وهى كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل واللام للجنس والجمع لإفادة أن المراد بها جملة من الأعمال الصالحة التى أشير إلى أمهاتها فى مطلع السورة الكريمة وطائفة منها متفاوتة حسب تفاوت حال المكلفين فى مواجب التكليف وفى عطف العمل على الإيمان دلالة على تغايرهما وإشعار بأن مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين فإن الإيمان أساس والعمل الصالح كالبناء عليه ولاغناء بأساس لا بناء به (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه أو مجرور بإضماره مثل الله لأفعلن والجنة هى المرة من مصدر


جنه إذا ستره تطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه قال زهير[كأن عينى فى غربى مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا] أى نخلا طوالا كأنها لفرط تكاثفها والتفافها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفس السترة وعلى الأرض ذات الشجر قال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم فحق المصدر حينئذ أن يكون مأخوذا من الفعل المبنى للمفعول وإنما سميت دار الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور لما أنها مناط نعيمها ومعظم ملاذها وجمعها مع التنكير لأنها سبع على ما ذكره ابن عباس رضى الله عنهما جنة الفردوس وجنة عدن وجنة النعيم ودار الخلد وجنة المأوى ودار السلام وعليون وفى كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فى حين النصب على أنه صفة جنات فإن أريد بها الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فلا بد من تقدير مضاف أى من تحت أشجارها وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل عن مسروق إن أنهار الجنة تجرى فى غير أخدود واللام فى الأنهار للجنس كما فى قولك لفلان بستان فيه الماء الجارى والتين والعنب أو عوض عن المضاف إليه كما فى قوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أو للعهد والإشارة إلى ما ذكر فى قوله عز وعلا (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية والنهر بفتح الهاء وسكونها المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات والتركيب للسعة والمراد بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوى أو المجارى أنفسها وقد أسند إليها الجريان مجازا عقليا كما فى سال الميزاب (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) صفة أخرى لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها وهذا وصف لها باعتبار أهلها المتنعمين بها أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة كأنه حين وصفت الجنات بما ذكر من الصفة وقع فى ذهن السامع أثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وكلما نصب على الظرفية ورزقا مفعول به ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال كأنه قيل كل وقت رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة على أن الرزق مقيد بكونه مبتدأ من الجنات وابتداؤه منها مقيد بكونه مبتدأ من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الثانية ضميره المستكن فى الحال ويجوز كون من ثمرة بيانا قدم على المبين كما فى قولك رأيت منك أسدا وهذا إشارة إلى ما رزقوا وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيرا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع فإنك إن أشرت إلى ما تعاينه بحسب الظاهر لكنك إنما تعنى بذلك النوع المعلوم المستمر فالمعنى هذا مثل الذى رزقناه من قبل أى من قبل هذا فى الدنيا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته وإنما جعل ثمر الجنة كثمار الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غير معروف وليتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه إذ لو كان جنسا غير معهود لظن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثل الذى رزقناه من قبل فى الجنة لأن طعامها متشابه الصور كما يحكى عن الحسن رضى الله عنه إن أحدهم يؤتى الصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال والذى نفسى بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هى واصلة إلى فيه حتى يبدل


الله تعالى مكانها مثلها والأول أنسب لمحافظة عموم كلما فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالة كل مرة رزقوا لا فيما عدا المرة الأولى يظهرون بذلك التبجح وفرط الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذة مع اتحادهما فى الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عين ما رزقناه فى الدنيا فمن أين له هذه الرتبة من اللذة والطيب ولا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنه ليس فى الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسم فإن ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذة والحسن والهيئة لا لبيان أن لا تشابه بينهما أصلا كيف لا وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعى قطعا هذا وقد فسرت الآية الكريمة بأن مستلذات أهل الجنة بمقابلة ما رزقوه فى الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة الحال فيجوز أن يريدوا هذا ثواب الذى رزقناه فى الدنيا من الطاعات ولا يساعده تخصيص ذلك بالثمرات فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) اعتراض مقرر لما قبله والضمير المجرور على الأول راجع إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا فى الدارين كما فى قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أى بجنسى الغنى والفقير وعلى الثانى إلى الرزق (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أى مما فى نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق فإن التطهر يستعمل فى الأجسام والأخلاق والأفعال وقرىء مطهرات وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن وهن فاعلة وفواعل قال[وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت] فالجمع على اللفظ والإفراد على تأويل الجماعة وقرىء مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطهرة أبلغ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بان مطهرا طهرهن وما هو إلا الله سبحانه وتعالى وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن والزوج يطلق على الذكر والأنثى وهو فى الأصل اسم لما له قرين من جنسه وليس فى مفهومه اعتبار التوالد الذى هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج أهل الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد كما أن المدارية لبقاء الفرد ليست بمعتبرة فى مفهوم اسم الرزق حتى يخل ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) أى دائمون والخلود فى الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم ولذلك قيل للأثافى والأحجار الخوالد وللجزء الذى يبقى من الإنسان على حاله خلد ولو كان وضعه الدوام لما قيد بالتأييد فى قوله عز وعلا (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ولما استعمل حيث لا دوام فيه لكن المراد ههنا الدوام قطعا لما يفضى به من الآيات والسنن وما قيل من أن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة فى الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك مداره قياس ذلك العالم الكامل بما يشاهد فى عالم الكون والفساد على أنه يجوز أن يعيدها الخالق تعالى بحيث لا يعتورها الاستحالة ولا يعتريها الانحلال قطعا بأن تجعل أجزاؤها متفاوتة فى الكيفيات متعادلة فى القوى بحيث لا يقوى شىء منها عند التفاعل على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض وتبقى هذه النسبة منحفظة فيما بينها أبدا لا يعتريها التغيير بالأكل والشرب والحركات وغير ذلك واعلم أن معظم اللذات الحسية لما كان مقصورا على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقضى به الاستقراء وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات إذ كل نعمة وإن جلت حيت كانت فى شرف الزوال ومعرض الاضمحلال فإنها منغصة غير صافية من شوائب


(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ)(٢٦)

____________________________________

الألم بشر المؤمنين بها وبدوامها تكميلا للبهجة والسرور اللهم وفقنا لمراضيك وثبتنا على ما يؤدى إليها من العقد والعمل (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) شروع فى تنزيه ساحة التنزيل عن تعلق ريب خاص اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبيان لحكمته وتحقيق للحق أثر تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدى وإلقام الحجر وإفحام كافة البلغاء من أهل المدر والوبر روى أبو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما أن المنافقون طعنوا فى ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق وقالوا الله أجل وأعلى من ضرب الأمثال وروى عطاء رضى الله عنه أن هذا الطعن كان من المشركين وروى عنه أيضا أنه لما نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الآية وقوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) الآية قالت اليهود أى قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله تعالى بهما الأمثال وجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار كونه من عند الله تعالى مع أنه لا يخفى على أحد ممن له تمييز أنه ليس مما يتصور فيه التردد فضلا عن النكير بل هو من أوضح أدلة كونه خارجا عن طوق البشر نازلا من عند خلاق القوى والقدر كيف لا وإن التمثيل كما مر ليس إلا إبراز المعنى المقصود فى معرض الأمر المشهور وتحلية المعقول بحلية المحسوس وتصوير أو ابد المعانى بهيئة المأنوس لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل واستعصائه عليه فى إدراك الحقائق الخفية وفهم الدقائق الأبية كى يتابعه فيما يقتضيه ويشايعه إلى ما يرتضيه ولذلك شاعت الأمثال فى الكتب الإلهية والكلمات النبوية وذاعت فى عبارات البلغاء وإشارات الحكماء ومن قضية وجوب التماثل بين الممثل والممثل به فى مناط التمثيل تمثيل العظيم بالعظيم والحقير بالحقير وقد مثل فى الإنجيل غل الصدر بالنخالة ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير وجاء فى عبارات البلغاء أجمع من ذرة وأجرأ من الذباب وأسمع من قراد وأضعف من بعوضة إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصر والحياء تغير النفس وانقباضها عما يعاب به أو يذم عليه يقال حيى الرجل وهو حيى واشتقاقه من الحياة اشتقاق شظى وحشى ونسى من الشظى والنسى والحشى يقال شظى الفرس ونسى وحشى إذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحيا تعتل قوته الحيوانية وتنتقص واستحيا بمعناه خلا أنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال استحييته واستحييت منه والأول لا يتعدى إلا بحرف الجر وقد يحذف منه إحدى الياءين ومنه قوله[ألا يستحى منا الملوك ويتقى محارمنا لا يبوء الدم بالدم] وقوله[إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت فى إناء من الورد] فكما أنه إذا أسند إليه سبحانه بطريق الإيجاب فى مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يستحيى من ذى الشيبة المسلم أن يعذبه وقوله عليه‌السلام إن الله حيى كريم يستحيى إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا يراد به الترك الخاص على طريقة التمثيل حيث مثل فى


الحديثين الكريمين تركه تعذيب ذى الشيبة وتخييب العبد من عطائه بترك من يتركهما حياء كذلك إذا نفى عنه تعالى فى المواد الخاصة كما فى هذه الآية الشريفة وفى قوله تعالى (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) يراد به سلب ذلك الترك الخاص المضاهى لترك المستحى عنه لا سلب وصف الحياء عنه تعالى رأسا كما فى قولك إن الله لا يوصف بالحياء لأن تخصيص السلب ببعض المواد يوهم كون الإيجاب من شأنه تعالى فى الجملة فالمراد ههنا عدم ترك ضرب المثل المماثل لترك من يستحيى من ضربه وفيه رمز إلى تعاضد الدواعى إلى ضربه وتآخذ البواعث إليه إذ الاستحياء إنما يتصور فى الأفعال المقبولة للنفس المرضية عندها ويجوز أن يكون وروده على طريقة المشاكلة فإنهم كانوا يقولون أما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالأشياء المحقرة كما فى قول من قال[من مبلغ أفناء يعرب كلها أنى بنيت الجار قبل المنزل] وضرب المثل استعماله فى مضربه وتطبيقه به لاصنعه وإنشاؤه فى نفسه وإلا لكان إنشاء الأمثال السائرة فى مواردها ضربا لها دون استعمالها بعد ذلك فى مضاربها لفقدان الإنشاء هناك والأمثال الواردة فى التنزيل وإن كان استعمالها فى مضاربها عين إنشائها فى أنفسها لكن التعبير عنه بالضرب ليس بهذا الاعتبار بل بالاعتبار الأول قطعا وهو مأخوذ إما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق فكما أن ضربه تطبيقه بقالبه كذلك استعمال الأمثال فى مضاربها تطبيقها بها كأن المضارب قوالب تضرب الأمثال على شاكلتها لكن لا بمعنى أنها تنشأ بحسبها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنها تورد منطبقة عليها سواء كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثال التنزيلية فإن مضاربها قوالبها أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة فإنها وإن كانت مصنوعة من قبل إلا أن تطبيقها أى إيرادها منطبقة على مضاربها إنما يحصل عند الضرب وإما من ضرب الطين على الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق كأن من يستعملها يلصقها بمضاربها ويجعلها ضربة لازب لا تنفك عنها لشدة تعلقها بها ومحل أن يضرب على تقدير تعدية يستحيى بنفسه النصب على المفعولية وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفض بإضمار من وعند سيبويه النصب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها ومثلا مفعول ليضرب وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاما وشياعا كما فى قولك أعطنى كتابا ما كأنه قيل مثلا ما من الأمثال أى مثل كان فهى صفة لما قبلها أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها كما فى قوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) وبعوضة بدل من مثلا أو عطف بيان عند من يجوزه فى النكرات أو مفعول ليضرب ومثلا حال تقدمت عليها لكونها نكرة أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هو بعوضة والجملة على تقدير كون ما موصولة صلة لها محذوفة الصدر كما فى قوله تعالى (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) على قراءة الرفع وعلى تقدير كونها موصوفة صفة لها كذلك ومحل ما على الوجهين النصب على أنه بدل من مثلا أو على أنه مفعول ليضرب وعلى تقدير كونها إبهامية صفة لمثلا كذلك وأما على تقدير كونها استفهامية فهى خبر لها كأنه لما رد استبعادهم ضرب المثل قيل ما بعوضة وأى مانع فيها حتى لا يضرب بها المثل بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء والبعوض فعول من البعض وهو القطع كالبضع والعضب غلب على هذا النوع كالخموش فى لغة هذيل من الخمش وهو الخدش. (فَما فَوْقَها) عطف على بعوضة على


تقدير نصبها على الوجوه المذكورة وما موصولة أو موصوفة صلتها أو صفتها الظرف وأما على تقدير رفعها فهو عطف على ما الأولى على تقدير كونها موصولة أو موصوفة وأما على تقدير كونها استفهامية فهو عطف على خبرها أعنى بعوضة لا على نفسها كما قيل والمعنى ما بعوضة فالذى فوقها أو فشىء فوقها حتى لا يضرب بها المثل وكذا على تقدير كونها صفة للنكرة أو زائدة وبعوضة خبر للمضمر وذكر البعوضة فما فوقها من بين أفراد المثل إنما هو بطريق التمثيل دون التعيين والتخصيص فلا يخل بالشيوع بل يقرره ويؤكده بطريق الأولوية والمراد بالفوقية إما الزيادة فى المعنى الذى أريد بالتمثيل أعنى الصغر والحقارة وإما الزيادة فى الحجم والجثة لكن لا بالغا ما بلغ بل فى الجملة كالذباب والعنكبوت وعلى التقدير الأول يجوز أن يكون ما الثانية خاصة استفهامية إنكارية والمعنى إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فأى شىء فوقها فى الصغر والحقارة فإذن له تعالى أن يمثل بكل ما يريد ونظيره فى احتمال الأمرين ما روى أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضى الله عنها حين ذكر لها ذلك سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة فى القلة كنخبة النملة بقوله عليه‌السلام ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة وما تجاوزها من الألم كأمثال ما حكى من الحرور (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل فيضربه فأما الذين الخ وتقديم بيان حال المؤمنين على ما حكى من الكفرة مما لا يفتقر إلى بيان السبب وفى تصدير الجملتين بأما من إحماد أمر المؤمنين وذم الكفرة ما لا يخفى وهو حرف متضمن لمعنى اسم الشرط وفعله بمنزلة مهما يكن من شىء ولذلك يجاب بالفاء وفائدته توكيد ما صدر به وتفصيل ما فى نفس المتكلم من الأقسام فقد تذكر جميعا وقد يقتصر على واحد منها كما فى قوله عز من قائل (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الخ قال سيبويه أما زيد فذاهب معناه مهما يكن من شىء فهو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها الخبر وعوض المبتدأ عن الشرط لفظا والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتى فريق الكفرة لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى أى فأما المؤمنون. (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) كسائر ما ورد منه تعالى والحق هو الثابت الذى يحق ثبوته لا محالة بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره لا الثابت مطلقا واللام للدلالة على أنه مشهود له بالحقية وأن له حكما ومصالح ومن لابتداء الغاية المجازية وعاملها محذوف وقع حالا من الضمير المستكن فى الحق أو من الضمير العائد إلى المثل أو إلى ضربه أى كائنا وصادرا من ربهم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم وللإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم والجملة سادة مسد مفعولى يعلمون عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثانى محذوف عند الأخفش أى فيعلمون حقيته ثابتة ولعل الاكتفاء بحكاية علمهم المذكور عن حكاية اعترافهم بموجبه كما فى قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للإشعار بقوة ما بينهما من التلازم وظهوره المغنى عن الذكر. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ممن حكيت


أقوالهم وأحوالهم. (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أوثر يقولون على لا يعلمون حسبما يقتضيه ظاهر قرينة دلالة على كمال غلوهم فى الكفر وترامى أمرهم فى العتو فإن مجرد عدم العلم بحقيته ليس بمثابة إنكارها والاستهزاء به صريحا وتمهيدا لتعداد مانعى عليهم فى تضاعيف الجواب من الضلال والفسق ونقض العهد وغير ذلك من شنائعهم المترتبة على قولهم المذكور على أن عدم العلم بحقيته لا يعم جميعهم فإن منهم من يعلم بها وإنما يقول ما يقول مكابرة وعنادا وحمله على عدم الإذعان والقبول الشامل للجهل والعناد تعسف ظاهر هذا وقد قيل كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه ويقابل قسيمه لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه فتأمل وكن على الحق المبين وماذا إما مؤلفة من كلمة استفهام وقعت مبتدأ خبره ذا بمعنى الذى وصلته ما بعده والعائد محذوف فالأحسن أن يجىء جوابه مرفوعا وإما منزلة منزلة اسم واحد بمعنى أى شىء فالأحسن فى جوابه النصب والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها إليه أو القوة التى هى مبدؤه والأول مع الفعل والثانى قبله وكلاهما مما لا يتصور فى حقه تعالى ولذلك اختلفوا فى إرادته عزوجل فقيل إرادته تعالى لأفعاله كونه غير ساه فيه ولا مكره ولأفعال غيره أمره بها فلا تكون المعاصى بإرادته تعالى وقيل هى علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله والحق أنها عبارة عن ترجيح أحد طرفى المقدور على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه أو معنى يوجبه وهى أعم من الاختيار فإنه ترجيح مع تفضيل وفى كلمة هذا تحقير للمشار إليه واسترذال له ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كما فى قوله تعالى (ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) وليس مرادهم بهذه العظيمة استفهام الحكمة فى ضرب المثل ولا القدح فى اشتماله على الفائدة مع اعترافهم بصدوره عنه جل وعلا بل غرضهم التنبيه بادعاء أنه من الدناءة والحقارة بحيث لا يليق بأن يتعلق به أمر من الأمور الداخلة تحت إرادته تعالى على استحالة أن يكون ضرب المثل به من عنده سبحانه فقوله عز من قائل. (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جواب عن تلك المقالة الباطلة ورد لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هى كونه ذريعة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين فى الغواية فوضع الفعلان موضع الفعل الواقع فى الاستفهام مبالغة فى الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية فى سلك الإرادة لإيهامه تساويهما فى تعلقهما وليس كذلك فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكر والاهتداء كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ونظائره وأما الإضلال فهو أمر عارض مترتب على سوء اختيارهم وأوثر صيغة الاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار وقيل وضع الفعلان موضع مصدريهما كأنه قيل أراد إضلال كثير وهداية كثير وقدم الإضلال على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوءهم ويفت فى أعضادهم وهو السر فى تخصيص هذه الفائدة بالذكر وقيل هو بيان للجملتين المصدرتين بأما وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق وكثرة كل فريق إنما هى بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم فلا يقدح فى


(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)

____________________________________

البقرة ذلك أقلية أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلال حسبما نطق به قوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ونحو ذلك واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافية لتكميل فائدة ضرب المثل وتكثيرها ويجوز أن يرادفى الأولين الكثرة من حيث العدد وفى الآخرين من حيث الفضل والشرف كما فى قول من قال[إن الكرام كثير فى البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا] وإسناد الإضلال أى خلق الضلال إليه سبحانه مبنى على أن جميع الأشياء مخلوقة له تعالى وإن كان أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم وجعله من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريح بالسبب وقرىء يضل به كثير ويهدى به كثير على البناء للمفعول وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقرير السببيه وتأكيدها. (وَما يُضِلُّ بِهِ) أى بالمثل أو بضربه. (إِلَّا الْفاسِقِينَ) عطف على ما قبله وتكملة للجواب والرد وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه وقرىء وما يضل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول والفسق فى اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها والفأرة من جحرها أى خرجت قال رؤبة[يذهبن فى نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا] وفى الشريعة الخروج عن طاعة الله عزوجل بارتكاب الكبيرة التى من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث الأولى التغابى وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها والثانية الانهماك فى تعاطيها والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذى عليه يدور الإيمان ولقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) والمعتزلة لما ذهبوا إلى أن الإيمان عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل والكفر عن تكذيب الحق وجحوده ولم يتسن لهم إدخال الفاسق فى أحدهما فجعلوه قسما بين قسمى المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما فى بعض أحكامه والمراد بالفاسقين ههنا العاتون الماردون فى الكفر الخارجون عن حدوده ممن حكى عنهم ما حكى من إنكار كلام الله تعالى والاستهزاء به وتخصيص الإضلال بهم مترتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذى أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر فى حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا. (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) صفة للفاسقين للذم وتقرير ما هم عليه من الفسق والنقض فسخ التركيب من المركبات الحسية كالحبل والغزل ونحوهما واستعماله فى إبطال العهد من حيث استعارة الحبل له لما فيه من ارتباط أحد كلامى المتعاهدين بالآخر فإن شفع بالحبل وأريد به العهد كان ترشيحا للمجاز وإن قرن بالعهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وتنبيها على مكانه وأن المذكور قد استعير له كما يقال شجاع يفترس أقرانه


(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٨) ٢ البقرة

____________________________________

وعالم يغترف منه الناس تنبيها على أنه أسد فى شجاعته وبحرفى إفاضته والعهد الموثق يقال عهد إليه كذا إذا وصاه به ووثقه عليه والمراد ههنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسوله عليه‌السلام وبه أول قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أو المعنى الظاهر منه أو المأخوذ من جهة الرسل عليهم‌السلام على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره وذكره فى الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه كما ينبئ عنه قوله عزوجل (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ونظائره وقيل عهود الله تعالى ثلاثة الأول ما أخذه على جميع ذرية آدم عليه‌السلام بأن يقروا على ربوبيته والثانى ما أخذه على الأنبياء عليهم‌السلام بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه والثالث ما أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه. (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الميثاق إما اسم لما يقع به الوثاقة والإحكام وإما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد بمعنى الوعد فعلى الأول إن رجع الضمير إلى العهد كان المراد بالميثاق ما وثقوه به من القبول والالتزام وإن رجع إلى لفظ الجلالة يراد به آياته وكتبه وإنذار رسله عليهم‌السلام والمضاف محذوف على الوجهين أى من بعد تحقق ميثاقه وعلى الثانى إن رجع الضمير إلى العهد والميثاق مصدر من المبنى للفاعل فالمعنى من بعد أن وثقوه بالقبول والالتزام أو من بعد أن وثقه الله عزوجل بإنزال الكتب وإنذار الرسل وإن كان مصدرا من المبنى للمفعول فالمعنى من بعد كونه موثقا إما بتوثيقهم إياه بالقبول وإما بتوثيقه تعالى إياه بإنزال الكتب وإنذار الرسل. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه وتعالى كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم‌السلام والكتب فى التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطى شر فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التى هى المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل مع العلو وقيل بالاستعلاء وبه سمى الأمر الذى هو واحد الأمور تسمية للمفعول بالمصدر فإنه مما يؤمر به كما يقال له شأن وهو القصد والطلب لما أنه أثر للشأن وكذا يقال له شىء وهو مصدر شاء لما أنه أثر للمشيئة ومحل أن يوصل إما النصب على أنه بدل من الموصول أو من ضميره والثانى أولى لفظا ومعنى. (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التى عليها يدور فلك نظام العالم وصلاحه. (أُولئِكَ) إشارة إلى الفاسقين باعتبار اتصافهم بما فصل من الصفات القبيحة وفيه إيذان بأنهم متميزون بها أكمل تميز ومنتظمون بسبب ذلك فى سلك الأمور المحسوسة وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلتهم فى الفساد. (هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن فى الآيات بالإيمان بها والتأمل فى حقائقها والاقتباس من أنوارها واشتراء النقض بالوفاء والفساد بالصلاح والقطيعة بالصلة والعقاب بالثواب. (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) التفات إلى خطاب المذكورين مبنى على إيراد ما عدد من


(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

____________________________________

قبائحهم السابقة لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع والاستفهام إنكارى لا بمعنى إنكار الوقوع كما فى قوله تعالى (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الخ بل بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه وفيه من المبالغة ما ليس فى توجيه الإنكار إلى نفس الكفر بأن يقال أتكفرون لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهانى وقوله عزوجل. (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى آخر الآية حال من ضمير الخطاب فى تكفرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما عدد فيها من الشئون العظيمة الداعية إلى الإيمان الرادعة عن الكفر من حيث كونها نعمة عامة ومن حيث دلالتها على قدرة تامة كقوله تعالى (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) وكيف منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش أى فى أى حال أو على أى حال تكفرون به تعالى والحال إنكم كنتم أمواتا أى أجساما لا حياة لها عناصر وأغذية ونطفا ومضغا مخلقة وغير مخلقة والأموات جمع ميت كأقوال جمع قيل وإطلاقها على تلك الأجسام باعتبار عدم الحياة مطلقا كما فى قوله تعالى (بَلْدَةً مَيْتاً) وقوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ). (فَأَحْياكُمْ) بنفخ الأرواح فيكم والفاء للدلالة على التعقيب فإن الإحياء حاصل إثر كونهم أمواتا وإن توارد عليهم فى تلك الحالة أطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما أشير إليه آنفا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أى عند انقضاء آجالكم وكون الإماتة من دلائل القدرة ظاهر وأما كونها من النعم فلكونها وسيلة إلى الحياة الثانية التى هى الحيوان والنعمة العظمى والتراخى المستفاد من كلمة ثم بالنسبة إلى زمان الإحياء دون زمان الحياة فإن زمان الإماتة غير متراخ عنه. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور يوم ينفخ فى الصور أو للسؤال فى القبور وأياما كان فهو متراخ من زمان الإماتة وإن كان أثر زمان الموت المستمر. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الحشر لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر أو إليه تنشرون من قبوركم للحساب وهذه الأفعال وإن كان بعضها ماضيا وبعضها مستقبلا لا يتسنى مقارنة شىء منها لما هو حال منه فى الزمان لكن الحال فى الحقيقة هو العلم المتعلق بها كأنه قيل كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعة منه ومآله التعجيب من وقوعه مع تحقق ما ينفيه وإنما نظم ما ينكرونه من الإحياء الأخير والرجع فى سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة تنزيلا لتمكنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعة منزلة العلم بذلك بالفعل فى إزاحة العلل والأعذار والحياة حقيقة فى القوة الحساسة أو ما يقتضيها وبها سمى الحيوان حيوانا مجاز فى القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فيما يخص الإنسان من العقل والعلم والإيمان من حيث أنه كمالها وغايتها والموت بإزائها يطلق على ما يقابل كل مرتبة من تلك المراتب قال تعالى (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وقال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وعند وصفه تعالى بها يراد صحة اتصافه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى مقتض لذلك وقرىء ترجعون بفتح التاء والأول هو الأليق بالمقام (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ


ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) تقرير للإنكار وتأكيد له من الحيثيتين المذكورتين غير سبكه عن سبك ما قبله مع اتحادهما فى المقصود إبانة لما بينهما من التفاوت فإن ما يتعلق بذواتهم من الإحياء والإماتة والحشر أدخل فى الحث على الإيمان والكف عن الكفر مما يتعلق بمعايشهم وما يجرى مجراها وفى جعل الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة ببيان كونه نافعا للمخاطبين وللتشويق إليه كما سلف أى خلق لأجلكم جميع ما فى الأرض من الموجودات لتنتفعوا بها فى أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وأمور دينكم بالاستدلال بها على شئون الصانع تعالى شأنه والاستشهاد بكل واحد منها على ما يلائمه من لذات الآخرة وآلامها وما يعم جميع ما فى الأرض لا نفسها إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو نعم يعم كل جزء من أجزائها فإنه من جملة ما فيها ضرورة وجود الجزء فى الكل وجميعا حال من الموصول الثانى مؤكدة لما فيه من العموم فإن كل فرد من أفراد ما فى الأرض بل كل جزء من أجزاء العالم له مدخل فى استمراره على ما هو عليه من النظام اللائق الذى عليه يدور انتظام مصالح الناس أما من جهة المعاش فظاهر وأما من جهة الدين فلما أنه ليس فى العالم شىء مما يتعلق به النظر وما لا يتعلق به إلا وهو دليل على القادر الحكيم جل جلاله كما مر فى تفسير قوله تعالى (رَبِّ الْعالَمِينَ) وإن لم يستدل به أحد بالفعل. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أى قصد إليها بإرادته ومشيئته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من إرادة خلق شىء آخر فى تضاعيف خلقها أو غير ذلك مأخوذ من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل وتخصيصه بالذكر ههنا إما لعدم تحققه فى خلق السفليات لما روى من تخلل خلق السموات بين خلق الأرض ودحوها عن الحسن رضى الله عنه خلق الله تعالى الأرض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان يلتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر فى موضعها وبسط منها الأرضين وذلك قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) وإما لإظهار كمال العناية بإبداع العلويات وقيل استوى استولى وملك والأول هو الظاهر وكلمة ثم للإيذان بما فيه من المزية والفضل على خلق السفليات لا للتراخى الزمانى فإن تقدمه على خلق ما فى الأرض المتأخر عن دحوها مما لا مرية فيه لقوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ولما روى عن الحسن والمراد بالسماء إما الأجرام العلوية فإن القصد إليها بالإرادة لا يستدعى سابقة الوجود وإما جهات العلو. (فَسَوَّاهُنَّ) أى أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونة عن العوج والفطور لا أنه تعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك ولا يخفى ما فى مقاربة التسوية والاستواء من حسن الموقع وفيه إشارة إلى أن لا تغيير فيهن بالنمو والذبول كما فى السفليات والضمير على الوجه الأول للسماء فإنها فى معنى الجنس وقيل هى جمع سماءة أو سماوة وعلى الوجه الثانى مهم يفسره قوله تعالى. (سَبْعَ سَماواتٍ) كما فى قولهم ربه رجلا وهو على الوجه الأول بدل من الضمير وتأخير ذكر هذا الصنع البديع عن ذكر خلق ما فى الأرض مع كونه أقوى منه فى الدلالة على كمال القدرة القاهرة كما نبه عليه لما أن المنافع المنوطة بما فى الأرض أكثر وتعلق مصالح الناس بذلك أظهر وإن كان فى إبداع العلويات أيضا من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يحصى هذا ما قالوا وسيأتى فى حم السجدة مزيد تحقيق وتفصيل بإذن الله تعالى. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اعتراض تذييلى مقرر لما قبله


(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٠)

____________________________________

من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوى على الحكم الفائقة والمصالح اللائقة فإن علمه عزوجل بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها بارزها وكامنها وما يليق بكل واحد منها يستدعى أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق وقرىء وهو بسكون الهاء تشبيها له بعضد. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) بيان لأمر آخر من جنس الأمور المتقدمة المؤكدة للإنكار والاستبعاد فإن خلق آدم عليه‌السلام وما خصه به من الكرامات السنية المحكية من أجل النعم الداعية لذريته إلى الشكر والإيمان الناهية عن الكفر والعصيان وتقرير لمضمون ما قبله من قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وتوضيح لكيفية التصرف والانتفاع بما فيها وتلوين الخطاب بتوجيه إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة للإيذان بأن فحوى الكلام ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقل كالأمور المشاهدة التى نبه عليها الكفرة بطريق الخطاب بل إنما طريقه الوحى الخاص به عليه‌السلام وفى التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام من الإنباء عن تشريفه عليه‌السلام ما لا يخفى وإذ ظرف موضوع لزمان نسبة ماضية وقع فيه نسبة أخرى مثلها كما أن إذا موضوع لزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى مثلها ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل وانتصابه بمضمر صرح بمثله فى قوله عزوجل (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) وقوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا وقيل ليس انتصابه على المفعولية بل على تأويل اذكر الحادث فيه بحذف المظروف وإقامة الظرف مقامه وأياما كان فهو معطوف على مضمر آخر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليه‌السلام غب ما أوحى إليه ما خوطب به الكفرة من الوحى الناطق بتفاصيل الأمور السابقة الزاجرة عن الكفر به تعالى ذكرهم بذلك واذكر لهم هذه النعمة ليتنبهوا بذلك لبطلان ما هم فيه وينتهوا عنه وأما ما قيل من أن المقدر هو اشكر النعمة فى خلق السموات والأرض أو تدبر ذلك فغير سديد ضرورة أن مقتضى المقام تذكير المخلين بمواجب الشكر وتنبيههم على ما يقتضيه وأين ذاك من مقامه الجليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل انتصابه بقوله تعالى (قالُوا) ويأباه أنه يقتضى أن يكون هو المقصود بالذات دون سائر القصة وقيل بما سبق من قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) ولا يخفى بعده وقيل بمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقكم إذ قال الخ ولا ريب فى أنه لا فائدة فى تقييد بدء الخلق بذلك الوقت وقيل بخلقكم أو بأحياكم مضمرا وفيه ما فيه وقيل إذ زائدة ويعزى ذلك إلى أبى عبيد ومعمر وقيل أنه بمعنى قد واللام فى قوله عز قائلا. (لِلْمَلائِكَةِ) للتبليغ وتقديم الجار والمجرور فى هذا الباب مطرد لما فى المقول من الطول غالبا مع ما فيه من


الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر كما مر مرارا والملائكة جمع ملك باعتبار أصله الذى هو ملأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل فى جمع شمأل والتاء لتأكيد تأنيث الجماعة واشتقاقه من ملك لما فيه من معنى الشدة والقوة وقيل على أنه مقلوب من مألك من الألوكة وهى الرسالة أى موضع الرسالة أو مرسل على أنه مصدر بمعنى المفعول فإنهم وسائط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسله عزوجل أو بمنزلة رسله عليهم‌السلام واختلفت العقلاء فى حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المتكلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك عليهم‌السلام وذهب الحكماء إلى أنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة فى الحقيقة وأنها أكمل منها قوة وأكثر علما تجرى منها مجرى الشمس من الأضواء منقسمة إلى قسمين قسم شأنهم الاستغراق فى معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره كما نعتهم الله عزوجل بقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم العليون المقربون وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض حسبما جرى عليه قلم القضاء والقدر وهم المدبرات أمرا فمنهم سماوية ومنهم أرضية وقالت طائفة من النصارى هى النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان ونقل فى شرح كثرتهم أنه عليه‌السلام قال أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع وروى أن بنى آدم عشر الجن وهما عشر حيوانات البر والكل عشر الطيور والكل عشر حيوانات البحار وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة ثم كل أولئك فى مقابلة ملائكة الكرسى نزر قليل ثم جميع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التى عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس وما منه من مقدار شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء فى مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة فى البحر ثم ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه‌السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه‌السلام لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفيات عباداتهم إلا بارئهم العليم الخبير على ما قال تعالى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وروى أنه عليه‌السلام حين عرج به إلى السماء رأى ملائكة فى موضع بمنزلة شرف يمشى بعضهم تجاه بعض فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام إلى أين يذهبون فقال جبريل لا أدرى إلا أنى أراهم منذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحدا منهم منذكم خلقت فقال لا أدرى غير أن الله عزوجل يخلق فى كل أربعمائة ألف سنة كوكبا وقد خلق منذ خلقنى أربعمائة ألف كوكب فسبحانه من إله ما أعظم قدره وما أوسع ملكوته واختلف فى الملائكة الذين قيل لهم ما قيل فقيل هم ملائكة الأرض وروى الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم المختارون مع إبليس حين بعثه الله عزوجل لمحاربة الجن حيث كانوا سكان الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء فقتلوهم إلا قليلا قد أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحار وقلل الجبال وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة فكان يعبد الله تعالى تارة فى الأرض


وتارة فى السماء وأخرى فى الجنة فأخذه العجب فكان من أمره ما كان وقال أكثر الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم فى أنهم كل الملائكة لعموم اللفظ وعدم المخصص وقوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فى حين النصب على أنه مقول قال وصيغة الفاعل بمعنى المستقبل ولذلك عملت عمله وفيها ما ليس فى صيغة المضارع من الدلالة على أنه فاعل ذلك لا محالة وهى من الجعل بمعنى التصيير المتعدى إلى مفعولين فقيل أولهما خليفة وثانيهما الظرف المتقدم على ما هو مقتضى الصناعة فإن مفعولى التصيير فى الحقيقة اسم صار وخبره أولهما الأول وثانيهما الثانى وهما مبتدأ وخبر والأصل فى الأرض خليفة ثم قيل صار فى الأرض خليفة ثم مصير فى الأرض خليفة فمعناه بعد اللتيا والتى إنى جاعل خليفة من الخلائف أو خليفة بعينه كائنا فى الأرض فإن خبر صار فى الحقيقة هو الكون المقدر العامل فى الظروف ولا ريب فى أن ذلك ليس مما يقتضيه المقام أصلا وإنما الذي يقتضيه هو الإخبار بجعل آدم خليفة فيها كما يعرب عنه جواب الملائكة عليهم‌السلام فإذن قوله تعالى (خَلِيفَةً) مفعول ثان والظرف متعلق بجاعل قدم على المفعول الصريح لما مر من التشويق إلى ما أخر أو بمحذوف وقع حالا مما بعده لكونه نكرة وأما المفعول الأول فمحذوف تعويلا على القرينة الدالة عليه كما فى قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) حذف فيه المفعول الأول وهو ضمير الأموال لدلالة الحال عليه وكذا فى قوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) حيث حذف فيه المفعول الأول لدلالة يبخلون عليه أى لا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم ولا ريب فى تحقيق القرينة ههنا أما إن حمل على الحذف عند وقوع المحكى فهى واضحة لوقوعه فى أثناء ذكره عليه‌السلام على ما سنفصله كأنه قيل إنى خالق بشرا من طين وجاعل فى الأرض خليفة وأما إن حمل على أنه لم يحذف هناك بل قيل مثلا وجاعل إياه خليفة فى الأرض لكنه حذف عند الحكاية فالقرينة ما ذكر من جواب الملائكة عليهم‌السلام قال العلامة الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) إن قلت كيف صح أن يقول لهم بشرا وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قلت وجهه أن يكون قد قال لهم إنى خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم انتهى. فحيث جاز الاكتفاء عند الحكاية عن ذلك التفصيل بمجرد الاسم من غير قرينة تدل عليه فما ظك بما نحن فيه ومعه قرينة ظاهرة ويجوز أن يكون من الجعل بمعنى الخلق المتعدى إلى مفعول واحد هو خليفة وحال الظرف فى التعلق والتقديم كما مر فحينئذ لا يكون ما سيأتى من كلام الملائكة مترتبا عليه بالذات بل بالواسطة فإنه روى أنه تعالى لما قال لهم إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال تعالى يكون له ذرية يفسدون فى الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا ما قالوا والله تعالى أعلم والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه فعيل بمعنى الفاعل والتاء للمبالغة والمراد به إما آدم عليه‌السلام وبنوه وإنما اقتصر عليه استغناء بذكره عن ذكرهم كما يستغنى عن ذكر القبيلة بذكر أبيها كمضر وهاشم ومنه الخلافة فى قريش وإما من يخلف أو خلف يخلف فيعمه عليه‌السلام وغيره من خلفاء ذريته والمراد بالخلافة إما الخلافة من جهته سبحانه فى إجراء أحكامه وتنفيد أوامره بين الناس وسياسة الخلق لكن لا لحاجة به تعالى إلى ذلك بل لقصور استعداد المستخلف عليهم وعدم لياقتهم لقبول الفيض بالذات فتختص


بالخواص من بنيه وإما الخلافة ممن كان فى الأرض قبل ذلك فتعم حينئذ الجميع (قالُوا) استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا قالت الملائكة حينئذ فقيل قالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وهو أيضا من الجعل المتعدى إلى اثنين فقيل فيهما ما قيل فى الأول والظاهر أن الأول كلمة من والثانى محذوف ثقة بما ذكر فى الكلام السابق كما حذف الأول ثمة تعويلا على ما ذكرهنا قال قائلهم[لا تخلنا على عزائك إنا طالما قد وشى بنا الأعداء] بحذف المفعول الثانى أى لا تخلنا جازعين على عزائك والمعنى أتجعل فيها من يفسد فيها خليفة والظرف الأول متعلق بتجعل وتقديمه لما مر مرارا والثانى بيفسد وفائدته تأكيد الاستبعاد لما أن فى استخلاف المفسد فى محل إفساده من البعد ما ليس فى استخلافه فى غيره هذا وقد جوز كونه من الجعل بمعنى الخلق المتعدى إلى مفعول واحد هو كلمة من وأنت خبير بأن مدار تعجبهم ليس خلق من يفسد فى الأرض كيف لا وأن ما يعقبه من الجملة الحالية الناطقة بدعوى أحقيتهم منه يقضى ببطلانه حتما إذ لا صحة لدعوى الأحقية منه بالخلق وهم مخلوقون بل مداره أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها بإجراء أحكام الله تعالى وأوامره أو يستخلف مكان المطبوعين على الطاعة من من شأن بنى نوعه الإفساد وسفك الدماء وهو عليه‌السلام وإن كان منزها عن ذلك إلا أن استخلافه مستتبع لاستخلاف ذريته التى لا تخلو عنه غالبا وإنما أظهروا تعجبهم استكشافا عما خفى عليهم من الحكم التى بدت على تلك المفاسد وألغتها واستخبارا عما يزيح شبهتهم ويرشدهم إلى معرفة ما فيهعليه‌السلام من الفضائل التى جعلته أهلا لذلك كسؤال المتعلم عما ينقدح فى ذهنه لا اعتراضا على فعل الله سبحانه ولا شكا فى اشتماله على الحكمة والمصلحة إجمالا ولا طعنا فيه عليه‌السلام ولا فى ذريته على وجه الغيبة فإن منصبهم أجل من أن يظن بهم أمثال ذلك قال تعالى (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وإنما عرفوا ما قالوا إما بإخبار من الله تعالى حسبما نقل من قبل أو بتلق من اللوح أو باستنباط عما ارتكز فى عقولهم من اختصاص العصمة بهم أو بقياس لأحد الثقلين على الآخر. (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) السفك والسفح والسبك والسكب أنواع من الصب والأولان مختصان بالدم بل لا يستعمل أولهما إلا فى الدم المحرم أى يقتل النفوس المحرمة بغير حق والتعبير عنه بسفك الدماء لما أنه أقبح أنواع القتل وأفظعه وقرىء يسفك بضم الفاء ويسفك ويسفك من أسفك وسفك وقرىء يسفك على البناء للمفعول وحذف الراجع إلى من موصولة أو موصوفة أى يسفك الدماء فيهم. (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) جملة حالية مقررة للتعجب السابق ومؤكدة له على طريقة قول من يجد فى خدمة مولاه وهو يأمر بها غيره أتستخدم العصاة وأنا مجتهد فيها كأنه قيل أتستخلف من من شأن ذريته الفساد مع وجود من ليس من شأنه ذلك أصلا والمقصود عرض أحقيتهم منهم بالخلافة واستفسار عما رجحهم عليهم مع ما هو متوقع منهم من الموانع لا العجب والتفاخر فكأنهم شعروا بما فيهم من القوة الشهوية التى رذيلتها الإفراطية الفساد فى الأرض والقوة الغضبية التى رذيلتها الإفراطية سفك الدماء فقالوا ما قالوا وذهلوا عما إذا سخرتهما القوة العقلية ومرنتهما على الخير يحصل بذلك من علو الدرجة ما يقصر عن بلوغ رتبة القوة العقلية عند انفرادها فى أفاعيلها كالإحاطة بتفاصيل أحوال الجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من


(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣١)

____________________________________

القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة والتسبيح تنزيه الله تعالى وتبعيده اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح فى الأرض والماء إذا أبعد فيهما وأمعن ومنه فرس سبوح أى واسع الجرى وكذلك تقديسه تعالى من قدس فى الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ويقال قدسه أى طهره فإن مطهر الشىء مبعده عن الأقذار والباء فى بحمدك متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير أى ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التى من جملتها توفيقنا لهذه العبادة فالتسبيح لإظهار صفات الجلال والحمد لتذكير صفات الإنعام واللام فى لك إما مزيدة والمعنى نقدسك وإما صلة للفعل كما فى سجدت لله وإما للبيان كما فى سقيالك فتكون متعلقة بمحذوف أى نقدس تقديسا لك أى نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وننزهك عما لا يليق بك وقيل المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك كأنهم قابلوا الفساد الذى أعظمه الإشراك بالتسبيح وسفك الدماء الذى هو تلويث النفس بأقبح الجرائم بتطهير النفس عن الآثام لا تمدحا بذلك ولا إظهارا للمنة بل بيانا للواقع (فَقالَ) استئناف كما سبق (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ليس المراد به بيان أنه تعالى يعلم ما لا يعلمونه من الأشياء كائنا ما كان فإن ذلك مما لا شبهة لهم فيه حتى يفتقروا إلى التنبيه عليه لا سيما بطريق التوكيد بل بيان أن فيه عليه الصلاة والسلام معانى مستدعية لاستخلافه إذ هو الذى خفى عليهم وبنوا عليه ما بنوا من التعجب والاستبعاد فما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن تلك المعانى والمعنى إنى أعلم ما لا تعلمونه من دواعى الخلافة فيه وإنما لم يقتصر على بيان تحققها فيه عليه‌السلام بأن قيل مثلا إن فيه ما يقتضيه من غير تعرض لإحاطته تعالى به وغفلتهم عنه تفخيما لشأنه وإيذانا بابتناء أمره تعالى على العلم الرصين والحكمة المتقنة وصدور قولهم عن الغفلة وقيل معناه إنى أعلم من المصالح فى استخلافه ما هو خفى عليكم وأن هذا إرشاد للملائكة إلى العلم بأن أفعاله تعالى كلها حسنة وحكمة وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة وأنت خبير بأنه مشعر بكونهم غير عالمين بذلك من قبل ويكون تعجبهم مبنيا على ترددهم فى اشتمال هذا الفعل لحكمة ما وذلك مما لا يليق بشأنهم فإنهم عالمون بأن ذلك متضمن لحكمة ما ولكنهم مترددون فى أنها ماذا هل هو أمر راجع إلى محض حكم الله عزوجل أو إلى فضيلة من جهة المستخلف فبين سبحانه وتعالى لهم أولا على وجه الإجمال والإبهام أن فيه فضائل غائبة عنهم ليستشرفوا إليها ثم أبرز لهم طرفا منها ليعاينوه جهرة ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته وينزاح شبهتهم بالكلية. (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) شروع فى تفصيل ما جرى بعد الجواب الإجمالى تحقيقا لمضمونه وتفسيرا لإبهامه وهو عطف على قال والابتداء بحكاية التعليم يدل بظاهره على أن ما مر من المقاولة المحكية إنما جرت بعد خلقه عليه‌السلام بمحضر منه وهو الأنسب بوقوف الملائكة على أحواله عليه‌السلام بأن قيل إثر نفخ الروح فيه إنى جاعل إياه خليفة فقيل ما قيل


كما أشير إليه وإيراده عليه‌السلام باسمه العلمى لزيادة تعيين المراد بالخليفة ولأن ذكره بعنوان الخلافة لا يلائم مقام تمهيد مباديها وهو اسم أعجمى والأقرب أن وزنه فاعل كشالخ وعاذر وعابر وفالغ لا أفعل والتصدى لاشتقاقه من الأذمة أو الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة أو من أديم الأرض بناء على ما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم ولذلك اختلفت ألوان ذريته أو من الأدم والأدمة بمعنى الألفة تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ويعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشىء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال واستعماله عرفا فى اللفظ الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما واصطلاحا فى المفرد الدال على معنى فى نفسه غير مقترن بالزمان والمراد ههنا إما الأول أو الثانى وهو مستلزم للأول إذ العلم بالألفاظ من حيث الدلالة على المعانى مسبوق بالعلم بها والتعليم حقيقة عبارة عن فعل يترتب عليه العلم بلا تخلف عنه ولا يحصل ذلك بمجرد إضافة المعلم بل يتوقف على استعداد المتعلم لقبول الفيض وتلقيه من جهته كما مر فى تفسير الهدى وهو السر فى إيثاره على الإعلام والإنباء فإنهما إنما يتوقفان على سماع الخبر الذى يشترك فيه البشر والملك وبه يظهر أحقيته بالخلافة منهم عليهم‌السلام لما أن جبلتهم غير مستعدة للإحاطة بتفاصيل أحوال الجزئيات الجسمانية خبرا فمعنى تعليمه تعالى إياه أن يخلق فيه إذ ذاك بموجب استعداده علما ضروريا تفصيليا بأسماء جميع المسميات وأحوالها وخواصها اللائقة بكل منها أو يلقى فى روعه تفصيلا أن هذا فرس وشأنه كيت وكيت وذاك بعير وحاله ذيت وذيت إلى غير ذلك من أحوال الموجودات فيتلقاها عليه‌السلام حسبما يقتضيه استعداده ويستدعيه قابليته المتفرعة على فطرته المنطوية على طبائع متباينة وقوى متخالفة وعناصر متغايرة قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير رضى الله تعالى عنهم عليه أسماء جميع الأشياء حتى القصعة والقصيعة وحتى الجفنة والمحلب وأنحى منفعة كل شىء إلى جنسه وقيل أسماء ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة وقيل معنى قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه‌السلام وقيل التعليم على ظاهره ولكن هناك جملا مطوية عطف عليها المذكور أى فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح وعلمه الخ (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) الضمير للمسميات المدلول عليها بالأسماء كما فى قوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) والتذكير لتغليب العقلاء على غيرهم وقرىء عرضهن وعرضها أى عرض مسمياتهن أو مسمياتها فى الحديث أنه تعالى عرضهم أمثال الذر ولعله عزوجل عرض عليهم من أفراد كل نوع ما يصلح أن يكون أنموذجا يتعرف منه أحوال البقية وأحكامها (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة فإن التصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن والإنباء إخبار فيه إعلام ولذلك يجرى مجرى كل منهما والمراد ههنا ما خلا عنه وإيثاره


(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٣٢)

____________________________________

على الإخبار للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها فإن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى فى زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته كما ينبئ عنه مقالكم والتصديق كما كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار فإن أدنى مراتب الاستحقاق هو الوقوف على أسماء ما فى الأرض وأما ما قيل من أن المعنى فى زعمكم أنى أستخلف فى الأرض مفسدين سفاكين للدماء فليس مما يقتضيه المقام وإن أول بأن يقال فى زعمكم أنى استخلف من غالب أمره الإفساد وسفك الدماء من غير أن يكون له مزية من جهة أخرى إذ لا تعلق له بأمرهم بالإنباء وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه (قالُوا) استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل فماذا قالوا حينئذ هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا فقيل قالوا (سُبْحانَكَ) قيل هو علم للتسبيح ولا يكاد يستعمل إلا مضافا وقد جاء غير مضاف على الشذوذ غير منصرف للتعريف والألف والنون المزيدتين كما فى قوله [سبحان من علقمة الفاخر] وأما ما فى قوله [سبحانه ثم سبحانا نعوذ به] فقيل صرفه للضرورة وقيل إنه مصدر منكر كغفران لا اسم مصدر ومعناه على الأول نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدس من الأمور التى من جملتها خلو أفعالك من الحكم والمصالح وعنوا بذلك تسبيحا ناشئا عن كمال طمأنينة النفس والإيقان باشتمال استخلاف آدم عليه‌السلام على الحكم البالغة وعلى الثانى تنزهت عن ذلك تنزها ناشئا عن ذاتك وأراد به أنهم قالوه عن إذعان لما عملوا إجمالا بأنه عليه‌السلام يكلف ما كلفوه وأنه يقدر على ما قد عجزوا عنه مما يتوقف عليه الخلافة وقوله عز وعلا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) اعتراف منهم بالعجز عما كلفوه إذ معناه لا علم لنا إلا ما عملمتناه بحسب فابليتنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قدرة بنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا حتى لو كنا مستعدين لذلك لأفضته علينا وما فى ما علمتنا موصولة حذف من صلتها عائدها أو مصدرية ولقد نفوا عنهم العلم بالأسماء على وجه المبالغة حيث لم يقتصروا على بيان عدمه بأن قالوا مثلا لا علم لنا بها بل جعلوه من جملة ما لا يعلمونه وأشعروا بأن كونه من تلك الجملة غنى عن البيان (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) الذى لا يخفى عليه خافية وهذا إشارة إلى تحقيقهم لقوله تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (الْحَكِيمُ) أى المحكم لمصنوعاته الفاعل لها حسبما يقتضيه الحكمة والمصلحة وهو خبر بعد خبر أو صفة للأول وأنت ضمير الفصل لا محل له من الإعراب أوله محل منه مشارك لما قبله كما قاله الفراء أو لما بعده كما قاله الكسائى وقيل تأكيد للكاف كما فى قولك مررت بك أنت وقيل مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن وتلك الجملة تعليل لما سبق من قصر علمهم بما علمهم الله تعالى وما يفهم من ذلك من علم آدم عليه‌السلام بما خفى عليهم فكأنهم قالوا أنت العالم بكل المعلومات التى من جملتها استعداد آدم عليه‌السلام لما نحن بمعزل من الاستعداد له من العلوم الخفية المتعلقة بما فى الأرض من أنواع المخلوقات التى عليها بدور فلك خلافة الحكيم الذى لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ومن جملته تعليم آدم عليه‌السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية والمعارف الجزئية المتعلقة بالأحكام الواردة على ما فى الأرض وبناء أمر الخلافة


(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٣٣)

____________________________________

عليها (قالَ) استئناف كما سلف (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أى أعلمهم أوثر على أنبئى كما وقع فى أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا وهو ظهور فضل آدم عليهم عليهم‌السلام إبانة لما بين الأمرين من التفاوت الجلى وإيذانا بأن علمه عليه‌السلام بها أمر واضح غير محتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان وأنه عليه‌السلام حقيق بأن يعلمها غيره وقرىء بقلب الهمزة ياء وبحذفها أيضا والهاء مكسورة فيهما (بِأَسْمائِهِمْ) التى عجزوا عن علمها واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) الفاء فصيحة عاطفة للجملة الشرطية على محذوف يقتضيه المقام وينسحب عليه الكلام للإيذان بتقرره وغناه عن الذكر وللإشعار بتحققه فى أسرع ما يكون كما فى قوله عزوجل (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) بعد قوله سبحانه (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) وإظهار الاسماء فى موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها والإيذان بأنه عليه‌السلام أنبأهم بها على وجه التفصيل دون الإجمال والمعنى فأنبأهم بأسمائهم مفصلة وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد فعلموا ذلك لما رأوا أنه عليه‌السلام لم يتلعثم فى شىء من التفاصيل التى ذكرها مع مساعدة ما بين الأسماء والمسميات من المناسبات والمشاكلات وغير ذلك من القرائن الموجبة لصدق مقالاته عليه‌السلام فلما أنبأهم بذلك (قالَ) عزوجل تقريرا لما مر من الجواب الإجمالى واستحضارا له (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لكن لا لتقرير نفسه كما فى قوله تعالى (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) ونظائره بل لتقرير ما يفيده من تحقق دواعى الخلافة فى آدم عليه‌السلام لظهور مصداقه وإيراد ما لا يعلمون بعنوان الغيب مضافا إلى السموات والأرض الممبالغة فى بيان كمال شمول علمه المحيط وغاية سعته مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم وعلم آدم عليه‌السلام من الأمور المتعلقة بأهل السموات وأهل الأرض وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون فيما سبق ما أشير إليه هناك كأنه قيل ألم أقل لكم إنى أعلم فيه من دواعى الخلافة ما لا تعلمونه فيه هو هذا الذى عاينتموه وقوله تعالى (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) عطف على جملة ألم أقل لكم لا على أعلم إذهو غير داخل تحت القول وما فى الموضعين موصولة حذف عائدها أى أعلم ما تبدونه وما تكتمونه وتغيير الأسلوب للإيذان باستمرار كتمهم قيل المراد بما يبدون قولهم أتجعل الخ وبما يكتمون استبطانهم أنهم أحقاء بالخلافة وأنه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم. روى أنه تعالى لما خلق آدم عليه‌السلام رأت الملائكة فطرته العجيبة وقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه وقيل هو ما أسره إبليس فى نفسه من الكبر وترك السجود فإسناد الكتمان حينئذ إلى الجميع من قبيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد من بينهم قالوا فى الآية الكريمة دلالة على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة وأن ذلك هو المناط للخلافة وأن التعليم يصح إطلاقه على الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه عادة


(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٣٤)

____________________________________

بمن يحترف به وأن اللغات توقيفية إذ الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو بعموم وتعليمها ظاهر فى إلقائها على المتعلم مبينا له معانيها وذلك يستدعى سابقة وضع وما هو إلا من الله تعالى وأن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم وإلالزم التكرار وأن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة والحكماء منعوا ذلك فى الطبقة العليا منهم وحملوا على ذلك قوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه عليه‌السلام أعلم منهم وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) عطف على الظرف الأول منصوب بما نصبه من المضمر أو بناصب مستقل معطوف على ناصبه عطف القصة على القصة أى واذكر وقت قولنا لهم وقيل بفعل دل عليه الكلام أى أطاعوا وقت قولنا الخ وقد عرفت ما فى أمثاله وتخصيص هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهر إيراده على منهاج ما قبله من الأقوال المحكية المتصلة به للإيذان بأن ما فى حيزه نعمة جليلة مستقلة حقيقة بالذكر والتذكير على حيالها والالتفات إلى التكلم لإظهار الجلالة وتربية المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال وكذا إظهار الملائكة فى موضع الإضمار والكلام فى اللام وتقديمها مع مجرورها على المفعول كما مر وقرىء بضم تاء الملائكة اتباعا لضم الجيم فى قوله تعالى (اسْجُدُوا لِآدَمَ) كما قرىء بكسر الدال فى قوله تعالى الحمد لله اتباعا لكسر اللام وهى لغة ضعيفة والسجود فى اللغة الخضوع والتطامن وفى الشرع وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة فقيل أمروا بالسجود له عليه‌السلام على وجه التحية والتكرمة تعظيما له واعترافا بفضله وأداء لحق التعليم واعتذارا عما وقع منهم فى شأنه وقيل أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما برأه أنموذجا للمبدعات كلها ونسخة منطوية على تعلق العالم الروحانى بالعالم الجسمانى وامتزاجهما على نمط بديع أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرته فاللام فيه كما فى قول حسان رضى الله عنه[أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن] أو فى قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) والأول هو الأظهر وقوله عزوجل (فَسَجَدُوا) عطف على قلنا والفاء لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال وعدم تلعثمهم فى ذلك روى عن وهب أن أول من سجد جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة عليهم‌السلام وقوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفانهم فغلبوا عليه فى فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم الجن كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو منهم أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين بالسجود له لكن استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم أو منقطع وهو اسم أعجمى ولذلك لم ينصرف ومن جعله مشتقا من الإبلاس وهو إلباس قال إنه مشبه بالعجمة حيث لم يسم به أحد فكان كالاسم الأعجمى واعلم أن الذى تقتضيه هذه الآية الكريمة والتى فى سورة الأعراف من قوله


تعالى (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الآية والتى فى سورة بنى إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) الآية أن سجود الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزى الوارد بعد خلقه وتسويته ونفخ الروح فيه البتة كما يلوح به حكاية امتثالهم بعبارة السجود دون الوقوع الذى به ورد الأمر التعليقى ولكن ما فى سورة الحجر من قوله عز وعلا (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وما فى سورة ص من قوله تعالى (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) إلى آخر الآية يستدعيان بظاهر هما ترتبه على ما فيهما من الأمر التعليقى من غير أن يتوسط بينهما شىء غير ما تفصح عنه الفاء الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخ الروح فيه عليه‌السلام وقد روى عن وهب أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير وتأويل الآيات السابقة بحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمر التعليقى بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون فى حكم التنجيز يأباه ما فى سورة الأعراف من كلمة ثم المنادية بتأخر ورود الأمر عن التصوير المتأخر عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقى والاعتذار بحمل التراخى على الرتبى أو التراخى فى الإخبار أو بأن الأمر التعليقى قبل تحقق المعلق به لما كان فى عدم إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه فحكى على صورة التنجيز يؤدى بعد اللتيا واللتى إلى أن ما جرى بينه وبينهم عليهم‌السلام فى شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة منزلته عليه‌السلام وخروج إبليس من البين باللعن المؤبد لعناده وبعد مشاهدتهم لذلك كله عيانا وهل هو إلا خرق لقضية العقل والنقل والالتجاء فى التفصى عنه إلى تأويل نفخ الروح بحمله على ما يعم إفاضة ما به حياة النفوس التى من جملتها تعليم الأسماء تعسف ينبئ عن ضيق المجال فالذى يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الأنيق بعد التصفح فى مستودعات الكتاب المكنون والتفحص عما فيه من السر المخزون أن سجودهم له عليه‌السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزى المتفرع على ظهور فضله عليه‌السلام المبنى على المحاورة المسبوقة بالإخبار بخلافته المنتظم جميع ذلك فى سلك ما نيط به الأمر التعليقى من التسوية ونفخ الروح إذ ليس من قضيته وجوب السجود عقيب نفخ الروح فيه فإن الفاء الجزائية ليست بنص فى وجوب وقوع مضمون الجزاء عقيب وجود الشرط من غير تراخ للقطع بعدم وجوب السعى عقيب النداء لقوله تعالى (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا) الآية وبعدم وجوب إقامة الصلاة غب الاطمئنان لقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بل إنما الوجوب عند دخول الوقت كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقى أثر ذى أثير إنما هى حمل الملائكة عليهم‌السلام على التأمل فى شأنه عليه‌السلام ليتدبروا فى أحواله طرا ويحيطوا بما لديه خبرا ويستفهموا ما عسى يستبهم عليهم فى أمره عليه‌السلام لابتنائه على حكم أبية وأسرار خفية طويت عن علومهم ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزى وتحتم الامتثال وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا وعدم نظم الأمر التنجيزى فى سلك الأمور المذكورة فى السورتين عند الحكاية لا يستلزم عدم انتظامه فيه عند وقوع المحكى كما أن عدم ذكر الأمر التعليقى عند حكاية الأمر التنجيزى


فى السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدم مسبوقيته به فإن حكاية كلام واحد على أساليب مختلفة حسبما يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام ليست بعزيزة فى الكتاب العزيز وناهيك بما نقل فى توجيه قوله تعالى (بُشْراً) مع عدم سبق معرفة الملائكة عليهم‌السلام بذلك وحيث صير إليه مع أنه لم يرد به نقل فما ظنك بما قد وقع التصريح به فى مواضع عديدة فلعله قد ألقى إليهم ابتداء جميع ما يتوقف عليه الأمر التنجيزى إجمالا بأن قيل مثلا إنى خالق بشرا من كذا وكذا وجاعل إياه خليفة فى الأرض فإذا سويته ونفخت فيه من روحى وتبين لكم شأنه فقعوا له ساجدين فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقى إليهم خبر الخلافة بعد تحقق الشرائط المعدودة بأن قيل أثر نفخ الروح فيه إنى جاعل هذا خليفة فى الأرض فهناك ذكروا فى حقه عليه‌السلام ما ذكروا فأيده الله عزوجل بتعليم الأسماء فشاهدوا منه ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر التنجيزى اعتناء بشأن المأمور به وتعيينا لوقته وقد حكى بعض الأمور فى بعض المواطن وبعضها فى بعضها اكتفاء بما ذكر فى كل موطن عما ترك فى موطن آخر والذى يحسم مادة الاشتباه أن ما فى سورة ص من قوله تعالى (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) الخ بدل من قوله تعالى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فيما قبله من قوله تعالى (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أى بكلامهم عند اختصامهم والمراد بالملأ الأعلى الملائكة وآدم عليهم‌السلام وإبليس حسبما أطبق عليه جمهور الأمة وباختصامهم ما جرى بينهم فى شأن خلافة آدم عليه‌السلام من التقاول الذى من جملته ما صدر عنه عليه‌السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوع الاختصام المذكور فى تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلا من الأمر التعليقى وما علق به من الخلق والتسوية ونفخ الروح فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكة عليهم‌السلام وعناد إبليس وما تبعه من لعنه وإخراجه من بين الملائكة وما جرى بعده من الأفعال والأقوال وإذ ليس تمام الاختصام بعد سجود الملائكة ومكابرة إبليس المستتبعة لطرده من بينهم لما عرفت من أنه أحد المختصمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة استحالة الإنباء بالأسماء حينئذ فهو إذن بعد نفخ الروح وقبل السجود حتما بأحد الطريقين والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباء الامتناع بالاختيار والتكبر أن يرى نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع أى امتنع عما أمر به واستكبر من أن يعظمه أو يتخذه وصلة فى عبادة ربه وتقديم الإباء على الاستكبار مع كونه مسببا عنه لظهوره ووضوح أثره واقتصر فى سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاء به وفى سورة الحجر على ذكر الإباء حيث قيل أبى أن يكون مع الساجدين (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أى فى علم الله تعالى إذ كان أصله من كفرة الجن فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فالجملة اعتراضية مقررة لما سبق من الإباء والاستكبار أو صار منهم باستقباح أمره تعالى إياه بالسجود لآدم عليه‌السلام زعما منه أنه أفضل منه والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالخضوع للمفضول كما يفصح عنه قوله أنا خير منه حين قيل له ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين لا بترك الواجب وحده فالجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الواو على الفاء للدلالة على أن محض الإباء والاستكبار كفر لا أنهما سببان له كما تفيد الفاء.


(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(٣٥)

____________________________________

(وَقُلْنا) شروع فى حكاية ما جرى بينه تعالى وبين آدم عليه‌السلام بعد تمام ما جرى بينه تعالى وبين الملائكة وإبليس من الأقوال والأفعال وقد تركت حكاية توبيخ إبليس وجوابه ولعنه واستظهاره وإنظاره اجتزاء بما فصل فى سائر السور الكريمة وهو عطف على قلنا للملائكة ولا يقدح فى ذلك اختلاف وقتيهما فإن المراد بالزمان المدلول عليه بكلمة إذ زمان ممتد واسع للقولين وقيل هو عطف على إذ قلنا بإضمار إذ وهذا تذكير لنعمة أخرى موجبة للشكر مانعة من الكفر وتصدير الكلام بالنداء فى قوله تعالى (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) للتنبيه على الاهتمام بتلقى المأمور به وتخصيص أصل الخطاب به عليه‌السلام للإيذان بأصالته فى مباشرة المأمور به واسكن من السكى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذى هو ضد الحركة وأنت ضمير أكد به المستكن ليصح العطف عليه واختلف فى وقت خلق زوجه فذكر السدى عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقى فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها ما أنت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إلى فقالت الملائكة تجربة لعلمه من هذه قال امرأة قالوا لم سميت امرأة قال لأنها من المرء أخذت فقالوا ما اسمها قال حواء قالوا لم سميت حواء قال لأنها خلقت من شىء حى وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال بعث الله تعالى جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة وهذا كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة والمراد بها دار الثواب لأنها المعهودة وقيل هى جنة بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه‌السلام وحمل الإهباط على النقل منها إلى أرض الهند كما فى قوله تعالى (اهْبِطُوا مِصْراً) لما أن خلقه عليه‌السلام كان فى الأرض بلا خلاف ولم يذكر فى هذه القصة رفعه إلى السماء ولو وقع ذلك لكان أولى بالذكر والتذكير لما أنه من أعظم النعم ولأنها لو كانت دار الخلد لما دخلها إبليس وقيل إنها كانت فى السماء السابعة بدليل اهبطوا ثم إن الإهباط الأول كان منها إلى السماء الدنيا والثانى منها إلى الأرض وقيل الكل ممكن والأدلة النقلية متعارضة فوجب التوقف وترك القطع (وَكُلا مِنْها) أى من ثمارها وإنما وجه الخطاب إليهما تعميما للتشريف والترفيه ومبالغة فى إزالة العلل والأعذار وإيذانا بتساويهما فى مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه‌السلام فى الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيه (رَغَداً) صفة للمصدر المؤكد أى أكلا واسعا رافها (حَيْثُ شِئْتُما) أى أى مكان أردتما منها وهذا كما ترى إطلاق كلى حيث أبيح لهما الأكل منها على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلل ولم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات حتى لا يبقى


(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٣٦)

____________________________________

لهما عذر فى تناول ما منعا منه بقوله تعالى (وَلا تَقْرَبا) بفتح الراء من قربت الشىء بالكسر أقربه بالفتح إذا التيست به وتعرضت له وقال الجوهرى قرب بالضم يقرب قربا إذا دنا وقربته بالكسر قربانا دنوت منه (هذِهِ الشَّجَرَةَ) نصب على أنه بدل من اسم الإشارة أو نعت له بتأويلها بمشتق أى هذه الحاضرة من الشجرة أى لا تأكلا منها وإنما علق النهى بالقربان منها مبالغة فى تحريم الأكل ووجوب الاجتناب عنه والمراد بها الحنطة أو العنبة أو التينة وقيل هى شجرة من أكل منها أحدث والأولى عدم تعيينها من غير قاطع وقرىء هذى بالياء وبكسر شين الشجرة وتاء تقربا وقرىء الشيرة بكسر الشين وفتح الياء (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) مجزوم على أنه معطوف على تقربا أو منصوب على أنه جواب للنهى وأياما كان فالقرب أى الأكل منها سبب لكونهما من الظالمين أى الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أى أصدر زلتهما أى زلقهما وحملهما على الزلة بسببها ونظيرة عن هذه ما فى قوله تعالى (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما وأبعدهما عنها يقال زل عنى كذا إذا ذهب عنك ويعضده قراءة أزالهما وهما متقاربان فى المعنى فإن الإزلال أى الإزلاق يقتضى زوال الزال عن موضعه البتة وإزلاله قوله لهما هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله مانها كما ربكما عن الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته لهما إنى لكما لمن الناصحين وهذه الآيات مشعرة بأنه عليه‌السلام لم يؤمر بسكنى الجنة على وجه الخلود بل على وجه التكرمة والتشريف لما قلد من خلافة الأرض إلى حين البعث إليها. واختلف فى كيفية توصله إليهما بعد ما قيل له اخرج منها فإنك رجيم فقيل إنه إنما منع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخلها الملائكة عليهم‌السلام ولم يمنع من الدخول للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء وقيل قام عند الباب فناداهما وقيل تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة وقيل دخل فى فم الحية فدخل معها وقيل أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم عند الله سبحانه (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أى من الجنة إن كان ضمير عنها للشجرة والتعبير عنها بذلك للإيذان بفخامتها وجلالتها وملابستهما له أى من المكان العظيم الذى كانا مستقرين فيه أو من الكرامة والنعيم إن كان الضمير للجنة (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء عليهما‌السلام بدليل قوله تعالى (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) وجمع الضمير لأنهما أصل الجنس فكأنهما الجنس كلهم وقيل لهما وللحية وإبليس على أنه أخرج منها ثانية بعد ما كان يدخلها للوسوسة أو يدخلها مسارقة أو اهبط من السماء وقرىء بضم الباء (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حال استغنى فيها عن الواو بالضمير أى متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله أو استئناف لا محل له من الإعراب وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ) التى هى محل الإهباط والظرف متعلق بما تعلق به الخبر أعنى لكم من


فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٨)

____________________________________

الاستقرار. (مُسْتَقَرٌّ) أى استقرار أو موضع استقرار (وَمَتاعٌ) أى تمتع بالعيش وانتفاع به. (إِلى حِينٍ) هو حين الموت على أن المغيا تمتع كل فرد من المخاطبين أو القيامة على أنه تمتع الجنس فى ضمن بعض الأفراد والجملة كما قبلها فى كونها حالا أى مستحقين للاستقرار والتمتع أو استئنافا. (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أى استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها ووفق لها وقرىء بنصب آدم ورفع كلمات دلالة على أنها استقبلته بلغته وهى قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية وقيل سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسى فاغفر لى إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال يا رب ألم تخلقنى بيدك قال بلى قال يا رب ألم تنفخ فى من روحك قال بلى قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال ألم تسكنى جنتك قال بلى قال يا رب إن تبت وأصلحت أراجعى أنت إلى الجنة قال نعم والفاء للدلالة على أن التوبة حصلت عقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليه عليه‌السلام للتشريف والإيذان بعليته لإلقاء الكلمات المدلول عليه بتلقيها. (فَتابَ عَلَيْهِ) أى رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة والفاء للدلالة على ترتبة على تلقى الكلمات المتضمن لمعنى التوبة التى هى عبارة عن الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على عدم العود إليه واكتفى بذكر شأن آدم عليه‌السلام لما أن حواء تبع له فى الحكم ولذلك طوى ذكر النساء فى أكثر مواقع الكتاب والسنة. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) أى الرجاع على عباده بالمغفرة أو الذى يكثر إعانتهم على التوبة وأصل التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية وإذا وصف به البارى عز وعلا أريد به الرجوع عن العقاب إلى المغفرة. (الرَّحِيمُ) المبالغ فى الرحمة وفى الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران والجملة تعليل لقوله تعالى (فَتابَ عَلَيْهِ). (قُلْنَا) استئناف مبنى على سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا وقع بعد قبول توبته فقيل قلنا. (اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) كرر الأمر بالهبوط إيذانا بتحتم مقتضاه وتحققه لا محالة ودفعا لما عسى يقع فى أمنيته عليه‌السلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن ذلك وإظهارا لنوع رأفة به عليه‌السلام لما بين الأمرين من الفرق النير كيف لا والأول مشوب بضرب سخط مذيل ببيان أن مهبطهم دار بلية وتعاد لا يخلدون فيها والثانى مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدى إلى النجاة والنجاح وأما ما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصدا أوليا بل إنما هو دائر على سوء اختيار المكلفين قيل وفيه تنبيه على أن الحازم يكفيه فى الردع عن مخالفة حكم الله تعالى مخافة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين فكيف بالمقترن بهما فتأمل وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والثانى منها إلى الأرض ويأباه التعرض لاستقرارهم فى الأرض فى الأول ورجوع الضمير


(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٩)

____________________________________

إلى الجنة فى الثانى وجميعا حال فى اللفظ وتأكيد فى المعنى كأنه قيل اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعى الاجتماع على الهبوط فى زمان واحد كما فى قولك جاءوا جميعا بخلاف قولك جاءوا معا (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به وإما مركبة من أن الشرطية وما المزيدة المؤكدة لمعناها والفعل فى محل الجزم بالشرط لأنه مبنى لاتصاله بنون التأكيد وقيل معرب مطلقا وقيل مبنى مطلقا والصحيح التفصيل إن باشرته النون بنى وإلا أعرب نحو هل يقومان وتقديم الظرف على الفاعل لما مر غير مرة والمعنى إن يأتينكم منى هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم وجواب الشرط قوله تعالى (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) كما فى قولك إن جئتنى فإن قدرت أحسنت إليك وإيراد كلمة الشك مع تحقق الإتيان لا محالة للإيذان بأن الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب بل يكفى فى وجوبه إفاضة العقل ونصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر والاستدلال أو للجرى على سنن العظماء فى إيراد عسى ولعل فى مواقع القطع والجزم والمعنى أن من تبع هداى منكم فلا خوف عليهم فى الدارين من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب أى لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلا بل يستمرون على السرور والنشاط كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال الله سبحانه وهيبته واستقصارا للجد والسعى فى إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يتوهم من كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما تقرر فى موضعه أن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وإظهار الهدى مضافا إلى ضمير الجلالة لتعظيمه وتأكيد وجوب اتباعه أو لأن المراد بالثانى ما هو أعم من الهدايات التشريعية وما ذكر من إفاضة العقل ونصب الأدلة الآفاقية والأنفسية كما قيل وقرىء هدى على لغة هذيل ولا خوف بالفتح. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) عطف على من تبع الخ قسيم له كأنه قيل ومن لم يتبعه وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعا لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشعار بكثرة الكفرة والجمع بين الكفر والتكذيب للإيذان بتنوع الهدى إلى ما ذكر من النوعين وإيراد نون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها أى والذين كفروا برسلنا المرسلة إليهم وكذبوا بآياتنا المنزلة عليهم وقيل المعنى كفروا بالله وكذبوا بآياته التى أنزلها على الأنبياء عليهم‌السلام أو أظهرها بأيديهم من المعجزات وقيل كفروا بالآيات جنانا وكذبوا بها لسانا فيكون كلا الفعلين متوجها إلى الجار والمجرور والآية فى الأصل العلامة الظاهرة قال النابغة[توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع] ويقال للمصنوعات من حيث دلالتها على الصانع تعالى وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل لأنها علامة لانفصال ما قبلها مما بعدها وقيل لأنها تجمع كلمات منه فيكون من قولهم خرج بنو فلان بآيتهم أى


(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٤٠)

____________________________________

بجماعتهم قال[خرجنا من البيتين لا حى مثلنا بآيتنا نزجى النعاج المطافلا] واشتقاقها من أى لأنها تبين أيا من أى أو من أوى إليه أى رجع وأصلها أوية أو أية فأبدلت عينها ألفا على غير قياس أو أوية أو أبية كرمكة فأعلت أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصوف باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة من الكفر والتكذيب وفيه إشعار بتميزهم بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ وقوله عزوجل (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها خبره والجملة خبر للموصول أو اسم الإشارة بدل من الموصول أو عطف بيان له وأصحاب النار خبر له وقوله تعالى (هُمْ فِيها خالِدُونَ) فى حيز النصب على الحالية لورود التصريح به فى قوله تعالى (أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها) وقد جوز كونه حالا من النار لاشتماله على ضميرها والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة أو فى محل الرفع على أنه خبر آخر لأولئك على رأى من جوز وقوع الجملة خبرا ثانيا وفيها متعلق بخالدون والخلود فى الأصل المكث الطويل وقد انعقد الإجماع على أن المراد به الدوام (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى طائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبنى آدم قاطبة بقوله تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) الخ وإذ قلنا للملائكة الخ لأن المعنى كما أشير إليه بلغهم كلامى واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفة فى الأرض ومسجودا للملائكة عليهم‌السلام وشرفناه بتعليم الأسماء وقبلنا توبته والإبن من البناء لأنه مبنى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال أبو الحرب وبنت فكر وإسرائيل لقب يعقوب عليه‌السلام ومعناه بالعبرية صفوة الله وقيل عبد الله وقرىء إسرائل بحذف الياء وإسرال بحذفهما وإسرايل بقلب الهمزة ياء وإسرائل بهمزة مفتوحة وإسرئل بهمزة مكسورة بين الراء واللام وتخصيص هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفر الناس نعمة وأكثرهم كفرا بها (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بالتفكر فيها والقيام بشكرها وفيه إشعار بأنهم قد نسوها بالكلية ولم يخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط وإضافة النعمة إلى ضمير الجلالة لتشريفها وإيجاب تخصيص شكرها به تعالى وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبول على حب النعمة فإذا نظر إلى ما فاض عليه من النعم حمله ذلك على الرضى والشكر قيل أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التى سيجىء تفصيلها وعليهم من فنون النعم التى أجلها إدراك عصر النبى عليه‌السلام وقرىء اذكروا من الافتعال ونعمتى بإسكان الياء وإسقاطها فى الدرج وهو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) بالإيمان والطاعة (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى كل واحد ممن يتولى طرفيه ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثانى إلى المفعول فإنه تعالى عهد إليهم بالإيمان والعمل الصالح


(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٤١)

____________________________________

بنصب الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتبه منا هو الإتيان بكلمتى الشهادة ومن الله تعالى حقن الدماء والأموال وآخرها منا الاستغراق فى بحر التوحيد بحيث نغفل عن أنفسنا فضلا عن غيرنا ومن الله تعالى الفوز باللقاء الدائم وأما ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أوفوا بعهدى فى اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوف بعهدكم فى رفع الآصار والأغلال وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيم المقيم فبالنظر إلى الوسائط وقيل كلاهما مضاف إلى المفعول والمعنى أوفوا بما عاهدتمونى من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة وتفصيل العهدين قوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ) الخ وقرىء أوف بالتشديد للمبالغة والتأكيد (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فيما تأتون وما تذرون خصوصا فى نقض العهد وهو آكد فى إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل إن كنتم راهبين شيئا فارهبونى والرهبة خوف معه تحرز والآية متضمنة للوعد والوعيد ودالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأن المؤمن ينبغى أن لا يخاف إلا الله تعالى. (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) أفرد الإيمان بالقرآن بالأمر به لما أنه العمدة القصوى فى شأن الوفاء بالعهود (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرر المراجعة إليها والوقوف على ما فى تضاعيفها المؤدى إلى العلم بكونه مصدقا لها ومعنى تصديقه للتوراة أنه نازل حسبما نعت فيها أو من حيث أنه موافق لها فى القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهى عن المعاصى والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها فى بعض جزئيات الأحكام المتفاوتة بسبب تفاوت الأعصار فليست بمخالفة فى الحقيقة بل هى موافقة لها من حيث أن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره وزمانه متضمن للحكم التى عليها يدور فلك التشريع وليس فى التوراة دلالة على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها وإنما تدل على مشروعيتها مطلقا من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هى ناطقة بنسخ تلك الأحكام فإن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها فإذن مناط المخالفة فى الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال عليه‌السلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعى وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم لتاكيد وجوب الامتثال بالأمر فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضى الإيمان بما يصدقه قطعا (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أى لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون شانه وحقيته بطريق التلقى مما معكم من الكتب الإلهية كما تعرفون أبناءكم وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون


(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤٢)

____________________________________

بزمانه كما سيجىء فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم ويجب عليكم ما لا يتوهم صدوره عنكم من كونكم أول كافر به ووقوع أول كافر به خبرا من ضمير الجمع بتاويل أول فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر به كقولك كسانا حلة ونهيهم عن التقدم فى الكفر به مع أن مشركى العرب أقدم منهم لما أن المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل لأن المراد نهيهم عن كونهم أول كافر من أهل الكتاب أو ممن كفر بما عنده فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركى مكة وأول أفعل لا فعل له وقيل أصله أو أل من وأل إليه إذا نجا وخلص فأبدلت الهمزة واوا تخفيفا غير قياسى أو أأول من آل فقلبت همزته واوا وأدغمت (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) أى لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها (ثَمَناً قَلِيلاً) من الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالنسبة إلى مافات عنهم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان قيل كانت لهم رياسة فى قومهم ورسوم وهدايا فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاختاروها على الإيمان وإنما عبر عن المشترى الذى هو العمدة فى عقود المعاوضة والمقصود فيها بالثمن الذى شأنه أن يكون وسيلة فيها وقرنت الآيات التى حقها أن يتنافس فيها المتنافسون بالباء التى تصحب الوسائل إيذانا بتعكيسهم حيت جعلوا ما هو المقصد الأصلى وسيلة والوسيلة مقصدا (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن حطام الدنيا ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادى لما فى الآية الثانية فصلت بالرهبة التى هى من مقدمات التقوى أو لأن الخطاب بها لما عم العالم والمقلد أمر فيها بالرهبة المتناولة للفريقين وأما الخطاب بالثانية فحيث خص بالعلماء أمر فيها بالتقوى الذى هو المنتهى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) عطف على ما قبله واللبس الخلط وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذى تخترعونه وتكتبونه حتى يشتبه أحدهما بالآخر أو لا تجعلوا الحق ملتبسا بسبب الباطل الذى تكتبونه فى تضاعيفه أو تذكرونه فى تأويله (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) مجزوم داخل تحت حكم النهى كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء عمن لم يسمعه أو منصوب بإضمار أن على أن الواو للجمع أى لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وبين كتمانه ويعضده أنه فى مصحف ابن مسعود وتكتمون أى وأنتم تكتمون أى كاتمين وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق وتكرير الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى كتموه وكتبوا مكانه غيره كما سيجىء فى قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) وإما لزيادة تقبيح المنهى عنه إذ فى التصريح باسم الحق ما ليس فى ضميره (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى حال كونكم عالمين بأنكم لا بسون كاتمون أو وأنتم تعلمون أنه حق أو وأنتم من أهل العلم وليس إيراد الحال لتقييد النهى به كما فى قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) بل لزيادة تقبيح حالهم إذ الجاهل عسى يعذر.


(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٤٤)

____________________________________

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أى صلاة المسلمين وزكاتهم فإن غيرهما بمعزل من كونه صلاة وزكاة أمرهم الله تعالى بفروع الإسلام بعد الأمر بأصوله (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أى فى جماعتهم فإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس فى المناجاة وعبر عن الصلاة بالركوع احترازا عن صلاة اليهود وقيل الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع قال الأضبط بن قريع السعدى[لا تحقرن الضعيف علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه] (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بعد توجيهه إلى الكل والهمزة فيها تقرير مع توبيخ وتعجيب والبر التوسع فى الخير من البر الذى هو الفضاء الواسع يتناول جميع أصناف الخيرات ولذلك قيل البر ثلاثة بر فى عبادة الله تعالى وبر فى مراعاة الأقارب وبر فى معاملة الأجانب (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أى تنركونها من البر كالمنسيات عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت فى أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يتبعونه طمعا فى الهدايا والصلات التى كانت تصل إليهم من أتباعهم وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وقال السدى إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية وقال ابن جريج كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم يتركونهما ومدار الإنكار والتوبيخ هى الجملة المعطوفة دون ما عطفت هى عليه (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) تبكيت لهم وتقريع كقوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى والحال أنكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآمرة بالإيمان به أو بالوعد بفعل الخير والوعيد على الفساد والعناد وترك البر ومخالفة القول العمل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أى أتتلونه فلا تعقلون ما فيه أو قبح ما تصنعون حتى ترتدعوا عنه فالإنكار متوجه إلى عدم العقل بعد تحقق ما يوجبه فالمبالغة من حيث الكيف أو ألا تتأملون فلا تعقلون فالإنكار متوجه إلى كلا الأمرين والمبالغة حينئذ من حيث الكم والعقل فى الأصل المنع والإمساك ومنه العقال الذى يشد به وظيف البعير إلى ذراعه لحبسه عن الحراك سمى به النور الروحانى الذى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبسه عن تعاطى ما يقبح ويعقله على ما يحسن والآية كما ترى ناعية على كل من يعظ غيره ولا يتعظ بسوء صنيعه وعدم تأثره وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالى عن العقل والمراد بها كما أشير إليه حثه على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحق فتقيم غيرها لا منع الفاسق عن الوعظ يروى أنه كان عالم من العلماء مؤثر الكلام قوى التصرف فى القلوب وكان كثيرا ما يموت من أهل مجلسه واحدا أو اثنان من شدة تأثير وعظه وكان فى بلده عجوز لها ابن صالح رقيق القلب سريع الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعه من حضور مجلس الواعظ فحضره يوما على حين غفلة منها فوقع من أمر الله تعالى ما وقع ثم إن العجوز لقيت الواعظ يوما فى الطريق فقالت [لتهدى الأنام


وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧)

____________________________________

ولا تهتدى(ألا إن ذلك لا ينفع)[فيا حجر الشحذ حتى متى تسن الحديد ولا تقطع فلما سمعه الواعظ شهق شهقة فخر من فرسه مغشيا عليه فحملوه إلى بيته فتوفى إلى رحمة الله سبحانه (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) متصل بما قبله كأنهم لما كلفوا ما فيه مشقة من ترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجح والفرج توكلا على الله تعالى أو بالصوم الذى هو الصبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف على العبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الحق وقراءة القرآن والتكلم بالشهادة وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب روى أنه عليه‌السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ويجوز أن يراد بها الدعاء (وَإِنَّها) أى الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر كما فى قوله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها (لَكَبِيرَةٌ) لثقيلة شاقة كقوله تعالى (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة والخضوع اللين والانقياد ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب وإنما لم تثقل عليهم لأنهم يتوقعون ما أعد لهم بمقابلتها فتهون عليهم ولأنهم يستغرقون فى مناجاة ربهم فلا يدركون ما يجرى عليهم من المشاق والمتاعب ولذلك قال عليه‌السلام وقرة عينى فى الصلاة والجملة حالية أو اعتراض تذييلى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أى يتوقعون لقاءه تعالى ونيل ما عنده من المثوبات والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للإيذان بفيضان إحسانه إليهم أو يتيقنون أنهم يحشرون إليه للجزاء فيعملون على حسب ذلك رغبة ورهبة وأما الذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجون الثواب ولا يخافون العقاب كانت عليهم مشقة خالصة فتثقل عليهم كالمنافقين والمرائين فالتعرض للعنوان المذكور للإشعار بعلية الربوبية والمالكية للحكم ويؤيده أن فى مصحف ابن مسعود رضى الله عنه يعلمون وكان الظن لما شابه العلم فى الرجحان أطلق عليه لتضمين معنى التوقع قال[فأرسلته مستيقن الظن أنه مخالط ما بين الشراسيف جائف] وجعل خبر أن فى الموضعين اسما للدلالة على تحقيق اللقاء والرجوع وتقررهما عندهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) عطف على نعمتى عطف الخاص على العام لكماله أى فضلت آباءكم (عَلَى الْعالَمِينَ) أى عالمى زمانهم بما منحتهم من العلم والإيمان والعمل الصالح وجعلتهم أنبياء وملوكا مقسطين وهم آباءهم


(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٤٩)

____________________________________

الذين كانوا فى عصر موسى عليه‌السلام وبعده قبل أن يغيروا (وَاتَّقُوا يَوْماً) أى حساب يوم أو عذاب يوم (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أى لا تقضى عنها شيئا من الحقوق فانتصاب شيئا على المفعولية أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية وقرىء لا تجتزىء أى لا تغنى عنها فيتعين النصب على المصدرية وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكلى والجملة صفة يوما والعائد منها محذوف أى لا تجزى فيه ومن لم يجوز الحذف قال اتسع فيه فحذف الجار وأجرى المجرور مجرى المفعول به ثم حذف كما حذف فى قول من قال [فما أدرى أغيرهم تناء وطول العهد أم مال أصابوا] أى أصابوه (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أى من النفس الثانية العاصية أو من الأولى والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا والعدل الفدية وقيل البدل وأصله التسوية سمى به الفدية لأنها تساوى المفدى وتجزى مجزاه (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أى يمنعون من عذاب الله عزوجل والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة فى سياق النفى من النفوس الكثيرة والتذكير لكونها عبارة عن العباد والأناسى والنصرة ههنا أخص من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر وكأنه أريد بالآية نفى أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل فإنه إما أن يكون قهرا أولا والأول النصرة والثانى إما أن يكون مجانا أولا والأول الشفاعة والثانى إما أن يكون بأداءعين ما كان عليه وهو أن يجزى عنه أو بأداء غيره وهو أن يعطى عنه عدلا وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفى الشفاعة لأهل الكبائر والجواب أنها خاصة بالكفار للآيات الواردة فى الشفاعة والأحاديث المروية فيها ويؤيده أن الخطاب معهم ولردهم عما كانوا عليه من اعتقاد أن أباءهم الأنبياء يشفعون لهم (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) تذكير لتفاصيل ما أجمل فى قوله تعالى (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) من فنون النعماء وصنوف الآلاء أى واذكروا وقت تنجيتنا إياكم أى آباءكم فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم وقرىء أنجيتكم وأصل آل أهل لأن تصغيره أهيل وخص بالإضافة إلى أولى الأخطار كالأنبياء عليهم‌السلام والملوك وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم وخاقان لملك الترك ولعتوه اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتمرد وكان فرعون موسى عليه‌السلام مصعب بن ريان وقيل ابنه وليدا من بقايا عاد وقيل إنه كان عطارا أصفهانيا ركبته الديون فأفلس فاضطر إلى الخروج فلحق بالشام فلم يتسن له المقام به فدخل مصر فرأى فى ظاهره حملا من البطيخ بدرهم وفى نفسه بطيخة بدرهم فقال فى نفسه إن تيسر لى أداء الدين فهذا طريقه فخرج إلى السواد فاشترى حملا


(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٠)

____________________________________

بدرهم فتوجه به إلى السوق فكل من لقيه من المكاسين أخذوا منه بطيخا فدخل البلد وما معه إلا بطيخة فذة باعها بدرهم ومضى لوجهه ورأى أهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى أحد سياستهم وكان قد وقع بهم وباء عظيم فتوجه نحو المقابر فرأى ميتا يدفن فتعرض لأوليائه فقال أنا أمين المقابر فلا أدعكم تدفنونه حتى تعطونى خمسة دراهم فدفعوها إليه ومضى لآخر وآخر حتى جمع فى مقدار ثلاثة أشهر ما لا عظيما ولم يتعرض له أحد قط إلى أن تعرض يوما لأولياء ميت فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فأبوا ذلك فقالوا من نصبك هذا المنصب فذهبوا به إلى فرعون فقال من أنت ومن أقامك بهذا المقام قال لم يقمنى أحد وإنما فعلت ما فعلت ليحضرنى أحد إلى مجلسك فأنبهك على اختلال حال قومك وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال فأحضره ودفعه إلى فرعون فقال ولنى أمورك ترنى أمينا كافيا فولاه إياها فساربهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر واستقامت أحوال الرعية ولبث فبهم دهرا طويلا وترامى أمره فى العدل والصلاح فلما مات فرعون أقاموه مقامه فكان من أمره ما كان وكان فرعون يوسف ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة (يَسُومُونَكُمْ) أى يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما وأصله الذهاب فى طلب الشىء (سُوءَ الْعَذابِ) أى أفظعه وأقبحه بالنسبة إلى سائره والسوء مصدر من ساء يسوء ونصبه على المفعولية ليسومونكم والجملة حال من الضمير فى نجيناكم أو من آل فرعون أو منهما جميعا لاشتمالها على ضميريهما (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) بيان ليسومونكم ولذلك ترك العطف بينهما وقرىء يذبحون بالتخفيف وإنما فعلوا بهم ما فعلوا لما أن فرعون رأى فى المنام أو أخبره الكهنة أنه سيولد منهم من يذهب بملكه فلم يرد اجتهادهم من قضاء الله عزوجل شيئا قيل قتلوا بتلك الطريقة تسعمائة ألف مولود وتسعين ألفا وقد أعطى الله عزوجل نفس موسى عليه‌السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة (وَفِي ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء منه وجمع الضمير للمخاطبين فعلى الأول معنى قوله تعالى (بَلاءٌ) محنة وبلية وكون استحياء نسائهم أى استبقائهن على الحياة محنة مع أنه عفو وترك للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال فى الأعمال الشاقة وعلى الثانى نعمة وأصل البلاء الاختبار ولكن لما كان ذلك فى حقه سبحانه محالا وكان ما يجرى مجرى الاختيار لعباده تارة بالمحنة وأخرى بالمنحة أطلق عليهما وقيل يجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد بالبلاء القدر المشترك الشامل لهما (مِنْ رَبِّكُمْ) من جهته تعالى بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه‌السلام وبتوفيقه لتخليصكم منهم أو بهما معا (عَظِيمٌ) صفة لبلاء وتنكيرهما للتفخيم وفى الآية الكريمة تنبيه على أن ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الاختبار فعليه الشكر فى المسار والصبر على المضار (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) بيان لسبب التنجية وتصوير لكيفيتها إثر تذكيرها وبيان عظمها وهو لها وقد بين فى تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هى الإنجاء من الغرق أى واذكروا إذ فلقناه بسلوككم أو متلبسا بكم كقوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أو بسبب إنجائكم وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك وقرىء


(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٢)

____________________________________

بالتشديد للتكثير لأن المسالك كانت انثى عشر بعدد الأسباط (فَأَنْجَيْناكُمْ) أى من الغرق بإخراجكم إلى الساحل كما يلوح به العدول إلى صيغة الأفعال بعد إيراد التخليص من فرعون بصيغة التفعيل وكذا قوله تعالى (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أريد فرعون وقومه وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم وقيل شخصه كما روى أن الحسن رضى الله عنه كان يقول اللهم صل على آل محمد أى شخصه واستغنى بذكره عن ذكر قومه. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك أو غرقهم وإطباق البحر عليهم أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة أو جثثهم التى قذفها البحر إلى الساحل أو ينظر بعضكم بعضا روى أنه تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يسرى ببنى إسرائيل فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده وصادفوهم على شاطئ البحر فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه بها فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا نخاف أن يغرق بعض أصحابنا فلا نعلم ففتح الله تعالى فيها كوى فتراءوا وتسامعوا حتى عبروا البحر فلما وصل إليه فرعون فرآه منفلقا اقتحمه هو وجنوده فغشيهم ما غشيهم واعلم أن هذه الواقعة كما أنها لموسى معجزة عظيمة تخر لها أطم الجبال ونعمة عظيمة لأوائل بنى إسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقتصاصها على ما هى عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالإذعان فلا تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروابتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها. (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لما عادوا إلى مصر بعد مهلك فرعون وعد الله موسى عليه‌السلام أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة وقيل وعد عليه‌السلام بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذى القعدة ثم زاد عشرا من ذى الحجة وعبر عنها بالليالى لأنها غرر الشهور وصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثى وقيل على أصلها تنزيلا لقبول موسى عليه‌السلام منزلة الوعد وأربعين ليلة مفعول ثان لواعدنا على حذف المضاف أى بمقام أربعين ليلة وقرىء وعدنا. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) بتسويل السامرى إلها ومعبودا وثم للتراخى الرتبى (مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد مضيه إلى الميقات على حذف المضاف. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) بإشراككم ووضعكم للشىء فى غير موضعه وهو حال من ضمير اتخذتم أو اعتراض تذييلى أى وأنتم قوم عادتكم الظلم. (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) حين تبتم والعفو محو الجريمة من عفاه درسه وقد يجىء لازما قال[عرفت المنزل الخالى عفا من بعد أحوال] [عفاه كل هتان كثير الوبل هطال] وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أى من بعد الاتخاذ الذى هو متناه فى القبح للإيذان بكمال بعد العفو بعد تلك المرتبة من الظلم. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكى تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.


(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

____________________________________

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) أى التوراة الجامعة بين كونها كتابا وحجة تفرق بين الحق والباطل وقيل أريد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل فى الدعوى أو بين الكفر والإيمان وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام أو النصر الذى فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يريد به يوم بدر. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكى تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) بيان لكيفية وقوع العفو المذكور. (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أى معبودا. (فَتُوبُوا) أى فاعزموا على التوبة. (إِلى بارِئِكُمْ) أى إلى من خلقكم بريئا من العيوب والنقصان والتفاوت وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة وأصل التركيب الخلوص عن الغير إما بطريق التفصى كما فى برىء المريض أو بطريق الإنشاء كما فى برأ الله آدم من الطين والتعرض لعنوان البارئية للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها حيت تركوا عبادة العليم الحكيم الذى خلقهم بلطيف حكمته بريئا من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر الذى هو مثل فى الغباوة وأن من لم يعرف حقوق منعمه حقيق بأن تستردهى منه ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب. (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تماما لتوبتكم بالبخع أو بقطع الشهوات وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا وقيل أمر من لم يعبد العجل بقتل من عبده. يروى أن الرجل كان يرى قريبه فلم يقدر على المضى لأمر الله تعالى فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون بها فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشى حتى دعا موسى وهارون عليهما‌السلام فكشفت السحابة ونزلت التوبة وكانت القتلى سبعين ألفا والفاء الأولى للتسبيب والثانية للتعقيب (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من التوب والقتل. (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) لما أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عطف على محذوف على أنه خطاب منه سبحانه على نهج الالتفات من التكلم الذى يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه فإن مبنى الجميع على التكلم إلى الغيبة ليكون ذريعة إلى إسناد الفعل إلى ضمير بارئكم المستتبع للإيذان بعلية عنوان البارئية والخلق والإحياء لقبول التوبة التى هى عبارة عن العفو عن القتل تقديره فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم وإنما لم يقل فتاب عليهم على أن الضمير للقوم لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم. هذا وقد جوز أن يكون فتاب عليكم متعلقا بمحذوف على أنه من كلام موسى عليه‌السلام لقومه تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ولا يخفى أنه بمعزل من اللياقة بجلالة شأن التنزيل كيف لا وهو حينئذ حكاية لوعد موسى عليه‌السلام قومه بقبول التوبة منه تعالى لا لقبوله تعالى حتما وقد عرفت أن الآية الكريمة تفصيل لكيفية القبول المحكى فيما قبل وأن المراد تذكير المخاطبين بتلك النعمة. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليل


(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

____________________________________

لما قبله أى الذى يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويبالغ فى قبولها منهم وفى الإنعام عليهم. (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) تذكير لنعمة أخرى عليهم بعد ما صدر عنهم ما صدر من الجناية العظيمة التى هى اتخاذ العجل أى لن نؤمن لأجل قولك ودعوتك أو لن نقرلك والمؤمن به إعطاء الله إياه التوراة أو تكليمه إياه أو أنه نبى أو أنه تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أى عيانا وهى فى الأصل مصدر قولك جهرت بالقراءة استعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد فى الوضوح والانكشاف إلا أن الأول فى المسموعات والثانى فى المبصرات ونصبها على المصدرية لأنها نوع من الرؤية أو حال من الفاعل أو المفعول وقرىء بفتح الهاء على أنها مصدر كالغلبة أو جمع كالكتبة فيكون حالا من الفاعل لا غير والقائلون هم السبعون المختارون لميقات التوبة عن عبادة العجل روى أنهم لما ندموا على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين أمر الله موسى عليه‌السلام أن يجمع سبعين رجلا ويحضر معهم الطور يظهرون فيه تلك التوبة فلما خرجوا إلى الطور وقع عليه عمود من الغمام وتغشاه كله فكلم الله موسى عليه‌السلام يأمره وينهاه وكان كلما كلمه تعالى أوقع على جبهته نورا ساطعا لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه وسمعوا كلامه تعالى مع موسى عليه‌السلام افعل ولا تفعل فعند ذلك طمعوا فى الرؤية فقالوا ما قالوا كما سيأتى فى سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وقيل عشرة آلاف من قومه (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه سبحانه وتعالى مما يشبه الأجسام وتتعلق به الرؤية تعلقها بها على طريق المقابلة فى الجهات والأحياز ولا ريب فى استحالته إنما الممكن فى شأنه تعالى الرؤية المنزهة عن الكيفيات بالكلية وذلك للمؤمنين فى الآخرة وللأفراد من الأنبياء الذين بلغوا فى صفاء الجوهر إلى حيث تراهم كأنهم وهم فى جلابيب من أبدائهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس فى بعض الأحوال فى الدنيا قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم وقيل صيحة وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة وعن وهب أنهم لم يموتوا بل لما رأوا تلك الهيئة الهائلة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك بكى موسى عليه‌السلام ودعا ربه فكشف الله عزوجل عنهم ذلك فرجعت إليهم عقولهم ومشاعرهم ولم تكن صعقة موسى عليه‌السلام موتا بل غشية لقوله تعالى (فَلَمَّا أَفاقَ (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أى ما أصابكم بنفسه أو بآثاره (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) بتلك الصاعقة قيد البعث به لما أنه قد يكون من الإغماء وقد يكون من النوم كما فى قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ) الخ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أى نعمة البعث أو ما كفرتموه بما رأيتم من بأس الله تعالى (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أى جعلناها بحيث تلقى عليكم ظلها وذلك أنه تعالى سخر


(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)(٥٨)

____________________________________

لهم السحاب يسير بسيرهم وهم فى التيه يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون فى ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) أى الترنجبين والسمانى وقيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع وتبعث الجنوب عليهم السمانى فيذبح الرجل منه ما يكفيه (فَكُلُوا) على إرادة القول أى قائلين لهم أو قيل لهم كلوا (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) من مستلذاته وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى (وَما ظَلَمُونا) كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز والإشعار بأنه أمر محقق غنى عن التصريح به أى فظلموا بأن كفروا تلك النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفران إذ لا يتخطاهم ضرره وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذى يقتضيه النفى السابق وفيه ضرب تهكم بهم والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على تماديهم فى الظلم واستمرارهم على الكفر (وَإِذْ قُلْنَا) تذكير لنعمة أخرى من جنابه تعالى وكفرة أخرى لأسلافهم أى واذكروا وقت قولنا لآبائكم أثر ما أنقذناهم من التيه (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) منصوبة على الظرفية عند سيبويه وعلى المفعولية عند الأخفش وهى بيت المقدس وقيل أريحاء (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أى واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين وفيه دلالة على أن المأمور به الدخول على وجه الإقامة والسكنى فيؤول إلى ما فى سورة الأعراف من قوله تعالى (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ). (وَادْخُلُوا الْبابَ) أى باب القرية على ما روى من أنهم دخلوا أريحاء فى زمن موسى عليه‌السلام كما سيجئ فى سورة المائدة أو باب القبة التى كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس فى حياة موسى عليه‌السلام (سُجَّداً) أى متطامنين مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه. (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أى مسئلتنا أو أمرك حطة وهى فعلة من الحط كالجلسة وقرىء بالنصب على الأصل بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة أو على أنها مفعول قولوا أى قولوا هذه الكلمة وقيل معناه أمرنا حطة أى أن نحط رحالنا فى هذه القرية ونقيم بها (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) لما تفعلون من السجود والدعاء وقرىء بالياء والتاء على البناء للمفعول وأصل خطايا خطايىء كخضايع فعند سيبويه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابا جعل الامتثال توبة للمسىء وسببا لزيادة الثواب للمحسن وأخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد إيذانا بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وأنه يفعله لا محالة.


(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

____________________________________

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بما أمروا به من التوبة والاستغفار بأن أعرضوا عنه وأوردوا مكانه (قَوْلاً) آخر مما لا خير فيه روى أنهم قالوا مكان حطة حنطة وقيل قالوا بالنبطية حطا سمقاثا يعنون حنطة حمراء استخفافا بأمر الله عزوجل (غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) نعت لقولا وإنما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على المغايرة من كل وجه (فَأَنْزَلْنا) أى عقيب ذلك (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بما ذكر من التبديل وإنما وضع الموصول موضع الضمير العائد إلى الموصول الأول للتعليل والمبالغة فى الذم والتقريع وللتصريح بأنهم بما فعلوا قد ظلموا أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أى عذابا مقدرا منها والتنوين للتهويل والتفخيم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم المستمر حسبما يفيده الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل وتعليل إنزال الرجز به بعد الإشعار بتعليله بظلمهم للإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو فى الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوه من القبائح لا بعدم توبتهم فقط كما يشعر به ترتيبه على ذلك بالفاء والرجز فى الأصل ما يعاف عنه وكذلك الرجس وقرىء بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون روى أنه مات به فى ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) تذكير لنعمة أخرى كفروها وكان ذلك فى التيه حين استولى عليهم العطش الشديد وتغيير الترتيب لما أشير إليه مرارا من قصد إبراز كل من الأمور المعدودة فى معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر ولو روعى الترتيب الوقوعى لفهم أن الكل أمر واحد أمر بذكره واللام متعلقة بالفعل أى استسقى لأجل قومه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) روى أنه كان حجرا طوريا مكعبا حمله معه وكان ينبع من كل وجه منه ثلاث أعين يسيل كل عين فى جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنى عشر ميلا أو كان حجرا أهبطه الله تعالى مع آدم عليه‌السلام من الجنة ووقع إلى شعيب عليه‌السلام فأعطاه موسى عليه‌السلام مع العصا أو كان هو الحجر الذى فر بثوبه حين وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله تعالى به عما رموه به من الأدرة فأشار إليه جبريل عليه‌السلام أن يحمله أو كان حجرا من الحجارة وهو الأظهر فى الحجة قيل لم يؤمر عليه‌السلام بضرب حجر بعينه ولكن لما قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها حمل حجرا فى مخلاته وكان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجر ويضربه إذا ارتحل فييبس فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشا فأوحى الله تعالى إليه أن لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون وقيل كان الحجر من رخام حجمه ذراع فى ذراع والعصا عشرة أذرع على طوله عليه‌السلام


(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

____________________________________

من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان فى الظلمة (فَانْفَجَرَتْ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام قد حذف للدلالة على كمال سرعة تحقق الانفجار كأنه حصل عقيب الأمر بالضرب أى فضرب فانفجرت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) وأما تعلق الفاء بمحذوف أى فإن ضربت فقد انفجرت فغير حقيق بجلالة شأن النظم الكريم كما لا يخفى على أحد وقرىء عشرة بكسر الشين وفتحها وهما أيضا لغتان (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط (مَشْرَبَهُمْ) عينهم الخاصة بهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) على إرادة القول (مِنْ رِزْقِ اللهِ) هو ما رزقهم من المن والسلوى والماء وقيل هو الماء وحده لأنه يؤكل ما ينبت به من الزروع والثمار ويأباه أن المأمور به أكل النعمة العتيدة لا ما سيطلبونه وإضافته إليه تعالى مع استناد الكل إليه خلقا وملكا إما للتشريف وإما لظهوره بغير سبب عادى وإنما لم يقل من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى (فَقُلْنَا) الخ إيذانا بأن الأمر بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخطاب بل بواسطة موسى عليه‌السلام (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) العثى أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا فى الفساد حال كونكم (مُفْسِدِينَ) وقيل إنما قيد به لأن العثى فى الأصل مطلق التعدى وإن غلب فى الفساد وقد يكون فى غير الفساد كما فى مقابلة الظالم المعتدى بفعله وقد يكون فيه صلاح راجح كقتل الخضر عليه‌السلام للغلام وخرقه للسفينة ونظيره العبث خلا أنه غالب فيما يدرك حسا (وَإِذْ قُلْتُمْ) تذكير لجناية أخرى لأسلافهم وكفرانهم لنعمة الله عزوجل وإخلادهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة والخساسة وإسناد القول المحكى إلى أخلاقهم وتوجيه التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) لعلهم لم يريدوا بذلك جمع ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة ولا زوالها وحصول ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرض للوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارة وذاك أخرى. روى أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية واطرادها وتاقت أنفسهم إلى الشقاء (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أى سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدم الصبر المدعاء والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادى الإجابة (يُخْرِجْ لَنا) أى يظهر لنا ويوجد والجزم لجواب الأمر (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) إسناد مجازى بإقامة القابل مقام الفاعل ومن تبعيضية والتى فى قوله تعالى (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) بيانية واقعة موقع الحال أى كائنا من بقلها الخ وقيل بدل بإعادة الجار والبقل ما تنبت الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التى تؤكل كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها والفوم الحنطة وقيل الثوم وقرىء قثائها بضم القاف وهو لغة فيه (قالَ) أى الله تعالى أو موسى عليه‌السلام


إنكارا عليهم وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال (أَتَسْتَبْدِلُونَ) أى أتأخذون لأنفسكم وتختارون (الَّذِي هُوَ أَدْنى) أى أقرب منزلة وأدون قدرا سهل المنال وهين الحصول لعدم كونه مرغوبا فيه وكونه تافها مرذولا قليل القيمة وأصل الدنو القرب فى المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة فقيل بعيد المحل وبعيد الهمة وقرىء أدنأ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أى بمقابلة ما هو خير فإن الباء تصحب الذاهب الزائل دون الآتى الحاصل كما فى التبديل فى مثل قوله عزوجل (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) وقوله (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) وليس فيه ما يدل قطعا على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى بالمرة وحصول ما لمبوا مكانه لتحقق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة (اهْبِطُوا مِصْراً) أمروا به بيانا لدناءة مطلبهم أو إسعافا لمرامهم أى انحدروا إليه من التيه يقال هبط الوادى وقرىء بضم الباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين وقيل أريد به العلم وإنما صرف لسكون وسطه أو لتأويله بالبلد دون المدينة ويؤيده أنه فى مصحف ابن مسعود رضى الله عنه غير منون وقيل أصله مصراييم فعرب (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) تعليل للأمر بالهبوط أى فإن لكم فيه ما سألتموه ولعل التعبير عن الأشياء المسئولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل فإنه كثير فيه مبتذل يناله كل أحد بغير مشقة (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أى جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقتابهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم من ضرب الطين على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية واليهود فى غالب الأمر أذلاء مساكين إما على الحقيقة وإما لخوف أن تضاعف جزيتهم (وَباؤُ) أى رجعوا (بِغَضَبٍ) عظيم وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف هو صفة لغضب مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى بغضب كائن من الله تعالى أو صاروا أحقاء به من قولهم باء فلان بفلان أى صار حقيقا بأن يقتل بمقابلته ومنه قول من قال بؤبشسع نعل كليب وأصل البوء المساواة (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ) على الاستمرار (بِآياتِ اللهِ) الباهرة التى هى المعجزات الساطعة الظاهرة على يدى موسى عليه‌السلام مما عد وما لم يعد (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) كشعيا وزكريا ويحيى عليهم‌السلام وفائدة التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحد منهم عليهم‌السلام وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى والغلو فى العصيان والاعتداء كما يفصح عنه قوله تعالى (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أى جرهم العصيان والتمادى فى العدوان إلى ما ذكر من الكفر وقتل الأنبياء عليهم‌السلام فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت إلى كبارها كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحرى كبارها وقيل كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما أنه بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصى واعتدائهم حدود الله تعالى وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدد بالمفرد بتأويل ما ذكر أو تقدم كما فى قول رؤبة بن العجاج[فيها خطوط من سواد وبلق كأنه فى الجلد توليع البهق] أى كان ما ذكر والذى حسن ذلك فى المضمرات والمبهمات


(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

____________________________________

أن تثنيتها وجمعها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذى بمعنى الذين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بألسنتهم فقط وهم المنافقون بقرينة انتظامهم فى سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا (وَالَّذِينَ هادُوا) أى تهودوا من هاد إذا دخل فى اليهودية ويهود إما عربى من هاد إذا تاب سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخصوا به لما كانت توبتهم توبة هائلة وإما معرب يهوذا كأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام (وَالنَّصارى) جمع نصران كندامى جمع ندمان يقال رجل نصران وامرأة نصرانة والياء فى نصرانى للمبالغة كما فى أحمرى سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه‌السلام أو لأنهم كانوا معه فى قرية يقال لها نصران فسموا باسمها أو نسبوا إليها والياء للنسبة وقال الخليل واحد النصارى نصرى كمهرى ومهارى (وَالصَّابِئِينَ) هم قوم بين النصارى والمجوس وقيل أصل دينهم دين نوح عليه‌السلام وقيل هم عبدة الملائكة وقيل عبدة الكواكب فهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج من دين إلى آخر وقرىء بالياء إما للتخفيف وإما لأنه من صبأ إذا مال لما أنهم مالوا من سائر الأديان إلى ما هم فيه أو من الحق إلى الباطل (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر (فَلَهُمْ) بمقابلة ذلك (أَجْرُهُمْ) الموعود لهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى مالك أمرهم ومبلغهم إلى كمالهم اللائق فمن إما فى محل الرفع على الابتداء خبره جملة فلهم أجرهم والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط كما فى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) الآية وجمع الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما فى الصلة باعتبار لفظه والجملة كما هى خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أى من آمن منهم الخ وإما فى محل النصب على البدلية من اسم إن وما عطف عليه وخبرها فلهم أجرهم وعند متعلق بما تعلق به لهم من معنى الثبوت وفى إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت مأمون من الفوات (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) عطف على جملة فلهم أجرهم أى لا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما مر من أن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام هذا وقد قيل المراد بالذين آمنوا المتدينون بدين الإسلام المخلصون منهم والمنافقون فحينئذ لابد من تفسير من آمن بمن اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين فى الإيمان ببيان أن تأخيرهم


(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)

____________________________________

فى الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين فى استحقاق الأجر وما يتبعه من الأمن الدائم وأما ما قيل فى تفسيره من كان منهم فى دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلا لأن مقتضى المقام هو الترغيب فى دين الإسلام وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه فلا ملابسة له بالمقام قطعا بل ربما يخل بمقتضاه من حيث دلالته على حقيته فى زمانه فى الجملة على أن المنافقين والصابئين لا يتسنى فى حقهم ما ذكر أما المنافقون فإن كانوا من أهل الشرك فالأمر بين وإن كانوا من أهل الكتاب فمن مضى منهم قبل النسخ ليسوا بمنافقين وأما الصابئون فليس لهم دين يجوز رعايته فى وقت من الأوقات ولو سلم أنه كان لهم دين سماوى ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه فليسوا من الصابئين فكيف يمكن ارجاع الضمير الرابط بين اسم إن وخبرها إليهم أو إلى المنافقين وارتكاب إرجاعه إلى مجموع الطوائف من حيث هو مجموع لا إلى كل واحدة منها قصدا إلى درج الفريق المذكور فيه ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من المنافقين والصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله على أن المخلصين مع اندارجهم فى حيز اسم إن ليس لهم فى حيز خبرها عين ولا أثر فتأمل وكن على الحق المبين (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) تذكير لجناية أخرى لأسلافهم أى واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما فى التوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) عطف على قوله أخذنا أو حال أى وقد رفعنا فوقكم الطور كأنه ظلة. روى أن موسى عليه‌السلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم فأبوا قبولها فأمر جبريل عليه‌السلام فقلع الطور فظلله عليهم حتى قبلوا (خُذُوا) على إرادة القول (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أى احفظوه ولا تنسوه أو تفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب أو اعملوا به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكى تتقوا المعاصى أو لتنجوا من هلاك الدارين أو رجاء منكم أن تنتظموا فى سلك المتقين أو طلبا لذلك وقد مر تحقيقه (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أى أعرضتم عن الوفاء بالميثاق (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أى المغبونين بالانهماك فى المعاصى والخبط فى مهاوى الضلال عند الفترة وقيل لو لا فضل تعالى عليكم بالإمهال وتأخير العذاب لكنتم من الهالكين وهو الأنسب بما بعده وكلمة لو لا إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وحرف النفى ومعناها امتناع الشىء لوجود غيره كما أن لو لامتناعه لامتناع غيره والاسم الواقع بعدها عند سيبويه مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب


(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٦٧)

____________________________________

مسده والتقدير لو لا فضل الله حاصل وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أى لو لا ثبت فضل الله تعالى عليكم (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أى عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) روى أنهم أمروا بأن يتمحضوا يوم السبت للعبادة ويتجردوا لها ويتركوا الصيد فاعتدى فيه أناس منهم فى زمن داود عليه‌السلام فاشتغلوا بالصيد وكانوا يسكنون قرية بساحل البحر يقال لها أيلة فإذا كان يوم السبت لم يبق فى البحر حوت إلا برز وأخرج خرطومه فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد فالمعنى وبالله لقد علمتموهم حين فعلوا من قبيل جناياتكم ما فعلوا فلم نمهلهم ولم نؤخر عقوبتهم بل عجلناها (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أى جامعين بين صورة القردة والخسوء وهو الطرد والصغار على أن خاسئين نعت لقردة وقيل حال من اسم كونوا عند من يجيز عمل كان فى الظروف والحال وقيل من الضمير المستكن فى قردة لأنه فى معنى ممسوخين وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار فى قوله تعالى (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) والمراد بالأمر بيان سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراده عزوجل وقرىء قردة بفتح القاف وكسر الراء وخاسين بغير همز (فَجَعَلْناها) أى المسخة والعقوبة (نَكالاً) عبرة تنكل المعتبر بها أى تمنعه وتردعه ومنه النكل للقيد (لِما بَيْنَ يَدَيْها) (وَما خَلْفَها) لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم فى زبر الأولين واشتهرت قصصهم فى الآخرين أو لمعاصريهم ومن بعدهم أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) من قومهم أو لكل متق سمعها (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) توبيخ آخر لإخلاف بنى إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت عن أسلافهم أى واذكروا وقت قول موسى عليه‌السلام لأجدادكم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وسببه أنه كان فى بنى إسرائيل شيخ موسر فقتله بنو عمه طمعا فى ميراثه فطرحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا فيخبرهم بقاتله (قالُوا) استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا فقيل قالوا (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) بضم الزاء وقلب الهمزة واوا وقرىء بالهمزة مع الضم والسكون أى أتجعلنا مكان هزؤ أو أهل هزؤ أو مهزوءا بنا أو الهزؤ نفسه استبعادا لما قاله واستخفافا به (قالَ) استئناف كما سبق (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن الهزؤ فى أثناء تبليغ أمر الله سبحانه جهل وسفه نفى عنه عليه‌السلام


(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)(٦٩)

____________________________________

ما توهموه من قبله على أبلغ وجه وآكده بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه استفظاعا له واستعظاما لما أقدموا عليه من العظيمة التى شافهوه عليه‌السلام بها (قالُوا) استئناف كما مر كأنه قيل فماذا قالوا بعد ذلك فقيل توجهوا نحو الامتثال وقالوا (ادْعُ لَنا) أى لأجلنا (رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ما مبتدأ وهى خبره والجملة فى حيز النصب يبين أى يبين لنا جواب هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لما قرع أسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فإن ما وإن شاعت فى طلب مفهوم الاسم والحقيقة كما فى ما الشارحة والحقيقة لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال طبيب أو عالم وقيل كان حقه أن يستفهم بأى لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنسا على حياله (قالَ) أى موسى عليه‌السلام بعد ما دعا ربه عزوجل بالبيان وأتاه الوحى (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها) أى البقرة المأمور بذبحها (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) أى لا مسنة ولا فتية يقال فرضت البقرة فروضا أى أسنت من الفرض بمعنى القطع كأنها قطعت سنها وبلغت آخرها وتركيب البكر للأولية ومنه البكرة والباكورة (عَوانٌ) أى نصف لا قحم ولا ضرع قال[طوال مثل أعناق الهوادى نواعم بين أبكار وعون] (بَيْنَ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك أضيف إليه بين لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد (فَافْعَلُوا) أمر من جهة موسى عليه‌السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به (ما تُؤْمَرُونَ) أى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به كما فى قوله [أمرتك الخير فافعل ما أمرت به] فإن حذف الجار قد شاع فى هذا الفعل حتى لحق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين وهذا الأمر منه عليه‌السلام لحثهم على الامتثال وزجرهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به وقوله تعالى (قالُوا) استئناف كما مر كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافى والأمر المكرر فقيل قالوا (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) حتى يتبين لنا البقرة المأمور بها (قالَ) أى موسى عليه‌السلام بعد المناجاة إلى الله تعالى ومجىء البيان (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) إسناد البيان فى كل مرة إلى الله عزوجل لإظهار كمال المساعدة فى إجابة مسئولهم بقولهم يبين لنا وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها ولذلك يؤكد به ويقال أصفر فاقع كما يقال أسود حالك وأحمر قانىء وفى إسناده إلى اللون مع كونه من أحوال الملون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد كأنه قيل صفراء شديد الصفرة صفرتها كما فى جد جده وعن الحسن رضى الله عنه سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى


(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٧١)

____________________________________

(جِمالَتٌ صُفْرٌ) قيل ولعل التعبير عن السواد بالصفر لما أنها من مقدماته وإما لأن سواد الإبل يعلوه صفرة ويأباه وصفها بقوله تعالى (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) كما يأباه وصفها بفقوع اللون والسرور لذة فى القلب عند حصول نفع أو توقعه من السر عن على رضى الله عنه من لبس نعلا صفراء قل همه (قالُوا) استئناف كنظائره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) زيادة استكشاف عن حالها كأنهم سألوا بيان حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها فى الأوصاف المذكورة والأحوال المشروحة فى أثناء البيان ولذلك عللوه بقولهم (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) يعنون أن الأوصاف المعدودة يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدى بها إلى تشخيص ما هو المأمور بها ولذلك لم يقولوا إن البقرة تشابهت إيذان بأن النعوت المعدودة ليست بمشخصة للمأمور بها بل صادقة على سائر أفراد الجنس وقرىء إن الباقر وهو اسم لجماعة البقر والأباقر والبواقر ويتشابه بالياء والتاء ويشابه بطرح التاء والإدغام على التذكير والتأنيث وتشابهت مخففا ومشددا وتشبه بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبه ومتشبهة وفيه دلالة على أنهم ميزوها عن بعض ما عداها فى الجملة وإنما بفى اشتباه بشرف الزوال كما ينبئ عنه قولهم (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) مؤكدا بوجوه من التوكيد أى لمهتدون بما سألنا من البيان إلى المأمور بذبحها وفى الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أى لم تذلل للكراب وسقى الحرث ولا ذلول صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ولا الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية وقرىء لا ذلول بالفتح أى حيث هى كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان أى حيث هو وقرىء تسقى من أسقى (مُسَلَّمَةٌ) أى سلمها الله تعالى من العيوب أو أهلها من العمل أو خلص لها لونها من سلم له كذا إذا خلص له ويؤيده قوله تعالى (لا شِيَةَ فِيها) أى لا لون فيها يخالف لون جلدها حتى قرنها وظلفها وهى فى الأصل مصدر وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر (قالُوا) عند ما سمعوا هذه النعوت (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أى بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ولم يبق لنا فى شأنها اشتباه أصلا بخلاف المرتين الأوليين فإن ما جئت به فيهما لم يكن فى التعيين بهذه المرتبة ولعلهم كانوا قبل ذلك قد رأوها ووجدوها جامعة لجميع ما فصل من الأوصاف المشروحة فى المرات الثلاث من غير مشارك لها فيما عد فى المرة الأخيرة وإلا فمن أين عرفوا اختصاص النعوت الأخيرة بها دون غيرها وقرىء آلآن بالمد على الاستفهام والآن بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام (فَذَبَحُوها) الفاء فصيحة كما فى فانفجرت أى فحصلوا البقرة فذبحوها (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) كاد


(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٧٢)

____________________________________

من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر من الحصول والجملة حال من ضمير ذبحوا أى فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه أو اعتراض تذييلى ومآله استثقال استعصائهم واستبطاء لهم وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهى خيط إسهابهم فيها. قيل مضى من أول الأمر إلى الامتثال أربعون سنة وقيل وما كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها. روى أنه كان فى بنى إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللهم إنى استودعتكها لابنى حتى يكبرو كان برا بوالديه فتوفى الشيخ وشبت العجلة فكانت من أحسن البقر وأسمنها فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا لما كانت وحيدة بالصفات المذكورة وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير واعلم أنه لا خلاف فى أن مدلول ظاهر النظم الكريم بقرة مطلقة مبهمة وأن الامتثال فى آخر الأمر إنما وقع بذبح بقرة معينة حتى لو ذبحوا غيرها ما خرجوا عن عهدة الأمر لكن اختلف فى أن المراد المأمور به أثر ذى أثير هل هى المعينة وقد أخر البيان عن وقت الخطاب أو المبهمة ثم لحقها التغيير إلى المعنية بسبب تثاقلهم فى الامتثال وتماديهم فى التعمق والاستكشاف فذهب بعضهم إلى الأول تمسكا بأن الضمائر فى الأجوبة أعنى إنها بقرة إلى آخره للمعينة قطعا ومن قضيته أن يكون فى السؤال أيضا كذلك ولا ريب فى أن السؤال إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكون هى المعينة وهو مدفوع بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس من الصفات والخواص فسألوا عنها فرجعت الضمائر إلى المعينة فى زعمهم واعتقادهم فعينها الله تعالى تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد من أول الأمر هى المعينة والحق أنها كانت فى أول الأمر مبهمة بحيث لو ذبحوا أية بقرة كانت لحصل الامتثال بدلالة ظاهر النظم الكريم وتكرير الأمر قبل بيان اللون وما بعده من كونها مسلمة الخ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم وروى مثله عن رئيس المفسرين عبد الله بن عباس رضى الله عنهما ثم رجع الحكم الأول منسوخا بالثانى والثانى بالثالث تشديدا عليهم لكن لا على وجه ارتفاع حكم المطلق بالكلية وانتقاله إلى المعين بل على طريقة تقييده وتخصيصه به شيئا فشيئا كيف لا ولو لم يكن كذلك لما عدت مراجعاتهم المحكية من قبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثال بالأمر بدون الوقوف على المأمور به مما لا يكاد يتسنى فتكون سؤالاتهم من باب الاهتمام بالامتثال (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) منصوب بمضمر كما مرت نظائره والخطاب للبهود المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسناد القتل والتدارؤ إليهم لما مر من نسبة جنايات الأسلاف إلى الأخلاف توبيخا وتقريعا وتخصيصهما بالإسناد دون ما مر من هناتهم لظهور قبح القتل وإسناده إلى الغير أى اذكروا وقت قتلكم نفسا محرمة (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أى تخاصمتم فى شأنها إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر أو تدافعنم بأن طرح كل واحد قتلها إلى آخر وأصله ئدارأتم فأدغمت الناء فى الدال واجتلبت لها همزة الوصل (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أى مظهر لما تكتمونه لا محالة والجمع


(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٧٣)

____________________________________

بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار وإنما أعمل مخرج لأنه حكاية حال ماضية (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) عطف على فادارأتم وما بينهما اعتراض والالتفات لتربية المهابة والضمير للنفس والتذكير باعتبار أنها عبارة عن الرجل أو بتأويل الشخص أو القتيل (بِبَعْضِها) أى ببعض البقرة أى بعض كان وقيل بأصغريها وقيل بلسانها وقيل بفخذها اليمنى وقيل بأذنها وقيل بعجبها وقيل بالعظم الذى يلى الغضروف وهذا أول القصة كما ينبئ عنه الضمير الراجع إلى البقرة كأنه قيل وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها وإنما غير الترتيب عند الحكاية لتكرير التوبيخ وتثنية التقريع فإن كل واحد من قتل النفس المحرمة والاستهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والافتيات على أمره وترك المسارعة إلى الامتثال به جناية عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها ولو حكيت القصة على ترتيب الوقوع لما علم استقلال كل منها بما يخص بها من التوبيخ وإنما حكى الأمر بالذبح عن موسى عليه‌السلام مع أنه من الله عزوجل كالأمر بالضرب لما أن جناياتهم كانت بمراجعتهم إليه عليه‌السلام والافتيات على رأيه (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) على إرادة قول معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى فضربوه فحيى وقلنا كذلك يحيى الخ فحذفت الفاء الفصيحة فى فحيى مع ما عطف بها وما عطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطاب فى كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل ويجوز أن يكون ذلك للحاضرين عند نزول الآية الكريمة فلا حاجة حينئذ إلى تقدير القول بل تنتهى الحكاية عند قوله تعالى (بِبَعْضِها) مع ما قدر بعده فالجملة معترضة أى مثل ذلك الإحياء العجيب يحيى الله الموتى يوم القيامة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ودلائله الدالة على أنه تعالى على كل شىء قدير ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضوميت وإخباره بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أى لكى تكمل عقولكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها أو تعلموا على قضية عقولكم ولعل الحكمة فى اشتراط ما اشترط فى الإحياء مع ظهور كمال قدرته على إحيائه ابتداء بلاواسطة أصلا اشتماله على التقرب إلى الله تعالى وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل على الله تعالى والشفقة على الأولاد ونفع بر الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ومن حق المتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالى بثمنه كما يروى عن عمر رضى الله عنه أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلثمائة دينار وأن المؤثر هو الله تعالى وإنما الأسباب أمارات لا تأثير لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوه الساعى فى إماتته الموت الحقيقى فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التى هى قوته الشهوية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة فى طلب الدنيا مسلمة عن دنسها لاسمة بها من قبائحها بحيث يتصل أثره إلى نفسه فيحيا بها حياة طيبة ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والجدال (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) الخطاب لمعاصرى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقسوة عبارة عن الغلظ والجفاء والصلابة كما فى الحجر استعيرت لنبو قلوبهم عن التأثر


(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

____________________________________

بالعظات والقوارع التى تميع منها الجبال وتلين بها الصخور وإيراد الفعل المفيد لحدوث القساوة مع أن قلوبهم لم تزل قاسية لما أن المراد بيان بلوغهم إلى مرتبة مخصوصة من مراتب القساوة حادثة وإما لأن الاستمرار على شىء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه أمر جديد وصنع حادث وثم لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها كقوله تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من إحياء القتيل أو إلى جميع ما عدد من الآيات الموجبة للين القلوب وتوجيهها نحو الحق أى من بعد سماع ذلك وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته وعلو طبقته وتوحيد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين إما بتأويل الفريق أو لأن المراد مجرد الخطاب لا تعيين المخاطب كما هو المشهور (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) فى القساوة (أَوْ أَشَدُّ) منها (قَسْوَةً) أى هى فى القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها أو أنها مثلها أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويعضده القراءة بالجر عطفا على الحجارة وإيراد الجملة اسمية مع كون ما سبق فعلية للدلالة على استمرار قساوة قلوبهم والفاء إما لتفريع مشابهتها لها على ما ذكر من القساوة تفريع التشبيه على بيان وجه الشبه فى قولك احمر خده فهو كالورد وإما للتعليل كما فى قولك اعبد ربك فالعبادة حق له وإنما لم يقل أو أقسى منها لما فى التصريح بالشدة من زيادة مبالغة ودلالة ظاهرة على اشتراك القسوتين فى الشدة واشتمال المفضل على زيادة وأو للتخيير أو للترديد بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هى أقسى من الحجارة وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة فى القساوة وعدم التأثر واستحالة صدور الخير منها يعنى أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ) أى يتشقق (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) أى العيون (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أى يتردى من الأعلى إلى الأسفل بقضية ما أودعه الله عزوجل فيها من الثقل الداعى إلى المركز وهو مجاز من الانقياد لأمره تعالى والمعنى أن الحجارة ليس منها فرد إلا وهو منقاد لأمره عز وعلا آت بما خلق له من غير استعصاء وقلوبهم ليست كذلك فتكون أشد منها قسوة لا محالة واللام فى لما لام الابتداء دخلت على اسم إن لتقدم الخبر وقرىء إن على أنها مخففة من الثقيلة واللام فارقة وقرىء يهبط بالضم. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) عن متعلقة بغافل وما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الأعمال السيئة وقرىء بالياء على الالتفات. وقوله تعالى


(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

____________________________________

(أَفَتَطْمَعُونَ) تلوين للخطاب وصرف له عن اليهود أثر ما عدت هناتهم ونعيت عليهم جناياتهم إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده كما فى قولك أتضرب أباك لا لإنكار الوقوع كما فى قوله أأضرب أبى والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه نظام الكلام لكن لا على قصد توجيه الإنكار إلى المعطوفين معا كما فى أفلا تبصرون على تقدير المعطوف عليه منفيا أى ألا تنظرون فلا تبصرون فالمنكر كلا الأمرين بل إلى ترتب الثانى على الأول مع وجوب أن يترتب عليه نقيضه كما إذا قدر الأول مثبتا أى أتنظرون فلا تبصرون فالمنكر ترتب الثانى على الأول مع وجوب أن يترتب عليه نقيضه أى أتسمعون أخبارهم وتعلمون أحوالهم فتطمعون ومآل المعنى أبعد أن علمتم تفاصيل شئونهم المؤيسة عنهم تطعمون (أَنْ يُؤْمِنُوا) فإنهم متماثلون فى شدة الشكيمة والأخلاق الذميمة لا يتأتى من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم وأن مصدرية حذف عنها الجار والأصل فى أن يؤمنوا وهى مع ما فى حيزها فى محل النصب أو الجر على الخلاف المعروف واللام فى لكم لتضمين معنى الاستجابة كما فى قوله عزوجل (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أى فى إيمانهم مستجيبين لكم أو للتعليل أى فى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم وصلة الإيمان محذوفة لظهور أن المراد به معناه الشرعى وستقف على ما فيه من المزية بإذن الله تعالى (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم والجار والمجرور فى محل الرفع أى فريق كائن منهم وقوله تعالى (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) خبر كان وقرىء كلم الله والجملة حالية مؤكدة للإنكار حاسمة لمادة الطمع. مثل أحوالهم الشنيعة المحكية فيما سلف على منهاج قوله تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) بعد قوله تعالى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) أى والحال أن طائفة منهم قال ابن عباس رضى الله عنهما هم قوم من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامه تعالى حين كلم موسى عليه‌السلام بالطور وما أمر به ونهى عنه (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) عن مواضعه لا لقصور فهمهم عن الإحاطة بتفاصيله على ما ينبغى لاستيلاء الدهشة والمهابة حسبما يقتضيه مقام الكبرياء بل (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أى فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم فى مضمونه ولا فى كونه كلام رب العزة ريبة أصلا فلما رجعوا إلى قومهم أداه الصادقون إليهم كما سمعوا وهؤلاء قالوا سمعنا الله تعالى يقول فى آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس فثم للتراخى زمانا أو رتبة وقال القفال سمعوا كلام الله وعقلوا مراده تعالى منه فأولوه تأويلا فاسدا وقيل هم رؤساء أسلافهم الذين تولوا تحريف التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علما وقيل هم الذين غيروا نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عصره وبدلوا آية الرجم ويأباه الجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل الدال على وقوع السماع والتحريف فيما سلف إلا أن يحمل ذلك على تقدمه على زمان نزول الآية الكريمة لا على تقدمه على عهده عليه الصلاة والسلام هذا والأول هو الأنسب بالسماع والكلام إذ


(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٧٦)

____________________________________

التوراة وإن كانت كلام الله عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهر وأثر التحريف فيه أظهر. ووصف اليهود بتلاوتها أكثر. لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوة دون السماع فكان الأنسب حينئذ أن يقال يتلون كتاب الله تعالى فالمعنى أفتطمعون فى أن يؤمن هؤلاء بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحال أن أسلافهم الموافقين لهم فى خلال السوء كانوا يسمعون كلام الله بلا واسطة ثم يحرفونه من بعد ما علموه يقينا ولا يستجيبون له هيهات ومن ههنا ظهر ما فى إيثار لكم على بالله من الفخامة والجزالة وقوله عزوجل (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية من فاعل يحرفونه مفيدة لكمال قباحة حالهم مؤذنة بأن تحريفهم ذلك لم يكن بناء على نسيان ما عقلوه أو على الخطأ فى بعض مقدماته بل كان ذلك حال كونهم عالمين مستحضرين له أووهم يعلمون أنهم كاذبون ومفترون (وَإِذا لَقُوا) جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم أو معطوفة على ما سبق من الجملة الحالية والضمير لليهود لما ستقف على سره لا لمنافقيهم خاصة كما قيل تحريا لاتحاد الفاعل فى فعلى الشرط والجزاء حقيقة (الَّذِينَ آمَنُوا) من أصحاب النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا) أى اللاقون لكن لا بطريق تصدى الكل للقول حقيقة بل بمباشرة منافقهم وسكوت الباقين كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم وهذا أدخل فى تقبيح حال الساكتين أولا العاتبين ثانيا لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف أى قال منافقوهم (آمَنَّا) لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة وعلموا أنه النبى المبشر به وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ الآتى (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) أى بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أى إذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجهين ومنضمين (إِلى بَعْضٍ) آخر منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبق معهم غيرهم وهذا نص على اشتراك الساكتين فى لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفا إذ الخلو إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض الخلو ولو لا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم لها من تمام الشرط ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أتوا من السكوت ثم العتاب (قالُوا) أى الساكتون موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) يعنون المؤمنين (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ما موصولة والعائد محذوف أى بينه لكم خاصة فى التوراة من نعت النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكنون وباب مغلق لا يقف عليه أحد وتجويز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم إراءة للتصلب فى دينهم كما ذهب إليه عصابة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل واللام فى قوله عزوجل (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) متعلقة بالتحديث دون الفتح والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك وإن كان منكرا فى نفسه لكن التحديث به لأجل هذا الغرض


(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٧)٢ البقرة

____________________________________

مما لا يكاد يصدر عن العاقل أى أتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم به فيبكتوكم والمحدثون به وإن لم يحوموا حول ذلك الغرض لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعا له البتة جعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أى فى حكمه وكتابه كما يقال هو عند الله كذا أى فى كتابه وشرعه وقيل عند ربكم يوم القيامة ورد عليه بأن الإخفاء لا يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدثوا به أو لم يحدثوا والاعتذار بأن إلزام المؤمنين إياهم وتبكيتهم بأن يقولوا لهم ألم تحدثونا بما فى كتابكم فى الدنيا من حقية ديننا وصدق نبينا أفحش فيجوز أن يكون المحذور عندهم هذا الإلزام بإرجاع الضمير فى به إلى التحديث دون المحدث به ولا ريب فى أنه مدفوع بالإخفاء لا تساعده الآية الكريمة الآتية كما سنقف عليه بإذن الله عزوجل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من تمام التوبيخ والعتاب والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش أو شيئا من الأشياء التى من جملتها هذا فالمنكر عدم التعقل ابتداء أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بطلانه مع وضوحه حتى تحتاجون إلى التنبيه عليه فالمنكر حينئذ عدم التعقل بعد الفعل هذا وأما ما قيل من أنه خطاب من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصل بقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ) والمعنى أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم فى إيمانهم فيأباه قوله تعالى (أَوَلا يَعْلَمُونَ) فإنه إلى آخره تجهيل لهم من جهته تعالى فيما حكى عنهم فيكون إيراد خطاب المؤمنين فى أثنائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه على أن فى تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف وفى تعميمه للنبى أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى أفتطمعون من سوء الأدب ما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ كما قبلها والواو للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن والضمير للموبخين أى أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) أى يسرونه فيما بينهم من المؤمنين أو ما يضمرونه فى قلوبهم فيثبت الحكم فى ذلك بالطريق الأولى (وَما يُعْلِنُونَ) أى يظهرونه للمؤمنين أو لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يظهر الله تعالى للمؤمنين ما أرادوا إخفاءه بواسطة الوحى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتحصل المحاجة ويقع التبكيت كما وقع فى آية الرجم وتحريم بعض المحرمات عليهم فأى فائدة فى اللوم والعتاب ومن ههنا تبين أن المحذور عندهم هو المحاجة بما فتح الله عليهم وهى حاصلة فى الدارين حدثوا به أم لا لا بالتحديث به حتى يندفع بالإخفاء وقيل الضمير للمنافقين فقط أو لهم وللموبخين أو لآبائهم المحرفين أى أيفعلون ما يفعلون ولا يعلمون أن الله يعلم جميع ما يسرون وما يعلنون ومن جملته إسرارهم الكفر وإظهارهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره وكتم أمر الله وإظهار ما أظهروه افتراء وإنما قدم الإسرار على الإعلان للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة فى بيان شمول علمه المحيط لجميع المعلومات كأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما فى الحقيقة على السوية فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شىء فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفى


(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))

____________________________________

هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة ونظيره قوله عز وعلا (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء لما ذكر من السر على عكس ما وقع فى قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإن الأصل فى تعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر فى القلب يتعلق به الإسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) وقرىء بتخفيف الياء جمع أمى وهو من لا يقدر على الكتابة والقراءة واختلف فى نسبته فقيل إلى الأم بمعنى أنه شبيه بها فى الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شئوون النساء بل من خلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التى ولدته أمه فى الخلو عن العلم والكتابة وقيل إلى الأمة بمعنى أنه باق على سذاجتها خال عن معرفة الأشياء كقولهم عامى أى على عادة العامة روى عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العرب وقيل هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين وعن على رضى الله تعالى عنه هم المجوس والحق الذى لا محيد عنه أنهم جهلة اليهود. والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبائحهم إثر بيان شنائع الطوائف السالفة وقيل هى معطوفة على الجملة الحالية فإن مضمونها مناف لرجاء الخير منهم وإن لم يكن فيه ما يحسم مادة الطمع عن إيمانهم كما فى مضمون الجملة الحالية وما بعدها فإن الجهل بالكتاب فى منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام الله بعد سماعه والعلم بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهى عن إظهار ما فى التوراة كما وقع من الفرقتين الأخريين أى ومنهم طائفة جهلة غير قادرين على الكتابة والتلاوة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أى لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما فى تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحمل الكتاب على الكتابة يأباه سباق النظم الكريم وسياقه (إِلَّا أَمانِيَّ) بالتشديد وقرىء بالتخفيف جمع أمنية أصلها أمنوية أفعولة من منى بمعنى قدر أو بمعنى تلاكتمنى فى قوله [تمنى كتاب الله أول ليله] فأعلت إعلال سيد وميت ومعناها على الأول ما يقدره الإنسان فى نفسه ويتمناه وعلى الثانى ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناء منقطع إذ ليس ما يتمنى وما يتلى من جنس علم الكتاب أى لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أمانى حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وغير ذلك من أمانيهم الفارغة المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائهم أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه وأما حمل الأمانى على الأكاذيب المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسة بالكتاب فلا يساعده النظم الكريم (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ولما بين حال هؤلاء فى تمسكهم بحبال الأمانى واتباع الظن عقب ببيان حال الذين أوقعوهم فى تلك الورطة وبكشف كيفية إضلالهم وتعيين مرجع الكل بالآخر فقيل على وجه الدعاء


(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

____________________________________

عليهم (فَوَيْلٌ) هو وأمثاله من ويح وويس وويب وويه وويك وعول من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارها البتة فإن أضيف نصب نحو ويلك وويحك وإذا فصل عن الإضافة رفع نحو ويل له ومعنى الويل شدة الشر قاله الخليل وقال الأصمعى الويل التفجع والويح الترحم وقال سيبويه ويل لمن وقع فى الهلكة وويح زجر لمن أشرف على الهلاك وقيل الويل الحزن وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بينه وبينها فرق وقيل ويل فى الدعاء عليه وويح وما بعده فى الترحم عليه وقال ابن عباس رضى الله عنهما الويل العذاب الأليم وعن سفيان الثورى أنه صديد أهل جهنم وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال الويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وقال سعيد بن المسيب أنه واد فى جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره وقال ابن بريدة جبل قيح ودم وقيل صهريج فى جهنم وحكى الزهراوى أنه باب من أبواب جهنم وعلى كل حال فهو مبتدأ خبره قوله عز وعلا (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) أى المحرف أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد لدفع توهم المجاز كقولك كتبته بيمينى (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا) أى جميعا على الأول وبخصوصه على الثانى (مِنْ عِنْدِ اللهِ) روى أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فاحتالوا فى تعويق أسافل اليهود عن الإيمان فعمدوا إلى صفة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة وكانت هى فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالف لصفته عليه‌السلام فيكذبونه وثم للتراخى الرتبى فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل (لِيَشْتَرُوا بِهِ) أى يأخذوا لأنفسهم بمقابلته (ثَمَناً) هو ما أخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل وإنما عبر عن المشترى الذى هو المقصود بالذات فى عقد المعاوضة بالثمن الذى هو وسيلة فيه إيذانا بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة مقصودا بالذات (قَلِيلاً) لا يعبأ به فإن ذلك وإن جل فى نفسه فهو أقل قليلا عندما استوجبوا به من العذاب الخالد (فَوَيْلٌ لَهُمْ) تكرير لما سبق للتأكيد وتصريح بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضه فى حيز الصلة وبعضه فى معرض الغرض والفاء للإيذان بترتبه عليه ومن فى قوله عزوجل (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) تعليلية متعلقة بويل أو بالاستقرار فى الخبر وما موصولة اسمية والعائد محذوف أى كتبته أو مصدرية والأول أدخل فى الزجر عن تعاطى المحرف والثانى فى الزجر عن التحريف (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الكلام فيه كالذى فيما قبله والتكرير لما مر من التأكيد والتشديد والقصد إلى التعليل بكل من الجانبين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند الله لما أنه من مبادى ترويج ما كتبت أيديهم فهو


(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨١)

____________________________________

داخل فى التعليل به (وَقالُوا) بيان لبعض آخر من جناياتهم وفصله عما قبله مشعر بكونه من الأكاذيب التى اختلقوها ولم يكتبوها فى الكتاب (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) فى الآخرة (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قليلة محصورة عدد أيام عبادتهم العجل أربعين يوما مدة غيبة موسى عليه‌السلام عنهم وحكى الأصمعى عن بعض اليهود أن عدد أيام عبادتهم العجل سبعة وروى عن ابن عباس ومجاهد أن اليهود قالوا عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا وروى الضحاك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أنهم وجدوا فى التوراة أن ما بين طرفى جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم وأنهم يقطعون فى كل مسيرة سنة فيكملونها (قُلْ) تبكيتا لهم وتوبيخا (أَتَّخَذْتُمْ) بإسقاط الهمزة المجتلبة لوقوعها فى الدرج وبإظهار الذال وقرىء بإدغامها فى التاء (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) خبرا أو وعدا بما تزعمون فإن ما تدعون لا يكرن إلا بناء على وعد قوى ولذلك عبر عنه بالعهد (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) الفاء فصيحة معربة عن شرط محذوف كما فى قول من قال [قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا] أى إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه والجملة اعتراضية وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الإخلاف من قضية الألوهية وإظهار العهد مضافا إلى ضميره عزوجل لما ذكر أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهد المعهود دخولا أوليا وفيه تجاف عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم وإن كان معلقا بما لم يكديشم رائحة الوجود قطعا أعنى اتخاذ العهد (أَمْ تَقُولُونَ) مفترين (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقوعه وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه للمبالغة فى التوبيخ والنكير فإن التوبيخ على الأدنى مستلزم للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأولى وقولهم المحكى وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى وأم إما متصلة والاستفهام للتقرير المؤدى إلى التبكيت لتحقق العلم بالشق الأخير كأنه قيل أم لم تتخذوه بل تتقولون عليه تعالى وأما منقطعة والاستفهام لإنكار الاتخاذ ونفيه ومعنى بل فيها الاضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهد إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على التقول على الله سبحانه كما فى قوله عزوجل (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (بَلى) إلى آخره جواب عن قولهم المحكى وإبطال له من جهته تعالى وبيان لحقيقة الحال تفصيلا فى ضمن تشريع كلى شامل لهم ولسائر الكفرة بعد إظهار كذبهم إجمالا وتفويض ذلك إلى النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أن المحاجة والإلزام من وظائفه عليه‌السلام مع ما فيه من الإشعار


(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(٨٣)

____________________________________

بأنه أمر هين لا يتوقف على التوقيف وبلى حرف إيجاب مختص بجواب النفى خبرا واستفهاما (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) فاحشة من السيئات أى كبيرة من الكبائر كدأب هؤلاء الكفرة والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على طريقة فبشرهم بعذاب أليم (وَأَحاطَتْ بِهِ) من جميع جوانبه بحيث لم يبق له جانب من قلبه ولسانه وجوارحه إلا وقد اشتملت واستولت عليه (خَطِيئَتُهُ) التى كسبها وصارت خاصة من خواصه كما تنبئ عنه الإضافة إليه وهذا إنما يتحقق فى الكافر ولذلك فسرها السلف بالكفر حسبما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن عباس وأبى هريرة رضى الله عنهم وابن جرير عن أبى وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع وقيل السيئة الكفر والخطيئة الكبيرة وقيل بالعكس وقيل الفرق بينهما أن الأولى قد تطلق على ما يقصد بالذات والثانية تغلب على ما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ وقرىء خطيته وخطياته على القلب والإدغام فيهما وخطيئاته وخطاياه وفى ذلك إيذان بكثرة فنون كفرهم (فَأُولئِكَ) مبتدأ (أَصْحابُ النَّارِ) خبره والجملة خبر للمبتدأ والفاء لتضمنه معنى الشرط وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بماله من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم فى الكفر والخطايا وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى فى كلمة من بعد مراعاة جانب اللفظ فى الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم فى تينك الحالتين فإن كسب السيئة وأحاطت خطيئته به فى حالة الانفراد وصاحبية النار فى حالة الاجتماع أى أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحاب النار أى ملازموها فى الآخرة حسب ملازمتهم فى الدنيا لما يستوجبها من الأسباب التى من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات الله تعالى وتحريف كلامه والافتراء عليه وغير ذلك وإنما لم يخص الجواب بحالهم بأن يقال مثلا بلى أنهم أصحاب النار الخ لما فى التعميم من التهويل وبيان حالهم بالبرهان والدليل مع ما مر من قصد الإشعار بالتعليل (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائما أبدا فأنى لهم التفصى عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجة فى الآية الكريمة على خلود صاحب الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ولا حاجة إلى حمل الخلود على اللبث الطويل على أن فيه تهوين الخطب فى مقام التهويل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) جرت السنة الإلهية على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة فى إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى والتبشير مرة والإنذار أخرى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) شروع


(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٨٤)

____________________________________

فى تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادى بعدم إيمان أخلافهم وكلمة إذ نصب بإضمار فعل خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ليؤديهم التأمل فى أحوالهم إلى قطع الطمع عن إيمانهم أو اليهود الموجودون فى عهد النبوة توبيخا لهم بسوء صنيع أسلافهم أى اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) على إرادة القول أى وقلنا أو قائلين لا تعبدون الخ وهو إخبار فى معنى النهى كقوله تعالى (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وكما تقول تذهب إلى فلان وتقول كيت وكيت وهو أبلغ من صريح النهى لما فيه من إيهام أن المنهى حقه أن يسارع إلى الانتهاء عما نهى عنه فكأنه انتهى عنه فيخبر به الناهى ويؤيده قراءة لا تعبدوا وعطف قولوا عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا الخ فحذف الناصب ورفع الفعل كما فى قوله [ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى] ويعضده قراءة أن لا تعبدوا فيكون بدلا من الميثاق أو معمولا له بحذف الجار وقيل إنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قيل وحلفناهم لا تعبدون إلا الله وقرىء بالياء لأنهم غيب (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) متعلق بمضمر أى وتحسنون أو أحسنوا (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندامى جمع نديم وهو قليل ومسكين مفعيل من السكون كأن الفقر أسكنه من الحراك وأثخنه عن التقلب (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أى قولا حسنا سماه حسنا مبالغة وقرىء كذلك وحسنا بضمتين وهى لغة أهل الحجاز وحسنى كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) هما ما فرض عليهم فى شريعتهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) إن جعل ناصب الظرف خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بنى إسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكر كلهم حينئذ على نهج الغيبة فإن الخطابات السابقة لأسلافهم محكية داخلة فى حيز القول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت هى عليهم وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولى بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد فى التوبيخ أى أعرضتم عن المضى على مقتضى الميثاق ورفضمتوه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) جملة تذييلية أى وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة والإقبال إلى جانب العرض (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) منصوب بفعل مضمر خوطب به اليهود قاطبة على ما ذكر من التغليب ونعى عليهم إخلالهم بمواجب الميثاق المأخوذ منهم فى حقوق العباد على طريقة النهى إثر بيان ما فعلوا بالميثاق المأخوذ منهم فى حقوق الله سبحانه وما يجرى مجراها على سبيل الأمر فإن المقصود الأصلى من النهى عن عبادة غير الله تعالى هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى أى واذكروا وقت أخذنا ميثاقكم


(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

____________________________________

فى التوراة وقوله تعالى (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) كما قبله إخبار فى معنى النهى غير السبك إليه لما ذكر من نكتة المبالغة والمراد به النهى الشديد عن تعرض بعض بنى إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء والتعبير عن ذلك بسفك دماء أنفسهم وإخراجها من ديارهم بناء على جريان كل واحد منهم مجرى أنفسهم لما بينهم من الاتصال القوى نسبا ودينا للمبالغة فى الحمل على مراعاة حقوق الميثاق بتصوير المنهى عنه بصورة تكرهها كل نفس وتنفر عنها كل طبيعة فضمير أنفسكم للمخاطبين حتما إذ به يتحقق تنزيل المخرجين منزلتهم كما أن ضمير دياركم للمخرجين قطعا إذ المحذور إنما هو إخراجهم من ديارهم لا من ديار المخاطبين من حيث أنهم مخاطبون كما يفصح عنه ما سيأتى من قوله تعالى (مِنْ دِيارِهِمْ) وإنما الخطاب ههنا باعتبار تنزيل ديارهم منزلة ديار المخاطبين بناء على تنزيل أنفسهم منزلتهم لتأكيد المبالغة وتشديد التشنيع وأما ضمير دماءكم فمحتمل للوجهين مفاد الأول كون المسفوك دماء ادعائية للمخاطبين حقيقة ومفاد الثانى كونه دماء حقيقية للمخاطبين ادعاء وهما متقاربان فى إفادة المبالغة فتدبر وأما ما قيل من أن المعنى لا تباشروا ما يؤدى إلى قتل أنفسكم قصاصا أو ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل فى الحقيقة ولا تقترفوا ما تحرمون به عن الجنة التى هى داركم فإنه الجلاء الحقيقى فمما لا يساعده سياق النظم الكريم بل هو نص فيما قلناه كما ستقف عليه (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أى بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) توكيد للإقرار كقولك أقر فلان شاهدا على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) خطاب خاص بالحاضرين فيه توبيخ شديد واستبعاد قوى لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرار به والشهادة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره ومناط الإفادة اختلاف الصفات المنزل منزلة اختلاف الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون الناقضون المتناقضون حسبما تعرب عنه الجمل الآتية فإن قوله عزوجل (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) الخ بيان له وتفصيل لأحوالهم المنكرة المندرجة تحت الإشارة ضمنا كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتلون أنفسكم أى الجارين مجرى أنفسكم كما أشير إليه وقرىء تقتلون بالتشديد للتكثير (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ) الضمير إما للمخاطبين والمضاف محذوف أى من أنفسكم وإما للمقتولين والخطاب باعتبار أنهم جعلوا أنفس المخاطبين وإلا فلا يتحقق التكافؤبين المقتولين والمخرجين فى ذلك العنوان الذى عليه يدور فلك المبالغة فى تأكيد الميثاق حسبما نص عليه ولا يظهر كمال قباحة


جناياتهم فى نقضه (مِنْ دِيارِهِمْ) الضمير للفريق وإيثار الغيبة مع جواز الخطاب أيضا بناء على اعتبار العنوان المذكور كما مر فى الميثاق للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث هى ديارهم لا من حيث هى ديار المخرجين وقيل هؤلاء موصول والجملتان فى حيز الصلة والمجموع هو الخبر لأنتم (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) بحذف إحدى التاءين وقرىء بإثباتهما وبالإدغام وتظهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهى حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعا مبنية لكيفية الإخراج دافعة لتوهم اختصاص الحرمة بالإخراج بطريق الأصالة والاستقلال دون المظاهرة والمعاونة (بِالْإِثْمِ) متعلق بتظاهرون حال من فاعله أى ملتبسين بالإثم وهو الفعل الذى يستحق فاعله الذم واللوم وقيل هو ما ينفر عنه النفس ولا يطمئن إليه القلب (وَالْعُدْوانِ) وهو التجاوز فى الظلم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) جمع أسير وهو من يؤخذ قهرا فعيل بمعنى مفعول من الأسرأى الشد أو جمع أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح وقد قرىء أسرى ومحله النصب على الحالية (تُفادُوهُمْ) أى تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء وقرىء تفدوهم قال السدى إن الله تعالى أخذ على بنى إسرائيل فى التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة والشنآن فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ثم إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له ما لا فيفدونه فعيرتهم العرب وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكن نستحيى أن نذل حلفاء نافذمهم الله تعالى على المناقضة (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) هو ضمير الشأن وقع مبتدأ ومحرم فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبرا من إخراجهم والجملة خبر لضمير الشأن وقيل محرم خبر لضمير الشأن وإخراجهم مرفوع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله وقيل الضمير مهم يفسره إخراجهم أو راجع إلى ما يدل عليه تخرجون من المصدر وإخراجهم تأكيد أو بيان والجملة حال من الضمير فى تخرجون أو من فريقا أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق لكونه مظنة للمساهلة فى أمره بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معا وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشىء من دية أو قصاص هو السر فى تخصيص التظاهر به فيما سبق وأما تأخيره من الشرطية المعترضة مع أن حقه التقديم كما ذكره الواحدى فلأن نظم أفاعيلهم المتناقضة فى سمط واحد من الذكر أدخل فى إظهار بطلانها (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أى التوراة التى أخذ فيها الميثاق المذكور والهمزة للإنكار التوبيخى والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام أى أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو حرمة القتال والإخراج مع أن من قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقى لكون الكل من عند الله تعالى داخلا فى الميثاق فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيب النظم الكريم فإن التقديم يستدعى فى المقام الخطابى أصالة المقدم وتقدمه بوجه من الوجوه حتما وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكار والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوع قطعا


(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

____________________________________

لا إيمانهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهوم لو قيل أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض ولا مجرد كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كما يفيده أن يقال أفتجمعون بين الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض أو بالعكس (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) ما نافية ومن إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها وذلك إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى (مِنْكُمْ) حال من فاعل يفعل (إِلَّا خِزْيٌ) استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ والخزى الذل والهوان مع الفضيحة والتنكير للتفخيم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام وقيل الجزية (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فى حيز الرفع على أنه صفة خزى أى خزى كائن فى الحياة الدنيا أو فى حيز النصب على أنه ظرف لنفس الخزى ولعل بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهار أنه لا أثر له أصلا مع الكفر ببعض (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ) وقرىء بالتاء أوثر صيغة الجمع نظرا إلى معنى من بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) لما أن معصيتهم أشد المعاصى وقيل أشد العذاب بالنسبة إلى ما لهم فى الدنيا من الخزى والصغار وإنما غير سبك النظم الكريم حيث لم يقل مثلا وأشد العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافى بين جزاءى النشأتين وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من القبائح التى من جملتها هذا المنكر وقرىء بالياء على نهج يردون وهو تأكيد للوعيد (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أى آثروا (الْحَياةَ الدُّنْيا) واستبدلوها (بِالْآخِرَةِ) وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذكر من الكفر ببعض أحكام الكتاب إنما كان لمراعاة جانب حلفائهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافع الدنية الدنيوية (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) دنيويا كان أو أخرويا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) بدفعه عنهم شفاعة أو جبرا والجملة معطوفة على ما قبلها عطف الإسمية على الفعلية أو ينصرون مفسر لمحذوف قبل الضمير فيكون من عطف الفعلية على مثلها (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) شروع فى بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به والمراد بالكتاب التوراة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جملة واحدة أمر الله تعالى موسى عليه‌السلام بحملها فلم يطق بذلك فبعث الله بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا بحملها فخففها الله تعالى لموسى عليه‌السلام فحملها (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يقال قفاه به إذا


(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

____________________________________

أتبعه إياه أى أرسلناهم على أثره كقوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل وعيسى بالسريانية أيشوع ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فسر قول رؤبة[قلت لزير لم تصله مريمه ضليل أهواء الصبا تندمه] ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل (وَأَيَّدْناهُ) أى قويناه وقرىء وآيدناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بضم الدال وقرىء بسكونها أى بالروح المقدسة وهى روح عيسى عليه‌السلام كقولك حاتم الجود ورجل صدق وإنما وصفت بالقدس لكرامته أو لأنه عليه‌السلام لم تضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث وقيل بجبريل عليه‌السلام وقيل بالإنجيل كما قيل فى القرآن روحا من أمرنا وقيل باسم الله الأعظم الذى كان يحيى الموتى بذكره وتخصيصه من بين الرسل عليهم‌السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس لما أن بعثتهم كانت لتنفيذ أحكام التوراة وتقريرها وأما عيسى عليه‌السلام فقد نسخ بشرعه كثير من أحكامها ولحسم مادة اعتقادهم الباطل فى حقه عليه‌السلام ببيان حقيته وإظهار كمال قبح ما فعلوا به عليه‌السلام (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) من أولئك الرسل (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) من الحق الذى لا محيد عنه أى لا تحبه من هوى كفرح إذا أحب والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شىء آخر وتوسيط الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من الأفعال السابقة لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا وللتعجيب من شأنهم ويجوز كون الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام أى ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسول منهم بما لا تهوى أنفسكم (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الاتباع له والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ) من غير أن تتعرضوا لهم بشىء آخر من المضار والفاء للسببية أو للتعقيب (وَفَرِيقاً) آخر منهم (تَقْتُلُونَ) غير مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم‌السلام وتقديم فريقا فى الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر وإيثار صيغة الاستقبال فى القتل لاستحضار صورته الهائلة أو للإيماء إلى أنهم بعد على تلك النية حيث هموا بما لم ينالوه من جهته عليه‌السلام وسحروه وسمموا له الشاة حتى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما زالت أكلة خيبر تعاودنى فهذا أو ان قطعت أبهرى (وَقالُوا) بيان لفن آخر من قبائحهم على طريق الالتفات إلى الغيبة إشعارا بإبعادهم عن رتبة الخطاب لما فصل من مخازيهم الموجبة للإعراض عنهم وحكاية نظائرها لكل من يفهم بطلانها وقباحتها من أهل الحق والقائلون هم الموجودون فى عصر النبى عليه الصلاة والسلام (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف مستعار من الأغلف الذى لم يختن أى مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تفقهه كقولهم قلوبنا فى أكنة مما تدعوننا إليه وقيل هو تخفيف غلف جمع غلاف ويؤيده ما روى عن أبى عمرو من القراءة بضمتين يعنون أن قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن


(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٨٩)

____________________________________

غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبى يعنون أن قلوبنا لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان فى حديثك خير لوعته أيضا (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) رد لما قالوه وتكذيب لهم فى ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم الله سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاهم وشأنهم بسبب كفرهم العارض وإبطالهم لاستعدادهم بسوء اختيارهم بالمرة وكونهم بحيث لا ينفعهم الألطاف أصلا بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكن من قبول الحق وعلى الثانى بل أبعدهم من رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذى هو أجل آثارها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤدى إليها (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ما مزيدة للمبالغة أى فإيمانا قليلا يؤمنون وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل فزمانا قليلا يؤمنون وهو ما قالوا آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره وكلاهما ليس بإيمان حقيقة وقيل أريد بالقلة العدم والفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) هو القرآن وتنكيره للتفخيم ووصفه بقوله عزوجل (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أى كائن من عنده تعالى للتشريف (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة عبر عنها بذلك لما أن المعية من موجبات الوقوف على ما فى تضاعيفها المؤدى إلى العلم بكونه مصدقا لها وقرىء مصدقا على أنه حال من كتاب لتخصصه بالوصف (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أى من قبل مجيئه (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أى وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبى المبعوث فى آخر الزمان الذى نجد نعته فى التوراة ويقولون لهم قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقال ابن عباس وقتادة والسدى نزلت فى بنى قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه وقيل معنى يستفتحون يفتتحون عليهم ويعرفونهم بأن نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه والسين للمبالغة كما فى استعجب أى يسألون من أنفسهم الفتح عليهم أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم وعلى التقديرين فالجملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم وقوله عز وعلا (فَلَمَّا جاءَهُمْ) تكرير للأول لطول العهد بتوسط الجملة الحالية وقوله تعالى (ما عَرَفُوا) عبارة عما سلف من الكتاب لأن معرفة من أنزل هو عليه معرفة له والاستفتاح به استفتاح به وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم فإن معرفة ما جاءهم من مبادى الإيمان به ودواعيه لا محالة والفاء للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدة منسية له وقوله تعالى (كَفَرُوا بِهِ) جواب لما الأولى كما هو رأى المبرد أو جوابهما معا كما قاله أبو البقاء وقيل جواب الأولى محذوف لدلالة المذكور عليه فيكون قوله تعالى (وَكانُوا) الخ جملة معطوفة على الشرطية عطف القصة على القصة والمراد بما عرفوا النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو المراد بما كانوا يستفتحون به فالمعنى ولما جاءهم كتاب مصدق لكتابهم كذبوه وكانوا من قبل مجيئه يستفتحون بمن أنزل عليه ذلك الكتاب فلما جاءهم النبى الذى عرفوه كفروا به (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) اللام للعهد


(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

____________________________________

أى عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه أو للجنس وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا إذ الكلام فيهم وأياما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ما نكرة بمعنى شىء منصوبة مفسرة لفاعل بئس واشتروا صفته أى بئس شيئا باعوا به أنفسهم وقيل اشتروها به فى زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلصوها من العقاب ويأباه أنه لابد أن يكون المذموم ما كان حاصلا لهم لا ما كان زائلا عنهم والمخصوص بالذم قوله تعالى (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أى بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته وتبديل الإنزال بالمجىء للإيذان بعلو شأنه الموجب للإيمان به (بَغْياً) حسدا وطلبا لما ليس لهم وهو علة لأن يكفروا حتما دون اشتروا لما قيل من الفصل بما هو أجنبى بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله ولأن البغى مما لا تعلق له بعنوان البيع قطعا لا سيما وهو معلل بما سيأتى من تنزيل الله تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذى بينه وبينه علاقة هو كفرهم بما أنزل الله والمعنى بئس شيئا باعوا به أنفسهم كفرهم المعلل بالبغى الكائن لأجل (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الذى هو الوحى (عَلى مَنْ يَشاءُ) أى يشاؤه ويصطفيه (مِنْ عِبادِهِ) المستأهلين لتحمل أعباء الرسالة ومآله تعليل كفرهم بالمنزل بحسدهم للمنزل عليه وإيثار صيغة التفعيل ههنا للإيذان بتجدد بغيهم حسب تجدد الإنزال وتكثره حسب تكثره (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أى رجعوا ملتبسين بغضب كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا من كفر على كفر فإنهم كفروا بنبى الحق وبغوا عليه وقيل كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد عيسى وقيل بعد قولهم عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة وغير ذلك من فنون كفرهم (وَلِلْكافِرِينَ) أى لهم والإظهار فى موقع الإضمار للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم (عَذابٌ مُهِينٌ) يراد به إهانتهم وإذ لا لهم لما أن كفرهم بما أنزل الله تعالى كان مبنيا على الحسد المبنى على طمع المنزول عليهم وادعاء الفضل على الناس والاستهانة بمن أنزل عليه عليه‌السلام (وَإِذا قِيلَ) من جانب المؤمنين (لَهُمْ) أى لليهود وتقديم الجار والمجرور قد مر وجهه لا سيما فى لام التبليغ (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الكتب الإلهية جميعا والمراد به الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم إيذانا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما فى حيز الصلة وموافقته له فى المضمون وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس بإيمان بما أنزل الله (قالُوا نُؤْمِنُ) أى نستمر على الإيمان (بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعنون به التوراة وما نزل على


(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٩٢)

____________________________________

أنبياء بنى إسرائيل لتقرير حكمها ويدسون فيه أن ما عدا ذلك غير منزل عليهم ومرادهم بضمير المتكلم إما أنفسهم فمعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما فى المنزل من الأحكام وإما أنبياء بنى إسرائيل وهو الظاهر لاشتماله على مزية الإيذان بأن عدم إيمانهم بالفرقان لما مر من بغيهم وحسدهم على نزوله على من ليس منهم ولأن مرادهم بالموصول وإن كان هو التوراة وما فى حكمها خاصة لكن إيرادها بعنوان الإنزل عليهم مبنى على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريض كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزم من مغايرة القرآن لما أنزل عليهم حسبما يعرب عنه قوله عزوجل (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) عدم كونهم مكلفين بما فيه كما يلزم عدم كونه نازلا على واحد من بنى إسرائيل على الوجه الأخير وتجريد الموصول عند الإضمار عما عرضوا به تعسف لا يخفى والوراء فى الأصل مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامه والجملة حال من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أى قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المراد مجرد بيان أن إفراد إيمانهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفى إيمانهم بما وراءه بل بيان أن ما يدعون من الإيمان ليس بإيمان بما أنزل عليهم حقيقة فإن قوله عز اسمه (وَهُوَ الْحَقُّ) أى المعروف بالحقية الحقيق بأن يخص به اسم الحق على الإطلاق حال من فاعل يكفرون وقوله تعالى (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لمضمون الجملة صاحبها إما ضمير الحق وعاملها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء وإما ضمير دل عليه الكلام وعاملها فعل مضمر أى أحقه مصدقا (لِما مَعَهُمْ) من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفرون بالقرآن والحال أنه حق مصدق لما آمنوا به فيلزمهم الكفر بما آمنوا به ومآله أنهم ادعوا الإيمان بالتوراة والحال أنهم يكفرون بما يلزم من الكفر بها (قُلْ) تبكيتا لهم من جهة الله عز من قائل ببيان التنافض بين أقوالهم وأفعالهم بعد بيان التناقض فى أقوالهم (فَلِمَ) أصله لما حذفت عنه الألف فرقا بين الاستفهامية والخبرية (تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) الخطاب للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب وحيث كانوا مشاركين فى العقد والعمل كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وهو جواب شرط محذوف أى قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون فلأى شىء كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل وهو فيها حرام وقرىء أنبياء الله مهموزا وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهديد أى إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت فى الأخرى وقيل لا حذف فيه بل تقديم الجواب على الشرط وذلك لا يتأتى إلا على رأى الكوفيين وأبى زيد وقيل إن نافية أى ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) من تمام التبكيت والتوبيخ داخل تحت الأمر لا تكرير لما قص فى تضاعيف تعداد النعم التى من جملتها العفو عن عبادة العجل واللام للقسم أى وبالله لقد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرة التى هى العصا واليدو السنون ونقص الثمرات والدم والطوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقد عد منها التوراة وليس بواضح فإن المجىء


(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٩٤)

____________________________________

بها بعد قصة العجل (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أى إلها (مِنْ بَعْدِهِ) أى من بعد مجيئه بها وقيل من بعد ذهابه إلى الطور فتكون التوراة حينئذ من جملة البينات وثم للتراخى فى الرتبة والدلالة على نهاية قبح ما صنعوا (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) حال من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته واضعين لها فى غير موضعها أو بإخلال بحقوق آيات الله تعالى أو اعتراض أى وأنتم قوم عادتكم الظلم (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) توبيخ من جهة الله تعالى وتكذيب لهم فى ادعائهم الإيمان بما أنزل عليهم بتذكير جناياتهم الناطقة بكذبهم أى واذكروا حين أخذنا ميثاقكم (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قائلين (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) أى خذوا بما أمرتم به فى التوراة واسمعوا ما فيها سمع طاعة وقبول (قالُوا) استئناف مبنى على سؤال سائل كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا (سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك فإذا قابل أسلافهم مثل ذلك الخطاب المؤكد مع مشاهدتهم مثل تلك المعجزة الباهرة بمثل هذه العظيمة الشنعاء وكفروا بما فى تضاعيف التوبة فكيف يتصور من أخلافهم الإيمان بما فيها (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة أى تداخلهم حبه ورسخ فى قلوبهم صورته لفرط شغفهم به وحرصهم على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق البدن وفى قلوبهم بيان لمكان الإشراب كما فى قوله تعالى (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) والجملة حال من ضمير قالوا بتقديم قد (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن فى قلوبهم ماسول لهم السامرى (قُلْ) توبيخا لحاضرى اليهود إثر ما تبين من أحوال رؤسائهم الذين بهم يقتدون فى كل ما يأتون وما يذرون (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون والمخصوص بالذم محذوف أى ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل وفى إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم وإضافة الإيمان إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإنه قدح فى دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم من التوراة وإبطال لها وتقريره إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذكر من القول والعمل بما فيها فبئسما يأمركم به إيمانكم بها وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا وجواب الشرط كما ترى محذوف لدلالة ما سبق عليه (قُلْ) كرر الأمر مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمر بتبكيتهم وإظهار كذبهم فى فن آخر من أباطيلهم لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتفى بالإشارة إليه فى تضاعيف الكلام حيث قيل (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أى الجنة أو نعيم الدار


(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

____________________________________

الآخرة (عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) أى سالمة لكم خاصة بكم كما تدعون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ونصبها على الحالية من الدار وعند ظرف للاستقرار فى الخبر أعنى لكم وقوله تعالى (مِنْ دُونِ النَّاسِ) فى محل النصب بخالصة يقال خلص لى كذا من كذا واللام للجنس أى الناس كافة أو للعهد أى المسلمين (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاق إلى التخلص إليها من دار البوار وقرارة الأكدار لا سيما إذا كانت خالصة له كما قال على كرم الله وجهه لا أبالى أسقطت على الموت أو سقط الموت على وقال عمار بن ياسر بصفين [الآن ألاقى الأحبه محمدا وحزبه] وقال حذيفة بن اليمان حين احتضر وقد كان يتمنى الموت قبل [جاء حبيب على فاقة فلا أفلح اليوم من قد ندم] أى على التمنى وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكرير للكلام لتشديد الإلزام وللتنبيه على أن ترتب الجواب ليس على تحقق الشرط فى نفس الأمر فقط بل فى اعتقادهم أيضا وأنهم قد ادعوا ذلك والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أى إن كنتم صادقين فتمنوه وقوله تعالى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر سيق من جهته سبحانه لبيان ما يكون منهم من الإحجام عما دعوا إليه الدال على كذبهم فى دعواهم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما عملوا من المعاصى الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبى عليه‌السلام والقرآن وتحريف التوراة ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أى بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون فى جميع الأمور التى من جملتها ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم والجملة تذييل لما قبلها مقررة لمضمونه أى عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصى المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدى إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم موته أحد إذ لو وقع ذلك لنقل واشتهر وعن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقى يهودى على وجه الأرض (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ) من الوجدان العقلى وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختص بما يقع بعد التجربة ونحوها ومفعولاه الضمير وأحرص والتنكير فى قوله تعالى (عَلى حَياةٍ) للإيذان بأن مرادهم نوع خاص منها وهى الحياة المتطاولة وقرىء بالتعريف (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرص من الناس ومن الذين أشركوا وإفرادهم بالذكر مع دخولهم فى الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص للمبالغة فى توبيخ اليهود فإن حرصهم وهم معترفون بالجزاء لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بأنباء المعطوف عليه عنه أى وأحرص من الذين أشركوا فقوله تعالى


(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٧)

____________________________________

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون فى حيز الرفع صفة لمبتدأ محذوف خبره الظرف المتقدم على أن يكون المراد بالمشركين اليهود لقولهم عزير بن الله أى ومنهم طائفة يود أحدهم أيهم كان أى كل واحد منهم (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو حكاية لودادتهم كأنه قيل ليتنى أعمر وإنما أجرى على الغيبة لقوله تعالى (يَوَدُّ) كما تقول حلف بالله ليفعلن ومحله النصب على أنه مفعول يود إجراء له مجرى القول لأنه فعل قلبى (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) ما حجازية والضمير العائد على أحدهم اسمها وبمزحزحه خبرها والباء زائدة و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل مزحزحه أى وما أحدهم بمن يزحزحه أى يبعده وينجيه من العذاب تعميره وقيل الضمير لما دل عليه يعمر من المصدر وأن يعمر بدل منه وقيل هو مبهم وأن يعمر مفسره والجملة حال من أحدهم والعامل يود لا يعمر على أنها حال من ضميره لفساد المعنى أو اعتراض وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات وسنية وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وسنيهة وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) البصير فى كلام العرب العالم بكنه الشىء الخبير به ومنه قولهم فلان بصير بالفقه أى عليم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة وقرىء بتاء الخطاب التفاتا وفيه تشديد للوعيد (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) نزل فى عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله عمن نزل عليه بالوحى فقال عليه‌السلام جبريل عليه‌السلام فقال هو عدونا لو كان غيره لآمنا بك وفى بعض الروايات ورسولنا وميكائيل فلو كان هو الذى يأتيك لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل عليه‌السلام وقال إن كان ربكم أمره بهلا ككم فإنه لا يسلطكم عليه وإلا فبأى حق تقتلونه وقيل أمره الله تعالى أن يجعل النبوة فينا فجعلها فى غيرنا وروى أنه كان لعمر رضى الله عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لشك فى دينى وإنما أدخل عليكم لازداد بصيرة فى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرى آثاره فى كتابكم ثم سألهم عن جبريل عليه‌السلام فقالوا ذاك هو عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب وميكائيل يجىء بالخصب والسلام فقال لهم وما منزلتهما عند الله تعالى قالوا جبريل أقرب منزلة هو عن يمينه وميكائيل عن يساره وهما متعاديان فقال عمر رضى الله عنه إن كانا كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو الأحدهما فهو عدو للآخر ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله سبحانه ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه‌السلام قد سبقه بالوحى فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد وافقك ربك يا عمر فقال عمر رضى الله عنه لقد رأيتنى فى دينى بعد ذلك أصلب من الحجر وقرىء جبرئيل كسلسبيل وجبرئل كجحمرش وجبريل وجبرئل وجبرائيل كجبراعيل وجبرائل كجبراعل


(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ)(٩٩)

____________________________________

ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة وقيل معناه عبد الله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) تعليل لجواب الشرط قائم مقامه والبارز الأول لجبريل عليه‌السلام والثانى للقرآن أضمر من غير ذكر إيذانا بفخامة شأنه واستغنائه عن الذكر لكمال شهرته ونباهته لا سيما عند ذكر شىء من صفاته (عَلى قَلْبِكَ) زيادة تقرير للتنزيل ببيان محل الوحى فإنه القائل الأول له ومدار الفهم والحفظ وإيثار الخطاب على التكلم المبنى على حكاية كلام الله تعالى بعينه كما فى قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) لما فى النقل بالعبارة من زيادة تقرير لمضمون المقالة (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره وتيسيره مستعار من تسهيل الحجاب وفيه تلويح بكمال توجه جبريل عليه‌السلام إلى تنزيله وصدق عزيمته عليه‌السلام وهو حال من فاعل نزله وقوله تعالى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أى من الكتب الإلهية التى معظمها التوراة حال من مفعوله وكذا قوله تعالى (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) والعامل فى الكل نزله والمعنى من عادى جبريل من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته بل يجب عليه محبته فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم أو فالسبب فى عداوته تنزيله لكتاب مصدق لكتابهم موافق له وهم له كارهون ولذلك حرفوا كتابهم وجحدوا موافقته له لأن الاعتراف بها يوجب الإيمان به وذلك يستدعى انتكاس أحوالهم وزوال رياستهم وقيل إن الجواب فقد خلع ربقة الإنصاف أو فقد كفر بما معه من الكتاب أو فليمت غيظا أو فهو عدولى وأنا عدو له (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) أريد بعداوته تعالى مخالفة أمره عنادا والخروج عن طاعته مكابرة أو عداوة خواصه ومقربيه لكن صدر الكلام بذكره الجليل تفخيما لشأنهم وإيذانا بأن عداوته عز وعلا كما فى قوله عزوجل والله (وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ثم صرح بالمرام فقيل (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أول من يشمله عنوان الملكية والرسالة لإظهار فضلهما كأنهما عليهما‌السلام من جنس آخر أشرف مما ذكر تنزيلا للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الجنس وللتنبيه على أن عداوة أحدهما عداوة للآخر حسبما لمادة اعتقادهم الباطل فى حقهما حيث زعموا أنهما متعاديان وللإشارة إلى أن معاداة الواحد والكل سواء فى الكفر واستتباع العداوة من جهة الله سبحانه وأن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع وقوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أى لهم جواب الشرط والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور وقرىء ميكائل كميكاعل وميكائيل كميكاعيل وميكئل كميكعل وميكئيل كميكعيل (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على معانيها وعلى كونها من عند الله عزوجل (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أى المتمردون فى الكفر الخارجون عن حدوده فإن من


(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)

____________________________________

ليس على تلك الصفة من الكفرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات قال الحسن إذا استعمل الفسق فى نوع من المعاصى وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال قال ابن صوريا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جئتنا بشىء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها فنزلت واللام للعهد أى الفاسقون المعهودون وهم أهل الكتاب المحرفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أكفروا بها وهى فى غاية الوضوح وكلما عاهدوا عهدا ومن جملة ذلك ما أشير إليه فى قوله تعالى (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من قولهم للمشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقرىء بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودهم مرارا كثيرة وقرىء عوهدوا وعهدوا وقوله تعالى (عَهْداً) إما مصدر مؤكد لعاهدوا من غير لفظه أو مفعول له على أنه بمعنى أعطوا العهد (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أى راموا بالزمام ورفضوه وقرىء نقضه وإسناد النبذ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبذه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أى بالتوراة وهذا دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون وأن من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون بها سرا (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنكير للتفخيم (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة لرسول لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة من حيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرر صحتها وحقق حقية نبوة موسى عليه الصلاة والسلام بما أنزل عليه أو من حيث أنه عليه‌السلام جاء على وفق ما نعت فيها (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أى التوراة وهم اليهود الذين كانوا فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانوا فى عهد سليمان عليه‌السلام كما قيل لأن النبذ عند مجىء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتصور منهم وإفراد هذا النبذ بالذكر مع اندراجه تحت قوله عزوجل (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لأنه معظم جناياتهم ولأنه تمهيد لذكر اتباعهم لما تتلو الشياطين وإيثارهم له عليه والمراد بإيتائها إما إيتاء علمها بالدراسة والحفظ والوقوف على ما فيها فالموصول عبارة عن علمائهم وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل وعلى التقديرين فوضعه موضع الضمير للإيذان بكمال التنافى بين ما أثبت لهم فى حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ (كِتابَ اللهِ) أى الذى أوتوه قال السدى لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وما روت فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الخ وإنما عبر عنها بكتاب الله تشريفا لها وتعظيما لحقها عليهم وتهويلا لما اجتروءا عليه من الكفر


(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

____________________________________

بها وقيل كتاب الله القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول لا سيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبل فإن ذلك قبول له وتمسك به فيكون الكفر به عند مجيئه نبذا له كأنه قيل كتاب الله الذى جاء به فإن مجىء الرسول معرب عن مجىء الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مثل لتركهم وإعراضهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جملة حالية أى نبذوه وراء ظهورهم مشبهين بمن لا يعلمه فإن أريد بهم أحبارهم فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ففيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله أو لا يعلمونه أصلا كما إذا أريد بهم الكل وفى هذين الوجهين زيادة مبالغة فى إعراضهم عما فى التوراة من دلائل النبوة هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن فالمراد بالعلم المنفى فى قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هو العلم بأنه كتاب الله ففيه ما فى الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون فى ذلك وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا قيل إن جيل اليهود أربع فرق ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمنى أهل الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم بقوله عزوجل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدى الحدود تمردا وفسوقا وهم المعنيون بقوله تعالى (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية وهم المتجاهلون (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) عطف على جواب لما أى نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحرة التى كانت تقرأها الشياطين وهم المتمردون من الجن وتتلو حكاية حال ماضية والمراد بالاتباع التوغل والتمحض فيه والإقبال عليه بالكلية وإلا فأصل الاتباع كان حاصلا قبل مجىء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يتسنى عطفه على جواب لما ولذلك قيل هو معطوف على الجملة وقيل على أشربوا (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أى فى عهد ملكه قيل كانت الشياطين يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك فى عهد سليمان عليه‌السلام حتى قيل إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الإنس والجن والطير والريح التى تجرى بأمره وقيل إن سليمان عليه‌السلام كان قد دفن كثيرا من العلوم التى خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه فلما مضت على ذلك مدة توصل إليها قوم من المنافقين فكتبوا فى خلال ذلك أشياء من فنون السحر تناسب تلك


الأشياء المدفونة من بعض الوجوه ثم بعد موته وإطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنه من عمل سليمان عليه‌السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغ إلا بسبب هذه الأشياء (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تنزيه لساحته عليه‌السلام عن السحر وتكذيب لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به والتعرض لكونه كفرا للمبالغة فى إظهار نزاهته عليه‌السلام وكذب باهتيه بذلك (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) وقرىء بتخفيف لكن ورفع الشياطين والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها وكون المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا (كَفَرُوا) باستعمال السحر وتدوينه (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إغواء وإضلالا والجملة فى محل النصب على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما فى لكن من رائحة الفعل كاف فى العمل فى الحال أو فى محل الرفع على أنه خبر ثان للكن أو بدل من الخبر الأول وصيغة الاستقبال للدلالة على استمرار التعليم وتجدده أو جملة مستأنفة هذا على تقدير كون الضمير للشياطين وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل اتبعوا فهى إما حال منه وإما استئنافية فحسب. واعلم أن السحر أنواع منها سحر الكلدانيين الذين كانوا فى قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هى المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاث فرق ففرقة منهم يزعمون أن الأفلاك والنجوم واجبة الوجود لذواتها وهم الصابئة وفرقة يقولون بإلهية الأفلاك ويتخذون لكل واحد منها هيكلا ويشتغلون بخدمتها وهم عبدة الأوثان وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلا مختارا لكنهم قالوا إنه أعطاها قوة عالية نافذة فى هذا العالم وفوض تدبيره إليها ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية فإنهم يزعمون أن الإنسان تبلغ روحه بالتصفية فى القوة والتأثير إلى حيث يقدر على الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتغيير البنية والشكل ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم وتسخير الجن ومنها التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة ولا خلاف بين الأمة فى أن من اعتقد الأول فقد كفر وكذا من اعتقد الثانى وهو سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية وأما من اعتقد أن الإنسان يبلغ بالتصفية وقراءة العزائم والرقى إلى حيث يخلق الله سبحانه وتعالى عقيب ذلك على سبيل جريان العادة بعض الخوارق فالمعتزلة اتفقوا على أنه كافر لأنه لا يمكنه بهذا الاعتقاد معرفة صدق الأنبياء والرسل بخلاف غيرهم ولعل التحقيق أن ذلك الإنسان إن كان خيرا متشرعا فى كل ما يأتى ويذر وكان من يستعين به من الأرواح الخيرة وكانت عزائمه ورقاه غير مخالفة لأحكام الشريعة الشريفة ولم يكن فيما ظهر فى يده من الخوارق ضرر شرعى لأحد فليس ذلك من قبيل السحر وإن كان شريرا غير متمسك بالشريعة الشريفة فظاهر أن من يستعين به من الأرواح الخبيثة الشريرة لا محالة ضرورة امتناع تحقق التضام والتعاون بينهما من غير اشتراك فى الخبث والشرارة فيكون كافرا قطعا وأما الشعوذة وما يجرى مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الآلات الهندسية وخفة اليد والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار فإطلاق السحر عليها بطريق التجوز أو لما فيها


من الدقة لأنه فى الأصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفى سببه أو من الصرف عن الجهة المعتادة لما أنه فى أصل اللغة الصرف على ما حكاه الأزهرى عن الفراء ويونس (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر أى ويعلمونهم ما أنزل عليهما والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو هو نوع أقوى منه أو على ما تتلو وما بينهما اعتراض أى واتبعوا ما أنزل الخ وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس كما ابتلى قوم طالوت بالنهر أو تمييزا بينه وبين المعجزة لئلا يغتر به الناس أو لأن السحرة كثرت فى ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس وأما ما يحكى من أن الملائكة عليهم‌السلام لما رأوا ما يصعد من ذنوب بنى آدم عيروهم وقالوا لله سبحانه هؤلاء الذين اخترتهم لخلافة الأرض يعصونك فيها فقال عزوجل لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتمونى قالوا سبحانك ما ينبغى لنا أن نعصيك قال تعالى فاختاروا من خياركم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلحهم وأعبدهم فأهبطا إلى الأرض بعد ما ركب فيهما ما ركب فى البشر من الشهوة وغيرها من القوى ليقضيا بين الناس نهارا ويعرجا إلى السماء مساء وقد نهيا عن الإشراك والقتل بغير الحق وشرب الخمر والزنا وكانا يقضيان بينهم نهارا فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم فصعدا إلى السماء فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة من أجمل النساء تسمى زهرة وكانت من لخم وقيل كانت من أهل فارس ملكة فى بلدها وكانت خصومتها مع زوجها فلما رأياها افتتنا بها فراوداها عن نفسها فأبت فألحا عليها فقالت لا إلا أن تقضيالى على خصمى ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تقتلاه ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تشربا الخمر وتسجدا للصنم ففعلا كلا من ذلك بعد اللتيا والتى ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تعلمانى ما تصعدان به إلى السماء فعلماها الاسم الأعظم فدعت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله سبحانه كوكبا فهما بالعروج حسب عادتهما فلم تطعهما أجنحتهما فعلما ما حل بهما وكان فى عهد إدريس عليه‌السلام فالتجآ إليه ليشفع لهما ففعل فخير هما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا الأول لانقطاعه عما قليل فهما معذبان ببابل قيل معلقان بشعورهما وقيل منكوسان يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة فمما لا تعويل عليه لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل ولعله من مقولة الأمثال والرموز التى قصد بها إرشاد اللبيب الأريب بالترغيب والترهيب وقيل هما رجلان سميا ملكين لصلاحهما ويعضده قراءة الملكين بالكسر (بِبابِلَ) الباء بمعنى فى وهى متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من الملكين أو من الضمير فى أنزل وهى بابل العراق وقال ابن مسعود رضى الله عنه بابل أرض الكوفة وقيل جبل دماوند ومنع الصرف للعجمة والعلمية أو للتأنيث والعلمية (هارُوتَ وَمارُوتَ) عطف بيان للملكين علمان لهما ومنع صرفهما للعجمة والعلمية ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لا نصرفا وأما من قرأ الملكين بكسر اللام أو قال كانا رجلين صالحين فقال هما اسمان لهما وقيل هما اسما قبيلتين من الجن هما المراد من الملكين بالكسر وقرىء بالرفع على هما هاروت وماروت (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) من مزيدة فى المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق الذى يفيده أحد لا لإفادة نفس الاستغراق كما فى قولك


ما جاءنى من رجل وقرىء يعلمان من الإعلام (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) الفتنة الاختبار والامتحان وإفرادها مع تعددهما لكونها مصدرا وحملها عليهما مواطأة للمبالغة كأنهما نفس الفتنة والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه أى وما يعلمان ما أنزل عليهما من السحر أحدا من طالبيه حتى ينصحاه قبل التعليم ويقولا له إنما نحن فتنة وابتلاء من الله عزوجل فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر ومن توقى عن العمل به أو اتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقى على الإيمان (فَلا تَكْفُرْ) باعتقاد حقيته وجواز العمل به والظاهر أن غاية النفى ليست هذه المقالة فقط بل من جملتها التزام المخاطب بموجب النهى لكن لم يذكر لظهوره وكون الكلام فى بيان اعتناء الملكين بشأن النصح والإرشاد والجملة فى محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون لا معطوفة عليه كما قيل أى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ويحملونهم على العمل به إغواء وإضلالا والحال أنهما ما يعلمان أحدا حتى ينهياه عن العمل به والكفر بسببه وأما ما قيل من أن ما فى قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ) الخ نافية والجملة معطوفة على قوله تعالى (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) جىء بها لتكذيب اليهود فى القصة أى لم ينزل على الملكين إباحة السحر وأن هاروت وماروت بدل من الشياطين على أنهما قبيلتان من الجن خصتا بالذكر لأصالتهما وكون باقى الشياطين أتباعا لهما وأن المعنى ما يعلمان أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فتكون مثلنا فيأباه أن مقام وصف الشيطان بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصف رؤسائهم بما ذكر من النهى عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلام فإن الإبدال فى حكم تنحية المبدل منه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) عطف على الجملة المنفية فإنها فى قوة المثبتة كأنه قيل يعلمانهم بعد قولهما إنما نحن الخ والضمير لأحد حملا على المعنى كما فى قوله تعالى (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ) أى بسببه وباستعماله (بَيْنَ الْمَرْءِ) وقرىء بضم الميم وكسرها مع الهمزة وتشديد الراء بلا همزة (وَزَوْجِهِ) بأن يحدث الله تعالى بينهما التباغض والفرك والنشوز عند ما فعلوا ما فعلوا من السحر على حسب جرى العادة الإلهية من خلق المسببيات عقيب حصول الأسباب العادية ابتلاء لا أن السحر هو المؤثر فى ذلك وقيل فيتعلمون منهما ما يعملون به فيراه الناس ويعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ) أى بما تعلموه واستعملوه من السحر (مِنْ أَحَدٍ) أى أحدا ومن مزيدة لما ذكر فى قوله تعالى (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) والمعهود وإن كان زيادتها فى معمول فعل منفى إلا أنه حملت الاسمية فى ذلك على الفعلية كأنه قيل وما يضرون به من أحد (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه وغيره من الأسباب بمعزل من التأثير بالذات وإنما هو بأمره تعالى فقد يحدث عند استعمالهم السحر فعلا من أفعاله ابتلاء وقد لا يحدثه والاستثناء مفرغ والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير ضارين أو من مفعوله وإن كان نكرة لاعتمادها على النفى أو الضمير المجرور فى به أى وما يضرون به أحدا إلا مقرونا بإذن الله تعالى وقرىء بضارى على الإضافة بجعل الجار جزءا من المجرور وفصل ما بين المضافين بالظرف (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) لأنهم يقصدون به العمل أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا (وَلا يَنْفَعُهُمْ) صرح بذلك إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شر بحت وضرر محض لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب من يدعى النبوة


(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

____________________________________

مثلا من السحرة أو تخليص الناس منه حتى يكون فيه نفع فى الجملة وفيه أن الاجتناب عما لا يؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التى لا يؤمن أن تجر إلى الغواية وإن قال من قال[عرفت الشر لا للشر ر لكن لتوقيه] [ومن لا يعرف الشر ر من الناس يقع فيه] (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أى اليهود الذين حكيت جناياتهم (لَمَنِ اشْتَراهُ) أى استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله عزوجل واللام الأولى جواب قسم محذوف والثانية لام ابتداء علق به علموا عن العمل ومن موصولة فى حيز الرفع بالابتداء واشتراه صلتها وقوله تعالى (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أى من نصيب جملة من مبتدأ وخبر ومن مزيدة فى المبتدأ وفى الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا منه ولو أخر عنه لكان صفة له والتقدير ما له خلاق فى الآخرة وهذه الجملة فى محل الرفع على أنها خبر للموصول والجملة فى حيز النصب سادة مسد مفعولى علموا إن جعل متعديا إلى اثنين أو مفعوله الواحد إن جعل متعديا إلى واحد فجملة ولقد علموا الخ مقسم عليها دون جملة لمن اشتراه الخ هذا ما عليه الجمهور وهو مذهب سيبويه وقال الفراء وتبعه أبو البقاء أن اللام الأخيرة موطئة للقسم ومن شرطية مرفوعة بالابتداء واشتراه خبرها وما له فى الآخرة من خلاق جواب القسم وجواب الشرط محذوف اكتفاء عنه بجواب القسم لأنه إذا اجتمع الشرط والقسم يجاب سابقهما غالبا فحينئذ يكون الجملتان مقسما عليهما (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أى باعوها واللام جواب قسم محذوف والمخصوص بالذم محذوف أى وبالله لبئسما باعوا به أنفسهم السحر أو الكفر وفيه إيذان بأنهم حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فقد عرضوا أنفسهم للهلكة وباعوها بما لا يزيدهم إلا تبارا وتجويز كون الشراء بمعنى الاشتراء مما لا سبيل إليه لأن المشترى متعين وهو ما تتلوا الشياطين ولأن متعلق الذم هو المأخوذ لا المنبوذ كما أشير إليه فى تفسير قوله سبحانه بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أى يعملون بعلمهم جعلوا غير عالمين لعدم عملهم بموجب علمهم أو لو كانوا يتفكرون فيه أو يعلمون قبحه على اليقين أو حقيقة ما يتبعه من العذاب عليه على أن المثبت لهم أو لا على التوكيد القسمى العقل الغريزى أو العلم الإجمالى بقبح الفعل أو ترتب العقاب من غير تحقيق وجواب لو محذوف أى لما فعلوا ما فعلوا (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أى بالرسول المومى إليه فى قوله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الخ أو بما أنزل إليه من الآيات المذكورة فى قوله تعالى (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أو بالتوراة التى أريدت بقوله تعالى (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فإن الكفر بالقرآن والرسول عليه‌السلام كفر بها (وَاتَّقَوْا) المعاصى المحكية عنهم (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) جواب لو وأصله لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه وتنكير المثوبة للتقليل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة تشريفية لمثوبة أى لشىء ما من المثوبة كائنة من عنده تعالى خير وقيل جواب لو محذوف أى لأثيبوا وما بعده جملة مستأنفة فإن وقوع


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

____________________________________

الجملة الابتدائية جوابا للو غير معهود فى كلام العرب وقيل لو للتمنى ومعناه أنهم من فظاعة الحال بحيث يتمنى العارف إيمانهم واتقاءهم تلهفا عليهم وقرىء لمثوبة وإنما سمى الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين فيه إرشاد لهم إلى الخير وإشارة إلى بعض آخر من جنايات اليهود (لا تَقُولُوا راعِنا) المراعاة المبالغة فى الرعى وهو حفظ الغير وتدبير أموره وتدارك مصالحه وكان المسلمون إذا ألقى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من العلم يقولون راعنا يا رسول الله أى راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك ونحفظه وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابون بها فيما بينهم وهى راعينا قيل معناها اسمع لا سمعت فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترصوه واتخذوه ذريعة إلى مقصدهم فجعلوا يخاطبون به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعنون به تلك المسبة أو نسبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرعن وهو الحمق والهوج روى أن سعد بن عبادة رضى الله عنه سمعها منهم فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذى نفسى بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربن عنقه قالوا أو لستم تقولونها فنزلت الآية ونهى فيها المؤمنون عن ذلك قطعا لألسنة اليهود عن التدليس وأمروا بما فى معناها ولا يقبل التلبيس فقيل (وَقُولُوا انْظُرْنا) أى انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نظره إذا انتظره وقرىء أنظرنا من النظرة أى أمهلنا حتى نحفظ وقرىء راعونا على صيغة الجمع للتوقير وراعنا على صيغة الفاعل أى قولا ذارعن كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سببا للسب بالرعن اتصف به (وَاسْمَعُوا) وأحسنوا سماع ما يكلمكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعاذة وطلب المراعاة أو واسمعوا ما كلفتموه من النهى والأمر بجد واعتناء حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه أو واسمعوا سماع طاعة وقبول ولا يمكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا (وَلِلْكافِرِينَ) أى اليهود الذين توسلوا بقولكم المذكور إلى كفرياتهم وجعلوه سببا للتهاون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا له ما قالوا (عَذابٌ أَلِيمٌ) لما اجترءوا عليه من العظيمة وهو تذييل لما سبق فيه وعيد شديد لهم ونوع تحذير للمخاطبين عما نهوا عنه (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الودحب الشىء مع تمنيه ولذلك يستعمل فى كل منهما ونفيه كناية عن الكراهة ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بعلية ما فى حيز الصلة لعدم ودهم ولعل تعلقه بما قبله من حيث أن القول المنهى عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحى المعبر عنه فى هذه الآية بالخير فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له إلى ما حكى عنهم لوقوعه فى أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير وقيل كان فريق من اليهود يظهرون للمؤمنين محبة ويزعمون أنهم يودون لهم الخير فنزلت تكذيبا لهم فى ذلك ومن فى


(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٦)

____________________________________

قوله تعالى (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) للتبيين كما فى قوله عز وعلا (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) ولا مزيدة لما ستعرفه (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) فى حيز النصب على أنه مفعول يود وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعين الفاعل والتصريح الآتى فى قوله تعالى (مِنْ خَيْرٍ) هو القائم مقام فاعله ومن مزيدة للاستغراق والنفى وإن لم يباشره ظاهرا لكنه منسحب عليه معنى والخير الوحى وحمله على ما يعمه وغيره من العلم والنصرة كما قيل يأباه وصفه فيما سيأتى بالاختصاص وتقديم الظرف عليه مع أن حقه التأخر عنه لإظهار كمال العناية به لأنه المدار لعدم ودهم ومن فى قوله تعالى (مِنْ رَبِّكُمْ) ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخير والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم وليست كراهتهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبدهم بما فيه وتعريضهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة من نزل عليهم الخير بل من حيث وقوع ذلك التنزيل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصيغة الجمع للإيذان بأن مدار كراهتهم ليس معنى خاصا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل وصف مشترك بين الكل وهو الخلو عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم ويكرهون فيحسدونكم أن ينزل عليكم شىء من الوحى أما اليهود فبناء على أنهم أهل الكتاب وأبناء الأنبياء الناشئون فى مهابط الوحى وأنتم أميون وأما المشركون فإدلالا بما كان لهم من الجاه والمال زعما منهم أن رياسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيوية منوطة بالأسباب الظاهرة ولذلك قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ولما كانت اليهود بهذا الداء أشهر لا سيما فى أثناء ذكر ابتلائهم به لم يلزم من نفى ودادتهم لما ذكر نفى ودادة المشركين له فزيدت كلمة لا لتأكيد النفى (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له والمراد برحمته الوحى كما فى قوله سبحانه أهم يقسمون رحمة ربك عبر عنه باعتبار نزوله على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافته إليه تعالى بالرحمة قال على رضى الله عنه بنبوته خص بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالفعل متعد وصيغة الافتعال للإنباء عن الاصطفاء وإيثاره على التنزيل المناسب للسياق الموافق لقوله تعالى (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ) لزيادة تشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقناطهم مما علقوا به أطماعهم الفارغة والباء داخلة على المقصود أى يؤتى رحمته (مَنْ يَشاءُ) من عباده ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتى الفائض عليه بحسب إرادته عز وعلا تفضلا لا تتعداه إلى غيره وقيل الفعل لازم ومن فاعله والضمير العائد إلى من محذوف على التقديرين وقوله تعالى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل لما سبق مقرر لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاء النبوة من فضله العظيم كقوله تعالى (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) وأن حرمان من حرم ذلك ليس لضيق ساحة فضله بل لمشيئته الجارية على سنن الحكمة البالغة وتصدير الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونيهما وكون كل منهما مستقلة بشأنها فإن الإضمار فى الثانية منبئ عن توقفها على الأولى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذى هو فرد من أفراد تنزيل الوحى وإبطال مقالة الطاعنين فيه أثر تحقيق


(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٠٧)

____________________________________

حقيقة الوحى ورد كلام الكارهين له رأسا قيل نزلت حين قال المشركون أو اليهود ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه والنسخ فى اللغة الإزالة والنقل يقال نسخت الريح الأثر أى أزالته ونسخت الكتاب أى نقلته ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعا وإنساؤها إذهابها من القلوب وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية وقرىء ننسخ من أنسخ أى نأمرك أو جبريل بنسخها أو نجدها منسوخة وننسأها من النسء أى نؤخرها وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول وقرىء ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرىء ما ننسك من آية أو ننسخها والمعنى أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أى نوع آخر هو خير للعباد بحسب الحال فى النفع والثواب من الذاهبة وقرىء بقلب الهمزة ألفا (أَوْ مِثْلِها) أى فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فى مادونها أيضا وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب والنص كما ترى دال على جواز النسخ كيف لا وتنزيل الآيات التى عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأعصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة فى حال تقتضى فى حال أخرى نقيضه فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام (أَلَمْ تَعْلَمْ) الهمزة للتقرير كما فى قوله سبحانه أليس الله بكاف عبده وقوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) والخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ساد مسد مفعولى تعلم عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثانى محذوف عند الأخفش والمراد بهذا التقرير الاستشهاد بعلمه بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من الأحكام الألوهية وكذا الحال فى قوله عز سلطانه (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ والجملة خبر لأن إيثاره على أن يقال أن لله ملك السموات والأرض للقصد إلى تقوى الحكم بتكرر الإسناد وهو إما تكرير للتقرير وإعادة للاستشهاد على ما ذكر وإنما لم يعطف أن مع ما فى حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفايته فى الوقوف على ما هو المقصود وإما تقرير مستقل للاستشهاد على قدرته تعالى على جميع الأشياء أى ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته لا معارض لأمره ولا معقب لحكمه فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شىء من الأشياء وقوله تعالى (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ


أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٠٨)

____________________________________

وَلا نَصِيرٍ) معطوف على الجملة الواقعة خبرا لأن داخل معها تحت تعلق العلم المقرر وفيه إشارة إلى تناول الخطابين السابقين للأمة أيضا وإنما إفراده عليه‌السلام بهما لما أن علومهم مستندة إلى علمه عليه‌السلام ووضع الاسم الجليل موضع الضمير الراجع إلى اسم أن لتربية المهابة والإيذان بمقارنة الولاية والنصرة للقوة والعزة والمراد به الاستشهاد بما تعلق به من العلم على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعى حصوله البتة وإنما الذى يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا ونصيرا لهم فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره على الاستقلال يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى ولا يخطر بباله ريبة فى أمر النسخ وغيره أصلا والفرق بين الولى والنصير أن الولى قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور وما إما تميمية لا عمل لها ولكم خبر مقدم ومن ولى مبتدأ مؤخر زيدت فيه كلمة من للاستغراق وإما حجازية ولكم خبرها المنصوب عند من يجيز تقديمه واسمها من ولى ومن مزيدة لما ذكر ومن دون الله فى حيز النصب على الحالية من اسمها لأنه فى الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا ومعناه سوى الله والمعنى أن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم فى أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم والعمل بموجبه من الثقة به والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه من غير إصغاء إلى أقاويل الكفرة وتشكيكاتهم التى من جملتها ما قالوا فى أمر النسخ وقوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ) تجريد للخطاب عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخصيص له بالمؤمنين وأم منقطعة ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم فى ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك ومعنى الهمزة إنكار وقوع الإرادة منهم واستبعاده لما أن قضية الإيمان وازعة عنها وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة فى إنكاره واستبعاده ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه والمعنى بل أتريدون (أَنْ تَسْئَلُوا) وأنتم مؤمنون (رَسُولَكُمْ) وهو فى تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ما تشتهون غير واثقين فى أموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشئونه سبحانه قيل لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ وقيل سأله عليه‌السلام قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كانت للمشركين وهى شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب وقوله تعالى (كَما سُئِلَ مُوسى) مصدر تشبيهى أى نعت لمصدر مؤكد محذوف وما مصدرية أى سؤالا مشبها بسؤال موسى عليه‌السلام حيث قيل له اجعل لنا إلها وأرنا الله جهرة وغير ذلك ومقتضى الظاهر أن يقال كما سألوا موسى لأن المشبه هو المصدر من المبنى للفاعل أعنى سائليه المخاطبين لا من المبنى للمفعول أعنى مسئولية


(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٩)

____________________________________

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يشبه بمسئولية موسى عليه‌السلام فلعله أريد التشبيه فيهما معا ولكنه أوجز النظم فذكر فى جانب المشبه السائلية وفى جانب المشبه به المسئولية واكتفى بما ذكر فى كل موضع عما ترك فى الموضع الآخر كما ذكر فى قوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وقد جوز أن تكون ما موصولة على أن العائد محذوف أى كالسؤال الذى سئله موسى عليه‌السلام وقوله تعالى (مِنْ قَبْلُ) متعلق بسئل جىء به للتأكيد وقرىء سيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بين بين (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ) أى يختره ويأخذه لنفسه (بِالْإِيمانِ) بمقابلته بدلا منه وقرىء ومن يبدل من أبدل وكان مقتضى الظاهر أن يقال ومن يفعل ذلك أى السؤال المذكور أو إرادته وحاصله ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التى من جملتها الآيات الناسخة التى هى خير محض وحق بحت واقترح غيرها (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أى عدل وجار من حيث لا يدرى عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى وتاه فى تيه الهوى وتردى فى مهاوى الردى وإنما أوثر على ذلك ما عليه النظم الكريم للتصريح من أول الأمر بأنه كفر وارتداد وأن كونه كذلك أمر واضح غنى عن الإخبار به بأن يقال ومن يفعل ذلك يكفر حقيق بأن يعد من المسلمات ويجعل مقدما للشرطية روما للمبالغة فى الزجر والإفراط فى الردع وسواء السبيل من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة فى بيان قوة الاتصاف كأنه نفس السواء على منهاج حصول الصورة فى الصورة الحاصلة وقيل الخطاب لليهود حين سألوا أن ينزل الله عليهم كتابا من السماء وقيل للمشركين حين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الخ فإضافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوة ومعنى تبدل الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان ترك صرف قدرتهم إليه مع تمكنهم من ذلك وإيثارهم للكفر عليه (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم رهط من أحبار اليهود. روى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى الله عنهما بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فإنى عاهدت أن لا أكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبله وبالمؤمنين إخوانا ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبراه فقال أصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) حكاية لودادتهم ولو فى معنى التمنى وصيغة الغيبة كما فى قوله حلف ليفعلن وقيل هى بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا التقدير ودوا ردكم وقيل هى على حقيقتها وجوابها محذوف تقديره لو يردونكم كفارا لسروا بذلك و (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ)


(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١١١)

____________________________________

متعلق بيردونكم وقوله تعالى (كُفَّاراً) مفعول ثان له على تضمين الرد معنى التصيير أى يصيرونكم كفارا كما فى قوله[رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا] [فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا] وقيل هو حال من مفعوله والأول أدخل لما فيه من الدلالة صريحا على كون الكفر المفروض بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورة كون المخاطبين مؤمنين واستحالة تحقق الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة ما أرادوه وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارف للعاقل عن مباشرته وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل من بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى (حَسَداً) علة لود أو حال أريد به نعت الجمع أى حاسدين لكم والحسد الأسف على من له خير بخيره (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) متعلق بودأى ودوا ذلك من أجل تشهيهم وحظوظ أنفسهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسد أى حسدا منبعثا من أصل نفوسهم بالغا أقصى مراتبه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) بالمعجزات الساطعة وبما عاينوا فى التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسكون به وهم منهمكون فى الباطل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو ترك المؤاخذة والعقوبة والصفح ترك التثريب والتأنيب (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الذى هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذ لا لهم بضرب الجزية عليهم أو الإذن فى القتال وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ولا يقدح فى ذلك ضرب الغاية لأنها لا تعلم إلا شرعا ولا يخرج الوارد بذلك من أن يكون ناسخا كأنه قيل فاعفوا واصفحوا إلى ورود الناسخ (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فينتقم منهم إذا حان حينه وآن أوانه فهو تعليل لما دل عليه ما قبله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على فاعفوا أمروا بالصبر والمداراة واللجأ إلى الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كصلاة أو صدقة أو غير ذلك أى أى شىء من الخيرات تقدموه لمصلحة أنفسكم (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أى تجدوا ثوابه وقرىء تقدموا من أقدم (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يضيع عنده عمل فهو وعد للمؤمنين وقرىء بالياء فهو وعيد للكافرين (وَقالُوا) عطف على ود والضمير لأهل الكتابين جميعا (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أى قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فلف بين القولين ثقة أن السامع يرد كلا منهما إلى قائله ونحوه وقالوا كونوا هودأ أو نصارى تهتدوا وليس مرادهم بأولئك من أقام اليهودية والنصرانية قبل النسخ


(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)

____________________________________

والتحريف على وجهها بل أنفسهم على ما هم عليه لأنهم إنما يقولونه لإضلال المؤمنين وردهم إلى الكفر والهود جمع هائد كعوذ جمع عائذ وبزل جمع بازل والإفراد فى كان باعتبار لفظ من والجمع فى خبره باعتبار معناه وقرىء إلا من كان يهوديا أو نصرانيا (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) الأمانى جميع أمنية وهى ما يتمنى كالأعجوبة والأضحوكة والجملة معترضة مبنية لبطلان ما قالوا وتلك إشارة إليه والجمع باعتبار صدوره عن الجميع وقيل فيه حذف مضاف أى أمثال تلك الأمنية أمانيهم وقيل تلك إشارة إليه وإلى ما قبله من أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردهم كفارا ويرده قوله تعالى (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإنهما ليسا مما يطلب له البرهان ولا مما يحتمل الصدق والكذب قيل هاتوا أصله آتوا قلبت الهمزة هاء أى أحضروا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين فى دعواكم. هذا ما يقتضيه المقام بحسب النظر الجليل والذى يستدعيه إعجاز التنزيل أن يحمل الأمر التبكيتى على طلب البرهان على أصل الدخول الذى يتضمنه دعوى الاختصاص به فإن قوله تعالى (بَلى) الخ إثبات من جهته تعالى لما نفوه مستلزم لنفى ما أثبتوه وإذ ليس الثابت به مجرد دخول غيرهم الجنة ولو معهم ليكون المنفى مجرد اختصاصهم به مع بقاء أصل الدخول على حاله بل هو اختصاص غيرهم بالدخول كما ستعرفه بإذن الله تعالى ظهر أن المنفى أصل دخولهم ومن ضرورته أن يكون هو الذى كلفوا إقامة البرهان عليه لا اختصاصهم به ليتحد مورد الإثبات والنفى وإنما عدل عن إبطال صريح ما ادعوه وسلك هذا المسك إبانة لغاية حرمانهم مما علقوا به أطماعهم وإظهارا لكمال عجزهم عن إثبات مدعاهم لأن حرمانهم من الاختصاص بالدخول وعجزهم عن إقامة البرهان عليه لا يقتضيان حرمانهم من أصل الدخول وعجزهم عن إثباته وأما نفس الدخول فحيث ثبت حرمانهم منه وعجزهم عن إثباته فهم من الاختصاص به أبعد وعن إثباته أعجز وإنما الفائز به من انتظمه قوله سبحانه (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أى أخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئا عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء ومجمع المشاعر وموضع السجود ومظهر آثار الخضوع الذى هو من أخص خصائص الإخلاص أو توجهه وقصده بحبث لا يلوى عزيمته إلى شىء غيره (وَهُوَ مُحْسِنٌ) حال من ضمير أسلم أى والحال أنه محسن فى جميع أعماله التى من جملتها الإسلام المذكور وحقيقة الإحسان الإتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفى التابع لحسنه الذاتى وقد فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذى وعده له على عمله وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل هو فيه دخولا أوليا وأياما كان فتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل واستحالة نيله بدونه وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِ) حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار فى الظرف والعندية للتشريف ووضع اسم الرب مضافا إلى ضمير من أسلم موضع ضمير الجلالة لإظهار مزيد اللطف به وتقرير مضمون الجملة أى فله أجره


(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١١٣)

____________________________________

عند مالكه ومدبر أموره ومبلغه إلى كماله والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله تعالى (بَلى) وحده ويجوز أن يكون من فاعلا لفعل مقدر أى بلى يدخلها من أسلم وقوله تعالى (فَلَهُ أَجْرُهُ) معطوف على ذلك المقدر وأياما كان فتعليق ثبوت الأجر بما ذكر من الإسلام والإحسان المختصين بأهل الإيمان قاض بأن أولئك المدعين من دخول الجنة بمعزل ومن الاختصاص به بألف معزل (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فى الدارين من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من فوات مطلوب أى لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والجمع فى الضمائر التلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى الضمائر الأول باعتبار اللفظ (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم. نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتهم فقالوا لهم لستم على شىء أى أمر يعتد به من الدين أو على شىء ما منه أصلا مبالغة فى ذلك كما قالوا أقل من لا شىء وكفروا بعيسى والإنجيل (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) على الوجه المذكور وكفروا بموسى والتوراة لا أنهم قالوا ذلك بناء للأمر على منسوخية التوراة (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال واللام للجنس أى قالوا ما قالوا والحال إن كل فريق منهم من أهل العلم والكتاب أى كان حق كل منهم أن يعترف بحقية دين صاحبه حسبما ينطق به كتابه فإن كتب الله تعالى متصادقة (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الذى سمعت به والكاف فى محل النصب إما على أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عامله لإفادة القصر أى قولا مثل ذلك القول بعينه لا قولا مغايرا له (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من عبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلة أى قالوا لأهل كل دين ليسوا على شىء وإما على أنها حال من المصدر المضمر المعرف الدال عليه قال أى قال القول الذين لا يعلمون حال كونه مثل ذلك القول الذى سمعت به (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) إما بدل من محل الكاف وإما مفعول للفعل المنفى قبله أى مثل ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالة اليهود والنصارى وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم فى سلك من لا يعلم أصلا (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أى بين اليهود والنصارى فإن مساق النظم لبيان حالهم وإنما التعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم ولأن المحاجة المحوجة إلى الحكم إنما وقعت بينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق بيحكم وكذا ما قبله وما بعده ولا ضير فيه لاختلاف المعنى (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار والظرف الأخير متعلق بيختلفون قدم عليه للمحافظة على رءوس الآى لا بكانوا


(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١٤)

____________________________________

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها يشهد به العرف الفاشى والاستعمال المطرد فإذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا الحكم عام لكل من فعل ذلك فى أى مسجد كان وإن كان سبب النزول فعل طائفة معينة فى مسجد مخصوص. روى أن النصارى كانوا يطرحون فى بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أن طيطيوس الرومى ملك النصارى وأصحابه غزوا بنى إسرائيل وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم وأحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير ولم يزل خرابا حتى بناه المسلمون فى عهد عمر رضى الله عته وإنما أوقع المنع على المساجد وإن كان الممنوع هو الناس لما أن فعلهم من طرح الأذى والتخريب ونحوهما متعلق بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث أنها مبطلة لدعوى النصارى اختصاصهم بدخول الجنة وقيل هو منع المشركين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية فتعلقها بما تقدمها من جهة أن المشركين من جملة الجاهلين القائلين لكل من عداهم ليسوا على شىء (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ثانى مفعولى منع كقوله تعالى (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) وقوله تعالى (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) ويجوز أن يكون ذلك بحذف الجار مع أن وأن يكون ذلك مفعولا له أى كراهة أن يذكر فيها اسمه (وَسَعى فِي خَرابِها) بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر (أُولئِكَ) المانعون الظالمون الساعون فى خرابها (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أى ما كان ينبغى لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلا عن الاجتراء على تخريبها أو تعطيلها أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من جهة المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوهم منها أو ما كان لهم فى علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص ما استولوا عليه منهم وقد أنجز الوعد ولله الحمد. روى أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة وقيل معناه النهى عن تمكينهم من الدخول فى المسجد واختلف الأئمة فى ذلك فجوزه أبو حنيفة مطلقا ومنعه مالك مطلقا وفرق الشافعى بين المسجد الحرام وغيره (لَهُمْ) أى لأولئك المذكورين (فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أى خزى فظيع لا يوصف بالقتل والسبى والإذلال بضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا وهو ما حكى من ظلمهم كذلك فى العظم وتقديم الظرف فى الموضعين للتشويق إلى ما يذكر بعده من الخزى والعذاب لما مر من أن تأخير ما حقه التقديم موجب لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضل تمكن كما فى


(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(١١٦)

قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج إلى غير ذلك (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أى له كل الأرض التى هى عبارة عن ناحيتى المشرق والمغرب لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان فإن منعتم من إقامة العبادة فى المسجد الأقصى أو المسجد الحرام (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أى ففى أى مكان فعلتم تولية وجوهكم شطر القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مبنى على الفتح ولا يتصرف سوى الجر بمن وهو خبر مقدم ووجه الله مبتدأ والجملة فى محل الجزم على أنها جواب الشرط أى هناك جهته التى أمر بها فإن إمكان التولية غير مختص بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر أو فثم ذاته بمعنى الحضور العلمى أى فهو عالم بما يفعل فيه ومثيب لكم على ذلك وقرىء بفتح التاء واللام أى فأينما توجهوا القبلة (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعة على عباده (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم فى الأماكن كلها والجملة تعليل لمضمون الشرطية وعن ابن عمر رضى الله عنهما نزلت فى صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجهوا وقيل فى قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك وقيل هى توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود عن أن يكون فى جهة (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) حكاية لطرف آخر من مقالاتهم الباطلة المحكية فيما سلف معطوفة على ما قبلها من قوله تعالى (وَقالَتِ) الخ لا على صلة من لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبية والضمير لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون وقرىء بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله ومشركو العرب الملائكة بنات الله والاتخاذ إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد وإما بمعنى التصيير والمفعول الأول محذوف أى صير بعض مخلوقاته ولدا (سُبْحانَهُ) تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا وسبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه أى أسبح سبحانه أى أنزهه تنزيها لائقا به وفيه من التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السبح الذى هو الذهاب والإبعاد فى الأرض ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول إلى المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم المشير إلى الحقيقة الحاضرة فى الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه أى تنزه بذاته تنزها حقيقا به ففيه مبالغة من حيث إسناد البراءة إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيه اعتقاد نزاهته تعالى عما لا يليق به لا إثباتها له تعالى وقوله تعالى (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رد لما زعموا وتنبيه على بطلانه وكلمة بل للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشىء من المخلوقات ومن سرعة فنائه المحوجة إلى اتخاذ ما يقوم مقامه فإن مجرد الإمكان والفناء لا يوجب ذلك. ألا يرى أن الأجرام الفلكية مع إمكانها وفنائها بالآخرة مستغنية


(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))(١١٨

____________________________________

بدوامها وطول بقائها عما يجرى مجرى الولد من الحيوان أى ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التى من جملتها عزير والمسيح والملائكة (كُلٌّ) التنوين عوض عن المضاف إليه أى كل ما فيهما كائنا ما كان من أولى العلم وغيرهم (لَهُ قانِتُونَ) منقادون لا يستعصى شىء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشىء ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد وإنما جىء بما المختصة بغير أولى العلم تحقيرا لشأنهم وإيذانا بكمال بعدهم عما نسبوا إلى بعض منهم وصيغة جمع العقلاء فى قانتون للتغليب أو كل من جعلوه لله تعالى ولدا له قانتون أى مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه فإن البديع كما يطلق على المبتدع يطلق على المبتدع نص عليه أساطين أهل اللغة وقد جاء بدعه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذكر فى القاموس وغيره ونظيره السميع بمعنى المسمع فى قوله أمن ريحانة الداعى السميع وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعل كما هو المشهور أى بديع سمواته من بدع إذا كان على شكل فائق وحسن رائق وهو حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنعاء تقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه والله سبحانه مبدع الأشياء كلها على الإطلاق منزه عن الانفعال فلا يكون والدا ورفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هو بديع الخ وقرىء بالنصب على المدح وبالجر على أنه بدل من الضمير فى له على رأى من يجوز الإبدال من الضمير المجرور كما فى قوله [على جوده لضن بالماء حاتم] (وَإِذا قَضى أَمْراً) أى أراد شيئا كقوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً) وأصل القضاء الأحكام أطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشىء لإيجابها إياه البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ) الخ (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) كلاهما من الكون التام أى أحدث فيحدث وليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال وإنما هو تمثيل لسهولة تأتى المقدورات بحسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم فى الباب من طاعة المأمور المطيع للآمر القوى المطاع وفيه تقرير لمعنى الإبداع وتلويح لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذ الولد شأن من يفتقر فى تحصيل مراده إلى مباد يستدعى ترتيبها مرور زمان وتبدل أطوار وفعله تعالى متعال عن ذلك (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) حكاية لنوع آخر من قبائحهم وهو قدحهم فى أمر النبوة بعد حكاية قدحهم فى شأن التوحيد بنسبة الولد إليه سبحانه وتعالى واختلف فى هؤلاء القائلين فقال ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود وقال مجاهد هم النصارى ووصفهم بعدم العلم لعدم علمهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغى أو لعدم علمهم بموجب عملهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدر عمن له شائبة علم أصلا وقال قتادة


(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)

____________________________________

وأكثر أهل التفسير هم مشركوا العرب لقوله تعالى (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) وقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أى هلا يكلمنا بلا واسطة أمرا ونهيا كما يكلم الملائكة أو هلا يكلمنا تنصيصا على نبوتك (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حجة تدل على صدقك بلغوا من العتو والاستكبار إلى حيث أملوا نيل مرتبة المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسول والملك ومن العناد والمكابرة إلى حيث لم يعدوا ما آتاهم من البينات الباهرة التى تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات قاتلهم الله أنى يؤفكون (كَذلِكَ) مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد والفساد (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) هذا الباطل الشنيع فقالوا أرنا الله جهرة وقالوا لن نصبر على طعام واحد الآية وقالوا هل يستطيع ربك الخ وقالوا اجعل لنا إلها الخ (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أى قلوب هؤلاء وأولئك فى العمى والعناد وإلا لما تشابهت أقاويلهم الباطلة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) أى نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك فى أنفسها كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أى يطلبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية وفى تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح مكان الإتيان الذى طلبوه ما لا يخفى من الجزالة والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض لرد قولهم لو لا يكلمنا الله إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أى متلبسا بالقرآن كما فى قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أو بالصدق كما فى قوله تعالى (أَحَقٌّ هُوَ) وقوله تعالى (بَشِيراً وَنَذِيراً) حال من مفعول باعتبار تقييده بالحال الأولى أى أرسلناك متلبسا بالقرآن حال كونك بشيرا لمن آمن بما أنزل عليك وعمل به ونذيرا لمن كفر به أو أرسلناك صادقا حال كونك بشيرا لمن صدقك بالثواب ونذيرا لمن كذبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبوا لا قاسر لهم على الإيمان فلا عليك إن أصروا وكابروا (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد ما بلغت ما أرسلت به وقرىء لن تسأل وما تسأل وقرىء لا تسأل على صيغة النهى إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدر المخبر على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمع خبرها وحمله على نهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعده النظم الكريم والجحيم المتأجج من النار وفى التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيد شديد لهم وإيذان بأنهم مطبوع عليهم لا يرجى منهم الإيمان قطعا وقوله تعالى (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) بيان لكمال شدة شكيمة هاتين الطائفتين خاصة إثر بيان ما يعمهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت وإيراد لا


(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(١٢٢)

____________________________________

النافية بين المعطوفين لتأكيد النفى لما مر من أن تصلب اليهود فى أمثال هذه العظائم أشد من النصارى والإشعار بأن رضى كل منهما مباين لرضى الأخرى أى لن ترضى عنك اليهود ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع ملتهم ولا النصارى ولو تركتهم ودينهم حتى تتبع ملتهم فأوجز النظم ثقة بظهور المراد وفيه من المبالغة فى إقناطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه‌السلام ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يكاد يدخل تحت الإمكان من اتباعه عليه‌السلام لملتهم فكيف يتوهم اتباعهم لملته عليه‌السلام وهذه حالتهم فى أنفسهم ومقالتهم فيما بينهم وأما إنهم أظهروها للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشافهوه بذلك وقالوا لن نرضى عنك وإن بالغت فى طلب رضانا حتى تتبع ملتنا كما قيل فلا يساعده النظم الكريم بل فيه ما يدل على خلافه فإن قوله عزوجل (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) صريح فى أن ما وقع هذا جوابا عنه ليس عين تلك العبارة بل ما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية والنصرانية وادعاء أن الاهتداء فيهما كقوله عزوجل حكاية عنهم (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) أى قل ردا عليهم إن هدى الله الذى هو الإسلام هو الهدى بالحق والذى يحق ويصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما تدعون إليه ليس بهدى بل هو هوى كما يعرب عنه قوله تعالى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أى آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم وهى التى عبر عنها فيما قبل بملتهم إذ هى التى ينتمون إليها وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقى للملة فقد غيروها تغييرا (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أى الوحى أو الدين المعلوم صحته (ما لَكَ مِنَ اللهِ) من جهته العزيزة (مِنْ وَلِيٍّ) يلى أمرك عموما (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنك عقابه وحيث لم يستلزم نفى الولى نفى النصير وسط لا بين المعطوفين لتأكيد النفى وهذا من باب التهييج والإلهاب وإلا فأنى يتوهم إمكان اتباعه عليه‌السلام لملتهم وهو جواب للقسم الذى وطأه اللام واكتفى به عن جواب الشرط (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر فى معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرة والخبر ما بعده أو خبر وما بعده مقرر له (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فى الفضل (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أى بكتابهم دون المحرفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامع الكفر ببعض منه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) بالتحريف والكفر بما يصدقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الكفر بالإيمان (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ومن جملتها التوراة وذكر النعمة إنما


(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١٢٤)

____________________________________

يكون بشكرها وشكرها الإيمان بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ضرورة الإيمان بها الإيمان به عليه الصلاة والسلام (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أفردت هذه النعمة بالذكر مع كونها مندرجة تحت النعمة السالفة لإنافتها فيما بين فنون النعم (وَاتَّقُوا) إن لم تؤمنوا (يَوْماً لا تَجْزِي) فى ذلك اليوم (نَفْسٌ) من النفوس (عَنْ نَفْسٍ) أخرى (شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الجزاء (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) أى فدية (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وتخصيصهم بتكرير التذكير وإعادة التحذير للمبالغة فى النصح وللإيذان بأن ذلك فذلكة القضية والمقصود من القصة لما أن نعم الله عزوجل عليهم أعظم وكفرهم بها أشد وأقبح (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) شروع فى تحقيق أن هدى الله هو ما عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد والإسلام الذى هو ملة إبراهيم عليه‌السلام وأن ما عليه أهل الكتابين أهواء زائغة وأن ما يدعونه من أنهم على ملته عليه الصلاة والسلام فرية بلا مرية ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياء عليهم‌السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيد والإسلام وبطلان الشرك وبصحة نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكونه ذلك النبى الذى استدعاه إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام بقولهما ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية فإذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين أى واذكر لهم وقت ابتلائه عليه‌السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد الوازعة عن الشرك فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات قد مر وجهه فى أثناء تفسير قوله عزوجل (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقيل على الظرفية بمضمر مؤخر أى وإذ ابتلاه كان كيت وكيت وقيل بما سيجىء من قوله تعالى (قالَ) الخ والأول هو اللائق بجزالة التنزيل ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وأبنائه عليهم‌السلام من الأفعال والأقوال فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم والابتلاء فى الأصل الاختبار أى تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا فعله أو تركه وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الأمور وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كمن يختبر عبده ليتعرف حاله من الكياسة فيأمره بما يليق بحاله من مصالحه وإبراهيم اسم أعجمى قال السهيلى كثيرا ما يقع الاتفاق أو التقارب بين


السريانى والعربى ألا يرى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ولذلك جعل هو وزوجته سارة كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا إلى يوم القيامة على ما روى البخارى فى حديث الرؤيا أن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى فى الروضة إبراهيم عليه‌السلام وحوله أولاد الناس وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه‌السلام وإيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير والمعنى عامله سبحانه معاملة المختبر حيث كلفه أوامر ونواهى يظهر بحسن قيامه بحقوقها قدرته على الخروج عن عهدة الإمامة العظمى وتحمل أعباء الرسالة وهذه المعاملة وتذكيرها للناس لإرشادهم إلى طريق إتقان الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بعثة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا مبنية على تلك القاعدة الرصينة واقعة بعد ظهور استحقاقه عليه‌السلام للنبوة العامة كيف لا وهى التى أجيب بها دعوة إبراهيم عليه‌السلام كما سيأتى واختلف فى الكلمات فقال مجاهد هى المذكورة بعدها ورد بأنه يأباه الفاء فى فأتمهن ثم الاستئناف وقال طاوس عن ابن عباس رضى الله عنهما هى عشر خصال كانت فرضا فى شرعه وهن سنة فى شرعنا خمس فى الرأس المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وخمس فى البدن الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء وفى الخبر أن إبراهيم عليه‌السلام أول من قص الشارب وأول من اختتن وأول من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها فى سورة براءة التائبون الخ وعشر فى الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الخ وعشر فى المؤمنون وسأل سائل إلى قوله عزوجل (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) وقيل ابتلاه الله سبحانه بسبعة أشياء بالشمس والقمر والنجوم والاختتان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة فوفى بالكل وقيل هن محاجته قومه والصلاة والزكاة والصوم والضيافة والصبر عليها وقيل هى مناسك كالطواف والسعى والرمى والإحرام والتعريف وغيرهن وقيل هى قوله عليه‌السلام الذى خلقنى فهو يهدين الآيات ثم قيل إنما وقع هذا الابتلاء قبل النبوة وهو الظاهر وقيل بعدها لأنه يقتضى سابقة الوحى وأجيب بأن مطلق الوحى لا يستلزم البعثة إلى الخلق وقرىء برفع إبراهيم ونصب ربه أى دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أولا (فَأَتَمَّهُنَّ) أى قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان كما فى قوله تعالى (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه الله تعالى ما سأله من غير نقص ويعضده ما روى عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه بقوله (رَبِّ اجْعَلْ) الآيات وقوله عزوجل (قالَ) على تقدير انتصاب إذ بمضمر جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلاء تمهيد لأمر معظم وظهور فضيلة المبتلى من دواعى الإحسان إليه فبعد حكايتها تترقب النفس إلى ما وقع بعدهما كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أو بيان لقوله تعالى (ابْتَلى) على رأى من جعل الكلمات عبارة عما ذكر أثره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده وغير ذلك وعلى تقدير انتصاب إذ بقال فالجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة والواو فى المعنى داخلة على قال أى وقال ابتلى الخ والجعل بمعنى التصيير أحد مفعوليه الضمير والثانى إماما واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل


(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)

____________________________________

له البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه وللناس متعلق بجاعلك أى لأجل الناس أو بمحذوف وقع حالا من إماما إذ لو تأخر عنه لكان صفة له والإمام اسم لمن يؤتم به وكل نبى إمام لأمته وإمامته عليه‌السلام عامة مؤبدة إذ لم يبعث بعده نبى إلا كان من ذريته مأمورا باتباع ملته (قالَ) استئناف مبنى على سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال إبراهيم عليه‌السلام عنده فقيل قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف ومن تبعيضية متعلقة بجاعل أى وجاعل بعض ذريتى كما تقول وزيدا لمن يقول سأكرمك أو بمحذوف أى واجعل فريقا من ذريتى إماما وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكل وإن كانوا على الحق وقيل التقدير وماذا يكون من ذريتى والذرية نسل الرجل فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع فى الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فى الياء فصارت ذرية أو فعيلة منهما والأصل فى الأولى ذريوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسبق إحداهما بالسكون فصارت ذريية كالثانية فأدغمت الياء فى مثلها فصارت ذرية أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذريئة فخففت الهمزة بإبدالها ياء كهمزة خطيئة ثم أدغمت الياء الزائدة فى المبدلة أو فعيلة من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالى الأمثال كما فى تسرى وتفضى وتظنى فأدغمت الياء فى الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام وقرىء بكسر الذال وهى لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدنى بالفتح وهى أيضا لغة فيها (قالَ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الذهن كما سبق (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ليس هذا ردا لدعوته عليه‌السلام بل إجابة خفية لها وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته عليه‌السلام بنيل عهد الإمامة حسبما وقع فى استدعائه عليه‌السلام من غير تعيين لهم بوصف مميز لهم عن جميع من عداهم فإن التنصيص على حرمان الظالمين منه بمعزل من ذلك التمييز إذ ليس معناه أنه ينال كل من ليس بظالم منهم ضرورة استحالة ذلك كما أشير إليه ولعل إيثار هذه الطريقة على تعيين الجامعين لمبادىء الإمامة من ذريته إجمالا أو تفصيلا وإرسال الباقين لئلا ينتظم المقتدون بالأئمة من الأمة فى سلك المحرومين وفى تفصيل كل فرقة من الإطناب ما لا يخفى مع ما فى هذه الطريقة من تخييب الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة وقطع أطماعهم الفارغة من نيلها وإنما أوثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء عليهم‌السلام من ذريته عليه‌السلام كإسمعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما كثيرا ليست بجعل مستقل بل هى حاصلة فى ضمن إمامة إبراهيم عليه‌السلام تنال كلا منهم فى وقت قدره الله عزوجل وقرىء الظالمون على أن عهدى مفعول قدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وفيه دليل على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالم للإمامة وقوله تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أى الكعبة المعظمة غلب عليها غلبة النجم على الثريا معطوف


على (إِذِ ابْتَلى) على أن العامل فيه هو العامل فيه أو مضمر مستقل معطوف على المضمر الأول والجعل إما بمعنى التصيير فقوله عزوجل (مَثابَةً) أى مرجعا يثوب إليه الزوار بعد ما تفرقوا عنه أو أمثالهم أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره مفعوله الثانى وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعوله واللام فى قوله تعالى (لِلنَّاسِ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لمثابة أى مثابة كائنة للناس أو بجعلنا أى جعلناه لأجل الناس وقرىء مثابات باعتبار تعدد الثائبين (وَأَمْناً) أى آمنا كما فى قوله تعالى (حَرَماً آمِناً) على إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل للمبالغة أو على تقدير المضاف أى ذا أمن أو على الإسناد المجازى أى آمنا من حجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله أو من دخله من التعرض له بالعقوبة وإن كان جانيا حتى يخرج على ما هو رأى أبى حنفية ويجوز أن يعتبر الأمن بالقياس إلى كل شىء كائنا ما كان ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وقد اعتيد فيه أمن الصيد حتى أن الكلب كان يهم بالصيد خارج الحرم فيفر منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرم لم يتبعه الكلب (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على إرادة قول هو عطف على جعلنا أو حال من فاعله أى وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ وقيل هو بنفسه معطوف على الأمر الذى يتضمنه قوله عزوجل (مَثابَةً لِلنَّاسِ) كأنه قيل ثوبوا إليه واتخذوا الخ وقيل على المضمر العامل فى إذو قيل هى جملة مستأنفة والخطاب على الوجوه الأخيرة له عليه‌السلام ولأمته والأول هو الأليق بجزالة النظم الكريم والأمر صريحا كان أو مفهوما من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضية والمقام اسم مكان وهو الحجر الذى عليه أثر قدمه عليه‌السلام والموضع الذى كان عليه حين قام ودعا الناس إلى الحج أو حين رفع قواعد البيت وهو موضعه اليوم والمراد بالمصلى إما موضع الصلاة أو موضع الدعاء روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال هذا مقام إبراهيم فقال عمر رضى الله عنه أفلا نتخذه مصلى فقال لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت وقيل المراد به الأمر بركعتى الطواف لما روى جابر رضى الله عنه أنه عليه‌السلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وللشافعى فى وجوبهما قولان وقيل مقام إبراهيم الحرم كله وقيل مواقف الحج عرفة والمزدلفة والجمار واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى وقرىء واتخذوا على صيغة الماضى عطفا على جعلنا أى واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذى وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أى أمرناهما أمرا مؤكدا (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) بأن طهراه على أن أن مصدرية حذف عنها الجار حذفا مطردا لجواز كون صلتها أمرا ونهيا كما فى قوله عزوجل (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) لأن مدار جواز كونها فعلا إنما هو دلالته على المصدر وهى متحققة فيهما ووجوب كونها خبرية فى صلة الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهى لا يوصف بها إلا إذا كانت خبرية وأما الموصول الحرفى فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء فى الدلالة على المصدر سواء ساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال أو أى طهراه على أن أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف وتوجيه الأمر بالتطهير ههنا إليهما عليهما‌السلام لا ينافى ما فى سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم


(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٢٦)

____________________________________

عليه‌السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) وكان إسمعيل عليه‌السلام حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهى وتمام البناء بمباشرته كما ينبئ عنه إيراده أثر حكاية جعله مثابة للناس الخ والمراد تطهيره من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض وغير ذلك مما لا يليق به (لِلطَّائِفِينَ) حوله (وَالْعاكِفِينَ) المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين فى الصلاة كما فى قوله عز وعلا (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) جمع راكع وساجد أى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود من هيئات المصلى ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما أو أخلصاه لهؤلاء لئلا يغشاه غيرهم وفيه إيماء إلى أن ملابسة غيرهم به وإن كانت مع مقارنة أمر مباح من قبيل تلويثه وتدنيسه (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطف على ما قبله من قوله (وَإِذْ جَعَلْنَا) الخ إما بالذات أو بعامله المضمر كما مر (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ذا أمن كعيشة راضية أو آمنا أهله كليله نائم أى اجعل هذا الوادى من البلاد الآمنة وكان ذلك أول ما قدم عليه‌السلام مكة كما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه عليه الصلاة والسلام لما أسكن إسمعيل وهاجر هناك وعاد متوجها إلى الشام تبعته هاجر فجعلت تقول إلى من تكلنا فى هذا البلقع وهو لا يرد عليها جوابا حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعم قالت إذن لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء أقبل على الوادى فقال ربنا إنى أسكنت الآية وتعريف البلد مع جعله صفة لهذا فى سورة إبراهيم إن حمل على تعدد السؤال لما أنه عليه‌السلام سأل أولا كلا الأمرين البلدية والأمن فاستجيب له فى أحدهما وتأخر الآخر إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمة الباهرة ثم كرر السؤال حسبما هو المعتاد فى الدعاء والابتهال أو كان المسئول أولا البلدية ومجرد الأمن المصحح للسكنى كما فى سائر البلاد وقد أجيب إلى ذلك وثانيا الأمن المعهود أو كان هو المسئول أولا أيضا وقد أجيب إليه لكن السؤال الثانى لاستدامته والاقتصار على سؤاله مع جعل البلد صفة لهذا لأنه المقصد الأصلى أو لأن المعتاد فى البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلاف الأمن وإن حمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى ذلك ههنا واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال جعل أفئدة الناس تهوى إليه كما سيأتى تفصيله هناك بإذن الله عزوجل (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) من أنواعها بأن تجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلاهما حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وعن الزهرى أنه تعالى نقل قرية من


(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٢٧)

____________________________________

قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل من أهله بدل البعض خصهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان وإبانة لخطره واهتماما بشأن أهله ومراعاة لحسن الأدب وفيه ترغيب لقومه فى الإيمان وزجر عن الكفر كما أن فى حكايته ترغيبا وترهيبا لقريش وغيرهم من أهل الكتاب (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كما مر مرارا وقوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على مفعول فعل محذوف تقديره أرزق من آمن ومن كفر وقوله تعالى (فَأُمَتِّعُهُ) معطوف على ذلك الفعل أو فى محل رفع بالابتداء وقوله تعالى (فَأُمَتِّعُهُ) خبره أى فأنا أمتعه وإنما دخلته الفاء تشبيها له بالشرط والكفر وإن لم يكن سببا للتمتيع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار وقيل هو عطف على من آمن عطف تلقين كأنه قيل قل وارزق من كفر فإنه أيضا مجاب كأنه عليه‌السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه تعالى على أنه رحمة دنيوية شاملة للبر والفاجر بخلاف الإمامة الحاصلة بالخواص وقرىء فأمتعه من أمتع وقرىء فنمتعه (قَلِيلاً) تمتيعا قليلا أوزمانا قليلا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أى ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعه به من النعم وقرىء ثم نضطره على وفق قراءة فنمتعه وقرىء فأمتعه قليلا ثم اضطره بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه‌السلام وفى قال ضميره وإنما فصله عما قبله لكونه دعاء على الكفرة وتغيير سبكه للإيذان بأن الكفر سبب لاضطرارهم إلى عذاب النار وأما رزق من آمن فإنما هو على طريقة التفضل والإحسان وقرىء بكسر الهمزة على لغة من يكسر حرف المضارعة وأطره بإدغام الضاد فى الطاء وهى لغة مرذولة فإن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها بلا عكس (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف أى بئس المصير النار أو عذابها (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) عطف على ما قبله من قوله عز وعلا (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) على أحد الطريقين المذكورين فى وإذ جعلنا وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة والقواعد جمع قاعدة وهى الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات ولعله مجاز من مقابل القيام ومنه قعدك الله ورفعها البناء عليها لأنه ينقلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع والمرتفع حقيقة وإن كان هو الذى بنى عليها لكنهما لما التأما صارا شيئا واحدا فكأنها نمت وارتفعت وقيل المراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة لما يبنى عليها وبرفعها بناء بعضها على بعض وقيل المراد برفعها رفع مكانة البيت وإظهار شرفه ودعاء الناس إلى حجه وفى إبهامها أولا ثم تبيينها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وقيل المعنى وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت واستوطأ يعنى يجعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء روى أن الله عزوجل أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقى وغربى وقال لآدم أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشى فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة فقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام وحج آدم عليه‌السلام أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور


وكان موضعه خاليا إلى زمن إبراهيم عليه‌السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرفه جبريل عليه‌السلام بمكانه وقيل بعث الله السكينة لتدله عليه فتبعها إبراهيم عليه‌السلام حتى أتيامكة المعظمة وقيل بعث الله تعالى سحابة على قدر البيت وسار إبراهيم فى ظلها إلى أن وافت مكة المعظمة فوقفت فى موضع البيت فنودى أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل بناه من خمسة أجبل طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودى وأسسه من حراء وجاء جبريل عليه‌السلام بالحجر الأسود من السماء وقيل تمخض أبو قبيس فانشق عنه وقد خبىء فيه فى أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة فلما لمسته الحيض فى الجاهلية اسود وقال الفاسى فى مثير الغرام فى تاريخ البلد الحرام والذى يتحصل من جملة ما قيل فى عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشر مرات منها بناء الملائكة عليهم‌السلام ذكره النووى فى تهذيب الأسماء واللغات والأزرقى فى تاريخه وذكر أنه كان قبل خلق آدم عليه‌السلام ومنها بناء آدم عليه‌السلام ذكره البيهقى فى دلائل النبوة وروى فيه عن عبد الله بن عمر وبن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بعث الله عزوجل جبريل إلى آدم عليهما‌السلام فقال له ولحواء ابنيالى بيتا فخط جبريل وجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى إذا أصاب الماء نودى من تحته حسبك آدم فلما بنياه أوحى إليه أن يطوف به فقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت وهكذا ذكره الأزرقى فى تاريخه وعبد الرزاق فى مصنفه ومنها بناء بنى آدم عند ما رفعت الخيمة التى عزى الله تعالى بها آدم عليه‌السلام وكانت ضربت فى موضع البيت فبنى بنوه مكانها بيتا من الطين والحجارة فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم إلى أن مسه الغرق فى عهد نوح عليه‌السلام ذكره الأزرقى بسنده إلى وهب بن منبه ومنها بناء الخليل عليه‌السلام وهو منصوص عليه فى القرآن مشهور فى ما بين قاص ودان ومنها بناء العمالقة ومنها بناء جرهم ذكرهما الأزرقى بسنده إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه ومنها بناء قصى بن كلاب ذكره الزبير بن بكار فى كتاب النسب ومنها بناء قريش وهو مشهور ومنها بناء عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما ومنها بناء الحجاج بن يوسف وما كان ذلك بناء لكلها بل لجدار من جدرانها وقال الحافظ السهيلى أن بناءها لم يكن فى الدهر إلا خمس مرات الأولى حين بناها شيث عليه‌السلام انتهى والله سبحانه أعلم (وَإِسْماعِيلُ) عطف على إبراهيم ولعل تأخيره عن المفعول للإيذان بأن الأصل فى الرفع هو إبراهيم وإسمعيل تبع له قيل إنه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها وقيل كانا يبنيانه من طرفين (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) على إرادة القول أى يقولان وقد قرىء به على أنه حال منهما عليهما‌السلام وقيل على أنه هو العامل فى إذ والجملة معطوفة على ما قبلها والتقدير ويقولان ربنا تقبل منا إذ يرفعان أى وقت رفعهما وقيل وإسمعيل مبتدأ خبره قول محذوف وهو العامل فى ربنا تقبل منا فيكون إبراهيم هو الرافع وإسمعيل هو الداعى والجملة فى محل النصب على الحالية أى وإذ يرفع إبراهيم القواعد والحال أن إسمعيل يقول ربنا تقبل منا والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميرهما عليهما‌السلام لتحريك سلسلة الإجابة وترك مفعول تقبل مع ذكره فى قوله تعالى (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات التى من جملتها ما هما بصدده من البناء كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لجميع المسموعات التى من جملتها دعاؤنا (الْعَلِيمُ) بكل


(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٢٩)

____________________________________

المعلومات التى من زمرتها نياتنا فى جميع أعمالنا والجملة تعليل لاستدعاء التقبل لا من حيث إن كونه تعالى سميعا لدعائهما عليما بنياتهما مصحح للتقبل فى الجملة بل من حيث إن علمه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصهما فى أعمالهما مستدع له بموجب الوعد تفضلا وتأكيد الجملة لغرض كمال قوة يقينهما بمضمونها وقصر نعتى السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاص دعائهما به تعالى وانقطاع رجائهما عما سواه بالكلية واعلم أن الظاهر أن أول ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاء وما يتبعه ثم دعاء البلدية والأمن وما يتعلق به ثم رفع قواعد البيت وما يتلوه ثم جعله مثابة للناس والأمر بتطهيره ولعل تغيير الترتيب الوقوعى فى الحكاية لنظم الشئون الصادرة عن جنابه تعالى فى سلك مستقل ونظم الأمور الواقعة من جهة إبراهيم وإسمعيل عليهما‌السلام من الأفعال والأقوال فى سلك آخر وأما قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) الخ فإنما وقع فى تضاعيف الأحوال المتعلقة بإبراهيم لاقتضاء المقام واستيجاب ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بد منه أصلا كما أن وقوع قولهعليه‌السلام ومن ذريتى فى خلال كلامه سبحانه لذلك (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) مخلصين لك أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد وأيا ما كان فالمطلوب الزيادة والثبات على ما كان عليه من الإخلاص والإذعان وقرىء مسلمين على صيغة الجمع بإدخال هاجر معهما فى الدعاء أو لأن التثنية من مراتب الجمع (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أى واجعل بعض ذريتنا وإنما خصاهم بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا صلح الأتباع وإنما خصابه بعضهم لما علما أن منهم ظلمة وأن الحكمة الإلهية لا تقتضى اتفاق الكل على الإخلاص والإقبال الكلى على الله عزوجل فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ولذلك قيل لو لا الحمقى لخربت الدنيا وقيل أراد بالأمة المسلمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جوز أن يكون من مبينة قدمت على المبين وفصل بها بين العاطف والمعطوف كما فى قوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) والأصل وأمة مسلمة لك من ذريتنا (وَأَرِنا) من الرؤية بمعنى الإبصار أو بمعنى التعريف أى بصرنا أو عرفنا (مَناسِكَنا) أى متعبداتنا فى الحج أو مذابحنا والنسك فى الأصل غاية العبادة وشاع فى الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة وقرىء أرنا قياسا على فخذ فى فخذ وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها وقرىء بالاختلاس (وَتُبْ عَلَيْنا) استتابة لذريتهما وحكايتها عنهما لترغيب الكفرة فى التوبة والإيمان أو توبة لهما عما فرط منهما سهوا ولعلهما قالاه هضما لأنفسهما وإرشادا لذريتهما (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وهو تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له فليدع الله عزوجل بما يناسيه من أسمائه وصفاته (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أى فى الأمة المسلمة


(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٣٠)

____________________________________

(رَسُولاً مِنْهُمْ) أى من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم ولم يبعث من ذريتهما غير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو الذى أجيب به دعوتهما عليهما‌السلام روى أنه قيل له قد استجيب لك وهو فى آخر الزمان قال عليه‌السلام أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمى وتخصيص إبراهيم عليه‌السلام بالاستجابة له لما أنه الأصل فى الدعاء وإسمعيل تبع له عليه‌السلام (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات (وَيُعَلِّمُهُمُ) بحسب قوتهم النظرية (الْكِتابَ) أى القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة (وَيُزَكِّيهِمْ) بحسب قوتهم العملية أى يطهرهم عن دنس الشرك وفنون المعاصى (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذى لا يقهر ولا يغلب على ما يريد (الْحَكِيمُ) الذى لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تعليل للدعاء وإجابة المسئول فإن وصف الحكمة مقتض لإفاضة ما تقتضيه الحكمة من الأمور التى من جملتها بعث الرسول ووصف العزة مستدع لامتناع وجود المانع بالمرة (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) إنكار واستبعاد لأن يكون فى العقلاء من يرغب عن ملته التى هى الحق الصريح والدين الصحيح أى لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أى أذلها واستمهنها واستخف بها وقيل خسر نفسه وقيل أوبق أو أهلك أو جهل نفسه قال المبرد وثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ويشهد له ما ورد فى الخبر الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس وقيل معناه ضل من قبل نفسه وقيل أصله سفه نفسه بالرفع فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ونحو قوله [ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام] وقوله[وما قومى بثعلبة بن سعد ولا بفزارة الشعر الرقابا] ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحد من العقلاء فقد بالغ فى إذلال نفسه وإذالتها وإهانتها حيث خالف بها كل نفس عاقلة روى أن عبد الله بن سلام دعا ابنى أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمنا أن الله تعالى قال فى التوراة إنى باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبى مهاجر فنزلت (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أى اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذ صفوة الشىء كما أن أصل الاختيار اتخاذ خيره واللام لجواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أى وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أى من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح معطوف عليها داخل فى حيز القسم مؤكد لمضمونها مقرر لما تقرره ولا حاجة إلى جعله اعتراضا آخر أو حالا مقدرة فإن من كان صفوة للعباد فى الدنيا مشهودا له بالصلاح فى الآخرة كان حقيقا بالاتباع لا يرغب عن ملته إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل وإيثار الاسمية لما أن انتظامه فى زمرة صالحى أهل الآخرة أمر مستمر فى الدارين لا أنه


(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)

____________________________________

يحدث فى الآخرة والتأكيد بأن واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التى تشاهد آثارها وكلمة فى متعلقة بالصالحين على أن اللام للتعريف وليست بموصولة حتى يلزم تقديم بعض الصلة عليها على أنه قد يغتفر فى الظرف ما لا يغتفر فى غيره كما فى قوله[ربيته حتى إذا تمعددا كان جزائى بالعصا أن أجلدا] أو بمحذوف من لفظه أى وأنه لصالح فى الآخرة لمن الصالحين أو من غير لفظه أى أعنى فى الآخرة نحو لك بعد رعيا وقيل هى متعلقة باصطفيناه على أن فى النظم الكريم تقديما وتأخيرا تقديره ولقد اصطفيناه فى الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين (إِذْ قالَ لَهُ) ظرف لاصطفيناه لما أن المتوسط ليس بأجنبى بل هو مقرر له لأن اصطفاءه فى الدنيا إنما هو للنبوة وما يتعلق بصلاح الآخرة أو تعليل له أو منصوب باذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم وأنه مانال مانال إلا بالمبادرة إلى الإذعان والانقياد لما أمر به وإخلاص سره على أحسن ما يكون حين قال له (رَبُّهُ أَسْلِمْ) أى لربك (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وليس الأمر على حقيقته بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام من الكوكب والقمر والشمس وقيل أسلم أى أذعن وأطع وقيل اثبت على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاص أو استقم وفوض أمورك إلى الله تعالى فالأمر على حقيقته والالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه‌السلام لإظهار مزيد اللطف به والاعتناء بتربيته وإضافة الرب فى جوابه عليه الصلاة والسلام إلى العالمين للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أيقن حين النظر بشمول ربوبيته للعالمين قاطبة لا لنفسه وحده كما هو المأمور به (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) شروع فى بيان تكميله عليه‌السلام لغيره إثر بيان كماله فى نفسه وفيه توكيد لوجوب الرغبة فى ملته عليه‌السلام والتوصية التقدم إلى الغير بما فيه خير وصلاح للمسلمين من فعل أو قول وأصلها الوصلة يقال وصاه إذا وصله وفصاه إذا فصله كأن الموصى يصل فعله بفعل الوصى والضمير فى بها للملة أو قوله أسلمت لرب العالمين بتأويل الكلمة كما عبر بها عن قوله تعالى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فى قوله عزوجل (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) وقرىء أوصى والأول أبلغ (وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم أى وصى بها هو أيضا وقرىء بالنصب عطفا على بنيه (يا بَنِيَّ) على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصى عند الكوفيين لأنه فى معنى القول كما فى قوله[رجلان من ضبة أخبرانا أنا رأينا رجلا عريانا] فهو عند الأولين بتقدير القول وعند الآخرين متعلق بالإخبار الذى هو فى معنى القول وقرىء أن يا بنى وبنو إبراهيم عليه‌السلام كانوا أربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان وقيل ثمانية وقيل أربعة وعشرين وكان بنو يعقوب اثنى عشر روبين وشمعون ولاوى ويهوذا ويشسوخور وزبولون وزوانا وتفتونا


(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)

____________________________________

وكوزا وأوشير وبنيامين ويوسف عليه‌السلام (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) دين الإسلام الذى هو صفوة الأديان ولا دين غيره عنده تعالى (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ظاهره النهى عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت أى فاثبتوا عليه ولا تفارقوه أبدا كقولك لا تصل إلا وأنت خاشع وتغيير العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر ونظيره مت وأنت شهيد روى أن اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والخطاب لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيم وشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر وإذ ظرف لشهداء والمراد بحضور الموت حضور أسبابه وتقديم يعقوب عليه‌السلام للاهتمام به إذ المراد بيان كيفية وصيته لبنيه بعد ما بين ذلك إجمالا ومعنى بل الإضراب والانتقال عن توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيم عليه‌السلام إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوب عليه‌السلام باليهودية حسبما حكى عنهم وأما تعميم الافتراء ههنا لسائر الأنبياء عليهم‌السلام كما قيل فيأباه تخصيص يعقوب بالذكر وما سيأتى من قوله عزوجل (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ) الخ ومعنى الهمزة إنكار وقوع الشهود عند احتضاره عليه‌السلام وقوله (لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أى أى شىء تعبدونه بعد موتى فمن أين لكم أن تدعوا عليه عليه‌السلام ما تدعون رجما بالغيب وعند هذا تم التوبيخ والإنكار والتبكيت ثم بين أن الأمر قد جرى حينئذ على خلاف ما زعموا وأنه عليه‌السلام أراد بسؤاله ذلك تقرير بنيه على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما إذ به يتم وصيته بقوله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وما يسأل به عن كل شىء ما لم يعرف فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن شىء بعينه وإن سئل عن وصفه قيل ما زيد أفقيه أم طبيب فقوله تعالى (قالُوا) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن حكاية سؤال يعقوب عليه‌السلام كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) حسبما كان مراد أبيهم بالسؤال أى نعبد الإله المتفق على وجوده وإلهيته ووجوب عبادته وعد إسمعيل من آبائه تغليبا للأب والجد لقوله عليه الصلاة والسلام عم الرجل صنو أبيه وقوله عليه‌السلام فى العباس هذا بقية آبائى وقرىء أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما فى قوله[فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا] وقد سقطت النون بالإضافة أو مفرد وإبراهيم عطف بيان له وإسمعيل وإسحق معطوفان على أبيك (إِلهاً واحِداً) بدل من إله آبائك كقوله تعالى (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشىء من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور أو نصب


(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥)

____________________________________

على الاختصاص (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أو منهما معا ويحتمل أن يكون اعتراضا محققا لمضمون ما سبق (تِلْكَ أُمَّةٌ) مبتدأ وخبر والإشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين والأمة هى الجماعة التى تؤمها فرق الناس أى يقصدونها ويقتدون بها (قَدْ خَلَتْ) صفة للخبر أى مضت بالموت وانفردت عمن عداها وأصله صارت إلى الخلاء وهى الأرض التى لا أنيس بها (لَها ما كَسَبَتْ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو صفة أخرى لأمة أو حال من الضمير فى خلت وما موصولة أو موصوفة والعائد إليها محذوف أى لها ما كسبته من الأعمال الصالحة المحكية لا تتخطاها إلى غيرها فإن تقديم المسند يوجب قصر المسند إليه عليه كما هو المشهور (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطف على نظيرتها على الوجه الأول وجملة مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابط فيها ولا بد منه فى الصفة ولا مقارنة فى الزمان ولا بد منها فى الحال أى لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيركم فإن تقديم المسند قد يقصد به قصره على المسند إليه كما قيل فى قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أى ولى دينى لا دينكم وحمل الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقام إذ لا يتوهم متوهم انتفاعهم بكسب هؤلاء حتى يحتاج إلى بيان امتناعه وإنما الذى يتوهم انتفاع هؤلاء بكسبهم فبين امتناعه بأن أعمالهم الصالحة مخصوصة بهم لا تتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعهم انتسابهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعهم لهم فى الأعمال كما قال عليه‌السلام يا بنى هاشم لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) إن أجرى السؤال على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما مر من الجملتين تقريرا ظاهرا وإن أريد به مسببه أعنى الجزاء فهو تتميم لما سبق جار مجرى النتيجة له وأيا ما كان فالمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم الفارغة عن الانتفاع بحسنات الأمة الخالية وإنما أطلق العمل لإثبات الحكم بالطريق البرهانى فى ضمن قاعدة كلية هذا وقد جعل السؤال عبارة عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل أى لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ولا ريب فى أنه مما لا يليق بشأن التنزيل كيف لا وهم منزهون من كسب السيئات فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفاعه (وَقالُوا) شروع فى بيان فن آخر من فنون كفرهم وهو إضلالهم لغيرهم إثر بيان ضلالهم فى أنفسهم والضمير لأهل الكتابين على طريقة الالتفات المؤذن باستيجاب حالهم لإبعادهم من مقام المخاطبة والإعراض عنهم وتعديد جناياتهم عند غيرهم أى قالوا للمؤمنين (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ليس هذا القول مقولا لكلهم أو لأى طائفة كانت من الطائفتين بل هو موزع عليهما على وجه خاص يقتضيه حالهما اقتضاء مغنيا عن التصريح به أى قالت اليهود كونوا هودا والنصارى كونوا نصارى ففعل بالنظم الكريم ما فعل بقوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى اعتمادا على ظهور المرام (تَهْتَدُوا) جواب


(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

____________________________________

للأمر أى إن تكونوا كذلك (قُلْ) خطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى قل لهم على سبيل الرد عليهم وبيان ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أى لا نكون كما تقولون بل نكون أهل ملته عليه‌السلام وقيل بل نتبع ملته عليه‌السلام وقد جوز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته عليه‌السلام أو كونوا أهل ملته وقرىء بالرفع أى بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أى أهل ملته (حَنِيفاً) أى مائلا عن الباطل إلى الحق وهو حال من المضاف إليه كما فى رأيت وجه هند قائمة أو المضاف كما فى قوله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) الخ (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بهم وإيذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه‌السلام مع إشراكهم بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله (قُولُوا) خطاب للمؤمنين بعد خطابه عليه‌السلام برد مقالتهم الشنعاء على الإجمال وإرشاد لهم إلى طريق التوحيد والإيمان على ضرب من التفصيل أى قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقا وإرشادا ضمنيا لهم إليه (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) يعنى القرآن قدم على سائر الكتب الإلهية مع تأخره عنها نزولا لاختصاصه بنا وكونه سببا للإيمان بها (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الصحف وإن كانت نازلة إلى إبراهيم عليه‌السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها جعلت منزلة إليهم كما جعل القرآن منزلا إلينا والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه‌السلام أو أبناؤه الاثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحق (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرة الظاهرة بأيديهما حسبما فصل فى التنزيل الجليل وإيراد الإيتاء لما أشير إليه من التعميم وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) أى جملة المذكورين وغيرهم (مِنْ رَبِّهِمْ) من الآيات البينات والمعجزات الباهرات (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتبروا عدم التفريق بينهم مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريق بين ما أوتوه وهمزة أحد إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولذلك صح دخول بين عليه كما فى مثل المال بين الناس ومنه ما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحلت الغنائم لأحد سود الرءوس غيركم حيث وصف بالجمع وإما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومه لوقوعه فى حيز النفى وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره أى بين أحد منهم وبين غيره كما فى قول النابغة[فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل] أى بين الخير وبينى وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس فى أن يقال لا نفرق بينهم والجملة حال من الضمير فى آمنا وقوله عزوجل (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أى مخلصون له ومذعنون حال أخرى منه أو عطف على آمنا.


(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣٧)

____________________________________

(فَإِنْ آمَنُوا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما تقدم من إيمان المخاطبين على الوجه المحرر مظنة لإيمان أهل الكتابين لما أنه مشتمل على ما هو مقبول عندهم (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) أى بما آمنتم به على الوجه الذى فصل على أن المثل مقحم كما فى قوله تعالى (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) أى عليه ويعضده قراءة ابن مسعود بما آمنتم به وقراءة أبى بالذى آمنتم به ويجوز أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمن به محذوف لظهوره بمروره آنفا أو على أن الفعل مجرى مجرى اللازم أى فإن آمنوا بما مر مفصلا أو فإن فعلوا الإيمان بشهادة مثل شهادتكم وأن تكون الأولى زائدة والثانية صلة لآمنتم وما مصدرية أى فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم بما ذكر مفصلا وأن تكون للملابسة أى فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيمانا ملتبسا بمثل ما آمنتم إيمانا ملتبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم‌السلام فإن ما وجد فيهم وصدر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثل ما للمؤمنين لا عينه بخلاف المؤمن به فإنه لا يتصور فيه التعدد (فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق وأما ما قيل من أن المعنى فإن تحروا الإيمان بطريق يهدى إلى الحق مثل طريقكم فقد اهتدوا فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطريق فيأباه أن مقام تعيين طريق الحق وإرشادهم إليه بعينه لا يلائم تجويز أن يكون له طريق آخر وراءه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أى أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلوا بشىء من ذلك كأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما هو دينهم وديدنهم (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) المشاقة والشقاق من الشق كالمخالفة والخلاف من الخلف والمعاداة والعداء من العدوة أى الجانب فإن أحد المخالفين يعرض عن الآخر صورة أو معنى ويوليه خلفه ويأخذ فى شق غير شقه وعدوة غير عدوته والتنوين للتفخيم أى هم مستقرون فى خلاف عظيم بعيد من الحق وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون والجملة إما جواب الشرط كما هى على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليتهم عن الإيمان كجواب الشرطية الأولى وإنما أوثرت الجملة الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم فى ذلك وإما بتأويل فاعلموا إنما هم فى شقاق. هذا هو الذى يستدعيه فخامة شأن التنزيل الجليل وقد قيل قوله تعالى (فَإِنْ آمَنُوا) الخ من باب التعجيز والتبكيت على منهاج قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) والمعنى فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مماثلا له فى الصعة وانسداد فقد اهتدوا وإذ لا إمكان له فلا إمكان لاهتدائهم ولا ريب فى أنه مما لا يليق بحمل النظم الكريم عليه ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق وأن ذلك مما يؤدى إلى الجدال والقتال لا محالة عقب ذلك بتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفريح المؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز وعبر بالسين الدالة على تحقق الوقوع البتة فقيل (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) أى سيكفيك شقاقهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وقد أنجز عزوجل وعده الكريم بقتل بنى قريظة وسبيهم وإجلاء بنى


(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)(١٣٩)

____________________________________

النضير وتلوين الخطاب بتجريده للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن ذلك كفاية منه سبحانه للكل لما أنه الأصل والعمدة فى ذلك وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المؤن والمشاق ومقاساة الشدائد فى مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى فى الكفاية والنصر فى حقه عليه‌السلام أتم وأكمل (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعون به ويعلم ما فى نيتك من إظهار الدين فيستحيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أى يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه فى قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين (صِبْغَةَ اللهِ) الصبغة من الصبغ كالجلسة من الجلوس وهى الحالة التى يقع عليها الصبغ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذى فصل لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر وحلية تزينهم بآثاره الجميلة ومتداخلا فى قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك وقيل للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية ويزعمون أنه تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم وإضافتها إلى الله عزوجل مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريف والإيذان بأنها عطية منه سبحانه لا يستقل العبد بتحصيلها فهى إذن مصدر مؤكد لقوله تعالى (آمَنَّا) داخل معه فى حيز قولوا منتصب عنه انتصاب وعد الله عما تقدمه لكونه بمثابة فعله كأنه قيل صبغة الله صبغة وقيل هى منصوبة بفعل الإغراء أى ألزموا صبغة الله وإنما وسط بينهما الشرطيتان وما بعدهما اعتناء ببيان أنه الإيمان الحق وبه الاهتداء ومسارعة إلى تسليته عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبر والإستفهام للإنكار والنفى وقوله تعالى (صِبْغَةَ) نصب على تمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغته تعالى فالتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أى لا صبغة أحسن من صبغته تعالى على معنى أنها أحسن من كل صبغة على ما أشير إليه فى قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ) الخ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم الحسن الحقيقى والفرضى المبنى على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون فى صبغة غيره تعالى حسن فى الجملة الجملة اعتراضية مقررة لما فى صبغة الله من معنى التبجح والابتهاج (وَنَحْنُ لَهُ) أى لله الذى أولانا تلك النعمة الجليلة (عابِدُونَ) شكرا لها ولسائر نعمه وتقديم الظرف للاهتمام ورعاية الفواصل وهو عطف على آمنا داخل معه تحت الأمر وإيثار الاسمية للإشعار بدوام العبادة أو على فعل الإغراء بتقدير القول أى الزموا صبغة الله وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) حينئذ يجرى مجرى التعليل للاغراء (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) تجريد الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقيب الكلام الداخل تحت الأمر الوارد بالخطاب العام لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام وقرىء بإدغام النون والهمزة للإنكار والتوبيخ أى أتجادلوننا (فِي اللهِ) أى فى دينه وتدعون أن دينه الحق هو اليهودية


(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٤٠)

____________________________________

والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة كونوا هودا أو نصارى تهتدوا (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) جملة حالية وكذلك ما عطف عليها أى أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى ربنا أى مالك أمرنا وأمركم (وَلَنا أَعْمالُنا) الحسنة الموافقة لأمره (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) السيئة المخالفة لحكمه (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فى تلك الأعمال لا نبتغى بها إلا وجهه فأتى لكم المحاجة وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمع فى دخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه وكلمة أم فى قوله تعالى (أَمْ تَقُولُونَ) إما معادلة للهمزة فى قوله تعالى (أَتُحَاجُّونَنا) داخلة فى حيز الأمر على معنى أى الأمرين تأتون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء وتقولون (إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) فنحن بهم مقتدون والمراد إنكار كلا الأمرين والتوبيخ عليهما وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام وقرىء أم يقولون على صيغة الغيبة فهى منقطعة لا غير غير داخلة تحت الأمر واردة من جهته تعالى توبيخا لهم وإنكارا عليهم لا من جهته عليه‌السلام على نهج الالتفات كما قيل هذا وأما ما قيل من أن المعنى أتحاجوننا فى شأن الله واصطفائه نبيا من العرب دونكم لما روى أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت ومعنى قوله تعالى (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء من عباده فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتجلى بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى فى إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون أى لا أنتم فمع عدم ملاءمته لسباق النظم الكريم وسياقه لا سيما على تقدير كون كلمة أم معادلة للهمزة غير صحيح فى نفسه لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب فى أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبنى على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال فى استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) إعادة الأمر ليست لمجرد تأكيد التوبيخ وتشديد الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلا بما قبله بل بينهما كلام للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبع لما لحق قد ضرب عنه الذكر صفحا لظهوره وهو تصريحهم بما وبخوا عليه من الافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام كما فى قوله عزوجل (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) وقوله عز قائلا (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) فإن تكرير قال فى الموضعين وتوستطه بين قولى قائل واحد


(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٤٢)

____________________________________

للإيذان بأن بينهما كلاما لصاحبه متعلقا بالأول والثانى بالتبعية والاستتباع كما حرر فى محله أى كذبهم فى ذلك وبكتهم قائلا إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد نفى عن إبراهيم عليه‌السلام كلا الأمرين حيث قال ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا واحتج عليه بقوله تعالى (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وهؤلاء المعطوفون عليه عليه‌السلام أتباعه فى الدين وفاقا فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون (وَمَنْ أَظْلَمُ) إنكار لأن يكون أحد أظلم (مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) ثابتة (عِنْدَهُ) كائنة (مِنَ اللهِ) وهى شهادته تعالى له عليه‌السلام بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفا فعنده صفة لشهادة وكذا من الله جىء بهما لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت الشهادة عنده وكونها من جناب الله عزوجل من أقوى الدواعى إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها وتقديم الأول مع أنه متأخر فى الوجود لمراعاة طريقة الترقى من الأدنى إلى الأعلى والمعنى أنه لا أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها فى الظلم خارجة عن دائرة البيان أولا أحد أظلم منا لو كتمناها فالمراد بكتمها عدم إقامتها فى مقام المحاجة وفيه تعريض بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه وفى إطلاق الشهادة مع أن المراد بها ما ذكر من الشهادة المعنية تعريض بكتمانهم شهادة الله عزوجل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التوراة والإنجيل (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من فنون السيئات فيدخل فيها كتمانهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دخولا أوليا أى هو محيط بجميع ما تأتون وما تذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب وقرىء عما يعملون على صيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى وإما لأهل الكتاب وقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ) إلى آخر الآية مسوق من جهته تعالى لوصفهم بغاية الظلم وتهديدهم بالوعيد (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تكرير للمبالغة فى الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على أعمالهم وقيل الخطاب السابق لهم وهذا لنا تحذير عن الاقتداء بهم وقيل المراد بالأمة الأولى الأنبياء عليهم‌السلام وبالثانية أسلاف اليهود (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) أى الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقيل السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم وقيل الظلوم الجهول والمراد بالسفهاء هم اليهود على ما روى عن ابن عباس ومجاهد رضى الله عنهم قالوه إنكارا للنسخ وكراهة للتحويل حيث كانوا يأنسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم فى القبلة وقيل هم المنافقون وهو الأنسب بقوله عز وعلا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وإنما قالوه لمجرد الاستهزاء والطعن لا لاعتقادهم حقية القبلة الأولى وبطلان الثانية إذ ليس


(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)

____________________________________

كلهم من اليهود وقيل هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكة بل طعنا فى الدين فإنهم كانوا يقولون رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وقيل هم القادحون فى التحويل منهم جميعا فيكون قوله تعالى (مِنَ النَّاسِ) أى الكفرة لبيان أن ذلك القول المحكى لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض فى فنون الفساد وهو الأظهر إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونهم من الناس مزيد فائدة وتخصيص سفهائهم بالذكر لا يقتضى تسليم الباقين للتحويل وارتضاءهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقا أو بالعبارة المحكية (ما وَلَّاهُمْ) أى أى شىء صرفهم والاستفهام للإنكار والنفى (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) القبلة فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة وهى الحال التى يقابل الشىء غيره عليها كالجلسة للحالة التى يقع عليها الجلوس يقال لا قبلة له ولا دبرة إذا لم يهتد لجهة أمره غلبت على الجهة التى يستقبلها الإنسان فى الصلاة والمراد بها ههنا بيت المقدس وإضافتها إلى ضمير المسلمين ووصفها بقوله تعالى (الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أى ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيتها لتأكيد الإنكار فإن الاختصاص بالشىء والاستمرار عليه باعتقاد حقيته مما ينافى الانصراف عنه فإن أريد بالقائلين اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحويل عنها وزعمهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمداره مجرد القصد إلى الطعن فى الدين والقدح فى أحكامه وإظهار أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها واقع بغير داع إليه لا لكراهتهم الانصراف عنها أو التوجه إلى مكة وتعليق الإنكار بما يوليهم عنها لا بما يوجههم إلى غيرها مع تلازمهما فى الوجود لما أن ترك الدين القديم أبعد عند العقول وإنكار سببه أدخل لا للإيذان بأن المنكرين هم اليهود بناء على أن المنكر عندهم هو التحويل عن خصوصية بيت المقدس الذى هو القبلة الحقة عندهم لا التوجه إلى خصوصية قبلة أخرى أو هم المشركون بناء على أن المنكر عندهم ترك القبلة القديمة على وجه الطعن والقدح لا التوجه إلى الكعبة لأنه الحق عندهم فإنه بمعزل عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة والإخبار بذلك قبل الوقوع مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أخبر لتوطين النفوس وإعداد ما يبكتهم فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد والجواب العتيد لثغب الخصم الألد أرد وقوله عزوجل (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا أقول عند ذلك فقيل قل الخ أى لله تعالى ناحيتا الأرض أى الجهات كلها ملكا وملكا وتصرفا فلا اختصاص لناحية منها لذاتها بكونها قبلة بدون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئته (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أن يهديه مشيئة تابعة للحكم الخفية التى لا يعلمها إلا هو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المقارنة لحكم أبية ومصالح خفية (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ) توجيه للخطاب إلى المؤمنين


بين الخطابين المختصين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتأييد ما فى مضمون الكلام من التشريف وذلك إشارة إلى مصدر جعلناكم لا إلى جعل آخر مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيد الكاف مع القصد إلى المؤمنين لما أن المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل وكمال تميزه به وانتظامه بسببه فى سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها فى الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير جعلناكم أمة وسطا جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أى ذلك الجعل البديع جعلناكم (أُمَّةً وَسَطاً) لا جعلا آخر أدنى منه والوسط فى الأصل اسم لما يستوى نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكن لا لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأعواز والأوساط محمية محوطة كما قيل واستشهد عليه بقول ابن أوس الطائى[كانت هى الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث حتى أصحت طرفا فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار فى هذا المقام إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التى جعلت غاية للجعل المذكور بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفى الإفراط والتفريط كالعفة التى طرفاها الفجور والخمود وكالشجاعة التى طرفاها الظهور والجبن وكالحكمة التى طرفاها الجريزة والبلادة وكالعدالة التى هى كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها وسوى فيه بين المفرد والجمع والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التى يوصف بها وقد روعيت ههنا نكتة رائقة هى أن الجعل المشار إليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى إلى الحق الذى عبر عنه بالصراط المستقيم الذى هو الطريق السوى الواقع فى وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع فى وسط تلك الخطوط المنحنية ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الأمة المهدية إليه أمة وسطا بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أى متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الله عزوجل قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وذكروا فهل من مدكر وهى غاية للجعل المذكور مترتبة عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هى الكيفية المتشابهة المتألفة من العفة التى هى فضيلة القوة الشهوية البهيمية والشجاعة التى هى فضيلة القوة الغضبية السبعية والحكمة التى هى فضيلة القوة العقلية الملكية المشار إلى رتبتها بقوله عز وعلا (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) كأن المتصف بها واقفا على الحقائق المودعة فى الكتاب المبين المنطوى على أحكام الدين وأحوال الأمم أجمعين حاويا لشرائط الشهادة عليهم. روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين وزيادة لخزيهم بأن كذبهم من بعدهم من الأمم فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشهدون فيقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بأخبار الله تعالى فى كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى عند ذلك بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله عز قائلا (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وكلمة


الاستعلاء لما فى الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن وقيل لتكونوا شهداء على الناس فى الدنيا فيما لا يقبل فيه الشهادة إلا من العدول الأخيار وتقديم الظرف للدلالة على اختصاص شهادته عليه‌السلام بهم (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) جرد الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمزا إلى أن مضمون الكلام من الأسرار الحقيقة بأن يخص معرفته به عليه‌السلام وليس الموصول صفة للقبلة بل هو مفعول ثان للجعل وما قيل من أن الجعل تحويل الشىء من حالة إلى أخرى فالملتبس بالحالة الثانية هو المفعول الثانى كما فى قولك جعلت الطين خزفا فينبغى أن يكون المفعول الأول هو الموصول والثانى هو القبلة فكلام صناعى ينساق إليه الذهن بحسب النظر الجليل ولكن التأمل اللائق يهدى إلى العكس فإن المقصود إفادته ليس جعل الجهة قبلة لا غير كما يفيده ما ذكر بل هو جعل القبلة المحققة الوجود هذه الجهة دون غيرها والمراد بالموصول هى الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلى إليها أولا ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود أو هى الصخرة لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أن قبلته عليه‌السلام بمكة كانت بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يراد بالقبلة الأولى الكعبة وأما الصخرة فيتأتى إرادتها على الروايتين والمعنى على الأول وما جعلنا القبلة الجهة التى كنت عليها آثر ذى أثير وهى الكعبة وعلى الثانى وما جعلناها التى كنت عليها قبل هذا الوقت وهى الصخرة (إِلَّا لِنَعْلَمَ) استثناء مفرغ من أعم العلل أى وما جعلنا ذلك لشىء من الأشياء إلا لنمتحن الناس أى نعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فى التوجه إلى ما أمر به من الدين أو القبلة والالتفات إلى الغيبة مع إيراده عليه‌السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباع (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) يرتد عن دين الإسلام أو لا يتوجه إلى القبلة الجديدة أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه وما كان لعارض يزول بزواله وعلى الأول ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابت على الإسلام والناكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه والمراد بالعلم ما يدور عليه فلك الجزاء من العلم الحالى أى ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل وقيل المراد علم الرسول عليه‌السلام والمؤمنين وإسناده إليه سبحانه لما أنهم خواصه وليتميز الثابت عن المتزلزل كقوله تعالى (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فوضع العلم موضع التمييز الذى هو مسبب عنه ويشهد له قراءة ليعلم على بناء المجهول من صيغة الغيبة والعلم إما بمعنى المعرفة أو متعلق بما فى من من معنى الاستفهام أو مفعوله الثانى ممن ينقلب الخ أى لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب على عقبيه (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أى شاقة ثقيلة وإن هى المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر واللام هى الفارقة بينها وبين النافية كما فى قوله تعالى (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) وزعم الكوفيون أنها نافية واللام بمعنى إلا أى ما كانت إلا كبيرة والضمير الذى هو اسم كان راجع إلى ما دل عليه قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أو القبلة وقرىء لكبيرة بالرفع على أن كان مزيدة كما فى قوله [وإخوان لنا كانوا كرام] وأصله وإن هى لكثيرة كقوله إن زيد لمنطلق (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أى إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا وتفصيلا وهم المهديون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباع الرسول عليه‌السلام (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى ما صح وما استقام له


(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٤٤)

____________________________________

أن يضيع ثباتكم على الإيمان بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم وقيل إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها لما روى أنه عليه‌السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف حال إخواننا الذين مضوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فنزلت واللام فى ليضيع إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أى ما كان الله مريدا أو متصديا لأن يضيع الخ ففى توجيه النفى إلى إرادة الفعل تأكيد ومبالغة ليس فى توجهه إلى نفسه وإما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح فى ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر فى عملها وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تحقيق وتقرير للحكم وتعليل له فإن اتصافه عزوجل بهما يقتضى لا محالة أن لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم والباء متعلقة برءوف وتقديمه على رحيم مع كونه أبلغ منه لما مر فى وجه تقديم الرحمن على الرحيم وقيل الرحمة أكثر من الرأفة فى الكمية والرأفة أقوى منها فى الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام والرحمة إيصال النعمة مطلقا وقد يكون مع الألم كقطع العضو المتآكل وقرىء رءوف بغير مدكندس (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أى تردده وتصرف نظرك فى جهتها تطلعا للوحى وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقع فى روعه ويتوقع من ربه عزوجل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل بالوحى بالتحويل (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) الفاء الدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها وهى فى الحقيقة داخلة على قسم محذوف يدل عليه اللام أى فو الله لنولينك أى لنعطينكها ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا أى صيرته واليا له أو لنجعلنك تلى جهتها أو لنحولنك على أن نصب قبلة بحذف الجار أى إلى قبلة وقيل هو متعد إلى مفعولين (تَرْضاها) تحبها وتشتاق إليها لمقاصد دينية وافقت مشيئته تعالى وحكمته (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الفاء لتفريع الأمر بالتولية على الوعد الكريم وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره وقيل المراد به كل البدن أى فاصرفه (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أى نحوه وهو نصب على الظرفية من ول أو على نزع الخافض أو على أنه مفعول ثان له وقيل الشطر فى الأصل اسم لما انفصل من الشىء ودار شطور إذا كانت منفصلة عن الدور ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل كالقطر والحرام المحرم أى محرم فيه القتال أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا له وفى ذكر المسجد الحرام دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة الجهة لأن فى مراعاة العين من البعيد حرجا عظيما بخلاف القريب. روى عن البراء بن عازب أن نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشرة شهرا ثم وجه إلى الكعبة وقيل كان ذلك فى رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى


(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٤٥)

____________________________________

مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول فى الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمى المسجد مسجد القبلتين (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب تعظيما لجنابه وإيذان بإسعاف مرامه ثم عمم الخطاب للمؤمنين مع التعرض لاختلاف أما كنهم تأكيدا للحكم وتصريحا بعمومه لكافة العباد من كل حاضر وباد وحثا للأمة على المتابعة وحيثما شرطية وكنتم فى محل الجزم بها وقوله تعالى (فَوَلُّوا) جوابها وتكون هى منصوبة على الظرفية بكنتم نحو قوله تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من فريقى اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أى التحويل أو التوجه المفهوم من التولية (الْحَقُّ) لا غير لعلمهم بأن عادته سبحانه وتعالى جارية على تخصيص كل شريعة بقبلة ومعاينتهم لما هو مسطور فى كتبهم من أنه عليه الصلاة والسلام يصلى إلى القبلتين كما يشعر بذلك التعبير عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب وإن مع اسمها وخبرها ساد مسد مفعولى يعلمون أو مسد مفعوله الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة وقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الحق أى كائنا من ربهم أو صفة له على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أى الكائن من ربهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين والخطاب للكل تغليبا وقرىء على صيغة الغيبة فهو وعيد لأهل الكتاب (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وضع الموصول موضع المضمر للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما يرغمهم منه من الكتاب الناطق بحقية ما كابروا فى قبوله (بِكُلِّ آيَةٍ) أى حجة قطعية دالة على حقية التحويل واللام موطئة للقسم وقوله تعالى (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب للقسم المضمر ساد مسد جواب الشرط والمعنى أنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها الحجة وإنما خالفوك مكابرة وعنادا وتجريد الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تعميمه للأمة لما أن المحاجة والإتيان بالآية من الوظائف الخاصة به عليه‌السلام وقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) جملة معطوفة على الجملة الشرطية لا على جوابها مسوقة لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذى ننتظره تغريرا له عليه الصلاة والسلام وطمعا فى رجوعه وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام مضمونها واستمراره وإفراد قبلتهم مع تعددها باعتبار اتحادها فى البطلان ومخالفة الحق ولئلا يتوهم أن مدار النفى هو التعدد وقرىء بتابع قبلتهم على الإضافة (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل فريق فيما هو فيه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) الزائغة المتخالفة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ببطلانها وحقية ما أنت عليه وهذه الشرطية الفرضية واردة على منهاج التهييج والإلهاب للثبات على الحق أى ولئن اتبعت أهواءهم فرضا (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن


(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١٤٧)

____________________________________

متابعة الهوى فإن من ليس من شأنه ذلك إذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام فى سلك الراسخين فى الظلم فما ظن من ليس كذلك وإذن حرف جواب وجزاء توسطت بين اسم إن وخبرها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقها أن تتقدم أو تتأخر فلم تتقدم لئلا يتوهم أنها لتقرير النسبة التى بين الشرط وجوابه المحذوف لأن المذكور جواب القسم ولم تتأخر لرعاية الفواصل ولقد بولغ فى التأكيد من وجوه تعظيما للحق المعلوم وتحريضا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى واستعظاما لصدور الذنب من الأنبياء عليهم‌السلام (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أى علماءهم إذ هم العمدة فى إيتائه ووضع الموصول موضع المضمر مع قرب العهد للإشعار بعلية ما فى حيز الصلة للحكم والضمير المنصوب فى قوله تعالى (يَعْرِفُونَهُ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه‌السلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر بل من حيث كونه مسطورا فى الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التى من جملتها أنه عليه‌السلام يصلى إلى القبلتين كأنه قيل الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه وبهذا يظهر جزالة النظم الكريم وقيل هو إضمار قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنه عليه الصلاة والسلام أنه علم معلوم بغير إعلام فتأمل وقيل الضمير للعلم أو سببه الذى هو الوحى أو القرآن أو التحويل ويؤيد الأول قوله عزوجل (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) أى يعرفونه عليه الصلاة والسلام بأوصافه الشريفة المكتوبة فى كتابهم ولا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم وتخصيصهم بالذكر دون ما يعم البنات لكونهم أعرف عندهم منهن بسبب كونهم أحب إليهم عن عمر رضى الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام رضى الله عنه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أنا أعلم به منى بابنى قال ولم قال لأنى لست أشك فيه أنه نبى فأما ولدى فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه رضى الله عنهما (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هم الذين كابروا وعاندوا الحق والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يظهرون الحق ولا يكتمونه وأما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما فى تضاعيفه فما هم بصدد الإظهار ولا بصدد الكتم وإنما كفرهم على وجه التقليد (الْحَقُّ) بالرفع على أنه مبتدأ وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) خبره واللام للعهد والإشارة إلى ما عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى الحق الذى يكتمونه أو للجنس والمعنى أن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذى أنت عليه لا غيره كالذى عليه أهل الكتاب أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أى هو الحق وقوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) إما حال أو خبر بعد خبر وقرىء بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول ليعلمون وفى التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهعليه‌السلام من إظهار اللطف به عليه‌السلام ما لا يخفى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أى الشاكين فى كتمانهم الحق عالمين به وقيل فى أنه من ربك وليس المراد به نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فيه لأنه غير متوقع


(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٥٠)

____________________________________

منه عليه‌السلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ (وَلِكُلٍّ) أى ولكل أمة من الأمم على أن التنوين عوض من المضاف إليه (وِجْهَةٌ) أى قبلة وقد قرىء كذلك أو لكل قوم من المسلمين جانب من جوانب الكعبة (هُوَ مُوَلِّيها) أحد المفعولين محذوف أى موليها وجهه أو الله موليها إياه وقرىء ولكل وجهة بالإضافة والمعنى ولكل وجهة الله موليها أهلها واللام مزيدة للتأكيد وجبر ضعف العامل وقرىء مولاها أى مولى تلك الجهة قد وليها (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أى تسابقوا إليها بنزع الجار كما فى قوله[ثنائى عليكم آل حرب ومن يمل سواكم فإنى مهتد غير مائل] وهو أبلغ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق والمراد بالخيرات جميع أنواعها من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين أو الفاضلات من الجهات وهى المسامتة للكعبة (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أى فى أى موضع تكونوا من موافق أو مخالف مجتمع الأجزاء أو متفرقها يحشركم الله تعالى إلى المحشر للجزاء أو أينما تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض أرواحكم أو أينما تكونوا من الجهات المختلفة المتقابلة يجعل صلواتكم كأنها صلاة إلى جهة واحدة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع فهو تعليل للحكم السابق (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) تأكيد لحكم التحويل وتصريح بعدم تفاوت الأمر فى حالتى السفر والحضر ومن متعلقة بقوله تعالى (فَوَلِّ) أو بمحذوف عطف هو عليه أى من أى مكان خرجت إليه للسفر فول (وَجْهَكَ) عند صلاتك (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أو افعل ما أمرت به من أى مكان خرجت إليه فول الخ (وَإِنَّهُ) أى هذا الأمر (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أى الثابت الموافق للحكمة (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو وعد للمؤمنين وقرىء يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) إليه فى أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الكلام فيه كما مر آنفا (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين حسبما يعرب عنه إيثار


(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(١٥١)

____________________________________

كنتم على خرجتم فإن الخطاب عام لكافة المؤمنين المنتشرين فى الآفاق من الحاضرين والمسافرين فلو قيل وحيثما خرجتم لما تناول الخطاب المقيمين فى الأماكن المختلفة من حيث إقامتهم فيها (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) من محالكم (شَطْرَهُ) والتكرير لما أن القبلة لها شأن خطير والنسخ من مظان الشبهة والفتنة فبالحرى أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى مع أنه قد ذكر فى كل مرة حكمة مستقلة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) متعلق بقوله تعالى (فَوَلُّوا) وقيل بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت فى التوراة من أوصافه أنه يحول إلى الكعبة واحتجاج المشركين بأنه يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم أهل مكة أى لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده أو بداله فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع أنها أفحش الأباطيل من قبيل ما فى قوله تعالى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة وقيل الحجة بمعنى مطلق الاحتجاج وقيل الاستثناء للمبالغة فى نفى الحجة رأسا كالذى فى قوله[ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ضرورة أن لا حجة للظالم وقرىء ألا الذين بحرف التنبيه على أنه استئناف (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فإن مطاعنهم لا تضركم شيئا (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا أمرى (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) علة لمحذوف يدل عليه النظم الكريم أى وأمرتكم بما مر لإتمام النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة ولإرادتى اهتدائكم لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادة الدارين كما أشير إليه فى قوله عزوجل (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وفى التعبير عن الإرادة بكلمة لعل الموضوعة للترجى على طريقة الاستعارة التبعية من الدلالة على كمال العناية بالهداية ما لا يخفى أو عطف على علة مقدرة أى واخشونى لأحفظكم عنهم وأتم الخ أو على قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ) الخ وتوسيط قوله تعالى (فَلا تَخْشَوْهُمْ) الخ بينهما للمسارعة إلى التسلية والتثبيت وفى الخبر تمام النعمة دخول الجنة وعن على رضى الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) متصل بما قبله والظرف الأول متعلق بالفعل قدم على مفعوله الصريح لما فى صفاته من الطول والظرف الثانى متعلق بمضمر وقع صفة لرسولا مبينة لتمام النعمة أى ولأتم نعمتى عليكم فى أمر القبلة أو فى الآخرة إتماما كائنا كإتمامى لها بإرسال رسول كائن منكم فإن إرسال الرسول لا سيما المجانس لهم نعمة لا يكافئها نعمة قط وقيل متصل بما بعده أى كما ذكرتم بالإرسال فاذكرونى الخ وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد فيما قبله افتنان وجريان على سنن الكبرياء (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) صفة ثانية لرسول كاشفة لكمال النعمة (وَيُزَكِّيكُمْ) عطف على يتلو أى يحملكم على ما تصيرون به أزكياء (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) صفة أخرى مترتبة فى الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التى


(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)

____________________________________

هى عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود كما فى قوله تعالى (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر نظيره فى قصة البقرة وهو السر فى التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما فى تضاعيف الأحاديث الشريفة من الشرائع وقوله عزوجل (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) صريح فى ذلك فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب والحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنون النعم فى مقام يقتضيه كما فى قوله تعالى (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) عقيب قوله تعالى (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) والمراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق فى الوحى (فَاذْكُرُونِي) الفاء للدلالة على ترتب الأمر على ما قبله من موجباته أى فاذكرونى بالطاعة (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب وهو تحريض على الذكر مع الإشعار بما يوجبه (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم من النعم (وَلا تَكْفُرُونِ) بجحدها وعصيان ما أمرتكم به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وصفهم بالإيمان إثر تعداد ما يوجبه ويقتضيه تنشيطا لهم وحثا على مراعاة ما يعقبه من الأمر (اسْتَعِينُوا) فى كل ما تأتون وما تذرون (بِالصَّبْرِ) على الأمور الشاقة على النفس التى من جملتها معاداة الكفرة ومقابلتهم المؤدية إلى مقاتلتهم (وَالصَّلاةِ) التى هى أم العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) تعليل للأمر بالاستعانة بالصبر خاصة لما أنه المحتاج إلى التعليل وأما الصلاة فحيث كانت عند المؤمنين أجل المطالب كما ينبئ عنه قوله عليه‌السلام وجعلت قرة عينى فى الصلاة لم يفتقر الأمر بالاستعانة بها إلى التعليل ومعنى المعية الولاية الدائمة المستتبعة للنصرة وإجابة الدعوة ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشرون للصبر حقيقة فهم متبوعون من تلك الحيثية (وَلا تَقُولُوا) عطف على استعينوا الخ مسوق لبيان أن لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التى ربما يؤدى إليها الصبر حياة أبدية (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) أى هم أموات (بَلْ أَحْياءٌ) أى بل هم أحياء (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) بحياتهم وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وإنما هى أمر روحانى لا يدرك بالعقل بل بالوحى وعن الحسن رحمه‌الله أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع قلت رأيت فى المنام سنة


(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

____________________________________

تسع وثلاثين وتسعمائة أنى أزور قبور شهداء أحد رضى الله تعالى عنهم أجمعين وأنا أتلوا هذه الآية وما فى سورة آل عمران وأرددهما متفكرا فى أمرهم وفى نفسى أن حياتهم روحانية لا جسمانية فبينما أنا على ذلك إذ رأيت شابا منهم قاعدا فى قبره تام الجسد كامل الخلقة فى أحسن ما يكون من الهيئة والمنظر ليس عليه شىء من اللباس قد بدا منه ما فوق السرة والباقى فى القبر خلا أنى أعلم يقينا أن ذلك أيضا كما ظهر وإنما لا يظهر لكونه عورة فنظرت إلى وجهه فرأيته ينظر إلى متبسما كأنه ينبهنى على أن الأمر بخلاف رأيى فسبحان من علت كلمته وجلت حكمته وقيل الآية نزلت فى شهداء بدر وكانوا أربعة عشر وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وبه نطقت الآيات والسنن وعلى هذا فتخصيص الشهداء بذلك لما يستدعيه مقام التحريض على مباشرة مبادى الشهادة ولاختصاصهم بمزيد القرب من الله عز وعلا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أى بقليل من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيب به معانديهم وإنما أخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به وليعلموا أنه شىء يسير له عاقبة حميدة (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) عطف على شىء وقيل على الخوف وعن الشافعى رحمه‌الله الخوف خوف الله والجوع صوم رمضان ونقص من الأموال الزكاة والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وعن النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم روح ولد عبدى فيقولون نعم فيقول عزوجل أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول الله تعالى ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله عز وعلا ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة والمصيبة ما يصيب الإنسان من مكروه لقوله عليه‌السلام كل شىء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بأن يتصور ما خلق له وأنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون ذلك على نفسه ويستسلم والمبشر به محذوف دل عليه ما بعده (أُولئِكَ) إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت ومعنى البعد فيه للإيذان بعلور تبتهم (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ


(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)

____________________________________

رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الصلاة من الله سبحانه المغفرة والرأفة وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها والجمع بينها وبين الرحمة للمبالغة كما فى قوله تعالى (رَأْفَةً وَرَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) والتنوين فيهما للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم أى أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجليلة عليهم فنون الرأفة الفائضة من مالك أمورهم ومبلغهم إلى كمالاتهم اللائقة بهم وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه (وَأُولئِكَ) إشارة إليهم إما بالاعتبار السابق والتكرير لإظهار كمال العناية بهم وإما باعتبار حيازتهم لما ذكر من الصلوات والرحمة المترتب على الاعتبار الأول فعلى الأول المراد بالاهتداء فى قوله عزوجل (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا لا الاهتداء لما ذكر من الاسترجاع والاستسلام خاصة لما أنه متقدم عليهما فلا بد لتأخيره عما هو نتيجة لهما من داع يوجبه وليس بظاهر والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله كأنه قيل وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى وعلى الثانى هو الاهتداء والفوز بالمطالب والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينية والدنيوية فإن من نال رأفة الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) علمان لجبلين بمكة المعظمة كالصمان والمقطم (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام مناسكه جمع شعيرة وهى العلامة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج فى اللغة القصد والاعتمار الزيارة غلبا فى الشريعة على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين كالبيت والنجم فى الأعيان وحيث أظهر البيت وجب تجريده عن التعلق به (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أى فى أن يطوف بهما أصله يتطوف قلبت التاء طاء فأدغمت الطاء فى الطاء وفى إيراد صيغة التفعل إيذان بأن من حق الطائف أن يتكلف فى الطواف ويبذل فيه جهده وهذا الطواف واجب عندنا والشافعى وعن مالك رحمهما‌الله أنه ركن وإيراده بعدم الجناح المشعر بالتخيير لما أنه كان فى عهد الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة آخر اسمه نائلة وكانوا إذا سعوا بينهما مسحوا بهما فلما جاء الإسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت وقيل هو تطوع ويعضده قراءة ابن مسعود فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أى فعل طاعة فرضا كان أو نفلا أو زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف وخيرا حينئذ نصب على أنه صفة لمصدر محذوف أى تطوعا خيرا أو على حذف الجار وإيصال الفعل إليه أو على تضمين معنى فعل وقرىء يطوع وأصله يتطوع مثل يطوف وقرىء ومن يتطوع بخير (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) أى مجاز على الطاعة عبر عن ذلك بالشكر مبالغة فى الإحسان إلى العباد (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا وهو علة لجواب الشرط قائم مقامه كأنه قيل ومن تطوع خيرا جازاه الله وأثابه فإن الله شاكر عليم


(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠)

____________________________________

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) قيل نزلت فى أحبار اليهود الذين كتموا ما فى التوراة من نعوت النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك من الأحكام وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدى والربيع والأصم أنها نزلت فى أهل الكتاب من اليهود والنصارى وقيل نزلت فى كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل والأقرب هو الأول فإن عموم الحكم لا يأبى خصوص السبب والكتم والكتمان ترك إظهار الشىء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعى إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شىء آخر فى موضعه وهو الذى فعله هؤلاء (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) من الآيات الواضحة الدالة على أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْهُدى) أى والآيات الهادية إلى كنه أمره ووجوب اتباعه والإيمان به عبر عنها بالمصدر مبالغة ولم يجمع مراعاة للأصل وهى المرادة بالبينات أيضا والعطف لتغاير العنوان كما فى قوله عزوجل هدى للناس وبينات الخ وقيل المراد بالهدى الأدلة العقلية ويأباه الإنزال والكتم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) متعلق بيكتمون والمراد بالناس الكل لا الكاتمون فقط واللام متعلقة بييناه وكذا الظرف فى قوله تعالى (فِي الْكِتابِ) فإن تعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب فى جوازه أو الأخير متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أى كائنا فى الكتاب وتبيينه لهم تلخيصه وإيضاحه بحيث يتلقاه كل أحد منهم من غير أن يكون له فيه شبهة وهذا عنوان مغاير لكونه بينا فى نفسه وهدى مؤكد لقبح الكتم أو تفهيمه لهم بواسطة موسى عليه‌السلام والأول أنسب بقوله تعالى (فِي الْكِتابِ) والمراد بكتمه إزالته ووضع غيره فى موضعه فإنهم محوا نعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه فى تفسير قوله عز وعلا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) الخ (أُولئِكَ) إشارة إليهم باعتبار ما وصفوا به للإشعار بعليته لما حاق بهم وما فيه من معنى البعد للإيذان يترامى أمرهم وبعد منزلتهم فى الفساد (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أى يطردهم ويبعدهم من رحمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات الجامع للصفات لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن عنه سبحانه صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من وصف الجمال والرحمة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أى الذين يتأتى منهم اللعن أى الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمنى الثقلين والمراد بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل فى قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أى عن الكتمان (وَأَصْلَحُوا) أى ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرف وكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف (وَبَيَّنُوا) للناس معانيه فإنه غير الإصلاح المذكور أو بينوا لهم ما وقع منهم أولا وآخرا فإنه أدخل فى إرشاد الناس إلى الحق وصرفهم عن طريق الضلال الذى كانوا أوقعوهم فيه أو بينوا توبتهم ليمحوا به سمة ما كانوا فيه ويقتدى بهم أضرابهم


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)

____________________________________

وحيث كانت هذه التوبة المقرونة بالإصلاح والتبيين مستلزمة للتوبة عن الكفر مبنية عليها لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة للإشعار بعليته للحكم والفاء لتأكيد ذلك (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أى بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وقوله تعالى (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أى المبالغ فى قبول التوب ونشر الرحمة اعتراض تذييلى محقق لمضمون ما قبله والالتفات إلى التكلم للافتنان فى النظم الكريم مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من اختلاف المبدأ فى فعليه تعالى السابق واللاحق (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين حسبما يفيده الكلام والاقتصار على ذكر الكفر فى الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبنى على ما أشير إليه فكما أن وجود تلك الأمور الثلاثة مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر كذلك وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعا أى إن الذين استمروا على الكفر المستتبع للكتمان وعدم التوبة (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) لا يرعوون عن حالتهم الأولى (أُولئِكَ) الكلام فيه كما فيما قبله (عَلَيْهِمْ) أى مستقر عليهم (لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ممن يعتد بلعنتهم وهذا بيان لدوامها الثبوتى بعد بيان دوامها التجددى وقيل الأول لعنتهم أحياء وهذا لعنتهم أمواتا وقرىء والملائكة والناس أجمعون عطفا على محل اسم الله لأنه فاعل فى المعنى كقولك أعجبنى ضرب زيد وعمرو تريد من أن ضرب زيد وعمر وكأنه قيل أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة الخ وقيل هو فاعل لفعل مقدر أى ويلعنهم الملائكة (خالِدِينَ فِيها) أى فى اللعنة أو فى النار على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم أو حال من الضمير فى خالدين على وجه التداخل أو من الضمير فى عليهم على طريقة الترادف (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفى واستمراره أى لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة (وَإِلهُكُمْ) خطاب عام لكافة الناس أى المستحق منكم للعبادة (إِلهٌ واحِدٌ) أى فرد فى الإلهية لا صحة لتسمية غيره إلها أصلا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو اعتراض وأيا ما كان فهو مقرر للوحدانية ومزيح لما عسى يتوهم أن فى الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) خبران آخران للمبتدأ أو لمبتدأ محذوف وهو تقرير للتوحيد فإنه تعالى حيث كان موليا لجميع النعم أصولها وفروعها جليلها ودقيقها وكان ما سواه كائنا ما كان مفتقرا إليه فى وجوده وما يتفرع عليه من كمالاته تحققت وحدانيته بلا ريب وانحصر استحقاق العبادة فيه تعالى قطعا قيل كان للمشركين


(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

____________________________________

حول الكعبة المكرمة ثلثمائة وستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى فى إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من التعاجيب العبر وبدائع صنائع يعجز عن فهمها عقول البشر وجمع السموات لما هو المشهور من أنها طبقات متخالفة الحقائق دون الأرض (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر كقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أو اختلاف كل منهما فى أنفسهما ازديادا وانتقاصا على ما قدره الله تعالى (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) عطف على ما قبله وتأنيثه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمع فإن ضمة الجمع مغايرة لضمة الواحد فى التقدير إذ الأولى كما فى حمر والثانية كما فى قفل وقرىء بضم اللام (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أى متلبسة بالذى ينفعهم مما يحمل فيها من أنواع المنافع أو بنفعهم (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) عطف على الفلك وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفصيل وقيل المقصود الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر فى غالب الأمر ومن الأولى ابتدائية والثانية بيانية أو تبعيضية وأياما كان فتأخيرها لما مر مرارا من التشويق والمراد بالسماء الفلك أو السحاب أو جهة العلو (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها كما يوزن به إيراد الموت فى مقابلة الإحياء (وَبَثَّ فِيها) أى فرق ونشر (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) من العقلاء وغيرهم والجملة معطوفة على أنزل داخلة تحت حكم الصلة وقوله تعالى (فَأَحْيا) الخ متصل بالمعطوف عليه بحيث كانا فى حكم شىء واحد كأنه قيل وما أنزل فى الأرض من ماء وبث فيها الخ أو على أحيا بحذف الجار والمجرور العائد إلى الموصول وإن لم تتحقق الشرائط المعهودة كما فى قوله[وإن لسانى شهدة يشتفى بها ولكن على من صبه الله علقم] أى علقم عليه وقوله[لعل الذى أصعدتنى أن يردنى إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره] على معنى فأحيا بالماء الأرض وبث فيها من كل دابة فإنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على ما أنزل أى تقلييها من مهب إلى آخر أو من حال إلى أخرى وقرىء على الإفراد (وَالسَّحابِ) عطف على تصريف أو الرياح وهو اسم جنس واحده سحابة سمى بذلك لا نسحابه فى الجو (الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله تعالى (سَحاباً ثِقالاً) وتسخيره تقليبه فى الجو بواسطة الرياح حسبما تقتضيه مشيئة الله تعالى ولعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب فى الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجى لما مر فى قصة البقرة من الإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة فى


(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)

____________________________________

كونها آية ولو روعى الترتيب الخارجى لربما توهم كون المجموع المترتب بعضه على بعض آية واحدة (لَآياتٍ) اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أى آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أى يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول وفيه تعريض بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية تصدقه فى قوله تعالى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وتسجيل عليهم بسخافة العقول وإلا فمن تأمل فى تلك الآيات وجد كلا منها ناطقة بوجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى بها عن سائرها فإن كل واحد من الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضى ذاته وجوده فضلا عن وجوده على نمط معين مستتبع لحكم مستقل فإذن لا بدله حتما من موجد قادر حكيم بوجده حسبما تقتضيه حكمته وتستدعيه مشيئته متعال عن معارضة الغير إذ لو كان معه آخر يقدر على ما يقدر عليه لزم إما اجتماع المؤثرين على أثر واحد أو التمانع المؤدى إلى فساد العالم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ) بيان لكمال ركاكة آراء المشركين أثر تقرير وحدانيته سبحانه وتحرير الآيات الباهرة الملجئة للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضة باستحالة أن يشاركه شىء من الموجودات فى صفة من صفات الكمال فضلا عن المشاركة فى صفة الألوهية والكلام فى إعرابه كما فصل فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الخ و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بيتخذ أى من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذى ذكرت شئونه الجليلة وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غب تعيينه بالصفات (أَنْداداً) أى أمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون لا سيما فى الأوامر والنواهى كما يفصح عنه ما سيأتى من وصفهم بالتبرى من المتبعين وقيل هى الأصنام وإرجاع ضمير العقلاء إليها فى قوله عز وعلا (يُحِبُّونَهُمْ) مبنى على آرائهم الباطلة فى شأنها من وصفهم بما لا يوصف به إلا العقلاء والمحبة ميل القلب من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها والفعل منها حب على حدمد لكن الاستعمال المستفيض على أحب حبا ومحبة فهو محب وذاك محبوب ومحب قليل وحاب أقل منه ومحبة العبد لله سبحانه إرادة طاعته فى أوامره ونواهيه والاعتناء بتحصيل مراضيه فمعنى يحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملة فى حيز النصب إما صفة لأندادا أو حالا من فاعل يتخذ وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده باعتبار لفظها (كَحُبِّ اللهِ) مصدر تشبيهى أى نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق ومن قضية كونه مبنيا للفاعل كونه أيضا كذلك والظاهر اتحاد فاعلهما فإنهم كانوا يقرون به تعالى أيضا ويتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حبا كائنا كحبهم لله تعالى أى يسوون بينه تعالى وبينهم فى الطاعة والتعظيم وقيل فاعل الحب المذكور هم


(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١٦٦)

____________________________________

المؤمنون فالمعنى حبا كائنا كحب المؤمنين له تعالى فلا بد من اعتبار المشابهة بينهما فى أصل الحب لا فى وصفه كما أو كيفا لما سيأتى من التفاوت البين وقيل هو مصدر من المبنى للمفعول أى كما يحب الله تعالى ويعظم وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس وأنت خبير بأنه لا مشابهة بين محبيتهم لأندادهم وبين محبوبيته تعالى فالمصير حينئذ ما أسلفناه فى تفسير قوله عز قائلا (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) وإظهار الاسم الجليل فى مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) جملة مبتدأة جىء بها توطئة لما يعقبها من بيان رخاوة حبهم وكونه حسرة عليهم والمفضل عليه محذوف أى المؤمنون أشد حبا له تعالى منهم لأندادهم ومآله أن حب أولئك له تعالى أشد من حب هؤلاء لأندادهم فيه من الدلالة على كون الحب مصدرا من المبنى للفاعل ما لا يخفى وإنما لم يجعل المفضل عليه حبهم لله تعالى لما أن المقصود بيان انقطاعه وانقلابه بغضا وذلك إنما يتصور فى حبهم لأندادهم لكونه منوطا بمبان فاسدة ومباد موهومة يزول بزوالها. قيل ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى الله سبحانه وكانوا يعبدون صنما أياما فإذا وجدوا آخر رفضوه إليه وقد أكلت باهلة إلهها عام المجاعة وكان من حيس وأنت خبير بأن مدار ذلك اعتبار اختلال حبهم لها فى الدنيا وليس الكلام فيه بل فى انقطاعه فى الآخرة عند ظهور حقيقة الحال ومعاينة الأهوال كما سيأتى بل اعتباره مخل بما يقتضيه مقام المبالغة فى بيان كمال قبح ما ارتكبوه وغاية عظم ما اقترفوه وإيثار الإظهار فى موضع الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) المعد لهم يوم القيامة أى لو علموا إذا عاينوه وإنما أوثر صيغة المستقبل لجريانها مجرى الماضى فى الدلالة على التحقق فى إخبار علام الغيوب (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد مفعولى يرى (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف عليه وفائدته المبالغة فى تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان إما لعدم الإحاطة بكنهه وإما لضيق العبارة عنه وإما لإيحاب ذكره ما لا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه أى لو علموا إذ رأوا العذاب قد حل بهم ولم ينقذهم منه أحد من أندادهم أن القوة لله جميعا ولا دخل لأحد فى شىء أصلا لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرىء ولو ترى بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب فالجواب حينئذ لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة وقرىء إذ يرون على البناء للمفعول (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) على الاستئناف وإضمار القول (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) بدل من إذ يرون أى إذ تبرأ الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) من الاتباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه فى الدنيا ويدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول إبليس إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل وقرىء بالعكس أى تبرأ الأتباع من الرؤساء والواو فى قوله عزوجل (وَرَأَوُا


(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٦٨)

____________________________________

الْعَذابَ) حالية وقد مضمرة وقيل عاطفة على تبرأ والضمير فى رأوا للموصوفين جميعا (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) والوصل التى كانت بينهم من التبعية والمتبوعية والاتفاق على الملة الزائغة والأغراض الداعية إلى ذلك وأصل السبب الحبل الذى يرتقى به الشجر ونحوه والجملة معطوفة على تبرأ وتوسيط الحال بينهما للتنبيه على علة التبرى وقد جوز عطفها على الجملة الحالية (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم فى الدنيا (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أى ليت لنا رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) هناك (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) اليوم (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الذى بعده لا إلى شىء آخر مفهوم مما سبق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه وبعد منزلته مع كمال تميزه عما عداه وانتظامه فى سلك الأمور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أى ذلك الإراء الفظيع (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) أى ندامات شديدة فإن الحسرة شدة الندم والكمد وهى تألم القلب وانحساره عما يؤلمه واشتقاقها من قولهم بعير حسير أى منقطع القوة وهى ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب وإلا فهى حال والمعنى أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) كلام مستأنف لبيان حالهم بعد دخولهم النار والأصل وما يخرجون والعدول إلى الاسمية لإفادة دوام نفى الخروج والضمير للدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم كما فى قوله[هم يفرشون اللبد كل طمرة وأجرد سباق يبذ المغاليا] (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أى بعض ما فيها من أصناف المأكولات التى من جملتها ما حرمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام قال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام وقوله تعالى (حَلالاً) حال من الموصول أى كلوه حال كونه حلالا أو مفعول لكلوا على أن من ابتدائية وقد جوز كونه صفة لمصدر مؤكد أى أكلا حلالا ويؤيد الأولين قوله تعالى (طَيِّباً) فإنه صفة له ووصف الأكل به غير معتاد وقيل نزلت فى قوم من المؤمنين حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس ويرده قوله عزوجل (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أى لا تقتدوا بها فى اتباع الهوى فإنه صريح فى أن الخطاب للكفرة. كيف لا وتحريم الحلال على نفسه تزهدا ليس من باب اتباع خطوات الشيطان فضلا عن كونه تقولا وافتراء على الله تعالى وإنما الذى نزل فيهم ما فى


(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٧٠)

____________________________________

سورة المائدة من قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية وقرىء خطوات بسكون الطاء وهما لغتان فى جمع خطوة وهى ما بين قدمى الخاطى وقرىء بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كانها على الواو وبفتحتين على أنها جمع خطوة وهى المرة من الخطو (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل للنهى أى ظاهر العدواة عند ذوى البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمى وليا فى قوله تعالى (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم فى ذلك والسوء فى الأصل مصدر ساءه يسوؤه سوءا ومساءة إذا أحزنه يطلق على جميع المعاصى سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب لاشتراك كلها فى أنها تسوء صاحبها والفحشاء أقبح أنواعها وأعظمها مساءة (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على الفحشاء أى وبأن تفتروا على الله بأنه حرم هذا وذاك ومعنى ما لا تعلمون ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به وتعليق أمره بتقولهم على الله تعالى ما لا يعلمون وقوعه منه تعالى لا بتقولهم عليه ما يعلمون عدم وقوعه منه تعالى مع أن حالهم ذلك للمبالغة فى الزجر فإن التحذير من الأول مع كونه فى القبح والشناعة دون الثانى تحذير عن الثانى على أبلغ وجه وآكده وللإيذان بأن العاقل يجب عليه أن لا يقول على الله تعالى ما لا يعلم وقوعه منه تعالى مع الاحتمال فضلا عن أن يقول عليه ما يعلم عدم وقوعه منه تعالى قالوا وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظنه فمستند إلى مدرك شرعى فوجوبه قطعى والظن فى طريقه (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) التفات إلى الغيبة تسجيلا بكمال ضلالهم وإيذانا بإيجاب تعداد ما ذكر من جناياتهم لصرف الخطاب عنهم وتوجيهه إلى العقلاء وتفصيل مساوى أحوالهم لهم على نهج المباثة أى إذا قيل لهم على وجه النصيحة والإرشاد اتبعوا كتاب الله الذى أنزله (قالُوا) لا نتبعه (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أى وجدناهم عليه إما على أن الظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من آباءنا وألفينا متعد إلى واحد وإما على أنه مفعول ثان له مقدم على الأول نزلت فى المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله تعالى من الحجج الظاهرة والبينات الباهرة فجنحوا للتقليد والموصول إما عبارة عما سبق من اتخاذ الأنداد وتحريم الطيبات ونحو ذلك وإما باق على عمومه وما ذكر داخل فيه دخولا أوليا وقيل نزلت فى طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام فقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خيرا منا وأعلم فعلى هذا يعم ما أنزل الله تعالى التوراة لأنها أيضا تدعو إلى الإسلام وقوله عزوجل (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) استئناف مسوق من جهته تعالى ردا لمقالتهم الحمقاء وإظهارا لبطلان آرائهم والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتعجيب منه لا


لإنكار الوقوع كالتى فى قوله تعالى (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وكلمة لو فى أمثال هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشىء فى الزمان الماضى لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه بل هى لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفى على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولية لما أن الشىء متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شىء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم أنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا المعنى ظاهر فى الخبر الموجب والمنفى والأمر والنهى كما فى قولك فلان جواد يعطى ولو كان فقيرا وبخيل لا يعطى ولو كان غنيا وقولك أحسن إليه ولو أساء إليك ولا تهنه ولو أهانك لبقائه على حاله وأما فيما نحن فيه ففيه نوع خفاء ناشىء من ورود الإنكار عليه لكن الأصل فى الكل واحد إلا أن كلمة لو فى الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله وأن الجملة حال من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما فى حيز لو باق على ما هو عليه من الاستبعاد غالبا بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمة لو متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال مدلوله لا مدلول المذكور من حيث هو مدلوله وأن الجملة حال مما يتعلق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلق به وأن المقصود الأصلى إنكار مدلوله باعتبار مقارنته للحالة المذكورة وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وأن ما فى حيز لو لا يقصد استبعاده فى نفسه بل يقصد الإشعار بأنه أمر محقق إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد معاملة مع المخاطبين على معتقدهم لئلا يلبسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالة والضلالة جلد النمر فيركبوا متن العناد ومبالغة فى الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكرا مستقبحا عند احتمال كون آبائهم كما ذكر احتمالا بعيدا فلأن يكون منكرا عند تحقق ذلك أولى والتقدير أيتبعون ذلك لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا كذلك فالجملة فى حيز النصب على الحالية من آبائهم على طريقة قوله تعالى (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) كأنه قيل أيتبعون دين آبائهم حال كونهم غافلين وجاهلين ضالين إنكارا لما أفاده كلامهم من الاتباع على أى حالة كانت من الحالتين غير أنه اكتفى بذكر الحالة الثانية تنبيها على أنها هى الواقعة فى نفس الأمر وتعويلا على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاء بينا فإن اتباعهم الذى تعلق به الإنكار حيث تحقق مع كون آبائهم جاهلين ضالين فلأن يتحقق مع كونهم عاقلين ومهتدين أولى إن قلت الإنكار المستفاد من الاستفهام الإنكارى بمنزلة النفى ولا ريب فى أن الأولوية فى صورة النفى معتبرة بالنسبة إلى النفى ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفى عند الحالة المسكوت عنها أعنى عدم الغنى هو عدم الإعطاء لا نفسه فكان ينبغى أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالة المسكوت عنها وهى حالة كون آبائهم عاقلين ومهتدين إنكار الاتباع لا نفسه إذ هو الذى يدل عليه أيتبعون الخ فلم اختلفت الحال بينهما قلت لما أن مناط الأولوية هو الحكم الذى أريد بيان تحققه على كل حال وذلك


(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)

____________________________________

فى مثال النفى عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفى المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفس الاتباع المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذى يقتضيه الكلام السابق أعنى قولهم بل نتبع الخ وأما الاستفهام فخارج عنه وارد عليه لإنكار ما يفيده واستقباح ما يقتضيه لا أنه من تمامه كما فى صورة النفى وكذا الحال فيما إذا كانت الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه مع كونه بمنزلة صريح النفى كما سيأتى تحقيقه فى قوله تعالى (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وقيل الواو حالية ولكن التحقيق أن المعنى يدور على معنى العطف فى سائر اللغات أيضا (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير وفيها مضاف قد حذف لدلالة مثل عليه ووضع الموصول موضع الضمير الراجع إلى ما يرجع إليه الضمائر السابقة لذمهم بما فى حيز الصلة وللإشعار بعلة ما أثبت لهم من الحكم والتقدير مثل ذلك القائل وحاله الحقيقة لغرابتها بأن تسمى مثلا وتسير فى الآفاق فيما ذكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحق وعدم رفعهم إليه رأسا لانهما كهم فى التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة وعدم فهمهم من جهة الداعى إلى الدعاء من غير أن يلقوا أذهانهم إلى ما يلقى عليهم (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوت الراعى وهتفه بها من غير فهم لكلامه أصلا وقيل إنما حذف المضاف من الموصول الثانى لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارة عنه مشعرة مع ما فى حيز الصلة بما هو مدار التمثيل أى مثل الذين كفروا فيما ذكر من انهما كهم فيما هم فيه وعدم التدبر فيما ألقى إليهم من الآيات كمثل بهائم الذى ينعق بها وهى لا تسمع منه إلا جرس النغمة ودوى الصوت وقيل المراد تمثيلهم فى اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التى تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته وقيل تمثيلهم فى دعائهم الأصنام بالناعق فى نعقه وهو تصويته على البهائم وهذا غنى عن الإضمار لكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء فإن الأصنام بمعزل من ذلك وقد عرفت أن حسن التمثيل فيما إذا تشابه أفراد الطرفين (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بالرفع على الذم أى هم صم الخ (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) شيئا لأن طريق التعقل هو التدبر فى مبادى الأمور المعقولة والتأمل فى ترتبيها وذلك إنما يحصل باستماع آيات الله ومشاهدة حججه الواضحة والمفاوضة مع من يؤخذ منه العلوم فإذا كانوا صما بكما عميا فقد انسد عليهم أبواب التعقل وطرق الفهم بالكلية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أى مستلذاته (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الذى رزقكموها والالتفات لتربية المهابة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر له وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله عزوجل إنى والإنس والجن فى نبأ عظيم أخلق ويعبد غيرى وأرزق ويشكر غيرى


(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٤)

____________________________________

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أى أكلها والانتفاع بها وهى التى ماتت على غير ذكاة والسمك والجراد خارجان عنها بالعرف أو استثناء الشرع وخرج الطحال من الدم (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) إنما خص لحمه مع أن سائر أجزائه أيضا فى حكمه لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه بمنزلة التابع له (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أى رافع به الصوت عند ذبحه للصنم والإهلال أصله رؤية الهلال لكن لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عندها سمى ذلك إهلالا ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) بالاستئثار على مضطر آخر (وَلا عادٍ) سد الرمق والجوعة وقيل غير باغ على الوالى ولا عاد بقطع الطريق وعلى هذا لا يباح للعاصى بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعى وقول أحمد رحمهما‌الله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فى تناوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فعل (رَحِيمٌ) بالرخصة إن قيل كلمة إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر قلنا المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حالة الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) المشتمل على فنون الأحكام التى من جملتها أحكام المحللات والمحرمات حسبما ذكر آنفا وقال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أى يأخذون بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) عوضا حقيرا وقد مر سر التعبير عن ذلك بالثمن الذى هو وسيلة فى عقود المعاوضة وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة من الوصفين الشنيعين المميزين لهم عمن عداهم أكمل تمييز الجاعلين إياهم بحيث كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلتهم فى الشر والفساد وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) والجملة خبر لأن أو اسم الإشارة مبتدأ ثان أو بدل من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلهم النار أنهم يأكلون فى الحال ما يستتبع النار ويستلزمها فكأنه عين النار وأكله أكلها كقوله[أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر] أو يأكلون فى المآل يوم القيامة عين النار عقوبة على أكلهم الرشا فى الدنيا وفى بطونهم متعلق بيأكلون وفائدته تأكيد الأكل وتقريره ببيان مقر المأكول وقيل معناه ملء بطونهم كما فى قولهم أكل فى بطنه وأكل فى بعض بطنه ومنه كلوا فى بعض بطنكم تعفوا فلا بد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقع حالا مقدرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقه بيأكلون يؤدى إلى قصر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصر ما يأكلونه مطلقا عليها


(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)

____________________________________

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريض بحرمانهم ما أتيح للمؤمنين من فنون الكرامات السنية والزلفى (وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يثنى عليهم (وَلَهُمْ) مع ما ذكر (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (أُولئِكَ) إشارة إلى ما أشير إليه بنظيره بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعة إذ لا دخل لها فى الحكم الذى يراد إثباته ههنا فإن المقصود تصوير ما باشروه من المعاملة بصورة قبيحة تنفر منها الطباع ولا يتعاطاها عاقل أصلا ببيان حقيقة ما نبذوه وإظهار كنه ما أخذوه وإبداء فظاعة تبعاته وهو مبتدأ خبره الموصول أى أولئك المشترون بكتاب الله عزوجل ثمنا قليلا ليسوا بمشترين للثمن وإن قل بل هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) بالنسبة إلى الدنيا (الضَّلالَةَ) التى ليست مما يمكن أن يشترى قطعا (بِالْهُدى) الذى ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شىء وإن جل (وَالْعَذابَ) أى اشتروا بالنظر إلى الآخرة العذاب الذى لا يتوهم كونه مما يشترى (بِالْمَغْفِرَةِ) التى يتنافس فيها المتنافسون (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجيب من حالهم الهائلة التى هى ملابستهم بما يوجب النار إيجابا قطعيا كأنه عينها. وما عند سيبويه نكرة تامة مفيدة لمعنى التعجب مرفوعة بالابتداء وتخصصها كتخصص شرفى شر أهر ذا ناب خبرها ما بعدها أى شىء ما عظيم جعلهم صابرين على النار وعند الفراء استفهامية وما بعدها خبرها أى أى شىء أصبرهم على النار وقيل هى موصولة وقيل موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أى الذى أصبرهم على النار أو شىء أصبرهم على النار أمر عجيب فظيع (ذلِكَ) العذاب (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب (بِالْحَقِّ) أى ملتبسا به فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متن الجهل والغواية مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) أى فى جنس الكتاب الإلهى بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها أو فى التوراة بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض كالآيات المغيرة المشتملة على أمر بعثة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعوته الكريمة فمعنى الاختلاف التخلف عن الطريق الحق أو الاختلاف فى تأويلها أو فى القرآن بأن قال بعضهم إنه سحر وبعضهم إنه شعر وبعضهم أساطير الأولين كما حكى عن المفسرين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)


البر اسم جامع لمراضى الخصال والخطاب لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوض فى أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة وكان كل فريق يدعى خيرية التوجه إلى قبلته من القطرين المذكورين وتقديم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب وإما لأن توجه اليهود إلى المغرب ليس لكونه مغربا بل لكون بيت المقدس من المدينة المنورة واقعا فى جانب الغرب فقيل لهم ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين على أن البر خبر ليس مقدما على اسمها كما فى قوله[سلى إن جهلت الناس عنى وعنهم فليس سواء عالم وجهول] وقوله[أليس عظيما أن تلم ملمة وليس علينا فى الخطوب مقول] وإنما أخر ذلك لما أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن فى الاسم طولا فلو روعى الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم وقرىء برفع البر على أنه اسمها وهو أقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعى أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه فى الاستدراك بقوله عزوجل (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) وهو تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل وتفصيل لخصال البر مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها أى ولكن البر المعهود الذى يحق أن يهتم بشأنه ويجد فى تحصيله بر من آمن بالله وحده إيمانا بريئا من شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى والمشركين بقولهم عزير ابن الله وقولهم المسيح ابن الله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى على ما هو عليه لا كما يزعمون من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ففيه تعريض بأن إيمان أهل الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيح لم يكن إيمانا وفى تعليق البر بهما من أول الأمر عقيب نفيه عن التوجه إلى المشرق والمغرب من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل ولكن البر هو التوجه إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب فى الحقيقة (وَالْمَلائِكَةِ) أى وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه بإلقاء الوحى وإنزال الكتب (وَالْكِتابِ) أى بجنس الكتاب الذى من أفراده الفرقان الذى نبذوه وراء ظهورهم وفيه تعريض بكتمانهم نعوت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا (وَالنَّبِيِّينَ) جميعا من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين ووجه توسيط الكتاب بين حملة الوحى وبين النبيين واضح وسيأتى فى قوله تعالى (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) حال من الضمير فى آتى والضمير المجرور للمال أى آتاه كائنا على حب المال كما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل أى الصدقة أفضل أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح وقول ابن مسعود رضى الله عنه أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقيل الضمير لله تعالى أى آتاه كائنا على محبته تعالى لا على قصد الشر والفساد ففيه نوع تعريض لباذلى الرشى وآخذيها لتغيير التوراة وقيل للمصدر أى كائنا على حب الإيتاء (ذَوِي الْقُرْبى) مفعول أول لآتى قدم عليه مفعوله الثانى أعنى المال للاهتمام به أو لأن فى الثانى مع ما عطف عليه طولا لوروعى الترتيب لفات تجاوب الأطراف


فى الكلام وهو الذى اقتضى تقديم الحال أيضا وقيل هو المفعول الثانى (وَالْيَتامى) أى المحاويج منهم على ما يدل عليه الحال وتقديم ذوى القربى عليهم لما أن إيتاءهم صدقة وصلة (وَالْمَساكِينَ) جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الخلة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون إلى الناس (وَابْنَ السَّبِيلِ) أى المسافر سمى به لملازمته إياه كما سمى القاطع ابن الطريق وقيل الضيف (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأتهم الحاجة والضرورة إلى السؤال قال عليه الصلاة والسلام أعطوا السائل ولو جاء على فرس (وَفِي الرِّقابِ) أى وضعه فى فك الرقاب بمعاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل فى فك الأسارى وقيل فى ابتياع الرقاب وإعتاقها وأيا ما كان فالعدول عن ذكرهم بعنوان مصحح للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرار ملكهم فيما أوتوا كما فى الوجهين الأولين أو بعدم ثبوته رأسا كما فى الوجه الأخير وإما للإشعار برسوخهم فى الاستحقاق والحاجة لما أن فى للظرفية المنبئة عن محليتهم لما يؤتى (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أى المفروضة منها (وَآتَى الزَّكاةَ) أى المفروضة على أن المراد بما مر من إيتاء المال التنفل بالصدقات قدم على الفريضة مبالغة فى الحث عليه أو المراد بهما المفروضة والأول لبيان المصارف والثانى لبيان وجوب الأداء (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) عطف على من آمن فإنه فى قوة أن يقال ومن أوفوا بعهدهم وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء والمراد بالعهد ما لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما من العهود الجارية فيما بين الناس وقوله تعالى (إِذا عاهَدُوا) للإيذان بعدم كونه من ضروريات الدين (وَالصَّابِرِينَ) نصب على الاختصاص غير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته وهو فى الحقيقة معطوف على ما قبله. قال أبو على إذا ذكرت صفات للمدح أو الذم فخولف فى بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان ويسمى ذلك قطعا لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب فى استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه كما مر فى صدر السورة وقد قرىء والصابرون كما قرىء والموفين (فِي الْبَأْساءِ) أى فى الفقر والشدة (وَالضَّرَّاءِ) أى المرض والزمانة (وَحِينَ) (الْبَأْسِ) أى وقت مجاهدة العدو فى مواطن الحرب وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحيانا وسرعة انقضائه (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالنعوت الجميلة المعدودة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من التنبيه على علو طبقتهم وسمو رتبتهم (الَّذِينَ صَدَقُوا) أى فى الدين واتباع الحق وتحرى البر حيث لم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآية الكريمة كما ترى حاوية لجميع الكمالات البشرية برمتها تصريحا أو تلويحا لما أنها مع تكثر فنونها وتشعب شجونها منحصرة فى خلال ثلاث صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة مع العباد وتهذيب النفس وقد أشير إلى الأولى بالإيمان بما فصل وإلى الثانية بإيتاء المال وإلى الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وصف الحائزون لها بالصدق نظرا إلى إيمانهم واعتقادهم وبالتقوى اعتبارا بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)

____________________________________

عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع فى بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافى لما فرط من المخلين بما ذكر من أصول الدين وقواعده التى عليها بنى أساس المعاش والمعاد (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أى فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يقدح فيه قدرة الولى على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) أى بسبب قتلهم كما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن امرأة دخلت النار فى هرة ربطتها أى بسبب ربطها إياها (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) كان فى الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فأمرهم أن يتبوءوا وليس فيها دلالة على عدم قتل الحر بالعبد عند الشافعى أيضا لأن اعتبار المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجه سوى اختصاص الحكم بالمنطوق وقد رأيت الوجه ههنا وإنما يتمسك فى ذلك هو ومالك رحمهما‌الله بما روى على رضى الله عنه أن رجلا قتل عبده فجلده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفاه سنة ولم يقده وبما روى عنه رضى الله عنه أنه قال من السنة أن لا يقتل مسلم بذى عهد ولا حر بعبد وبأن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير وبالقياس على الأطراف وعندنا يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فإن شريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا ولأن القصاص يعتمد المساواة فى العصمة وهى بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما وقرىء كتب على البناء للفاعل ونصب القصاص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أى شىء من العفو لأن عفا لازم وفائدته الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كله فى إسقاط القصاص وهو الواقع أيضا فى العادة إذ كثيرا ما يقع العفو من بعض الأولياء فهو شىء من العفو وقيل معنى عفى ترك وشىء مفعول به وهو ضعيف إذ لم يثبت عفاه بمعنى تركه بل أعفاه وحمل العفو على المحو كما فى قول من قال [ديار عفاها جور كل معاند] وقوله[عفاها كل حنان كثير الوبل هطال] فيكون المعنى فمن محى له من أخيه شىء صرف للعبارة المتدوالة فى الكتاب والسنة عن معناها المشهور المعهود إلى ما ليس بمعهود فيهما وفى استعمال الناس فإنهم لا يستعملون العفو فى باب الجنايات إلا فيما ذكر من قبل وعفا يعدى بعن إلى الجانى والذنب قال تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ) وقال (عَفَا اللهُ عَنْها) فإذا تعدى إلى الذنب قيل عفوت لفلان عما جنى كأنه قيل فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعنى ولى الدم وإيراده بعنوان الأخوة الثابتة بينهما بحكم كونهما من بنى آدم عليه‌السلام لتحريك سلسلة الرقة والعطف عليه (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) فالأمر اتباع أو فليكن اتباع والمراد


(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠)

____________________________________

وصية العافى بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعسف وقوله عزوجل (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) حث للمعفو عنه على أن يؤديها بإحسان من غير مماطلة وبخس (ذلِكَ) أى ما ذكر من الحكم (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لما فيه من التسهيل والنفع وقيل كتب على اليهود القصاص وحده وحرم عليهم العفو والدية وعلى النصارى العفو على الإطلاق وحرم عليهم القصاص والدية وخيرت هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية (فَلَهُ) باعتدائه (عَذابٌ أَلِيمٌ) أما فى الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق وأما فى الآخرة فبالنار (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تنال غايته حيث جعل الشىء محلا لضده وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن فى هذا الجنس نوعا من الحياة عظيما لا يبلغه الوصف وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب لحياة نفسين ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثانى تخصيص وقيل المراد بالحياة هى الأخروية فإن القاتل إذا اقتص منه فى الدنيا لم يؤاخذ به فى الآخرة والظرفان إما خبران لحياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له أو حال من المستكن فيه وقرىء فى القصص أى فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو فى القرآن حياة للقلوب (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أى ذوى العقول الخالصة عن شوب الأوهام خوطبوا بذلك بعد ما خوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطا لهم إلى التأمل فى حكمة القصاص (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى تقون أنفسكم من المساهلة فى أمره والإهمال فى المحافظة عليه والحكم به والإذعان له أو فى القصاص فتكفوا عن القتل المؤدى إليه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) بيان لحكم آخر من الأحكام المذكورة (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أى حضر أسبابه وظهر أماراته أو دنا نفسه من الحضور وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أى مالا وقيل مالا كثيرا لما روى عن على رضى الله عنه أن مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة درهم فمنعه وقال قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشىء يسير فاتركه لعيالك وعن عائشة رضى الله عنها أن رجلا أراد الوصية وله عيال وأربعمائة دينار فقالت ما أرى فيه فضلا وأراد آخر أن يوصى فسألته كم مالك فقال ثلاثة آلاف درهم قالت كم عيالك قال أربعة قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشىء يسير فاتركه لعيالك (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مرفوع بكتب أخر عما بينهما لما مر مرار وإيثار تذكير الفعل مع جواز تأنيثه أيضا للفصل أو على تأويل أن يوصى أو الإيصاء ولذلك ذكر الضمير فى قوله تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وإذا ظرف محض والعامل فيه كتب لكن لا من حيث


(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٨١)

____________________________________

صدور الكتب عنه تعالى بل من حيث تعلقه بهم تعلقا فعليا مستتبعا لوجوب الأداء كما ينبئ عنه البناء للمفعول وكلمة الإيجاب ولا مساغ لجعل العامل هو الوصية لتقدمه عليها وقيل هو مبتدأ خبره (لِلْوالِدَيْنِ) والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كما فى قوله [من يفعل الحسنات الله يشكرها] ورد بأنه إن صح فمن ضرورة الشعر ومعنى كتب فرض وكان هذا الحكم فى بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آية المواريث بقوله عليه‌السلام إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه ألا لا وصية لوارث فإنه وإن كان من أخبار الآحاد لكن حيث تلقته الأمة بالقبول انتظم فى سلك المتواتر فى صلاحيته للنسخ عند ائمتنا على أن التحقيق أن الناسخ حقيقة هى آية المواريث وإنما الحديث مبين لجهة نسخها ببيان أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير أنصبائهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال (بِالْمَعْرُوفِ) أى بالعدل فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات وأعطى كل ذى حق منهم حقه الذى يبستحقه بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة ولم يدع ثمة شيئا فيه مدخل لرأيكم أصلا حسبما يعرب عنه الجملة المنفية بلا النافية للجنس وتصديرها بكلمة التنبيه إذا تحققت هذا ظهر لك أن ما قيل من أن آية المواريث لا تعارضه بل تحققه وتؤكده من حيث أنها تدل على تقديم الوصية مطلقا والحديث من الآحاد وتلقى الأمة إياه بالقبول لا يلحقه بالمتواتر ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله عزوجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ) أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم بمعزل من التحقيق وكذا ما قيل من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للانصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المراد منه هذه الوصية التى كانت واجبة كأنه قيل إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم فإن مدلول آية الوصية حيث كان تفويضا للأمر إلى آراء المكلفين على الإطلاق وتسنى الخروج عن عهدة التكليف بأداء ما أدى إليه آراؤهم بالمعروف فتكون آية المواريث الناطقة بمراتب الاستحقاق وتفاصيل مقادير الحقوق القاطعة بامتناع الزيادة والنقص بقوله تعالى (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ناسخة لها رافعة لحكمها مما لا يشتبه على أحد وقوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد أى حق ذلك حقا (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أى غيره من الأوصياء والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أى بعد ما وصل إليه وتحقق لديه (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أى إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ووضع الموصول فى موضع الضمير الراجع إلى من لتأكيد الإيذان بعلية ما فى حيز الصلة الأولى وإيثار الجمع للإشعار بتعداد المبدلين أنواعا أو كثرتهم أفرادا والإيذان بشمول الإثم لجميع الأفراد (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد شديد للمبدلين


(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)

____________________________________

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) أى توقع وعلم من قولهم أخاف أن يرسل السماء وقرىء من موص (جَنَفاً) أى ميلا بالخطأ فى الوصية (أَوْ إِثْماً) أى تعمدا للجنف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أى بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج الشريعة الشريفة (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أى فى هذا التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار مزيد الاعتناء والصيام والصوم فى اللغة الإمساك عما تنزع إليه النفس ومنه قوله تعالى (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ) الآية وقيل هو الإمساك عن الشىء مطلقا ومنه صامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب والفرس إذا أمسكت عن العدو قال[خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما] وفى الشريعة هو الإمساك نهارا مع النية عن المفطرات المعهودة التى هى معظم ما تشتهيه الأنفس (كَما كُتِبَ) فى حيز النصب على أنه نعت للمصدر المؤكد أى كتابا كائنا كما كتب أو على أنه حال من المصدر المعرفة أى كتب عليكم الصيام الكتب مشبها بما كتب فما على الوجهين مصدرية أو على أنه نعت لمصدر من لفظ الصيام أى صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم فما موصولة أو على أنه حال من الصيام أى حال كونه مماثلا لما كتب (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمم من لدن آدم عليه‌السلام وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين به فإن الشاق إذا عم سهل عمله والمراد بالمماثلة إما المماثلة فى أصل الوجوب وإما فى الوقت والمقدار كما يروى أن صوم رمضان كان مكتوبا على اليهود والنصارى أما اليهود فقد تركته وصامت يوما من السنة زعموا أنه يوم غرق فرعون وكذبوا فى ذلك فإنه كان يوم عاشوراء وأما النصارى فإنهم صاموا رمضان حتى صادفوا حرا شديدا فاجتمعت آراء علمائهم على تعيين فصل واحد بين الصيف والشتاء فجعلوه فى الربيع وزادوا عليه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين ثم مرض ملكهم أو وقع فيهم موتان فزادوا عشرة أيام فصار خمسين (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى المعاصى فإن الصوم يكسر الشهوة الداعية إليها كما قال عليه الصلاة والسلام فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء أو تتقون الإخلال بأدائه لأصالته أو تصلون بذلك إلى رتبة التقوى. (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا والمراد بها إما رمضان أو ما وجب فى بدء الإسلام ثم نسخ به من صوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وانتصابه


(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)

____________________________________

ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبى بل بمضمر دل هو عليه أعنى صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا وقيل بقوله تعالى (كُتِبَ) على أحد الوجهين وفيه أن الأيام ليست محلا له بل للمكتوب فلا تتحقق الظرفية ولا المفعولية المتفرعة عليها اتساعا (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أى مرضا يضره الصوم أو يعسر معه (أَوْ عَلى سَفَرٍ) مستمرين عليه وفيه تلويح ورمز إلى أن من سافر فى أثناء اليوم لم يفطر (فَعِدَّةٌ) أى فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إن أفطر فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور وقرىء بالنصب أى فليصم عدة وهذا على سبيل الرخصة وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضى الله عنه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أى وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا (فِدْيَةٌ) أى إعطاء فدية وهى (طَعامُ مِسْكِينٍ) وهو نصف صاع من بر أو من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز وكان ذلك فى بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم فى الإفطار والفدية وقرىء يطيقونه أى يكلفونه أو يقلدونه ويتطوقونه ويطوقونه بإدغام التاء فى الطاء ويطيقونه ويطيقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطوقونه ويتطوقونه من فعيل وتفعيل من الطوق فأدغمت الياء فى الواو بعد قلبها ياء كقولهم تدبر المكان وما بها ديار وفيه وجهان أحدهما نحو معنى يطيقونه والثانى يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز وحكم هؤلاء الإفطار والفدية وهو حينئذ غير منسوخ ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أى يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد فى الفدية (فَهُوَ) أى التطوع أو الخير الذى تطوعه (خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون أو المطوقون وتحملوا على أنفسكم وتجهدوا طاقتكم أو المرخصون فى الإفطار من المرضى والمسافرين (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية أو من تطوع الخير أو منهما أو من التأخير إلى أيام أخر والالتفات إلى الخطاب للهزو التنشيط (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى ما فى صومكم مع تحقق المبيح للإفطار من الفضيلة والجواب محذوف ثقة بظهوره أى اخترتموه أو سارعتم إليه وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبير علمتم أن الصوم خير من ذلك (شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ سيأتى خبره أو خبر لمبتدأ محذوف أى ذلك شهر رمضان أو بدل من الصيام على حذف المضاف أى صيام شهر رمضان وقرىء بالنصب على إضمار صوموا أو على أنه مفعول تصوموا أو بدل من أياما معدودات ورمضان مصدر رمض أى احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل ابن دأية للغراب فقوله عليه‌السلام من صام رمضان الحديث وأراد على حذف المضاف للأمن من الالتباس وإنما سمى بذلك إما لارتماضهم فيه من الجوع والعطش أو لارتماض الذنوب بالصيام فيه أو لوقوعه فى أيام رمض الحر عند


(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)

____________________________________

نقل اسماء الشهور عن اللغة القديمة (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) خبر للمبتدأ على الوجه الأول وصفة لشهر رمضان على الوجوه الباقية ومعنى إنزاله فيه أنه ابتدى إنزاله فيه وكان ذلك ليلة القدر أو أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئة الربانية أو أنزل فى شأنه القرآن وهو قوله عزوجل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة منه والقرآن لأربع وعشرين (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان من القرآن أى أنزل حال كونه هدية للناس بما فيه من الإعجاز وغيره وآيات واضحة مرشدة إلى الحق فارقة بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أى حضر فيه ولم يكن مسافرا ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة فى البيان والفاء للتفريع والترتيب أو لتضمن المبتدأ معنى الشرط أو زائدة على تقدير كون شهر رمضان مبتدأ والموصول صفة له وهذه الجملة خبر له وقيل هى جزائية كأنه قيل لما كتب عليكم الصيام فى ذلك الشهر فمن حضر فيه (فَلْيَصُمْهُ) أى فليصم فيه بحذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور اتساعا وقيل من شهد منكم هلال الشهر فليصمه على أنه مفعول به كقولك شهدت الجمغة أى صلاتها فيكون ما بعده مخصصا له كأنه قيل (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) وإن كان مقيما حاضرا فيه (أَوْ عَلى سَفَرٍ) وإن كان صحيحا (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أى فعليه صيام أيام أخر لأن المريض والمسافر ممن شهد الشهر ولعل التكرير لذلك أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه (يُرِيدُ اللهُ) بهذا الترخيص (بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) لغاية رأفته وسعة رحمته (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علل لفعل محذوف يدل عليه ما سبق أى ولهذه الأمور شرع ما مر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص لهم بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص فى إباحة الفطر فقوله تعالى (لِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدة و (لِتُكَبِّرُوا) علة ما علمه من كيفية القضاء و (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير وتعدية فعل التكبير بعلى لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ويجوز أن تكون معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ ويجوز عطفها على (الْيُسْرَ) أى يريد بكم لتكملوا الخ كقوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) إلخ والمعنى بالتكبير تعظيمه تعالى بالحمد والثناء عليه وقيل تكبير يوم العيد وقيل التكبير عند الإهلال وما تحتمل المصدرية والموصولة أى على هدايته إياكم أو على الذى هداكم إليه وقرىء ولتكملوا بالتشديد (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) فى تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى من تشريفه ورفع محله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أى فقل لهم إنى قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه روى أن أعرابيا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت (أُجِيبُ دَعْوَةَ


(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(١٨٧)

____________________________________

الدَّاعِ إِذا دَعانِ) تقرير للقرب وتحقيق له ووعد للداعى بالإجابة (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعونى لمهماتهم (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمر بالثبات على ما هم عليه (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) راجين إصابة الرشد أى الحق وقرىء بفتح الشين وكسرها ولما أمرهم الله تعالى بصوم الشهر ومرعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الكريمة الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ثم شرع فى بيان أحكام الصيام فقال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) روى أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الأخيرة أو يرقدوا ثم إن عمر رضى الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتذر إليه فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت. وليلة الصيام الليلة التى يصبح منها صائما والرفث كناية عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والإنهاء وإيثاره ههنا لاستقباح ما ارتكبوه ولذلك سمى خيانة وقرىء الرفوث وتقديم الظرف على القائم مقام الفاعل لما مر مرارا من التشويق فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) استئناف مبين لسبب الإحلال وهو صعوبة الصبر عنهن مع شدة المخالطة وكثرة الملابسة بهن وجعل كل من الرجل والمرأة لباسا للآخر لاعتناقهما واشتمال كل منهما على الآخر بالليل قال[إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا] أو لأن كلا منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب ومعنى تختانون تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عطف على علم أى تاب عليكم لما تبتم مما افترفتموه (وَعَفا عَنْكُمْ) أى محا أثره عنكم (فَالْآنَ) لما نسخ التحريم (بَاشِرُوهُنَّ) المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة كنى بها عن الجماع الذى يستلزمها وفيه دليل على جواز نسخ الكتاب للسنة (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أى واطلبوا ما قدره الله لكم وقرره فى اللوح من الولد وفيه أن المباشر ينبغى أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة فى خلق الشهوة وشرع النكاح لاقضاء الشهوة وقيل فيه نهى عن العزل وقيل عن غير المأتى والتقدير وابتغوا المحل الذى كتب


(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)

____________________________________

الله لكم (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض فى الأفق وما يمتد معه من غلس الليل بخيطين الأبيض والأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) عن بيان الخيط الأسود لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن يكون من للتبعيض فإن ما يبدو بعض الفجر وما روى من أنها نزلت ولم ينزل من الفجر فعمد رجال إلى خيطين أبيض وأسود وطفقوا يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز أو اكتفى أولا باشتهارهما فى ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفى تجويز المباشرة إلى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم من أصبح جنبا (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيان لآخر وقته (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أى معتكفون فيها والمراد بالمباشرة الجماع وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك وفيه دليل على أن الاعتكاف يكون فى المسجد غير مختص ببعض دون بعض وأن الوطء فيه حرام ومفسد له لأن النهى فى العبادات يوجب الفساد (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أى الأحكام المذكورة حدود وضعها الله تعالى لعباده (فَلا تَقْرَبُوها) فضلا عن تجاوزها نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل مبالغة فى النهى عن تخطيها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ويجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمه ومناهيه (كَذلِكَ) أى مثل ذلك التبيين البليغ (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) الدالة على الأحكام التى شرعها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة أوامره ونواهيه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) نهى عن أكل بعضهم أموال بعض على خلاف حكم الله تعالى بعد النهى عن أكل أموال أنفسهم فى نهار رمضان أى لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذى لم يبحه الله تعالى وبين نصب على الظرفية أو الحالية من أموالكم (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهى عنه أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء أى ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم إليهم (فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة أو متلبسين بالإثم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعاصى مع العلم بها أقبح. روى أن عبدان الحضرمى ادعى على امرىء القيس الكندى قطعة أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ عليه الصلاة والسلام إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فارتدع عن اليمين فسلم الأرض إلى عبدان فنزلت. وروى أنه اختصم إليه خصمان فقال عليه‌السلام إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فإنما أقضى له قطعة من نار فبكيا فقال كل واحد منهما حقى لصاحبى


(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(١٩٠)

____________________________________

فقال اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) سأله معاذ ابن جبل وثعلبة بن غنم فقالا ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يستوى ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) كانوا قد سألوه عليه الصلاة والسلام عن الحكمة فى اختلاف حال القمر وتبدل أمره فأمره الله العزيز الحكيم أن يجيبهم بأن الحكمة الظاهرة فى ذلك أن تكون معالم للناس فى عبادتهم لا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء وكذا فى معاملاتهم على حسب ما يتفقون عليه والموافيت جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان مدة مقسومة إلى الماضى والحال والمستقبل والوقت الزمان المفروض لأمر (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه وإنما يدخلون ويخرجون من نقب أو فرجة وراءها ويعدون ذلك برا فبين لهم أنه ليس ببر فقيل (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) أى بر من اتقى المحارم والشهوات ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيت للحج ذكر عقيبه ما هو من أفعالهم فى الحج استطرادا أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوث لبيان الشرائع لا لبيان حقائق الأشياء وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم الرسالة عقب بذكره جواب ما سألوا عنه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أريد به التنبيه على تعكيسهم فى السؤال وكونه من قبيل دخول البيت من ورائه والمعنى وليس البر بأن تعكسوا فى مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجترىء على مثله (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) إذ ليس فى العدول بر أو باشروا الأمور من وجوهها (وَاتَّقُوا اللهَ) فى تغيير أحكامه أو فى جميع أموركم أمر بذلك صريحا بعد بيان أن البر بر من اتقى إظهارا لزيادة الاعتناء بشأن التقوى وتمهيدا لقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى لكى تظفروا بالبر والهدى (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أى جاهدوا لإعزاز دينه وإعلاء كلمته وتقديم الظرف على المفعول الصريح لإبراز كمال العناية بشأن المقدم (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قيل كان ذلك قبل ما أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهابنة والنساء أو الكفرة جميعا فإن الكل بصدد قتال المسلمين ويؤيد الأول ما روى أن المشركين صدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة شرفها الله تعالى ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء فخاف المسلمون ان لا يفوالهم ويقاتلوهم فى الحرم والشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت ويعضده إيراده فى أثناء بيان أحكام الحج (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء


(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)

____________________________________

القتال أو بقتال المعاهد والمفاجأة به من غير دعوة أو بالمثلة وقتل من نهيتم عن قتله من النساء والصبيان ومن يجرى مجراهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أى لا يريد بهم الخير وهو تعليل للنهى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أى حيث وجدتموهم من حل أو حرم وأصل الثقف الحذق فى إدراك الشىء علما أو عملا وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال[فإما تثقفونى فاقتلونى فمن أثقف فليس إلى خلود] (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أى من مكة وقد فعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يسلم من كفارها (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أى المحنة التى يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها وقيل شركهم فى الحرم وصدهم لكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أى لا تفاتحوهم بالقتل هناك ولا تهتكوا حرمة المسجد الحرام (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) ثمة (فَاقْتُلُوهُمْ) فيه ولا تبالوا بقتالهم ثمة لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب وفى العدول عن صيغة المفاعلة التى بها ورد النهى والشرط عدة بالنصر والغلبة وقرىء ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلتنا بنو أسد (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال والكفر بعد ما رأوا قتالكم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما قد سلف (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصا ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) بعد مقاتلتكم عن الشرك (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أى فلا تعتدوا عليهم إذ لا يحسن الظلم إلا لمن ظلم فوضع العلة موضع الحكم وتسمية الجزاء بالعدوان للمشاكلة كما فى قوله عزوجل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) قاتلهم المشركون عام الحديبية فى ذى القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء فى ذى القعدة أيضا وكراهتهم القتال فيه هذا الشهر الحرام بذلك الشهر الحرام وهتكه بهتكه فلا تبالوا به (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أى كل حرمة وهى ما يجب المحافظة عليه يجرى فيها القصاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة فاقتلوهم إن قاتلوكم كما قال تعالى (فَمَنِ اعْتَدى


(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)

____________________________________

عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وهو فذلكة مقررة لما قبلها (وَاتَّقُوا اللهَ) فى شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فيحرسهم ويصلح شئونهم بالنصر والتمكين (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالأنفس أى ولا تمسكوا كل الإمساك (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالإسراف وتضييع وجه المعاش أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك مما يقوى العدو ويسلطهم عليكم ويؤيده ما روى عن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه أنه قال لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدى إلى الهلاك المؤبد ولذلك سمى البخل هلاكا وهو فى الأصل انتهاء الشىء فى الفساد والإلقاء طرح الشىء وتعديته بإلى لتضمنه معنى الانتهاء والباء مزيدة والمراد بالأيدى الأنفس والتهلكة مصدر كالتنصرة والتسترة وهى والهلك والهلاك واحد أى لا توقعوا أنفسكم فى الهلاك وقيل معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول (وَأَحْسِنُوا) أى أعمالكم وأخلاقكم أو تفضلوا على الفقراء (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أى يريد بهم الخير وقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بيان لوجوب إتمام أفعالهما عند التصدى لأدائهما وإرشاد للناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما فى أنفسهما من الوجوب وعدمه كما فى قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فانه بيان لوجوب مد الصيام إلى الليل من غير تعرض لوجوب أصله وإنما هو بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية كما أن وجوب الحج بقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمرا بأصله ولا مستلزما له أصلا فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعا وادعاء أن الأمر بإتمامهما أمر بإنشائهما تامين كاملين حسبما تقتضيه قراءة وأقيموا الحج والعمرة وأن الأمر للوجوب ما لم يدل على خلافه دليل مما لا سداد له ضرورة أن ليس البيان مقصورا على أفعال الحج المفروض حتى يتصور ذلك بل الحق أن تلك القراءة أيضا محمولة على المشهورة ناطقة بوجوب إقامة أفعالهما كما ينبغى من غير تعرض لحالهما فى أنفسهما فالمعنى أكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر أفعالهما المعروفة شرعا لوجه الله تعالى من غير إخلال منكم بشىء منها. هذا وقد قيل إتمامهما أن تحرم


بهما من دويرة أهلك روى ذلك عن على وابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم وقيل أن تفرد لكل واحد منها سفرا كما قال محمد حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل وقيل هو جعل نفقتهما حلالا وقيل أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشىء من الأغراض الدنيوية وأيا ما كان فلا تعرض فى الآية الكريمة لوجوب العمرة أصلا وأما ما روى أن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن العمرة لقرينة الحج وقول عمر رضى الله عنه هديت لسنة نبيك حين قال له رجل وجدت الحج العمرة مكتوبين على أهللت بهما وفى رواية فأهللت بهما جميعا فبمعزل من إفادة الوجوب مع كونه معارضا بما روى عن جابر أنه قال يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج قال لا ولكن أن تعتمر خير لك وبقوله عليه‌السلام الحج جهاد والعمرة تطوع فتدبر (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أى منعتم من الحج يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه من المضى لوجهه مثل صده وأصده والمراد منع العدو عند مالك والشافعى رضى الله عنهما لقوله تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولنزوله فى الحديبية ولقول ابن عباس لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبى حنيفة رضى الله عنه لما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أى فعليكم أو فالواجب ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المحرم إذا أحصرو أراد أن يتحلل تحلل بذبح هدى تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر وعندنا يبعث به إلى الحرم ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أى لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدى المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذى يجب أن ينحر فيه وحمل الأولون بلوغ الهدى محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما ومرجعهم فى ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح عام الحديبية بها وهى من الحل قلنا كان محصره عليه الصلاة والسلام طرف الحديبية الذى إلى أسفل مكة وهو من الحرم وعن الزهرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر هديه فى الحرم وقال الواقدى الحديبية هى طرف الحرم على تسعة أميال من مكة والمحل بالكسر يطلق على المكان والزمان والهدى جمع هدية كجدى وجدية وقرىء من الهدى جمع هدية كمطى ومطية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا محوجا إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كجراحة أو قمل (فَفِدْيَةٌ) أى فعليه فدية إن حلق (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) بيان لجنس الفدية وأما قدرها فقد روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب بن عجرة لعلك آذاك هو امك قال نعم يا رسول الله قال احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو أنسك شاة والفرق ثلاثة آصع (فَإِذا أَمِنْتُمْ) أى الإحصار أو كنتم فى حال أمن أو سعة (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أى فمن انتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج فى أشهره وقيل من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أى فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع وهو دم جبران يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه عند الشافعى وعندنا هو كالأضحية (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أى الهدى (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أى فى أشهره بين الإحرامين وقال الشافعى فى أيام الاشتغال بأعماله بعد الإحرام وقبل التحلل والأحب أن يصوم سابع ذى الحجة وثامنه وتاسعه فلا يصح يوم النحر وأيام التشريق (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أى نفرتم وفرغتم من


(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)

____________________________________

أعماله وفى أحد قولى الشافعى إذا رجعتم إلى أهليكم وقرىء وسبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام (تِلْكَ عَشَرَةٌ) فذلكة الحساب وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كما فى قولك جالس الحسن وابن سيرين وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب وأن المراد بالسبعة هو العدد المخصوص دون الكثرة كما يراد بها ذلك أيضا (كامِلَةٌ) صفة مؤكدة لعشرة تفيد المبالغة فى المحافظة على العدد أو مبينة لكمال العشرة فإنها أول عدد كامل إذ به ينتهى الآحاد ويتم مراتبها أو مقيدة تفيد كمال بدليتها من الهدى (ذلِكَ) إشارة إلى التمتع عندنا وإلى الحكم المذكور عند الشافعى (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعى ومن كان مسكنه وراء الميقات عندنا وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك (وَاتَّقُوا اللهَ) فى المحافظة على أوامره ونواهيه لا سيما فى الحج (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتقه كى يصدكم العلم به عن العصيان وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة (الْحَجُّ) أى وقته (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) معروفات بين الناس هى شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة عندنا وتسعة بليلة النحر عند الشافعى وكله عند مالك ومدار الخلاف أن المراد بوقته وقت إحرامه أو وقت أعماله ومناسكه أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا فإن مالكا كره العمرة فى بقية ذى الحجة وأبو حنيفة وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه وإنما سمى شهرين وبعض شهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكل أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد وصيغة جمع المذكر فى غير العقلاء تجىء بالألف والتاء (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أى أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) أى لا جماع أو فلا فحش من الكلام ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات وقيل بالسباب والتنابذ بالألقاب (وَلا جِدالَ) أى لا مراء مع الخدم والرفقة (فِي الْحَجِّ) أى فى أيامه والإظهار فى مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله عزوجل من موجبات ترك الأمور المذكورة وإيثار النفى للمبالغة فى النهى والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون فإن ما كان منكرا مستقبحا فى نفسه ففى تضاعيف الحج أقبح كلبس الحرير فى الصلاة والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة وقرىء الأولان بالرفع على معنى لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف فى الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا أيضا بعرفات (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) فيجزى به خير جزاء وهو حث على فعل الخير إثر النهى عن الشر (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أى تزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد وقيل نزلت فى أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون


(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٩٩)

____________________________________

نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام فى السؤال والتثقيل على الناس (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فإن قضية اللب استشعار خشية الله عزوجل وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بذلك هو الله تعالى فيتبرءوا من كل شىء سواه وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص بهذا الخطاب أولو الألباب (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) أى فى أن تبتغوا أى تطلبوا (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء ورزقا منه أى الربح بالتجارة وقيل كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم فى الجاهلية يقيمونها أيام مواسم الحج وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أى دفعتم منها بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول حذفه من دفعت من البصرة وعرفات جمع سمى به كأذرعات وإنما نون وكسر وفيه علمية وتأنيث لما أن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكن ولذلك يجمع مع اللام وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف وههنا ليس كذلك أو لأن التأنيث إما بالتاء المذكورة وهى ليست بتاء اليأنيث وإنما هى مع الالف التى قبلها علامة جمع المؤنث أو بتاء مقدرة كما فى سعاد ولا سبيل إليه لأن المذكورة تأبى تقديرها لما أنها كالبدل منها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت وإنما سمى الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه‌السلام فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه‌السلام كان يدور به فى المشاعر فلما رآه قال عرفت أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا أو لأن الناس يتعارفون فيه وهى من الأسماء المرتجلة إلا من بجعلها جمع عارف قيل وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهى مأمور بها بقوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا) وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب والأمر به غير مطلق (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والهليل والدعاء وقيل بصلاة العشاءين (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) هو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح وقيل ما بين مأزمى عرفة ووادى محسر ويؤيد الأول ما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر يعنى بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعافيه وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر وإنما سمى مشعرا لأنه معلم العبادة ووصف بالحرام لحرمته ومعنى عند المشعر الحرام ما يليه ويقرب منه فإنه أفضل وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادى محسر (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أى كما علمكم أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها وما مصدرية أو كافة (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل ما ذكر من هدايته إياكم (لَمِنَ الضَّالِّينَ) غير العاملين بالإيمان والطاعة وإن هى المخففة واللام هى الفارقة وقيل هى نافية واللام بمعنى إلا كما فى قوله عز وعلا (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (ثُمَّ أَفِيضُوا


(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)

____________________________________

مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أى من عرفة لا من المزدلفة والخطاب لقريش لما كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعا عليهم فأمروا بأن يساووهم وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما فى قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلا إلى كريم وقيل من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها والخطاب عام وقرىء الناس بكسر السين أى الناسى على أن يراد به آدم عليه‌السلام من قوله تعالى (فَنَسِيَ) والمعنى أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من جاهليتكم فى تغيير المناسك (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فهو تعليل للاستغفار أو للأمر به (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) عباداتكم المتعلقة بالحج وفرغتم منها (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أى فأكثروا ذكره تعالى وبالغوا فى ذلك كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما مجرور معطوف على الذكر بجعله ذاكرا على المجاز والمعنى فاذكروا الله ذكرا كائنا مثل ذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ أو على ما أضيف إليه بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا أو منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكور من آبائكم أو بمضمر دل عليه المعنى تقديره أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم (فَمِنَ النَّاسِ) تفصيل للذاكرين إلى من لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا وإلى من يطلب به خير الدارين والمراد به الحث على الإكثار والانتظام فى سلك الآخرين (مَنْ يَقُولُ) أى فى ذكره (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) أى اجعل إيتاءنا ومنحتنا فى الدنيا خاصة (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أى من حظ ونصيب لاقتصار همه على الدنيا فهو بيان لحاله فى الآخرة أو من طلب خلاق فهو بيان لحاله فى الدنيا وتأكيد لقصر دعائه على المطالب الدنيوية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) هى الصحة والكفاف والتوفيق للخير (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) هى الثواب والرحمة (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بالعفو والمغفرة وروى عن على رضى الله عنه ان الحسنة فى الدنيا المرأة الصالحة وفى الآخرة الحوراء وعذاب النار امرأة السوء وعن الحسن أن الحسنة فى الدنيا العلم والعبادة وفى الآخرة الجنة وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثانى باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من الإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وقيل إليهما معا فالتنوين فى قوله تعالى (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) على الأول للتفخيم وعلى الثانى للتنويع أى لكل منهم نوع نصيب


(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)(٢٠٤)

____________________________________

من جنس ما كسبوا أو من أجله كقوله تعالى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه وتسمية الدعاء كسبا لما أنه من الأعمال (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم فى مقدار لمحة فاحذروا من الإخلال بطاعة من هذا شأن قدرته أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات (وَاذْكُرُوا اللهَ) أى كبروه فى أعقاب الصلوات وعند ذبح القرابين ورمى الجمار وغيرها (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هى أيام التشريق (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أى استعجل فى النفر أو النفر فإن التفعل والاستفعال يجيئان لازمين ومتعديين يقال تعجل فى الأمر واستعجل فيه وتعجله واستعجله والأول أوفق للتأخر كما فى قوله[قد يدرك المتأنى بعض حاجته وقد يكون من المستعجل الزلل (فِي يَوْمَيْنِ) أى فى تمام يومين بعد يوم النحر هو يوم القر ويوم الرءوس واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمى الجمار (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بتعجله (وَمَنْ تَأَخَّرَ) فى النفر حتى رمى فى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده وعند الشافعى بعده فقط (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بما صنع من التأخر والمراد التخيير بين التعجل والتأخر ولا يقدح فيه أفضلية الثانى وإنما ورد بنفى الإثم تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فمن مؤثم للمتعجل ومؤثم للمتأخر (لِمَنِ اتَّقى) خبر لمبتدأ محذوف أى الذى ذكر من التخيير ونفى الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام لمن اتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مجامع أموركم بفعل الواجبات وترك المحظورات ليعبأبكم وتنظموا فى سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة والرخص أو احذروا الإخلال بما ذكر من الأحكام وهو الأنسب بقوله عزوجل (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أى للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث وأصل الحشر الجمع وضم المتفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعى إلى ملازمة التقوى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) تجريد للخطاب وتوجيه له إليه عليه الصلاة والسلام وهو كلام مبتدأ سيق لبيان تحزب الناس فى شأن التقوى إلى حزبين وتعيين مآل كل منهما ومن موصولة أو موصوفه وإعرابه كما بين فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أى ومنهم من يروقك كلامه ويعظم موقعه فى نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولطف الأداء والتعجب حيرة تعرض للإنسان بسبب عدم الشعور بسبب ما يتعجب منه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بقوله أى ما يقوله فى حق الحياة الدنيا ومعناها فإنها الذى يريده بما يدعيه من الإيمان ومحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه إشارة إلى أن له قولا آخر ليس بهذه الصفة أو بيعجبك أى يعجبك قوله فى الدنيا بحلاوته


(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)

____________________________________

وفصاحته لا فى الآخرة لما أنه يظهر هناك كذبه وقبحه وقيل لما يرهقه من الحبسة واللكنة وأنت خبير بأنه لا مبالغة حينئذ فى سوء حاله فإن مآله بيان حسن كلامه فى الدنيا وقبحه فى الآخرة وقيل معنى فى الحياة الدنيا مدة الحياة الدنيا أى لا يصدر منه فيها إلا القول الحسن (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أى بحسب إدعائه حيث يقول الله يعلم أن ما فى قلبى موافق لما فى لسانى وهو عطف على يعجبك وقرىء ويشهد الله فالمراد بما فى قلبه ما فيه حقيقة ويؤيده قراءة ابن عباس رضى الله عنهما والله يشهد على ما فى قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له فالجملة اعتراضية وقرىء ويستشهد الله (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أى شديد العداوة والخصومه للمسلمين على أن الخصام مصدر وإضافة ألد إليه بمعنى فى كقولهم ثبت العذر أو أشد الخصوم لهم خصومة على أنه جمع خصم كصعب وصعاب قيل نزلت فى الأخنس بن شريق الثقفى وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعى الإسلام والمحبة وقيل فى المنافقين والجملة حال من الضمير المجرور فى قوله أو من المستكن فى يشهد وعطف على ما قبلها على القراءتين المتوسطتين (وَإِذا تَوَلَّى) أى من مجلسك وقيل إذا صار واليا (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) كما فعله الأخنس بثقيف حيث بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل وقرىء ويهلك الحرث والنسل على إسناد الهلاك إليهما عطفا على سعى وقرىء بفتح اللام وهى لغة وقرىء على البناء للمفعول من الإهلاك (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أى لا يرتضيه ويبغضه ويغضب على من يتعاطاه وهو اعتراض تذييلى (وَإِذا قِيلَ لَهُ) على نهج العظة والنصيحة (اتَّقِ اللهَ) واترك ما تباشره من الفساد أو النفاق واحذر سوء مغبته (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أى حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذى نهى عنه لجاجا وعنادا من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه أو ألزمته إياه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) مبتدأ وخبر أى كافيه جهنم وقيل جهنم فاعل لحسبه ساد مسد خبره وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوى لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها وقيل حسب اسم فعل ماض أى كفته جهنم (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه والمهاد الفراش وقيل ما يوطأ للجنب والجملة اعتراض (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) مبتدأ وخبر كما مر أى يبيعها ببذلها فى الجهاد ومشاق الطاعات وتعريضها للمهالك فى الحروب أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن ترتب عليه القتل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أى طالبا لرضاه وهذا كمال التقوى وإيراده قسيما للأول من حيث أن ذلك يأنف من الأمر بالتقوى وهذا يأمر بذلك وإن أدى إلى الهلاك وقيل نزلت فى صهيب بن سنان الرومى أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال إنى شيخ كبير


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْيَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢١٠)

____________________________________

لا أنفعكم إن كنت معكم ولا أضركم إن كنت عليكم فخلونى وما أنا عليه وخذوا مالى فقبلوا منه ماله فأتى المدينة فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشرى (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب والجملة اعتراض تذييلى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أى الاستسلام والطاعة وقيل الإسلام وقرىء بفتح السين وهى لغة فيه وبفتح اللام أيضا وقوله تعالى (كَافَّةً) حال من الضمير فى ادخلوا أو من السلم أو منهما معا كما فى قوله[خرجت بها تمشى تجروراءنا على أثرينا ذيل مرط مرجل] وهى فى الأصل اسم لجماعة تكف مخالفها ثم استعملت فى معنى جميعا وتاؤها ليست للتأنيث حتى يحتاج إلى جعل السلم مؤنثا مثل الحرب كما فى قوله عزوجل (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) وفى قوله[السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع] وإنما هى للنقل كما فى عامة وخاصة وقاطبة والمعنى استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا والخطاب للمنافقين أو ادخلوا فى الإسلام بكليته ولا تخلطوا به غيره والخطاب لمؤمنى أهل الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعض أحكام دينهم القديم بعد إسلامهم أو فى شرائع الله تعالى كلها بالإيمان بالأنبياء عليهم‌السلام والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب كلهم ووصفهم بالإيمان إما على طريقة التغليب وإما بالنظر إلى إيمانهم القديم أو فى شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا يخلوا بشىء منها والخطاب للمسلمين وإنما خوطب أهل الكتاب بعنوان الإيمان مع أنه لا يصح الإيمان إلا بما كلفوه الآن إيذانا بأن ما يدعونه لا يتم بدونه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالتفرق والتفريق أو بمخالفة ما أمرتم به (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة أو مظهر لها وهو تعليل للنهى أو الانتهاء (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أى عن الدخول فى السلم وقرىء بكسر اللام وهى لغة فيه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ) الآيات (الْبَيِّناتُ) والحجج القطعية الدالة على حقيته الموجبة للدخول فيه (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه الانتقام منكم (حَكِيمٌ) لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين المستعصين على أوامره (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام إنكارى فى معنى النفى أى ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة فى الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أى أمره وبأسه أو يأتيهم الله بأمره وبأسه فحذف المأتى به لدلالة الحال عليه والالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم وحكاية جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريقة المباثة وإيراد الانتظار للإشعار بأنهم لانهما كهم فيما هم فيه من موجبات العقوبة


(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢١٢)

____________________________________

كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة كقلل فى جمع قلة وهى ما أظلك وقرىء فى ظلال كقلال فى جمع قلة (مِنَ الْغَمامِ) أى السحاب الأبيض وإنما أتاهم العذاب فيه لما أنه مظنة الرحمة فإذا أتى منه العذاب كان أفظع وأقطع للمطامع فإن إتيان الشر من حيث لا يحتسب صعب فكيف بإتيانه من حيث يرجى منه الخير (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على الاسم الجليل أى ويأتيهم الملائكة فإنهم وسائط فى إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة وتوسيط الظرف بينهما للإيذان بأن الآتى أو لا من جنس ما يلابس الغمام ويترتب عليه عادة وأما الملائكة وإن كان إتيانهم مقارنا لما ذكر من الغمام لكن ذلك ليس بطريق الاعتياد وقرىء بالجر عطفا على ظلل أو الغمام (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أى أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على يأتيهم داخل فى حيز الانتظار وإنما عدل إلى صيغة الماضى دلالة على تحققه فكأنه قد كان أو جملة مستأنفة جىء بها إنباء عن وقوع مضمونها وقرىء وقضاء الأمر عطفا على الملائكة (وَإِلَى اللهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بالتأنيث على البناء للمفعول من الرجع وقرىء بالتذكير وعلى البناء للفاعل بالتأنيث من الرجوع (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد من أهل الخطاب والمراد بالسؤال تبكيتهم وتقريعهم بذلك وتقرير لمجىء البينات (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة على أيدى الأنبياء عليهم‌السلام وآية ناطقة بحقية الإسلام المأمور بالدخول فيه وكم خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر وآية مميزها (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) التى هى آياته الباهرة فإنها سبب للهدى الذى هو أجل النعم وتبديلها جعلها سببا للضلالة وإزدياد الرجس أو تحريفها وتأويلها الزائغ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) ووصلت إليه وتمكن من معرفتها والتصريح بذلك مع أن التبديل لا يتصور قبل المجىء للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفصيلها كما فى قوله عزوجل (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قيل تقديره فبدلوها ومن يبدل وإنما حذف للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح به لظهوره (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تعليل للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة فإنه شديد العقاب وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أى حسنت فى أعيانهم وأشربت محبتها فى قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها والتزيين من حيث الخلق والإيجاد مستند إلى الله سبحانه كما يعرب عنه القراءة على البناء للفاعل إذ ما من شىء إلا وهو خالقه وكل من الشيطان والقوى الحيوانية وما فى الدنيا من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة


(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)

____________________________________

على استمرار السخرية منهم وهم فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب رضى الله عنهم كانوا يسترذلونهم ويستهزءون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ومن ابتدائية فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) هم الذين آمنوا بعينهم وإنما ذكروا بعنوان التقوى للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مخلة بتبتلهم إلى جناب القدس شاغلة عنه (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم فى أعلى عليين وهم فى أسفل سافلين أو لأنهم فى أوج الكرامة وهم فى حضيض الذل والمهانة أو لأنهم يتطاولون عليهم فى الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم فى الدنيا والجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أى فى الدارين (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير فيوسع فى الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على كلمة الحق ودين الإسلام وكان ذلك بين آدم وإدريس أو نوح عليهم‌السلام أو بعد الطوفان (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) أى فاختلفوا فبعث الخ وهى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه وقد حذف تعويلا على ما يذكر عقيبه (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) عن كعب الذى علمته من عدد الأنبياء عليهم‌السلام مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر والمذكور فى القرآن ثمانية وعشرون وقيل كان الناس أمة واحدة متفقة على الكفر والضلال فى فترة إدريس أو نوح فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول هو الأنسب بالنظم الكريم (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب أو مع كل واحد منهم ممن له كتاب كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق إذ لم يكن لبعضهم كتاب وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعموم النبيين لا ينافى خصوص الضمير العائد إليه بمعونة المقام (بِالْحَقِّ) حال من الكتاب أى ملتبسا بالحق أو متعلق بأنزل كقوله عز وعلا (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (لِيَحْكُمَ) أى الكتاب أو الله سبحانه وتعالى أو كل واحد من النبيين (بَيْنَ النَّاسِ) أى المذكورين والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التعيين (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) اى فى الحق الذى اختلفوا فيه أو فيما التبس عليهم (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أى فى الحق أو فى الكتاب المنزل ملتبسا به والواو حالية (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أى الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق والتعبير عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فى تضاعيفه من الحق فإن الإنزال لا يفيد تلك الفائدة أى عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل لإزالة الاختلاف سببا لاستحكامه ورسوخه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أى رسخت فى عقولهم ومن متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام أى فاختلفوا وما اختلف فيه الخ وقيل بالملفوظ بناء على عدم منع إلا عنه كما فى قولك ما قام إلا زيد يوم


(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ(٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)

____________________________________

الجمعة (بَغْياً بَيْنَهُمْ) متعلق بما تعلقت به من أى اختلفوا بغيا وتهالكا على الدنيا (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالكتاب (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أى للحق الذى اختلف فيه من اختلف (مِنَ الْحَقِّ) بيان لما وفى إبهامه أولا وتفسيره ثانيا ما لا يخفى من التفخيم (بِإِذْنِهِ) بأمره أو بتيسيره ولطفه (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الحق وهو اعتراض مقرر لمضمون ما سبق (أَمْ حَسِبْتُمْ) خوطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين حثا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفرة وتحمل المشاق من جهتهم إثر بيان اختلاف الأمم على الأنبياء عليهم‌السلام وقد بين فيه مآل اختلافهم وما لقى الأنبياء ومن معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرهم النصر وأم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والاستبعاد أى بل أحسبتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أى والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التى هى مثل فى الفظاعة والشدة وهو متوقع ومنتظر (مَسَّتْهُمُ) استئاف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن كأنه قيل كيف كان مثلهم فقيل مستهم (الْبَأْساءُ) أى الشدة من الخوف والفاقة (وَالضَّرَّاءُ) أى الآلام والأمراض (وَزُلْزِلُوا) أى أزعجوا إزعاجا شديدا بما دهمهم من الأهوال والإفزاع (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أى انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بشئون الله تعالى وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره (مَتى) أى متى يأتى (نَصْرُ اللهِ) طلبا وتمنيا له واستطالة لمدة الشدة والعناء وقرىء حتى يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية وهذا كما ترى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية كيف لا والرسل مع علو كعبهم فى الثبات والاصطبار حيث عيل صبرهم وبلغوا هذا المبلغ من الضجر والضجبج علم أن الأمر بلغ إلى غاية لا مطمح وراءها (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) على تقدير القول أى فقيل لهم حينئذ ذلك إسعافا لمرامهم والمراد بالقرب القرب الزمانى وفى إيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها وتقريره ما لا يخفى واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها فى حكم إنشاء الوعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاقتصار على حكايتها دون حكاية نفس النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف ويجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكى وفيه رمز إلى أن الوصول إلى جناب القدس لا يتسنى إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبئ عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (يَسْئَلُونَكَ


(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢١٧)

____________________________________

ما ذا يُنْفِقُونَ) أى من أصناف أموالهم (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) ما إما شرطية وإما موصولة حذف العائد إليها أى ما أنفقتموه من خير أى خير كان ففيه تجويز الإنفاق من جميع أنواع الأموال وبيان لما فى السؤال إلا أنه جعل من جملة ما فى حيز الشرط أو الصلة وأبرز فى معرض بيان المصرف حيث قيل (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) للإيذان بأن الأهم بيان المصارف المعدودة لأن الاعتداد بالإنفاق بحسب وقوعه فى موقعه وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه جاء عمر وبن الجموح وهو شيخ هرم له مال عظيم فقال يا رسول الله ما ذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت (وَالْيَتامى) أى المحتاجين منهم (وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ولم يتعرض للسائلين والرقاب إما اكتفاء بما ذكر فى المواقع الأخر وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) فإنه شامل لكل خير واقع فى أى مصرف كان (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيوفى ثوابه وليس فى الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به كما نقل عن السدى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ببناء الفعل للمفعول ورفع القتال أى قتال الكفرة وقرىء ببنائه للفاعل وهو الله عزوجل ونصب القتال وقرىء كتب عليكم القتل أى قتل الكفرة والواو فى قوله تعالى (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) حالية أى والحال أنه مكروه لكم طبعا على أن الكره مصدر وصف به المفعول مبالغة أو بمعنى المفعول كالخبز بمعنى المخبوز. وقرىء بالفتح على أنه بمعنى المضموم كالضعف والضعف أو على أنه بمعنى الإكراه مجازا كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهو جميع ما كلفوه من الأمور الشاقة التى من جملتها القتال فإن النفوس تكرمه وتنفر عنه والجملة اعتراضية دالة على أن فى القتال خيرا لهم (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وهو جميع ما نهوا عنه من الأمور المستلذة وهو معطوف على ما قبله لا محل لهما من الإعراب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم فلذلك يأمركم به (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أى لا تعلمونه ولذلك تكرهونه أو والله يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا فى ذلك رأيكم وامتثلوا بأمره تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن جحش على سرية فى جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصدوا عيرا لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمى وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى


الآخرة فقالت قريش وقد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويبذعر فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير والأسارى وعن ابن عباس رضى الله عنهما لما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنيمة والمعنى يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال فى الشهر الحرام على أن قوله عزوجل (قِتالٍ فِيهِ) بدل اشتمال من الشهر وتنكيره لما أن سؤالهم كان عن مطلق القتال الواقع فى الشهر الحرام لا عن القتال المعهود ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال فى الشهر الحرام وقرىء عن قتال فيه بتكرير العامل كما فى قوله تعالى للذين (اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) وقرىء قتل فيه (قُلْ) فى جوابهم (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بقل وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ مع كونه نكره لتخصصه إما بالوصف إن تعلق الظرف بمحذوف وقع صفة له أى قتال كائن فيه وإما بالعمل إن تعلق به وإنما أوثر التنكير احترازا عن توهم التعيين وإيذانا بأن المراد مطلق القتال الواقع فيه أى قتال كان. عن عطاء أنه سئل عن القتال فى الشهر الحرام فحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا فى الحرم ولا فى الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نسخت وأكثر الأقاويل أنها منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مبتدأ قد تخصص بالعمل فيما بعده أى ومنع عن الإسلام الموصل للعبد إلى الله تعالى (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على صد عامل فيما بعده مثله أى وكفر بالله تعالى وحيث كان الصد عن سبيل الله فردا من أفراد الكفر به تعالى لم يقدح العطف المذكور فى حسن عطف قوله تعالى (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على سبيل الله لأنه ليس بأجنبى محض وقيل هو أيضا معطوف على صد بتقدير المضاف أى وصد المسجد الحرام (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) وهو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون (مِنْهُ) أى من المسجد الحرام وهو عطف على وكفر به (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) خبر للأشياء المعدودة أى كبائر السائلين أكبر عند الله مما عنوا بالسؤال وهو ما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن وأفعل يستوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (وَالْفِتْنَةُ) أى ما أرتكبوه من الإخراج والشرك وصد الناس عن الإسلام ابتداء وبقاء (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أى أفظع من قتل الحضرمى (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) بيان لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة فى الدين (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) الحق إلى دينهم الباطل وإضافة الدين إليهم لتذكير تأكد ما بينهما من العلاقة الموجبة لامتناع الافتراق (إِنِ اسْتَطاعُوا) إشارة إلى تصلبهم فى الدين وثبات قدمهم فيه كأنه قيل وأنى لهم ذلك (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) تحذير من الارتداد أى ومن يفعل ذلك بإضلالهم وإغوائهم (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) بأن لم يرجع إلى الإسلام وفيه ترغيب فى الرجوع إلى الإسلام بعد الارتداد (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة من الارتداد والموت عليه وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم فى الشر والفساد والجمع للنظر إلى المعنى أى أولئك المصرون على الارتداد إلى حين الموت (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الحسنة التى كانوا عملوها فى حالة الإسلام حبوطا لا تلافى له قطعا (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث لم يبق لها حكم من الأحكام الدنيوية والأخروية (وَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر سابقا ولاحقا من القبائح (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملابسوها وملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) كدأب


(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢١٩)

____________________________________

سائر الكفرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت فى أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فلا أجر لهم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما مستقلان فى تحقيق الرجاء (أُولئِكَ) المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة (يَرْجُونَ) بما لهم من مبادىء الفوز (رَحْمَةِ اللهِ) أى ثوابه أثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه لا لأن فى فوزهم اشتباها (وَاللهُ غَفُورٌ) مبالغ فى مغفرة ما فرط من عباده خطأ (رَحِيمٌ) يجزل لهم الأجر والثواب والجملة اعتراض محقق لمضمون ما قبلها (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) تواردت فى شأن الخمر أربع آيات نزلت بمكة ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فطفق المسلمون بشربونها ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين قالوا أفتنا يا رسول الله فى الخمر فإنها مذهبة للعقل فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا فسكروا فأم أحدهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك سعد أبى وقاص فى نفر فلما سكروا تفاخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصارى بلحى بعير فشجه موضحة فشكا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر رضى الله عنه انتهينا يا رب وعن على رضى الله عنه لو وقعت قطرة منها فى بئر فبنيت فى مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه وعن ابن عمر رضى الله عنهما لو أدخلت أصبعى فيها لم تتبعنى وهذا هو الإيمان والتقى حقا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخمر مصدر خمره أى ستره سمى به من عصير العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقل والتمييز كأنها نفس الستر كما سميت سكرا لأنها تسكرهما أى تحجزهما والميسر مصدر ميمى من يسر كالموعد والمرجع يقال يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من اليسر لأنه أخذ المال بيسر من غير كد وتعب وإما من اليسار لأنه سلب له وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هى الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء وقيل ثمانية وعشرين إلا الثلاثة هى المنيح والسفيح والوغد للفذ سهم وللتوأم


سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها فى الربابة وهى خريطة ويضعونها على يدى عدل ثم يجلجها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا قدحا فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعين لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غرم ثمن الجزور مع حرمانه وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم وفى حكمه جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما مياسر العجم وعن على كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر وعن ابن سيرين كل شىء فيه خطر فهو من الميسر. والمعنى يسألونك عن حكمهما وعما فى تعاطيهما (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أى فى تعاطيهما ذلك لما أن الأول مسلبة للعقول التى هى قطب الدين والدنيا مع كون كل منهما متلفة للأموال (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من كسب الطرب واللذة ومصاحبة الفتيان وتشجيع الجبان وتقوية الطبيعة وقرىء إثم كثير بالمثلثة وفى تقديم بيان إثمه ووصفه بالكبر وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أى المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه وقرىء أقرب من نفعهما (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عطف على يسألونك عن الخمر الخ عطف القصة على القصة أى أى شىء ينفقونه قيل هو عمرو بن الجموح أيضا سأل أو لا من أى جنس ينفق من أجناس الأموال فلما بين جواز الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانيا من أى أصنافها ننفق أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما ينفقه منه فقيل (قُلِ الْعَفْوَ) بالنصب أى ينفقون العفو أو انفقوا العفو وقرىء بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولة صلتها ينفقون أى الذى ينفقونه العفو قال الواحدى أصل العفو فى اللغة الزيادة وقال القفال العفو ما سهل وتيسر مما فضل من الكفاية وهو قول قتادة وعطاء والسدى وكانت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يكسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل وروى أن رجلا أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيضة من ذهب أصابها فى بعض المغانم فقال خذها منى صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مرارا حتى قال عليه‌السلام مغضباهاتها فأخذها فخذفها عليه خذفا لو أصابته لشجته ثم قال يأتى أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الآتى وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه فى الفضل مع كمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك فى سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القبيل أو الفريق أو لعدم القصد إلى تعيين المخاطب كما مر ومحله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى مثل ذلك البيان الواضح الذى هو عبارة عما مضى فى أجوبة الأسئلة المارة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام الشرعية المذكورة لا بيانا أدنى منه وقد مر تمام تحقيقه فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وتبيين الآيات تنزيلها مبينة الفحوى واضحة المدلول لا أنه تعالى يبينها بعد. أن كانت مشتبهة ملتبسة وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) لكى تتفكروا فيها


(فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

____________________________________

وتقفوا على مقاصدها وتعملوا بما فى تضاعيفها وقوله تعالى فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ متعلق إما يبين أى يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات وإما بمحذوف وقع حالا من الآيات أى يبينها لكم كائنة فيهما أى مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما وإنما قدم عليه التعليل لمزيد الاعتناء بشأن التفكر وإما بقوله تعالى (تَتَفَكَّرُونَ) أى تتفكرون فى الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة فى الأحكام الواردة فى أجوبة الأسئلة المارة فتختارون منها ما يصلح لكم فيهما وتجتنبون عن غيره وهذا التخصيص هو المناسب لمقام تعداد الأحكام الجزئية ويجوز التعميم لجميع الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة فذلك حينئذ إشارة إلى ما مر من البيانات كلا أو بعضا لا إلى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعل مستقل ليس بعبارة عن تلك البيانات والمراد بالآيات غير ما ذكر والمعنى مثل ذلك البيان الوارد فى الأجوبة المذكورة يبين الله لكم الآيات والدلائل لعلكم تتفكرون فى أموركم المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعكم فيهما وتذرون ما يضركم حسبما تقتضيه تلك الآيات المبينة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) عطف على ما قبله من نظيره روى أنه لما نزلت إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية تحامى الناس عن مخالطة اليتامى وتعهد أموالهم فشق عليهم ذلك فذكروه للنبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أى التعرض لأحوالهم وأموالهم على طريق الإصلاح خير من مجانبتهم اتقاء (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) وتعاشروهم على وجه ينفعهم (فَإِخْوانُكُمْ) أى فهم إخوانكم أى فى الدين الذى هو أقوى من العلاقة النسبية ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطة بالإصلاح والنفع وقد حمل المخالطة على المصاهرة (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) العلم بمعنى المعرفة المتعدية إلى واحد ومن لتضمينه معنى التمييز أى يعلم من يفسد فى أمورهم عند المخالطة أو من يقصد بمخالطته الخيانة والإفساد مميزا له ممن يصلح فيها أو يقصد الإصلاح فيجازى كلا منهما بعمله ففيه وعد ووعيد خلا أن فى تقديم المفسد مزيد تهديد وتأكيد للوعيد (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أى لو شاء أن يعنتكم أى يكلفكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوز لكم مداخلتهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعز عليه أمر من الأمور التى من جملتها إعناتكم فهو تعليل لمضمون الشرطية وقوله عزوجل (حَكِيمٌ) أى فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة دليل على ما تفيده كلمة لو من انتفاء مقدمها (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) أى لا تتزوجوهن وقرىء بضم التاء من الإنكاح أى لا تزوجوهن


من المسلمين (حَتَّى يُؤْمِنَّ) والمراد بهن إما ما يعم الكتابيات أيضا حسبما يقتضيه عموم التعليلين الآتيين لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله سبحانه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) فالآية منسوخة بقوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وأما غير الكتابيات فهى ثابتة وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مرثد بن أبى مرثد الغنوى إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة فى الجاهلية أسمها عناق فأتته فقالت ألا تخلو فقال ويحك إن الإسلام حال بيننا فقالت هل لك أن تتزوج بى قال نعم ولكن أرجع إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأستأمره فاستأمره فنزلت (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) تعليل للنهى عن مواصلتهن وترغيب فى مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم فى إفادة التأكيد مبالغة فى الحمل على الانزجار وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض منه تاء التأنيث ودليل كون لامها واوا رجوعها فى الجمع قال الكلابى[أما الإماء فلا يدعوننى ولدا إذا تداعى بنو الأموات بالعار] وظهورها فى المصدر يقال هى أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف أى ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر (خَيْرٌ) بحسب الدين والدنيا (مِنْ مُشْرِكَةٍ) أى امرأة مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) قد مر أن كلمة لو فى أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشىء فى الماضى لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه من انصباب المعنى على تقديره بل هى لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته معه ثبوته مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشىء متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شىء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على وجه الإجمال كأنه قيل لو لم تعجبكم ولو أعجبتكم والجملة فى حيز النصب على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خير من امرأة مشركة حال عدم إعجابها وحال إعجابها إياكم بجمالها ومالها ونسبها وبغير ذلك من مبادى الإعجاب وموجبات الرغبة فيها أى على كل حال وقد اقتصر على ذكر ما هو أشد منافاة للخيرية تنبيها على أنها حيث تحققت معه فلأن تتحقق مع غيره أولى وقيل الواو حالية وليس بواضح وقيل اعتراضية وليس بسديد والحق أنها عاطفة مستتبعة لما ذكر من الاعتبار اللطيف نعم يجوز أن تكون الجملة الأولى مع ما عطف عليها مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها فتدبر (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) من الإنكاح والمراد بهم الكفار على الإطلاق لما مر أى لا تزوجوا منهم المؤمنات سواء كن حرائر أو إماء (حَتَّى يُؤْمِنُوا) ويتركوا ما هم فيه من الكفر (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) مع ما به من ذل المملوكية (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) مع ما له من عز المالكية (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) بما فيه من دواعى الرغبة فيه الراجعة إلى ذاته وصفاته (أُولئِكَ) استئناف مقرر لمضمون التعليلين المارين أى أولئك المذكورون من المشركات والمشركين (يَدْعُونَ) من يقارنهم ويعاشرهم (إِلَى النَّارِ) أى إلى ما يؤدى إليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتهم (وَاللهُ يَدْعُوا) بواسطة عباده


(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢)

____________________________________

المؤمنين من يقارنهم (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أى إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الجنة على المغفرة مع أن حق التخلية أن تقدم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء (بِإِذْنِهِ) متعلق بيدعو أى يدعو ملتبسا بتوفيقه الذى من جملته إرشاد المؤمنين لمقارنيهم إلى الخير ونصيحتهم إياهم فهم أحقاء بالمواصلة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) المشتملة على الأحكام الفائقة والحكم الرائقة (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أى لكى يتذكروا ويعملوا بما فيها فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران هذا وقد قيل معنى والله يدعو وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تشريفا لهم وأنت خبير بأن الضمير فى المعطوف على الخبر أعنى قوله تعالى (وَيُبَيِّنُ) لله تعالى فيلزم التفكيك وقيل معناه والله يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلة لمن عمل بها إليهما وهذا وإن كان مستدعيا لاتحاد مرجع الضميرين الكائنين فى الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا للمبتدأ لكن يفوت حينئذ حسن المقابلة بينه وبين قوله تعالى (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ولعل الطريق الأسلم ما أوضحناه أولا وإيراد التذكر ههنا للإشعار بأنه واضح لا يحتاج إلى التفكر كما فى الأحكام السابقة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) عطف على ما تقدم من مثله ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل عند السؤال عن الخمر وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كل من ذلك فى وقت على حدة والمحيض مصدر من حاضت المرأة كالمجىء والمبيت روى أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونهن كدأب اليهود والمجوس واستمر الناس على ذلك إلى أن سأل عن ذلك أبو الدحداح فى نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فنزلت (قُلْ هُوَ أَذىً) أى شىء يستقذر منه ويؤذى من يقربه نفرة منه وكراهة له (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أى فاجتنبوا مجامعتهن فى حالة المحيض قيل أخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناس من الأعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فإن آثر ناهن هلك سائر أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم وقيل إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يفرطون فى الاعتزال فأمر المسلمون بالاقتصاد بين الأمرين (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) تأكيد لحكم الاعتزال وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهن لا عدم القرب منهن وبيان لغايته وهو انقطاع الدم عند أبى حنيفة رحمه‌الله فإن كان ذلك فى أكثر المدة حل القربان كما انقطع وإلا فلا بد من الاغتسالى أو من مضى وقت صلاة وعند الشافعى رحمه‌الله أن يغتسلن بعدا لانقطاع كما تفصح عنه القراءة بالتشديد وينبى عنه قوله عزوجل (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) فإن التطهر هو الاغتسال (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) من المأتى الذى حلله لكم وهو القبل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض ما نهوا عنه ومن سائر الذنوب (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) المتنزهين عن الفواحش والأقذار وفى ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما


(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٤)

____________________________________

نهوا عنه وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أى مواضع حرث لكم شبهن بها لما بين ما يلقى فى أرحامهن وبين البذور من المشابهة من حيث أن كلا منهما مادة لما يحصل منه (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) لما عبر عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان وهو بيان لقوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ (أَنَّى شِئْتُمْ) من أى جهة شئتم. روى أن اليهود كانوا يزعمون أن من أتى امرأته فى قبلها من دبرها يأتى ولده أحول فذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أى ما يدخر لكم من الثواب وقيل هو طلب الولد وقيل هو التسمية عند المباشرة (وَاتَّقُوا اللهَ) بالاجتناب عن معاصيه التى من جملتها ما عد من الأمور (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) فتعرضوا لتحصيل ما تنتفعون به حينئذ واجتنبوا اقتراف ما تفتضحون به (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين تلقوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهى بحسن القبول والامتثال بما يقصر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم أو بكل ما يبشر به من الأمور التى تسر بها القلوب وتقربها العيون وفيه مع ما فى تلوين الخطاب وجعل المبشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المبالغة فى تشريف المؤمنين ما لا يخفى (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قيل نزلت فى عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته وقيل فى الصديق رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح لخوضه فى حديث الإفك والعرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشىء فيصير حاجزا عنه كما يقال فلان عرضة للخير وعلى المعرض للأمر كما فى قوله [فلا تجعلونى عرضة للوائم] فالمعنى على الوجه الأول لا تجعلوا الله مانعا للأمور الحسنة التى تحلفون على تركها وعبر عنها بالأيمان لملابستها بها كما فى قوله عليه‌السلام لعبد الله بن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك وقوله تعالى (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف بيان لأيمانكم أو بدل منها لما عرفت أنها عبارة عن الأمور المحلوف عليها واللام فى لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعرضة لما فيها من معنى الاعتراض أى لا تجعلوا الله لبركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس عرضة أى برزخا حاجزا بأن تحلفوا به تعالى على تركها أو لا تجعلوه تعالى عرضة أى شيئا يعترض الأمور المذكورة ويحجزها بما ذكر من الحلف به تعالى على تركها وقد جوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق أن تبروا الخ بالفعل أو بعرضة فيكون الأيمان بمعناها وأنت خبير بأنه يؤدى إلى الفصل بين العامل ومعموله بأجنبى وعلى الوجه الثانى لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذم من نزلت فيه ولا تطع كل حلاف مهين بأشنع المذام وجعل الحلاف مقدمتها وأن تبروا حينئذ علة للنهى أى إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء على الله سبحانه غير معظم له فلا يكون برا متقيا ثقة


(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

____________________________________

بين الناس فيكون بمعزل من التوسط فى إصلاح ذات البين (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع أيمانكم (عَلِيمٌ) يعلم نياتكم فحافظوا على ما كلفتموه (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار والمراد به فى الأيمان ما لا عقد معه ولا قصد كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) وهو المعنى بقوله عزوجل (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وقد اختلف فيه فعندنا هو أن يحلف على شىء يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه فإنه لا قصد فيه إلى الكذب وعند الشافعى رحمه‌الله هو قول العرب لا والله وبلى والله مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال فالمعنى على الأول لا يؤاخذكم الله أى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذى يحلفه أحدكم ظانا أنه صادق فيه ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب فى اليمين وذلك فى الغموس وعلى الثانى لا يلزمكم الكفارة بما لا قصد معه إلى اليمين ولكن يلزمكموها بما نوت قلوبكم وقصدت به اليمين ولم يكن كسب اللسان فقط (وَاللهُ غَفُورٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا من عدم التثبت وقلة المبالاة (حَلِيمٌ) حيث لم يعجل بالمؤاخذة والجملة اعتراض مقرر لمضمون قوله تعالى (لا يُؤاخِذُكُمُ) الخ وفيه إيذان بأن المراد بالمؤاخذة المعاقبة لا إيجاب الكفارة إذ هى التى يتعلق بها المغفرة والحلم دونه (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) الإيلاء الحلف وحقه أن يستعمل بعلى واستعماله بمن لتضمينه معنى البعد أى للذين يحلفون متباعدين من نسائهم ويحتمل أن يراد لهم من نسائهم (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) كقولك لى منك كذا وقرىء آلوا من نسائهم وقرىء يقسمون من نسائهم والإيلاء من المرأة أن يقول والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا على التقييد بالأشهر أو لا أقربك على الإطلاق ولا يكون فيما دون ذلك وحكمه أنه إن فاء إليها فى المدة بالوطء إن أمكن أو بالقول إن عجز عنه صح الفىء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على العاجز وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعا أى لهم أن ينتظروا فى هذه المدة من غير مطالبة بفىء أو طلاق (فَإِنْ فاؤُ) أى رجعوا عن اليمين بالحفث والفاء للتفصيل كما إذا قلت أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم ألبث إلا ريثما أتحول (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للمولى بفيئته التى هى كتوبته إثم حنثه عند تكفيره أو ما قصد بالإيلاء من ضرار المرأة (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) وأجمعوا عليه (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به من الدمدمة والمقاولة التى لا تخلو عنها الحال عادة (عَلِيمٌ) بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفيئة ما لا يخفى.


(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٨)

____________________________________

(وَالْمُطَلَّقاتُ) أى ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن لما قد بين أن لا عدة على غير المدخول بها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل وأن عدة الأمة قرءان أو شهران (يَتَرَبَّصْنَ) خبر فى معنى الأمر مفيد للتأكيد بإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإتيان به فكأنهن امتثلن بالأمر بالتربص فتخبر به موجودا متحققا وبناؤه على المبتدأ مفيد لزيادة تأكيد (بِأَنْفُسِهِنَّ) الباء للتعدية أى يقمعنها ويحملنها على ما لا تشتهيه بل يشق عليها من التربص وفيه مزيد حث لهن على ذلك لما فيه من الإنباء عن الاتصاف بما يستنكفن منه من كون نفوسهن طوامح إلى الرجال فيحملهن ذلك على الإقدام على الإتيان بما أمرن به (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب على الظرفية أو المفعولية بتقدير مصاف أى يتربصن مدة ثلاثة قروء أو يتربصن مضى ثلاثة قروء وهو جمع قرء والمراد به الحيض بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعى الصلاة أيام أقرائك وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وقوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) ولأن المقصود الأصلى من العدة استبراء الرحم ومداره الحيض دون الطهر ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وقوله تعالى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) معناه مستقبلات لعدتهن وهى الحيض الثلاث وإيراد جمع الكثرة فى مقام جمع القلة بطريق الاتساع فإن إيراد كل من الجمعين مكان الآخر شائع ذائع وقرىء ثلاثة قرو بغير همز (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الحيض والولد استعجالا فى العدة وإبطالا لحق الرجعة وفيه دليل على قبول قولهن فى ذلك نفيا وإثباتا (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله دلالة واضحة أى فلا يجترئن على ذلك فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذى يقع فيه الجزاء والعقوبة منافية له قطعا (وَبُعُولَتُهُنَّ) البعولة جمع بعل وهو فى الأصل السيد المالك والتاء لتأنيث الجمع كما فى الحزونة والسهولة أو مصدر بتقدير مضاف أى أهل بعولتهن أى أزواجهن الذين طلقوهن طلاقا رجعيا كما ينبئ عنه التعبير عنهم بالبعولة والضمير لبعض أفراد المطلقات (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) إلى ملكهم بالرجعة إليهن (فِي ذلِكَ) أى فى زمان التربص وصيغة التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة والمرأة تأباها وجب إيثار قوله على قولها لا أن لها أيضا حقا فى الرجعة (إِنْ أَرادُوا) أى الأزواج بالرجعة (إِصْلاحاً) لما بينهم وبينهن وإحسانا إليهن ولم يريدوا مضارتهن وليس المراد به شرطية قصد الإصلاح بصحة الرجعة بل هو الحث عليه والزجر عن قصد الضرار (وَلَهُنَّ) عليهم من الحقوق (مِثْلُ الَّذِي) لهم (عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) من الحقوق التى يجب مراعاتها ويتحتم المحافظة عليها (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أى زيادة فى الحق لأن حقوقهم فى أنفسهن وحقوقهن فى المهر


(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٢٩)

____________________________________

والكفاف وترك الضرار ونحوها أو مزية فى الفضل لما أنهم قوامون عليهن حراس لهن ولما فى أيديهن يشاركونهن فيما هو الغرض من الزواج ويستبدون بفضيلة الرعاية والإنفاق (وَاللهُ عَزِيزٌ) يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه (حَكِيمٌ) تنطوى شرائعه على الحكم والمصالح (الطَّلاقُ) هو بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم والمراد به الرجعى لما أنه السابق الأقرب حكمه ولما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الثالثة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وهو مبتدأ بتقدير مضاف خبره ما بعده أى عدد الطلاق الذى يستحق الزوج فيه الرد والرجعة حسبما بين آنفا (مَرَّتانِ) أى اثنان وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأن حقهما أن يقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة وإن كان حكم الرد ثابتا حينئذ أيضا (فَإِمْساكٌ) أى فالحكم بعدهما إمساك لهن بالرجعة (بِمَعْرُوفٍ) أى بحسن عشرة ولطف معاملة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلقة الثالثة كما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعدم الرجعة إلى أن تنقضى العدة فتبين وقيل المراد به الطلاق الشرعى وبالمرتين مطلق التكرير لا التثنية بعينها كما فى قوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى كرة بعد كرة والمعنى أن التطليق الشرعى تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاث فإن ذلك بدعة عندنا فقوله تعالى (فَإِمْساكٌ) الخ حكم مبتدأ وتخيير مستأنف والفاء فيه للترتيب على التعليم كأنه قيل إذا علمتم كيفية التطليق فأمركم أحد الأمرين (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) منهن بمقابلة الطلاق (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أى من الصدقات وتخصيصها بالذكر وإن شاركها فى الحكم سائر أموالهن إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أنه إذا لم يحل لهم أن يأخذوا مما آتوهن بمقابلة البضع عند خروجه عن ملكهم فلأن لا يحل أن يأخذوا مما لا تعلق له بالبضع أولى وأحرى (شَيْئاً) أى نزرا يسيرا فضلا عن الكثير وتقديم الظرف عليه لما مر مرارا والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند المرافعة وقيل مع الأزواج وما بعده مع الحكام وذلك مما يشوش النظم الكريم على القراءة المشهورة (إِلَّا أَنْ يَخافا) أى الزوجان وقرىء يظنا وهو مؤيد لتفسير الخوف بالظن (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أى أن لا يراعيا مواجب أحكام الزوجية وقرىء يخافا على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال وقرىء تخافا وتقيما بتاء الخطاب (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام (أَلَّا يُقِيما) أى الزوجان (حُدُودَ اللهِ) بمشاهدة بعض الأمارات والمخايل (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى على الزوجين (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) لا على الزوج فى أخذ ما افتدت به ولا عليها فى إعطائه إياه ورى أن جميلة بنت عبد الله بن أبى بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسى ورأسه شىء والله ما أعيب عليه فى دين ولا خلق ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ما أطيقه بغضا إنى رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل فى عدة فإذا هو أشدهم سوادا


(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٣١)

____________________________________

وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها إياها (تِلْكَ) أى الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) بالمخالفة والرفض (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ) المتعدون والجمع باعتبار معنى الموصول (هُمُ الظَّالِمُونَ) أى لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه ووضع الاسم الجليل فى المواقع الثلاثة الأخيرة موقع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتعقيب النهى بالوعيد للمبالغة فى التهديد (فَإِنْ طَلَّقَها) أى بعد الطلقتين السابقتين (فَلا تَحِلُّ) هى (لَهُ مِنْ بَعْدُ) أى من بعد هذا الطلاق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أى حتى تتزوج غيره فإن النكاح أيضا يسند إلى كل منهما وتعلق بظاهره من اقتصر على العقد والجمهور على اشتراط الإصابة لما روى أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى وأن ما معه مثل هدبة الثوب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريدين إن ترجعى إلى رفاعة قالت نعم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلا أن تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك وبمثله تجوز الزيادة على الكتاب وقيل النكاح بمعنى الوطء والعقد مستفاد من لفظ الزوج والحكمة من هذا التشريع الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثا والرغبة فيها والنكاح بشرط التحليل مكروه عندنا ويروى عدم الكراهة فيما لم يكن الشرط مصرحا به وفاسد عند الأكثرين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله المحلل والمحلل له (فَإِنْ طَلَّقَها) أى الزوج الثانى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أى على الزوج الأول والمرأة (أَنْ يَتَراجَعا) أن يرجع كل منهما إلى الآخر بالعقد (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) التى أوجب مراعتها على الزوجين من الحقوق ولا وجه لتفسير الظن بالعلم لما أن العواقب غير معلومة ولأن أن الناصبة للتوقع المنافى للعلم ولذلك لا يكاد يقال علمت أن يقوم زيد (وَتِلْكَ) إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا (حُدُودَ اللهِ) أى أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغير والمخالفة (يُبَيِّنُها) بهذا البيان اللائق أو سيبينها فيما سيأتى بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف وبيان بالكتاب والسنة والجملة خبر ثان عند من يجوز كونه جملة كما فى قوله تعالى (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أو حال من (حُدُودَ اللهِ) والعامل معنى الإشارة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى يفهمون وتخصيصهم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغ لما أنهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق بعض النصوص من البيان لا يقف عليه إلا الراسخون فى العلم (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أى آخر عدتهن فإن الأجل كما ينطلق


على المدة ينطلق على منتهاها والبلوغ هو الوصول إلى الشىء وقد يقال للدنو منه اتساعا وهو المراد ههنا لقوله عزوجل (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إذ لا مكان للإمساك بعد تحقق بلوغ الأجل أى فراجعوهن بغير ضرار أو خلوهن حتى ينقضى أجلهن بإحسان من غير تطويل وهذا كما ترى إعادة للحكم فى بعض صوره اعتناء بشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) تأكيد للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيح لمعناه وزجر صريح عما كانوا يتعاطونه أى لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن كان المطلق يترك المعتدة حتى إذا شارفت انقضاء الأجل يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطول عليها العدة فنهى عنه بعد ما أمر بضده لما ذكر وضرارا نصب على العلية أو الحالية أى لا تمسكوهن للمضارة أو مضارين واللام فى قوله (لِتَعْتَدُوا) متعلقة بضرارا أى لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اى ما ذكر من الإمساك المؤدى إلى الظلم وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلته فى الشر والفساد (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فى ضمن ظلمه لهن بتعريضها للعقاب (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) المنطوية على الأحكام المذكورة أو جميع آياته وهى داخلة فيها دخولا أوليا (هُزُواً) أى مهزوا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا فى المحافظة على ما فى تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمن لم يجد فى الأمر أنت هازىء كأنه نهى عن الهزؤ بها وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أى جدوا فى الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد أخذتموها هزؤا ولعبا ويجوز أن يراد به النهى عن الإمساك ضرارا فإن الرجعة بلا رغبة فيها عمل بموجب آيات الله تعالى بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهزء وقيل كان الرجل ينكح ويطلق ويعتق ثم يقول إنما كنت ألعب فنزلت ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث جدهن جد وهز لهن جد النكاح والطلاق والعتاق (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية أى قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة الله أى كائنة عليكم أو صفة لها على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أى الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح فى عمله تاء التأنيث لأنه مبنى عليها كما فى قوله[فلو لا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد] (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) عطف على نعمة الله وما موصولة حذف عائدها من الصلة ومن فى قوله عزوجل (مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) بيانيه أى من القرآن والسنة أو القرآن الجامع للعنوانين على أن العطف لتغاير الوصفين كما فى قوله [إلى الملك القرم وابن الهمام] وفى إبهامه أولا ثم بيانه من التفخيم ما لا يخفى وفى إفراده بالذكر مع كونه أول ما دخل فى النعمة المأمور بذكرها إبانة بخطره ومبالغة فى البعث على مرعاة ما ذكر قبله من الأحكام (يَعِظُكُمْ بِهِ) أى بما أنزل حال من فاعل أنزل أو من مفعوله أو منهما معا (وَاتَّقُوا اللهَ) فى شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شىء مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بأفانين العقاب


(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢٣٢)

____________________________________

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) بيان لحكم ما كانوا يفعلونه عند بلوغ الأجل حقيقة بعد بيان حكم ما كانوا يفعلونه عند المشارفة إليه والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها ولم يخرج والمراد المنع والخطاب إما للأولياء لما روى أنها نزلت فى معقل بن يسار حين عضل أخته جملا أن ترجع إلى زوجها الأول بالنكاح وقيل نزلت فى جابر بن عبد الله حين عضل أبنة عم له وإسناد التطليق إليهم لتسببهم فيه كما ينبى عنه تصديهم للعضل ولعل التعرض لبلوغ الأجل مع جواز التزوج بالزوج الأول قبله أيضا لوقوع العضل المذكور حينئذ وليس فيه دلالة على أن ليس للمرأة أن تزوج نفسها وإلا لما احتيج إلى نهى الأولياء عن العضل لما أن النهى لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة وإما للأزواج حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرأ لحمية الجاهلية وإما للناس كافة فإن إسناد ما فعله واحد منهم إلى الجميع شائع مستفيض والمعنى إذا وجد فيكم طلاق فلا يقع فيما بينكم عضل سواء كان ذلك من قبل الأولياء أو من جهة الأزواج أو من غيرهم وفيه تهويل لأمر العضل وتحذير منه وإيذان بأن وقوع ذلك بين ظهرانهم وهم ساكتون عنه بمنزلة صدوره عن الكل فى استتباع اللائمة وسراية الغائلة (أَنْ يَنْكِحْنَ) أى من أن ينكحن فمحله النصب عند سيبويه والفراء والجر عند الخليل على الخلاف المشهور وقيل هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب فى تعضلوهن وفيه دلالة على صحة النكاح بعبارتهن (أَزْواجَهُنَّ) إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ما كان وإما باعتبار ما يكون وإلا فبالاعتبار الأخير (إِذا تَراضَوْا) ظرف للاتعضلوا وصيغة التذكير باعتبار تغليب الخطاب على النساء والتقييد به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضى وقيل ظرف لأن ينكحن وقوله تعالى (بَيْنَهُمْ) ظرف للتراضى مفيد لرسوخه واستحكامه (بِالْمَعْرُوفِ) الجميل عند الشرع المستحسن عند الناس والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا أو نعتا لمصدر محذوف أى تراضيا كائنا بالمعروف وإما بتراضوا أى يتراضوا بما يحسن فى الدين والمروءة وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفؤ أو بما دون مهر المثل ليس من باب العضل (ذلِكَ) إشارة إلى ما فصل من الأحكام وما فيه من معنى البعد لتعظيم المشار إليه والخطاب لجميع المكلفين كما فيما بعده والتوحيد إما باعتبار كل واحد منهم وإما بتأويل القبيل والفريق وإما لأن الكاف لمجرد الخطاب والفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يعرفه كل أحد (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيسارع إلى الامتثال بأوامر ونواهيه إجلالا له وخوفا من عقابه وقوله تعالى


(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٣)

____________________________________

(مِنْكُمْ) إما متعلق بكان عند من يجوز عملها فى الظروف وشبهها وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يؤمن أى كائنا منكم (ذلِكُمْ) أى الاتعاظ به والعمل بمقتضاه (أَزْكى لَكُمْ) أى أنمى وأنفع (وَأَطْهَرُ) من أدناس الآثام وأوضار الذنوب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من الزكاء والطهر (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك أو والله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع التى من جملتها ما بينه ههنا وأنتم لا تعلمونها فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه فى كل ما تأتون وما تذرون (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) شروع فى بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصا واشتراكا وهو أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة فى الحمل على تحقيق مضمونه ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بمادة عدم قبول الصبى ثدى الغير أو فقدان الظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لهز عطفهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن وقيل خاص بهن إذ الكلام فيهن (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) التأكيد بصفة الكمال لبيان أن التقدير تحقيقى لا تقريبى مبنى على المسامحة المعتادة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بيان لمن يتوجه إليه الحكم أى ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وفيه دلالة على جواز النقص وقيل اللام متعلقة بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة والأم ترضع له كما يقال أرضعت فلانة لفلان ولده (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أى الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤنة المرضعة عليه (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) أجرة لهن واختلف فى استئجار الأم وهو غير جائز عندنا ما دامت فى النكاح أو العدة جائز عند الشافعى رحمه‌الله (بِالْمَعْرُوفِ) حسبما يراه الحاكم ويفى به وسعه (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه وذلك لا ينافى إمكانه (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) تفصيل لما قبله وتقرير له أى لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه ولا يضاره بسبب ولده وقرىء لا تضار بالرفع بدلا من لا تكلف وأصله على القراءتين لا تضارر بالكسر على البناء للفاعل وبالفتح على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أى لا يضر الوالدان بالولد فيفرط فى تعهده ويقصر فيما ينبغى له وقرىء لا تضار بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ولا ينبغى أن يضرا به أو يتضارا بسببه (وَعَلَى الْوارِثِ


(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٢٣٤)

____________________________________

مِثْلُ ذلِكَ) عطف على قوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) الخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد به وارث الصبى ممن كان ذا رحم محرم منه وقيل عصباته وقال الشافعى رحمه‌الله هو وارث الأب وهو الصبى أى تمان المرضعة من ماله عند موت الأب ولا نزاع فيه وإنما الكلام فيما إذا لم يكن للصبى مال وقيل الباقى من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام واجعله الوارث منا وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة (فَإِنْ أَرادا) أى الوالدان (فِصالاً) أى فطاما عن الرضاع قبل تمام الحولين والتنكير للإيذان بأنه فصال غير معتاد (عَنْ تَراضٍ) متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى صادرا عن تراض (مِنْهُما) أى من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر بالولد بأن تمل المرأة الإرضاع ويبخل الأب بإعطاء الأجرة (وَتَشاوُرٍ) فى شأن الولد وتفحص عن أحواله وإجماع منهما على استحقاقه للفطام والتشاور من المشورة وهى استخراج الرأى من شرت العسل إذا استخرجته وتنكيرهما للتفخيم (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) فى ذلك لما أن تراضيهما إنما يكون بعد استقرار رأيهما أو اجتهادهما على أن صلاح الولد فى الفطام وقلما يتفقان على الخطأ (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) بيان لحكم عدم اتفاقهما على الفطام والالتفات إلى خطاب الآباء لهزهم إلى الامتثال بما أمروا به (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) بحذف المفعول الأول استغناء عنه أى أن تسترضعوا المراضع لأولادكم يقال أرضعت المرأة الصبى واسترضعتها إياه وقيل إنما يتعدى إلى الثانى بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبى أى أن تسترضعوا المراضع لأولادكم فحذف حرف الجر أيضا كما فى قوله تعالى (وَإِذا كالُوهُمْ) أى كالوا لهم (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أى فى الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضع للولد ويمنع الأم من الإرضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ) أى إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) أى ما أردتم إيتاءه كما فى قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) وقرىء ما أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله وقرىء ما أوتيتم أى من جهة الله عزوجل كما فى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وفيه مزيد بعث لهم إلى التسليم (بِالْمَعْرُوفِ) متعلق بسلمتم أى بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه وليس التسليم بشرط للصحة والجواز بل هو ندب إلى ما هو الأليق والأولى فإن المراضع إذا أعطين ما قدر لهن ناجزا يدا بيد كان ذلك أدخل فى استصلاح شئون الأطفال (وَاتَّقُوا اللهَ) فى شأن مراعاة الأحكام المذكورة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بذلك وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لتربية المهابة وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى (وَالَّذِينَ) على حذف المضاف أى وأزواج الذين (يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أى تقبض أرواحهم بالموت فإن التوفى هو القبض يقال توفيت مالى من فلان واستوفيته منه أى أخذته وقبضته والخطاب لكافة الناس بطريق التلوين (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أو على حذف العائد إلى المبتدأ فى الخبر


(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٣٥)

____________________________________

أى يتربصن بعدهم كما فى قولهم السمن منوان بدرهم أى منوان منه وقرىء يتوفون بفتح الياء أى يستوفون آجالهم وتأنيث العشر باعتبار الليالى لأنها غرر الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون التذكير فى مثله أصلا حتى أنهم يقولون صمت عشرا ومن البين فى ذلك قوله تعالى (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ولعل الحكمة فى هذا التقدير أن الجنين إذا كان ذكرا يتحرك غالبا لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف الحركة فلا يحس بها وعموم اللفظ يقتضى تساوى المسلمة والكتابية والحرة والأمة فى هذا الحكم ولكن القياس اقتضى التنصيف فى الأمة وقوله عزوجل (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) خص الحامل منه وعن على وابن عباس رضى الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين احتياطا (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أى انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الحكام والمسلمون جميعا (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التزين والتعرض للخطاب وسائر ما حرم على المعتدة (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذى لا ينكره الشرع وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع فعليهم أن يكفوهن عن ذلك وإلا فعليهم الجناح (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) خطاب للكل (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) التعريض والتلويح إبهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا كقول السائل جئتك لأسلم عليك وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أى جانب والكناية هى الدلالة على الشىء بذكر لوازمه وروادفه كقولك طويل النجاد للطويل وكثير الرماد للمضياف (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) الخطبة بالكسر كالقعدة والجلسة ما يفعله الخاطب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل هى مأخوذة من الخطب أى الشأن الذى له خطر لما أنها شأن من الشئون ونوع من الخطوب وقيل من الخطاب لأنها نوع مخاطبة تجرى بين جانب الرجل وجانب المرأة والمراد بالنساء المعتدات للوفاة والتعريض لخطبتهن أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافعة ومن غرضى أن أتزوج ونحو ذلك مما يوهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أى أضمرتم فى قلوبكم فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ لهم على قلة التثبت (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن أى فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم من التعريض والتعبير عن النكاح بالسر لأن مسببه الذى هو الوطء مما يسر به وإيثاره على اسمه للإيذان بأنه مما ينبغى أن يسر به ويكتم وحمله على الوطء ربما يوهم الرخصة فى المحظور الذى هو التصريح بالنكاح وقيل انتصاب سرا على الظرفية أى لا تواعدوهن فى السر على أن المراد بذلك


(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦)

____________________________________

المواعدة بما يستهجن وفيه ما فيه (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) استثناء مفرغ مما يدل عليه النهى أى لا تواعدهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعا وهى ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدة بقول معروف أو لا توعدوهن بشىء من الأشياء إلا بأن تقولوا قولا معروفا وقيل هو استثناء منقطع من سرا وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعودا وليس كذلك (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر إذا قصده قصدا جازما وحقيقته القطع بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروى لمن لم يبيت الصيام والنهى عنه للمبالغة فى النهى عن مباشرة عقد النكاح أى لا تعزموا عقد عقدة النكاح (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أى العدة المكتوبة المفروضة آخرها وقيل معناه لا تقطعوا عقدة النكاح أى لا تبرموها ولا تلزموها ولا تقدموا عليها فيكون نهيا عن نفس الفعل لا عن قصده (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من ذوات الصدور التى من جملتها العزم على ما نهيتم عنه (فَاحْذَرُوهُ) بالاجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة وإظهار الاسم الجليل فى موضع الإضمار لإدخال الروعة (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أى لا تبعة من مهر وهو الأظهر وقيل من وزر إذ لا بدعة فى الطلاق قبل المسيس وقيل كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر النهى عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) أى ما لم تجامعوهن وقرىء تماسوهن بضم التاء فى جميع المواقع أى مدة عدم مساسكم إياهن على أن ما مصدرية ظرفية بتقدير المضاف ونقل أبو البقاء أنها شرطية بمعنى أن فيكون من باب اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثانى قيدا للأول كما فى قولك إن تأتنى إن تحسن إلى أكرمك أى إن تأتنى محسنا إلى والمعنى إن طلقتموهن غير ما سين لهن وهذا المعنى أقعد من الأول لما أن ما الظرفية إنما يحسن موقعها فيما إذا كان المظروف أمرا ممتدا منطبقا على ما أضيف إليها من المدة أو الزمان كما فى قوله تعالى (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وقوله تعالى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) ولا يخفى أن التطليق ليس كذلك وتعليق الظرف بنفى الجناح ربما يوهم إمكان المسيس بعد الطلاق فالوجه أن يقدر الحال مكان الزمان والمدة (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أى إلا أن تفرضوا لهن أو حتى تفرضوا لهن عند العقد مهرا على أن فريضة فعيلة بمعنى مفعول والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وانتصابه على المفعولية ويجوز أن يكون مصدرا صيغة وإعرابا والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا فى حال تسمية المهر فإن عليه حينئذ نصف المسمى وفى حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل وأما إذا كان بعد المساس فعليه فى صورة التسمية تمام المسمى وفى صورة عدمها تمام مهر المثل وقيل كلمة أو عاطفة لمدخولها على


(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

____________________________________

ما قبلها من الفعل المجزوم على معنى ما لم يكن منكم مسيس ولا فرض مهر (وَمَتِّعُوهُنَّ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى فطلقوهن ومتعوهن والحكمة فى إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق وهى درع وملحفة وخمار على حسب الحال كما يفصح عنه قوله تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أى ما يليق بحال كل منهما وقرىء بسكون الدال وهى جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلق إيسارا وإقتارا أو حال من فاعل متعوهن بحذف الرابط أى على الموسع منكم الخ أو على جعل الألف واللام عوضا من المضاف إليه عند من يجوزه أى على موسعكم الخ وهذا إذا لم يكن مهر مثلها أقل من ذلك فإن كان أقل فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا ينقص عن خمسة دراهم (مَتاعاً) أى تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) أى بالوجه الذى تستحسنه الشريعة والمروءة (حَقًّا) صفة لمتاعا أو مصدر مؤكد أى حق ذلك حقا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أى الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين اعتبارا للمشارفة وترغيبا وتحريضا (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ) قبل ذلك (فَرِيضَةً) أى وإن طلقتموهن من قبل المسيس حال كونكم مسمين لهن فيما سبق أى عند النكاح مهر اعلى أن الجملة حال من فاعل طلقتموهن ويجوز أن تكون حالا من مفعوله لتحقق الرابط بالنسبة إليهما ونفس الفرض من المبنى للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب فى مقارنته لها وكذا الحال فى اتصاف المطلقة بكونها مفروضا لها فيما سبق (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أى فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح فى أن المنفى فى الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر وقرىء بالنصب أى فأدوا نصف ما فرضتم ولعل تأخير حكم النسمية مع أنها الأصل فى العقد والأكثر فى الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت فى أنصارى تزوج امرأة من بنى حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إظهار أن لا شىء له متعها بقلنسوتك (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى فلهن نصف المفروض معينا فى كل حال إلا حال عفوهن فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه وظاهر الصيغة فى نفسها يحتمل التذكير والتأنيث وإنما الفرق فى الاعتبار والتحقيق فإن الواو فى الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفى الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبنى ولذلك لم يؤثر فيه أن تأثيره فيما عطف على محله من قوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا) بالنصب وقرىء بسكون الواو (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أى يترك الزوج المالك لعقده وحله ما يعود إليه من نصف المهر الذى ساقه إليها كاملا على ما هو المعتاد تكرما فإن ترك حقه عليها عفو بلا شبهة أو سمى ذلك عفوا فى صورة عدم السوق


(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)(٢٣٨)

____________________________________

مشاكلة أو تغليبا لحال السوق على حال عدمه فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة فى المستثنى منه كما أنه فى الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أى فلهن هذا القدر بلا زيادة ولا نقصان فى جميع الأحوال إلا فى حال عفوهن فإنه حييئذ لا يكون لهن القدر المذكور بل ينتفى ذلك أو ينحط أو فى حال عفو الزوج فإنه حينئذ يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول وأما على التفسير الثانى فلا بد من المصير إلى جعل الاستثناء منقطعا لأن فى صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه هذا عندنا وفى القول القديم للشافعى رحمه‌الله أن المراد عفو الولى الذى بيده عقدة نكاح الصغيرة وهو ظاهر المأخذ خلا أن الأول أنسب بقوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) إلى آخره فإن إسقاط حق الصغيرة ليس فى شىء من التقوى وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو وقرىء بالياء (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أى لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشىء المنسى وقرىء بكسر الواو والخطاب فى الفعلين للرجال والنساء جميعا بطريق التغليب (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والإحسان (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أى داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال بشىء منها كما تنبئ عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها فى تضاعيف بيان أحكام الأزواج والأولاد قبل الإتمام للإيذان بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأنهم بل بشأن أنفسهم أيضا كما يفصح عنه الأمر بها فى حالة الخوف ولذلك أمر بها فى خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام الشرعية المتشابكة الآخذ بعضها بحجزة بعض (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أى المتوسطة بينها أو الفضلى منها وهى صلاة العصر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها الصلاة التى شغل عنها سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وفضلها لكثرة اشتغال الناس فى وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار حينئذ وقيل هى صلاة الظهر لأنها فى وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم لما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصليها بالهاجرة فكانت أفضلها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل العبادات أحمزها وقيل هى صلاة الفجر لأنها بين صلاتى الليل والنهار والواقعة فى الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة كصلاة العصر وقيل هى صلاة المغرب لأنها متوسطة من حيث العدد ومن حيث الوقوع بين صلاتى النهار والليل ووتر النهار ولا تنقص فى السفر وقيل هى صلاة العشاء لأنها بين الجهريتين الواقعتين فى طرفى الليل وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر فتكون حينئذ إحدى الأربع قد خصت بالذكر مع العصر لانفرادها بالفضل وقرىء وعلى الصلاة الوسطى وقرىء بالنصب على المدح وقرىء الوسطى (وَقُومُوا لِلَّهِ) أى فى الصلاة (قانِتِينَ) ذاكرين له تعالى فى القيام لأن القنوت هو الذكر فيه وقيل هو إكمال الطاعة وإتمامها بغير إخلال بشىء من أركانها وقيل خاشعين وقال ابن المسيب المراد به القنوت فى الصبح.


(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٤٠)

____________________________________

(فَإِنْ خِفْتُمْ) أى من عدو أو غيره (فَرِجالاً) جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرىء بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيضا وقرىء فرجلا أى راجلا (أَوْ رُكْباناً) جمع راكب أى فصلوا راجلين أو راكبين حسبما يقتضيه الحال ولا تخلوا بها ما أمكن الوقوف فى الجملة وقد جوز الشافعى رحمه‌الله أداءها حال المسايفة أيضا (فَإِذا أَمِنْتُمْ) بزوال الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) أى فصلوا صلاة الأمن عبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها (كَما عَلَّمَكُمْ) متعلق بمحذوف وقع وصفا لمصدر محذوف أى ذكرا كائنا كما علمكم أى كتعليمه إياكم (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من كيفية الصلاة والمراد بالتشبيه أن تكون الصلاة المؤداة موافقة لما علمه الله تعالى وإيرادها بذلك العنوان لتذكير النعمة أو اشكروا الله تعالى شكرا يوازى تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكام التى من جملتها كيفية إقامة الصلاة حالتى الخوف والأمن هذا وفى إيراد الشرطية الأولى بكلمة أن المفيدة لمشكوكية وقوع الخوف وندرته وتصدير الشرطية الثانية بكلمة إذا المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز فى جواب الأولى والإطناب فى جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراه مقتضى المقام الأول فى كل منهما مجرى مقتضى المقام الثانى من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولى الأبصار (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سلف إثر بيان أحكام وسطت بينهما لما أشير إليه من الحكمة الداعية إلى ذلك (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أى يوصون أو ليوصوا أو كتب الله عليهم وصية ويؤيد هذا قراءة من قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرىء بالرفع على تقدير مضاف فى المبتدأ أو الخبر أى حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم أو والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم أو كتب عليهم وصية أو عليهم وصية وقرىء متاع لأزواجهم بدل وصية (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) منصوب بيوصون إن أضمرته وإلا فبالوصية أو بمتاع على القراءة الأخيرة (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل منه أو مصدر مؤكد كما فى قولك هذا القول غير ما تقول أو حال من أزواجهم أى غير مخرجات والمعنى يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى وكان ذلك أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فإنه وإن كان متقدما فى التلاوة متأخر فى النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن وكذلك السكنى عندنا وعند الشافعى هى باقية (فَإِنْ خَرَجْنَ) عن منزل الأزواج باختيارهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب وفيه دلالة على أن المحظور إخراجها عند إرادة القرار وملازمة مسكن الزوج والحداد من غير أن يجب


(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢٤٣)

____________________________________

عليها ذلك وأنها كانت مخيرة بين الملازمة مع أخذ النفقة وبين الخروج مع تركها (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره يعاقب من خالفه (حَكِيمٌ) يراعى فى أحكامه مصالح عباده (وَلِلْمُطَلَّقاتِ) سواء كن مدخولابهن أولا (مَتاعٌ) أى مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهرى للكل وقيل المراد بالمتاع نفقة العدة وقيل اللام للعهد والمراد غير المدخول بهن والتكرير للتأكيد (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا وعادة (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أى مما ينبغى (كَذلِكَ) أى مثل ذلك البيان الواضح (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الدالة على أحكامه التى شرعها لعباده (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكى تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها (أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع فإن سماعهم لها بمنزلة الرؤية النظرية أو العلمية أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب إيذانا بأن قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحق لكل أحد أن يحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها وإن لم يكن ممن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذا الكلام قد جرى مجرى المثل فى مقام التعجيب لما أنه شبه حال غير الرائى لشىء عجيب بحال الرائى له بناء على ادعاء ظهور أمره وجلائه بحيث استوى فى إدراكه الشاهد والغائب ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع الرائى قصدا إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب وتعدية الرؤية بإلى فى قوله تعالى (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) على تقدير كونها بمعنى الإبصار باعتبار معنى النظر وعلى تقدير كونها إدراكا قلبيا لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك إليهم (وَهُمْ أُلُوفٌ) أى ألوف كثيرة قيل عشرة آلاف وقيل ثلاثون وقيل سبعون ألفا والجملة حال من ضمير خرجوا وقوله عزوجل (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له روى أن أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا منها هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من حكم الله عز سلطانه وقضائه وقيل مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فلوى شدقيه وأصابعه تعجبا مما رأى من أمرهم فأوحى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فإذا هم قيام يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وقيل هم قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من الموت فأماتهم الله تعالى ثمانية أيام ثم أحياهم وقوله عزوجل (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) إما عبارة عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة وإما تمثيل لأماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة فى أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر آمر مطاع لمأمور مطيع كما فى قوله تعالى


(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٤٥)

____________________________________

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (ثُمَّ أَحْياهُمْ) عطف إما على مقدر يستدعيه المقام أى فماتوا ثم أحياهم وإنما حذف الدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته وإما على قال لما أنه عبارة عن الإماتة وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض لأسباب الشهادة وأن الموت حيث لم يكن منه بدو لم ينفع منه المفر فأولى أن يكون فى سبيل الله تعالى (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) عظيم (عَلَى النَّاسِ) قاطبة أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أى لا يشكرون فضله كما ينبغى ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار وإظهار الناس فى مقام الإضمار لمزيد التشنيع (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا فى سبيله لما علمتم أن الفرار لا ينجى من الحمام وأن المقدر لا مرد له فإن كان قد حان الأجل فموت فى سبيل الله عزوجل وإلا فنصر عزيز وثواب (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع مقالة السابقين والمتخلفين (عَلِيمٌ) بما يضمرونه فى أنفسهم وهو من وراء الجزاء خيرا وشرا فسارعوا إلى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا خبره والموصول صفة له أو بدل منه وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلبا للثواب الآجل والمراد ههنا إما الجهاد الذى هو عبارة عن بذل النفس والمال فى سبيل الله عزوجل ابتغاء لمرضاته وإما مطلق العمل الصالح المنتظم له انتظاما أوليا (قَرْضاً حَسَناً) أى إقراضا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى فإنه فى معنى أيقرضه وقرىء بالرفع أى يضاعف أجره وجزاءه جعل ذلك مضاعفة له بناء على ما بينهما من المناسبة بالسببية والمسببية ظاهرا وصيغة المفاعلة للمبالغة وقرىء فيضعفه بالرفع وبالنصب (أَضْعافاً) جمع ضعف ونصبه على أنه حال من الضمير المنصوب أو مفعول بأن يضمن المضاعفة معنى التصيير أو مصدر مؤكد على أن الضعف اسم للمصدر والجمع للتنوين (كَثِيرَةً) لا يعلم قدرها إلا الله تعالى وقيل الواحد بسبعمائة (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أى يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كى لا يبدل أحوالكم ولعل تأخير البسط عن القبض فى الذكر للإيماء إلى أنه يعقبه فى الوجود تسلية للفقراء وقرىء يبصط بالصاد لمجاورة الطاء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدمتم من الأعمال خيرا وشرا.


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٢٤٦)

____________________________________

(أَلَمْ تَرَ) تقرير وتعجيب كما سبق قطع عنه للإيذان باستقلاله فى التعجب مع أن له مزيد ارتباط بما وسط بينهما من الأمر بالقتال (إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم سموا بذلك لما أنهم يملئون العيون مهابة والمجالس بهاء أو لأنهم مليئون بما يبتغى منهم ومن تبعيضية ومن فى قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مُوسى) ابتدائية وعاملها مقدر وقع حالا من الملأ أى كائنين بعض بنى إسرائيل من بعد وفاة موسى ولا ضير فى اتحاد الحرفين لفظا عند اختلافهما معنى (إِذْ قالُوا) منصوب بمضمر يستدعيه المقام أى ألم تر إلى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليهما‌السلام وقيل شمعون بن صعبة بن علقمة من ولد لاوى بن يعقوب عليهما‌السلام وقيل أشمويل بن بال بن علقمة وهو بالعبرانية إسمعيل. قال مقاتل هو من نسل هرون عليه‌السلام وقال مجاهد أشمويل بن هلقايا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أى أنهض للقتال معنا أمير انصدر فى تدبير أمر الحرب عن رأيه وقرىء نقاتل بالرفع على أنه حال مقدرة أى ابعثه لنا مقدرين القتال أو استئناف مبنى على السؤال وقرىء يقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر والوصف لملكا (قالَ) استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال لهم النبى حينئذ فقيل قال (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) فصل بين عسى وخبره بالشرط للاعتناء به أى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم والمراد تقرير أن المتوقع كائن وإنما لم يذكر فى معرض الشرط ما التمسوه بأن قيل هل عسيتم أن بعثت لكم ملكا الخ مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم بل ذكر كتابة القتال عليهم للمبالغة فى بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم عن القتال هو المبعوث لا نفس القتال وقرىء عسيتم بكسر السين وهى ضعيفة (قالُوا) استئناف كما سبق (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) أى أى سبب لنا فى أن لا نقاتل (فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أى والحال أنه قد عرض لنا ما يوجب القتال إيجابا قويا من الإخراج عن الديار والأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وذلك أن جالوت رأس العمالقة وملكهم وهو جبار من أولاد عمليق بن عاد كان هو ومن معه من العمالقة يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وظهروا على بنى إسرائيل وأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة


(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٤٧)

____________________________________

وأربعين نفسا وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) بعد سؤال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك وبعث الملك (تَوَلَّوْا) أى أعرضوا وتخلفوا لكن لا فى ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجىء تفصيله وإنما ذكرههنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافى والتباين (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين اكتفوا بالغرفة من النهر وجاوزوه وهم ثلثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم بالتولى عن القتال وترك الجهاد وتنافى أقوالهم وأفعالهم والجملة اعتراض تذييلى (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) شروع فى تفصيل ما جرى بينه عليه‌السلام وبينهم من الأقوال والأفعال إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم أى قال لهم بعد ما أوحى إليه ما أوحى (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) طالوت علم عبرى كداود وجعله فعلوتا من الطول يأباه منع صرفه وملكا حال منه روى أنه عليه‌السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم ملكا أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت (قالُوا) استئناف كما مر (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أى من أين يكون أو كيف يكون ذلك (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) الواو الأولى حالية والثانية عاطفة جامعة للجملتين فى الحكم أى كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بنى إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب عليه‌السلام وسبط المملكة بسبط يهوذا ومنه داود وسليمان عليهما‌السلام ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين قيل كان راعيا وقيل دباغا وقيل سقاء (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره رد عليهم ذلك أولا بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم وثانيا بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة وجسامة البدن ليعظم خطره فى القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر وذلك قوله عزوجل (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) أى العلم المتعلق بالملك أو به وبالديانات أيضا وقيل قد أوحى إليه ونبئ (وَالْجِسْمِ) قيل بطول القامة فإنه كان أطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى أن الرجل القائم كان يمديده فينال رأسه وقيل بالجمال وقيل بالقوة (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) لما أنه مالك الملك والملكوت فعال لما يريد فله أن يؤتيه من يشاء من عباده (وَاللهُ واسِعٌ) يوسع على الفقير ويغنيه (عَلِيمٌ) بمن يليق بالملك ممن لا يليق به وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.


(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٤٨)

____________________________________

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) توسيطه فيما بين قوليه المحكيين عنه عليه‌السلام للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للاحق كأنهم طلبوا منه عليه‌السلام آية تدل على أنه تعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم. روى أنهم قالوا ما آية ملكه فقال (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أى الصندوق وهو فعلوت من التوب الذى هو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت ورهبوت والمشهور أن يوقف على تائه من غير أن تقلب هاء ومنهم من يقلبها إياها والمراد به صندوق التوراة وكان قد رفعه الله عزوجل بعد وفاة موسى عليه‌السلام سخطا على بنى إسرائيل لما عصوا واعتدوا فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت قال لهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت من السماء والملائكة يحفظونه فأتاهم كما وصف والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضى الله عنهما وقال أرباب الأخبار إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتا فيه تماثيل الأنبياء عليهم‌السلام من أولاده وكان من عود الشمشاد نحوا من ثلاثة أذرع فى ذراعين فكان عند آدم عليه‌السلام إلى أن توفى فتوارثه أولاده واحد بعد واحد إلى أن وصل إلى يعقوب عليه‌السلام ثم بقى فى أيدى بنى إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه‌السلام فكان عليه الصلاة والسلام يضع فيه التوراة وكان إذا قاتل قدمه فكانت تسكن إليه نفوس بنى إسرائيل وكان عنده إلى أن توفى ثم تداولته أيدى بنى إسرائيل وكانوا إذا اختلفوا فى شىء تحاكموا إليه فيكلمهم ويحكم بينهم وكانوا إذا حضروا القتال يقدمونه بين أيديهم ويستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ثم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر فلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه فى موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من بال عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلم الكفار أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال لهم النبى إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت فى داره فلما وجدوه عنده أيقنوا بملكه (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أى فى إتيانه سكون لكم وطمأنينة كائنة من ربكم أو فى التابوت ما تسكنون إليه وهو التوراة المودعة فيه بناء على ما مر من أن موسى عليه‌السلام إذا قاتل قدمه فتسكن إليه نفوس بنى إسرائيل وقيل السكينة صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهر وذنبه وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر وعن اعلى رضى الله عنه كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)


(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢٤٩)

____________________________________

هى رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشىء من التوراة وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه‌السلام وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما أو أنبياء بنى إسرائيل (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) حال من التابوت أى إن آية ملكه إتيانه حال كونه محمولا للملائكة وقد مر كيفية ذلك ولعل حمل الملائكة على الرواية الأخيرة عبارة عن سوقهم للثورين الحاملين له (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من شأن التابوت فهو من تمام كلام النبى عليه‌السلام لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء كلام من جهة الله تعالى جىء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية به وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيره كما سلف (لَآيَةً) عظيمة (لَكُمْ) دالة على ملك طالوت أو على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هى عليه من غير سماع من البشر (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أى مصدقين بتمليكه عليكم أو بشىء من الآيات وإن شرطية والجواب محذوف ثقة بما قبله وقيل هى بمعنى إذ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) أى انفصل بهم عن بيت المقدس والأصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر كانفصل وقيل فصل فصولا وقد جوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدى بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وكصد صدودا وصده صدا ورجع رجوعا ورجعه رجعا والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من طالوت أى ملتبسا بهم ومصاحبا لهم روى أنه قال لقومه لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا أن يجرى الله تعالى لهم نهرا فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئته تعالى من جهة النبى عليه‌السلام أو بطريق الوحى عند من يقول بنبوته (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وقرىء بسكونها (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أى ابتدأ شربه من النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة (فَلَيْسَ مِنِّي) أى من جملتى وأشياعى المؤمنين وقيل ليس بمتصل بى ومتحد معى من قولهم فلان منى كأنه بعضه لكمال اختلاطهما (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أى لم يذقه من طعم الشىء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا أو غيرهما قال[وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا] أى نوما (فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من قوله تعالى (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) وإنما أخر عن الجملة الثانية لإبراز كمال العناية بها ومعناه الرخصة فى اغتراف الغرفة باليد دون الكروع والغرفة ما يغرف وقرىء بفتح الغين على أنها مصدر والباء متعلقة باغترف أو بمحذوف وقع صفة لغرفة أى غرفة كائنة بيده يروى أن الغرفة كانت


تكفى الرجل لشربه وأدواته ودوابه وأما الذين شربوا منه فقد اسودت شفاههم وغلبهم العطش (فَشَرِبُوا مِنْهُ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أى فابتلوا به فشربوا منه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم المشار إليهم فيما سلف بالاستثناء من التولى وقرىء إلا قليل منهم ميلا إلى جانب المعنى وضربا عن عدوة اللفظ جانبا فإن قوله تعالى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) فى قوة أن يقال فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما فى قول الفرزدق[وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف] فإن قوله لم يدع فى حكم لم يبق (فَلَمَّا جاوَزَهُ) أى النهر (هُوَ) أى طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل والظرف متعلق بجاوز لا بآمنوا وقيل الواو حالية والظرف متعلق بمحذوف وقع خبرا من الموصول كأنه قيل فلما جاوزه والحال أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليل وفيه إشارة إلى أن من عداهم بمعزل من الإيمان (قالُوا) أى بعض من معه من المؤمنين لبعض (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أى بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن أن يكون لنا غلبة عليهم لما شاهدوا منهم من الكثرة والشدة. قيل كانوا مائة ألف مقاتل شاكى السلاح (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال مخاطبهم فقيل قال (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) قيل أى الخلص منهم الذين يتيقنون لقاء الله تعالى بالبعث ويتوقعون ثوابه وإفرادهم بذلك الوصف لا ينافى إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين فى التيقن والتوقع متفاوتة أو الذين يعلمون أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى وقيل الموصول عبارة عن المؤمنين كافة والضمير فى قالوا للمنخذلين عنهم كأنهم قالوه اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) أى فرقة وجماعة من الناس من فأوت رأسه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجع فوزنها على الأول فعة وعلى الثانى فلة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدة للتكثير وهى فى حيز الرفع بالابتداء خبرها غلبت أى كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة (بِإِذْنِ اللهِ) أى بحكمه وتيسيره فإن دوران كافة الأمور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وإن قل عدده ولا يعز من خذله وإن كثر أسبابه وعدده وقد روعى فى الجواب نكتة بديعة حيث لم يقل أطاقت بفئة كثيرة حسبما وقع فى كلام أصحابهم مبالغة فى رد مقالتهم وتسكين قلوبهم وهذا كما ترى جواب ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل فى ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث لا سيما بالاستشهاد فإن العلم به ربما يورث اليأس من الغلبة ولا لتوقع ثوابه تعالى ولا ريب فى أن ما ذكر فى حيز الصلة ينبغى أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول فلا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فلعل المراد بلقائه تعالى لقاء نصره وتأييده عبر عنه بذلك مبالغة كما عبر عن مقارنة نصره تعالى بمقارنته سبحانه حيث قيل (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فإن المراد به معية نصره وتوفيقه حتما وحملها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميما لجوابهم وتأييدا له بطريق الاعتراض التذييلى تشجيعا لأصحابهم وتثبيتا لهم على الصبر المؤدى إلى الغلبة ولا تعلق له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعا وكذا الحال إذا جعل ذلك ابتداء كلام من جهة الله تعالى جىء به تقريرا لكلامهم والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبى أو من جهة التابوت والسكينة أنهم ملاقو نصر الله العزيزكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن أيضا نغلب جالوت وجنوده وإيراد خبر أن اسما مع أن اللقاء


(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢٥١)

____________________________________

مستقبل للدلالة على تقرره وتحققه (وَلَمَّا بَرَزُوا) أى ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض فى موطن الحرب (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وشاهدوا ما هم عليه من العدد والعدد وأيقنوا أنهم غير مطيقين بهم عادة (قالُوا) أى جميعا عند تقوى قلوب الفريق الأول منهم بقول الفريق الثانى متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الصعبة الضيقة وفى التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال وإيثار الإفراغ المعرب عن الكثرة وتنكير الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة ما لا يخفى (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) فى مداحض القتال ومزال النزال وثبات القدم عبارة عن كمال القوة والرسوخ عند المقارعة وعدم التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرر فى حيز واحد (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بقهرهم وهزمهم ووضع الكافرين فى موضع الضمير العائد إلى جالوت وجنوده للإشعار بعلة النصر عليهم ولقد راعوا فى الدعاء ترتيبا بديعا حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر الذى هو ملاك الأمر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر الذى هو الغاية القصوى (فَهَزَمُوهُمْ) أى كسروهم بلا مكث (بِإِذْنِ اللهِ) بنصره وتأييده إجابة لدعائهم وإيثار هذه الطريقة على طريقة قوله عزوجل (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) الخ للمحافظة على مضمون قولهم غلبت فئة كثيرة بإذن الله (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) كان أيشى أبو داود فى عسكر طالوت معه ستة من بنيه وكان داود عليه‌السلام سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذى يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر فى طريقه بثلاثة أحجار قال له كل منها احملنا فإنك بنا تقتل جالوت فحملها فى مخلاته قيل لما أبطأ على أبيه خبر إخوته فى المصاف أرسل داود إليهم ليأتيه بخبرهم فأتاهم وهم فى القراع وقد برز جالوت بنفسه إلى البراز ولا يكاد يبارزه أحد وكان ظله ميلا فقال داود لأخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف فزجروه فنحا ناحية أخرى ليس فيها إخوته وقد مر به طالوت وهو يحرض الناس على القتال فقال له داود ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف قال طالوت أنكحه بنتى وأعطيه شطر مملكتى فبرز له داود فرماه بما معه من الأحجار بالمقلاع فأصابه فى صدره فنفذ الأحجار منه وقتلت بعده ناسا كثيرا وقيل إنما كلمته الأحجار عند بروزه لجالوت فى المعركة فأنجز له طالوت ما وعده وقيل إنه حسده وأخرجه من مملكته ثم ندم على ما صنعه فذهب يطلبه إلى أن قتل وملك داود عليه‌السلام وأعطى النبوة وذلك قوله تعالى (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أى ملك بنى إسرائيل فى مشارق الأرض المقدسة ومغاربها (وَالْحِكْمَةَ) أى النبوة ولم يجتمع فى بنى إسرائيل الملك والنبوة قبله إلا له بل كان الملك فى سبط والبنوة فى سبط


(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(٢٥٣)

____________________________________

آخر وما اجتمعوا قبله على ملك قط (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) أى مما يشاء الله تعالى تعليمه إياه لا مما يشاء داود عليه‌السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى إياه مما لا يكاد يخطر ببال أحد ولا يقع فى أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته كالسرد بإلانة الحديد ومنطق الطير والدواب ونحو ذلك من الأمور الخفية (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ) الذين يباشرون الشر والفساد (بِبَعْضٍ) آخر منهم بردهم عما هم عليه بما قدر الله تعالى من القتل كما فى القصة المحكية أو غيره وقرىء دفاع الله على أن صيغة المبالغة للمبالغة (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض ويصلحها وقيل لو لا أن الله ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بعيثهم وقتلهم المسلمين أو لو لم يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض قاطبة (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ) عظيم لا يقادر قدره (عَلَى الْعالَمِينَ) كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائى مؤلف من وضع نقيض المقدم منتج لنقيض التالى خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعنى كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى متفضل فى ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وتنتظم به مصالح العالم وتنصلح أحوال الأمم (تِلْكَ) إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وخبر طالوت على التفصيل المرقوم وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه (آياتُ اللهِ) المنزلة من عنده تعالى والجملة مستأنفة وقوله تعالى (نَتْلُوها عَلَيْكَ) أى بواسطة جبريل عليه‌السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة وإما جملة مستقلة لا محل لها من الإعراب (بِالْحَقِّ) فى حيز النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أى ملتبسة باليقين الذى لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما فى كتهم أو من فاعله أى نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب أو من الضمير المجرور أى ملتبسا بالحق والصدق (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أى من جملة الذين أرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالاتنا وإجراء أوامرنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملة لا تجرى بيننا وبين غيرهم فهى شهادة منه سبحانه برسالته عليه الصلاة والسلام إثر بيان ما يستوجبها والتأكيد من مقتضيات مقام الجاحدين بها (تِلْكَ الرُّسُلُ) استئناف فيه رمز إلى أنه عليه الصلاة والسلام من


أفاضل الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام إثر بيان كونه من جملتهم والإشارة إلى الجماعة الذين من جملتهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاللام فى المآل للاستغراق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم وقيل إلى الذين ذكرت قصصهم فى السورة وقيل إلى الذين ثبت علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فى مراتب الكمال بأن خصصناه حسبما تقتضيه مشيئتنا بمآثر جليلة خلا عنها غيره (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا أى فضله بأن كلمه تعالى بغير سفير وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث كلمه تعالى ليلة الخيرة وفى الطور وقرىء كلم الله بالنصب وقرىء كالم الله من المكالمة فإنه كلم الله تعالى كما أنه تعالى كلمه ويؤيده كليم الله بمعنى مكالمه وإيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة والرمز إلى ما بين التكليم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أى ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين فى معارج الفضل بدرجات قاصية ومراتب نائبة وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال فى درجات الشرف والظاهر أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه الإخبار بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك فى قوة بعضهم فإنه قد خص بالدعوة العامة والحجج الجمة والمعجزات المستمرة والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهور والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغنى عن التعيين وقيل إنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث خصه تعالى بكرامة الخلة وقيل إدريس عليه‌السلام حيث رفعه مكانا عليا وقيل أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل (وَأَيَّدْناهُ) أى قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بضم الدال وقرىء بسكونها أى بالروح المقدسة كقولك رجل صدق وهى روح عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه‌السلام لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل وقيل بالإنجيل كما مر وإفراده عليه‌السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين فى شأنه عليه‌السلام من التفريط والإفراط والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم‌السلام متفاوتة الأقدار فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أى جاءوا من بعد الرسل من الأمم المختلفة أى لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة وقيل تقديره ولو شاء هدى الناس جميعا ما اقتتل الخ وليس بذاك (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من جهة أولئك الرسل (الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة لاتباعهم الزاجرة عن الإعراض عن سننهم المؤدى إلى الاقتتال فمن متعلقة باقتتل (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استدراك من الشرطية أشير به إلى قياس استثنائى مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشىء من قبلهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بما جاءت به أولئك الرسل من البينات وعملوا به (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٢٥٥)

____________________________________

عدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب اقتضاء أحوالهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة (مَا اقْتَتَلُوا) وما نبض منهم عرق التطاول والتعادى لما أن الكل تحت ملكوته تعالى فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجب لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه فى الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مخارفى ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عزوجل (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أى من الأمور الوجودية والعدمية التى من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضا من جملة الأفعال أى يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليل بين على أن الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيرا كان أو شرا إيمانا كان أو كفرا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) فى سبيل الله (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أى شيئا مما رزقناكموه على أن ما موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما فى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) والمراد به الإنفاق الواجب بدلالة ما بعده من الوعيد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) كلمة من متعلقة مما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية أى أنفقوا بعض ما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا تقدرون على تلافى ما فرطتم فيه إذ لا تبايع فيه حتى تتبايعوا ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يسامحكم به أخلاؤكم أو يعينوكم عليه ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولا حتى تتوسلوا بشفعاء يشفعون لكم فى حط ما فى ذمتكم وإنما رفعت الثلاثة مع قصد التعميم لأنها فى التقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة وقرىء بفتح الكل (وَالْكافِرُونَ) أى والتاركون للزكاة وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد كما فى قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار قال تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ (هُمُ الظَّالِمُونَ) أى الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المال فى غير موضعه وصرفوه إلى غير وجهه (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر أى هو المستحق للمعبودية لا غير وفى إضمار خبر لا مثل فى الوجود أو يصح أن يوجد خلاف للنحاة معروف (الْحَيُّ) الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء وهو إما خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من لا إله إلا هو أو بدل من الله أو صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت (الْقَيُّومُ) فعول من قام بالأمر إذا حفظه أى دائم القيام بتدبير الخلق وحفظه وقيل


هو القائم بذاته المقيم لغيره (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة ما يتقدم النوم من الفتور قال عدى بن الرقاع العاملى[وسنان أقصده النعاس فرنقت فى عينه سنة وليس بنائم] والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف المشاعر الظاهرة عن الإحساس رأسا والمراد بيان انتفاء اعتراء شىء منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من مقام التنزيه فلا سبيل إلى حمل النظم الكريم على طريقة المبالغة والترقى بناء على أن القادر على دفع السنة قد لا يقدر على دفع النوم القوى كما فى قولك فلان يقظ لا تغلبه سنة ولا نوم وإنما تأخير النوم للمحافظة على ترتيب الوجود الخارجى وتوسيط كلمة لا للتنصيص على شمول النفى لكل منهما كما فى قوله عزوجل (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) الآية وأما التعبير عن عدم الاعتراء والعروض بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع إذ عروض السنة والنوم لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذ والاستيلاء وقيل هو من باب التكميل والجملة تأكيد لما قبلها من كونه تعالى حيا قيوما فإن من يعتريه أحدهما يكون موقوف الحياة قاصرا فى الحفظ والتدبير وقيل استئناف مؤكد لما سبق وقيل حال مؤكدة من الضمير المستكن فى القيوم (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لقيوميته تعالى واحتجاج به على تفرده فى الألوهية والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) بيان لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده شفاعة وضراعة فضلا عن أن يدافعه عنادا أو مناصبة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أى ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضى أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يحسونه وما يعقلونه أو ما يدركونه وما لا يدركونه والضمير لما فى السموات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذى من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أى من معلوماته (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلموه وعطفه على ما قبله لما أنهما جميعا دليل على تفرده تعالى بالعلم الذاتى التام الدال على وحدانيته (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الكرسى ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد وكأنه منسوب إلى الكرس الذى هو الملبد وليس ثمة كرسى ولا قاعد ولا قعود وإنما هو تمثيل لعظمة شأنه عزوجل وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة على طريقة قوله عز قائلا (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وقيل كرسيه مجاز عن علمه أخذا من كرسى العالم وقيل عن ملكه أخذا من كرسى الملك فإن الكرسى كلما كان أعظم تكون عظمة القاعد أكثر وأوفر فعبر عن شمول علمه أو عن بسطة ملكه وسلطانه بسعة كرسيه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية وقيل هو جسم بين يدى العرش محيط بالسموات السبع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما السموات السبع والأرضون السبع مع الكرسى إلا كحلقة فى فلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ولعله الفلك الثامن وعن الحسن البصرى أنه العرش (وَلا يَؤُدُهُ) أى لا يثقله ولا يشق عليه (حِفْظُهُما) أى حفظ السموات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظتهما مستتبع لحفظه (وَهُوَ الْعَلِيُّ) المتعالى بذاته عن الأشباه والأنداد (الْعَظِيمُ)


(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٥٦)

____________________________________

الذى يستحقر بالنسبة إليه كل ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآية الكريمة على أمهات المسائل الإلهية المتعلقة بالذات العلية والصفات الجلية فإنها ناطقة بأنه تعالى موجود متفرد بالإلهية متصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجد لغيره لما أن القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعترى النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد لا يشفع عنده إلا من أذن له فيه العالم وحده بجميع الأشياء جليها وخفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن متعال عما تناله الأوهام عظيم لا تحدق به الأفهام تفردت بفضائل رائقة وخواص فائقة خلت عنها أخواتها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أعظم آية فى القرآن آية الكرسى من قرأها بعث الله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة وقال عليه الصلاة والسلام ما قرئت هذه الآية فى دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة يا على علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله تعالى على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله وقال عليه الصلاة والسلام سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الأيام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن سورة البقرة وسيد البقرة آية الكرسى وتخصيص سيادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعرب بالذكر فى أثناء تعداد السيادات الخاصة لا يدل على نفى ما دلت عليه الأخبار المستفيضة وانعقد عليه الإجماع من سيادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجميع أفراد البشر. (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) جملة مستأنفة جاء بها إثر بيان تفرده سبحانه وتعالى بالشئون الجليلة الموجبة للإيمان به وحده إيذانا بأن من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم وقيل هو خبر فى معنى النهى أى لا تكرهوا فى الدين فقيل منسوخ بقوله تعالى (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقيل خاص بأهل الكتاب حيث حصنوا أنفسهم بأداء الجزية وروى أنه كان لأنصارى من بنى سالم بن عوف ابنان قد تنصرا قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فخلاهما (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) استئناف تعليلى صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه كما فى قوله عزوجل (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أى إذ قد تبين بما ذكر من نعوته تعالى التى يمتنع توهم اشتراك غيره فى شىء منهما الإيمان الذى هو الرشد الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذى هو الغى المؤدى إلى الشقاوة السرمدية (فَمَنْ يَكْفُرْ


(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)

____________________________________

بِالطَّاغُوتِ) هو بناء مبالغة من الطغيان كالملكوت والجبروت قلب مكان عينه ولامه فقيل هو فى الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسى وقيل اسم جنس مفرد مذكر وإنما الجمع والتأنيث لإرادة الآلهة وهو رأى سيبويه وقيل هو جمع وهو مذهب المبرد وقيل يستوى فيه المفرد والجمع والتذكير والتأنيث أى فمن يعمل أثر ما تميز الحق من الباطل بموجب الحجج الواضحة والآيات البينة ويكفر بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ما عبد من دون الله تعالى أو صد عن عبادته تعالى لما تبين له كونه بمعزل من استحقاق العبادة (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) وحده لما شاهد من نعونه الجليلة المقتضية لاختصاص الألوهية به عزوجل الموجبة للإيمان والتوحيد وتقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخلية متقدمة على التحلية (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أى بالغ فى التمسك بها كأنه وهو ملتبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه (لَا انْفِصامَ لَها) الفصم الكسر بغير إبانة كما أن القصم هو الكسر بإبانة ونفى الأول يدل على انتفاء الثانى بالأولوية والجملة إما استئناف مقرر لما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة والعامل استمسك أو من الضمير المستتر فى الوثقى ولها فى حيز الخبر أى كائن لها والكلام تمثيل مبنى على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذى لا يحتمل النقيض أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة فى المفردات ويجوز أن تكون العروة الوثقى مستعارة للاعتقاد الحق الذى هو الإيمان والتوحيد لا للنطر الصحيح المؤدى إليه كما قيل فإنه غير مذكور فى حيز الشرط والاستمساك بها مستعارا لما ذكر من الملازمة أو ترشيحا للاستعارة الأولى (وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالعزائم والعقائد والجملة اعتراض تذييلى حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد والوعيد (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى معينهم أو متولى أمورهم والمراد بهم الذين ثبت فى علمه تعالى إيمانهم فى الجملة مآلا أو حالا (يُخْرِجُهُمْ) تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير فى ولى (مِنَ الظُّلُماتِ) التى هى أعم من ظلمات الكفر والمعاصى وظلمات الشبه بل مما فى بعض مراتب العلوم الاستدلالية من نوع ضعف وخفاء بالقياس إلى مراتبها القوية الجلية بل مما فى جميع مراتها بالنظر إلى مرتبة العيان كما ستعرفه (إِلَى النُّورِ) الذى يعم نور الإيمان ونور الإيقان بمراتبة ونور العيان أى يخرج بهدايته وتوفيقه كل واحد منهم من الظلمة التى وقع فيها إلى ما يقابلها من النور وإفراد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أى الذين ثبت فى علمه تعالى كفرهم (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أى الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق فالموصول مبتدأ وأولياؤهم مبتدأ ثان والطاغوت خبره والجملة خبر للأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطاغوت فى


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢٥٨)

____________________________________

مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا (يُخْرِجُونَهُمْ) بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء (مِنَ النُّورِ) الفطرى الذى جبل عليه الناس كافة أو من نور البينات التى يشاهدونها من جهة النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها (إِلَى الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والانهماك فى الغى وقيل نزلت فى قوم ارتدوا عن الإسلام والجملة تفسير لولاية الطاغوت أو خبر ثان كما مر وإسناد الإخراج من حيث السببية إلى الطاغوت لا يقدح فى استناده من حيث الخلق إلى قدرته سبحانه (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما يتبعه من القبائح (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملابسوها وملازموها بسبب ما لهم من الجرائم (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ما كثون أبدا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وتقرير له على طريقة قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها وإنما بدىء بهذا لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة فى الله عزوجل وما أتى بها فى أثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعددا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير فى تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه‌السلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاض حجة الكافر من آثار ولايته تعالى وهمزة الاستفهام لإنكار النفى وتقرير المنفى أى ألم تنظر أو ألم ينته علمك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أى قد تحققت الرؤية وتقررت بناء على أن أمره من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظ من الخطاب فظهر أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام تشريف له وإيذان بتأييده فى المحاجة (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أى لأن آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحمله على المحاجة أو حاجه لأجله وضعا للمحاجة التى هى أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر كما يقال عاديتنى لأن أحسنت إليك أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك للكافر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف لحاج أو بدل من آتاه على الوجه الأخير (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بفتح ياء ربى وقرىء بحذفها* روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال من ربك الذى تدعو إليه قال ربى الذى يحيى ويميت أى يخلق الحياة والموت فى الأجساد (قالَ) استتناف مبنى على السؤال كأنه قيل كيف حاجه فى هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) روى أنه دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر فقال ذلك (قالَ إِبْراهِيمُ) استئناف كما سلف كأنه قيل


(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٥٩)

____________________________________

فماذا قال إبراهيم لمن فى هذه المرتبة من الحماقة وبماذا أفحمه فقيل قال (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) حسبما تقتضيه مشيئته (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) إن كنت قادرا على مثل مقدوراته تعالى لم يلتفت عليه‌السلام إلى إبطال مقالة اللعين إيذانا بأن بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد وأن التصدى لإبطالها من قبيل السعى فى تحصيل الحاصل وأتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالا للتمويه والتلبيس (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أى صار مبهوتا وقرىء على بناء الفاعل على أن الموصول مفعوله أى فغلب إبراهيم الكافر وأسكته وإيراد الكفر فى حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفرا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله أى لا يهدى الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلال أو إلى سبيل النجاة أو إلى طريق الجنة يوم القيامة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) استشهاد على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير له معطوف على الموصول السابق وإيثار أو الفارقة على الواو الجامعة للاحتراز عن توهم اتحاد المستشهد عليه من أول الأمر والكاف إما اسمية كما اختاره قوم جىء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما فى قولك الفعل الماضى مثل نصر وإما زائدة كما ارتضاه آخرون والمعنى أو لم تر إلى مثل الذى أو إلى الذى مر على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود أى قد رأيت ذلك وشاهدته فإذن لا ريب فى أن الله ولى الذين آمنوا الخ. هذا وأما جعل الهمزة لمجرد التعجيب على أن يكون المعنى فى الأول ألم تنظر إلى الذى حاج الخ أى انظر إليه وتعجب من أمره وفى الثانى أو أرأيت مثل الذى مر الخ إيذانا بأن حاله وما جرى عليه فى الغرابة بحيث لا يرى له مثل كما استقر عليه رأى الجمهور فغير خليق بحزالة التنزيل وفخامة شأنه الجليل فتدبر والمار هو عزير بن شرخيا قاله قتادة والربيع وعكرمة وناجية بن كعب وسليمان بن يزيد والضحاك والسدى رضى الله عنهم وقيل هو أرميا بن حلقيا من سبط هرون عليه‌السلام قاله وهب وعبيد الله بن عمير وقيل أرميا هو الخضر بعينه. قال مجاهد كان المار رجلا كافرا بالبعث وهو بعيد والقرية بيت المقدس قاله وهب وعكرمة والربيع وقيل هى دير هرقل على شط دجلة وقال الكلبى هى دير سابر آباد وقال السدى هى ديار سلماباد والأول هو الأظهر والأشهر روى أن بنى إسرائيل لما بالغوا فى تعاطى الشر والفساد وجاوزوا فى العتو والطغيان كل حد معتاد سلط الله تعالى عليهم بختنصر البابلى فسار إليهم فى ستمائة ألف راية حتى وطئ الشام وخرب بيت المقدس وجعل بنى إسرائيل أثلاثا ثلث منهم قتلهم وثلث منهم أقرهم بالشام وثلث منهم سباهم وكانوا مائة ألف


غلام يافع وغير يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غلمة وكان عزير من جملتهم فلما نجاه الله تعالى منهم بعد حين مر بحماره على بيت المقدس فرآه على أفظع مرأى وأوحش منظر وذلك قوله عزوجل (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أى ساقطة على سقوفها بأن سقطت العروش ثم الحيطان من خوى البيت إذا سقط أو من خوت الأرض أى تهدمت والجملة حال من ضمير مر أو من قرية عند من يجوز الحال من النكرة مطلقا (قالَ) أى تلهفا عليها وتشوقا إلى عمارتها مع استشعار اليأس عنها (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) وهى على ما يرى من الحالة العجيبة المباينة للحياة وتقديمها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن الاستبعاد ناشىء من جهتها لا من جهة الفاعل وأنى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل يحيى وأيا ما كان فالمراد استبعاد عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيدى سبأ ومن غيرهم وإنما عبر عنها بالإحياء الذى هو علم فى البعد عن الوقوع عادة تهويلا للخطاب وتأكيدا للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل (بَعْدَ مَوْتِها) وحيث كان هذا التعبير معربا عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجه وآكده أراه الله عزوجل آثر ذى أثير أبعد الأمرين فى نفسه ثم فى غيره ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة فى إزاحة ما عسى يختلج فى خلده وأما حمل إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرض لحال القرية دون حالهم والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا وعظاما مع كونه أدخل فى الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستحيط به خبرا (فَأَماتَهُ اللهُ) وألبثه على الموت (مِائَةَ عامٍ) روى أنه لما دخل القرية ربط حماره فطاف بها ولم يربها أحدا فقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت فتناول من التين والعنب وشرب من عصيره ونام فأماته الله تعالى فى منامه وهو شاب وأمات حماره وبقية تينه وعنبه وعصيره عنده ثم أعمى الله تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد فلما مضى من موته سبعون سنة وجه الله عز وعلا ملكا عظيما من ملوك فارس يقال له يوشك إلى بيت المقدس ليعمره ومعه ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلثمائة ألف عامل فجعلوا يعمرونه وأهلك الله تعالى بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقى من بنى إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس وتراجع إليه من تفرق منهم فى الأكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه فلما تمت المائة من موت عزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثَهُ) وإيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على البارىء تعالى كأنه بعثه من النوم وللإيذان بأنه أعاده كهيئته يوم موته عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال (قالَ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال له بعد بعثه فقيل قال (كَمْ لَبِثْتَ) ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشئونه تعالى وأن إحياءه ليس بعد مدة يسيرة ربما يتوهم أنه هين فى الجملة بل بعد مدة طويلة وينحسم به مادة استبعاده بالمرة ويطلع فى تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهرا طويلا من غير تغير ما وكم نصب على الظرفية مميزها محذوف أى كم وقتا لبثت والقائل هو الله تعالى أو ملك مأمور بذلك من قبله تعالى قيل نودى من السماء يا عزير كم لبثت بعد الموت (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ


بَعْضَ يَوْمٍ) قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه وأما ما يقال من أنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما فالتفت إليها فرأى منها بقية فقال أو بعض يوم على وجه الإضراب فبمعزل من التحقيق إذ لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله (قالَ) استئناف كما سلف (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) عطف على مقدر أى ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار (فَانْظُرْ) لتعاين أمرا آخر من دلائل قدرتنا (إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أى لم يتغير فى هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد. روى أنه وجد تينه وعنبه كما جنى وعصيره كما عصر والجملة المنفية حال بغير واو كقوله تعالى (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) إما من الطعام والشراب وإفراد الضمير لجريانهما مجرى الواحد كالغذاء وإما من الأخير اكتفاء بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة من قرأ وهذا شرابك لم يتسن والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة لما أن لامها هاء أو واو وقيل أصله لم يتسنن من الحمأ المسنون فقلبت نونه حرف علة كما فى تقضى البازى وقد جوز أن يكون معنى لم يتسنه لم يمر عليه السنون التى مرت لا حقيقة بل تشببها أى هو على حاله كأنه لم يلبث مائة عام وقرىء لم يسنه بإدغام التاء فى السين (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه وتفرقت وتقطعت أوصاله وتمزقت ليتبين لك ما ذكر من اللبث المديد وتطمئن به نفسك وقوله عزوجل (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) عطف على مقدر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق أى فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل ولنجعلك آية للناس الموجودين فى هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا منك ما طوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة كما سيأتى أو متعلق بفعل مقدر بعده أى ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك فرق بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره وتكرير الأمر فى قوله تعالى (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) مع أن المراد عظام الحمار أيضا لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللبث المديد وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها أى وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء فى غيرك بعد ما شاهدت نفسه فى نفسك (كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاى المعجمة أى نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فتركبها تركيبا لائقا بها وقال الكسائى نليها ونعظمها ولعل من فسره بنحييها أراد بالإحياء هذا المعنى وكذا من قرأ ننشرها بالراء من أنشر الله تعالى الموتى أى أحياها لا معناه الحقيقى لقوله تعالى (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أى نسترها به كما يستر الجسد باللباس وأما من قرأ ننشرها بفتح النون وضم الشين فلعله أراد به ضد الطى كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسطها والجملة إما حال من العظام أى وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أى وانظر إلى العظام كيفية إنشازها وبسط اللحم عليها ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح لما أنها مما لا تقتضى الحكمة بيانه. روى أنه نودى أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعى فاجتمع كل جزء من أجزائها التى ذهب بها الطير والسباع وطارت بها الرياح من كل سهل وجبل فانضم بعضها إلى بعض والتصق كل عضو بما يليق به الضلع بالضلع والذراع بمحلها والرأس بموضعها ثم الأعصاب والعروق ثم انبسط عليه اللحم


(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٦٠)

____________________________________

ثم الجلد ثم خرجت منه الشعور ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أى ما دل عليه الأمر بالنظر إليه من كيفية الإحياء بمباديه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كما فى قوله عزوجل (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) بعد قوله (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) كأنه قيل فأنشزها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين له ذلك أى اتضح اتضاحا تاما (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من جملتها ما شاهده فى نفسه وفى غيره من تعاجيب الآثار (قَدِيرٌ) لا يستعصى عليه أمر من الأمور وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير ولم يتبدل بل إنما تبدل بالعيان وصفه وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادى واستعظاما للأمر وقد قيل فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم أى فلما تبين له أن الله على كل شىء قدير قال أعلم أن الله على كل شىء قدير فتدبر وقرىء تبين له على صيغة المجهول وقرىء قال اعلم على صيغة الأمر. روى أنه ركب حماره وأتى محلته وأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر المنازل فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير قالت نعم وأين ذكرى عزير قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديدا قال فإنى عزير قالت سبحان الله أنى يكون ذلك قال قد أماتنى الله مائة عام ثم بعثنى قالت إن عزير أكان رجلا مستجاب الدعوة فادع الله لى يرد على بصرى حتى أراك فدعا ربه ومسح بيده عينيها فصحتا فأخذ بيدها فقال لها قومى بإذن الله فقامت صحيحة كأنها نشطت من عقال فنظرت إليه فقالت أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بنى إسرائيل وهم فى أنديتهم وكان فى المجلس ابن لعزيز قد بلغ مائة وثمانى عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت انظروا فإنى بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فهض الناس فأقبلوا إليه فقال ابنه كان لأبى شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بخت نصر ببيت المقدس من قراء التوراة أربعين ألف رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا أحد يعرف التوراة فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصر حدثنى أبى عن جدى أنه دفن التوراة يوم سبينا فى خابية فى كرم فإن أريتمونى كرم جدى أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوا فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير من ظهر القلب فما اختلفا فى حرف واحد فعند ذلك قالوا هو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) دليل آخر على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجه لهم من الظلمات إلى النور وإنما لم يسلك به مسلك


الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذى قال رب الخ لجريان ذكره عليه‌السلام فى أثناء المحاجة ولأنه لا دخل لنفسه عليه‌السلام فى أصل الدليل كدأب عزير عليه‌السلام فإن ما جرى عليه من إحيائه بعد مائة عام من جملة الشواهد على قدرته تعالى وهدايته والظرف منتصب بمضمر صرح بمثله فى نحو قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) أى واذكر وقت قوله عليه‌السلام وما وقع حينئذ من تعاجيب صنع الله تعالى لتقف على ما مر من ولايته تعالى وهدايته وتوجيه الأمر بالذكر فى أمثال هذه المواقع إلى الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير لما ذكر غير مرة من المبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل عليها مفصلة فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها بحيث لا يشذ عنها شىء مما ذكر عند الحكاية أو لم يذكر كأنها مشاهدة عيانا (رَبِّ) كلمة استعطاف قدمت بين يدى الدعاء مبالغة فى استدعاء الإجابة (أَرِنِي) من الرؤية البصرية المتعدية إلى واحد وبدخول همزة النقل طلبت مفعولا آخر هو الجملة الاستفهامية المعلقة لها فإنها تعلق كما يعلق النظر البصرى أى اجعلنى مبصرا (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) بأن تحييها وأنا أنظر إليها وكيف فى محل نصب على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش والعامل فيها تحيى أى فى أى حال أو على أى حال تحيى قال القرطبى الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حال شىء متقرر الوجود عند السائل والمسئول فالاستفهام ههنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أى بصرنى كيفية إحيائك للموتى وإنما سأله عليه‌السلام ليتأيد إيقانه بالعيان ويزداد قلبه اطمئنانا على اطمئنان وأما ما قيل من أن نمرود لما قال أنا أحيى وأميت قال إبراهيم عليه‌السلام إن إحياء الله تعالى برد الأرواح إلى الأجساد فقال نمرود هل عاينته فلم يقدر على أن يقول نعم فانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ذلك فيأباه تعليل السؤال بالاطمئنان (قالَ) استئناف كما مر غير مرة (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) عطف على مقدر أى ألم تعلم ولم تؤمن بأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته قاله عز وعلا وهو أعلم بأنه عليه‌السلام أثبت الناس إيمانا وأقواهم يقينا ليجيب بما أجاب به فيكون ذلك لطفا للسامعين (قالَ بَلى) علمت وآمنت بأنك قادر على الإحياء على أى كيفية شئت (وَلكِنْ) سألت ما سألت (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بمضامة العيان إلى الإيمان والإيقان وأزداد بصيرة بمشاهدته على كيفية معينة (قالَ فَخُذْ) الفاء لجواب شرط محذوف أى إن أردت ذلك فخذ (أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قيل هو اسم لجمع طائر كركب وسفر وقيل جمع له كتاجر وتجر وقيل هو مصدر سمى به الجنس وقيل هو تخفيف طير بمعنى طائر كهين فى هين ومن متعلقة بخذ أو بمحذوف وقع صفة لأربعة أى أربعة كائنة من الطير قيل هى طاوس وديك وغراب وحمامة وقيل نسر بدل الأخير وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتى ما يفعل به من التجزئة والتفريق وغير ذلك (فَصُرْهُنَّ) من صاره يصوره أى أماله وقرىء بكسر الصاد من صاره يصيره أى أملهن واضممهن وقرىء فصرهن بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وقرىء فصرهن من التصرية بمعنى الجمع أى اجمعهن (إِلَيْكَ) لتتأملها وتعرف شياتها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا. روى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق


(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٦٢)

____________________________________

أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها ويمسك رءوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أى جزئهن وفرق أجزاءهن على ما بحضرتك من الجبال قيل كانت أربعة أجبل وقيل سبعة فجعل على كل جبل ربعا أو سبعا من كل طائر وقرىء جزؤا بضمتين وجزا بالتشديد بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ) فى حيز الجزم على أنه جواب الأمر ولكنه بنى لا تصاله بنون جمع مؤنث (سَعْياً) أى ساعيات مسرعات أو ذوات سعى طيرانا أو مشيا وإنما اقتصر على حكاية أوامره عزوجل من غير تعرض لامتثاله عليه‌السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثار قدرته تعالى كما روى أنه عليه‌السلام نادى فقال تعالين بإذن الله فجعل كل جزء منهن يطير إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رءوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة للإيذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا وناهيك بالقصة دليلا على فضل الخليل ويمن الضراعة فى الدعاء وحسن الأدب فى السؤال حيث أراه الله تعالى ما سأله فى الحال على أيسر ما يكون من الوجوه وأرى عزيرا ما أراه بعد ما اماته مائة عام (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه شىء عما يريده (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة فى أفاعيله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخر خارق للعادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أى فى وجوه الخيرات من الواجب والنفل (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) لابد من تقرير مضاف فى أحد الجانبين أى مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) أى أخرجت ساقا تشعب منها سبع شعب لكل واحدة منها سنبلة (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) كما يشاهد ذلك فى الذرة والدخن فى الأراضى المغلة بل أكثر من ذلك وإسناد الإنبات إلى الحبة مجازى كإسناده إلى الأرض والربيع وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها حاضرة بين يدى الناظر (وَاللهُ يُضاعِفُ) تلك المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى (لِمَنْ يَشاءُ) أن يضاعف له بفضله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال فى مقادير الثواب (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة (عَلِيمٌ) بنية المنفق ومقدار إنفاقه وكيفية تحصيل ما أنفقه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) جملة مبتدأة جىء بها لبيان كيفية الإنفاق الذى بين فضله بالتمثيل المذكور (ثُمَ


(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢٦٤)

____________________________________

لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) أى ما أنفقوه أو إنفاقهم (مَنًّا وَلا أَذىً) المن أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب بذلك عليه حقا والأذى أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا للدلالة على شمول النفى لا تباع كل واحد منهما وثم لإظهار علو رتبة المعطوف قيل نزلت فى عثمان رضى الله عنه حين جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وعبد الرحمن ابن عوف رضى الله عنه حين أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة ولم يكد يخطر ببالهما شىء من المن والأذى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أى حسبما وعدلهم فى ضمن التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول وفى تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وأما إيهام أنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقام الترغيب فى الفعل والحث عليه (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فى الدارين من لحوق مكروه من المكاره (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات مطلوب من المطالب قل أو جل أى لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن اصلا بل يستمرون على النشاط والسرور كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال الله وهيبته واستقصارا للجد والسعى فى إقامة حقوق العبودية من خواص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما أن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أى كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره يرد به السائل من غير إعطاء شىء (وَمَغْفِرَةٌ) أى ستر لما وقع من السائل من الإلحاف فى المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه وإنما صح الابتداء بالنكرة فى الأول لاختصاصها بالوصف وفى الثانى بالعطف أو بالصفة المقدرة أى ومغفرة كائنة من المسئول (خَيْرٌ) أى للسائل (مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) لكونها مثوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأولين من الضرر والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المن والأذى وتفسير المغفرة بنيل مغفرة من الله تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناء على اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسئول يؤدى إلى أن يكون فى الصدقة الموصوفة بالنسبة إليه خير فى الجملة مع بطلانها بالمرة (وَاللهُ غَنِيٌّ) لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤنة المن والأذى ويرزقهم من جهة أخرى (حَلِيمٌ) لا يعاجل أصحاب المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما والجملة تذييل لما قبلها مشتمل على الوعد والوعيد مقرر لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)


(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٦٥)

____________________________________

أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة مبالغة فى إيجاب العمل بموجب النهى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أى لا تحبطوا أجرها بواحد منهما (كَالَّذِي) فى محل النصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أى لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذى (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) وإما على أنه حال من فاعل لا تبطلوا أى لا تبطلوها مشابهين الذى ينفق أى الذى يبطل إنفاقه بالرياء وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأى سيبويه وانتصاب رئاء إما على أنه علة لينفق أى لأجل رئائهم أو على أنه حال من فاعله أى ينفق ماله مرائيا والمراد به المنافق لقوله تعالى (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) حتى يرجوا ثوابا أو يخشى عقابا (فَمَثَلُهُ) الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أى فمثل المرائى فى الإنفاق وحالته العجيبة (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) أى حجر أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ) أى شىء يسير منه (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أى مطر عظيم القطر (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أملس ليس عليه شىء من الغبار أصلا (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا قطعا كقوله تعالى (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) والجملة استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل لا يقدرون الخ ومن ضرورة كون مثلهم كما ذكر كون مثل من يشههم وهم أصحاب المن والأذى كذلك والضميران الأخيران للموصول باعتبار المعنى كما فى قوله عزوجل (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) لما أن المراد به الجنس أو الجمع أو الفريق كما أن الضمائر الأربعة السابقة له باعتبار اللفظ (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الخير والرشاد والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من خصائص الكفار ولابد للمؤمنين أن يجتنبوها (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أى لطلب رضاه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى ولتثبيت بعض أنفسهم على الإيمان فمن تبعيضية كما فى قولهم هز من عطفه وحرك من نشاطه فإن المال شقيق الروح فمن بذل ما له لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها أو وتصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم فمن ابتدائية كما فى قوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة من قرأ وتبيينا من أنفسهم وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذى هو رأس كل خطيئة (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الربوة بالحركات الثلاث وقد قرئت بها المكان المرتفع أى مثل نفقتهم فى الزكاء كمثل بستان كائن بمكان مرتفع مأمون من أن يصطلمه البرد للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له فإن أشجار الربا تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا وأما الأراضى المنخفضة فقلما تسلم ثمارها من البرد لكثافة هوائها بركود الرياح وقرىء كمثل حبة (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها وقرىء بسكون الكاف تخفيفا (ضِعْفَيْنِ) أى مثلى ما كانت تثمر فى سائر الأوقات بسبب ما أصابها من


(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢٦٦)

____________________________________

الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل أربعة أمثال ونصبه على الحال من أكلها أى مضاعفا (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) أى فطل يكفيها لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها وقيل فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر وقيل فالذى يصيبها طل والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما يقارنها من الأحوال ويجوز أن يعتبر التمثيل بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر الكثير واليسير فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة فى زلفاهم وحسن حالهم عند الله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شىء منه وهو ترغيب فى الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الود حب الشىء مع تمنيه ولذلك يستعمل استعمالهما والهمزة لإنكار الوقوع كما فى قوله أأضرب أبى لا لإنكار الواقع كما فى قولك أتضرب أباك على أن مناط الإنكار ليس جميع ما تعلق به الود بل إنما هو إصابة الإعصار وما يتبعها من الاحتراق (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) وقرىء جنات (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أى كائنة منهما على أن يكون الأصل والركن فيها هذين الجنسين الشريفين الجامعين لفنون المنافع والباقى من المستتبعات لا على أن لا يكون فيها غيرهما كما ستعرفه والجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة قال زهير[كأن عينى فى غربى مفتلة من النواضح تسفى جنة سحقا] وعلى الأرض المشتملة عليها والأول هو الأنسب بقوله عزوجل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)؟؟؟ وعلى الثانى لابد من تقدير مضاف أى من تحت أشجارها وكذا لابد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما يأتى مجازيا والجملة فى محل الرفع على أنها صفة جنة كما أن قوله تعالى (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) كذلك أو فى محل النصب على أنها حال منها لأنّها موصوفة (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الظرف الأول خبر والثانى حال والثالث مبتدأ أى صفة للمبتدأ قائمة مقامه أى له رزق من كل الثمرات كما فى قوله تعالى (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أى وما منا أحد إلا له الخ وليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو التكثير كما فى قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أى كبر السن الذى هو مظنة شدة الحاجة إلى منافعها ومئنة كمال العجز عن تدارك أسباب المعاش والواو حالية أى وقد أصابه الكبر (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) حال من الضمير فى أصابه أى أصابه الكبر والحال أن له ذرية صغارا لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادى المعاش وقرىء ضعاف (فَأَصابَها إِعْصارٌ) أى ريح عاصفة تستدير فى الأرض ثم تنعكس منها ساطعة إلى السماء على هيئة العمود (فِيهِ نارٌ) شديدة (فَاحْتَرَقَتْ) عطف على فأصابها وهذا كما ترى تمثيل لحال من يعمل أعمال البر والحسنات ويضم إليها ما يحبطها من القوادح ثم يجدها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباء منثورا فى التحسر


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦٨)

____________________________________

والتأسف عليها (كَذلِكَ) توحيد الكاف مع كون المخاطب جمعا قد مر وجهه مرارا أى مثل ذلك البيان الواضح الجارى فى الظهور مجرى الأمور المحسوسة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) كى تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العبر وتعملوا بموجبها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) بيان لحال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيه أى أنفقوا من حلال ما كسبتم وجياده لقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أى من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادن فحذف لدلالة ما قبله عليه (وَلا تَيَمَّمُوا) بفتح التاء أصله ولا تتيمموا وقرىء بضمها وقرىء ولا تأمموا والكل بمعنى القصد أى لا تقصدوا (الْخَبِيثَ) أى الردىء الخسيس وهو كالطيب من الصفات الغالبة التى لا تذكر موصوفاتها (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الجار متعلق بتنفقون والضمير للخبيث والتقديم للتخصيص والجملة حال من فاعل تيمموا أى لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه أو من الخبيث أى مختصا به الإنفاق وأياما كان فالتخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من إنفاق الخبيث خاصة لا لتسويغ إنفاقه مع الطيب عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه وقيل متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث والضمير للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولين على طريقة قوله [كأنه فى الجلد توليع البهق] أو للثانى وتخصيصه بذلك لما أن التفاوت فيه أكثر وتنفقون حال من الفاعل المذكور أى ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال أو مما كسبتم وما أخرجنا لكم أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) حال على كل حال من واو تنفقون أى والحال أنكم لا تأخذونه فى معاملاتكم فى وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أى إلا وقت إغماضكم فيه أو إلا بإغماضكم فيه وهو عبارة عن المسامحة بطريق الكناية أو الاستعارة يقال أغمض بصره إذا غضه وقرىء على البناء للمفعول على معنى إلا أن تحملوا على الإغماض وتدخلوا فيه أو توجدوا مغمضين وقرىء تغمضوا وتغمضوا بضم الميم وكسرها وقيل تم الكلام عند قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع منه تنفقون والحال أنكم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم فيه ومآله الاستفهام الإنكارى فكأنه قيل أمنه تنفقون الخ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ) عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لمنفعتكم وفى الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى فإن إعطاء مثله إنما يكون عادة عند اعتقاد المعطى أن الآخذ محتاج إلى ما يعطيه بل مضطر إليه (حَمِيدٌ) مستحق للحمد على نعمه العظام وقيل حامد بقبول الجيد والإثابة عليه (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر مترتبا


(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢٦٩)

____________________________________

على شىء من زمان أو غيره يستعمل فى الشر استعماله فى الخير قال تعالى (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى يعدكم فى الإنفاق الفقر ويقول إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغته فى الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله فى تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة بحسب إرادته أو لوقوعه فى مقابلة وعده تعالى على طريقة المشاكلة وقرىء بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أى بالخصلة الفحشاء أى ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور على فعل المأمور به والعرب تسمى البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد[أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدد] وقيل بالمعاصى والسيئات (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) أى فى الإنفاق (مَغْفِرَةً) لذنوبكم والجار فى قوله تعالى (مِنْهُ) متعلق بمحذوف هو صفة لمغفرة مؤكدة لفخامتها التى أفادها تنكيرها أى مغفرة أى مغفرة مغفرة كائنة منه عزوجل (وَفَضْلاً) صفته محذوفة لدلالة المذكور عليها كما فى قوله تعالى (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) ونظائره أى وفضلا كائنا منه تعالى أى خلفا مما أنفقتم زائدا عليه فى الدنيا وفيه تكذيب للشيطان وقيل ثوابا فى الآخرة (وَاللهُ واسِعٌ) قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه (عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم فيعلم إنفاقكم فلا يكاد يضيع أجركم أو يعلم ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخلف فى الوعد والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال مجاهد الحكمة هى القرآن والعلم والفقه روى عن ابن نجيح أنها الإصابة فى القول والعمل وعن إبراهيم النخعى أنها معرفة معانى الأشياء وفهمها وقيل هى معرفة حقائق الأشياء وقيل هى الإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة وعن مقاتل أنها تفسر فى القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسب بالمقام ما ينتطم الأحكام المييتة فى تضاعيف الآيات الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعلم والعمل بها أى يبينها ويوفق للعلم والعمل بها (مَنْ يَشاءُ) من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه فى ضمن الآى من الحكم البالغة التى يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها والموصول مفعول أول ليؤتى قدم عليه الثانى للعناية به والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) على بناء المفعول وقرىء على البناء للفاعل أى ومن يؤته الله الحكمة والإظهار فى مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها وللإشعار بعلة الحكم (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أى أى خير كثير فإنه قد خير له خير الدارين (وَما يَذَّكَّرُ) أى وما يتعظ بما أوتى من الحكمة أو وما يتفكر فيها (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أى العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى مشايعة الهوى وفيه من الترغيب فى المحافظة على الأحكام الواردة فى شأن الإنفاق ما لا يخفى والجملة إما حال أو اعتراض تذييلى


(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١)

____________________________________

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) بيان لحكم كلى شامل لجميع أفراد النفقات وما فى حكمها إثر بيان حكم ما كان منها فى سبيل الله وما إما شرطية أو موصولة حذف عائدها من الصلة أى وما أنفقتموه من نفقة أى أى نفقه كانت فى حق أو باطل فى سر أو علانية قليلة أو كثيرة (أَوْ نَذَرْتُمْ) النذر عقد الضمير على شىء والتزامه وفعله كضرب ونصر (مِنْ نَذْرٍ) أى نذر كان فى طاعة أو معصية بشرط أو بغير شرط متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام والصلاة ونحوهما (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) الفاء على الأول داخلة على الجواب وعلى الثانى مزيدة فى الخبر وتوحيد الضمير مع تعدد متعلق العلم لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو كما فى قولك زيد أو عمرو أكرمته ولا يقال أكرمتهما ولهذا صير إلى التأويل فى قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) بل يعاد الضمير تارة إلى المقدم رعاية للأولية كما فى قوله عز وعلا (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) وأخرى إلى المؤخر رعاية للقرب كما فى هذه الآية الكريمة وفى قوله تعالى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) وحمل النظم على تأويلهما بالمذكور ونظائره أو على حذف الأول ثقة بدلالة الثانى عليه كما فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله[نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف] ونحوهما مما عطف فيه بالواو الجامعة تعسف مستغنى عنه نعم يجوز إرجاع الضمير إلى ما على تقدير كونها موصولة وتصدير الجملة بأن لتأكيد مضمونها إفادة لتحقيق الجزاء أى فإنه تعالى يجازيكم عليه البتة إن خيرا فخير وإن شرا فشر فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد (وَما لِلظَّالِمِينَ) بالإنفاق والنذر فى المعاصى أو بمنع الصدقات وعدم الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيث أو بالرياء والمن والأذى وغير ذلك مما ينتظمه معنى الظلم الذى هو عبارة عن وضع الشىء فى غير موضعه الذى يحق أن يوضع فيه (مِنْ أَنْصارٍ) أى أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابه لا شفاعة ولا مدافعة وإيراد صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أى وما لظالم من الظالمين من نصير من الأنصار والجملة استئناف مقرر لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حال من يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعوان ورعاية الخلان (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) نوع تفصيل لبعض ما أجمل فى الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما أى إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها بعد أن لم يكن رياء وسمعة وقرىء بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرىء بكسر النون وسكون العين وقرىء بكسر النون وإخفاء حركة العين وهذا فى الصدقات المفروضة وأما فى صدقة التطوع فالإخفاء أفضل وهى التى أريدت بقوله تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها) أى تعطوها خفية (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه واجب فى الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغنى ربما يدعى الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا


(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٢٧٢)

____________________________________

يفعل ذلك عند الناس (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أى فالإخفاء خير لكم من الإبداء وهذا فى التطوع ومن لم يعرف بالمال وأما فى الواجب فالأمر بالعكس لدفع التهمة. عن ابن عباس رضى الله عنهما صدقة السر فى التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أى والله يكفر أو الإخفاء ومن تبعيضية أى شيئا من سيئاتكم كما سترتموها وقيل مزيدة على رأى الأخفش وقرىء بالتاء مرفوعا ومجزوما على أن الفعل للصدقات وقرىء بالنون مرفوعا عطفا على محل ما بعد الفاء أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أى ونحن نكفر أو على أنها جملة مبتدأة من فعل وفاعل وقرىء مجزوما عطفا على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الإسرار والإعلان (خَبِيرٌ) فهو ترغيب فى الإسرار (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أى لا يجب عليك أن تجعلهم مهد بين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجب عليك الإرشاد إلى الخير والحث عليه والنهى عن الشر والردع عنه بما أوحى إليك من الآيات والذكر الحكيم (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما (مَنْ يَشاءُ) هدايته إلى ذلك ممن يتذكر بما ذكر ويتبع الحق ويختار الخير والجملة معترضة جىء بها على تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغة فى حملهم على الامتثال فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية وقيل لما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كى تحملهم الحاجة على الدخول فى الإسلام فنزلت أى ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم فى الإسلام فلا التفات حينئذ فى الكلام وضمير الغيبة للمعهودين من فقراء المشركين بل فيه تلوين فقط وقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) على الأول التفات من الغيبة إلى خطاب المكلفين لزيادة هزهم نحو الامتثال وعلى الثانى تلوين للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له أى أى شىء تنفقوا كائن من مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) أى فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث أو فنفعه الدينى لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدين من فقراء المشركين (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) استثناء من أعم العلل أو أعم الأحوال أى ليست نفقتكم لشىء من الأشياء إلا لابتغاء وجه الله أو ليست فى حال من الأحوال إلا حال ابتغاء وجه الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذى لا يوجد مثله إلى الله تعالى وقيل هو نفى فى معنى النهى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أى أجره وثوابه أضعافا مضاعفة حسبما فصل فيما قبل فلا عذر لكم فى أن ترغبوا عن إنفاقه


(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤)

____________________________________

على أحسن الوجوه وأجملها فهو تأكيد وبيان للشرطية السابقة أو يوف إليكم ما يخلفه وهو من نتائج دعائه عليه‌السلام بقوله اللهم اجعل للمنفق خلفا وللممسك تلفا وقيل حجت أسماء بنت أبى بكر فأتتها أمها تسألها وهى مشركة فأبت أن تعطيها وعن سعيد بن جبير أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين وروى أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار فى اليهود ورضاع كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم فنزلت وهذا فى غير الواجب وأما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكافر وإن كان ذميا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون شيئا مما وعدتم من الثواب المضاعف أو من الخلف (لِلْفُقَراءِ) متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام كما فى قوله عزوجل (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ) أى اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بالغزو والجهاد (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم به (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أى ذهابا فيها للكسب والتجارة وقيل هم أهل الصفة كانوا رضى الله عنهم نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون فى كل سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أى من أجل تعففهم عن المسألة (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أى تعرف فقرهم واضطرارهم بما تعاين منهم من الضعف ورثاثة الحال والخطاب للرسول عليه‌السلام أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب مبالغة فى بيان وضوح فقرهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أى إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفنى من فضل لحافه أى أعطانى من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئا وإن سألوا لحاجة اضطرتهم إليه لم يلحوا وقيل هو نفى لكلا الأمرين جميعا على طريقة قوله [على لا حب لا يهتدى لمناره] أى لا منار ولا اهتداء (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو ترغيب فى التصدق لا سيما على هؤلاء (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أى يعمون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة وقيل نزلت فى شأن الصديق رضى الله عنه حيث تصدق بأربعين ألف دينار عشرة آلاف منه بالليل وعشرة بالنهار وعشرة سرا وعشرة علانية وقيل فى على رضى الله عنه حين لم يكن عنده إلا أربعة دراهم فتصدق بكل واحد منها على وجه من الوجوه المذكورة ولعل تقديم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار وقيل فى رباط الخيل والإنفاق عليها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر للموصول والفاء للدلالة على سبية ما قبلها لما بعدها وقيل للعطف والخبر محذوف أى ومنهم الذين الخ ولذلك جوز


(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧٥)

____________________________________

الوقف على علانية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم تفسيره (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أى يأخذونه والتعبير عنه بالأكل لما أنه معظم ما قصد به ولشيوعه فى المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيع لهم وهو الزيادة فى المقدار أو فى الأجل حسبما فصل فى كتب الفقه وإنما كتب بالواو كالصلوة على لغة من يفخم فى أمثالها وزيدت الألف تشبيها بواو الجمع (لا يَقُومُونَ) أى من قبورهم إذا بعثوا (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أى إلا قياما كقيام المصروع وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب بغير استواء خبط العشواء (مِنَ الْمَسِّ) أى الجنون وهذا أيضا من زعماتهم أن الجنى يمسه فيختلط عقله فلذلك يقال جن الرجل وهو متعلق بما قبله من الفعل المنفى أى لا يقومون من المس الذى بهم بسبب أكلهم الربا أو بيقوم أو بيتخبطه فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لا لاختلال عقولهم بل لأن الله تعالى أربى فى بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بفظاعة المشار إليه (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أى ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع فى سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه كاستحلاله وقالوا يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين بل جعلوا الربا أصلا فى الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين فى الأول ضائع حتما وفى الثانى منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار من جهة الله تعالى لتسويتهم وإبطال للقياس لوقوعه فى مقابلة النص مع ما أشير إليه من عدم الاشتراك فى المناط والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) أى فمن بلغه وعظ وزجر كالنهى عن الربا وقرىء جاءته (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجىء الموعظة للتربية (فَانْتَهى) عطف على جاءه أى فاتعظ بلا تراخ وتبع الهى (فَلَهُ ما سَلَفَ) أى ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترده منه وما مرتفع بالظرف إن جعلت من موصولة وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأى سيبويه لعدم اعتماد الظرف على ما قبله (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية وقيل يحكم فى شأنه ولا اعتراض لكم عليه (وَمَنْ عادَ) أى إلى تحليل الربا (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من عاد والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد فى عاد باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم فى الشر والفساد (أَصْحابُ النَّارِ) أى ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ما كثون فيها أبدا والجملة مقررة لما قبلها.


(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(٢٧٩)

____________________________________

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أى يذهب ببركته ويهلك المال الذى يدخل فيه (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذى أخرجت منه الصدقة. روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربى أحدكم مهره وعنه عليه الصلاة والسلام ما نقصت زكاة من مال قط (وَاللهُ لا يُحِبُّ) أى لا يرضى لأن الحب مختص بالتوابين (كُلَّ كَفَّارٍ) مصر على تحليل المحرمات (أَثِيمٍ) منهمك فى ارتكابه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وبما جاءهم به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما فى الصالحات لا نافتهما على سائر الأعمال الصالحة على طريقة ذكر جبريل وميكال عقيب الملائكة عليهم‌السلام (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) جملة من مبتدأ وخبر واقعة خبرا لأن أى لهم أجرهم الموعود لهم وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من أجرهم وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضميرهم مزيد لطف وتشريف لهم (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من مكروه آت (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من محبوب فات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أى قوا أنفسكم عقابه (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أى واتركوا بقايا ما شرطتم منه على الناس تركا كليا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) على الحقيقة فإن ذلك مستلزم لامتثال ما أمرتم به البتة وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله أى إن كنتم مؤمنين فاتقوا وذروه الخ. روى أنه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أى ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف بها (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أى فاعلموا بها من أذن بالشىء إذا علم به أما على الأول فكحرب المرتدين وأما على الثانى فكحرب البغاة. وقرىء فآذنوا أى فاعلموا غيركم قيل هو من الأذان وهو الاستماع فإنه من طرق العلم وقرىء فأيقنوا وهو مؤيد لقراءة العامة وتنكير حرب للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لفخامتها أى بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره كائن من عند الله ورسوله روى أنه لما نزلت قالت ثقيف لابد لنا بحرب الله ورسوله (وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء مع الإيمان بحرمتها بعد ما سمعتموه من الوعيد (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) تأخذونها كملا (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو حال من الضمير فى لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار (وَلا تُظْلَمُونَ) عطف على ما قبله أى لا تظلمون أنتم من قبلهم بالمطل


(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

____________________________________

والنقص ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم مرتدون ومالهم المكسوب فى حال الردة فىء للمسلمين عند أبى حنيفة رضى الله عنه وكذا سائر أموالهم عند الشافعى وعندنا هو لورثتهم ولا شىء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف بها فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم تسلم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضى الله عنهما فإنه يقول من عامل الربا يستتاب وإلا ضرب عنقه وأما عند غيره فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم لا يمكنون من التصرفات أصلا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شىء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) أى إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة على أن كان تامة وقرىء ذا عسرة على أنها ناقصة (فَنَظِرَةٌ) أى فالحكم نظرة أو فعليكم نظرة أو فلتكن نظرة وهى الإنظار والإمهال وقرىء فناظره أى فالمستحق ناظره أى منتظره أو فصاحب نظرته على طريق النسب وقرىء فناظره أمرا من المفاعلة أى فسامحه بالنظرة (إِلى مَيْسَرَةٍ) أى إلى يسار وقرىء بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشارقة وقرىء بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كما فى قوله [وأخلفوك عد الأمر الذى وعدوا](وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بحذف إحدى التاءين وقرىء بتشديد الصاد أى وأن تتصدقوا على معسرى غرمائكم بالإبراء (خَيْرٌ لَكُمْ) أى أكثر ثوابا من الإنظار أو خير مما تأخذونه لمضاعفة ثوابه ودوامه فهو ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم كلا أو بعضا على غرمائهم المعسرين كقوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وقيل المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه‌السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جوابه محذوف أى إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه

(وَاتَّقُوا يَوْماً) هو يوم القيامة وتنكيره للتفخيم والتهويل وتعليق الاتقاء به للمبالغة فى التحذير عما فيه من الشدائد والأهوال (تُرْجَعُونَ فِيهِ) على البناء للمفعول من الرجع وقرىء على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل فى التهويل وقرىء بالياء على طريق الالتفات وقرىء تردون وكذا تصيرون (إِلَى اللهِ) لمحاسبة أعمالكم (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس والتعميم للمبالغة فى تهويل اليوم أى تعطى كملا (ما كَسَبَتْ) أى جزاء ما عملت من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حال من كل نفس تفيد أن المعاقبين وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين فى ذلك لما أنه من قبل أنفسهم وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما أن الإفراد أوفق بحال الكسب عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه‌السلام وقال ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا وثمانين وقيل سبعة أيام وقيل ثلاث ساعات.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢)

____________________________________

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) شروع فى بيان حال المداينة الواقعة فى تضاعيف المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالنقود بعد بيان حال الربا أى إذا داين بعضكم بعضا وعامله نسيئة معطيا أو آخذا وفائدة ذكر الدين دفع توهم كون التداين بمعنى المجازاة أو التنبيه على تنوعه إلى الحال والمؤجل وأنه الباعث على الكتبة وتعين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر (إِلى أَجَلٍ) متعلق بتداينتم أو بمحذوف وقع صفة لدين (مُسَمًّى) بالأيام أو الأشهر ونظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بالحصاد والدياس ونحوهما مما لا يرفعها (فَاكْتُبُوهُ) أى الدين بأجله لأنه أوثق وأرفع للنزاع والجمهور على استحبابه وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح فى السلف (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين لمن يتولاها إثر الأمر بها إجمالا وحذف المفعول إما لتعينه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل أى ليفعل الكتابة وقوله تعالى (بَيْنَكُمْ) للإيذان بأن الكاتب ينبغى أن يتوسط بين المتداينين ويكتب كلامهما ولا يكتفى بكلام أحدهما وقوله تعالى (بِالْعَدْلِ) متعلق بمحذوف هو صفة لكاتب أى كاتب كائن بالعدل أى وليكن المتصدى للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقص وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجىء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع ويجوز أن يكون حالا منه أى ملتبسا بالعدل وقيل متعلق بالفعل أى وليكتب بالحق (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أى ولا يمتنع أحد من الكتاب (أَنْ يَكْتُبَ) كتاب الدين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) على طريقة ما علمه من كتبه الوثائق أو كما بينه بقوله تعالى (بِالْعَدْلِ) أو (لا يَأْبَ) أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله تعالى بتعليم الكتابة كقوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ (فَلْيَكْتُبْ) تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهى عن إبائها تأكيدا لها ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر على أن يكون النهى عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي


عَلَيْهِ الْحَقُّ) الإملال هو الإملاء أى وليكن المملى من عليه الحق لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة فى التحذير أى وليتق المملى دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) أى من الحق الذى يمليه على الكاتب (شَيْئاً) فإنه الذى يتوقع منه البخس خاصة وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهى عن كليهما وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل وإنما شدد فى تكليف المملى حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهى عن البخس لما فيه من الدواعى إلى المنهى عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عن نفسه وتخفيف ما فى ذمته بما أمكن (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) صرح بذلك فى موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان لا لأن الأمر والنهى لغيره (سَفِيهاً) ناقص العقل مبذرا مجازفا (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أى غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس أوعى أو جهل أو غير ذلك من العوارض (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أى الذى بلى أمره ويقوم مقامه من قيم أو وكيل أو مترجم (بِالْعَدْلِ) أى من غير نقص ولا زيادة لم يكلف بعين ما كلف به من عليه الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) أى اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكم من المداينة وتسميتهما شهيدين لتنزيل المشارف منزلة الكائن (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق باستشهدوا ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع صفه لشهيدين ومن تبعيضية أى شهيدين كائنين من رجال المسلمين الأحرار إذ الكلام فى معاملاتهم فإن خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين فى موضعه وأما إذا كانت المداينة بين الكفرة أو كان من عليه الحق كافرا فيجوز استشهاد الكافر عندنا (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أى الشهيدان جميعا على طريقة نفى الشمول لا شمول النفى (رَجُلَيْنِ) إما لإعوازهما أو لسبب آخر من الأسباب (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أى فلبشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون وهذا فيما عدا الحدود والقصاص عندنا وفى الأموال خاصة عند الشافعى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أى كائنون مرضيين عندكم وتخصيصهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره فى كل شهيد لقلة اتصاف النساء به وقيل نعت لشهيدين أى كائنين ممن ترضون ورد بأنه يلزم الفصل بينهما بالأجنبى وقيل بدل من رجالكم بتكرير العامل ورد بما ذكر من الفصل وقيل متعلق بقوله تعالى (فَاسْتَشْهِدُوا) فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين وبين تعليله وقوله عزوجل (مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول أى ممن ترضونهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعد التهم وثقتكم بهم وإدراج النساء فى الشهداء بطريق التغليب (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) تعليل لاعتبار العدد فى النساء والعلة فى الحقيقة هى التذكير ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته كما فى قولك أعددت السلاح أن يجئ عدو فأدفعه كأنه قيل أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ولعل إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة فى الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى وقرىء فتذكر من الأذكار وقرىء فتذاكر وقرىء أن تضل على الشرط فتذكر بالرفع كقوله تعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء


(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨٣)

____________________________________

الشهادة أو لتحملها وتسميتهم شهداء قبل التحمل لما مر من تنزيل المشارف منزلة الواقع وما مزيدة عن قتادة أنه كان الرجل يطوف فى الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد فنزلت (وَلا تَسْئَمُوا) أى لا تملوا من كثرة مدايناتكم (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أى الدين أو الحق أو الكتاب وقيل كنى به عن الكسل الذى هو صفة المنافق كما ورد فى قوله تعالى (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقول المؤمن كسلت (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) حال من الضمير أى حال كونه صغيرا أو كبيرا أى قليلا أو كثيرا أو مجملا أو مفصلا (إِلى أَجَلِهِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الهاء فى تكتبوه أى مستقرا فى الذمة إلى وقت حلوله الذى أقربه المديون (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما أمر به من الكتب والخطاب للمؤمنين (أَقْسَطُ) أى أعدل (عِنْدَ اللهِ) أى فى حكمه تعالى (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أى أثبت لها وأعون على إقامتها وهما مبنيان من أقسط وأقام فإنه قياسى عند سيبويه أو من قاسط بمعنى ذى قسط وقويم وإنما صحت الواو فى أقوم كما صحت فى التعجب لجموده (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وأقرب إلى انتفاء ريبكم فى جنس الدين وقدره وأجله وشهوده ونحو ذلك (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) استثناء منقطع من الأمر بالكتابة أى لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيهما يدا بيد (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أى فلا بأس بأن لا تكتبوها لبعده عن التنازع والنسيان وقرىء برفع تجارة على أنها اسم كان وحاضرة صفتها وتديرونها خبرها أو على أنها تامة (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أى هذا التبايع أو مطلقا لأنه أحوط والأوامر الواردة فى الآية الكريمة للندب عند الجمهور وقيل للوجوب ثم اختلف فى إحكامها ونسخها (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) نهى عن المضارة محتمل للبناءين كما ينبئ عنه قراءة من قرأ ولا يضارر بالكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغيير والتحريف فى الكتبة والشهادة أو نهى الطالب عن الضرار بهما بأن يعجلهما عن مهمهما أو يكلفهما الخروج عما حد لهما أو لا يعطى الكاتب جعله وقرىء بالرفع على أنه نفى فى معنى النهى (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرار (فَإِنَّهُ) أى فعلكم ذلك (فُسُوقٌ بِكُمْ) أى خروج عن الطاعة ملتبس بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مخالفة أوامره وتواهيه التى من جملتها نهيه عن المضارة (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يكاد يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك كرر لفظ الجلالة فى الجمل الثلاث لإدخال الروعة وتربية المهابة وللتنبيه على استقلال كل منها بمعنى على حياله فإن الأولى حث على التقوى والثانية وعد بالإنعام والثالثة تعظيم لشأنه تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أى مسافرين أو متوجهين إليه (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) فى المداينة وقرىء كتابا وكتبا وكتابا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أى فالذى يستوثق به أو


(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٨٤)

____________________________________

فعليكم أو فليؤخذ أو فالمشروع رهان مقبوضة وليس هذا التعليق لاشتراط السفر فى شرعية الارتهان كما حسبه مجاهد والضحاك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهن درعه فى المدينة من يهودى بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة فى السفر الذى هو مظنة إعوازها وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه فى حكم الكاتب توثقا وإعوازا والجمهور على وجوب القبض فى تمام الرهن غير مالك وقرىء فرهن كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون وقرىء بسكون الهاء تخفيفا (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أى بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان وقرىء فإن أو من بعضكم أى آمنه الناس ووصفوه بالأمانة قيل فيكون انتصاب بعضا حينئذ على نزع الخافض أى على متاع بعض (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام ولحمله على الأداء (أَمانَتَهُ) أى دينه وإنما سمى أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به وقرىء أيتمن بقلب الهمزة ياء وقرىء بإدغام الياء فى التاء وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها فى حكمها (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) فى رعاية حقوق الأمانة وفى الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أيها الشهود أو المديونون أى شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) آثم خبر إن وقلبه مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل يأثم قلبه أو مرتفع بالابتداء وآثم خبر مقدم والجملة خبر إن وإسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان مما اقترفه ونظيره نسبة الزنا إلى العين والأذن أو للمبالغة لأنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال كأنه قيل تمكن الإثم فى نفسه وملك أشرف مكان فيه وفاق سائر ذنوبه. عن ابن عباس رضى الله عنهما إن أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وشهادة الزور وكتمان الشهادة وقرىء قلبه بالنصب كما فى سفه نفسه وقرىء أثم قلبه أى جعله آثما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الأمور الداخلة فى حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنة فيهما من أولى العلم وغيرهم أى كلها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا لا شركة لغيره فى شىء منها بوجه من الوجوه (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من السوء والعزم عليه بأن تظهروه للناس بالقول أو بالفعل (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تكتموه منهم ولا تظهروه بأحد الوجهين ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس وأحاديث النفس التى لا عقد ولا عزيمة فيها إذ التكليف بحسب الوسع (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يوم القيامة وهو حجة على منكرى الحساب من المعتزلة والروافض وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما فى قوله عزوجل (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) فلما أن المعلق بما فى أنفسهم ههنا هو المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية


(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)

____________________________________

كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته متعال عن أن يكون بطريق حصول الصور بل وجود كل شىء فى نفسه فى أى طور كان علم بالنسبة إليه تعالى وفى هذا لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء إذ ما من شىء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر فى النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقد مر فى تفسير قوله تعالى (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (فَيَغْفِرُ) بالرفع على الاستئناف أى فهو يغفر بفضله (لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له (وَيُعَذِّبُ) بعدله (لِمَنْ يَشاءُ) أن يعذبه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه وقرىء بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط وقرىء بالجزم من غير فاء على أنهما بدل من الجواب بدل البعض أو الاشتمال ونظيره الجزم على البدلية من الشرط فى قوله[متى تأتنا تلمم بنا فى ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا] وإدغام الراء فى اللام لحن (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته سبحانه على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب (آمَنَ الرَّسُولُ) لما ذكر فى فاتحة السورة الكريمة أن ما أنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكتاب العظيم الشأن هدى للمتصفين بما فصل هناك من الصفات الفاضلة التى من جملتها الإيمان به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهية وأنهم حائزون لإثرتى الهدى والفلاح من غير تعيين لهم بخصوصهم ولا تصريح بتحقق اتصافهم بها إذ ليس فيما يذكر فى حيز الصلة حكم بالفعل وعقب ذلك ببيان حال من كفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شرح فى تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظ والحكم وأخبار سوالف الأمم وغير ذلك ما تقتضى الحكمة شرحه عين فى خاتمتها المتصفون بها وحكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عزوجل بكمال الإيمان وحسن الطاعة وذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التى من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غنى عن التصريح به لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب كتاب مجيد وشرع جديد تمهيد لما يعقبه من قوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) ومزيد توضيح لاندراجه فى الرسل المؤمن بهم عليهم‌السلام والمراد بما أنزل إليه ما يعم كله وكل جزء من أجزائه ففيه تحقيق لكيفية إيمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعيين لعنوانه أى آمن عليه‌السلام بكل ما أنزل إليه (مِنْ رَبِّهِ) إيمانا تفصيليا متعلقا بجميع ما فيه من الشرائع والأحكام والقصص والمواعظ وأحوال الرسل والكتب وغير ذلك من حيث إنه منزل منه تعالى وأما الإيمان بحقية أحكامه وصدق أخباره ونحو ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة وفى هذا الإجمال إجلال لمحلهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشعار بأن تعلق إيمانه بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى


عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلا وكذا فى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام تشريف له وتنبيه على أن إنزاله إليه تربية وتكميل له عليه‌السلام (وَالْمُؤْمِنُونَ) أى الفريق المعروفون بهذا الاسم فاللام عهدية لا موصولة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ وقوله عزوجل (كُلٌّ) مبتدأ ثان وقوله تعالى (آمَنَ) خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والرابط بينهما الضمير الذى ناب منابه التنوين وتوحيد الضمير فى آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر ذلك فى قوله تعالى (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) وتغيير سبك النظم الكريم عما قبله لتأكيد الإشعار بما بين إيمانه عليه‌السلام المبنى على المشاهدة والعيان وبين إيمانهم الناشىء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والاختلاف الجلى كأنهما مختلفان من كل وجه حتى فى هيئة التركيب الدال عليهما وما فيه من تكرير الإسناد لما فى الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتى من نوع خفاء محوج إلى التقوية والتأكيد أى كل واحد منهم آمن (بِاللهِ) وحده من غير شريك له فى الأولهية والمعبودية (وَمَلائِكَتِهِ) أى من حيث أنهم عباد مكرمون له تعالى من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحى فإن مدار الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتهم فى أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلوح به الترتيب فى النظم (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أى من حيث مجيئهما من عنده تعالى لإرشاد الخلق إلى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهى لكن لا على الإطلاق بل على أن كل واحد من تلك الكتب منزل منه تعالى إلى رسول معين من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام حسبما فصل فى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) الآية ولا على أن مناط الإيمان خصوصية ذلك الكتاب أو ذلك الرسول بل على أن الإيمان بالكل مندرج فى الإيمان بالكتاب المنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومستند إليه لما تلى من الآية الكريمة ولا على أن أحكام الكتب السالفة وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقى منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن أحكام كل واحد منها كانت حقة ثابتة إلى ورود كتاب آخر ناسخ له وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المصون عن النسخ إلى يوم القيامة وإنما لم يذكر ههنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر فى قوله تعالى (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) لاندراجه فى الإيمان بكتبه وقرىء وكتابه على أن المراد به القرآن أو جنس الكتاب كما فى قوله تعالى (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع فى أفراد الجنس والجمع فى جموعه ولذلك قيل الكتاب أكثر من الكتب وهذا نوع تفصيل لما أجمل فى قوله تعالى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) اقتصر عليه إيذانا بكفايته فى الإيمان الإجمالى المتحقق فى كل فرد من أفراد المؤمنين من غير نفى لزيادة ضرورة اختلاف طبقاتهم وتفاوت إيمانهم بالأمور المذكورة فى مراتب التفصيل تفاوتا فاحشا فإن الإجمال فى الحكاية لا يوجب الإجمال فى المحكى كيف لا وقد أجمل فى حكاية إيمانه عليه‌السلام بما أنزل إليه من ربه مع بداهة كونه متعلقا بتفاصيل ما فيه من الجلائل والدقائق ثم إن الأمور المذكورة


حيث كانت من الأمور الغيبية التى لا يوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير كان الإيمان بها مصداقا لما ذكر فى صدر السورة الكريمة من الإيمان بالغيب وأما الإيمان بكتبه تعالى فإشارة إلى ما فى قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هذا هو اللائق بشأن التنزيل والحقيق بمقداره الجليل وقد جوز أن يكون قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ) معطوفا على (الرَّسُولُ) فيوقف عليه والضمير الذى عوض عنه التنوين راجع إلى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم فصل ذلك وقيل كل واحد من الرسول والمؤمنين آمن بالله الخ خلا أنه قدم المؤمن به على المعطوف اعتناء بشأنه وإيذانا بأصالته عليه‌السلام فى الإيمان به ولا يخفى أنه مع خلوه عما فى الوجه الأول من كمال إجلال شأنه عليه‌السلام وتفخيم إيمانه مخل بجزالة النظم الكريم لأنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه عليه‌السلام من حيث الذات ومن حيث التعلق بالتفاصيل استحال إسنادهما إلى غيره عليه‌السلام وضاع التكرير وإن حملا على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية عليه‌السلام وأما حملهما على ما يليق بكل واحد ممن نسبا إليه من الآحاد ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان العيانى المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من جهته عليه‌السلام اللائق بحالهم فى الإجمال والتفصيل فاعتساف بين ينبغى تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله وقوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فى حيز النصب بقول مقدر على صيغة الجمع رعاية لجانب المعنى منصوب على أنه حال من ضمير آمن أو مرفوع على أنه خبر آخر لكل أى يقولون لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض منهم ونكفر بآخرين بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم قيدوا به إيمانهم تحقيقا للحق وتخطئة لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستقلت اليهود بالكفر بعيسى عليه‌السلام أيضا على أن مقصودهم الأصلى إبراز إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه‌السلام لا إظهار موافقتهم لهم فيما آمنوا به وهذا كما ترى صريح فى أن القائلين آحاد المؤمنين خاصة إذ لا يمكن أن يسند إليه عليه‌السلام أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد به إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه فى دعواها وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصل فى تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وقرىء بالياء على إسناد الفعل إلى كل وقرىء لا يفرقون حملا على المعنى كما فى قوله تعالى (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) فالجملة نفسها حال من الضمير المذكور وقيل خبر ثان لكل كما قيل فى القول المقدر فلا بد من اعتبار الكلية بعد النفى دون العكس إذ المراد شمول النفى لا نفى الشمول والكلام فى همزة أحد وفى دخول بين عليه قد مر تفصيله عند قوله تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس فى أن يقال لا نفرق بين رسله وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله فى قوله تعالى (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) إما للاحتراز عن توهم اندارج الملائكة فى الحكم أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات الخاصة (وَقالُوا) عطف على آمن وصيغة الجمع باعتبار جانب المعنى وهو حكاية لامتثالهم بالأوامر إثر حكاية


(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

____________________________________

إيمانهم (سَمِعْنا) أى فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته (وَأَطَعْنا) ما فيه من الأوامر والنواهى وقيل سمعنا أجبنا دعوتك وأطعنا أمرك (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أى اغفر لنا غفرانك أو نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة أو ما لا يخلو عنه البشر من التقصير فى مراعاة حقوقك وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للمبالغة فى التضرع والجؤار (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أى الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوع للحساب والجزاء وقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستقلة جىء بها إثر حكاية تلقيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهارا لما له تعالى عليهم فى ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجىء. هذا وقد روى أنه لما نزل قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوه عليه‌السلام ثم بركوا على الركب فقالوا أى رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والحج والجهاد وقد أنزل إليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فقرأها القوم فأنزل الله عزوجل (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله تعالى (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فمسئولهم الغفران المعلق بمشيئته عزوجل فى قوله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ثم أنزل الله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تهوينا للخطب عليهم ببيان أن المراد بما فى أنفسهم ما عزموا عليه من السوء خاصة لا ما يعم الخواطر التى لا يستطاع الاحتراز عنها والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه أى سنته تعالى أنه لا يكلف نفسا من النفوس إلا ما يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود فضلا منه تعالى ورحمة لهذه الأمة كقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقرىء وسعها بالفتح وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) للترغيب فى المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعى إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته أى لها ثواب ما كسبت من الخير الذى كلفت فعله لا لغيرها استقلالا أو اشتراكا ضرورة شمول كلمة ما لكل جزء من أجزاء مكسوبها وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقاب ما اكتسبت من الشر الذى كلفت تركه وإيراد


الاكتساب فى جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشىء من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها فى طلبه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) شروع فى حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف أى لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ونحو هما مما يدخل تحت التكليف أو بأنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر أو مطلقا إذ لا امتناع فى المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصى كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو أخطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصى أيضا لا يبعد أن يفضى إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ووعده تعالى بعدمه لا يوجب استحالة وقوعه فإن ذلك من آثار فضله ورحمته كما ينبئ عنه الرفع فى قولهعليه‌السلام رفع عن أمتى الخطأ والنسيان. وقد روى أن اليهود كانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة فدعاؤهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة فى ذلك كما فى قوله تعالى (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) عطف على ما قبله وتوسيط النداء بينهما لإبراز مزيد الضراعة والإصر العبء الثقيل الذى يأصر صاحبه أى يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة وقيل الإصر الذنب الذى لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه وقرىء آصارا وقرىء ولا تحمل بالتشديد للمبالغة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) فى حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أى حملا مثل حملك إياه على من قبلنا أو على أنه صفة لإصرا أى إصرا مثل الإصر الذى حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من بخع النفس فى التوبة وقطع موضع النجاسة وخمسين صلاة فى يوم وليلة وصرف ربع المال للزكاة وغير ذلك من التشديدات فإنهم كانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم قال الله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقد عصم الله عزوجل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل فى شأنهم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وعن العقوبات التى عوقب بها الأولون من المسخ والخسف وغير ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع عن أمتى الخسف والمسخ والغرق (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) عطف على ما قبله واستعفاء عن العقوبات التى لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدى إليها التفريط فيه من التكاليف الشاقة التى لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا فى المحافظة عليها فيكون التعبير عن إنزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدى إليها وقيل هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة وقيل هو استعفاء عن التكليف بما لا تفى به الطاقة البشرية حقيقة فيكون دليلا على جوازه عقلا وإلا لما سئل التخلص عنه والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثان (وَاعْفُ عَنَّا) أى آثار ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) واسترعيوبنا ولا تفضحنا على رءوس الأشهاد (وَارْحَمْنا) وتعطف بنا وتفضل علينا وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما أن التخلية سابقة على التحلية (أَنْتَ مَوْلانا) سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولى أمورنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء والمراد به عامة الكفرة وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد فى سبيله تعالى حسبما أمر فى تضاعيف السورة الكريمة غاية مطالبهم. روى أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا


بهذه الدعوات قيل له عند كل دعوة قد فعلت. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفى عام من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ آيتين من سورة البقرة كفتاه وهو حجة على من استكره أن يقول سورة البقرة وقال ينبغى ان يقال السورة التى يذكر فيها البقرة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم السورة التى يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل وما البطلة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم السحرة

(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثانى وأوله سورة آل عمران)


فهرست

الجزء الأول من تفسير أبو السعود

ـ مقدمة قاضى القضاة أبو السعود.................................................. ٣

(الجزء الأول)

ـ سورة الفاتحة................................................................. ٧ ـ ١

سورة البقرة تفسير قوله تعالى

ـ إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها............................. ٧١

ـ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم............................................. ٩٧

ـ وإذ استسقى موسى لقومه.................................................... ١٠٥

ـ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون     ١١٦

ـ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون................. ١٣٠

ـ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ١٤٢

ـ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن........................................... ١٥٤

(الجزء الثانى)

سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها...................... ١٧٠

إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف يهما ١٨١

١٩٢ ـ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر.

ـ يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ٢٠٣

ـ واذكروا الله فى أيام معدودات.................................................. ٢١٠


ـ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.. ٢١٨

ـ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.................. ٢٣٠

ـ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت......................... ٢٣٧

(الجزء الثالث)

ـ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض........................................... ٢٤٥

ـ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غنى حميد..................... ٢٥٨

ـ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشا..................................... ٢٦٤

ـ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة................................ ٢٧١

(تم فهرس الجزء الأول)

تفسير أبي السعود - ١

المؤلف:
الصفحات: 280