
سورة يونس
[فيها من الآيات ست]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ
وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ) : في تفسيره قولان :
أحدهما ـ أنّ
البرّ هو الأرض اليابسة ، والبحر هو الماء.
الثاني ـ أن البرّ
الفيافي ، والبحر الأمصار ، وإنما يكون تفسير كلّ واحد منهما بحسب ما يرتبط به من
قول مقدم له أو بعده ، كقوله هاهنا : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة.
فهذا نصّ بيّن في أنّ المراد بالبحر غمرة الماء ، وقرينتها المبينة لها قوله : حتى
إذا كنتم في الفلك ، وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) ، فقوله: (مِنَ الْفُلْكِ) هو للبحر. وقوله : (الْأَنْعامِ) هو للبر.
المسألة الثانية ـ
قرئ (يُسَيِّرُكُمْ) بالياء والسين المهملة ، وننشركم بالنون والشين المعجمة ،
وأراد اليحصبى يبسطكم برّا وبحرا ، وأراد غيره من السير ، وهو الذي
أختاره.
المسألة الثالثة ـ
في هذه الآية جواز ركوب البحر ، وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح من طريقين :
__________________
روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
فقيل له : إنّا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ،
أفنتوضأ بماء البحر؟ قال : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.
وروى أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
على أمّ حرام بنت ملحان ، فنام عندها ، ثم استيقظ وهو يضحك ، فقالت له : ما يضحك
يا رسول الله؟ قال : ناس من أمّتى عرضوا علىّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة.
قالت : فادع الله أن يجعلني منهم. فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام ، ثم استيقظ يضحك ،
فقالت : يا رسول الله ، وما يضحك؟ قال : ناس من أمّتى عرضوا علىّ غزاة في سبيل
الله ملوكا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ، كما قال في الأولى. قالت : فقلت : ادع الله أن يجعلني منهم. قال :
أنت من الأولين ... الحديث.
ففي هذا كلّه دليل
على جواز ركوب البحر ، ويدلّ عليه من طريق المعنى أنّ الضرورة تدعو إليه ، فإنّ
الله ضرب به وسط الأرض ، فانفلقت ، وجعل الخلق في العدوتين ، وقسّم المنافع بين
الجهتين ، ولا يوصل إلى جلبها إلا بشقّ البحر [لها] ، فسهّل الله سبيله بالفلك ، وعلّمها نوحا صلى الله عليه وسلم وراثة في العالمين بما أراه جبريل
، وقال له : صوّرها على جؤجؤ الطائر ، فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في استفاله للسفينة
نظير الهواء في اعتلائه.
المسألة الرابعة ـ
أما القرآن فيدل على جواز ركوب البحر مطلقا ، وأما الحديثان اللذان جلبناهما فيدلّ حديث أبى هريرة على جواز
ركوب البحر مطلقا. وأما حديث أنس فيدل على جواز كونه في الغزو ، وهي رخصة من الله
أجازها مع ما فيه من الغرر ، ولكن الغالب منه السلامة ، لأن الذين يركبونه لا حاصر
لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قوله صلى الله عليه وسلم : «ملوكا
على الأسرّة».
فيه قولان :
أحدهما ـ يركبون
ظهره على الفلك ركوب الملوك الأسرة على الأرض.
الثاني ـ يركبون
الفلك لسعة الحال والملك كأنّهم أهل الملك.
ويعارض هذا قوله
تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ). فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم وصف هؤلاء بالملك ووصف الله هؤلاء بالمسكنة.
ومن هذه المعارضة
فرّ قوم فقالوا : إنّ القراءة فيها : أما السفينة فكانت لمسّاكين ـ بتشديد السين.
وقال قوم : إنما
وصفهم بالمسكنة لما هم عليه من عدم الحول والقوّة في البحر وضعف الحيلة فيه أيضا ،
فإن من أراد أن يعلم أنّ الحول والقوة لله عيانا فليركب البحر.
وحقيقة المعنى فيه
أنّ مسكنتهم كانت لوجهين :
أحدهما ـ لدخولهم
البحر.
والثاني ـ أنه لم يكن لهم مال ولا ملك إلا السفينة ، وهم لا يركبون البحر
بالعدد والعدّة ، والعزم والشدّة ، يقصدون الغلبة ، وهذه حالة للملك .
وقد روى أنّ عمر
كان يتوقّف في ركوب البحر للمسلمين ، لما كان يتوهّم فيه من الغرر ، إذ لم يره إلا
لضرورة كما ركبه المهاجرون إلى الحبشة للضرورة أولا وآخرا ، أما الأوّل ففي الفرار
من نكاية المشركين ، وأما الآخر فلنصر النبىّ صلى الله عليه وسلم والكون معه.
المسألة السادسة ـ
إذا حصل المرء في ارتجاج البحر وغلبته وعصفه وتعابس أمواجه فاختلف العلماء في حكمه
، وقد تقدم شرحه في سورة الأعراف.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها
سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
__________________
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ تفسير
التحية ، وفيها ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها
الملك.
الثاني ـ أنها
البقاء ، قال المعمر :
أبنى إن أهلك فإ
|
|
نّى قد تركت لكم
بنيّه
|
وتركتكم أولاد
سا
|
|
دات زنادكم
وريّه
|
ولكلّ ما نال
الفتى
|
|
قد نلته إلا
التحيّه
|
يعنى البقاء.
الثالث ـ [أنها] السلام.
المسألة الثانية ـ
في تفسيرها قولان :
الأولى ـ أن الملك
يأتيهم بما يشتهون فيقول لهم : سلام عليكم ، أى سلمتم ، فيردّون عليه ، فإذا أكلوه
قالوا : الحمد لله رب العالمين.
الثاني ـ أن معنى
تحيتهم تحية بعضهم بعضا ، فقد ثبت في الخبر
كما بينا أن الله خلق آدم ، ثم قال له : اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلّم
عليهم ، فجاءهم فقال : سلام عليكم ، فقالوا له : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته
: فقال له : هذه تحيتك وتحية ذريتك إلى يوم القيامة ، وبيّن في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنة ، فهي تحية موضوعة
من ابتداء الخلقة إلى غير غاية.
وقد روى ابن
القاسم ، عن مالك في قول الله : تحيتهم فيها سلام ، أى هذا السلام الذي بين أظهركم
تتقابلون به.
والقولان محتملان
، وهذا أظهر ، لأنه ظاهر القرآن. والله أعلم.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (فَذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ).
__________________
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تفسير (الْحَقُ).
وقد مهدناه في
كتاب الأمد الأقصى في تسمية الباري تعالى [به] . ولبابه أنّ الحقّ هو الوجود ، والوجود على قسمين : وجود
حقيقى ، ووجود شرعي. فأما الوجود الحقيقي فليس إلا لله وصفاته ، وعليه جاء قوله
صلى الله عليه وسلم : أنت
الحق ، وقولك الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة
حق. فأما الله وصفاته
فوجودها [هو] حق ، لأنه لم يسبقها عدم ، ولا يعقبها فناء. وأما لقاء
الله فهو حق سبقه عدم ، ويعقبه مثله. وأما الجنة والنار فهما حقّان ، سبقهما عدم ،
ولا يعقبهما فناء ، لكن ما فيها من أنواع العذاب أعراض. وأما الوجود الشرعي فهو
الذي يحسنه الشرع ، وهو واجب وغير واجب.
المسألة الثانية ـ
في تحقيق معنى الباطل : وهو ضدّ الحق ، والضدّ ربما أظهر حقيقة الضد ، فإذا قلنا :
إنّ الله هو الحق حقيقة ، فما سواه باطل ، وعنه عبر الذي يقول :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
وإن قلنا : [إنّ] الحقّ هو الحسن شرعا فالباطل هو القبيح شرعا ، ومقابلة
الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ، كما قال سبحانه وتعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ). كما أنّ مقابلة الحق بالضلال عرف أيضا لغة وشرعا ، كما
قال الله تعالى في هذه الآية : (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ، وقد بيّن حقيقة الحق. فأما حقيقة الضلال ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
فهو الذهاب عن الحق ، أخذ من ضلال الطريق ، وهو العدول عن سمت القصد ، وخصّ في
الشرع بالعبارة عن العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال.
__________________
ومن غريب أمره أنه
يعبّر به عن عدم المعرفة بالحق إذا قابله غفلة ، ولم يقترن بعدمه جهل أو شكّ ،
وعليه حمل العلماء قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى). الذي حققه قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ).
المسألة الرابعة ـ
روى عبد الله بن عبد الحكم ، عن أشهب ، عن مالك ، قال : يقول الله : فماذا بعد
الحق إلا الضلال. فاللعب بالشّطرنج والنّرد من الضلال.
وروى يونس ، عن
أشهب قال : سئل ـ يعنى مالكا ـ عن اللعب بالشطرنج قال : لا خير فيه ، وليس بشيء
وهو من الباطل ، واللّعب كلّه من الباطل ، وأنه ينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية
والشيب عن الباطل. وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء : أما تنهاك لحيتك هذه؟ قال
أسلم : فمكثت زمانا وأنا أظنّ أنها ستنهانى. فقيل لمالك لما كان عمر لا يزال يقول
فيكون. فقال : نعم [في رأيى] . وروى يونس عن ابن وهب عن مالك أنه سئل عن الرجل يلعب مع
امرأته في بيته. فقال مالك : ما يعجبني ذلك ، وليس من شأن المؤمنين اللعب ، يقول
الله : (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ، وهذا من الباطل.
وروى مخلد بن خداش
، عن مالك أنه سئل عن اللعب بالشطرنج قال : (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) رواه عبد العزيز الجهني ، قال : قلت لمالك بن أنس : أدعو الرجل
لعبثى. فقال مالك : أذلك من الحق؟ قلت : لا. قال : فماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال القاضي الإمام
: هذا منتهى ما تحصّل لي من ألفاظ مالك في هذه المسألة ، وقد اعترض بعض المتقدمين
عليه من المخالفين ، فقال : ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ ما بعد الله هو الضلال ،
لأن أوّلها (فَذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ، فهذا في الإيمان والكفر ، يعنى ليس في الأعمال.
وأجاب عن ذلك بعض
علماء المتقدمين ، فقال : إنّ الكفر تغطية الحق ، وكلّ ما كان من غير الحق يجرى
هذا المجرى. هذا منتهى السؤال والجواب.
__________________
وتحقيقه أن يقال :
إنّ الله أباح وحرّم ، فالحرام ضلال ، والمباح هدى ، فإن كان المباح حقا ـ كما
اتفق عليه العلماء ـ فالشطرنج من المباح ، فلا يكون من الضلال ، لأنّ من استباح ما
أباح الله لا يقال له ضالّ ، وإن كان الشطرنج خارجا من المباح فيفتقر إلى دليل ،
فإذا قام الدليل على أنه حرام فحينئذ يكون من الضلال الذي تضمّنته هذه الآية ، وقد
قدمنا القول فيه ، وأنّ قول الشافعية إنه يخالف النرد ، لأن فيه إكداد الفهم ،
واستعمال القريحة ، والنّرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه ، كالاستقسام
بالأزلام.
وقال علماؤنا :
إنّ الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
من لعب بالنرد شير
فقد غمس يده في لحم الخنزير ودمه ـ يوجب النهى عن الشطرنج ، لأنّ الكلّ يشغل عن
ذكر الله وعن الصلاة ، والفهم يكدّ في كل واحد منهما وإن تفاضلا فيه.
وأما لعب الرجل مع
امرأته بالأربع عشرة فالممتنع لا تفترق فيه المرأة تكون للرجل ولا الأجنبى منه ،
كما لا يجوز له أن يلعب معها بالنرد شير لعموم النهى فيه ، والأربع عشرة قمار
مثله.
وأما الغناء فإنه
من اللهو المهيّج للقلوب عند أكثر العلماء ، منهم مالك بن أنس ، وليس في القرآن
ولا في السنة دليل على تحريمه.
أما أن في الحديث
الصحيح [دليلا على] إباحته ، وهو الحديث الصحيح أن
أبا بكر دخل على عائشة وعندها جاريتان حاديتان من حاديات الأنصار ، تغنيان بما تقاولت الأنصار به يوم
بعاث ، فقال أبو بكر : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله : دعهما يا أبا بكر ،
فإنه يوم عيد ، فلو كان الغناء حراما ما كان في بيت رسول الله ، وقد أنكره أبو بكر
بظاهر الحال ، فأقرّه النبىّ صلى الله عليه وسلم بفضل الرخصة والرفق بالخليقة في إجمام القلوب ، إذ ليس جميعها
يحمل الجدّ دائما. وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يوم عيد يدلّ على كراهية
دوامه ، ورخصته في الأسباب كالعيد ، والعرس ، وقدوم الغائب ، ونحو ذلك من
المجتمعات التي تؤلف بين المفترقين والمفترقات عادة.
__________________
وكلّ حديث يروى في
التحريم أو آية تتلى فيه فإنه باطل سندا ، باطل معتقدا ، خبرا وتأويلا ، وقد ثبت أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم رخّص في
الغناء في العيدين ، وفي
البكاء على الميت من غير نوح من حديث ثابت بن وديعة.
الآية الرابعة ـ قوله
سبحانه وتعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).
وهي دليل على أن
التحريم والتحليل لا يكونان عقلا ولا تشهّيا ، وإنما المحرّم والمحلل هو الله حسبما تقدم في سورة
الأنعام في مثل هذه الآية.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
تفسيرها قولان :
أحدهما ـ أنها
بشرى الله لعباده بما أخبرهم به من وعده الكريم ، في قوله : (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ). (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا). وقوله : (يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ). ونظائره.
الثاني ـ ما روى
ابن القاسم وغيره ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في هذه الآية ـ قال : هي
الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح أو ترى له. قال رجل من أهل مصر : سألت أبا الدرداء عن قوله سبحانه : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فقال : ما
سألنى عنها أحد منذ سألت رسول الله عنها ، سألت رسول الله عنها ، فقال : ما سألنى
أجد عنها غيرك منذ أنزلت ، فهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له.
وروى عن أبى هريرة
وابن عمر وطلحة ، ولم يصح منها طريق ولكنها حسان.
المسألة الثانية ـ
والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب : الرؤيا
الصالحة يراها
__________________
الرجل
الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. والحديث صحيح ، ومعناه بديع ، قد تكلمنا عليه في موضعه من
شرح الحديث الصحيح ، وسيأتى جملة من ذلك في تفسير سورة يوسف إن شاء الله.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ القول
في القبلة ، وقد تقدّم في سورة البقرة .
المسألة الثانية ـ
في تفسيرها :
هذا يدلّ على أن
القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى في صلاته ولقومه ، ولم تخل الصلاة قطّ عن شرط
الطهارتين ، واستقبال القبلة ، وستر العورة ، فإن ذلك أبلغ في التكليف ، وأوقر
للعبادة.
المسألة الثالثة ـ
قيل أراد بقوله : (وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يعنى بيت المقدس ، أمروا أن يستقبلوها حيثما كانوا ، وقد
كانت مدة من الزمان قبلة ، ثم نسخ ذلك حسبما تقدم في سورة البقرة.
وقيل أراد به صلوا في بيوتكم دون بيعكم إذا كنتم خائفين ، لأنّه كان من
دينهم أنهم لا يصلّون إلّا في البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد
أذن لهم أن يصلّوا في بيوتهم ، والأول أظهر الوجهين ، لأن الثاني دعوى .
__________________
سورة هود
[فيها ثماني آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا) بيان لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال
بالنيات ، وذلك لأنّ العبد لا يعطى إلا على وجه قصده ، وبحكم ما ينعقد ضميره عليه
، وهذا أمر متفق عليه في الأمم من أهل كل ملّة.
المسألة الثانية ـ
أخبر الله سبحانه أنّ من يريد الدنيا يعطى ثواب عمله فيها ، ولا يبخس منه شيئا.
واختلف بعد ذلك في
وجه التوفية ، فقيل في ذلك صحة بدنه أو إدرار رزقه. وقيل : هذه الآية مطلقة ،
وكذلك الآية التي في حم عسق : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ ...)
الآية ـ قيدها
وفسرها بالآية التي في سورة سبحان ، وهي قوله . (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ ..). إلى : (مَحْظُوراً) ، فأخبر سبحانه أنّ العبد ينوى ويريد ، والله أعلم بما
يريد.
المسألة الثالثة ـ
اختلف في المراد بهذه الآية ، فقيل : إنه الكافر ، فأما المؤمن فله حكمه الأفضل
الذي بيّنه الله في غير موضع.
وقال مجاهد : هي
في الكفرة ، وفي أهل الرياء. قال القاضي : هي عامّة في كل من ينوى غير الله بعمله
، كان معه أصل إيمان ، أو لم يكن. وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: قال الله : إنى لا أقبل عملا أشرك فيه
معى غيرى ، أنا أغنى الأغنياء عن الشرك.
وقال أبو هريرة ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنّ
الله جلّ ثناؤه إذا كان يوم
__________________
القيامة
نزل إلى العباد ليقضى بينهم ، وكلّ أمة جاثية ، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ،
ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارئ : ألم أعلّمك ما
أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا رب. قال : فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم
آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله جل ثناؤه : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ،
ويقول الله جل جلاله : بل أردت أن يقال فلان قارئ ، فقد قيل ذلك.
ويؤتى
بصاحب المال ، فيقول الله تعالى : أو لم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟
فيقول : بلى يا ربّ. فيقول : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق
، فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، بل أردت أن يقال فلان جواد ، فقد
قيل لك ذلك.
ويؤتى
بالذي قتل في سبيل الله ، فيقال له : في ما ذا قتلت؟ فيقول : أمرت بالجهاد في
سبيلك فقاتلت حتى قلت. فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله :
بل أردت أن يقال فلان جريء ، فقد قيل ذلك.
ثم
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتىّ وقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة
أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة. ثم قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ. وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها
وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى في الدنيا ، وهذا نصّ في مراد الآية ، والله أعلم.
الآية الثانية ـ في
قصة نوح :
وفيها ثلاث مسائل
:
المسألة الأولى ـ روى
ابن القاسم ، عن ابن أشرس ، عن مالك ، قال : بلغني أنّ قوم نوح ملئوا الأرض حتى
ملئوا السهل والجبل ، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء ولا هؤلاء أن ينزلوا
مع هؤلاء ، فلبث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة ، ثم جمعها
__________________
ييبسها مائة عام ،
وقومه يسخرون منه ، وذلك لما رأوه يصنع ذلك ، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها
بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وذلك نصر في ذكر الله في كل حال ، وعلى كل أمر.
وقد روى الدارقطني
وغيره : كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر. وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه ، حتى قال جماعة ، إنه يقول بسم الله مع النية
في الوضوء ، حتى يجمع بين الذكر والنية ، ومن أشده في الندب ذكر الله في ابتداء
الشراب والطعام ، ومن الوجوب فيه ذكر الله عند الذبح ، كما تقدم ذكره في سورة
الأنعام وغير ذلك من تعديد مواضعه.
المسألة الثالثة ـ
قال : (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ).
قال علماؤنا : لما
استنقذ الله من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من
قومك إلّا من قد آمن فاصنع الفلك. قال : يا رب ، ما أنا بنجّار ، قال : بلى ، فإن
ذلك بعيني ، فأخذ القدوم ، فجعلت يده لا تخطئ ، فجعلوا يمرّون به فيقولون : هذا
النبىّ الذي يزعم أنه نبىّ قد صار نجّارا ، فعملها في أربعين سنة ، ثم أوحى الله
إليه أن احمل فيها من كلّ زوجين اثنين ، فحمل فيها ، فأرسل الله الماء من السماء ،
وفتح الأرض ، ولجأ ابن نوح إلى جبل ، فعلا الماء على الجبل سبعة عشر ذراعا ، وذلك
قوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ
وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) يعنى عنه ـ إلى قوله : (مِنَ الْجاهِلِينَ).
قال علماؤنا :
إنما سأل نوح ربّه لأجل قول الله : احمل فيها من كلّ زوجين ... إلى : وأهلك ، وترك
نوح قوله : إلا من سبق عليه القول منهم ، لأنه رآه استثناء عائدا إلى قوله : من
كلّ زوجين اثنين ، وحمله الرجاء على ذلك ، فأعلمه الله أنّ الاستثناء عائد إلى
الكل ، وأنه قد سبق القول على بعض أهله ، كما سبق على بعض من الزوجين ، وأن الذي
سبق عليه القول من أهله هو ابنه تسلية للخلق في فساد أبنائهم ، وإن كانوا صالحين ،
ونشأت عليه
__________________
مسألة ، وهي أنّ
الابن من الأهل اسما ولغة ، ومن أهل البيت على ما يأتى بيانه في الآية السادسة بعد
هذا إن شاء الله.
الثالثة ـ قوله : (وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ، قال بعض علماء الشافعية : الاستعمار طلب العمارة ، والطلب
المطلق من الله على الوجوب.
قال القاضي الإمام
: تأتى كلمة استفعل في لسان العرب على معان ، منها استفعل بمعنى طلب الفعل ، كقوله
: استحملت فلانا ، أى طلبت منه حملانا.
ومنها استفعل
بمعنى اعتقد ، كقولهم : استسهلت هذا الأمر ، أى اعتقدته سهلا ، أو وجدته سهلا ، واستعظمته
، أى اعتقدته عظيما.
ومنها استفعل
بمعنى أصبت الفعل ، كقولك : استجدته ، أى أصبته جيدا ، وقد يكون طلبته جيدا.
ومنها بمعنى فعل ،
كقوله : قرّ في المكان واستقر. وقالوا : إن قوله : يستهزئون ، ويستحسرون منه ،
فقوله تعالى : (اسْتَعْمَرَكُمْ :) خلقكم لعمارتها على معنى استجدته واستسهلته ، أى أصبته
جيدا وسهلا ، وهذا يستحيل في الخالق ، فترجع إلى أنه خلق لأنه الفائدة ، ويعبّر عن
الشيء بفائدته مجازا ، كما بيناه في الأصول ، ولا يصح أن يقال إنه طلب من الله
لعمارتها ، فإنّ هذا اللفظ لا يجوز في حقه ، أما أنه يصح أن يقال : إنه استدعى
عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل ، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمر
، أو طلب الفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة ، وقد بينا ذلك في الأصول.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).
فيها تسع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قد
بيّنّا في الرسالة الملجئة إعراب الآية ، وقد قال الطبرىّ : إنه عمل في «سلام»
الأول القول ، كأنه قال : قالوا قولا وسلّموا سلاما. وقال الزجاج : معناه سلمنا
سلاما. قال شيخنا أبو عبد الله المغربي : إنّ نصبه على المصدر أظهر وجوهه ، لأنه
إن عمل فيه القول كان على معنى السلام ، ولم يكن عمل لفظه ، كأنه أخبر أنه على
المعنى ، كما تقول : قلت حقا ، ولم ينطق بالحاء والقاف ، وإنما قلت قولا معناه حق
، وهم إنما تكلّموا بسلام ، ولذا أجابهم بالسلام ، وعلى هذا جرى قراءة من قرأ. قال
: فإنه يقول أمرى سلام ، أجابهم على المعنى.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا قوله : (قالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ) يدلّ على أن تحية الملائكة هي تحية بنى آدم.
قال القاضي الإمام
: الصحيح أنّ «سلاما» هاهنا معنى كلامهم لا لفظه ، وكذلك هو في قوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) ، ولو كان لفظ كلامهم سلام عليكم فإنه لم يقصد ذكر اللفظ ،
وإنما قصد ذكر المعنى الذي يدلّ عليه لفظ سلام. ألا ترى أنّ الله سبحانه لما أراد
ذكر اللفظ قاله بعينه ، فقال مخبرا عن الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ). (سَلامٌ) (عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوها خالِدِينَ). وأبدع منه في الدلالة أنه قال : (وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ). وقال أيضا : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : قوله : (قالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ) يدلّ على أن السلام يردّ بمثله ، كما روى ابن وهب عن مالك
عن أبى جعفر القاري ، قال : كنت مع ابن عمر فيسلم عليه ، فيقول : السلام عليكم ،
ويردّ كما يقال.
قال القاضي الإمام
: هذا على أنّ القول هاهنا سلام بلفظه أو بمعناه ، كما تقدم بيانه.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) قدّمه إليهم نزلا وضيافة ، وهو أول من ضيّف الضيف حسبما
ورد في الحديث.
وفي الإسرائيليات
أنه كان لا يأكل وحده ، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه ، فلقى يوما رجلا
فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم : سمّ الله. قال له الرجل : لا أدرى ما
الله ، قال له : فاخرج عن طعامي. فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له : يقول [الله]
: إنه يرزقه على كفره مدى عمره ، وأنت بخلت عليه بلقمة ، فخرج إبراهيم مسرعا فردّه ، فقال : [ارجع ، قال] : لا أرجع ، تخرجني ثم تردّنى لغير معنى! فأخبره بالأمر ،
فقال : هذا ربّ كريم. آمنت ، ودخل وسمّى الله ، وأكل مؤمنا.
المسألة الخامسة ـ
ذهب الليث بن سعد من العلماء إلى أن الضيافة واجبة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم
ضيفه ، جائزته يوم وليلة وما وراء ذلك صدقة. وفي رواية [أنه قال] : ثلاثة أيام ، ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه. وهذا
حديث [صحيح] خرجه الأئمة ولفظه للترمذي.
وذهب علماء الفقه
إلى أنّ الضيافة لا تجب ، وإنما هي من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة بين الخلق ،
وتأوّلوا هذا الحديث بأنه محمول على النّدب ، بدليل قوله : فليكرم ضيفه ، والكرامة
من خصائص الندب دون الوجوب.
وقد قال قوم : إنّ
هذا كان في صدر الإسلام ، ثم نسخ ، وهذا ضعيف ، فإن الوجوب لم يثبت والناسخ لم
يرد.
أما أنه قد روى
الأئمة عن أبى سعيد الخدري أنه قال : نزلنا بحي من [أحياء] العرب فاستضفناهم ، فأبوا ، فلدغ سيّد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء فلم ينفعه. فقال بعضهم :
__________________
لو أتيتم هؤلاء
الرّهط الذين نزلوا ، لعله أن يكون عندهم شيء ، فقالوا : يا أيها الرهط ، إن سيدنا
لدغ ، وقد سعينا له بكل شيء فلم ينفعه ، فهل عند أحد منكم شيء؟ قال بعضهم : إنى والله أرقى ، ولكن والله لقد
استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من
الغنم ، فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ الحمد لله رب العالمين ، فكأنما أنشط من عقال ،
فانطلق يمشى وما به قلبة . قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم :
اقسموا ، وقال الذي رقى : لا تفعلوا ، حتى نأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فنذكر
له الذي كان ، فننظر الذي يأمر به. فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فذكروا له [ذلك] ، فقال : وما يدريك أنها رقية ، ثم قال : اقسموا واضربوا
لي معكم سهما. فضحك النبىّ صلى الله عليه وسلم.
فقوله في هذا
الحديث : فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقّا للام
النبىّ صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا وبيّن ذلك لهم ، ولكن الضيافة حقيقة فرض على الكفاية ، ومن الناس
من قال : إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى ، بخلاف الحواضر ، فإنها
مشحونة بالمأويات والأقوات ، ولا شكّ أن الضيف كريم ، والضيافة كرامة ، فإن
كان عديما فهي فريضة.
المسألة السادسة ـ
قوله [تعالى] : (فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).
قال كبراء
النحويين : فما لبث حتى جاء بعجل حنيذ ، وأعجب لهم كيف استجازوا ذلك مع سعة
معرفتهم. وقال غيرهم ما قد استوفينا ذكره في الملجئة ، وحققنا [أن موضع] «أن جاء» منصوب
على حكم المفعول.
المسألة السابعة ـ
مبادرة إبراهيم بالنّزول حين ظنّ أنهم أضياف مشكورة من الله متلوّة من كلامه في الثناء بها عليه ، تبيّن ذلك من إنزاله فيه حين قال في موضع : فجاء
__________________
بعجل سمين. وفي
آخر : فجاء بعجل حنيذ ، أى مشوىّ ، ووصفه بالطيبين : طيب السمن ، وطيب العمل
بالإشواء ، وهو أطيب للمحاولة في تناوله ، فكان لإبراهيم فيه ثلاث خصال : الضيافة
، والمبادرة بها جيدا لسمن فيها وصفا.
المسألة الثامنة ـ
قال بعض علمائنا : كانت ضيافة قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب ، وهذا تحكّم بالظن في موضع القطع [و] بالقياس في موضع النقل ، من أين علم أنه قليل؟ بل قد نقل
المفسرون أنّ الملائكة كانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وعجل لثلاثة عظيم
، فما هذا التفسير في كتاب الله بالرأى؟ هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم ،
فاجتنبوه فقد علمتموه.
المسألة التاسعة ـ
السّنّة إذا قدّم للضيف الطعام أن يبادر المقدّم إليه بالأكل منه ، فإنّ كرامة
صاحب المنزل المبادرة بالقبول ، فلما قبض الملائكة أيديهم نكرهم إبراهيم ، لأنهم
خرجوا عن العادة ، وخالفوا السنّة ، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه.
وقد كان من الجائز
ـ كما يسّر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة ـ أن ييسّر لهم أكل
الطعام ، إلا أنه في قول العلماء ، أرسلهم في صفة الآدميين ، وتكلّف إبراهيم
الضيافة حتى إذا رأى التوقّف ، وخاف جاءته البشرى فجأة ، وأكمل المبشرات ما جاء فجأة ولم يظنّه المسرور حسابا.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا
ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ كان
شعيب كثير الصلوات مواظبا للعبادة ، فلما أمرهم ونهاهم عيّروه بما رأوه يستمرّ
عليه من كثرة الطاعة.
المسألة الثانية ـ
قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ
فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) قال ابن وهب : قال مالك : كانوا يكسرون الدنانير والدراهم.
وكذلك قال جماعة من
__________________
المفسرين
المتقدمين ، وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم ، لأنها الواسطة في تقدير قيم
الأشياء والسبيل إلى معرفة كمية الأموال وتنزيلها في المعاوضات ، حتى عبّر عنها
بعض العلماء إلى أن يقولوا إنها القاضي ، بيّن الأموال عند اختلاف المقادير أو
جهلها ، وإن من حبسها ولم يصرفها فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس ،
والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحا قام معناها ، وظهرت فائدتها ، فإذا كسرت صارت
سلعة ، وبطلت الفائدة فيها ، فأضرّ ذلك بالناس ، فلأجله حرم. وقد قال ابن المسيب :
قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض ، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية ،
وفسّره به. ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم.
وقد قال عمر بن عبد العزيز : إن ذلك تأويل قوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).
وقد قيل في قوله
تعالى : (وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) ، قال زيد بن أسلم : كانوا يكسرون الدراهم والدنانير ،
والمعاصي تتداعى.
المسألة الثالثة ـ
قال أصبغ : قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقى
: من كسرها لم تقبل شهادته ، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر ، وليس هذا بموضع عذر ، فأما قوله : لم تقبل
شهادته ، فلأنه أتى كبيرة ، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر.
وأما قوله : لا
يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بيّن لا يخفى على أحد. وإنما يقبل العذر إذا
ظهر الصدق فيه أو خفى وجه الصدق فيه ، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك.
المسألة الرابعة ـ
إذا كان هذا معصية وفسادا يردّ الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك.
واختلف في عقوبته
على ثلاثة أقوال :
[الأول ـ] قال مالك : يعاقبه السلطان على ذلك هكذا مطلقا من غير
تحديد للعقوبة
__________________
الثاني ـ قال ابن
المسيّب ـ ونحوه عن سفيان : إنه مرّ برجل قد جلد ، فقال ابن المسيب : ما هذا؟
فقالوا : رجل كان يقطع الدراهم. قال ابن المسيب : هذا من الفساد في الأرض ـ ولم
ينكر جلده.
الثالث ـ قال أبو
عبد الرحمن التجيبى : كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعدا ، وهو إذ ذاك أمير المدينة ، فأتى برجل يطع الدراهم ، وقد
شهد عليه ، فضربه وحلقه ، فأمر فطيف به ، وأمره أن يقول : هذا جزاء من يقطع
الدراهم ، ثم أمر به أن يرد إليه ، فقال له : إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أنى لم
أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم ، فقد تقدمت في ذلك ، فمن شاء فليقطع.
قال القاضي ابن
العربي : أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه ، وأما حلقه فقد فعله عمر كما تقدم.
وقد كنت أيام
الحكم بين الناس أضرب وأحلق ، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يربى شعره عونا على المعصية
وطريقا إلى التجمّل به في الفسوق ، وهذا هو الواجب في كل طريقة للمعصية أن يقطع
إذا كان ذلك غير مؤثّر في البدن.
وأما قطع يده
فإنما أخذ ذلك عمر ـ والله أعلم ـ من فصل السرقة ، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها
، فإنّ الكسر إفساد الوصف والقرض تنقيص القدر ، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء.
فإن قيل : ليس من
حرز ، والحرز أصل في القطع.
قلنا : يحتمل أن
يكون عمر رأى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها ، وحرز كل شيء
على قدر حاله.
وقد أنفذ بعد ذلك ابن الزبير ، وقطع يد رجل في قطع الدراهم
والدنانير.
وقد قال علماؤنا
المالكية : إن الدراهم والدنانير خواتيم الله عليها اسم الله.
__________________
ولو قطع على قول
أهل التأويل من كسر خاتما لله لكان أهلا لذلك ، إذ من كسر خاتم سلطان عليه اسمه
أدّب ، وخاتم الله تقضى به الحوائج ، فلا يستويان في العقوبة.
وأرى القطع في
قرضها دون كسرها ، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم ، إلا أنى كنت محفوفا
بالجهال ، فلم أجب بسبب المقال للحسدة الضلال ، فمن قدر عليه يوما من أهل الحق
فليفعله احتسابا لله تعالى.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ الركون
فيه اختلاف بين النقلة للتفسير ، وحقيقته الاستناد والاعتماد على الذين ظلموا.
المسألة الثانية ـ
قيل في الظالمين إنّهم المشركون. وقيل : إنهم المؤمنون ، وأنكره المتأخرون ، وقالوا : أما الذين ظلموا من أهل الإسلام فالله أعلم بذنوبهم ، لا ينبغي
أن يصالح على شيء من معاصى الله ، ولا يركن إليه فيها.
وهذا صحيح ، لأن
هذا لا ينبغي لأحد أن يصحب على الكفر ، وفعل ذلك كفر ، ولا على المعصية ، وفعل ذلك
معصية ، قال الله في الأول : (وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، وسيأتى إن شاء الله تعالى. والآية إن كانت في الكفار فهي
عامة فيهم وفي العصاة ، وذلك على نحو من قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ...) الآية. وقد قال حكيم :
عن المرء لا تسل
وسل عن قرينه
|
|
فكلّ قرين
بالمقارن مقتد
|
والصحبة لا تكون
إلا عن مودّة ، فإن كانت عن ضرورة وتقيّة فقد تقدم ذكرها في سورة آل عمران على
المعنى ، وصحبة الظالم على التقيّة مستثناة من النهى لحال الاضطرار.
__________________
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى عبد الله بن
مسعود ، قال :
جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال : إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة ، وإنى أصبت منها ما
دون أن أمسها ، وها أنا فاقض في بما قضيت. فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك.
فلم يزد عليه شيئا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق الرجل
فأنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : وأقم الصّلاة ... الآية. فأتبعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم رجلا فدعاه فتلا عليه : وأقم الصّلاة ... الآية. فقال رجل من القوم : هذا له
خاصة. قال : بل للناس كلّهم عامة.
وهذا صحيح رواه
الأئمة كلهم.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ).
هذه الآية تضمنت
ذكر الصلاة وهي في كتاب الله سبع آيات متضمنة ذكر الصلاة هذه هي الآية الأولى.
الثانية ـ قوله
تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).
الثالثة قوله
تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ..). إلى : (تَرْضى).
الرابعة ـ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ ...) إلى : (السُّجُودِ).
الخامسة ـ قوله
تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ ...) إلى (تُظْهِرُونَ).
السادسة ـ قوله
تعالى (وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وَمِنَ اللَّيْلِ ...)
الآية. وقد جاء
ذكر بعض الصلاة فيها ، وهذه الآيات الست هي المستوفية لجميعها ، وكل
__________________
آية منها تأتى
مشروحة في مكانها إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ
اختلف في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها
تضمنت صلاة الغداة وصلاة العشى ، قاله مجاهد.
الثاني ـ أنها
تضمّنت الظهر والعصر والمغرب ، قاله الحسن وابن زيد.
الثالث ـ تضمنت
الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس ومجاهد.
واختلفوا في صلاة
طرفي النهار وصلاة الليل اختلافا لا يؤثّر ، فتركنا استيفاءه. والإشارة إليه أنّ
طرفي النهار الظهر والمغرب.
الثاني ـ أنهما
الصبح والمغرب.
الثالث ـ أنهما
الظهر والعصر ، وكذلك أفردوا بالاختلاف زلفا من الليل ، فمن قائل: إنها العتمة ،
ومن قائل : إنها المغرب والعتمة والصبح.
المسألة الرابعة ـ
لا خلاف أنها تضمّنت الصلوات الخمس ، فلا يضرّ الخلاف في تفصيل تأويلها بين
الطرفين والزلف ، فإذا أردنا سلوك سبيل التحقيق قلنا : أما من قال : إن طرفي النهار
الصبح والمغرب فقد أخرج الظّهر والعصر عنها. وأما من قال : إنها الصبح والظهر فقد
أسقط العصر. وأما من قال : إنه العصر والصبح فقد أسقط الظهر.
والذي نختاره أنه
ليس في النهار من الصلوات إلا الظهر والعصر ، وباقيها في الليل ، فزلف الليل ثلاث
: في ابتدائه ، وهي المغرب ، وفي اعتدال فحمته ، وهي العشاء ، وعند انتهائه وهي
الصبح.
وأما طرفا النهار
فهما الدّلوك والزوال وهو طرفه الأول ، والدلوك الغروب ، وهو طرفي
الثاني. قال النبي صلى الله عليه وسلم : من
أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.
والعجب من الطبري
الذي يقول : إنّ طرفي النهار الصبح والمغرب ، وهما طرفا الليل ، فقلب
القوس ركوة ، وحاد من البرجاس غلوة.
__________________
قال الطبري :
والدليل عليه إجماع الجميع على أنّ أحد الطرفين الصبح ، فدلّ على أن الطرف الآخر
المغرب ، ولم يجمع معه على ذلك أحد ، وإن قول من يقول : إنها الصبح والعصر أنجب ،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
من صلّى البردين
دخل الجنة. وقد قرنها [بها] في الآية الثالثة والرابعة.
المسألة الخامسة ـ
قال شيوخ الصوفية : إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادات نفلا وفرضا.
وهذا ضعيف ، فإن الأمر لم يتناول ذلك لا واجبا فإنها خمس صلوات ، ولا نفلا فإن
الأوراد معلومة ، وأوقات النوافل المرغّب فيها محصورة ، وما سواها من الأوقات
يسترسل عليه الندب على البدل لا على العموم ، فليس ذلك في قوة
بشر.
وقد روى ابن وهب
عن مالك في هذه الآية أنها الصلاة المكتوبة.
وقد روى مالك عن
هشام ، عن عروة
، عن أبيه ، عن عثمان بن عفان ـ أنه جلس على المقاعد فجاءه المؤذّن ، فأذّن بصلاة العصر ،
فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثا لو لا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول :؟؟؟؟؟؟؟
يتوضأ فيحسن وضوء ، ثم يصلّى الصلاة إلّا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها. قال
عروة : أراه يريد هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ...) الآية.
وقال مالك : أراه
يريد هذه الآية : (أَقِمِ الصَّلاةَ ...) الآية.
فعلى قول عروة
يعنى عثمان لو لا أنّ الله حرم علىّ كتمان العلم لما ذكرته. وعلى قول مالك [يعنى
عثمان] : لو لا أنّ معنى ما أذكره لكم مذكور في كتاب الله ما
ذكرته لئلا تتّهمونى.
المسألة السادسة ـ
قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).
قال ابن المسيب ،
ومجاهد ، وعطاء : هي الباقيات الصالحات ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا
الله ، والله أكبر.
__________________
وقال جماعة : هي
الصلوات الخمس ، وبه قال مالك ، وعليه يدلّ أول الآية في ذكر الصلاة ، فعليه يرجع
آخرها ، وعليه يدلّ الحديث الصحيح : الصلوات
الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفّارة لما بينهن ما اجتنبت المقتلة. وروى : ما اجتنبت الكبائر. وكل ذلك في الصحيح.
وقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أعرض عنه
وأقيمت صلاة العصر ، فلما فرغ منها نزل عليه جبريل بالآية فدعاه فقال له : أشهدت
معنا الصلاة؟ قال : نعم ، قال : اذهب فإنها كفّارة لما فعلت. وروى أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية قال له : قم فصلّ أربع ركعات ، والله أعلم.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ في
معنى الأمّة :
وقد قدمنا الإشارة
إليها ، وجمع بعض العلماء فيها نيفا وثلاثين معنى ، وهي هاهنا بمعنى الجماعة ،
يعنى جماعة واحدة على دين واحد. كما يقال : كان الناس أمة واحدة ، أى: جماعة على
دين واحد.
المسألة الثانية ـ
قال قتادة : معناه لو شاء ربّك لجعل الناس كلهم مسلمين. وقيل معناه : لجعلهم
كفّارا أجمعين. وهذه آية لا يؤمن بها إلا أهل السنة الذين يعتقدون ما قام الدليل
عليه من أنّ الله سبحانه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأنّ مشيئته وإرادته
تتعلق بالخير والشر ، والإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية.
والأولى عندي أن
يكون المعنّى هاهنا بالآية المسلمين ، تقديرها : لو شاء ربك لجعل الخلق كلّهم
مسلمين ، ولكنه قسمهم إلى الإسلام والكفر بحكمته وسابق علمه ومشيئته.
__________________
المسألة الثالثة ـ
(وَلا يَزالُونَ
مُخْتَلِفِينَ).
قيل : يهودي
ونصراني ومجوسي ، وهذا يرجع إلى الأديان.
وقال الحسن : يعنى
الاختلاف في الرزق : غنىّ وفقير. وهذا بعيد في هذا الموضع ، وإنما جاءت الآية
لبيان الأديان والاختلاف فيها ، وإخبار الله عن حكمه عليها ، ورحمة من يرحم منها ،
فرجع وصف الاختلاف في هذا التقدير إلى أهل الباطل من سائر الأمم ، ولا إشكال في أن هذه الآية تدخل في هذا الحكم ، فإن النبىّ صلى الله
عليه وسلم قال : تركبنّ
سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه. وقال
صلى الله عليه وسلم : افترقت اليهود والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق
أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار ، إلّا واحدة. قيل : من هم يا
رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابى.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ
رَبُّكَ).
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ بالهداية
إلى الحنيفية.
الثاني ـ بالهداية
إلى الحق.
الثالث ـ بالطاعة.
الرابع ـ إلا من
رحم ربك ، فإنه لا يختلف ، قاله ابن عباس.
وكلّها استثناء
متصل لا انقطاع فيه لانتظام المعنى معه.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).
فيه قولان :
أحدهما ـ للاختلاف
خلقهم.
الثاني ـ للرحمة
خلقهم.
__________________
والصحيح أنه خلقهم
ليختلفوا ، فيرحم من يرحم ، ويعذّب من يعذب ، كما قال : [فمنهم] شقىّ وسعيد . وقال : (فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).
واعجبوا ممن يسمع
الملائكة تقول : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها ...) الآية ، ويتوقف في معرفة ما يكون من خلق الله للفساد ، وهل
يكون الفساد وسفك الدماء إلا بالاختلاف.
وقد قال أشهب :
سمعت مالكا يقول في قول الله : (وَلا يَزالُونَ
مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) للاختلاف ، فقال لي : ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا
قول من فهم الآية ، كما قال عمر بن عبد العزيز حين قرأ : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال : خلق أهل رحمته ، لئلا يختلفوا. ونحوه عن طاوس ، وما
اخترناه ، وأخبرنا به هو الصحيح كما تقدم. والله أعلم. ألا ترون إلى خاتمة الآية
حين قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ) ، وهي :
المسألة السادسة ـ
(لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). ثم أخبر النبىّ أنّ أهل النار أكثر من أهل الجنة ، فقال :
يقول الله يوم القيامة لآدم : ابعث بعث النار. قال وما بعث النار؟ قال : من كل ألف
تسعمائة وتسعة وتسعون للنار وواحد إلى الجنة ، فلهذا خلقهم ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا
كبيرا.
__________________
سورة يوسف
[فيها اثنتان وعشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (قالَ يا بُنَيَّ لا
تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ
لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
حقيقة الرؤيا ، وهي حالة شريفة جعلها الله للخلق بشرى كما تقدم. وقال صلى الله
عليه وسلم : لم يبق بعدي من المبشّرات إلا الرؤيا ، وحكم بأنها جزء من سبعين جزءا
من النبوة. واختلف الناس فيها ، فأنكرتها المعتزلة لأنها ليست من الشريعة في شيء. وقد
اتفقت الأمم عليها مع اختلافهم في الآراء والنّحل.
واختلف علماؤنا في
حقيقتها ، فقال القاضي ، والأستاذ أبو بكر : إنها أوهام وخواطر واعتقادات.
وقال الأستاذ أبو
إسحاق : هي إدراك حقيقة ، وحمل القاضي والأستاذ ذلك على رؤية الإنسان لنفسه يطير وهو قائم ، وفي المشرق وهو في المغرب ، ولا يكون ذلك إدراكا حقيقة.
وعوّل الأستاذ أبو
إسحاق على أن الرؤيا إدراك في أجزاء لم تحلها الآفة ، ومن بعد عهده بالنوم استغرقت
الآفة أجزاءه ، وتقلّ الآفة في آخر الليل. وقال : إن الله سبحانه يخلق له علما
ناشئا ، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصحّ الإدراك ، فإذا رأى شخصا وهو في طرف
العالم فالموجود كأنه عنده ، ولا يرى في المنام إلا ما يصحّ إدراكه في اليقظة ،
ولذلك لا نرى شخصا قائما قاعدا في المنام بحال ، وإنما يرى الجائزات الخارقة
للعادات ، أو الأشياء المعتادات ، وإذا رأى نفسه يطير أو يقطع يده أو رأسه فإنما
رأى غيره على مثاله ، وظنّه من نفسه ، وهذا معنى قول القاضي الأستاذ أبى بكر :
إنها أوهام ، ويتفقون في هذ
__________________
الموضع وإلى هذا
المعنى وقع البيان بقوله [عليه السلام] :
من رآني في المنام
فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثّل بي ، فإن المرء يعلم قطعا أنه لم ير الذات
النبوية ولا العين المرسلة إلى الخلق ، وإنما رأى مثالا صادقا في التعبير عنه ،
والخبر به ، إذ قد يراه شيخا أشمط ، ويراه شابّا أمرد ، وبيّن صلى الله عليه وسلم هذا المعنى
بيانا زائدا ، فقال : من
رآني فقد رأى الحقّ، أى لم يكن تخييلا ولا تلبيسا ولا شيطانا ، ولكن الملك يضرب الأمثلة على أنواع
، بحسب ما يرى من التشبيه بين المثال والممثّل به ، إذ لا يتكلم مع النائم إلا
بالرمز والإيماء في الغالب ، وربما خاطبه بالصريح البيّن ، وذلك نادر. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : رأيت
سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة ، فأوّلتها الحمى ، ورأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر ،
فأوّلتها رجل من أهلى يقتل ، والبقر نفر من أصحابى يقتلون ، ورأيت أنى أدخلت يدي
في درع حصينة فأوّلتها المدينة ، ورأيت في يدي سوارين فأولتهما كذّابين يخرجان
بعدي ، إلى غير ذلك مما ضربت له به الأمثال.
ومنها ما يظهر
معناه أولا ، ومنها ما لا يظهر [معناه] إلا بعد الفكر.
وقد رأى النائم في
زمان يوسف بقرا فأوّلها يوسف السّنين ، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأوّل
الشمس والقمر أبويه ، وأوّل الكواكب الأحد عشر إخوته الأحد عشر ، وفهم يعقوب مزيّة
حاله ، وظهور خلاله ، فخاف عليه حسد الإخوة الذي ابتدأه ابنا آدم ، فأشار عليه
بالكتمان.
فإن قيل : فقد كان
يوسف في وقت رؤياه صغيرا ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرؤياه حكم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول ـ أن الصغير
يكون الفعل منه بالقصد ، فينسب إلى التقصير ، والرؤيا لا قصد فيها ، فلا ينسب
تقصير إليها.
الثاني ـ أنّ
الرؤيا إدراك حقيقة كما بيناه ، فيكون من الصغير كما يكون منه الإدراك
__________________
الحقيقي في اليقظة
، وإذا أخبر عمّا رأى صدق ، فكذلك إذا أخبر عما رأى في المنام تأول.
الثالث ـ أن خبره
يقبل في كثير من الأحكام ، منها الاستئذان فكذلك في الرؤيا.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) حكم بالعادة من الحسادة بين الإخوة والقرابة كما تقدّم بيانه ، والحكم بالعادة أصل
يأتى بيانه إن شاء الله بعد. وقيل : إنّ يعقوب قد كان فهم من إخوة يوسف حسدا له
بما رأوا من شغف أبيه به ، فلذلك حذّره.
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : هذا يدلّ على معرفة يعقوب بتأويل الرؤيا ، لأنّ نهيه لابنه عن ذكرها
، وخوفه على إخوته من الكيد له من أجلها علم بأنها تقتضي ظهوره عليهم وتقدمه فيهم
، ولم يبال بذلك يعقوب ، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه ، والأخ لا يودّ ذلك
لأخيه.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ
عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا
صادِقِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : هذا يدلّ على أن بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله ، لاحتمال أن يكون
تصنّعا ، ومن الخلق من يقدر على ذلك ، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل : إنّ الدمع
المصنوع لا يخفى ، كما قال حكيم :
إذا اشتبكت دموع في خدود
|
|
تبيّن من بكى
ممن تباكى
|
والأصحّ عندي أن
الأمر مشتبه ، وأن من الخلق في الأكثر من يقدر من التطبع على ما يشبه الطبع.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (إِنَّا ذَهَبْنا
نَسْتَبِقُ).
اعلموا وفقكم الله
أنّ المسابقة شرعة في الشريعة ، وخصلة بديعة ، وعون على الحرب ، وقد فعله
النبىّ صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله ، فروى أنه سابق عائشة فسبقها ،
__________________
فلما كبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته ، فقال لها : هذه بتلك.
وروى أنه سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء ، وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لا تضمر من الثنية إلى مسجد بنى
زريق ، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.
وقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سابق بين
العضباء وغيرها ، فسبقت العضباء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
حق على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه.
وفي ذلك من
الفوائد رياضة النفس والدواب ، وتدريب الأعضاء على التصرف ، ولا مسابقة إلا بين الخيل
والإبل خاصة.
المسألة الثالثة ـ
يجوز الاستباق من غير سبق يجعل ، ويجوز بسبق ، فإن أخرج أحد المتسابقين سبقا على أن
يأخذه الآخر إن سبق ، وإن سبق هو أخذه الذي يليه ، فإنه جائز عند أكثر العلماء.
وقاله مالك : وروى ابن مزيد عن مالك أن يأخذه من حضر ، فذلك أيضا جائز ، وإن كان
على أن يأخذه الخارج إن سبق ففيه ثلاث روايات : كرهه مالك ، وقال ابن القاسم : لا
خير فيه ، وجوّزه ابن وهب ، وبه أقول ، لأنه لا غرر فيه ، ولا دليل يحرّمه.
قال علماؤنا :
وهذا إن كان بينهما محلّل ، على أنه إن سبق أخذ منهما أو من أحدهما ، وإن سبق لم
يكن عليه شيء جاز ، جوّزه ابن المسيب ومالك في أحد قوليه ومنعه في الآخر ، ولا
يشترط فيه معرفة أحد بحال فرس صاحبه ، بل يجوز على الجهالة ولهما حكم القدر ،
ومسائل السباق في الفروع مستوفاة.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ إنما
أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم ، فروى في الإسرائيليات أن الله تعالى قرن
بهذه العلامة علامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التّلبيب ، والعلامات إذا
تعارضت تعيّن الترجيح ، فيقضى بجانب الرجحان ، وهي قوة التهمة لوجوه تضمّنها
القرآن ، منها طلبهم إياه شفقة ، ولم يكن من فعلهم ما يناسبها ، فيشهد بصدقها ، بل
كان سبق ضدها ، وهي تبرّمهم به.
ومنها أن الدم
محتمل أن يكون في القميص موضوعا ، ولا يمكن افتراس الذئب ليوسف ، وهو لابس للقميص ويسلم القميص من تخريق ، وهكذا يجب على الناظر أن
يلحظ الأمارات [والعلامات] وتعارضها.
المسألة الثانية ـ
القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب : (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
ولا خلاف في الحكم
بالتّهمة ، وإنما اختلف الناس في [التأثير في] أعيان التهم حسبما يأتى منثورا في المسائل الأحكامية في
هذا الكتاب ، ولذلك قالوا له : (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) : أى تهمتك لنا بعظم محبتك تبطل عندك صدقنا ، وهذا كلّه
تخييل.
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : كان في قميص يوسف ثلاث آيات : جاءوا عليه بدم كذب ، وقدّ من دبر ،
وألقى على وجه يعقوب فارتدّ بصيرا.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
ابن وهب : حدثني مالك قال : طرح يوسف في الجبّ وهو غلام ، وكذلك روى ابن القاسم
عنه ـ يعنى أنه كان صغيرا. والدليل عليه قوله [تعالى]: (لا تَقْتُلُوا
__________________
يُوسُفَ
وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) ولا يلتقط الكبير . وقوله : (وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) ، وذلك أمر يختص بالصّغار ، فمن هاهنا أخذ مالك وغيره أنّه
غلام.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَأَسَرُّوهُ
بِضاعَةً).
قيل : الضمير في «أسرّوه»
يرجع إلى الملتقطين.
وقيل : يرجع إلى
الإخوة ، فإن رجع إلى الإخوة كان معنى الكلام أنهم كتموا أخوّته ، وأظهروا
مملوكيته ، وقطعوه عن القرابة إلى الرق. وإن عاد الضمير إلى الملتقطين كان معنى
الكلام أنهم أخفوه عن أصحابهم ، وباعوه دون علمهم بضاعة اقتطعوها عنهم ، وجحدوها
منهم ، وساعد يوسف على ذلك كله تحت التخويف والتهديد.
وروى عن الحسن بن
علىّ أنه قضى بأن اللقيط
حرّ ، وقرأ : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ).
وكذلك يروى عن
علىّ وجماعة. وقال إبراهيم : إن نوى رقّه فهو مملوك ، وإن نوى الحسبة فيه فهو حرّ.
وقد روى الزهري
قال : كنت عند سعيد بن المسيّب فحدثه سنين أبو جميلة ، قال : وجدت منبوذا على عهد
عمر ، فأخذته فانطلق عريفى ، فذكره لعمر ، فدعاني عمر والعريف عنده ، فلما رآني
مقبلا قال : عسى الغوير أبؤسا. قال الزهري : مثل كان أهل المدينة يضربونه . قال عريفى : يا أمير المؤمنين ، إنه لا يتهم به ، فقال لي
: علام أخذت هذا؟ قلت : وجدته نفسا بمضيعة ، فأحببت أن يأجرنى الله. قال : هو حرّ
وولاؤه لك ورضاعته علينا.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ).
فيها خمس مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ يقال
: شريت بمعنى بعت ، وشريت بمعنى اشتريت لغة ، والبخس : الناقص ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ، وهي :
المسألة الثانية ـ
وقيل في بخس إنه بمعنى حرام ، ولا وجه له ، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف
ثمنه بالقيمة ، لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه ،
وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلوّ وجه أبيهم عنه. وإن كان الذين باعوه هم
الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا ، أو قالوا لأصحابهم : أرسل معنا بضاعة ، فرأوا أنه لم
يعطوا عنه ثمنا ، وأن ما أخذوا فيه ربح كلّه.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ).
إخوته أو الواردة
على التقديرين المتقدمين ، لم يكن عندهم أمره عبيطا لا عند الإخوة ، لأن مقصدهم زوال عينه لا ماله ، ولا عند
الواردة ، لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم ، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد
أولى.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ).
وذلك يدل على أن
الأثمان كانت تجرى عندهم عددا لا وزنا ، وأصل النقدين الوزن لقوله صلى الله عليه
وسلم : لا تبيعوا الذهب
بالذهب ولا الفضة بالفضة إلّا وزنا بوزن ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. ولأنه لا فائدة فيها إلا المقدار ، فأما عينها فلا منفعة
فيه ، ولكن جرى فيها العدد تخفيفا عن الخلق ، لكثرة المعاملة ، فيشقّ الوزن ، حتى
لو ضربت مثاقيل ودراهم لجاز بيع بعضها ببعض عددا إذا لم يكن فيها
نقصان [ولا رجحان] ، لأن خاتم الله عليها في التقدير حتى ينقص وزنها من نقص ،
ويفضّ خاتم الله من فضّ ، فيعود الأمر إلى الوزن ، ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها
من الفساد في الأرض ، حين كان حكم جريانها العدد.
المسألة الخامسة ـ
إنما كان أصل اللّقيط الحرية ، لغلبة الأحرار على العبيد ، فيقضى بالغالب ، كما
حكم بأنه مسلم أخذا بالغالب. فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون فقال
__________________
ابن القاسم : يحكم
بالأغلب ، وقال غيره : لو لم يكن فيها إلّا مسلم واحد قضى للقيط بالإسلام ، تغليبا
لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى [عليه] . وما ذكره ابن القاسم أولى ، وقد بيناه في كتاب المسائل ،
والله أعلم.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ
وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً) :
هذا يدلّك على أن
التبنّي كان أمرا معتادا عند الأمم ، وسيأتى بيانه إن شاء الله.
المسألة الثانية ـ
روى عن ابن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة :
عزيز مصر ، حين
قال لامرأته : أكرمى مثواه ... إلخ.
الثاني ـ بنت شعيب في فراسة موسى حين قالت : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
الثالث ـ أبو بكر
حين ولى عمر قال : أقول لربي ولّيت عليهم خيرهم.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضى الله عنه : عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر! والفراسة هي
علم غريب حدّه وحقيقته ـ كما بيناه في غير موضع ـ الاستدلال بالخلق على الخلق فيما
لا يتعدى المتفطّنون إلى غير ذلك من الصيغ والأغراض ، فأما أمر العزيز فيمكن أن
يجعل فراسة ، لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة.
وأما بنت شعيب
فكانت معها العلامة البينة. أما القوة فعلامتها رفع الحجر الثقيل الذي لا يستطيع
أحد أن يرفعه ، وأما الأمانة فبقوله لها ـ وكان يوما رياحا : امشى خلفي لئلا تصفك
الريح بضم ثوبك لك ، وأنا عبراني لا أنظر في أدبار النساء.
__________________
وأما أبو بكر في
ولاية عمر فبالتجربة في الأعمال ، والمواظبة على الصحبة [وطولها] ، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنّة ، وليس ذلك من طريق الفراسة. والله أعلم.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (أَشُدَّهُ).
في لغته خمسة
أقوال :
الأول ـ أنه جمع
لا واحد له ، كالأصر والأشر.
الثاني ـ أنّ
واحده شدّة كنعمة وأنعم ، قاله سيبويه.
الثالث ـ واحده شد
، كقولك قدّ وأقدّ.
الرابع ـ قال يونس
: واحده شد ، وهو يذكر ويؤنث.
الخامس ـ أشد بضم
الهمزة والشين.
المسألة الثانية ـ
في تقديره :
وفي ذلك أقوال
كثيرة من الحلم إلى أربعين سنة ، أمهاتها خمس :
الأول ـ أنه من
الحلم ، قاله الشعبىّ ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، ومالك.
الثاني ـ قال
الزجاج : هو من سبعة عشر عاما إلى أربعين ، وهو الأول بعينه ، إلا أنه رأى أنّ
الحلم من سبعة عشر عاما.
الثالث ـ أنه
عشرون سنة ، قاله الضحاك.
الرابع ـ أنه بضع
وثلاثون ، قاله ابن عباس.
الخامس ـ أنه
أربعون ، يروى عن جماعة.
والصحيح أن الحلم
إلى خمسين سنة ، فإنّ من الحلم يشتدّ الآدمي إلى خمسين ثم يأخذ في القهقرى ، قال
الشاعر :
__________________
أخو خمسين مجتمع
أشدّى
|
|
وتجريبى مداراة
الشؤون
|
المسألة الثالثة ـ
(آتَيْناهُ حُكْماً
وَعِلْماً) :
الحكم هو العمل
بالعلم ، وقد تقدم في سورة البقرة معنى ترتيب (ح ك م). والعمل بمقتضى العلم إنما
يكون بعد البلوغ ، وما قبله في زمان عدم التكليف فإنه فيه معدوم إلا في النادر.
قال الله تعالى في يحيى بن زكريا : (وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا).
قال المفسرون :
قيل له ، وهو صغير : ألا تذهب تلعب؟ قال : ما خلقت للعب. وهذا إنما بيّن الله به حال يوسف من حين
بلوغه بأنه آتاه العلم ، وآتاه العمل بما علم ، وخبر الله صادق ،
ووصفه صحيح ، وكلامه حقّ ، فقد عمل يوسف بما علّمه الله من تحريم الزنا وتحريم
خيانة السيد أو الجار أو الأجنبى في أهله ، فما تعرّض لامرأة العزيز ، ولا أناب
إلى المراودة [بحكم المراودة] ، بل أدبر عنها ، وفرّ منها ، حكمة خصّ بها ، وعملا بمقتضى
ما علمه الله سبحانه ، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في
نسبتهم إليه ما لا يليق به ، وأقلّ ما اقتحموا من ذلك أنه هتك السراويل ، وهمّ
بالفتك فيما رأوه من تأويل ، وحاش لله ما علمت عليه من سوء ، بل أبرئه مما برأه الله منه ، فقال : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً). كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا الذين
استخلصناهم. والفحشاء هي الزنا ، والسوء هو المراودة والمغازلة ، فما ألمّ بشيء
ولا أتى بفاحشة.
فإن قيل : فقد قال
الله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها).
قلنا : قد تقصّينا
عن ذلك في كتاب الأنبياء من شرح المشكلين ، وبيّنا أن الله [سبحانه] ما أخبر عنه أنه أتى في جانب القصة فعلا بجارحة ، وإنما
الذي كان منه الهمّ ، وهو فعل القلب ، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا
، ويقولون : فعل ، وفعل ، والله إنما قال : همّ بها ، لا أقالهم ولا أقلّهم الله
ولا عالهم.
كان بمدينة السلام
إمام من أئمة الصوفية ، وأىّ إمام ، يعرف بابن عطاء ، تكلم يوما على
__________________
يوسف وأخباره حتى
ذكر تبرئته من مكروه ما نسب إليه ، فقام رجل من آخر مجلسه ـ وهو مشحون بالخليقة
من كل طائفة ، فقال له : يا سيدي ، فإذن يوسف همّ وما تمّ. فقال : نعم ، لأن العناية من
ثمّ. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم ، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله ، وجواب
العالم في اختصاره ، واستيفائه. ولذلك قال علماء الصوفية : إن فائدة قوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً) أنّ الله أعطاه العلم والحكمة إبّان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (قالَ هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ
مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : ليست هذه الشهادة من شهادات الأحكام التي تفيد الإعلام عند الحكام ،
ويتفرد بعلمها الشاهد فيطلع عليها الحاكم ، وإنما هي بمعنى أخبر عن علم ما كان عنه القوم غافلين ،
وذلك أن القميص جرت العادة فيه أنه إذا جذب من خلفه تمزّق من تلك الجهة ، وإذا جذب
من قدّام تمزّق من تلك الجهة ، ولا يجذب القميص من خلف اللابس إلا إذا كان مدبرا ،
وهذا في الأغلب ، وإلّا فقد يتمزق [القميص بالقلب من ذلك] إذا كان الموضع ضعيفا.
المسألة الثانية ـ
يتكلم الناس في هذا الشاهد من أربعة أوجه :
الأول ـ الشاهد هو
القميص.
الثاني ـ أنه كان
ابن عمها.
الثالث ـ أنه كان
من أصحاب العزيز.
الرابع ـ أنه كان
صبيّا في المهد.
__________________
فأما إذا قلنا إنه
القميص فكان يصحّ من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدير مقاله ، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور
، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ، ومن
أجلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد : لم تشقّنى. قال : سل من يدقّنى ، ما تركني
ورائي هذا الذي ورائى ، ولكن قوله بعد ذلك : «من أهلها» في صفة الشاهد يبطل أن
يكون القميص. وأما من قال : إنه ابن عمها أو رجل آخر من أصحاب العزيز ، فإنه محتمل
، لكن قوله : «من أهلها» يعطى اختصاصا من جهة القرابة. وأما من قال : إنه كان
صغيرا فهو الذي يروى عن ابن عباس وأنه قد تكلم في المهد أربعة :
عيسى بن مريم ،
وابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، ونقصهم اثنان : أحدهما ـ وهو الذي ذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم في قصة [أصحاب] الأخدود أنهم لما حفرت لهم الأرض ، ورمى فيها بالحطب ،
وأوقدت النار عليها ، وعرض عليهم أن يقعوا فيها أو يكفروا ... الحديث بطوله ،
فوقفت امرأة منهم ، وكان في ذراعها صبيّ فقال لها : يا
أمه ، إنك على الحق. وهذا حديث صحيح ـ خرجه مسلم.
والثاني ـ ما روى أن امرأة كانت ترضع صبيّا في حجرها ،
فمرّ بها رجل له شارة وحوله حفدة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فترك الصبىّ
الثدي ، وقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ومرّ بامرأة وهم يضربونها ويقولون : سرقت ولم تسرق وزنت ولم تزن. فقالت
: اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فترك الصبى الثدي ، وقال : اللهم اجعلنى مثلها.
وأوحى
إلى نبىّ ذلك الزمان أنّ الأول لا خير فيه ، وأنّ هذه يقولون فعلت وهي لم تفعل. هذا معنى الحديث.
فالذي صحّ فيمن تكلّم في المهد أربعة : صاحب الأخدود ، وصاحب جريج ، وعيسى
ابن مريم ، وهذا الصبى الذي تكلم في حجر المرأة بالرد على أمه فيما اختارته وكرهه.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قال بعض [العلماء] المفسرين : لو كان هذا الشاهد طفلا لكان في كلامه في المهد
وشهادته آية ليوسف ، ولم يحتج إلى ثوب ولا إلى غيره. وهذا ضعيف ، فإنه يحتمل أن
يكون الصبىّ يتكلم في المهد منبّها لهم على هذا الدليل الذي كانوا عنه غافلين
، وكانت آية ، كما قال ، تبيّنت بها براءة يوسف من الوجهين : من جهة نطق الصبى ،
ومن جهة ذكر الدليل.
المسألة الرابعة ـ
قال علماؤنا : في هذا دليل على العمل بالعرف والعادة لما ذكر من أخذ القميص مقبلا
ومدبرا ، وما دل عليه الإقبال من دعواها ، والإدبار من صدق يوسف ، وهذا أمر تفرّد
به المالكية كما بيناه في كتبنا.
فإن قيل : هذا شرع
من قبلنا.
قلنا : عنه جوابان
:
أحدهما ـ أن شرع
من قبلنا شرع لنا. وقد بيناه في غير موضع.
الثاني ـ أن
المصالح والعادات لا تختلف فيها الشرائع. أما أنه يجوز أن يختلف وجود
المصالح فيكون في وقت دون وقت ، فإذا وجدت فلا بدّ من اعتبارها. وقد استدل يعقوب بالعلامة ، فروى العلماء أن الإخوة لما ادّعوا أكل
الذئب [له] قال : أرونى القميص. فلما رآه سليما قال : لقد كان هذا
الذئب حليما. وهكذا فاطردت العادة والعلامة ، وليس هذا بمناقض لقوله [عليه السلام]
البينة على المدّعى واليمين على من أنكر. والبينة إنما هي البيان ، ودرجات البيان تختلف بعلامة تارة ، وبأمارة أخرى ،
وبشاهد أيضا ، وبشاهدين ثم بأربع.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).
فيها مسألتان :
__________________
المسألة الأولى ـ أكره
يوسف على الفاحشة بالسجن ، وأقام فيه سبعة أعوام ، وما رضى بذلك لعظيم منزلته
وشريف قدره ، ولو أكره رجل بالسجن على الزنا ما جاز له ذلك إجماعا ، فإن أكره
بالضرب فاختلف فيه العلماء ، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط إثم الزنا وحده.
وقال بعض علمائنا
: إن الإكراه لا يسقط الحدّ ، وهو ضعيف ، فإن الله لا يجمع على عبده العذابين ،
ولا يصرفه بين البلاءين ، فإنه من أعظم الحرج في الدّين ، وصبر يوسف على السجن ،
واستعاذ من الكيد فقال : وإلّا تصرف عنى كيدهنّ ...... الآيتين.
المسألة الثانية ـ
قوله : أحبّ بناء أفعل في التفضيل يكون للمشتركين في الشيء ، ولأحدهما المزيد في المشترك فيه على الآخر ، ولم يكن المدعوّ إليه حبيبا
إلى يوسف ، ولكنه كنحو القول : الجنة أحبّ إلىّ من النار ، والعافية أحب إلى [قلبي]
من البلاء وقد بيناه فيما تقدم من كلامنا.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ، وَأَمَّا الْآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيانِ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
أنّ الفتيين لما صحباه في السجن وكلّماه ، ورأيا فضله وأدبه وفهمه سألاه عن الذي
قالا إنهما رأياه من أمر الخمر والخبز ، فأعرض يوسف عنهما ، وأخذ في حديث آخر
يتكلّم فيه معهما ، فقال لهما : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله ،
وذلك لأن الله كان قد علّمه تأويل الرؤيا ، وذلك بيّن في قوله : ولنعلّمه من تأويل
الأحاديث ، يعنى ما يكون سببا لظهور براءته ومنزلته ، وقد كان أطلعه من الغيوب على
ما يخبر به عن البواطن ، حتى روى أنه كان الملك إذا أراد إهلاك أحد أرسل إليه
طعاما مسموما ، فلما سألاه عما رأيا في المنام من أمر الطعام أعلمهما
أنه يخبرهما بحال كل طعام يأتيهما
__________________
في اليقظة والمنام
، وأقبل يبيّن لهما حال الإيمان والتوحيد وما هو عليه من الحق ، وما كان عليه آباؤه من قبله كذلك ، ونصب
لهما الأدلّة ، ثم عطف على تأويل ما رأيا ، فلما أخبرهما بالتأويل ندما على ما
فعلا ، وقالا : كذبنا ، فقال لهما يوسف : قضى الأمر الذي فيه تستفتيان.
فإن قيل : ومن كذب
في رؤيا ففسرها العابر له ، أيلزمه حكمها؟ وهي :
المسألة الثانية ـ
قلنا : لا يلزمه ، وإنما كان كذلك في يوسف لأنه نبىّ. وقد قال : إنه يكون كذا ويقع كذا ، فأوجد الله ما أخبر كما قال ، تحقيقا لنبوته.
فإن قيل : إنما
مخرج كلام يوسف في أنه يكون كذا إن كانا رأياه.
قلنا : ذلك جائز ،
ولكن الفتيان أرادا اختباره بذلك ، فحقق الله قوله [آية] ، وقابل الهزل بالجد ، كما قال الله [تعالى : «الله] يستهزئ بهم» ... الآية.
فإن قيل : فقد روى
عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ، فقال له :
إنى رأيت كأنى أعشبت ، ثم أجدبت ، ثم أعشبت ، ثم أجدبت. فقال له عمر : أنت رجل
تؤمن ، ثم تكفر ، ثم تؤمن ، ثم تكفر ، ثم تموت كافرا. فقال له الرجل : ما رأيت
شيئا. فقال عمر : قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف.
قلنا : ليست لأحد
بعد عمر ، لأنّ عمر كان محدّثا ، وكان إذا ظنّ ظنا كان ، وإذا تكلم به وقع على ما
ورد في أخباره ، وهي كثيرة ، منها : أنه دخل عليه رجل فقال له : أظنك كاهنا ، فكان
كما ظن ـ خرّجه البخاري.
ومنها : أنه سأل
رجلا عن اسمه ، فقال له أسماء فيها النار كلها ، فقال له : أدرك أهلك فقد احترقوا
، فكان كما قال. والله أعلم.
المسألة الثالثة ـ
هاهنا نكتة بديعة :
وهي أنّ يوسف وإن
كان قال لهما : قضى الأمر الذي فيه تستفتيان ـ فقد قال الله عنه :
__________________
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ، فكيف يقول قضى الأمر ثم يجعل نجاته ظنّا.
وأجاب عنه الناس
من وجهين :
الأول ـ قالوا :
إنما أخبر عنه بالظن ، لأن تفسير الرؤيا ليس بقطع ، وإنما هو ظن ، وهذا باطل ، وإنما يكون
ذلك في حقّ الناس ، فأما في حق الأنبياء فلا ، فإن حكمهم حقّ كيفما وقع.
الثاني ـ إنّ ظنّ
هاهنا بمعنى أيقن وعلم ، وقد يستعمل أحدهما موضع الآخر لغة.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ
ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ اختلف
الناس في الضمير من قوله : (فَأَنْساهُ) هل هو عائد على يوسف أم على الفتى؟
فقيل : هو عائد
على يوسف ، أنساه الشيطان أن يذكر الله ، وذكر الملك ، فعوقب بطول اللّبث في السجن
، وكانت كلمته كقول لوط : (لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً ...) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن
شديد.
وقيل : هو عائد
على الفتى نسى تذكرة الملك ، فدام طول مكث يوسف في السجن ، يدل عليه قوله : (وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما ، وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ).
المسألة الثانية ـ
[فإن قيل :] إن كان الضمير عائدا على يوسف فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى
الشيطان ، وليس له على الأنبياء سلطان؟
قلنا : أما
النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في [وجه واحد هو] جهة الخبر عن الإبلاغ ، فإنهم معصومون فيه نسيانا وذكرا ،
وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه
__________________
فإنه ينسب إلى
الشيطان إطلاقا ، ولكن ذلك إنما يكون فيما يخبر الله به عنهم ، أو يخبرون به عن
أنفسهم ، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم.
المسألة الثالثة ـ
لما تعلّق يوسف بالمخلوق دام مكثه في السجن بضع سنين ، وسيأتى ذلك في تفسير سورة
الروم. قال علماؤنا : البضع من ثلاث إلى عشر ، وعيّنه بعضهم بأنه كان سبع سنين ،
وهي مدة بلاء أيوب.
المسألة الرابعة ـ
فيها جواز التعلّق بالأسباب ، وإن كان اليقين حاصلا ، لأن الأمور بيد مسبّبها ،
ولكنه جعلها سلسلة ، وركّب بعضها على بعض ، فتحريكها سنّة ، والتعويل على المنتهى
يقين. والذي يدلّك على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان ، كما جرى
لموسى صلى الله عليه وسلم في لقاء الخضر. وهذا بيّن فتأمّلوه.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (عِنْدَ رَبِّكَ).
أطلق هاهنا على
السيد اسم الربّ ، لأنه من ربّه يربّه إذا دبره بوجوه التغذية ، وحفظ عليه مراتب
التنمية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا
يقولن أحدكم عبدى وأمتى وليقل فتاي وفتأتي ، ولا يقل ربّى وليقل سيّدى. وقد بيناه في موضعه. ويحتمل أن يكون هذا جائزا في شرع يوسف.
والله أعلم.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى (وَقالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ
كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ فيها
صحة رؤيا الكافر ، ولا سيما إذا تعلّقت بمؤمن ، فكيف إذا كانت آية لنبي ، ومعجزة
لرسول ، وتصديقا لمصطفى للتبليغ ، وحجة للواسطة بين الله وبين العباد.
المسألة الثانية ـ
قالوا أضغاث أحلام ، يعنى أخلاطا مجموعة ، واحدها ضغث : وهو مجموع من حشيش أو حطب.
ومنه قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ).
__________________
وقد روى : الرؤيا
لأول عابر. وقد قالوا أضغاث أحلام ، ولم يكن من صحيح الكلام ، ولا قطع تفسير
الرؤيا إذ لم يأتيها من بابها. ألا ترى أنّ الصديق لما أخطأ في تفسير الرؤيا لم
يكن ذلك حكما عليها ، وإنما ذلك إذا احتملت وجوها من التفسير ، فعيّن بتأويله
أحدها جاز ، ومن تكلم بجهل لا يكون حكما عليها ، وإن أصاب. والحديث الصحيح :
الرؤيا على رجل
طائر ما لم تتحدث بها ، فإذا تحدثت بها سقطت ، ولا تحدّث بها إلا حبيبا أو لبيبا. وهذا
معنى الرؤيا لأوّل عابر ، فإنّه إذا تحدث بها ففسرت نقذ حكمها إذا كان بحق عن علم
، لا كما قال أصحاب الملك ، وأيضا فإنهم لم يقصدوا تفسيرا ، وإنما أرادوا أن يمحوها عن صدر الملك
حتى لا تشغل له بالا.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ).
يحتمل أن يكون
يعلمون بمكانك ، فيظهر عندهم فضلك حتى يكون سبب خلاصك ، فعلى هذا يكون العلم على
بابه ، ويحتمل أن يكون معناه لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا ، ويسمّى علما ، وإن كان
ظنا ، لأنّ الأصل كل ظنّ شرعي يرجع إلى العلم بالدليل القطعي الذي أسند إليه ، وقد
بيّنّاه في أصول الفقه.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ).
وهذا عام لم يقع
السؤال عنه ، فقيل : إن الله زاده علما على ما سألوه عنه إظهارا لفضله وإعلاما
بمكانه من العلم ، ومعرفته. وقيل : أدرك ذلك بدقائق من تأويل الرؤيا لا ترتقى
إليها درجتنا. وهذا صحيح محتمل ، والأول أظهر.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ).
ثبت في الصحيح أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : يرحم
الله لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي. وفي رواية الطبري : يرحم
الله يوسف ، لو كنت أنا المحبوس ، ثم أرسل إلىّ لخرجت سريعا ، إن كان لحليما ذا
أناة.
__________________
وقال صلى الله
عليه وسلم : لقد
عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له ، حين سئل عن البقرات ، ولو كنت مكانه
لما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجونى. لقد عجبت منه حين أتاه الرسول ، لو كنت مكانه
لبادرتهم الباب.
المسألة السادسة ـ
قال علماؤنا : إنما لم يرد يوسف الخروج [من السجن] حتى تظهر براءته ، لئلا ينظر إليه الملك بعين الخائن ، فيسقط
في عينه ، أو يعتقد له حقدا ، ولم يتبين أنّ سجنه كان جورا محضا ، وظلما صريحا ،
وانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى عظيم حلمه ، ووفور أدبه ، كيف قال : ما
بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ ، فذكر النساء جملة ، ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح ، ولا يقع عليها تصريح.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
الملك ليوسف : (إِنَّكَ الْيَوْمَ
لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) : أى متمكن مما أردت ، أمين على ما ائتمنت عليه من شيء ،
أمّا أمانته فلما ظهر من براءته ، وأما مكانته فلأنه ثبتت عفّته ونزاهته.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ).
كيف سأل الإمارة
وطلب الولاية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لسمرة : لا تسأل الإمارة ، وإنك إن سألتها وكلت إليها ، وإن لم تسألها أعنت عليها ، وقد
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نولّى على عملنا من أراده؟
وعن ذلك أربعة
أجوبة :
__________________
الأول ـ أنه لم
يقل : إنى حسيب كريم ، وإن كان كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن
الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. ولا قال: إنى مليح جميل ، إنما قال :
إنى حفيظ عليم ، سألها بالحفظ والعلم لا بالحسب والجمال.
الثاني ـ سأل ذلك
ليوصل إلى الفقراء حظوظهم لا لحظّ نفسه.
الثالث ـ إنما قال
ذلك عند من لا يعرفه ، فأراد التعريف بنفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله : (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ).
الرابع ـ أنه رأى
ذلك فرضا متعيّنا عليه ، لأنه لم يكن هنالك غيره.
فإن قيل ـ وهي :
المسألة الثالثة ـ
كيف استجاز أن يقبلها بتولية كافر ، وهو مؤمن نبىّ؟
قلنا : لم يكن
سؤال ولاية ، إنما كان سؤال تخلّ وترك ، لينتقل إليه ، فإن الله لو شاء لمكّنه
منها بالقتل والموت والغلبة والظهور والسلطان والقهر ، لكن الله أجرى سنّته على ما ذكر في الأنبياء والأمم ، فبعضهم
عاملهم الأنبياء بالقهر [والسلطان] والاستعلاء ، وبعضهم عاملهم الأنبياء بالسياسة والابتلاء ،
يدلّ على ذلك قوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا
مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) حسبما تقدم في سورة الأعراف ، وهي الآية الرابعة عشرة.
الآية الخامسة
عشرة ـ في قوله تعالى : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا
تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
أمره لهم بالتفرّق. وفي ذلك أقوال ، أظهرها أنه تقاة العين ، ولا
__________________
خلاف بين الموحدين
أن العين حقّ ، وهو من أفعال الله موجود ، وعند جميع المتشرعين معلوم ، والبارئ
تعالى هو الفاعل الخالق ، لا فاعل بالحقيقة ولا خالق إلا هو سبحانه وتعالى : (أَمْ جَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ
اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). فليس في الوجود شيء من الفلك إلى الذرة ، ولا من دورانه
إلى حركة واحدة إلا وهي موجودة بقدرته وعلمه ، ومصرّفة بقضائه وحكمه ، فكلّ ما ترى
بعينك أو تتوهّمه بقلبك فهو صنع الله وخلقه ، إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون. ولو
شاء لجعل الكلّ ابتداء من غير شيء ، ولكنه سبّب الأسباب ، وركّب المخلوقات
بعضها على بعض ، فالجاهل إذا رأى موجودا بعد موجود ، أو موجودا مرتبطا في العيان
بموجود ظنّ أنّ ذلك إلى الرابطة منسوب ، وعليها في الفعل محسوب ، وحاش لله ، بل
الكل له ، والتدبير تدبيره ، والارتباط تقديره ، والأمر كلّه له.
ومن أبدع ما خلق النفس ، ركبها في الجسم ، وجعلها معلومة للعبد ضرورة ، مجهولة
الكيفية ، إن جاء ينكرها لم يقدر بما يظهر من تأثيرها على البدن وجودا وعدما ، وإن أراد المعرفة
بها لم يستطع ، فإنه لا يعلم لأى شيء ينسبها ، ولا على أىّ معنى يقيسها ، وضعها
الله المدبّر في البدن على هذا الوضع ليميز الإيمان به ، إذ يعلم بأفعاله ضرورة ، ولا يوصل إلى كيفيته
لعدمها فيه ، واستحالتها عليه ، وذلك هو معنى قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) على أحد التأويلات.
ولها آثار يخلقها
الباري في الشيء عند تعلّقها به ، منها العين وهو معنى يحدث بقدرة الله على جرى
العادة في المعين ، إذا أعجبت منظرته العائن فيلفظ به ، إما إلى عروّ ألم في
المعين ، وإما إلى الفناء ، بحسب ما يقدّره الله تعالى ، ولهذا المعنى نهى العائن
عن التلفظ بالإعجاب ، لأنه إن لم يتكلم لم يضرّ اعتقاده عادة ، وكما أنفذ الباري
من حكمه أن يخلق في بدن المعين
__________________
ألما أو فناء ،
فكذلك سبق من حكمته أنّ العائن إذا برّك أسقط قوله بالبركة قوله بالإعجاب ، فإن لم
يفعل سقط حكمه بالاغتسال.
وقد اعترض على ذلك
الأطباء ، واعتقدوه من أكاذيب النقلة ، وهم محجوجون بما سطّروا في كتبهم من أنّ
الكون والفساد يجرى على حكم الطبائع الأربع ، فإذا شذّ شيء قالوا : هذه خاصّة خرجت من مجرى الطبيعة لا يعرف لها سبب ،
وجمعوا من ذلك ما لا يحصى كثرة ، فهذا الذي نقله الرواة عن صاحب الشريعة خواصّ
شرعية بحكم إلهية ، يشهد لصدقها وجودها كما وصفت ، فإنا نرى العائن إذا برّك امتنع
ضرره ، وإن اغتسل شفى معينه ، وهذا بالغ في فنّه ، فلينظر على التمام في مواضعه من
كتب الأصول وشرح الحديث ، وهذه النبذة تكفى في هذه العارضة.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (ما كانَ يُغْنِي
عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها).
قالوا : هذا يدلّ
على أنه حملهم على التفرق مخافة العين ، ثم قال : وهذا لا يردّ القدر ، إنما هو
أمر تأنس به النفوس ، وتتعلّق به القلوب ، إذ خلقت ملاحظة للأسباب. ويفترق اعتقاد
الخلق ، فمن لحظ الأسباب من حيث إنها أسباب في العادة لا تفعل شيئا ، وإنما هي
علامات فهو الموحّد ، ومن نسبه إليها فلا واعتقدها مدبّرة فهو الجاهل أو الملحد.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ).
الآية فيها ثلاث
مسائل :
المسألة الأولى ـ إنما
جعل السقاية حيلة في الظاهر لأخذ الأخ منهم ، إذ لم يكن ذلك ممكنا له ظاهرا من غير
إذن من الله [ولم يمنع الحيلة] ، والله قادر على الظاهر والباطن ، حكيم في تفصيل الحالين.
فإن قيل ، وهي :
__________________
المسألة الثانية ـ
كيف رضى يوسف أن ينسب إليهم السرقة ولم يفعلوها؟
قيل : عنه ثلاثة
أجوبة :
أحدها ـ أنّ القوم
كانوا سرقوه من أبيه وباعوه ، فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل.
الثاني ـ أنه أراد
أيتها العير حالكم حال السرّاق. المعنى إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك
ولا علمه.
الثالث ـ وهو
التحقيق أنّ هذا كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه وفصله عنهم إليه ، وهو ضرر دفعه
بأقلّ منه.
فإن قيل ـ وهي :
المسألة الثالثة ـ
فكيف استجاز يوسف الحيلولة بين أخيه وأبيه فيزيده حزنا على حزن وكربا
على كرب.
قلنا : إذا استوى
الكرب جاء الفرج.
جواب آخر ـ وذلك
أنه كان بإذن من الله فلا اعتراض فيه.
جواب ثالث ـ وذلك
أنّ الحزن كان قد غلب على يعقوب غلبة لا يؤثر فيها فقد أخيه كل التأثير ، أو لا
تراه لمّا فقد أخاه قال : يا أسفى على يوسف.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (قالُوا نَفْقِدُ
صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : هذا نصّ في جواز الكفالة . وقد قال القاضي أبو إسحاق : ليس هذا من باب الكفالة ،
فإنها ليس فيها كفالة إنسان عن إنسان ، وإنما هو رجل التزم عن نفسه ، وضمن عنها ،
وذلك جائز لغة لازم شرعا ، قال الشاعر :
فلست بآمر فيها
بسلم
|
|
ولكني على نفسي
زعيم
|
__________________
وقال الآخر :
وإنى زعيم إن
رجعت ممّلكا
|
|
بسير ترى منه
الغرانق أزورا
|
قال الإمام أبو
بكر : هذا الذي قاله القاضي أبو إسحاق صحيح ، بيد أنّ الزعامة فيه نص ، فإذا قال : أنا زعيم فمعناه أنى
ملتزم ، وأى فرق بين أن يقول : ألتزمه عن نفسي أو التزمت عن غيرى؟
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) :
إنما يكون في
الحقوق التي تجوز النيابة فيها ، وأما كلّ حقّ لا يقوم فيه أحد عن أحد كالحدود فلا
كفالة فيها. وقد تقدم ذكره ، وتركب على هذا مسألة ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
إذا قال : أنا زعيم لك بوجه فلان. قال مالك : يلزمه. وقال الشافعى : لا يلزمه ،
لأنه غرر ، إذ لا يدرى هل يجده أم لا؟ والدليل على جوازه أنّ المقصود بالزعامة
تنزيل الزعيم مقام الأصل ، والمقصود من حضور الأصل أداء المال ، فكذلك
الزعيم. ومسائل الضمان كثيرة ذكرناها في مسائل الخلاف والفروع.
المسألة الرابعة ـ
كما أنّ لفظ الآية نص في الزعامة فمعناها نص في الجعالة ، وهي نوع من الإجارة ، لكن الفرق بين الجعالة والإجارة أنّ الإجارة يتقدر فيها
العوض والمعوّض من الجهتين ، والجعالة يتقدر فيها الجعل والعمل غير مقدر.
ودليله أنّ الله
سبحانه شرع البيع والابتياع في الأموال لاختلاف الأغراض وتبدل الأحوال ، فلما دعت الحاجة إلى انتقال الأملاك شرع
لها سبيل البيع وبيّن أحكامه ، ولما كانت المنافع كالأموال في حاجة إلى استيفائها
، إذ لا يقدر كلّ أحد أن يتصرف لنفسه في جميع أغراضه نصب الله الإجارة في استيفاء
المنافع بالأعواض ، لما في ذلك من حصول الأغراض ، وأنكرها الأصم ، وهو عن الشريعة
أصم ، فقد فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم الإجارة ، وفعلها الصحابة ، وقد بيناها
في كتب الخلاف.
__________________
المسألة الخامسة ـ
فإذا ثبت هذا فقد يمكن تقدير العمل بالزمان ، كقوله : تخدمنى اليوم. وقد يقول :
تخيط لي هذا الثوب ، فيقدّر العمل بالوجهين ، وقد يتعذّر تقدير العمل ، كقوله : من
جاءني بضالّتى أو جلب عبدى الآبق فله كذا ، فأحد العوضين لا يصح تقديره ، والعوض
الآخر لا بدّ من تقديره ، فإنّ ما يسقط بالضرورة لا يتعدى سقوطه إلى ما لا ضرورة
فيه. والأصل فيه الحديث الذي قدمنا من أخذ الأجرة على الرّقية ، وهو عمل لا يتقدر
، وقد كانت الإجارة والجعالة قبل الإسلام فأقرتهما الشريعة ، ونفت عنهما الغرر
والجهالة. وقد بينا ذلك في كتب المسائل.
المسألة السادسة ـ
في حقيقة القول في الآية :
إنّ المنادى لم
يكن مالكا ، إنما كان نائبا عن يوسف ورسولا له ، فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء
بالصّواع وتحمّل هو به عن يوسف ، فصارت فيه ثلاث فوائد :
الأولى ـ الجعالة
، وهو عقد يتقدّر فيه الثمن ولا يتقدّر فيه المثمن.
الثانية ـ الكفالة
، وهي هاهنا مضافة إلى سبب موجب على وجه التعليق بالشرط. وقد اختلف الناس في فيها اختلافا متباينا تقريره
في المسائل ، وهذا دليل على جوازه ، فإنه فعل نبىّ ، ولا يكون إلا شرعا.
وقد اختلف الناس
في الكفالة ، فجوّزها أصحاب أبى حنيفة محالة على سبب وجوب ، كقوله : ما كان لك على
فلان فهو علىّ ، أو إذا أهلّ الهلال فلك علىّ عنه كذا ، بخلاف أن تكون معلّقة بشرط
محض ، كقوله : إن قدم فلان ، أو إن كلمت زيدا.
وقال الشافعى : لا
يجوز بشيء من ذلك. وهذه الآية نص على جوازها ، محالة على سبب الوجوب.
الثالثة ـ جهالة
المضمون له :
قال علماؤنا : هي
جائزة ، وتجوز عندهم أيضا مع جهالة الشيء المضمون أو كليهما. ومن العجب أنّ أبا
حنيفة والشافعى اتّفقا على أنه لا تجوز الكفالة مع جهالة المكفول له ، وادّعى
أصحاب أبى حنيفة أنّ هذا الخبر منسوخ من الآية خاصة.
__________________
وقال أصحاب
الشافعى : هذه الآية دليل على جواز الجعل ، وهي شرع من قبلنا ، وليس لهم فيه تعلق في مذهب.
وقال أصحاب
الشافعى : إنّ معرفة المضمون عنه والمضمون له فيه ثلاثة أقوال :
أحدها ـ أنه لا
بدّ من معرفتهما ، أمّا معرفة المضمون عنه فليعلم. هل هو أهل للإحسان أم لا؟ وأمّا
معرفة المضمون له فليعلم هل يصلح للمعاملة أم لا؟
الثاني ـ أنه
افتقر إلى معرفة المضمون خاصة ، لأن المعاملة معه خاصة.
الثالث ـ أنه لا
يفتقر إلى معرفة واحد منهما ، وهو الصحيح ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث أبى قتادة أنه ضمن عن الميت ولم يسأله النبىّ عن المضمون له ولا عن
المضمون عنه. والآية نصّ في جهالة المضمون له ، وحمل جهالة المضمون عنه عليه أخفّ.
والله أعلم.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (قالُوا فَما جَزاؤُهُ
إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ. قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ
جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ
أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما
كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ
دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ لما
قال إخوة يوسف : (تَاللهِ لَقَدْ
عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) قال أصحاب يوسف : (فَما جَزاؤُهُ إِنْ
كُنْتُمْ كاذِبِينَ)؟ فقال إخوة يوسف : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ
فِي رَحْلِهِ).
قال الطبري :
المعنى جزاؤه من وجد في رحله ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، التقدير
جزاؤه استعباد من وجد في رحله ، أو أخذه واسترقاقه ، أو ما أشبه ذلك.
__________________
وقال غيره :
التقدير جزاء السارق من وجد في رحله فهو جزاء ، ويكون جزاؤه الأول الابتداء ، والجملة بعده الخبر ، المعنى من وجد في رحله فهو هو ،
وكرره تأكيدا للبيان. كما قال الشاعر :
لا أرى الموت
يسبق الموت شيء
|
|
نغص الموت ذا
الغنى والفقيرا
|
المسألة الثانية ـ
في تحقيق هذا الكلام بالتفسير :
وذلك أنّ دين
الملك كان أن يأخذ المجنىّ عليه من السارق مثلي السرقة ، وكان دين يعقوب أن يسترقّ
السارق ، فأخذ يوسف إخوته بما في دين يعقوب بإقرارهم بذلك وتسليمهم فيه.
وقد روى عن مجاهد
أنّ عمة يوسف بنت إسحاق ، وكانت أكبر من يعقوب ، صارت إليها منطقة إسحاق لسنّها ،
لأنهم كانوا يتوارثونها بالسنّ ، وكان من سرقها استملك ، وكانت عمة يوسف قد حضنته
وأحبّته حبّا شديدا ، فلما ترعرع قال لها يعقوب : سلّمى يوسف إلىّ ، فلست أقدر أن
يغيب عن عيني ساعة. قالت له : دعه عندي أياما أنظر إليه فلعلي أتسلّى عنه. فلما
خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فخرمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت
: لقد فقدت منطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ، ومن أصابها. فالتمست ، ثم قالت :
اكشفوا أهل البيت ، فكشفوا فوجدت مع يوسف. فقالت : والله إنه لي سلم أصنع فيه ما شئت. ثم أتاها يعقوب ، فأخبرته الخبر ، فقال
لها : أنت وذاك ، إن كان فعل فهو سلم لك ، فأمسكته حتى ماتت ، فبذلك عيّره إخوته
في قولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، معناه أنّ القرابة شجنة والصحابة شجنة .
ومن هاهنا تعلّم
يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت عمّته به.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا
لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ). إذ كان لا يرى استرقاق السارق إلا أن يشاء الله ، فكيف
التزام الإخوة لدين يعقوب بالاسترقاق ، فقضى عليهم به ، والكيد والمكر هو الفعل
الذي يخالف فيه الباطن الظاهر ،
__________________
والقول الذي يحتمل
معنيين ، فيتأوّله أحد المتخاطبين على وجه والآخر على وجه آخر.
المسألة الرابعة ـ
قد ذكرنا في سورة المائدة أنّ القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع ، إذ كان
في شرع يعقوب استرقاق السارق كما تقدم ، ولا نعلم ما نفذ به الحكم في شرع يعقوب هل
كان مخصوصا بعين مسروقة دون عين أم عامّا في كل عين؟ والأول أصح ، لأنه ثبت في
الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن بنى إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا
عليه الحدّ ، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وهذا نصّ
في الغرض ، موضّح للمقصود ، فافهموه.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (كَذلِكَ كِدْنا
لِيُوسُفَ).
فيه جواز التوصل
إلى الأغراض بالحيل ، إذا لم تخالف شريعة ولا هدمت أصلا ، خلافا لأبى حنيفة في
تجويزه الحيل ، وإن خالفت الأصول وخرمت التحليل ، سمعت أبا بكر محمد ابن الوليد
الفهري وغيره يقول : كان شيخنا قاضى القضاة أبو عبد الله محمد بن علىّ الدامغاني
صاحب عشرات آلاف من المال ، فإذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم : قد كبرت سنى ،
وضعفت قوتي ، وهذا مال لا أحتاجه ، فهو لكم ، ثم يخرجه ، ويحتمله الرجال على
أعناقهم إلى دور بنيه ، فإذا جاء رأس الحول ، ودعا بنيه لأمر قالوا : يا أبانا
إنما أملنا حياتك ، وأما المال فأىّ رغبة لنا فيه ما دمت حيا ، أنت ومالك لنا ،
فخذه إليك. ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه ، فيرده إلى موضعه ـ يريد بتبديل
الملك إسقاط الزكاة على رأى أبى حنيفة في التفريق بين المجتمع ، والجمع بين
المفترق ، وهذا خطب عظيم بيّناه في شرح الحديث ، وقد صنّف البخاري عليه في جامعه
كتابا مقصودا .
المسألة السادسة ـ
قال بعض علماء الشافعية : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) دليل على جواز الحيلة في التوصّل إلى المباح واستخراج
الحقوق.
قال القاضي الإمام
أبو بكر رضى الله عنه : هذا وهم عظيم.
وقوله : وكذلك
مكنّا ليوسف في الأرض قيل فيه : كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن
__________________
امرأة العزيز
مكنّا له ملك الأرض عن العزيز أو مثله مما لا يشبه ما ذكره. قال الشفعوى : ومثله : (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ).
قال الإمام الفقيه
القاضي أبو بكر بن العربي رضى الله عنه : ليس هذا حيلة ، إنما هو حمل لليمين على
الألفاظ أو على المقاصد ، وقد بيناه في كتب المسائل. قال الشفعوى : وحديث أبى
سعيد في عامل خيبر ـ [قال الإمام ابن العربي : نص هذا الحديث] أن عامل خيبر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكلّ تمر خيبر
هكذا؟ قال : لا ، يا رسول الله ، ولكنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين من تمر الجمع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعل ، بع
الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا ، وكذلك اليسر ـ خرّجه الأئمّة.
ومقصود الشافعية
من هذا الحديث أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع جمعا ويبتاع جنيبا من
الذي باع منه الجمع أو من غيره.
قال المالكية :
معناه من غيره ، لئلا يكون جنيبا بجمع ، والدراهم ربا ، كما قال ابن عباس : جريرة
بجريرة والدراهم ربا. قال الشفعوى : ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
قال القاضي : قالت هند للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّ أبا سفيان رجل مسيك لا يعطيني ما يكفيني وولدي. قال لها النبي صلى الله عليه
وسلم : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وهذا من باب
الفتوى وتسليط المفتي للمستفتى على حكم الدعوى ، فهو أعلم بنفسه ، وربه أعلم من الكل بكذبه أو صدقه ، ولا حيلة في شيء من هذا.
وعجبا لمن يتصدّى
للإمامة ، ويتميّز في الفرق بالزعامة ويأتى بهذا السّفساف من المقال.
قال القاضي : وزاد
بعد ذلك من معاريض النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب ما هو خارج
__________________
عن هذا الغرض على
خط لا يجتمع مع هذا المقصد في دائرة الأفق ، فكيف في مقدار من التقابل أصغر من
تفق.
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ الشهادة
مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا ، فلا تسمع إلّا ممن علم ، ولا تقبل إلا منه. ومراتب
العلم في طرقه مختلفة ، ولكنه يعود إلى أصل واحد ، وهو تعلّقه بالمعلوم على ما هو
به ، فإذا نسى الشهادة فذكّر بها وتذكّرها أدّاها ، وذلك لقول الله سبحانه : (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). وإذا لم يذكرها لم يؤدّها على أحد التأويلين كما تقدم في
سورة البقرة.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا : إن عرف خطه ولم يذكر الشهادة قالوا : يؤدّيها ولا يمتنع أن يؤدّى منها ما علم وهو خطّه ، ويترك ما لم يعلم ، وقد
بيناها في سورة البقرة فلينظر فيها .
المسألة الثالثة ـ
إذا ادّعى الرجل شهادة لا يحتملها عمره ولا حاله ردّت ، لأنه ادّعى باطنا ما كذّبه
العيان ظاهرا.
المسألة الرابعة ـ
شهادة المرور ، وهو أن يقول : مررت بفلان فسمعته ، فإن استوعب القول شهد في أحد
قولي مالك ، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه.
والذي نختاره
الشهادة عند الاستيعاب ، وبه قال جماعة من العلماء. وهو الحقّ ، لأنه قد حصل له
المطلوب ، وتعيّن عليه أداء العلم ، وكان خير الشهداء إذا أعلم المشهود له ، وشرّ
الشهداء إذا كتمها.
المسألة الخامسة ـ
وكذلك اختلف علماؤنا إذا جلس رجلان للمحاسبة ، فأبرز الحساب بينهما ذكرا هل يشهد
به من حضره ، وقد كلف ذلك وأجلس له؟ والصحيح وجوب الأداء عليه ، لأنه قد حصل له
علمه.
__________________
المسألة السادسة ـ
إذا أجلس رجل شاهدين من وراء حجاب وكلّمه وقرّره فاستوعبا كلامه ، فقال في كتاب
محمد : لا يثبت ذلك ، ويحلف أنه ما أقر إلا بأمر كذا يذكره ، فإن نكل لزمه ما يشهد
به. والأصل في الباب ما قدمناه من تحصيل العلم. والله أعلم.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ حدّث
مالك عن حزن يعقوب إنه حزن سبعين ثكلى. قيل : فما أعطى؟ قال : أجر سبعين شهيدا. قال مالك : قال يوسف
لما حضرته الوفاة : ما انتقمت لنفسي من شيء أتى إلىّ ، فذلك زادي اليوم من الدنيا
، وإنّ عملي لا حق بعمل آبائي ، فألحقوا قبري بقبورهم.
قال علماؤنا :
يريد مالك بالكلام الثاني قول يوسف لإخوته : (لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، أى لا تبكيت ولا
مؤاخذة لكم بما فعلتم ، لأن شفاء الغيظ والجزاء بالذنب في الدنيا من عمل الدنيا لا
حظّ له في الآخرة ، وذلك قول يوسف : ما انتقمت لنفسي من شيء أتى إلىّ ، فذلك زادي
اليوم من الدنيا ، وإن عملي لا حق بعمل آبائي ، أى في الصفح والإحسان ، وهو فعل أهل النبوة صلى الله عليهم وسلم.
المسألة الثانية ـ
قوله : «ألحقوا قبري بقبور آبائي» شاهدناه سنة سبع وثمانين ، وجاوزنا فيه [أعواما
و] أياما آمنين في نعم فاكهين ، وعلى الدرس والمناظرة متقابلين ، وهو في قرية
جيرون التي كانت لإبراهيم الخليل بينها وبين المسجد الأقصى ستة فراسخ في سفح الجبل
الذي كان فيه بيت رامة متعبّد إبراهيم [الخليل عليه السلام] ، المشرف على مدائن لوط ، وفي وسط القرية بنيان مرصوص من
حجارة عظام سورا عظيما ، في داخله مسجد ، في الجانب الغربي منه مما يلي القبلة
إسحاق ، ويليه في الجانب المذكور إبراهيم الخليل ، ويليه في الطرف
__________________
الجوّانى من الجانب الغربي يعقوب على نسبة متماثلة. وفيما يقابلها
من الجانب الشرقي قبور أزواجهم على الاعتدال ، على كل قبر حجر عظيم واحد له الطول
والعرض والعمق ، حسبما بيناه في كتاب ترتيب الرحلة. وفي الجانب القبلي منه خارج
هذا الحرم قبر يوسف منتبذا ، كان له قيّم طرطوشى زمن ، وله أمّ تنوب عنه ، وهيئة قبر يوسف صلى الله عليه
وسلم كهيئة قبورهم. وهذا أصحّ الأقاويل في موضع قبره لأجل ذكر مالك له ، فلم يذكر
رضى الله عنه إلا أشبه ما اطلع عليه.
المسألة الثالثة ـ
كان يعقوب حزينا في الدرجة التي قد بيناها ، ولكن حزنه كان في قلبه جبلّة ، ولم
يكتسب لسانه قولا قلقا يخالف الشريعة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ابنه
في صحيح الخبر : تدمع
العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلّا ما يرضى ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.
وقال أيضا في
الصحيح صلى الله عليه وسلم : إنّ
الله لا يعذّب بدمع العين ، ولا يحزن القلب ، وإنما يعذب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ،
أو يرحم. وهو تفضّل منه ،
سبحانه ، حين علم عجز الخلق عن الصبر ، فأذن لهم في الدمع والحزن ، ولم يؤاخذهم به
وخطم الفم بالزمام عن سوء الكلام فنهى عما نهى ، وأمر بالتسليم والرضا لنافذ
القضاء ، وخاصة عند الصدمة الأولى. وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال
البلوى ، وذلك قول يعقوب : (إِنَّما أَشْكُوا
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من جميل صنعه وغريب لطفه وعائدته على عباده.
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ
مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ).
فيها خمس مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ القول
في البضاعة :
قد تقدم ذكر معنى
البضع في البضع آنفا.
المسألة الثانية ـ
قوله : (مُزْجاةٍ).
فيها قولان :
أحدهما ـ يعنى
قليلة ، إما لأنه متاع البادية الذي لا يصلح للملوك ، وإما لأنه لا سعة فيه ، إنما
يدافع به المعيشة ، من قولك : فلان يزجى كذا أى يدفع ، قال الشاعر :
الواهب المائة
الهجان وعبدها
|
|
عوذا تزجّى
خلفها أطفالها
|
يعنى تدفع.
الثاني ـ قال مالك
: مزجاة تجوز في كل مكان ، فهي المزجاة ـ رواه الحارث بن مسكين ، عن ابن القاسم ،
عن مالك.
ولا أدرى ما هذا ،
إلا أن يكون من باب جبذ وجذب ، وإلا فالله أعلم بصحة الرواية فيه.
وقد فسرها بعضهم
بأنها البطم والصنوبر ، والبطم هو الحبة الخضراء.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا).
المعنى جئنا
بقدرنا ، فأعطنا بقدرك ، تضاءلوا بالحاجة ، وتمسكنوا بفادحة المصيبة في الأخوين ،
وما صار إليه أمر الأب بعدهما.
المسألة الرابعة ـ
قال ابن القاسم ، وابن نافع ، عن مالك : قالوا ليوسف : فأوف لنا الكيل ، فكان يوسف
هو الذي يكيل ، إشارة إلى أنّ الكيل والوزن على البائع ، لأنّ الواجب عليه تمييز
حق المشترى من حقه ، إلا أن يبيع منه معيّنا صبرة أو ما لا حق توفية فيه ، فقبل أن يوفى فما جرى على المبيع
فهو منه ، ولذلك قال علماؤنا : أجرة الكيل على البائع ، وأجرة النقد على المبتاع ، لأن الدافع لدراهمه يقول : إنها طيبة فأنت
الذي تدعى الرداءة فانظر لنفسك ، فإن خرج فيها رديء كانت الأجرة على الدافع ،
والله أعلم.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا).
قال علماؤنا : لما
علموا أنّ بضاعتهم غير مرضية قالوا : اجعلها حباء إن لم تكن شراء. وقال آخرون منهم : طلبوا منه وفاء الكيل
والصدقة بعد ذلك ، وكلّ ما كان صدقة أو هبة يتبع البيع فإنه يلحق به في إحدى
الروايتين ، وكذلك النكاح ، وبه قال أبو حنيفة ، ولا يلحق به في الرواية الأخرى ،
وبه قال الشافعى. وهي مسألة طيولية قد بيّناها في مسائل الخلاف.
فإن قيل : فكيف
جاز لهم أن يطلبوا الصدقة وهم الأنبياء.
قلنا : عنه خمسة
أجوبة :
أحدها ـ لا يعلم
العلماء أنهم أنبياء ، وآمنّا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
الثاني ـ أنهم لم
يكونوا بعد أنبياء.
الثالث ـ أنه لا
يعلم حالهم مع الصدقة في شرعهم ، فلعل ذلك كان مباحا لهم.
الرابع ـ معنى
تصدق سامح ، لا أصل الصدقة.
الخامس ـ قيل :
تصدّق علينا بأخينا. وبالقولين الأخيرين أقول. والله أعلم.
الآية الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ : يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ
رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ
أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ
الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ
هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
قال العلماء : كان
هذا سجود تحية لا سجود عبادة ، وهكذا كان سلامهم بالتكبير وهو الانحناء ، وقد نسخ
الله في شرعنا ذلك ، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء والقيام. ومنه الحديث قال
النبىّ صلى الله عليه وسلم : إذا
أصبح ابن آدم كفرت أعضاؤه اللسان ، تقول له : اتّق الله فينا ، فإنك إن استقمت
استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا.
__________________
فإن قيل : فما
تقول في الإشارة بالإصبع؟
قلنا : فيه ثلاثة
أوجه :
أحدها ـ أنّ
اللسان يكفى في السلام ، وأما حركة البدن أو شيء منه فلم يشرع في السلام ، لا
تحريك يد [ولا قدم] ولا قيام بدن.
الثاني ـ أنّ ردّ
السلام فرض ، وابتداؤه سنّة في مشهور الأقوال ، ولكن يجوز القيام للرجل الكبير
بداءة إذا لم يؤثّر ذلك في نفسه ، كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم لجلسائه ـ حين جاء سعد : قوموا إلى سيّدكم ، فإن أثر فيه لم يجز عونه على ذلك ، لما روى : من سره أن يمثل له الرجال قياما فليتبوّأ مقعده من النار.
الثالث ـ أنه يجوز
الإشارة بالإصبع إذا بعد عنك لتعيّن له أو به وقت السلام ، فإن كان دانيا فلا بأس
بالمصافحة ، فقد صافح النبىّ صلى الله عليه وسلم جعفرا ، حين قدم من الحبشة ، وقال
النبىّ صلى الله عليه وسلم : ما
من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما ـ خرجه الترمذي وغيره ، وإن كان كره مالك المصافحة ، لأنه لم
يرها أمرا عامّا في الدين ، ولا شائعا بين الصحابة ، ولا منقولا نقل السلام ، ولو
كان منه لاستوى معه ، وقد بيناه في شرح الحديث.
__________________
سورة الرعد
[فيها خمس آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) : تمدّح من الله سبحانه بعلم الغيب ، والإحاطة بالباطن
الذي يخفى على الخلق ، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد. وأهل الطب يقولون : إذا ظهر
النفخ في ثدي الحامل الأيمن فالحمل ذكر ، وإن ظهر في الثدي الأيسر فالحمل أنثى ،
وإذا كان الثقل للمرأة في الجانب الأيمن فالحمل ذكر ، وإن وجدت الثقل في الجانب
الأيسر فالولد أنثى ، فإن قطعوا بذلك فهو كفر ، وإن قالوا : إنها تجربة وجدناها
تركوا وما هم عليه ، ولم يقدح ذلك في التمدح ، فإنّ العادة يجوز انكسارها والعلم
لا يجوز تبدّله.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَما تَغِيضُ
الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ).
وقد تباين الناس
فرقا ، أظهرها تسعة أقوال :
الأول ـ ما تغيض
الأرحام من تسعة أشهر وما تزيد عليها ، كقوله : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ) ، قاله الحسن.
الثاني ـ ما تغيض
الأرحام : ما تسقط ، وما تزداد ، يعنى عليه إلى التسعة ، قاله قتادة.
الثالث ـ إذا حاضت
الحامل نقص الولد فذلك غيضه ، وإذا لم تحض ثمّ فتلك على النقصان ، قاله مجاهد
وسعيد بن جبير.
الرابع ـ ما تغيض
الأرحام [فتلك] لستة أشهر ، وما تزداد فتلك لعامين ، قالته عائشة.
__________________
الخامس ـ ما تزداد
لثلاثة أعوام ، قاله الليث.
السادس ـ ما تزداد
إلى أربع سنين ، قاله الشافعى ، ومالك في إحدى رواتيه.
السابع ـ قال مالك
في مشهور قوله : إلى خمس سنين.
الثامن ـ إلى ست
سنين ، وسبع سنين ، قاله الزهري.
التاسع ـ لا حدّ
له ، ولو زاد على العشرة الأعوام ، وأكثر منها ، قاله مالك في الرواية الثالثة.
المسألة الثالثة ـ
نقل بعض المتساهلين من المالكيين أنّ أكثر مدّة الحمل تسعة أشهر ، وهذا ما لم ينطق به قطّ إلا هالكيّ : وهم الطبائعيون
الذين يزعمون أن مدبّر الحمل في الرحم الكواكب السبعة تأخذه شهرا شهرا ، ويكون
الشهر الرابع منها للشمس ، ولذلك يتحرك ويضطرب ، وإذا كمل التداول في السبعة الأشهر بين السبعة الكواكب عاد في الشهر
الثامن إلى زحل فيبقله ببرده. فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم . ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟
الله أخبركم [بهذا] أم على الله تفترون؟ وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم
لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع ، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا!
ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة؟ [فمن] نصيرى من هذا الاعتقاد ، وعذيري من المسكين الذي تصوّر
عنده أنّ أكثر مدة الحمل تسعة أشهر! وبالله ويا لضياع العلم بين العالم في هذه
الأقطار الغاربة مطلعا ، العازبة مقطعا!
المسألة الرابعة ـ
فإن قيل : إنّ الحامل لا تحيض ، وهو قول جماعة منهم أبو حنيفة ، لأنّ تماسك الحيض
علامة على شغل الرّحم ، واسترساله علامة على براءة الرحم ، فمحال أن يجتمع مع
الشغل ، لأنه ما كان يكون دليلا على البراءة لو اجتمعا ، ومعنى قوله : الله يعلم
ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد : وما تغيض الأرحام في الدم والحيض في
غير حال الحمل ، وما تزداد بعد غيضها من ذلك ، حتى يجتمع في الرحم.
__________________
فالجواب عنه من
وجهين :
أحدهما ـ أن الدم
علامة على براءة الرحم من حيث الظاهر لا من حيث القطع ، فجاز أن يجتمعا ، بخلاف
وضع الحمل ، فإنه براءة للرحم قطعا ، فلا يجوز أن يجتمع مع الشغل.
الثاني ـ أنّ قوله
في تفسير ما تغيض الأرحام في غير حال الحمل وما تزداد بعد غيضها حتى يجتمع في
الرحم. فإنا نقول : إن الآية عامة في كل غيض وازدياد وسيلان وتوقف ، وإذا سال الدم
على عادته بصفته ما الذي يمنع من حكمه؟ ولا جواب لهم عن هذا.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ إذا
وجد الفعل في الآدمي مع خلق الإرادة فيه كان طوعا ، وإذا وجد الفعل مع عدم الإرادة
كان كرها ، ويأتى تحقيق القول فيه في سورة النحل إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية ـ
اختلف الناس في تفسيرها على أقوال ، جمهورها أربعة :
الأول ـ المؤمن
يسجد طوعا ، والكافر يسجد خوف السيف ، فالأول أبو بكر الصديق آمن طوعا من غير
لعثمة.
والثاني ـ الكافر
يسجد لله ، إذا أصابه الضر يسجد لله كرها ، وذلك قوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) ، يريد عنه وعبدتم غيره.
الثالث ـ قال
الصوفية : المخلص يسجد لله محبة ، وغيره يسجد لابتغاء عوض ، أو لكشف محنة ، فهو الذي يسجد كرها.
الرابع ـ الخلق
كلّهم ساجد ، إلا أنه من سجد بقلبه فهو طوع ، ومن سجد بحاله فهو كره ، إذ الأحوال
تدلّ على الوحدانية من غير اختيار ذي الحال.
قال القاضي أبو
بكر : أمّا من سجد لدفع شرّ فذلك بأمر الله ، هو الذي أمرنا بالطاعة ،
__________________
ووعدنا بالثواب
عليها ، ونهانا عن المعصية ، وأوعد بالعقاب عليها ، وهذا حال التكليف ، فلا يتكلّف
فيها تعليلا إلا ناقص الفطرة قاصر العلم ، وغرض الصوفية ساقط ، وقد بيناه في كتب
الأصول ، فما عبد الله نبىّ مرسل ، ولا ولىّ مكمل إلا طلب النجاة.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ القول
في العهد.
المسألة الثانية ـ
القول في الوفاء به. وقد تقدم شرحهما.
المسألة الثالثة ـ
في تعديد عهود الله ، وهي كثيرة العدد مستمرة [المدد ، و] الأمد ، أعظمها عهدا ، وأوكدها عقدا ما كان في صلب آدم على
الإيمان.
الثاني ـ ما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث ـ ما ربطه
المرء على نفسه عند الإقرار بالشهادتين ، فإنها ألزمت عهودا ، وربطت عقودا ، ووظفت
تكليفا ، وذلك يتعدّد بعدد الوظائف الشرعية ، ويختلف باختلاف أنواعها ، منها
الوفاء بالعرفان ، والقيام بحق الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إلا تره
فإنه يراك. ومنها الانكفاف عن العصيان ، وأقلّه درجة اجتناب الكبائر ، ومن أعظم
المواثيق في الذكر ألّا تسأل سواه ، فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العبّاد
سمع أنّ ناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا يسألوا أحدا شيئا ، فكان
أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه ، فقال أبو حمزة : رب ، إن هؤلاء
عاهدوا نبيّك إذ رأوه ، وأنا أعاهدك ألا سأل أحدا شيئا أبدا. قال : فخرج حاجّا من
الشام يريد مكّة ، فبينا هو يمشى في الطريق بالليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ، ثم
اتبعهم ، فبينا هو يمشى إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق ، فلما حصل في قعره قال : أستغيث ، لعل أحدا يسمعني فيخرجنى ، ثم قال
: إن الّذى عاهدته يراني ويسمعني ، والله لا تكلمت بحرف لبشر ، ثم لم يلبث إلّا
يسيرا إذ مرّ بتلك البئر نفر ، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا : إنه لينبغي
__________________
سدّ هذه البئر ،
ثم قطعوا خشبا ، ونصبوها على فم البئر وغطّوها بالتراب. فلما رأى ذلك أبو حمزة قال
: هذه مهلكة ، فأراد أن يستغيث بهم ، ثم قال : والله لا أخرج منها أبدا ، ثم
رجع إلى نفسه فقال : أليس الذي عاهدت يرى ذلك كله ، فسكت وتوكّل ، ثم استند في قعر البئر مفكّرا في أمره ،
فإذا بالتراب يقع عليه ، والخشب يرفع عنه ، وسمع في أثناء ذلك من يقول : هات يدك.
قال : فأعطيته يدي ، فأقلّني في مرة واحدة إلى فم البئر ، فخرجت ولم أر أحدا ، ثم سمعت هاتفا يقول : كيف رأيت ثمرة التوكل؟ وأنشد :
نهاني حيائى منك
أن أكتم الهوى
|
|
وأغنيتنى بالعلم
منك عن الكشف
|
تلطفت في أمرى
فأبديت شاهدي
|
|
إلى غائبى
واللطف يدرك باللطف
|
تراءيت لي
بالعلم حتى كأنما
|
|
تخبّرنى بالغيب
أنك في كفّى
|
أرانى وبي من
هيبتي لك وحشة
|
|
فتؤنسنى باللطف
منك وبالعطف
|
وتحيى محبّا أنت
في الحب حتفه
|
|
وذا عجب كون
الحياة مع الحتف
|
فهذا رجل عاهد
الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ، فبه فاقتدوا تهتدوا.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (أُكُلُها دائِمٌ) بضم الهمزة في الأكل ، يعنى به المأكول لا الفعل ، وصف
الله طعام الجنة بأنه غير مقطوع ولا ممنوع ، وطعام الدنيا ينقطع ويمنع فيمتنع.
المسألة الثانية ـ
قال إبراهيم بن نوح : سمعت مالك بن أنس يقول : ليس في الدنيا من ثمار ما يشبه ثمار
الجنة إلا الموز ، لأنّ الله يقول : (أُكُلُها دائِمٌ) وأنت تجد الموز في الصيف والشتاء.
قال القاضي :
وكذلك رمان بغداد ، شاهدت المحوّل قرية من قرى نهر عيسى وفي شجر
__________________
الرمان حبّ
العامين يجتمع ، تقطع منه متى شئت صيفا وشتاء ، وقيظا وخريفا ، إلا أن الحبة التي بقيت في الشجرة عاما لا تفلقها إلا بالقدوم من شدّة
القشر ، فإذا انفلقت ظهر تحته حبّ الرمان أجمل ما كان وأينعه.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ
عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فيها الاكتفاء بشهادة واحد ، وهو خير الشاهدين إن كان يعلم
منى الحقّ في الدعوى والصدق في التبليغ فسينصرنى ، فلا جرم صدّقه بالمعجزات ،
ونصره بالدلالات ، وأكرمه بالظهور في العواقب.
فإن قيل : فقد قال
: (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ)؟
قيل : هو وإن كان
معطوفا عليه في اللفظ فإنه مقطوع عنه في المعنى. التقدير : ومن عنده علم الكتاب
يشهد لي بصدقى ، ولهذا المعنى قال مجاهد : إن من عنده علم الكتاب هو الله تعالى ،
وهذه غفلة ، فإنه قد قال : (قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً) ، فلو كان الذي عنده علم الكتاب هو الله لكان تكرارا محضا
خارجا عن صحّة المعنى وجزالة اللفظ ، وإنما الذي عنده علم الكتاب في :
المسألة الثانية ـ
اختلف فيمن عنده علم الكتاب بعد ذكر قول مجاهد على أربعة أقوال :
الأول ـ أن المراد
به من آمن من اليهود والنصارى.
الثاني ـ أنه عبد
الله بن سلام.
الثالث ـ أنه علىّ
بن أبى طالب ، وقد قرئ : ومن عنده علم بخفض الميم من من ورفع العين من علم. وقرئ
بخفض الميم من من وباقيه على المشهور.
الرابع ـ المؤمنون
كلهم.
__________________
المسألة الثالثة ـ
في تدبّر ما مضى :
أما من قال : إنهم
الذين آمنوا من اليهود ، كابن سلام ، وابن يامين. ومن النصارى ، كسلمان ، وتميم
الداري ، فإن المعنّى عنده بالكتاب التوراة والإنجيل.
وأما من قال : إنه
علىّ بن أبى طالب فعوّل على أحد وجهين : إما لأنه عنده أعلم المؤمنين ، وليس كذلك
، بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه ، حسبما بيناه في أصول الدّين في ذكر الخلفاء
الراشدين ، أو لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا
مدينة العلم وعلىّ بابها. وهو حديث باطل ، النبي صلى الله عليه وسلم مدينة علم وأبوابها أصحابه ، ومنهم
الباب المنفسخ ، ومنهم المتوسط على قدر منازلهم في العلوم.
وأما من قال :
إنهم جميع المؤمنين فصدق ، لأنّ كل مؤمن يعلم الكتاب ، ويدرك وجه إعجازه ، يشهد
للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق.
وأما من قال : إنه
عبد الله بن سلام فعوّل على حديث خرّجه للترمذي وغيره أنه لما أريد قتل عثمان جاء
عبد الله بن سلام فقال له عثمان : ما جاء بك؟ قال : جئت في نصرك. قال : اخرج إلى
الناس ، فاطردهم عنى ، فإنك خارجا خير لي منك داخلا ، فخرج عبد الله إلى الناس ،
فقال : أيها الناس ، إنه كان اسمى في الجاهلية فلان ، فسماني رسول الله صلى الله
عليه وسلم عبد الله ، ونزلت فىّ آيات من القرآن فنزلت فىّ : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ ...) الآية إلى آخرها ، ونزلت فىّ : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). إنّ لله سيفا مغمودا عنكم ، وإنّ الملائكة قد جاورتكم في
بلدكم هذا الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. الله الله في هذا الرجل أن
تقتلوه ، فو الله لئن قتلتموه لتطردنّ جيرانكم الملائكة ، وليسلّن سيف الله
المغمود عنكم ، فلا يغمد إلى يوم القيامة. قالوا : اقتلوا اليهودي ، واقتلوا
عثمان. وليس يمتنع أن تنزل في عبد الله سببا ، وتتناول جميع المؤمنين لفظا ، ويعضده من النظام أن قوله
: ويقول الذين
__________________
كفروا ـ يعنى به
قريشا ، فالذي عنده علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى الذين هم إلى معرفة
النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان.
المسألة الرابعة ـ
في هذا قول المتجادلين : كفى بفلان بيننا شهيدا فيرضيان به ، وقد قدمناه ، ويزيد
هذا عليه ظهور هذا الحق يقينا ، وأن الله ينصره نصرا مبينا ، ويوفّق من يعرفه حقّا
، ويشهد به تصديقا وصدقا. والذي اختاره مالك في هذه الآية أنه عبد الله بن سلام ،
كذلك روى عنه ابن وهب ، وقد تقدم بيانه.
سورة إبراهيم
[فيها أربع آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ معنى
ذكّرهم قل لهم قولا يتذكّرون به أيام الله.
المسألة الثانية ـ
في أيّام الله قولان :
أحدهما ـ نعمه.
الثاني ـ نقمه ، قاله الحسن. وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه الحسن ،
وأياديه عندهم. وقد أخبرنى بعض أشياخى من الصوفية أنه كان من جملتهم رجل إذا صفا
له يوم [واحد] جعل جوزا في قدر وختم عليه ، فإذا سئل عن عمره أخرج القدر
وفضّ الختم ، وعدّ الجوز ، فيرى أنّ أيامه بعددها.
المسألة الثالثة ـ
في هذا دليل على جواز الوعظ ، المرقّق للقلوب ، المقوّى لليقين ، فقد روى سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس ، عن أبىّ بن كعب ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : بينما موسى في قومه
يذكّرهم بأيام الله ، وأيام الله نعماؤه وبلاؤه، وذكر حديث الخضر. وقد استوفينا فيه الغاية في شرح الصحيحين
سندا ومتنا.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
الطبري : معناه لنخرجنّكم من أرضنا ، إلا أن تعودوا في ملّتنا ، وهو غير مفتقر إلى
هذا التقدير ، فإن «أو» على بابها من التخيير. خيّر الكفار الرسل بين أن
__________________
يعودوا في ملتهم
أو يخرجوهم من أرضهم ، وهذه سيرة الله في رسله وعباده. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ ...) الآيتين. وقال في الصحيح في حديث ورقة [ابن نوفل] وقوله
للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ليتني فيها جذعا ، يا ليتني أكون حيّا حين يخرجك
قومك. قال : أو مخرجىّ هم؟ قال له ورقة : نعم ، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأخرج ، وإن يدركني يومك أنصرك
نصرا مؤزّرا.
المسألة الثانية ـ
فيه إكراه الرسل بالخروج عن أرضهم ، وقد تقدم شدة ذلك ووقعه من النفوس في قوله
تعالى : (وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ
ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) ، فهو من أعظم وجوه الإكراه المبيحة للمحظور ، ويأتى ذلك
في سورة النحل إن شاء الله تعالى. وهذه سيرة الله في رسله كما قدمناه ، فلذلك أخبر
عن بعضهم ، وهم قوم شعيب في سورة الأعراف ، فقال : (قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ...) الآية. وأخبر هنا عن عموم الأمر ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُمْ ...) الآية.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها
وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تفسير نزولها على معناها :
روى حماد بن سلمة
، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس بن مالك قال : أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب ، فقال : مثل كلمة طيبة ... الآية ، قال: هي
النخلة.
__________________
وفي الصحيح ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال : إنّ من الشجر شجرة
لا يسقط ورقها تؤتى أكلها كلّ حين ، مثلها كمثل المسلم ، خبّرونى ما هي ... الحديث
، حتى قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : هي النخلة ، فذكر خصالا في هذه الشجرة ، ومنها أنها تؤتى أكلها كلّ حين.
المسألة الثانية ـ
في تفسير الحين ، وفيه عشرة أقوال :
الأول ـ أنه ساعة
أقل الزمان.
الثاني ـ أنه غدوة
وعشيّة ، قاله ابن عباس.
الثالث ـ أنه
ثلاثة أيام.
الرابع ـ أنه شهران
، قاله ابن المسيب.
الخامس ـ أنه ستة
أشهر ، قاله ابن عباس.
السادس ـ أنه سنة
، قاله على.
السابع ـ أنه سبعة
أعوام.
الثامن ـ أنه ثلاث
عشرة سنة.
التاسع ـ أنه يوم
القيامة.
العاشر ـ أنه
مجهول.
المسألة الثالثة ـ
في تحقيق معناه :
اعلموا ـ أفادكم
الله العرفان ـ أنا قد أحكمنا هذه المسألة في كتاب ملجئة المتفقهين ، ونحن الآن
نشير إلى ما يغنى في ذلك الغرض ، ويشرف بكم على مقصود الفتوى المفترض ، فنقول :
إنّ الحين ظرف زمان ، وهو مبهم لا تخصيص فيه ، ولا تعيين في المفسر له ، وهذا
مقرّر لغة ، مجمع عليه من علماء اللسان ، وإنما يفسّره ما يقترن به ، وهو يحتمل
ساعة لحظيّة ، ويحتمل يوم الساعة الأبدية ، ويحتمل حال العدم : كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ...) الآية. ولأجل إبهامه علّق الوعيد به ، ليغلب الخوف ،
لاستغراق مدة
__________________
العذاب نهاية
الأبد فيه ، فيكفّ عن الذنب ، أو يرجو لاقتضاء الوعيد أقل مدة احتماله ، فيغلب
الرجاء ، ولا يقع اليأس عن المغفرة الذي هو أشدّ من الذنب ، ثم يفعل الله ما يشاء.
وتعلّق من قال :
إنّ الحين غدوة وعشية بقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ، ومن قال : إنه ثلاثة أيام نزع بقوله تعالى ـ في قصة ثمود
: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ).
وتعلّق ابن المسيب
ببقاء الثمر في النخل ، واستدل من قال : إنه ستة أشهر بأنه مدة الثمرة من حين
الابتداء إلى حين الجنى.
وتعلق من قال :
إنه يوم القيامة بقوله تعالى : (حَتَّى حِينٍ).
وتعلّق من قال :
إنه سبع سنين أو ثلاث عشرة سنة بأخبار إسرائيلية وردت في مدة بقاء يوسف في السجن
باختلاف في الرواية عنهم.
ومن هذه الأقوال
صحيح وفاسد ، وقوىّ وضعيف ، وأظهرها اللحظة ، لأنه اللغة والمجهول لأنه لا يعلم
مقداره على التعيين ، والشهران والستة أشهر والسنة [لأنها] كلّها تخرج من ذكر الحين في ذكر النخلة في القرآن والسنة.
وروى ابن وهب ،
وابن القاسم ، عن مالك : من نذر أن يصوم حينا فليصم سنة. قال الله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّها).
وروى أشهب ، عن
مالك ، قال : الحين الذي يعرف من الثمرة إلى الثمرة ، قال الله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّها).
ومن الحين الذي لا
يعرف قوله : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ...) الآية.
وقال أشهب في
رواية أخرى : الحين الذي يعرف قوله : (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ). فهذا سنة ، والحين الذي لا يعرف قوله : (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ، فهذا حين لا يعرف.
وقد قال سعيد بن
المسيب : إن الحين في هذه الآية من حين تطلع الثمرة إلى أن ترطب ،
__________________
ومن حين ترطب إلى
أن تطلع. والحين ستة أشهر ، ثم قال : يقول الله : (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها).
ومن الحين المجهول
قوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).
قال القاضي : الذي
اختاره مالك في الصحيح سنة ، واختار أبو حنيفة ستة أشهر ، وتباين العلماء والأصحاب
من كل باب على حال احتمال اللفظ ، وأصل المسألة الذي تدور عليه أنّ الحين المجهول
لا يتعلّق به حكم ، والحين المعلوم هو الذي تتعلّق به الأحكام ، ويرتبط به التكليف
، وأكثر المعلوم سنة.
ومالك يرى في
الإيمان والأحكام أعمّ الأسماء والأزمنة ، وأكثرها استظهارا. والشافعى يرى الأقل ،
لأنه المتعين.
وأبو حنيفة توسّط
، فقال : ستة أشهر. ولا معنى لقوله ، لأنّ المقدرات عنده لا تثبت قياسا ، وليس فيه
نصّ عن صاحب الشريعة ، وإنما المعوّل على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة ، وهو
أمر يختلف باختلاف الأمثلة ، ونحن نضرب في ذلك من الأمثلة ما نبيّن به المقصود ،
وذلك ثلاثة أمثلة :
المثل الأوّل ـ فنقول
: إذا نذر أن يصلّى حينا فيحتمل ركعة عند الشافعى ، لأنه أقل النافلة ، وركعتين عند
المالكية ، لأنهما أقلّ النافلة فيتقدّر الزمان بقدر الفعل.
المثال الثاني ـ إذا
نذر أن يصوم حينا فيحتمل يوما لا أقل منه ، لأنه معيار الصوم [الشرعي] ، إذ هي عبادة تتقدر بالزمان ، لا بالأفعال ، لأنه ترك فلا
يحده إلا الوقت ، بخلاف الفعل ، فإنه يحدّ نفسه ، ويحتمل الدهر ، ويحتمل سنة ،
فرأى الشافعى يوما أخذا بالأقل ، وألزم مالك الدهر لأنه الأكثر ، وتركه مالك
للعلّة التي أشار إليها من أنه مجهول ، ويلزمه أن يقضى به ، وإن كان مجهولا ، لأنه
عنده أنه لو قال : علىّ صوم الدّهر لزمه وتوسّط ، فقال سنة ، فإنه عدل بين الأقل
والأكثر ، وبيّن في كتاب الله في ذكر النخلة ، ويعارضه أن ستة أشهر بيّن أيضا ،
ولكنه أخذ بالأكثر في ذكر النخلة.
__________________
المثال الثالث ـ إذا
حلف ألّا يدخل الدار حينا : وهي متركبة على ما قبلها في تحديد الحين ، لكنه يلحق الصلاة في احتمال
أقلّ من يوم ، ويحتمل سائر الوجوه. والمعوّل عند علمائنا على العرف في ذلك إن لم
تكن نيّة ولا سبب ولا بساط حال ، فيركب البر والحنث على النية أولا ، وعلى السبب
ثانيا ، وعلى البساط ثالثا ، وعلى اللغة رابعا ، وعلى العرف خامسا ، وهو أولى من
اللغة عندنا ، وسيأتى ذلك محققا في سورة «ص» وغيرها إن شاء الله.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تفسيرها :
روى عن ابن عباس
من طرق : أنّ أوّل من سعى بين الصفا والمروة أم إسماعيل ، وأن أوّل من أجرّت الذيل
أم إسماعيل ، وذلك أنه لما فرّت هاجر من سارة أرخت ذيلها لتعفّى أثرها على سارة ،
ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق
زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكّة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعها هنالك ، ووضع
عندها جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أمّ إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ،
أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مرارا ،
وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذن لا
يضيّعنا الله. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم
حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه فقال : (رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) حتى بلغ : يشكرون ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب
من ذلك الماء حتى إذ أنفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى
، أو قال : يتلبّط ، فانطلقت
__________________
كراهية أن تنظر
إليه ، فوجدت الصّفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي
تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصّفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت
طرف درعها ، ثم سعت سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت
عليه ، ونظرت هل ترى أحدا ـ فعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس : قال النبي صلى الله
عليه وسلم : فلذلك
سعى الناس بينهما ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم
تسمّعت فسمعت أيضا. فقالت : قد أسمعت ، إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند
موضع زمزم ، فبحث بعقبه ـ أو قال بجناحه ـ حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول
بيدها : هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بقدر ما تغرف.
قال ابن عباس :
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : يرحم
الله أم إسماعيل ، لو تركت ماء زمزم ، أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت عينا
معينا.
قال : فشربت
وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضّيعة ، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا
الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعا
من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله ، وكانت كذلك حتى مرّت
بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ،
فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا
جريّا أو جريّين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا ، قال : وأم
إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ، ولكن لا حقّ
لكم في الماء ، قالوا : نعم.
قال ابن عباس :
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : فألفت
ذلك أمّ إسماعيل ، وهي تحبّ الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشبّ الغلام ، وتعلم
العربية منهم وأنفسهم أعجبهم حين شبّ ، فلما أدرك زوّجوه امرأة فيهم.
وماتت
أمّ إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل
فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغى لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن
بشر في ضيق وشدة ، وشكت إليه. فقال : فإذا جاء زوجك فاقرئى عليه السلام ، وقولي له
__________________
يغيّر
عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل ـ كأنه آنس شيئا ـ فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت:
جاءنا شيخ صفته كذا وكذا ، فسألنا عنك ، فأخبرته ، وسألنى كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا
في جهد وشدّة. قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرنى أن أقرأ عليك السلام ،
ويقول [لك] : غيّر
عتبة بابك. قال : ذاك أبى ، وقد أمرنى أن أفارقك. الحقي بأهلك.
فطلّقها
وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل
على امرأته فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغى لنا. قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم
وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله ، فقال : ما طعامكم ، قالت:
اللحم.
قال
: فما شرابكم؟ قالت : الماء. قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبىّ
صلى الله عليه وسلم : لم يكن لهم يومئذ حبّ ، ولو كان لهم دعا الهم فيه. قال :
فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال : فإذا جاء زوجك فاقرئى
عليه السلام ومريه يثبّت عتبة بابه.
فلما
جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت
عليه ، فسألنى عنك فأخبرته ، فسألنى كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير. قال : فأوصاك
بشيء؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك. قال : ذلك
أبى ، وأنت العتبة ، أمرنى أن أمسكك.
ثم
لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبرى نبلا تحت دوحة قريبا من
زمزم. فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد ، ثم قال
: يا إسماعيل ، إنّ الله أمرنى بأمر. قال : فاصنع ما أمرك ربك. قال : وتعينى. قال
: وأعينك. قال : فإن الله أمرنى أن أبنى هاهنا بيتا ـ وأشار إلى أكمة مرتفعة على
ما حولها. قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتى بالحجارة ،
وإبراهيم يبنى ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه ، وهو
يبنى ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
__________________
قال
: فجعلا يبنيان حتى تدوّر حول البيت ، وهما يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا ...) الآية.
المسألة الثانية ـ
في قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) : لا يجوز لأحد أن يتعلّق به في طرح عياله وولده بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم ،
واقتداء بفعل إبراهيم ، كما تقوله الغلاة من الصوفية في حقيقة التوكل ، فإن
إبراهيم فعل ذلك بأمر الله ، لقولها له في هذا الحديث : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم
، ولما كان بأمر منه أراد تأسيس الحال وتمهيد المقام ، وخطّ الموضع للبيت المحرم
والبلدة الحرام ، أرسل الملك فبحث بالماء ، وأقامه مقام الغذاء ، ولم يبق من تلك الحال إلا هذا
المقدار ، فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : ماء
زمزم لما شرب له.
وقد اجتزأ به أبو
ذر ليالي أقام بمكة ينتظر لقاء النبىّ صلى الله عليه وسلم ليستمع منه ، قال : حتى
سمنت وتكسرت عكن بطني ، وكان لا يجترئ على السؤال ، ولا يمكنه الظهور ولا التكشّف
، فأغبناه الله بماء زمزم عن الغذاء ، وأخبره النبىّ صلى الله عليه وسلم بأنّ هذا
موجود فيه إلى يومه ذلك ، وكذلك يكون إلى يوم القيامة لمن صحّت نيّته ، وسلمت
طويّته ، ولم يكن به مكذبا ولا شربه مجربا ، فإن الله مع المتوكلين ، وهو يفضح
المجربين.
ولقد كنت بمكة
مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ، وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا ، وكلما
شربته نويت به العلم والإيمان حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسّره لي من
العلم ، ونسيت أن أشربه للعمل ، ويا ليتني شربته لهما ، حتى يفتح الله علىّ فيهما
، ولم يقدر ، فكان صغوى إلى العلم أكثر منه إلى العمل ، ونسأل الله الحفظ والتوفيق
برحمته.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) :
خصّها من جملة
الدين لفضلها فيه ومكانها منه ، وهي عهد الله عند العباد ، قال النبىّ صلى الله
عليه وسلم :
خمس صلوات كتبهنّ
الله على عباده في اليوم والليلة من جاء بهنّ لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهنّ
كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء
عذّبه وإن شاء أدخله الجنة.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ).
قد قدمنا القول في
تحريم مكة ، وفائدة حرمتها ، وما يترتّب على ذلك من حكمة ، وتحريمها كان بالعلم ،
وكان بقوله مخبرا عنه ، وكلّ ذلك قديم لا أوّل له ، وحرمها بالكتاب حين خلق القلم
، وهو التحريم الثالث ، وقال له : اكتب فكتب ما يكون إلى يوم القيامة.
ومن جملة ما كتب
أنّ مكة بيت محرم مكرّم معظم ، وقد روى في ذلك آثار ، منها أنه كان المسجد الحرم
ليس عليه جدار محيط على عهد رسول الله وأبى بكر ، فلما كان عمر بن الخطاب فضاق على
الناس وسّع عمر المسجد ، واشترى دورا فهدمها فيه ، وهدم على الناس ما قرب من
المسجد ، حتى أبوا أن يبيعوا ، ووضع الأثمان حتى أخذوها بعد ، ثم أحاط عليه بجدار
قصير دون القامة ، وأنّ عثمان لما ولى وسّع المسجد الحرام ، واشترى من قوم ، وأبى
آخرون أن يبيعوا ، فهدم عليهم ، فصيّحوا فأمر بهم إلى الحبس حتى كلّمه فيهم عبد
الله بن خالد بن أسيد ، ووجذ في المقام كتاب ، فجعلوا يخرجونه لكلّ من أتاهم من
أهل الكتاب فلا يعلمونه ، حتى أتاهم حبر من اليمن ، فقرأه عليهم ، فإذا فيه : أنا
الله ذو بكّة صغتها يوم صغت الشمس والقمر ، وباركت لأهلها في اللحم واللبن ، وأول من
يحلّها أهلها ، وذكر حديثا طويلا خرجه جماعة ، واللفظ للترمذىّ .
__________________
سورة الحجر
[فيها عشر آيات]
الآية الأولى ـ قوله
: (وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما
أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (لَواقِحَ). وفيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ تلقح
الشجر والسحاب ، وجمعت على حذف الزائد.
الثاني ـ أنه
موضوع على النسب ، أى ذات لقح ولقاح.
الثالث ـ أن «لواقح»
جمع لاقح ، أى حامل ، وسمّيت بذلك لأنها تحمل السحاب ، والعرب تقول للجنوب لاقح
وحامل ، وللشمال حائل وعقيم ، ويشهد له قوله : (حَتَّى إِذا
أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) ، معناه : حملت. وأقوى الوجوه فيه النسبة .
المسألة الثانية ـ
روى ابن وهب ، وابن القاسم ، وأشهب ، وابن عبد الحكم ، عن مالك ، واللفظ لأشهب ،
قال مالك : قال الله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ) ، فلقاح القمح عندي أن يحبّب ويسنبل ، ولا أدرى ما ييبس في
أكمامه ، ولكن يحبّب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه ، ولقاح الشجر
كلها أن يثمر الشجر ويسقط منه ما يسقط ، ويثبت ما يثبت ، وليس ذلك بأن تورّد
الشجر.
قال القاضي الإمام
: إنما عوّل مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل ، وأنّ الولد إذا
عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبّب الثمر وسنبلته ، ولأنه سمى باسم تشترك
فيه كلّ حاملة ، وهو اللقاح ، وعليه جاء الحديث : نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحبّ حتى يشتد.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى الترمذي وغيره
، عن ابن عباس أنه قال :
كانت امرأة تصلّى
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس : لا والله ما رأيت قط مثلها.
قال : فكان بعض المسلمين إذا صلّوا تقدموا ، وبعضهم يستأخر ، فإذا سجدوا نظروا
إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله الآية.
المسألة الثانية ـ
في شرح المراد بها :
فيها خمسة أقوال :
الأول ـ المتقدمين
في الخلق إلى اليوم ، والمتأخرين الذين لم يلحقوا بعد ، بيانا لأن الله تعالى يعلم
الموجود والمعدوم ، قاله قتادة وجماعة.
الثاني ـ من مات ،
ومن بقي ، قاله ابن عباس.
الثالث ـ المستقدمين
[من] سائر الأمم ، والمستأخرين من أمة محمد ، قاله مجاهد.
الرابع ـ قال الحسن
: معناه المستقدمين في الطاعة ، والمستأخرين في المعصية.
الخامس ـ روى عن
ابن عباس أيضا أنّ معناه ولقد علمنا المستقدمين في الصفوف في الصلاة والمستأخرين
بها حسبما تقدّم في الحديث ، وكلّ هذا معلوم لله سبحانه ، فإنه عالم بكل موجود
ومعدوم ، وبما كان و [بما] يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف [ان] يكون.
المسألة الثالثة ـ
هذا يدلّ على فضل أول الوقت في الصلاة خاصة ، وعلى فضل المبادرة إلى سائر الأعمال
والمسارعة إليها عامّة ، وقد تقدم بيان ذلك.
__________________
المسألة الرابعة ـ
ويدلّ أيضا على فضل الصفّ الأول في الصلاة قول النبىّ صلى الله عليه وسلم :
لو يعلمون ما في
الصفّ الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه.
فإذا جاء الرجل
المسجد عند الزوال فنزل في الصفّ الأول مما يلي الإمام ، فقد حاز ثلاث مراتب في
الفضل أول الوقت ، والصف الأول ، ومجاوزة الإمام.
فإن جاء عند
الزوال ونزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الأول فقد جاز فضل أول الوقت ، وفاته
فضل الصف الأول والمجاورة.
فإن جاء وقت
الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت ، وفضل الصف
الأول ، وفاته مجاورة الإمام ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومجاورة الإمام لا
تكون لكل أحد ، وإنما هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى ، فما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته ، فإن
نزلها غيره أخّر له وتقدم هو إلى هذا الموضع ، لأنه حقّه بأمر صاحب الشريعة ،
كالمحراب هو موضع الإمام تقدّم أو تأخر.
المسألة الخامسة ـ
وكما تدلّ هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة فكذلك تدلّ على فضل الصف الأول
في القتال ، فإن القيام في نحر العدو ، وبيع النفس من الله تعالى لا يوازنه عمل
فالتقدم إليه أفضل. ولا خلاف فيه ولا خفاء به ، فلم يكن أحد يتقدم في الحرب بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أشجع الناس. قال البراء : كنا إذا
حمى البأس اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ
الْغابِرِينَ).
قد تكلمنا على
الاستثناء في أصول الفقه بما فيه بلاغ للطلبة ، وأوضحنا أن الاستثناء
__________________
الثاني يرجع إلى
ما يليه ، ولا يتعلّق بالأول من الكلام تعلّق الأول من الاستثناء
به ، لاستحالة ذلك فيه.
وبيانه الآن على
اختصار لكم أنّا لو علّقناه بالأول كما علقناه بما يليه لكان ذلك تناقضا ، وصار
الكلام نفيا لما أثبت ، وإثباتا لما نفى ، وذلك لأن الاستثناء من الإثبات نفى ،
ومن النفي إثبات ، فإذا كان الأول إثباتا فالاستثناء منه نفى. ثم إن استثنى من
النفي فإنما يستثنى به إثبات ، فيصير هذا المستثنى الآخر منفيا بالاستثناء الأول مثبتا بالثاني ، وهذا تناقض ،
وبسطه وإيضاحه في الأصول ، فأبان الله تعالى بقوله : (إِنَّا أُرْسِلْنا
إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ.) إلا آل لوط فليسوا منهم ، إلا امرأته فإنها خارجة عن آله ،
فترتّب عليها من الفقه قول المقرّ : عندي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدا ، فثبت الإقرار
بثمانية ، ويترتب عليه قول المطلّق لزوجته : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة
، فتكون اثنتين ، وهذا ظاهر فأغنى عن الإطناب فيه.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).
لما تداعى أهل
المدينة إلى دار لوط حين رأوا وسمعوا بجمال أضيافه ، وحسن شارتهم ، قصدا للفاحشة
فيهم ، تحرّم لهم لوط بالضيافة ، وسألهم ترك الفضيحة ، وإتيان المراعاة ، فلما
قالوا له : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ
عَنِ الْعالَمِينَ) ـ قال لهم لوط : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فهؤلاء بناتي
إن كنتم فاعلين.
ولا يجوز على
الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعرضوا بناتهم على الفاحشة فداء لفاحشة أخرى ، وإنما
معناه هؤلاء بنات أمتى ، لأنّ كلّ نبىّ أزواجه أمهات أمته ، وبناتهم بناته ، فأشار
عليهم بالتزويج الشرعي ، وحملهم على النكاح الجائز كسرا لسورة الغلمة ، وإطفاء
لنار الشهوة ، كما قال تعالى : (أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
أَزْواجِكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) الآيتين. والله أعلم.
__________________
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
المفسرون بأجمعهم : أقسم الله هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له ، أنّ
قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يتردّدون. قالوا : روى عن ابن عباس أنه
قال : ما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم
بحياة أحد غيره. وهذا كلام صحيح ، ولا أدرى ما الذي أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر
محمد ، وما الذي يمنع أن يقسم الله بحياة لوط ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، فكلّ
ما يعطى الله للوط من فضل ، ويؤتيه من شرف فلمحمّد ضعفاه ، لأنه أكرم على الله
منه. أو لا تراه قد أعطى لإبراهيم الخلّة ، ولموسى التكليم ، وأعطى ذلك
لمحمد ، فإذا أقسم الله بحياة لوط فحياة محمد أرفع ، ولا يخرج من كلام إلى كلام
آخر غيره لم يجر له ذكر لغير ضرورة.
المسألة الثانية ـ
قوله : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ).
أراد به الحياة
والعيش ، يقال : عمر وعمر بضم العين وفتحها لغتان ، وقالوا : إن أصلها الضمّ ،
ولكنها فتحت في القسم خاصة لكثرة الاستعمال ، والاستعمال إنما هو في غير القسم ،
فأمّا القسم فهو بعض الاستعمال ، فلذلك صارا لغتين. فتدبّروا هذا.
المسألة الثالثة ـ
قال أحمد بن حنبل : من أقسم بالنبىّ لزمته الكفارة ، لأنه أقسم بما لا يتمّ
الإيمان إلا به ، فلزمته الكفارة ، كما لو أقسم بالله.
وقدمنا أنّ الله
تعالى يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به ، لقوله : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. فإن أقسم بغيره
فإنه آثم ، أو قد أتى مكروها على قدر درجات القسم وحاله.
وقد قال مالك :
إنّ المستضعفين من الرجال والمؤنثين منهم يقسمون بحياتك وبعيشك ، وليس من كلام أهل
الذكر ، وإن كان الله أقسم به في هذه القصة فذلك بيان لشرف المنزلة وشرف المكانة ،
فلا يحمل عليه سواه ، ولا يستعمل في غيره.
__________________
وقال قتادة : هو
من كلام العرب ، وبه أقول ، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ، وردّ القسم إليه.
وقد بيناه في [الأصول وفي] مسائل الخلاف.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
التوسّم. وهو تفعّل من الوسم ، وهو العلامة التي يستدلّ بها على مطلوب غيرها. قال
الشاعر ـ يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
إنى توسمت فيك
الخير نافلة
|
|
والله يعلم أنى
صادق البصر
|
وهي الفراسة أيضا
، يقال : تفرّست وتوسّمت. وحقيقتها الاستدلال بالخلق على الخلق ، وذلك يكون بجودة
القريحة ، وحدّة الخاطر ، وصفاء الفكر.
يحكى أنّ الشافعى
ومحمد بن الحسن كانا جالسين بفناء الكعبة ، ودخل رجل على باب المسجد ، فقال أحدهما
: أراه نجّارا ، وقال الآخر : بل حدّادا ، فتبادر من حضر إلى الرجل فسألوه ، فقال
لهم : كنت نجارا ، وأنا الآن حدّاد ، وهذه زيادة على العادة ، فزعمت الصوفية أنها
كرامة. وقال غيرهم : بل هي الاستدلال بالعلامة ، ومن العلامات ظاهر يبدو لكل أحد ،
بأول نظر ، ومنها ما هو خفىّ فلا يبدو لكل أحد ، ولا يدرك ببادئ النظر.
وقد روى الترمذي ،
عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور
الله. وهذا مبيّن في كتب
الأصول.
المسألة الثانية ـ
إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني ومعالم المؤمنين ، فإنّ ذلك لا
يترتّب عليه حكم ، ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرّس. وقد كان قاضى القضاة الشامي
المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريقة إياس بن
معاوية أيام كان قاضيها ، ولشيخنا فخر الإسلام أبى بكر الشاشي جزء في الردّ عليه ، كتبه لي
بخطه ، وأعطانيه ، وذلك صحيح ، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا ، مدركة قطعا ،
وليست الفراسة منها.
__________________
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
الحجر وتفسيره :
وفيه ثلاثة أقوال
:
الأول ـ أنها ديار
ثمود.
الثاني ـ أنه واد.
الثالث ـ أنه كلّ
بناء بنيته وحظرت عليه ، ومنه : حجرا محجورا ، ولكنّ المراد به هاهنا ديار ثمود.
المسألة الثانية ـ
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من
طريق البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في
غزوة تبوك أمرهم ألّا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنّا
واستقينا. فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا الماء.
وعنه فيه أيضا أنّ الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم أرض ثمود الحجر ، واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم
أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.
المسألة الثالثة ـ
روى مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال
لأصحاب الحجر : لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم
تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم حذرا أن يصيبكم ما أصابهم.
وفي حديث ابن الزبير
، عن جابر بن عبد الله الأنصارى ، قال : لما نزل النبىّ صلى الله عليه وسلم الحجر قال : لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا
__________________
الفجّ
، وتصدر من هذا الفجّ ، وكانت تشرب ماءهم يوما ، ويشربون لبنها يوما ، فعتوا عن
أمر ربهم فعقروها ، فأخذتهم صحيحة أخمدت من تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلا واحد
منهم كان في حرم الله ، فقيل : من هو يا رسول الله؟ قال : أبو رغال. فلما خرج من
الحرم أصابه ما أصاب قومه.
المسألة الرابعة ـ
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ماء ديار ثمود ، وإلقاء ما عجن وحيس به ، لأجل أنه ماء سخط ، فلم يجز الانتفاع به ، فرارا من
سخط الله. وقال : اعلفوه
الإبل ، فكان في هذا
دليل أيضا على أنّ ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن يعلفه الإبل
والبهائم ، إذ لا تكليف عليها ، ولأجل هذا قال مالك في العسل النجس إنه تعلفه
النحل. وكذلك لا يجوز الصلاة فيها ، لأنها دار سخط وبقعة غضب ، قال النبي صلى الله عليه
وسلم : لا تدخلوها إلّا
باكين. وروى أنه تقنّع بردائه ، وأوضع راحلته حتى
خرج عنها.
المسألة الخامسة ـ
فصارت هذه بقعة مستثناة من قوله : جعلت لي الأرض مسجدا ، وجعل ترابها طهورا ، فلا
يجوز التيمم بها ، ولا الوضوء من مائها ، ولا الصلاة فيها.
وقد روى الترمذي
وغيره ، عن أبى سعيد الخدري ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ـ رواه الترمذي وغيره. وهو حديث مضطرب.
وقد روى الترمذي
وغيره أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن : المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، والحمام
، والطريق ، وظهر الكعبة ، وأعطان الإبل. وذكر علماؤنا منها جملة ، وجماعها هذه الثمانية .
التاسع ـ البقعة
النجسة.
العاشر ـ البقعة
المغصوبة.
الحادي عشر ـ أمامك
جدار عليه نجس.
الثاني عشر ـ الكنيسة.
__________________
الثالث عشر ـ البيعة
.
الرابع عشر ـ بيت
فيه تماثيل.
الخامس عشر ـ الأرض
المعوجّة.
السادس عشر ـ موضع
تستقبل فيه نائما أو وجه رجل.
السابع عشر ـ الحيطان.
وقد قررنا ذلك في
مسائل الخلاف وشرح الحديث ، ومن هذا ما منع لحقّ الغير ، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها ، ومنه ما منع منه
عبادة. فما منع منه لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالمقبرة والحمام فيها أو
إليها ، فإن ذلك جائز في المدوّنة ، وذكر أبو مصعب عنه الكراهية ، وفرّق علماؤنا
بين المقبرة الجديدة والقديمة ، لأجل النجاسة إلّا أن ينزل عليها ماء كثير ،
والنهى عن المقبرة يتأكد إذا كانت للمشركين لأجل النجاسة وإنها دار عذاب كالحجر. وفي
صحيح مسلم :
لا تجلسوا على
القبور ولا يصلّى إليها.
وفي صحيح الحديث
قال النبي صلى الله عليه وسلم : لعن
الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذّر مما صنعوا.
وقال مالك في
المجموعة : لا يصلّى في أعطان الإبل ، وإن فرش ثوبا ، كأنه رأى لها علّتين : الاستقذار
بها وقفارها ، فتفسد على المصلّى صلاته ، فإن كان واحدا فلا بأس به ،
كما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يفعل في الحديث الصحيح.
وقال مالك : لا
يصلّى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. وكره ابن القاسم الصلاة إلى قبلة فيها
تماثيل ، وفي الدار المغصوبة ، فإن فعل أجزأه.
وذكر بعضهم عن
مالك أنّ الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ. وذلك عندي بخلاف الأرض ، فإن الدار لا
تدخل إلا بإذن ، والأرض وإن كانت ملكا فإنّ المسجديّة فيها قائمة لا يبطلها الملك.
وقد روى الترمذي :
لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
__________________
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).
قد بيّنا أنه كان
أمر أن يصفح عنهم صفحا جميلا ، ويعرض عنهم إعراضا حسنا ، ثم نسخ ذلك بالأمر
بالقتال ، وقد بيناه في القسم الثاني.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تفسير السبع :
وفي ذلك أربعة
أقوال :
الأول ـ أن السبع
قيل : هي [أول] السور الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ،
والأنعام ، والأعراف ، وبراءة تتمة الأنفال. وقيل : السابعة التي يذكر فيها يونس ، قاله ابن
عباس ، وابن عمر وغيرهم.
الثاني ـ أنها
الحمد ، سبع آيات ، قاله ابن مسعود وغيره.
الثالث ـ أنها سبع
آيات من القرآن.
الرابع ـ أنها
الأمر ، والنّهى ، والبشرى ، والنذارة ، وضرب الأمثال ، وإعداد النعم ، ونبأ
الأمم.
المسألة الثانية ـ
في المثاني :
وفيها [أربعة] أقوال :
الأول ـ هي السبع
الطوال بنفسها ، لأنها تثنى فيها المعاني.
الثاني ـ أنها
آيات الفاتحة ، لأنها تثنى في كل ركعة.
الثالث ـ أنها
آيات القرآن ، كما قال : (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
__________________
الرابع ـ أنها
القرآن.
المسألة الثالثة ـ
(وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ).
فيها ثلاثة أقوال
:
الأول ـ هو القرآن
كله.
الثاني ـ هو
الحواميم .
الثالث ـ أنها الفاتحة.
المسألة الرابعة ـ
في تحقيق هذا المسطور :
يحتمل أن يكون
السبع من السّور ، ويحتمل أن يكون من الآيات ، لكن النبىّ صلى الله عليه وسلم قد
كشف قناع الإشكال ، وأوضح شعاع البيان ، ففي الصحيح عند كل فريق ومن كل طريق أنها
أمّ الكتاب ، والقرآن العظيم ـ حسبما تقدّم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبىّ
بن كعب : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيت.
وبعد هذا فالسبع
المثاني كثير ، والكلّ محتمل ، والنصّ قاطع بالمراد ، قاطع بمن أراد التكليف
والعناد ، وبعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فلا تفسير. وليس للمتعرض إلى غيره
إلا النكير. وقد كان يمكن لو لا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أن أحرّر في ذلك مقالا
وجيزا ، وأسبك من سنام المعارف إبريزا ، إلا أنّ الجوهر الأغلى من عند النبي صلى
الله عليه وسلم أولى وأعلى ، وقد بينا تفسيرها في أول سورة من هذا الكتاب ، إذ هي
الأولى منه ، فلينظر هناك من هاهنا إن شاء الله.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).
المعنى : قد
أعطيناك الآخرة ، فلا تنظر إلى الدنيا ، وقد أعطيناك العلم فلا تتشاغل بالشهوات ،
وقد منحناك لذة القلب فلا تنظر إلى لذة البدن ، وقد أعطيناك القرآن فتغنّ به ،
فليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن ، أى ليس منا من رأى بما عنده من القرآن أنه ليس
بغنىّ
__________________
حتى يطمح ببصره
إلى زخارف الدنيا ، وعنده معارف المولى ، حيي بالباقي ، فغنى عن الفاني.
وقد روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : حبّب
إلىّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة. فكان يتشاغل بالنساء جبلّة الآدمية وتشوّف الخلقة الإنسانية
، ويحافظ على الطّيب منفعة خاصية وعامية ، ولا يقرّ له عين إلا في الصلاة لدى
مناجاة المولى ، ويرى أن مناجاة المولى أجدر من ذلك وأولى.
وقد بيّنا تحقيق
ذلك في شرح الحديث ، ولم يكن في دين محمد صلى الله عليه وسلم الرهبانية والإقبال
على الأعمال الصالحة بالكلّية ، كما كان في دين عيسى ، وإنما شرع الله له ولنا
بحكمته حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة عن الإصر ، نأخذ من الآدمية وشهواتها
بحظّ وافر ، ونرجع إلى الله بقلب سليم ، إن شغل بدنه باللذات عكف قلبه على المعارف
، ورأى اليوم علماء القراء والمخلصون من الفضلاء أنّ الانكفاف عن اللذات ، والخلوص
لرب السموات اليوم أولى ، لما غلب على الدنيا من الحرام ، واضطر إليه العبد في
المعاش من مخالطة من لا تجوز مخالطته ، ومصانعة من تحرم مصانعته ، وحماية الدنيا
بالدين ، وصيانة المال بتبدل الطاعة بدلا عنه ، فكانت العزلة أفضل ، والفرار عن
الناس أصوب للعبد وأعدل ، حسبما تقدم به الوعد الذي لا خلف له من الصادق ، يأتى على الناس زمان
يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن.
فإن قيل : ففي هذا
الحديث الذي ذكرتم ـ وهي :
المسألة السادسة ـ
أنه قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة : هي
السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته ، فتكون الفاتحة هي القرآن العظيم.
قلنا : المراد
بالمثاني القرآن كلّه ، فالمعنى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني مما ثنّى بعض آيه
بعضا ، ويكون بالمثاني جمع مثناة ، وتكون آي القرآن موصوفة بذلك ، لأن بعضها تلا
بعضا بفصول بينها ، فيعرف انقضاء الآية وابتداء الآية التي بعدها ، وذلك قوله
تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً
مَثانِيَ). ويحتمل أن يكون «مثاني» ، لأنّ المعاني كررت فيه والقصص.
__________________
وقد قيل : إنها
سمّيت مثاني لأنّ الله استثناها لمحمد دون سائر الأنبياء ولأمته دون سائر الأمم.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ التسبيح
هو ذكر الله تعالى بما هو عليه من صفات الجلال والتعظيم ، بالقلب اعتقادا ،
وباللسان قولا. والمراد به هاهنا الصلاة ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه
وسلم : نعلم ضيق صدرك بما تسمعه من تكذيبك وردّ قولك ، ويناله أصحابك من إذاية
أعدائك ، فافزع إلى الصلاة ، فهي غاية التسبيح ونهاية التقديس ، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وذلك تفسير قوله : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ، أى من المصلين ـ وهي :
المسألة الثانية ـ
فإن دعامة القربة في الصلاة حال السجود.
وقد ظن بعض الناس
أن المراد به هاهنا الأمر بالسجود نفسه ، فيرى هذا الموضع محلّ سجود في القرآن.
وقد شاهدت الإمام
بمحراب زكريا من البيت المقدس طهّره الله يسجد في هذا الموضع عند قراءته له في
تراويح رمضان ، وسجدت معه فيها ، ولم يره جماهير العلماء.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
أمره بعبادته إذا
قصّر عباده في خدمته ، فإن ذلك طبّ علّته ، وهي كما قدمنا أشرف الخصال ، والتسمّى
بها أشرف الخطط.
قال شيوخ المعاني
: ألا ترى كيف سمّى الله بها رسوله عند أفضل منازله ، وهي الإسراء ، فقال : سبحان
الذي أسرى بعبده ، ولم يقل بنبيه ولا رسوله ، ولقد أحسن الشاعر فيما جاء به من
اللفظ حيث يقول :
__________________
يا قوم قلبي عند
زهراء
|
|
يعرفه السامع
والرائي
|
لا تدعني إلّا
بياعبدها
|
|
فإنه أشرف
أسمائى
|
المسألة الرابعة ـ
اليقين : الموت ، فأمره باستمرار العبادة أبدا ، وذلك مدة حياته ، وكان هذا أبلغ
من قوله أبدا ، لاحتمال لفظة الأبد للحظة الواحدة ، ولجميع الأبد ، كما قال العبد
الصالح : وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيّا.
والدليل على أنّ
اليقين الموت أن أم العلاء الأنصارية ـ وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ أخبرت أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة ، فصار لنا عثمان بن مظعون ، قالت : فأنزلناه
مع أبنائنا ، فوجع وجعه الذي مات فيه ، فلما توفى وغسّل وكفن في أثوابه دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك ، لقد
أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما
يدريك أن الله أكرمه؟ قلت : بأبى أنت وأمى يا رسول الله فمه ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين ، والله إنى لأرجو له الخير ... الحديث.
ويتركّب على هذا
أنّ الرجل إذ قال لامرأته : أنت طالق أبدا ، وقال : نويت يوما أو شهرا كانت له
عليها الرجعة. ولو قال : طلقتها حياتها لم يراجعها ، وقد مهّدنا ذلك في كتب
الفروع. والله أعلم.
سورة النحل
وتسمى سورة النعم. فيها إحدى وعشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (الأنعام) ، وقد تقدم بيانه في سورة المائدة ، فأغنى عن إعادته.
المسألة الثانية
قوله : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ، يعنى من البرد بما فيها من الأصواف والأوبار والأشعار ،
كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ). فامتنّ هاهنا بالدفء ، وامتنّ هناك بالظل ، إن كان لاصقا
بالبدن ثوبا أو كان منفصلا بناء .
وقد روى عن ابن
عباس أنه قال : دفؤها نسلها ، فربّك أعلم بها.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (مَنافِعُ) ، يعنى ما وراء ذلك من الألبان خاصة ، لأنه قد ذكر بعد ذلك
سواها من المنافع ، فقال : (وَمِنْها
تَأْكُلُونَ.) وقد ذكر وجه اختصاصه باللبن ، ويأتى ذلك إن شاء الله.
المسألة الرابعة ـ
في هذا دليل على لباس الصوف ، فهو أولى ذلك وأولاه ، فإنه شعار المتّقين ، ولباس
الصالحين ، وشارة الصحابة والتابعين ، واختيار الزهاد والعارفين ، وهو يلبس لينا
وخشنا ، وجيّدا ومقاربا ورديئا ، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية ، لأنه لباسهم
في الغالب ، فالياء للنسب والهاء للتأنيث ، وقد أنشدنى بعض أشياخهم بالبيت المقدس
:
تشاجر الناس في
الصوفىّ واختلفوا
|
|
فيه وظنّوه
مشتقّا من الصّوف
|
ولست أنحل هذا
الاسم غير فتى
|
|
صافى فصوفى حتى
سمّى الصّوفى
|
__________________
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، فأباح لنا أكلها كما تقدم بيانه بشروطه وأوصافه ، وكان
وجه الامتنان بها أنسها ، كما امتنّ بالوحشية على وجه الاصطياد ، فالأول نعمة
هنيّة ، والصيد متعة شهيّة ، ونصبة نصيّة ، وهو الأغلب فيها.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ) كما قال في الآية بعدها : (لِتَرْكَبُوها
وَزِينَةً) ، والجمال قد بيناه في كتب الأصول وشرح الحديث ، وأوضحنا
أنه يكون في الصورة وتركيب الخلقة ، ويكون في الأخلاق الباطنة ، ويكون في الأفعال.
فأما جمال الخلقة
فهو أمر يدركه البصر ، فيلقيه إلى القلب متلائما ، فتتعلّق به النفس من غير معرفة
بوجه ذلك ولا بسببه لأحد من البشر.
وأما جمال الأخلاق
فبكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة ، والعدل والعفّة ، وكظم الغيظ ،
وإرادة الخير لكل واحد.
وأما جمال الأفعال
فهو وجودها ملائمة لصالح الخلق ، وقاضية بجلب المنافع إليهم ، وصرف الشرّ عنهم.
وجمال الأنعام
والدوابّ من جمال الخلقة محسوب ، وهو مرئىّ بالأبصار ، موافق للبصائر ، ومن جمالها
كثرتها.
فإذا وردت الإبل
على الذرى سامية الذرى هجمات هجانا ، توافر حسنها ، وعظم شأنها ، وتعلّقت القلوب
بها.
وإذا رأيت البقر
نعاجا ترد أفواجا أفواجا ، تقرّ بقريرها ، معها صلّغها وأتابعها ، فقد انتظم جمالها وانتفاعها.
__________________
وذا رأيت الغنم
فيها السالغ والسّخلة ، والغريض والسّديس صوفها أهدل ، وضرعها منجدل ، وظهرها منسجف ، إذا صعدت
ثنيّة مرعت ، وإذا أسهلت عن ربوة طمرت ، تقوم بالكساء ، وتقرّ على الغداء والعشاء
، وتملأ الحواء سمنا وأقطا ، بله البيت ، حتى يسمع الحديث عنها كيت وكيت ، فقد
قطعت عنك لعلّ وليت.
وإذا رأيت الخيل
نزائع يعابيب ، كأنها في البيداء أهاضيب ، وفي الهيجاء يعاسيب ، رءوسها عوال ،
وأثمانها غوال ، لينة الشّكير ، وشديدة الشّخير ، تصوم وإن رعت ، وتفيض إذا سعت ، فقد
متعت الأحوال وأمتعت.
وإذا رأيت البغال
كأنها الأفدان بأكفال كالصّوى ، وأعناق كأعناق الظّبا ، ومشى كمشى القطا
أو الدّبى فقد بلغت فيها المنى.
وليس في الحمير
زينة ، وإن كانت عن الخدمة مصونة ، ولكن المنفعة بها مضمونة.
المسألة الثانية ـ
هذا الجمال والتزين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله فيه لعباده ، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ خرّجه البرقاني وغيره : الإبل عزّ لأهلها ،
والغنم بركة ، والخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. وإنما جمع النبي صلى الله
عليه وسلم العزّ في الإبل ، لأن فيها اللباس والأكل واللبن والحمل والغزو ، وإن
نقصها الكرّ والفرّ. وجعل البركة في الغنم لما فيها من اللباس والطعام والشراب ،
وكثرة الولادة ، فإنها تلد في العام ثلاث مرات ، إلى ما يتبعها من السكينة ، وتحمل
صاحبها عليه من خفض الجناح ، ولين الجانب ، بخلاف الفدّادين أهل الإبل. وقرن صلى الله عليه وسلم الخير بنواصي الخيل
بقية الدهر ، لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعاش ، وما توصّل إليه من
قهر الأعداء ، وغلبة الكفار ، وإعلاء كلمة الله.
وقد روى أشهب ، عن
مالك قال : يقول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) ، ذلك في المواشي تروح إلى المرعى وتسرح عليه.
__________________
الآية الثالثة ـ قوله
: (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ
إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قد
من الله علينا بالأنعام عموما ، وخصّ الإبل هاهنا بالذكر في حمل الأثقال ، تنبيها
على ما تتميّز به على سائر الأنعام ، فإنّ الغنم للسرح والذبح ، والبقر للحرث ،
والإبل للحمل.
وفي الحديث الصحيح
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا
راع في غنم عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة ، فطلبه الراعي ، فالتفت إليه الذئب ،
وقال : من لها يوم السّبع ، يوم لا راعى لها غيرى ، وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل
عليها ، فالتفتت إليه فكلّمته ، فقالت : إنى لم أخلق لهذا ، وإنما خلقت للحرث ،
فقال الناس : سبحان الله ، [بقرة تتكلم] ! فقال النبي : آمنت
بذلك أنا وأبو بكر وعمر ، وما هما ثمّ.
المسألة الثانية ـ
فيه جواز السفر بالدواب عليها الأثقال الثّقال ، ولكن على قدر ما تحتمله من غير
إسراف في الحمل ، مع الرفق في السير والنزول للراحة.
وقد أمر النبىّ
صلى الله عليه وسلم بالرفق بها ، والإراحة لها ، ومراعاة التفقّد لعلفها وسقيها ،
وفي الموطّأ قال مالك عن أبى عبيد ، عن خالد بن معدان ـ إن الله رفيق يحبّ الرفق ،
ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف ، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها
منازلها ، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها ، وعليكم بسير الليل ، فإنّ الأرض تطوى بالليل ما
لا تطوى بالنهار ، وإياكم والتعريس على الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات.
__________________
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ ذكر
الله الأنعام في معرض الامتنان ، فساق فيها وجوها من المتاع ، وأنواعا من الانتفاع ، وساق
الخيل والبغال والحمير ، فكشف قناعها ، وبيّن انتفاعها ، وذلك الركوب والزينة ،
كما بين في تلك المتقدمة : الدفء واللبن والأكل.
قال ابن القاسم
وابن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، فجعلها للركوب والزينة ، ولم يجعلها للأكل ونحوه ، عن
أشهب ، ففهم مالك رحمه الله وجه إيراد النعم ، وما أعدّ الله له في كل نعمة من
الانتفاع ، فاقتصرت كلّ منفعة على وجه منفعتها التي عيّن الله له ، ورتّبها فيه ،
فأما الخيل ، وهي :
المسألة الثانية ـ
فقال الشافعى : إنها تؤكل ، وعمدته الحديث الصحيح ، عن جابر : نحرنا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه.
وروى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أذن في
لحوم الخيل ، وحرّم لحوم الحمر .
وقال علماؤنا :
كانت هذه الرواية عن جابر حكاية حال ، وقضية في عين ، فيحتمل أن يكونوا ذبحوا
لضرورة ، ولا يحتجّ بقضايا الأحوال المحتملة ، وأما الحمر ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
فقد ثبت في الصحيح أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم حرّمها يوم خيبر، واختلف في تحريمها على أربعة أقوال :
الأول ـ أنها
حرّمت شرعا.
الثاني ـ أنها
حرّمت لأنها كانت جوالّ القرية ، أى تأكل الجلة ، وهي النجاسة.
الثالث ـ أنها
كانت حمولة القوم ، ولذلك روى في الحديث أنه
قيل : يا رسول الله ، أكلت الحمر ، فنيت الحمر ، فحرّمها.
__________________
الرابع ـ أنها
حرّمت لأنها أفنيت قبل القسم ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلها ، حتى
تقسم.
وأما البغال ، وهي
:
المسألة الرابعة ـ
فإنها تحلق الحمير على كل قول.
فأما إن قلنا إنّ
الخيل لا تؤكل فهي متولّدة بين عينين لا يؤكلان ، وإن قلنا : تؤكل الخيل فإنها عين
متولدة بين مأكول وبين ما لا يؤكل ، فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول.
المسألة الخامسة ـ
في تحقيق المقصود :
قد بينا فيما تقدم
أنّ المحرمات مقصورة على ما في سورة الأنعام ، وحققنا ما يتعلق به وينضاف إليه في
آيات الأحكام منها ، وقد حررنا في كتب الخلاف أن مدار التحليل والتحريم في
المطعومات يدور على ثلاث آيات ، وخبر واحد.
الآية الأولى ـ قوله
: (وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).
الآية الثانية ـ قوله
: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ).
الآية الثالثة ـ آية
الأنعام ـ قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً).
الرابع الخبر ـ قوله
صلى الله عليه وسلم : أكل
كلّ ذي ناب من السباع حرام. وفي لفظ آخر : نهى
النبىّ صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وحرّم لحوم الحمر الأهلية. وقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) آخر آية نزلت ، كما سبق بيانه ، فإن عوّلنا عليها فالكلّ
سواها مباح ، وإن رأينا إلحاق غيرها بها حسبما يترتب في الأدلة ، كما قال النبىّ
صلى الله عليه وسلم : لا
يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، ثم جاءت الزيادة عليها حتى انتهت أسباب إباحة الدم عند
المالكية إلى عشرة أسباب ، فالحال في ذلك مترددة ، ولأجله اختار المتوسّطون من
علمائنا الكراهية في هذه الحرمات ، توسّطا بين الحلّ والحرمة ، لتعارض الأدلة ،
وإشكال مأخذ الفتوى فيها.
__________________
وقد قال الشافعى :
الثعلب والضبع حلال ، وهو قد عوّل على قوله : أكل كلّ ذي ناب من السباع حرام ،
ولكنه زعم أنّ الضبع يخرج عنه بحديث يرويه جابر
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع أحلال هي؟ قال : نعم ، وفيها إذا
أتلفها المحرم كبش.
وفي رواية : هي صيد ، وفيها كبش.
وهذا نصّ في
الاستثناء كما زعم لو صحّ ، ولكنه لم يثبت سنده ، ولو عوّلنا عليه لما خصصنا
التحليل من جملة السباع بالضبع ، ولكنا نقول : إنه ينبنى على قاعدة التحليل ، وإنّ
الكلّ قد خرج عن التحريم ، وانحصرت المحرّمات في آية الأنعام ، وهذه المعارضات هي
التي أوجبت اختلاف العلماء ، فانظروها واسبروها ، وما ظهر هو الذي يتقرر . والله أعلم.
المسألة السادسة ـ
ذكر الله الأنعام والخيل والبغال والحمير في مساق النعم ذكرا واحدا ، وذكر لكل جنس
منها منفعة حسبما سردناه لكم ، ثم اختلف العلماء في الخيل منها ، هل تؤخذ الزكاة
من مالكها أم لا؟
فقال جمهور
العلماء : لا زكاة فيها. وقال أبو حنيفة : فيها الزكاة منتزعا من قول النبي
صلى الله عليه وسلم : الخيل ثلاثة ، لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ... الحديث. قال فيه : ولم
ينس حقّ الله في رقابها ولا ظهورها.
واحتجوا بأثر يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في
الخيل السائمة في كل فرس دينار.
وعوّل أصحابه من
طريق المعنى على أنّ الخيل جنس يسام ، ويبتغى نسله في غالب البلدان ، فوجبت الزكاة
فيه كالأنعام.
وتعلّق علماؤنا بقول
النبي صلى الله عليه وسلم : ليس
على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة ، فنفى الصدقة عن العبد والفرس نفيا واحدا ،
وساقهما مساقا واحدا ، وهو صحيح. وروى الترمذي وغيره من المصنفين ، عن علىّ أنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم قال : عفوت
لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، إلا أنّ في الرقيق صدقة الفطر.
__________________
وقد كتب معاوية
إلى عمر : إنى وجدت أموال أهل الشام ـ الرقيق والخيل. فكتب إليه [عمر] أن دعهما ، ثم استشار عثمان ، فقال مثل ما قال عمر.
وروى أنّ أهل
الشام قد جمعوا صدقة خيولهم وأموالهم ، وأتوا بها عمر ، فاستشار عليّا فقال : لا
أرى به بأسا إلا أن تكون سنّة باقية بعدك.
فأما قوله صلى
الله عليه وسلم : ولم
ينس حق الله في [رقابها ولا] ظهورها فيعنى به الحملان في سبيل الله على معنى الندب والخلاص من الحساب.
وأما حديثهم في
الخيل السائمة في كل فرس دينار فيرويه غورك السعدي ، وهو مجهول.
جواب آخر ـ قد
ناقضوا فقالوا : إنّ الصدقة في إناثها لا في ذكورها. وليس في الحديث فضل بينهما ،
ونقيس الإناث على الذكور في نفى الصدقة ، فإنه حيوان يقتنى لنسله لا لدرّه ، لا
تجب الزكاة في ذكوره ، فلم تجب في إناثه ، كالبغال والحمير. والله أعلم.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْماً طَرِيًّا).
فسمّى الحوت لحما
، وأنواع اللحم أربعة : لحوم الأنعام ، ولحوم الوحش ، ولحوم الطير ، ولحوم الحوت.
ويعمّها اسم اللحم ، ويخصّها أنواعه ، وفي كل نوع من هذه الأنواع تتشابه ، ولذلك
اختلف علماؤنا فيمن حلف ألّا يأكل لحما ، فقال ابن القاسم : يحنث بكلّ نوع من هذه
الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة : لا يحنث إلا يأكل لحوم الأنعام دون الوحش
وغيره ، مراعاة للعرف والعادة ، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي ، وهذا يختلف
في البلاد ، فإنه من كان بتنّيس أو بالفرما لا يرى لحما إلا الحوت ، والأنعام قليلة فيها ، فعرفها عكس
__________________
عرف بغداد ، فإنه
لا أثر للحوت فيها ، وإنما المعوّل على لحوم الأنعام ، وإذا أجرينا
اليمين على الأسباب فسبب اليمين يدخل فيها ما لا يجرى على العرف ، ويخرجه منها ،
والنية تقضى على ذلك كله.
وقد يقول الرجل :
أشترى لحما وحيتانا فلا يعدّ تكرارا ، والذي أختاره وإن لم يكن للحالف نية ولا سبب ما قاله أشهب.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَتَسْتَخْرِجُوا
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها).
يعنى به اللؤلؤ
والمرجان ، لقوله سبحانه : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ). وهذا امتنان عامّ للرجال والنساء ، فلا يحرم عليهم شيء
منه ، وإنما حرّم الله على الرجال الذهب والحرير.
المسألة الثالثة ـ
قال الشافعى ، وأبو يوسف ، ومحمد : من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث ،
لقول الله سبحانه : (وَتَسْتَخْرِجُوا
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها). والذي يخرج منه اللؤلؤ.
وقال أبو حنيفة :
لا يحنث. ولم أر لعلمائنا فيها نصّا ، فإن لم يكن له نية فإنه حانث.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَعَلاماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
مجاهد : من النجوم ما يكون علامات ، ومنها ما يهتدون به.
وقال قتادة : خلق
الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها الله زينة للسماء ، وجعلها يهتدون بها ،
وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى منها غير ذلك سفه رأيه ، وأخطأ حظّه ، وأضاع
نفسه ، وتكلّف ما لا علم له به.
وقد بينا في كتب
الأصول وشرح الحديث تحقيق ذلك وتبيانه.
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَبِالنَّجْمِ) فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنّ الألف
واللام للجنس ، والمراد به جمع النجوم ، [ولا يهتدى بها إلا العارف] .
الثاني ـ أنّ
المراد به الثريا.
الثالث ـ أن
المراد به الجدى والفرقدان.
فأما جميع النجوم
فلا يهتدى بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها ، والمفرّق بين الجنوبي والشمالي منها
، وذلك قليل في الآخرين.
وأما الثريا فلا
يهتدى بها إلا من يهتدى بجميع النجوم ، وإنما الهدى لكل أحد بالجدى والفرقدين ،
لأنهما من النجوم المنحصرة المطلع ، الظاهرة السمت ، الثابتة في المكان ، فإنها
تدور على القطب الثابت دورانا محصلا ، فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق
، وفي البحر عند مجرى السفن ، وعلى القبلة إذا جهل السّمت ، وذلك على الجملة بأن
تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر ، فما استقبلت فهو سمت الجهة ، وتحديدها في
الإبصار أنك إذا نظرت الشمس في اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول طالعة فاجعل
بين وجهك وبينها في التقدير ذراعا ، وتكون مستقبلا للكعبة على التقريب ، سالكا إلى
التحقيق. وقد بينا ذلك في كتب الفقه وشرح الحديث.
المسألة الثالثة ـ
ومن الناس من قال : إنها يهتدى بها في الأنواء ، فإنّ الله قدّر المنازل ، ونزّل
فيها الكواكب ، ورتّب لها مطالع ومغارب ، وربط بها عادة نزول الغيث ، وبهذا عرفت
العرب أنواءها ، وتنظرت سقياها ، وإضافة كثرة السقيا إلى بعض ، وقلتها إلى آخر. ويروى
في الأثر أنّ عمر قال للعباس : كم بقي لنوء الثريا؟ فقال له : إنّ العرب تقول : إنها
تدور في الأفق سبعا ، ثم يدرّ الله الغيث ، فما جاءت السبع حتى غيث الناس.
وفي الموطأ : إذا
نشأت بحرية ، ثم تشاءمت فتلك عين غديقة .
__________________
ومن البلاد ما
يكون مطرها بالصّبا ، ومنها ما يكون مطرها بالجنوب ، ويزعم أهلها أنّ ذلك إنما
يدور على البحر ، فإذا جرّت الريح ذيلها على البحر ألقحت السحاب منه ، وإذا جرّت
ذيلها على البيداء جاءت سحابا عقيما ، وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما ـ أنا لا
نمنع ذلك في قدرة الله ، فإن ربّنا قادر على أن ينشئ الماء في السحاب إنشاء ، وهو
قادر على أن يسيب له ماء البحر الملح ويصعّده بعد أن كان مستفلا ، ويحلولى بتدبيره
، وقد كان ملحا ، وينزله إلينا فراتا عذبا ، ولكن تعيين أحد الوجهين لا
يكون بنظر ، لأنه ليس في العقل لذلك أثر ، وإنما طريقه الخبر ، فنحن نقول : هو
جائز ، ولو أخبر به الصادق لكان واجبا.
الثاني ـ أنّ
الشمال تسمّيها العرب المجرة ، لأنها تمخر السحاب ، ولا تمطر معها ، وقد تأتى
بحرية وبرية ، فدلّ هذا على أنّ الأمر موقوف على المشيئة ، وأنه لا يخبر عن الآثار
العلوية إلّا السنّة النبوية ، لا العقول الأرسطاطاليسية.
فإن قيل : فقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أجمعت عليه الأئمة :
قال الله تعالى :
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك
مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن
بالكواكب.
قلنا : إنما خرج
هذا على قول العرب التي كانت تعتقد أنّ ذلك من تأثير الكواكب لجاهليتها. وأما من
اعتقدها وقتا ومحلّا وعلامة ينشئه الله فيها ويدبّره عليها فليس من الذي نهى عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، وسيأتى إن
شاء الله.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ).
فجاء الضمير بلفظ
التذكير عائدا على جمع مؤنث.
وأجاب العلماء عن
ذلك بستة أجوبة :
الأول ـ قال
سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد ، وما أراه عوّل عليه إلا في هذه
الآية. وهذا لا يشبه منصبه ، ولا يليق بإدراكه.
الثاني ـ قال
الكسائي : معناه نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا ، وهذا تقدير بعيد لا يحتاج إليه.
الثالث ـ قال
الفراء : الأنعام والنعم واحد ، والنعم مذكّر ، ولهذا تقول العرب : هذا نعم وارد ، فرجع إلى لفظ النعم
الذي هو معنى الأنعام ، وهذا تركيب طويل مستغنى عنه.
الرابع ـ قال
الكسائي أيضا : إنما يريد نسقيكم مما في بطون بعضه ، وهو الذي عوّل عليه أبو عبيدة ، فإنه قال : معناه نسقيكم مما
في بطون أيها كان له لبن منها.
الخامس ـ أن
التذكير إنما جيء به ، لأنه راجع على ذكر النعم ، لأنّ اللبن للذكر منسوب ، ولذلك
قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ اللبن للفحل حين أنكرته عائشة رضى الله عنها في
حديث أفلح أخى أبى القعيس ، فقالت : إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل. فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم : إنه
عمّك فليلج عليك. بيان منه صلى
الله عليه وسلم ، لأن اللبن للمرأة سقى ، وللرجل إلقاح ، فجرى الاشتراك بينهما
فيه. وقد بينا في كتب الخلاف وشرح الحديث ، فلينظر هنالك إن شاء الله.
السادس ـ قال
القاضي الإمام أبو بكر : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى
الجماعة ، فذكر في آية النحل باعتبار لفظ الجمع المذكر ، وأنّث في آية المؤمن باعتبار تأنيث لفظ الجماعة ، وينتظم المعنى بهذا التأويل
انتظاما حسنا.
__________________
والتأنيث باعتبار
الجماعة والتذكير باعتبار الجمع أكثر في القرآن واللغة من رمل يبرين ومها فلسطين.
المسألة الثانية ـ
نبّه الله على عظيم القدرة بخروج اللبن خالصا من بين الفرث والدم بين حمرة الدم
وقذارة الفرث ، وقد جمعهما وعاء واحد ، وجرى الكل في سبيل متحدة ، فإذا نظرت إلى
لونه وجدته أبيض ناصعا خالصا من شائبة الجار ، وإذا شربته وجدته سائغا عن بشاعة
الفرث ، يريد لذيذا ، وبعضهم قال سائغا ، أى لا يغصّ به ، وإنه لصفته ، ولكن
التنبيه إنما وقع على اللذة وطيب المطعم ، مع كراهية الجار الذي انفصل عنه في
الكرش ، وهو الفرث القذر.
وهذه قدرة لا
تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
المسألة الثالثة ـ
قال بعض المتصورين بصورة المصنفين المتسورين في علوم الدين : إنّ هذه الآية تدلّ
على بطلان قول من يقول : إن المنىّ نجس ، لأنه خارج من المخرج الذي يخرج منه البول ، وهذا الله يقول في اللبن :
يخرج (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، فكما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا طاهرا ،
فكذلك يجوز أن يخرج المنىّ على مخرج البول طاهرا.
قال القاضي : قد
بيّنا في كتاب أصول الفقه صفة المجتهد المفتي في الأحكام المستنبط لها من الوحى
المنزّل ، ولو كانت تلك الصفات موجودة في هذا القائل ما نطق بمثل هذا ، فإنّ اللبن
جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنّة الصادرة عن القدرة ، ليكون عبرة ، فاقتضى ذلك
كلّه له وصف الخلوص واللذة والطهرة ، وأين المنىّ من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به
أو مقيسا عليه ، إن هذا لجهل عظيم.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
فيها ست مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قال
قوم : المعنى : ومن ثمرات النّخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا.
وقال آخرون :
معناه شيء تتخذون منه سكرا ، ودلّ على حذفه قوله : «منه» ، فلذلك ساغ حذفه ،
والأمر في ذلك قريب.
المسألة الثانية ـ
قوله : (سَكَراً).
فيه خمسة أقوال :
الأول ـ تتخذون
منه ما حرّم الله ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وغيرهما.
الثاني ـ أنه خمور
الأعاجم ، قاله قتادة ، ويرجع إلى الأول.
الثالث ـ أنه الخل
، قاله الحسن أيضا.
الرابع ـ أنه
الطعم الذي يعرف من ذلك كلّه ، قاله أبو عبيدة.
الخامس ـ أنه ما
يسدّ الجوع ، مأخوذ من سكرت النهر ، إذا سددته.
المسألة الثالثة ـ
الرزق الحسن :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه ما
أحلّ الله ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.
الثاني ـ أنه
النبيذ والخلّ ، قاله قتادة.
الثالث ـ أنه الأول
، يقول : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، فجعل له اسمين ، وهو واحد.
المسألة الرابعة ـ
أما هذه الأقاويل فأسدّها قول ابن عباس : إنّ السّكر الخمر ، والرزق الحسن ما
أحلّه الله بعدها من هذه الثمرات. ويخرج ذلك على أحد معنيين : إما أن يكون ذلك قبل
تحريم الخمر ، وإما أن يكون المعنى : أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب
تتّخذون منه ما حرّم الله عليكم اعتداء منكم ، وما أحل الله لكم اتفاقا أو قصدا
إلى منفعة أنفسكم.
والصحيح أنّ ذلك
كان قبل تحريم الخمر ، فإنّ هذه الآية مكّية باتفاق من العلماء ، وتحريم الخمر
مدنىّ.
فإن قيل ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
إن المراد بقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَراً) ما يسكر من الأنبذة ، وخلّا ، وهو الرزق الحسن.
والدليل على هذا
أن الله امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ، ولا يقع الامتنان إلا بمحلّل لا
بمحرّم ، فيكون ذلك دليلا على جواز ما دون المسكر من النبيذ ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز ، قاله أصحاب أبى
حنيفة. وعضدوا رأيهم هذا من السنّة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
حرّم الله الخمر
لعينها والسكر من غيرها. وبما روى أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم ،
فإذا كان في اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخدم إذا تغيّر ، ولو كان حراما ما سقاه إياهم.
فالجواب أنا نقول
: قد عارض علماؤنا هذه الأحاديث بمثلها ، فروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام. خرّجه الدارقطني وجوّده ، وثبت في الصحاح عن الأئمة أنه
قال : كلّ مسكر حرام. وروى الترمذي وغيره ، عن عائشة أنّها قالت : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : كلّ
مسكر حرام ، ما أسكر الفرق فملء الكفّ منه حرام ، وروى : فالحسوة منه حرام.
وقد ثبت تحريم
الخمر باتفاق من الأئمة ، وقد روى عن النعمان بن بشير ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : إنّ
من الحنطة خمرا ، وإنّ من الشعير خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من الزبيب خمرا ،
وإن من العسل خمرا. خرجه الترمذىّ وغيره.
وفي الصحيح عن عمر
بن الخطاب أنه قال ذلك على المنبر ، فإن كان قاله عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو شرع متبع ، وإن كان أخبر به عن اللغة فهو حجّة فيها ، لا سيما وهو
نطق به على المنبر ما بين أظهر الصحابة ، فلم يقم من ينكر عليه.
جواب آخر ـ أما
قولهم : إنّ الله امتنّ ، ولا يكون امتنانه وتعديده إلا بما أحلّ فصحيح ، بيد أنه
يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ، ثم حرّمت بعد.
__________________
فإن قيل : كيف
يحرم ما أحل الله هاهنا ، وينسخ هذا الحكم ، وهو خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ.
قلنا : هذا كلام
من لم يتحقق الشريعة ، وقد بينا حقيقته قبل ، وأوضحنا أن الخير إذا كان عن الوجود الحقيقي فذلك الذي لا يدخله نسخ ، أو كان عن الفضل
المعطى ثوابا فهو أيضا لا يدخله نسخ ، فأما إن كان خبرا عن حكم الشرع فالأحكام تتبدّل وتنسخ
جاءت بخبر أو بأمر ، ولا يرجع ذلك إلى تكذيب في الخبر أو الشرع الذي كان مخبرا عنه
قد زال بغيره.
وإذا فهمتم هذا
خرجتم عن الصنف الغبىّ الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). يعنى أنهم جهلوا أنّ الربّ يأمر بما يشاء ، ويكلّف ما
يشاء ، ويرفع من ذلك بعدله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وعنده أمّ الكتاب.
جواب ثالث ـ وأما ما عضدوه به من الأحاديث فالأول ضعيف ، والثاني في
سقى النبىّ صلى الله عليه وسلم ما بقي للخدم صحيح ، لكنه ما كان يسقيه للخدم لأنه
مسكر ، وإنما كان يسقيه لأنه متغيّر الرائحة ، وكان صلى الله عليه وسلم أكره الخلق
في خبيث الرائحة ، ولذلك تحيّل عليه أزواجه في عسل زينب ، فإنهن قلن له : إنا نجد منك ريح مغافير ـ يعنى ريحا ننكره . وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة مع أصحاب أبى حنيفة
في كتب الخلاف أثرا ونظرا ، فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً).
وإذا قيل : إنّ
ثمرات الحبوب وغيرها تتخذ منه رزق حسن وسكر.
__________________
قلنا : هذه الحبوب
وسائر الثمرات وإن وقع الامتنان بها ، وكانت لها وجوه ينتفع منها ، فلا يقوم مقام
النخل ، والعنب شيء ، لأنّ فيه الخل ، وهو أجل منفعة في العالم ، فإنه دواء وغذاء
، فلما لم يحل محل هاتين الثمرتين شيء خصّا بالتنبيه عليهما.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
بينا في شرح الحديث وكتب الأصول أنّ الوحى ينقسم على ثمانية أقسام : منها الإلهام
، وهو ما يخلقه الله في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، وهو من قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). ومن ذلك البهائم وما يخلق الله فيها من درك منافعها ،
واجتناب مضارّها ، وتدبير معاشها.
ومن عجيب ما خلق
الله في النحل أن ألهمها لاتّخاذ بيوتها مسدّسة ، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة
الواحدة ، وذلك أنّ الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله
لم يتّصل ، وجاءت بينهما فرج إلا الشكل المسدس ، فإنه إذا جمع إلى أمثاله التسديس
، يحمى بعضها بعضا عند الاتصال. وجعلت كل بيت على قدرها ، فإذا تشكل عند حركة
النحلة بقدرة الله وعلمه ، وملأته عسلا انتقلت إلى غيره بتسخير الله وتقديره
وتذليله ، إن تركت عسلت ، وإن حملت اتبعت ، وهي ذات جناح ، ولكن القابض الباسط هو
الذي سخّرها ودبّرها.
المسألة الثانية ـ
قوله : (يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها شَرابٌ) ، يعنى العسل ، عددها الله في نعمه ، وذكر شرابه ممتّنا به
، وسماه شرابا وإن كان مطعوما ، لأنه يصرف في الأشربة أكثر من تصريفه في الأطعمة ،
ولأنه مائع ، وذلك بالشرابية أخصّ كما أن الجامد أخص بالطعامية.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ).
يريد أنواعه من
الأحمر والأبيض والأصفر ، والجامد والسائل ، والأمّ واحدة ، والأولاد مختلفون ،
دليل على أنّ القدرة نوّعته بحسب تنويع الغذاء ، وإن كان لا يخرج على صفته ، ولا
يجيء إلا من جنسه ، ولكن يؤثّر بعض التأثير فيه ليدل عليه ، ويغيّره الله ، لتتبين
قدرته في التصريف بين الأمرين ، كما قال تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ
وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).
المسألة الرابعة ـ
قوله : (فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ).
وقد روى الأئمة ،
واللفظ للبخاري ، قال عروة عن عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء
والعسل. وروى أيضا عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة
محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة نار.
وروى أيضا ، عن
أبى سعيد الخدري ، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخى يشتكى بطنه. فقال : اسقه عسلا.
ثم أتاه الثانية ، فقال : اسقه عسلا. ثم أتاه الثالثة ، فقال : اسقه عسلا ، ثم
أتاه ، فقال : فعلت. فما زاده ذلك إلا استطلاقا. فقال : صدق الله ، وكذب بطن أخيك
، اسقه عسلا ، فسقاه فبرئ.
وكان ابن عمر لا
يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا خرج عليه طلاه بعسل ، فقيل له
في ذلك ، فقال : أليس الله يقول : (فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ).
وروى أن عوف بن
مالك الأشجعى مرض فقيل له : ألا نعالجك! قال : ائتوني بماء سماء ، فإن الله يقول : (وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) ، وائتوني بعسل ، فإن الله يقول : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). وائتوني بزيت ، فإن الله يقول : (مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ) ، فجاءوه بذلك كله ، فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ.
وقال مجاهد ،
والحسن ، والضحاك : إن الهاء في قوله : «فيه» يعود على القرآن ، أى القرآن شفاء
للناس.
__________________
وهذا قول بعيد ،
ما أراه يصحّ عنهم ، ولو صح نقلا لم يصح عقلا ، فإنّ مساق الكلام كله للعسل ، ليس
للقرآن فيه ذكر. وكيف يرجع ضمير في كلام إلى ما لم يجر له ذكر فيه ، وإن كان كله
منه؟ ولكنه إنما يراعى مساق الكلام ومنحى القول ، وقد حسم النبىّ في ذلك ذا
الإشكال ، وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكى بطنه بشرب العسل ، فلما أخبره
بأن العسل لما سقاه إياه ما زاده إلا استطلاقا أمره النبىّ صلى الله عليه وسلم
بعود الشرب له ، وقال له : صدق
الله ، وكذب بطن أخيك.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ).
اختلف في محمله ،
فقالت طائفة : هو على العموم في كل حال ، ولكل أحد ، كما سقناه من رواية ابن عمر
وعوف ، ومنهم من قال : إنه على العموم بالتدبير ، إذ يخلط الخل بالعسل ويطبخ ،
فيأتى شرابا ينفع في كل حالة من كل داء.
وقد اتّفق الأطباء
عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السّكنجبين في كل مرض.
ومنهم من قال :
إنّ ذلك على الخصوص ، وليس هذا بأول لفظ عامّ حمل على مقصد خاص ، فالقرآن مملوء
منه ، ولغة العرب يأتى فيها العامّ كثيرا بمعنى الخاص ، والخاصّ بمعنى العام. ألا
ترى إلى قول الشاعر :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
والمراد كلّ
النفوس ، إذ لا تخلو نفس من ارتباط الحمام لها.
والصحيح عندي أنه
يجرى على نية كلّ أحد ، فمن قويت نيّته ، وصحّ يقينه ففعل فعل عوف ، وابن عمر وجده
كذلك ، ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء ،
والكلّ من حكم الفعّال لما يشاء.
__________________
المسألة السادسة ـ
اتفق العلماء على أنّ العسل لا زكاة فيه ، وإن كان مطعوما مقتاتا ، ولكنه كما روى في ذكر النحل
ذباب غيث ، وكما جاء في العنبر أنه شيء دسره البحر ، فأحدهما يطير في الهواء ، والآخر يطفو على الماء ،
وكلاهما في هذا الحكم سواء ، وقد خص الله الزكاة بما خصّها من الأموال المقاتة ،
والأعيان النامية ، حسبما بينّاه منها في مواضعها فليقف عندها.
وقد روى مالك ، عن
عبد الله بن أبى بكر بن حزم ، أنه قال : جاء كتاب من عمر ابن عبد العزيز إلى أبى ،
وهو بمنى ، ألّا يأخذ من العسل ولا من الخيل صدقة.
وقد قال علماؤنا :
إنّ العسل طعام يخرج من حيوان فلم تجب فيه الزكاة كاللبن ، وليس هذا بشيء ، فإن
الأصل الذي يخرج منه اللبن عين زكاتية ، وقد قضى حق النعمة فيه وحاز الاستيفاء لمنافعها ، بخلاف العسل
، فإنه لا زكاة في أصله ، فلا يصح اعتباره باللبن.
وقد قال أبو حنيفة
: تجب الزكاة في العسل ، محتجّا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل
العشر.
والحديث لا أصل له
، اللهم إلا أن سعد بن أبى ذباب روى عنه أنه قال : قدمت
على النبىّ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، اجعل لقومي ما أسلموا عليه
من أموالهم ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعملني عليهم ، ثم استعملني
أبو بكر وعمر ، قال : فكلمت قومي في العسل ، فقلت لهم : زكوه ، فإنه لا خير في
ثمرة لا تزكّى. قالوا : كم؟ فقلت : العشر. فأخذت منهم العشر ، فأتيت عمر فأخبرته ،
فقبضه ، وباعه ، وجعله في صدقات المسلمين ، فإن صحّ هذا كان بطواعيتهم صدقة نافلة
، وليس كلامنا في ذلك ، وإنما نحن في فرض أصل الصدقة عليه ، ولم يثبت ذلك فيه ، وفيما ذكرناه كفاية. والله أعلم.
__________________
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ
وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ، يعنى من جنسكم ، يعنى من الآدميين ، ردّا على العرب التي
كانت تعتقد أنها تزوج الجنّ وتباضعها ، حتى روت أن عمرو ابن هند تزوّج منهم غولا ،
وكان يخبؤها عن البرق ، لئلا تراه فتنفر ، فلما كان في بعض الليالى لمح البرق
وعاينته السّعلاة ، فقالت : عمرو! ونفرت فلم يرها أبدا ، وهذا من أكاذيبها ،
وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته ، ردا على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجنّ ، ويحيلون طعامهم
ونكاحهم.
وقيل : أراد به
قوله : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حسبما تقدم بيانه في سورة الأعراف.
المسألة الثانية ـ
قوله : (أَزْواجاً) زوج المرأة هي ثانيته ، فإنه فرد ، فإذا انضافت إليه كانا
زوجين ، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود ، وقوامها في المعاش
، وأميرها في التصرف ، وعاقلها في النكاح ، ومطلقها من قيده ، وعاقل الصداق
والنفقة عنها فيه ، وواحد من هذا كله يكفى للأصالة ، فكيف بجميعها؟
المسألة الثانية
قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً).
وجود البنين يكون
منهما معا ، ولكنه لما كان تخلّق المولود فيها ، ووجوده ذا روح وصورة بها ،
وانفصاله كذلك عنها ، أضيف إليها ، ولأجله تبعها في الرق والحرية ، وصار مثلها في
المالية.
__________________
سمعت إمام
الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء على بن عقيل يقول : إنما تبع الولد الأم في
المالية ، وصار بحكمها في الرّق والحرية ، لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ،
ولا مالية فيه ، ولا منفعة مثبوتة عليه ، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها ، فلأجل
ذلك تبعها ، كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل ، فسقطت منه نواة في الأرض من يد
الآكل ، فصارت نخلة ، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة ، لأنها
انفصلت من الآكل ولا قيمة لها ، وهذه من البدائع.
المسألة الرابعة ـ
في تفسير قوله : (وَحَفَدَةً).
وفيها ثمانية
أقوال :
الأول ـ أنهم
الأختان ، قاله ابن مسعود.
الثاني ـ أنهم
الأصهار ، قاله ابن عباس.
الثالث ـ قال محمد
بن الحسن : الختن الزوج ، ومن كان من ذوى رحمه. والصهر من كان من قبل المرأة من
الرجال.
الرابع ـ أنها ضد
ذلك ، قاله ابن الأعرابى.
الخامس ـ قال
الأصمعى : الختن من كان من الرجال من قبل المرأة ، والأصهار منهما جميعا.
السادس ـ الحفدة :
أعوان الرجل وخدمه ، روى عن ابن عباس أنه قال : من أعانك فقد حفدك ، وبه قال
عكرمة.
السابع ـ حفدة
الرجل أعوانه من ولده.
الثامن ـ أنه ولد
الرجل وولد ولده.
المسألة الخامسة ـ
هذه الأقوال كما سردناها إما أخذت عن لغة ، وإما عن تنظير ، وإما عن اشتقاق ، وقد
قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) ، فالنّسب ما دار بين الزوجين. والصّهر ما تعلق بهما ،
ويقال أختان المرأة وأصهار الرجل عرفا
__________________
ولغة ، ويقال لولد
الولد الحفيد ، ويقال حفده يحفده بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل إذا
خدمه ، ومنه قولهم في الدعاء : وإليك نسعى ونحفد. فالظاهر عندي من قوله : «بنين»
أولاد الرجل من صلبه ، ومن قوله : «حفدة» أولاد ولده. وليس في قوة اللفظ أكثر من
هذا. ونقول : تقدير الآية على هذا : «والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، ومن
أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة».
ويحتمل أن يريد به
: (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ
وَحَفَدَةً) ، فيكون «البنين» من الأزواج ، والحفدة من الكلّ ، من زوج
وابن ، يريد به خداما ، يعنى أنّ الأزواج والبنين يخدمون الرجل بحقّ قواميته
وأبوّته. وقد قال علماؤنا : يخدم الرجل زوجه فيما خفّ من الخدمة ويعينها ، وقد
قالوا في موضع آخر : يخدمها. وقالوا في موضع آخر : ينفق على خادم واحدة. وفي رواية
على أكثر من واحدة على قدر الثروة والمنزلة ، وهذا أمر دائر على العرف والعادة
الذي هو أصل من أصول الشريعة ، فإن نساء الأعراب وسكان البادية يخدمن أزواجهن حتى
في استعذاب الماء وسياسة الدواب. ونساء الحواضر يخدم المقلّ منهم زوجه فيما خفّ
ويعينها. وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب في ذلك ،
وإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك ، فتشهد عليه أنه قد عرف أنها ممن لا
تخدم نفسها ، فالتزم إخدامها ، فينفذ ذلك عليه ، وتنقطع الدعوى فيه. وهذا هو القول
الصحيح في الآية لما قدمناه.
وقد روى ابن
القاسم عن مالك قال : وسألته عن قول الله : (بَنِينَ وَحَفَدَةً) ما الحفدة؟ قال : الخدم والأعوان في رأى.
ويروى أنّ الحفدة
البنات يخدمن الأبوين في المنازل.
ويروى أن نافع بن
الأزرق سأل ابن عباس عن قوله : «وحفدة» قال : هم الأعوان ، من أعانك فقد حفدك. قال
: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، وتقوله. أما سمعت قول الشاعر :
حفد الولائد
حولهنّ وألقيت
|
|
بأكفهنّ أزمّة
الإجمال
|
وتصريف الفعل حفد
يحفد كما قدمنا حفدا وحفودا وحفدانا.
وقال الخليل بن
أحمد : إنّ الحفدة عند العرب الخدم ، وكفى بمالك فصاحة ، وهو محض العرب في قوله : إنهم الخدم. وبقول الخليل ، وهو ثقة في نقله عن
العرب ، فخرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان.
وقد روى البخاري
وغيره ـ واللفظ له ـ عن سهل بن سعد أن أبا أسيّد الساعدي دعا النبىّ صلى الله عليه
وسلم لعرسه ، فكانت امرأته خادمهم يومئذ ، وهي العروس ، فقال: أو تدرون ما أنقعت
لرسول الله؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور .
وكذلك روى عن
عائشة أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله ، فإذا سمع الأذان
خرج. وهذا هو قول مالك : ويعينها.
وفي أخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل ، ويقم البيت ، ويخيط الثوب.
وقد روى الترمذي
أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويركب الحمار ، ويجيب
دعوة العبد ، وكان يوم بنى قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف.
وقال عن عائشة ـ وقد قيل لها : ما كان رسول الله يعمل في البيت؟ قالت : كان بشرا
من البشر ، يفلى ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه.
قال القاضي أبو
بكر : حتى في وضوئه ، فروى من
طريق عن ابن عباس أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيت خالته ميمونة في ليلة كانت لا
تصلى فيها ، فأوى رسول الله إلى فراشه ، فلما كان في جوف الليل قام فخرج إلى
الحجرة فقلب في أفق السماء وجهه ، ثم قال : نامت العيون ، وغارت النجوم ، والله حىّ قيّوم ، ثم عمد إلى قربة في جانب
__________________
الحجرة
فحلّ شناقها ثم توضأ فأسبغ الوضوء. خرجه ابن حماد الحافظ ، وقد بيناه
في كتاب التقصي وغيره.
ومن أفضل ما يخدم
المرء فيه نفسه العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه حتى يكون عملها كلّها
لوجه الله ، وعمل شروطها وأسبابها كلّها منه ، فذلك أعظم للأجر إذا أمكن.
وقد خرج البخارىّ
في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد : سألت
عائشة ما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : كان يكون في مهنة
أهله ، فإذا حضرت الصلاة خرج. ومن الرواة من قال : إذا
سمع الأذان خرج ، قال الإمام يعنى
الإقامة.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ هذا
مثل ضربه الله للكافر والمؤمن في قول ، وللمخلوق والخالق في [قول] آخر ، معناه أنّ العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو
الكافر ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا هو المؤمن ، آتاهما الله مالا كثيرا ورزقا
واسعا ، فأما الكافر فبخل به وأمسك عليه ، وأما المؤمن فقلّب به في ذات الله يمينا
وشمالا هكذا وهكذا سرّا وجهارا.
وأما المعنى على
ضرب المثل للمخلوق والخالق فهو عندهم أنّ العبد المملوك هو الصبىّ لا يقدر على شيء
لغرارته وجهالته ، كما قال بعد ذلك : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً). وضرب المثل بقوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ
مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) لله.
وقد ضرب الله
الأمثال لنفسه على وجه بديع بينّاه في قانون التأويل ، ولم يأذن لأحد من الخلق فيه
، وقال : (فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ) ، يعنى [لا تضربوا] أنتم الأمثال الله ،
__________________
فإنّ الله يعلم ما
يقول ويريد ، وأنتم لا تعلمون ما تقولون ، وما تريدون إلا إذا علمتم وأذن لكم في
القول.
المسألة الثانية ـ
قوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً
لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) إثبات في نكرة ، فليس يقتضى الشمول ، ولا يعطى العموم ،
وإنما يفيد واحدا بهذه الصفة.
ويجوز أن يكون
العبد المملوك يقدر بأن يقدره مولاه ، فينقسم حال العبيد المماليك إلى قسمين :
أحدهما ـ ما يكون
في أصل وضعه لا يقدر.
الثاني ـ أن يقدر
بأن توضع له القدرة ، ويمكّن من التصرف والمنفعة ، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة :
لا يقدر وإن أقدر ، ولا يملك وإن ملك.
وللشافعي قولان.
وتعلّق أصحاب أبى
حنيفة بأنه مملوك ، فلا يملك. أصله البهيمة ، قال أهل خراسان : وهذا الفقه صحيح ، وذلك أن المملوكية تنافى المالكية ،
فإن المملوكية تقتضي الحجر والمنع ، والمالكية تقتضي الإذن والإطلاق ، فلما تناقضا
لم يجتمعا.
وقال علماؤنا : إن
الحياة والآدمية علة الملك ، فهو آدمي حىّ ، فجاز أن يملك كالحر ، وإنما طرأ عليه
الرق عقوبة ، فصار للسيد عليه حق الحجر ، وذمته خالية عن ذلك ، فإذا أذن له سيده
وفكّ الحجر عنه رجع إلى أصله في المالكية بعلّة الحياة والآدمية وبقاء ذمّته خالية
عن ذلك كله.
والذي يدلّ على
صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم : من
باع عبدا وله مال فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ، فأضاف المال إلى العبد ،
وملّكه إياه وجعله في البيع تبعا له.
فإن قيل : هذه
إضافة محل ، كما يقال سرج الدابة وباب الدار ، فيضاف ذلك إليهما ، إضافة محلّ لا
إضافة تمليك.
__________________
قلنا : إنما كانت
هذه إضافة محل ، لأن الدابة والدار لا يصحّ منهما الملك ولا يصح لهما التمليك ،
بخلاف العبد ، فإنه آدمىّ حىّ ، فصحّ أن يملك ويملّك ، وجاز أن يقدر ويقدر.
والدليل القاطع
لرأيهم المفسد لكلامهم أنه إذا أذن له سيّده في النكاح جاز ، فنقول: من ملك
الأبضاع ملك المتاع كالحرّ. وهذا لأنّ البضع أشرف من المال ، فإذا ملك البضع
بالإذن فأولى وأحرى أن يملك المال الذي هو دونه في الحرمة بالإذن.
فإن قيل : إنما
جاز له النكاح ضرورة ، لأنه آدمي يشتهى طبعا ، فلو منعناه استيفاء شهوته الجبلّية
لأضررنا به ، ولو سلطناه على اقتضائها بصفة البهائم ، لعطّلنا التكليف ، فدعت الضرورة
إلى الإذن في النكاح له ، إذ لا يصحّ الانتفاع بالبضع على ملك الغير ، بخلاف المال
، فإنه يستباح على ملك الغير بالأكل واللباس والركوب ، ويكفى فيه مجرد الإذن
والإباحة دون التمليك ، وهذه عمدتهم.
وقد أجاب عنها
علماؤنا بأجوبة كثيرة ، عمدتها أن الضرورة لا تبيح الفروج ، وإنما إباحتها في
الأصل طلبا للنسل بتكثير الخلق ، وتنفيذا للوعد ، فبهذه الحكمة وضعت إباحتها ،
وشرع النكاح لاستبقائها.
فقولهم : إنها
أبيحت ضرورة غلط. وقد أجابوا عنه بأنّ النكاح لو كان مباحا له بالضرورة لتقدّر
بقدر الضرورة ، فلا يجوز له إلّا النكاح واحدة.
فإن قلتم : إنها
ربما لا تعصمه ، فكان من حقكم أن تبلغوه إلى الأربع ، كما قال علماؤنا ، فلما لم
يفعلوا ذلك استدللنا به على أنّ هذا الحكم إنما جرى على مقتضى الدليل ، لا بحكم
الضرورة.
وأما قولهم : إنّ
المملوكية تناقض المالكية على ما بسطوه ، فلا يلزم ، لأنها إنما تناقضها إذا
تقابلتا بالبداءة. فأما إذا كان الحجر طارئا بالرقّ ، وكان الأصل بالحياة والآدمية
الإطلاق ، فلا بأس أن يرفع المالك للحجر حكمه بالإذن ، كما يرتفع في النكاح ، ولا
جواب لهم عن هذا.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ
مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً
تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).
فيها ثماني مسائل
:
المسألة الأولى ـ قوله
: (مِنْ بُيُوتِكُمْ).
اعلموا وفّقكم
الله لسلوك سبيل المعارف أنّ كلّ ما علاك فأظلّك فهو سقف ، وكلّ ما أقلّك فهو أرض
، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت.
المسألة الثانية ـ
قوله : (سَكَناً).
يعنى محلّا تسكنون
فيه ، وتهدأ جوارحكم عن الحركة ، وقد تتحرك فيه ، وتسكن في غيره ، إلّا أنّ القول
خرج فيه على غالب الحال ، وهو أن الحركة تكون فيما خرج عن البيت ، فإذا عاد المرء
إليه سكن. وبهذا سمّيت مساكن لوجود السكون فيها في الأغلب ، وعدّ هذا في جملة
النعم ، فإنه لو خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد ، ولو خلق
ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد ، ولكنه أوجده خلقا يتصرّف بالوجهين ، ويختلف
حاله بين الحالين ، وردده بين كيف وأين.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها).
يعنى جلود الإبل
والبقر والغنم ، فإنه يتّخذ منها بيوتا ، وهي الأخبية ، فتضرب فيسكن فيها ، ويكون
بنيانا عاليها ونواحيها ، وهذا أمر انتشر في تلك الديار ، وعريت عنه بلادنا ، فلا تضرب الأخبية إلا من الكتان والصوف. وقد
كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبّة من أدم ، وناهيك بأديم الطائف غلاء في القيمة ،
واعتلاء في الصفة ، وحسنا في البشرة. ولم يعدّ ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا
رآه سرفا ، لأنه مما امتنّ الله به من نعمه ، وأذن فيه
__________________
من متاعه ، وظهرت
وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان.
ومن غريب ما جرى
أنى زرت بعض المتزهّدين من الغافلين مع بعض رجال المحدّثين ، فدخلنا عليه في خباء
كتّان ، فعرض عليه صاحبي المحدّث أن يحمله إلى منزله ضيفا ، وقال : إنّ هذا موضع
يكثر فيه الحر ، والبيت أرفق بك ، وأطيب لنفسي فيك. فقال له : هذا الخباء لنا كثير
، وكان في صنفها من الحقير. فقلت له : ليس كما زعمت ، قد كانت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ـ وهو رئيس الزهّاد ـ قبّة من أدم طائفىّ يسافر معها ، ويستظلّ
بها ، فبهت ورأيته على منزلة من العىّ ، فتركته مع صاحبي ، وخرجت عنه.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها).
أذن الله سبحانه
في هذه الآية بالانتفاع بصوف الغنم ، ووبر الإبل ، وشعر المعز ، كما أذن في الأعظم
، وهو ذبحها وأكل لحومها. كما أخبر أنه خلق لنا ما في الأرض جميعا ، وعلم كيفية
الانتفاع بها.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (أَثاثاً).
هو كلّ ما يحتاج
المرء إلى استعماله من آلة ، ويفتقر إليه في تصريف منافعه من حاجة ، ومنه أثاث
البيت ، وأصله من الكثرة ، يقال : أثّ النبت يئثّ ، إذا كثر ، وكذلك الشعر يقال :
شعر أثيث ، إذا كان كثيرا ملتفّا.
المسألة السادسة ـ
قوله : (وَمَتاعاً).
وهو كلّ ما انتفع
به المرء في مصالحه ، وصرّفه في حوائجه ، يقال : تمتع الرجل بماله إذا نال لذّته ،
وببدنه إذا وجد صحته ، وبأهله إذا أصاب حاجته ، وببنيه إذا ظهر بنصرتهم ، وبجبيرته
إذا رأى منفعتهم.
المسألة السابعة ـ
قوله : (إِلى حِينٍ).
واختلف فيه ، فقيل
: إلى أن يفنى كلّ واحد منهما بالاستعمال. وقيل : إلى حين الموت.
__________________
واختلف الفقهاء بحسب اختلاف التأويل ، فقال مالك وأبو حنفية : إنّ
الموت لا يؤثر في تحريم الصوف والوبر ، والشعر ، لأنه لا يلحقها ، إذ الموت عبارة
عن معنى يحل بعد عدم الحياة ، ولم تكن الحياة في الصوف والوبر والشعر فيخلفها الموت فيها.
وقال الشافعى :
إنّ ذلك كلّه يحرم بالموت ، لأنه جزء من أجزاء الميتة. وقد قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). وذلك عبارة عن الجملة ، وإن كان الموت يحلّ ببعضها.
والجواب عن قوله
هذا أنّ الميتة وإن كان اسما ينطلق على الجملة فإنه إنما يرجع بالحقيقة إلى ما فيه
حياة ، فنحن على الحقيقة لا نعدل عنها إلى سواها.
وقد تعلّق إمام
الحرمين من أصحابهم بأنّ الموت وإن كان لا يحلّ الصوف والوبر والشعر ، ولكن
الأحكام المتعلقة بالجثة تتعدّى إلى هذه الأجزاء من الحلّ والحرمة والأرش ،
وتتبعها في حكم الإحرام ، وغير ذلك من الأحكام ، فكذلك الطهارة
والتنجيس.
وتحريره أن نقول :
حكم من أحكام الشريعة متعلّق بالأجزاء من الجملة ، أصله سائر الأحكام المذكورة ،
وهذا لا تعويل عليه ، فإنا بيّنا أنّ الحقيقة معنا ، وأما الأحكام فهي متعارضة ،
فلئن شهد له ما ذكر من الأحكام على إتباع هذه الأجزاء للجملة فليشهدن لنا بانفصال
هذه الأجزاء عن الجملة الحكم الأكبر ، وهي إبانتها عن الجثّة في حالة الحياة
وإزالتها منها ، وهو دليل يعضدنا ظاهرا أو باطنا ، فلو كانت هذه الأجزاء تابعة في
الجملة لتنجست بإبانتها عنها ، كأجزاء الأعضاء ، وإذا تعارضت
الأحكام وجب الترجيح بالحقيقة ، على أن هذه الأحكام التي تعلّقوا بها لا حجة فيها
، أما الحلّ والحرمة فإنما يتعلقان باللذة ، وهي في الشّعر كما تكون في البدن.
وأما الإحرام فإنه
يتعلق بإلقاء التّفث ، وإذهاب الزينة ، والشعر من ذلك الوصف.
وأما الأرش فإنه
يتعلّق بإبطال الجمال تارة وإبطال المنفعة أخرى ، والجمال والمنفعة معا موجودان في
الشّعر أو أحدهما ، بخلاف الطهارة والتنجيس ، فإنه حكم يترتّب على الحياة والموت ،
وليس للصوف ولا للوبر ولا للشعر مدخل بحال.
__________________
وقد عوّل الشيخ
أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أنّ الشعر والصوف والوبر جزء متّصل بالحيوان
اتصال خلقة ، ينمى بنمائه ، فينجس بموته ، كسائر الأجزاء.
وأجاب عن ذلك
علماؤنا بأنّ النماء ليس بدليل على الحياة ، فإن النبات ينمى وليس بحىّ ، وإذا
عوّلوا على النماء المتصل بالحيوان عوّلنا على الإبانة التي تدلّ على عدم الإحساس
الذي يدلّ على عدم الحياة ، وقد استوفينا القول فيها في مسائل الخلاف ، وأشرنا
إليه فيما تقدم ، وبمجموع هذه الأقوال يتحصّل العلم لكم ، ويخلص من الإشكال عندكم.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) ، ولم يذكر القطن ولا الكتّان ، لأنه لم يكن في بلاد العرب
المخاطبين به ، وإنما عدّد عليهم ما أنعم به عليهم ، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا
، وما قام مقام هذه وناب منابها يدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها ، وهذا كقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ
عَنْ مَنْ يَشاءُ) ، فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم ،
وسكت عن ذكر الثلج لأنه لم يكن في بلادهم ، وهو مثله في الصفة والمنفعة ، وقد
ذكرهما النبىّ صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال : اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد ، ونقّنى
من الذنوب والخطايا ، كما ينقى الثوب [الأبيض] الدنس بالماء.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ،
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ،
كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ عدّد
الله في هذه الآية من نعمه ما شرح فيها حاله ، فمنها الظلال تقى من حرّ الشمس الذي
لا تحتمله الأبدان ، ولا يبقى معه ولا دونه الإنسان ، من شجر وحجر وغمام ، ومن
جملتها الجبال ، وهي :
المسألة الثانية ـ
خلقها الله عدّة للخلق ، يأوون إليها ، ويتحصّنون بها ، ويعتزلون
__________________
الخلق فيها ، فقد
كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يتعبّد بغار حراء ، ويمكث فيه الليالى ذوات العدد ،
ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى أهله وقد خرج مهاجرا إلى ربّه ، هاربا من قومه ، فارّا
بدينه من الفتن مع أصحابه ، واستحصن بغار ثور ، وأقام فيه ثلاث ليال مع الصدّيق
صاحبه ، ثم أمضى هجرته ، وأنفذ عزمته حتى انتهى إلى دار هجرته.
وقد قيل : أراد به
السهل والجبال ، ولكنه حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه ، كما قال الشاعر :
وما أدرى إذا
يمّمت أرضا
|
|
أريد الخير
أيهما يليني
|
أالخير الذي أنا
مبتغيه
|
|
أم الشرّ الذي
هو يبتغينى
|
وكما قال في الحر
بعد هذا : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) ، أراد والبرد ، فحذف ، لأن ما بقي أحدهما بقي الآخر.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).
والسّربال : كلّ
ما ستر باللباس من ثوب من صوف أو وبر أو شعر أو قطن أو كتان.
وهذه نعمة أنعم
الله بها على الآدمي ، فإنه خلقه عاريا ، ثم جعله بنعمته بعد ذلك كاسيا ، وسائر
الحيوانات سرابيلها جلودها أو ما يكون من صوف أو شعر أو وبر عليها ، فشرّف الآدمي
بأن كسى من أجزاء سواه.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَسَرابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يعنى دروع الحرب ، منّ الله بها على العباد عدّة للجهاد ،
وعونا على الأعداء ، وعلّمها ، كما علم صنعة غيرها ، ولبسها النبىّ صلى الله عليه
وسلم حين ظاهر يوم أحد بين درعين ، تقاة الجراحة ، وإن كان يطلب الشهادة ، كما
يعدّ السيف والرمح والسهم للقتل بها لغيره ، والمدافعة بها عن نفسه ، ثم ينفذ الله
ما شاء من حكمه ، وليس على العبد أن يطلب الشهادة بأن يستقتل مع الأعداء ، ولا بأن
يستسلم للحتوف ، ولكنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ويأخذ حذره ، ويسأل الله
الشهادة خالصا من قلبه ، ويعطيه الله بعد ما سبق في علمه ، وهذا معنى قوله :
(لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ) بفتح التاء على [قراءة] من قرأها كذلك ، ومن قرأها بالضم فمعناه لعلكم تنقادون إلى
طاعته شكرا على نعمه.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (بِالْعَدْلِ) ، وهو مع العالم ، وحقيقته التوسّط بين طرفي النّقيض ،
وضدّه الجور ، وذلك أنّ الباري خلق العالم مختلفا متضادّا متقابلا مزدوجا ، وجعل
العدل في اطراد الأمور بين ذلك على أن يكون الأمر جاريا فيه على الوسط في كل معنى
، فالعدل بين العبد وربه إيثار حقّ الله على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ،
والاجتناب للزواجر ، والامتثال للأوامر.
وأما العدل بينه
وبين نفسه فمنعها عما فيه هلاكها ، كما قال تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى) ، وعزوب الأطماع عن الاتباع ، ولزوم القناعة في كل حال ،
ومعنى.
وأما العدل بينه
وبين الخلق ففي بذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر ، والإنصاف من نفسك لهم
بكل وجه ، ولا يكون منك إلى أحد مساءة بقول ولا فعل ، لا في سرّ ولا في علن ، حتى
بالهمّ والعزم ، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى ، وأقل ذلك
الإنصاف من نفسك وترك الأذى.
المسألة الثانية ـ
الإحسان ، وهو في العلم والعمل.
فأما في العلم
فبأن تعرف حدوث نفسك ونقصها ، ووجوب الأولية لخالقها وكماله.
وأما الإحسان في
العمل فالحسن ما أمر الله به ، حتى إنّ الطائر في سجنك ، والسّنور في دارك ، لا
ينبغي أن تقصّر في تعهّده ، فقد ثبت في الصحيح عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّ امرأة دخلت النار في هرّة حبستها لا
هي سقتها ولا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض.
__________________
ويقال
: الإحسان ألّا تترك لأحد حقّا ، ولا تستوفى مالك. وقد قال جبريل للنبىّ صلى الله
عليه وسلم : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه
يراك. وهذا إشارة إلى ما
تعتقده الصوفية من مشاهدة الحق في كلّ حال ، واليقين بأنه مطّلع عليك ، فليس من
الأدب أن تعصى مولاك بحيث يراك.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) : يعنى في صلة الرحم ، وإيفاء الحقوق ، كما قال ابن عباس :
العدل أداء الفرائض. وكذلك يلزم إيتاء حقوق الخلق إليهم.
وإنما خصّ ذوى
القربى ، لأن حقوقهم أوكد. وصلتهم أوجب ، لتأكيد حقّ الرّحم التي اشتق الله اسمها من اسمه ، وجعل
صلتها من صلته.
المسألة الرابعة ـ
الفحشاء :
وذلك كلّ قبيح ،
من قول أو فعل ، وغايته الزنا ، والمنكر ما أنكره الشرع بالنهى عنه ، والبغي هو
الكبر والظلم والحسد والتعدّى ، وحقيقته تجاوز الحدّ ، من بغى الجرح . فهذه ست مسائل.
وقد قال ابن مسعود
، هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل وشرّ يجتنب ، وأراد ما قال قتادة : إنه ليس
من خلق حسن ، كان أهل الجاهلية يعملون به إلا أمر الله به ، ولا من خلق سيئ كانوا
يتعايرونه بينهم إلّا نهى الله عنه ، وأن يريد الخير للخلق كلهم ، إن كان مؤمنا
فيزداد إيمانا ، وإن كان كافرا فيتبدل إسلاما ، وموالاة الخلق بالبشر والسياسة.
ولهذا يروى أنّ عيسى عرض له كلب أو خنزير فقال له اذهب بسلام ، إشارة إلى ترك
الإذاية حتى في الحيوانية المؤذية.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ
جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
ذكر العهد والوفاء به ، وقد تقدم في المائدة والرعد شرحه ، وأشرنا
__________________
إليه حيث وقع ذكره
بما أمكن فيه.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَلا تَنْقُضُوا
الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها).
قال ابن وهب ،
وابن القاسم ، عن مالك : أما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا ،
يردّد فيه الأيمان يمينا بعد يمين ، كقوله : والله لا أنقصه من كذا وكذا ، يحلف بذلك مرارا ثلاثة أو أكثر من ذلك ، فقال : كفارة ذلك واحدة
[إنما عليه] مثل كفارة اليمين.
وقال يحيى بن سعيد
: هي في العهود ، والعهد يمين ، ولكن الفرق بينهما أنّ العهد لا يكفّر. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : ينصب
لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، يقال : هذه غدرة فلان.
وأما اليمين فقد
شرع الله فيها الكفارة مخلصة منها ، وحالّة ما انعقدت عليه.
وقال ابن عمر :
التوكيد [في اليمين المكررة] هو أن يحلف مرتين ، فإن حلف مرة واحدة فلا كفّارة عليه.
وقد بينا ذلك في سورة المائدة ، وأوضحنا صحة قول العلماء ، وضعف هذه الرواية عن
ابن عمر.
المسألة الثالثة ـ
إن كرّر اليمين مرارا أو كثّرها أعدادا فلا يخلو أن يقصد بذلك التأكيد مع التوحيد
، أو يقصد بذلك التأكيد مع تثنية اليمين ، فإن قصد بذلك التأكيد مع التوحيد فلا
خلاف في أنها كفارة واحدة ، وإن كان قصد التوكيد مع تثنية اليمين فقال الشافعى
وأبو حنيفة : تكون يمينين ، وقال مالك : تكون يمينا واحدة ، إلا أن يريد به
كفارتين .
وتعلّق الفقهاء
بأنها تثنية يمين ، فتثنية الكفارة أصل ، فله أن يعقدها بذلك.
وعوّل مالك على
أنه إذا قصد الكفّارة فيلزمه ما التزم ، وأما إذا لم يقصد الكفارة ، وإنما قصد إلى
تثنية اليمين فلا يفتقر إلى كفّارتين ، كما لو حلف بيمين واحدة على معنيين أو
شيئين ، فإنّ كفّارة واحدة تجزيه.
__________________
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ انتهى
العىّ بقوم إلى أن قالوا : إنّ القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله
من الشيطان الرجيم.
وقال العلماء :
إذا أراد قراءة القرآن تعوّذ بالله ، وتأوّلوا ظاهر «إذا قرأت» على أنه إذا أردت ،
كما قال : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) معناه : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وكقوله : إذا أكلت
فسمّ الله ، معناه : إذا أردت الأكل.
وحقيقة القول فيه
أنّ قول القائل «فعل» يحتمل ابتدأ الفعل ، ويحتمل تماديه في الفعل ، ويحتمل تمامه
للفعل.
وحقيقته تمام
الفعل وفراغه عندنا ، وعند قوم أن حقيقته كان في الفعل ، والذي رأيناه أولى ، لأنّ
بناء الماضي هو فعل ، كما أنّ بناء الحال هو يفعل ، وهو بناء المستقبل بعينه. ويخلصه
للحال تعقيبه بقولك الآن ، ويخلّصه للاستقبال قولك سيفعل ، هذا منتهى الحقيقة فيه.
وإذا قلنا : قرأ ، بمنى أراد ، كان مجازا ، ووجدناه مستعملا ، وله مثال فحملناه
عليه.
فإن قيل : وما
الفائدة في الاستعاذة من الشيطان وقت القراءة؟ وهي :
المسألة الثانية ـ
قلنا : فائدته امتثال الأمر ، وليس للشرعيّات فائدة إلا القيام بحقّ الوفاء في
امتثالها أمرا ، أو اجتنابها نهيا.
وقد قيل : فائدتها
الاستعاذة من وساوس الشيطان عند القراءة ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ) ، يعنى في تلاوته. وقد بينا ذلك في جزء تنبيه الغبي على
مقدار النبي.
الآية الثالثة ـ كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا
افتتح القراءة في الصلاة كبّر ، ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ،
وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك ،
__________________
ثم
يقول : لا إله إلا أنت ثلاثا ، ثم يقول : الله أكبر كبيرا ثلاثا ، أعوذ بالله
السميع العليم. من
الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ، ثم يقرأ. هكذا رواه أبو داود وغيره ، واللفظ له.
وعن أبى سعيد
الخدرىّ أنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم كان يتعوّذ في صلاته قبل القراءة ، وهذا نصّ في الرد على من يرى القراءة قبل الاستعاذة بمطلق
ظاهر اللفظ.
وقال مالك : لا
يتعوّذ في الفريضة ، ويتعوّذ في النافلة ، وفي رواية في قيام رمضان. وكان مالك يقول في
خاصة نفسه : «سبحانك اللهم وبحمدك» قبل القراءة في الصلاة.
وقد روى مسلم أنّ
عمر بن الخطاب كان يجهر بذلك في الصلاة ، وحديث أبى هريرة صحيح متّفق عليه ، قال :
كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة. فقلت : يا رسول الله ، إسكاتك
بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ قال : أقوال : اللهم باعد بيني وبين خطاياي ،
كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقّنى من الخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من
الدنس ، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد.
وما أحقّنا
بالاقتداء برسول الله في ذلك ، لو لا غلبة العامة على الحق.
وتعلّق من أخذ
بظاهر المدوّنة بما كان في المدينة من العمل ، ولم يثبت عندنا أنّ أحدا من أئمة
الأمّة ترك الاستعاذة فإنه أمر يفعل سرّا ، فكيف يعرف جهرا.
ومن أغرب ما
وجدناه قول مالك في المجموعة ـ في تفسير هذه الآية : فإذا قرأت القرآن ... الآية ـ
قال : ذلك بعد قراءة أمّ القرآن لمن قرأ في الصلاة ، وهذا قول لم يرد به أثر ، ولا
يعضده نظر ، فإنا قد بيّنا حكم الآية ، وحقيقتها فيما تقدم ، ولو كان هذا كما قال
بعض الناس إنّ الاستعاذة بعد القراءة لكان تخصيص ذلك بقراءة أمّ القرآن في الصلاة
دعوى عريضة لا تشبه أصول مالك ، ولا فهمه ، والله أعلم بسرّ هذه الرواية.
__________________
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية نزلت في المرتدّين ، وقد تقدم ذكر بعض من أحكام الردّة في سورة المائدة ، وبينا أنّ
الكفر بالله كبيرة محبطة للعمل ، سواء تقدمها إيمان أو لم يتقدم ، والكافر أو
المرتدّ هو الذي جرى بالكفر لسانه ، مخبرا عما انشرح به من الكفر صدره ، فعليه من
الله الغضب ، وله العذاب الأليم ، إلا من أكره ، وهي :
المسألة الثانية ـ
فذكر استثناء من تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه ، ولم يعقد على ذلك قلبه ، فإنه خارج
عن هذا الحكم ، معذور في الدنيا ، مغفور له في الأخرى.
والمكره هو الذي لم يخلّ وتصريف إرادته في متعلقاتها المحتملة لها
، فهو مختار ، بمعنى أنه بقي له في مجال إرادته ما يتعلق به على البدل ، وهو مكره
بمعنى أنه حذف له من متعلقات الإرادة ما كان تصرّفها يجرى عليه قبل الإكراه ، وسبب
حذفها قول أو فعل ، فالقول هو التهديد ، والفعل هو أخذ المال ، أو الضرب ، أو
السجن ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في سورة يوسف.
وقد اختلف الناس
في التهديد ، هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنه إكراه ، فإن القادر الظالم إذا قال
لرجل : إن لم تفعل كذا وإلّا قتلتك ، أو ضربتك ، أو أخذت مالك ، أو سجنتك ، ولم
يكن له من يحميه إلا الله ، فله أن يقدم على الفعل ، ويسقط عنه الإثم في الجملة ،
إلا في القتل ، فلا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحلّ له أن
يفدى نفسه بقتل غيره ، ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به ، ونسأل الله
العافية في الدنيا والآخرة.
واختلف في الزنا ،
والصحيح أنه يجوز له الإقدام عليه ، ولا حدّ عليه ، خلافا
__________________
لابن الماجشون ،
فإنه ألزمه الحدّ ، لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصوّر عليها إكراه ، ولكنه غفل
عن السبب في باعث الشهوة ، وأنه باطل .
وإنما وجب الحدّ
على شهوة بعث عليها سبب اختياري ، فقاس الشيء على ضده ، فلم يحل بصواب من عنده.
وأما الكفر بالله
فذلك جائز له بغير خلاف ، على شرط أن يلفظ بلسانه ، وقلبه منشرح بالإيمان ، فإن
ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثما كافرا ، لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن ،
وإنما سلطته على الظاهر ، بل قد قال المحقون من علمائنا : إنه إذا تلفظ بالكفر إنه
لا يجوز له أن يجرى على لسانه إلّا جريان المعاريض ، ومتى لم يكن كذلك كان كافرا أيضا. وهو الصحيح ، فإن
المعاريض أيضا لا سلطان للإكراه عليها ، مثاله أن يقال له : اكفر بالله ، فيقول :
أنا كافر بالله ، يريد باللاهى ، ويحذف الياء كما تحذف من الغازي والقاضي والرامي
، فيقال : الغاز والقاض والرام. وكذلك إذا قيل له : اكفر بالنبي ، فيقول : هو كافر
بالنبي ، وهو يريد بالنبي المكان المرتفع من الأرض.
فإن قيل له : اكفر
بالنبىء مهموزا ، فيقول : أنا كافر بالنبىء بالهمز ، ويريد به المخبر أىّ مخبر كان
، أو يريد به النبىء الذي قال فيه الشاعر :
فأصبح رتما دقاق الحصى
|
|
مكان النبىء من
الكاثب
|
ولذلك يحكى عن بعض
العلماء من زمن فتنة أحمد بن حنبل على خلق القرآن أنه دعى إلى أن يقول بخلق القرآن
، فقال : القرآن والتوراة والإنجيل والزّبور ـ يعدّدهن بيده ـ هذه الأربعة مخلوقة
، يقصد هو بقلبه أصابعه التي عدّد بها ، وفهم الذي أكرهه أنه يريد الكتب الأربعة
المنزّلة من الله على أنبيائه ، فخلص في نفسه ، ولم يضره فهم الذي أكرهه.
__________________
ولما كان هذا أمرا
متّفقا عليه عند الأئمة ، مشهورا عند العلماء ألّف في ذلك شيخ اللغة ورئيسها أبو
بكر بن دريد كتاب الملاحن للمكرهين ، فجاء ببدع في العالمين ، ثم ركب عليه المفجع
الكابت ، فجمع في ذلك مجموعا وافرا حسنا ، استولى فيه على الأمد ، وقرطس الغرض.
المسألة الثالثة ـ
هذا يدلّ على أنّ الكفر ليس بقبيح لعينه وذاته ، إذ لو كان كذلك لما حسّنه الإكراه
، ولكنّ الأمر كما قاله علماؤنا من أهل السنة أنّ الأشياء لا تقبح لذواتها ولا
تحسن لذواتها ، وإنما تقبح وتحسن بالشرع ، فالقبيح ما نهى الشرع عنه ، والحسن ما
أمر الشرع به.
والدليل على صحة
ذلك أنّ القتل الواقع اعتداء يماثل القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفة ، بدليل
أنّ الغافل عن سببهما لا يفرق بينهما ، وكذلك الإيلاج في الفرج عن نكاح ، يماثل
الإيلاج عن سفاح في اللّذات والحركات ، إنما فرق بينهما الإذن ، وكذلك الكفر الذي
يصدر عن الإكراه يماثل الصادر عن الاختيار ، ولكن فرّق بينهما إذن الشّرع في
أحدهما وحجره في الآخر ، وقد أحكمنا ذلك في كتب الأصول.
المسألة الرابعة ـ
إنّ الكفر وإن كان بالإكراه جائزا عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن
حتى قتل فإنه شهيد ، ولا خلاف في ذلك ، وعليه تدلّ آثار الشريعة التي يطول سردها ،
وإنما وقع الإذن رخصة من الله رفقا بالخلق ، وإبقاء عليهم ، ولما في هذه الشريعة
من السماحة ، ونفى الحرج ، ووضع الإصر.
المسألة الخامسة ـ
قد آن الآن أن نذكر سبب نزول هذه الآية المكية ، وفي ذلك ثلاث روايات :
الأولى ـ أنها
نزلت في عمار بن ياسر ، وأمه سميّة ، وخبّاب بن الأرتّ ، وسلمة بن هشام ، والوليد
بن الوليد ، وعياش بن أبى ربيعة ، والمقداد بن الأسود ، وقوم أسلموا ، ففتنهم
المشركون عن دينهم ، فثبت بعضهم على الإسلام ، وافتتن بعضهم ، وصبر بعضهم على
البلاء
__________________
ولم يصبر بعض ،
فقتلت سمية ، وافتتن عمار في ظاهره دون باطنه ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ،
فنزلت الآية.
الثانية ـ قال
عكرمة : نزلت الآية في قوم أسلموا بمكة ، ولم يمكنهم الخروج ، فلما كان يوم بدر
أخرجهم المشركون معهم كرها فقتلوا. قال : وفيهم نزلت : (إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ ، وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً).
الثالثة ـ قال
مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ،
وبلال ، وخبّاب ، وعمار ، وصهيب ، وسميّة ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمنعه أبو طالب ، وأما أبو بكر فمنعه قومه ، وأما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ،
وأوقفوهم في الشمس ، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ ، من حرّ
الحديد والشمس ، فلما كان من العشاء أتاهم أبو جهل ، ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم ، ثم أتى
سميّة فطعن بالحرية في قبلها حتى خرجت من فمها ، فهي أول شهيد استشهد في الإسلام.
وقال الآخرون : ما
سألوهم إلا بلالا ، فإنه هانت عليه نفسه ، فجعلوا يعذّبونه ويقولون له : ارجع إلى
ربّك ، وهو يقول : أحد أحد ، حتى ملّوه ، ثم كتّفوه ، وجعلوا في عنقه حبلا من ليف
، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبى مكة ، حتى ملّوه وتركوه ، فقال عمار : كلنا قد تكلّم بالذي
قالوا له ، لو لا أنّ الله تداركنا ، غير بلال ، فإنه هانت عليه نفسه في الله ،
فهان على قومه ، حتى تركوه ، فنزلت هذه الآية في هؤلاء.
والصحيح أن أبا
بكر اشترى بلالا فأعتقه.
المسألة السادسة ـ
لما سمع الله تعالى في الكفر به ، وهو أصل الشريعة ، عند الإكراه ، ولم يؤاخذ به ،
حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ،
__________________
ولا يترتب حكم
عليه ، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء : رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه.
والخبر ، وإن لم
يصحّ سنده ، فإنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء ، ولكنهم اختلفوا في تفاصيل ،
ومنها : قول ابن الماجشون في حدّ الزنا ، وقد تقدم. ومنها قول أبى حنيفة : إنّ
طلاق المكره يلزم ، لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا ، وليس وجوده بشرط في الطلاق
كالهازل. وهذا قياس باطل ، فإنّ الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق ، راض به ، والمكره
غير راض به ، ولا نيّة له في الطلاق. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما
الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى.
ومنها أنّ المكره
على القتل إذا قتل يقتل ، لأنه قتل من يكافئه ظلما استبقاء لنفسه ، فقتل ، كما لو
قتله الجماعة.
وقال أبو حنيفة
وسحنون : لا يقتل ، وهي عثرة من سحنون وقع فيها بأسد بن الفرات الذي تلقّفها عن
أصحاب أبى حنيفة بالعراق ، وألقاها إليه ، ومن يجوز له أن يقي نفسه بأخيه المسلم. وقد
قال رسول الله : المسلم
أخو المسلم لا يثلمه ولا يظلمه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما. وقالوا : يا
رسول الله ، هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما؟ قال : تكفّه عن الظلم ، فذلك
نصرك إياه.
المسألة السابعة ـ
من غريب الأمر أنّ علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث في اليمين ، هل يقع به أم
لا؟ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم ، لا كانت هذه المسألة ، ولا كانوا هم ، وأىّ
فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا
يقع ، فاتّقوا الله وراجعوا بصائركم ، ولا تغترّوا بذكر هذه الرواية فإنها وصمة في
الدراية .
المسألة الثامنة ـ
إذا أكره الرجل على إسلام أهله لما لا يحلّ أسلمها ، ولم يقتل نفسه دونها ، ولا
احتمل إذاية في تخليصها.
والأصل في ذلك ما
أخبرنا أبو الحسن بن أيوب بمدينة السلام ، أنبأنا أبو عبد الله الحسن
__________________
ابن محمد ، أنبأنا
أبو على بن حاجب ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أبو
اليمان ، أنبأنا شعيب أبو الزناد ، عن الأعراج ، عن أبى هريرة ، قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : هاجر
إبراهيم بسارة ، ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك ، أو جبّار من الجبابرة ، فأرسل
إليه أن أرسل إلىّ بها ، فقام إليها ، فقامت تتوضّأ وتصلّى ، فقالت : اللهم إن كنت
آمنت بك وبرسولك فلا تسلّط علىّ الكافر ، فغطّ حتى ركض برجله.
المسألة التاسعة ـ
فإن كان الإكراه بحق عند الإباية من الانقياد إليه فإنه جائز شرعا تنفذ معه
الأحكام ، ولا يؤثّر في ردّ شيء منها. ولا خلاف فيه.
وقد اتفق العلماء
على أنّ دليل ذلك ما روى أبو هريرة قال : بينا
نحن في المسجد الحرام إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انطلقوا
إلى يهود ، فخرجنا معه ، حتى جئنا بيت المدراس ، فقام النبىّ صلى الله عليه وسلم
فناداهم : يا معشر يهود ، أسلموا تسلموا. فقالوا له : قد بلغت يا أبا القاسم. فقال
: ذلك أريد ، ثم قالها الثانية ، فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، ثم قال الثالثة
، فقال : اعلموا أنما الأرض لله ولرسوله. وأنى أريد أن أجليكم ، فمن وجد منكم
بماله شيئا فليبعه ، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله ، ولهذا الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، ومن
حكم عمر بن الخطاب وعمله نظائر ، ويترتب على بيع المضطر أحكام ، بيانها في كتب
الفروع. والله أعلم.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
قراءتها :
قرأها الجماعة
الكذب ـ بنصب الكاف ، وخفض الذال ، ونصب الباء. وقرأها الحسن وغيره مثله ، إلا أن
الباء مخفوضة ، وقرأها قوم بضم الكاف والذال. فالقراءة الأولى يكون
__________________
فيها الكذب على
الإتباع لموضع ما يقولون. ومن رفع الكاف والذال جعله نعتا للألسنة. ومن نصب الكاف
والباء جعله مفعول قوله : تقولوا ، وهو بيّن كله.
المسألة الثانية ـ
معنى الآية.
لا تصفوا الأعيان
بأنها حلال أو حرام من قبل أنفسكم ، إنما المحرّم المحلّل هو الله سبحانه. وهذا
ردّ على اليهود الذين كانوا يقولون : إن الميتة حلال ، وعلى العرب الذين كانوا
يقولون : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرّم على أزواجنا ، افتراء على
الله بضلالهم ، واعتداء ، وإن أمهلهم الباري في الدنيا فعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.
المسألة الثالثة ـ
قال ابن وهب : قال لي مالك : لم يكن من فتيا المسلمين أن يقولوا : هذا حرام وهذا
حلال ، ولكن يقولون : إنّا نكره هذا ، ولم أكن لأصنع هذا ، فكان الناس يطيعون ذلك
، ويرضون به. ومعنى هذا أنّ التحريم والتحليل إنما هو الله كما تقدم بيانه ، فليس لأحد
أن يصرّح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون الباري يخبر بذلك عنه ، وما يؤدى
إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إنى أكره كذا ، وكذلك كان مالك يفعل ، اقتداء
بمن تقدّم من أهل الفتوى.
فإن قيل : فقد قال
فيمن قال لزوجته : أنت علىّ حرام ـ إنها حرام ، وتكون ثلاثا. قلنا : سيأتى بيان
ذلك في سورة التحريم إن شاء الله.
ونقول هاهنا : إن
الرجل هو الذي ألزم ذلك لنفسه ، فألزمه مالك ما التزم.
جواب آخر ـ وهو
أقوى ، وذلك أنّ
مالكا لما سمع علىّ بن أبى طالب يقول : إنها حرام أفتى بذلك اقتداء به ، وقد يتقوّى الدليل على التحريم عند المجتهد. فلا بأس أن
يقول ذلك عندنا ، كما يقول : إنّ الربا حرام في غير الأعيان الستة التي وقع ذكرها
في الربا ، وهي الذهب ، والفضة ، والبرّ ، والشعير ، والتمر ، والملح ، وكثيرا ما
يطلق مالك ، فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية ، وفيما خالف المصالح ، وخرج عن
طريق المقاصد ، لقوّة الأدلة في ذلك.
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
__________________
فيها مسألتان.
المسألة الأولى ـ قال
ابن وهب ، وابن القاسم ، كلاهما عن مالك ، قال : بلغني أنّ عبد الله ابن مسعود قال
: يرحم الله معاذ بن جبل ، كان أمّة قانتا لله. فقيل : يا أبا عبد الرحمن ، إنما
ذكر الله بهذا إبراهيم! فقال ابن مسعود : إن الأمة الذي يعلّم الناس الخير ، وإنّ
القانت هو المطيع.
وقال الشعبي : حدثني
فروة بن نوفل الأشجعى ، قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أمّة قانتا لله حنيفا.
فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً
لِلَّهِ حَنِيفاً.) فقال : أتدري ما الأمّة ، القانت؟ قلت : الله أعلم. قال: الأمة
الذي يعلّم الخير. والقانت لله : المطيع لله ولرسوله ، وكذلك كان معاذ بن جبل
يعلّم الخير ، وكان مطيعا لله ولرسوله.
المسألة الثانية ـ
الحنيف : المخلص ، وكان إبراهيم قائما لله بحقّه صغيرا وكبيرا ، آتاه الله رشده ،
كما أخبر عنه ، فنصح له ، وكسر الأصنام ، وباين قومه بالعداوة ، ودعا إلى عبادة
ربه ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، فأعطاه الله ألا يبعث نبيا بعده إلا من ذريته
، وأعطاه الله ألا يسافر في الأرض ، فتخطر سارة بقلبه إلا هتك الله بينه وبينها
الحجاب ، فيراها ، وكان أول من اختتن ، وأقام مناسك الحج ، وضحّى ، وعمل بالسنن
نحو قصّ الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وأعطاه الله الذّكر الجميل في
الدنيا ، فاتفقت الأمم عليه ، ولم ينقص ما أعطى في الدنيا من حظّه في الآخرة ،
وأوحى إلى محمد وأمّته أن اتّبع ملّة إبراهيم ، فإنه كان حنيفا مسلما ، وما كان من
المشركين. فعلى كل عبد أن يطيع الله ، ويعلّم الأمة ، فيكون في دين إبراهيم على
الملة.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ المراد
بالذين اختلفوا فيه اليهود والنصارى ، أى فرض تعظيم يوم السبت
__________________
على الذين اختلفوا
فيه ، فقال بعضهم : هو أفضل الأيام ، لأنّ الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ،
ثم سبت يوم السبت.
وقال آخرون : أفضل
الأيام يوم الأحد ، لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء ، فاختلفوا في تعظيم
غير ما فرض عليهم تعظيمه ، ثم بعد ذلك استحلّوه.
المسألة الثانية ـ
ما الذي اختلفوا فيه؟ فيه خمسة أقوال :
الأول ـ أنهم
اختلفوا في تعظيمه ، كما تقدم ، قاله مجاهد.
الثاني ـ اختلفوا
فيه ، استحلّه بعضهم ، وحرمه آخرون ، قاله ابن جبير.
الثالث ـ قال ابن
زيد : كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطأوه ، وأخذوا السبت ، ففرض عليهم. وقيل في
القول الرابع : إنهم ألزموا يوم الجمعة عيدا ، فخالفوا وقالوا : نريد يوم السبت ،
لأنه فرغ فيه من خلق السموات.
الخامس ـ روى أنّ
عيسى أمر النصارى أن يتخذوا يوم الجمعة عيدا ، فقالوا : لا يكون عيدنا إلّا بعد
عيد اليهود ، فجعلوه الأحد.
وروى أنّ موسى قال
لبنى إسرائيل : تفرّغوا إلى الله في كل سبعة أيام في يوم تعبدونه ، ولا تعملون فيه
شيئا من أمر الدنيا ، فاختاروا يوم السبت ، فأمرهم موسى بالجمعة ، فأبوا إلا السبت
، فجعله الله عليهم.
المسألة الثالثة ـ
الذي يفصّل هذا القول ما روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : نحن الآخرون
السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ،
فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا
والنصارى بعد غد.
فقوله صلى الله
عليه وسلم : فهذا
اليوم اختلفوا فيه فهدانا الله له ، يدلّ على أنه عرض عليهم ، فاختار كلّ أحد ما ظهر إليه ،
وألزمناه من غير عرض ، فالتزمناه.
وقد روى في بعض
طرق الحديث الصحيح : فهذا
يومهم الذي فرض الله عليهم ،
__________________
فاختلفوا
فيه. وفي الصحيح في بعض
طرق الحديث : فسكت
، ثم قال : حقّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما ، يغسل فيه رأسه وجسده ، وهذا مجمل ، فسره الحديث الصحيح : غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم.
المسألة الرابعة ـ
روى أنّ اليهود حين اختاروا يوم السبت قالوا : إنّ الله ابتدأ الخلقة يوم الأحد ،
وأتمّها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فنحن نترك العمل يوم السبت. فأكذبهم
الله في قولهم بقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...) الآية.
فلما تركوا العمل
في يوم السبت بالتزامهم ، وابتدعوه برأيهم الفاسد ، واختيارهم الفائل ، كان منهم
من رعاه ، ومنهم من اخترمه ، فسخط الله على الجميع ، حسبما تقدم في سورة الأعراف.
واختار الله لنا
يوم الجمعة ، فقبلنا خيرة ربّنا لنا ، والتزمنا من غير مثنوية ما ألزمنا ، وعرفنا
مقدار فضله ، فقال لنا في الحديث الصحيح ، عن أبى هريرة : خير يوم طلعت فيه الشمس
يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم
الساعة ، وما من دابّة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح إلى حين تطلع الشمس
شفقا من الساعة إلّا الجنّ والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى يسأل
الله شيئا إلا أعطاه إياه ... في حديث طويل هذا أكثره.
وجمع لنا فيه
الوجهين : فضل العمل في الآخرة ، وجواز العمل في الدنيا ، وخشي علينا رسول الله ما
جرى لمن كان قبلنا من التنطع في يومهم الذي اختاروه ، فمنعنا من صيامه ، فقال : لا
تخصّوا يوم الجمعة بصيام ، ولا ليلتها بقيام. وعلى ذلك كثير من العلماء.
ورأى مالك أنّ
صومه جائز كسائر الأيام. وقال : إنّ بعض أهل العلم في زمانه كان يصومه ، وأراه كان
يتحرّاه.
ونهى النبي عن
تخصيصه أشبه بحال العالم اليوم ، فإنهم يخترعون في الشريعة ما يلحقهم بمن تقدم ،
ويسلكون به سنّتهم ، وذلك مذموم على لسان الرسول ، فإن الله شرع فيه الصلاة ،
__________________
ولم يشرع فيه
الصيام ، وشرع فيه الذكر والدعاء ، فوجب الاقتفاء لسنته ، والاقتصار على ما أبان
من شرعته ، والفرار عن الرهبانية المبتدعة ، والخشية من الباطل المذموم على لسان
الرسول.
المسألة الخامسة ـ
قوله : فيه خلق آدم ، يعنى جمع فيه خلقه ، ونفخ فيه الرّوح ، وهذا فضل بيّن. وقوله
: فيه أهبط إلى الأرض. يخفى وجه الفضل فيه ، ولكن العلماء أشاروا إلى أنّ وجه
التفضيل فيه أنه تيب عليه من ذنبه ، وهبط إلى الأرض لوعد ربه ، حين قال : إنّى
جاعل في الأرض خليفة. فلما سبق الوعد به حققه الله له في ذلك ، ونفاذ الوعد خير
كثير ، وفضل عظيم ، ووجه الفضل في موته أنّ الله جعل له ذلك اليوم للقائه.
فإن قيل : فقد جعل
الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وقتا للقائه.
قلنا : يكون هذا
أيضا فضلا ، يشترك فيه مع يوم الجمعة ، ويبقى ليوم الجمعة فضله الذي أعطاه الله له
زائدا على سائر أيام الجمعة ، ومن شارك شيئا في وجه ، وساواه فيه لا يمتنع أن
يفضله في وجوه أخر سواه.
وأما وجه تفضيله
في قيام الساعة فيه فلأن يوم القيامة أفضل الأيام ، فجعل قدومه في أفضل الأوقات ،
وتكون فاتحته ، في أكرم أوقات سائر الأيام ، ومن فضله استشعار كلّ دابّة ،
وتشوّقها إليه ، لما يتوقع فيه من قيام الساعة ، إذ هو وقت فنائها ، وحين اقتصاصها
وجزائها ، حاش الجنّ والإنس اللذين ركبت فيهما الغفلة التي تردد فيها الآدمي بين
الخوف والرجاء ، وهما ركنا التكليف ، ومعنى القيام بالأمر والنهى ، وفائدة جريان
الأعمال على الوعد والوعيد ، وتمام الفضل ، ووجه الشرف تلك الساعة التي ينشر
الباري فيها رحمته ، ويفيض في الخلق نيله ، ويظهر فيها كرمه ، فلا يبقى داع إلّا
يستجيب له ، ولا كرامة إلا ويؤتيها ، ولا رحمة إلا يبثها لمن تأهّب لها ، واستشعر
بها ، ولم يكن غافلا عنها.
ولما كان وقتا
مخصوصا بالفضل من بين سائر الأوقات قرنه الله بأفضل الحالات للعبد ، وهي حالة
الصلاة ، فلا عبادة أفضل منها ، ولا حالة أخصّ بالعبد من تلك الحالة ، لأنّ الله
جمع فيها عبادات الملائكة كلّهم ، إذ منهم قائم لا يبرح عن قيامه ، وراكع لا يرفع
عن
ركوعه ، وساجد لا
يتفصّى من سجوده ، فجمع الله لبنى آدم عبادات الملائكة في عبادة
واحدة.
وقد جاء في الحديث
: إنّ العبد إذا نام في سجوده باهى الله به ملائكته ، يقول : يا ملائكتي ، انظروا
عبدى ، روحه عندي ، وبدنه في طاعتي. وصارت هذه الساعة في الأيام كليلة القدر في
الليالى في معنى الإبهام ، لما بيناه من قبل في أنّ إبهامها أصلح للعباد من
تعيينها لوجهين :
أحدهما ـ أنها لو
علمت وهتكوا حرمتها ما أمهلوا ، وإذا أبهمت عليهم عمّ عملهم اليوم كلّه والشهر كله
، كما أبهمت الكبائر في الطرف الآخر ، وهو جانب السيئات ، ليجتنب العبد الذنوب
كلّها ، فيكون ذلك أخلص له ، فإذا أراد العبد تحصيل ليلة القدر فليقم الحول على
رأى ابن مسعود ، أو الشهر كلّه على رأى آخرين ، أو العشر الأواخر على رأى كلّ أحد.
ولقد كنت في البيت
المقدّس ثلاثة أحوال ، وكان بها متعبّد يترصّد ساعة الجمعة في كل جمعة ، فإذا
كان هذا يوم الجمعة مثلا خلا بربّه من طلوع الفجر إلى الضحى ، ثم انصرف ، فإذا كان
في الجمعة الثانية خلا بربه من الضحى إلى زوال الشمس ، فإذا كان في الجمعة الثالثة
خلا بربه من زوال الشمس إلى العصر ، ثم انقلب ، فإذا كان في الجمعة الرابعة خلا
بربه من العصر إلى مغرب الشمس ، فتحصل له الساعة في أربع جمع ، فاستحسن الناس ذلك
منه.
وقال لنا شيخنا
أبو بكر الفهري : هذا لا يصحّ له ، لأنّ من الممكن أن تكون في اليوم الذي يرصدها
من الزوال إلى العصر تكون من العصر إلى الغروب ، وفي اليوم الذي تكون من العصر إلى
الغروب يترصّدها هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلى الضحى ، إذ يمكن أن تنتقل في
كل جمعة ، ولا تثبت على ساعة واحدة في كل يوم ، يشهد لصحة ذلك انتقال ليلة القدر
في ليالي الشهر فإنها تكون في كل عام في ليلة ، لا تكون فيها في العام الآخر.
__________________
والدليل عليه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نصب لهم
عليها علامة مرة ، فوجدوا تلك العلامة ليلة سبع وعشرين ، وسأله آخر متى ينزل :
فإنه شاسع الدار؟ فقال له : انزل ليلة ثلاث وعشرين ، وما كان صلى الله عليه وسلم ليعلم علامة فلا يصدق ، وما
كان أيضا ليسأله سائل ضعيف لا يمكنه ملازمته عن أفضل وقت ينزل إليه فيه ، وأكرم
ليلة يأتيه فيها ، ليحصل له فضله ، فيحمله على الناقص عن غيره ، المحطوط عن سواه ،
وهذا كلّه يدلّك على أنّ من أراد تحصيل الساعة عمر اليوم كلّه بالعبادة ، أو تحصيل
الليلة قام الشّهر كلّه في جميع لياليه.
فإن قيل : فإذا
خرج إلى الوضوء ، أو اشتغل بالأكل ، فجاءت تلك الساعة في تلك الحالة ، وهو غير داع
ولا سائل ، كيف يكون حاله؟
قلنا : إذا كان
وقته كلّه معمورا بالعبادة والدعاء ، فجاءت وقت الوضوء أو الأكل أعطى طلبته ،
وأجيبت دعوته ، ولم يحاسب من أوقاته بما لا بدّله منه ، على أنى قد رأيت من
علمائنا من قال : إذا توضأ أو أكل ، فاشتغل بذلك بدنه ولسانه ، فليقبل على الطاعة
بقلبه ، حتى يلقى تلك الساعة متعبّدا بقلبه. وهذا حسن ، وهو عندي غير لازم ، بل
يكفى أن يكون ملازما للعبادة ، ما عدا أوقات الوضوء والأكل ، فيعفى عنه فيها ،
ويعطى عندها كل ما سأل في غيرها بلطف الله بعباده ، وسعة رحمته لهم ، وعموم فضله ،
لا ربّ غيره.
على أنّ مسلما قد كشف الغطاء عن هذا الخفاء ، فقال عن النبي صلى الله
عليه وسلم : إنه
سئل عن الساعة التي في يوم الجمعة ، فقال : هي من جلوس الإمام على المنبر إلى
انقضاء الصلاة. وهذا نصّ جلىّ ،
والحمد لله. وفي سنن أبى داود عن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في أنها بعد العصر
، ولا يصحّ.
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ).
__________________
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها : وفي ذلك روايات ، أصلها روايتان :
إحداهما ـ أنه لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار
أربعة وستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، فيهم حمزة ، فمثّلوا بهم ، فقالت الأنصار
: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم ، قال : فلما كان فتح مكة ، فأنزل
الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ ...) الآية ، فقال رجل : لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : كفّوا عن القوم إلا أربعة.
الثانية ـ أن النبىّ صلى الله عليه وسلم وقف على
حمزة بن عبد المطلب حين استشهد ، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء كان أوجع منه لقلبه
، ونظر إليه قد مثّل به ، فقال : رحمة الله عليك ، فإنك كنت ـ ما عرفتك ـ فعولا
للخيرات ، وصولا للرحم ، ولو لا حزن من بعدك عليك لسرّنى أن أدعك ، حتى تحشر من
أفراد شتى. أما والله مع ذلك لأمثلنّ بسبعين منهم.
فنزل
جبريل ـ والنبىّ صلى الله عليه وسلم واقف ـ بخواتيم النحل : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآيات ، فصبر النبي ، وكفّر عن يمينه ، ولم يمثّل بأحد.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا : الجزاء على المثلة عقوبة ، فأما ابتداء فليس بعقوبة ، ولكنها سميت
باسمها ، كما قال : (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، وكما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها). وعادة العرب هكذا في الازدواج ، فجاء القرآن على حكم
اللغة ، وقد تقدّم بيان ذلك.
المسألة الثالثة ـ
في هذه الآية جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديدة قتل بها ، وكذلك من قتل
بحجر أو حبل أو عود امتثل فيه ما فعل ، وقد بيّنا ذلك فيما تقدم في البقرة
والمائدة وغيرهما ، فلا معنى لإعادته.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).
إشارة إلى فضل
العفو ، وقد تقدّم في المائدة وغيرها. والله الموفق للصواب.
__________________
سورة الإسراء
[فيها عشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
فيها ستّ مسائل :
المسألة الأولى ـ في
«سبحان» ، وفيه أربعة أقوال :
الأول ـ أنه منصوب
على المصدر ؛ قاله سيبويه والخليل. ومنعه عندهما من الصرف كونه معرفة في آخره
زائدان. وذكر سيبويه أن من العرب من يصرفه ويصرّفه.
الثاني ـ قال أبو
عبيدة : هو منصوب على النداء.
الثالث أنه موضوع
موضع المصدر منصوب لوقوعه موقعه.
الرابع ـ أنها
كلمة رضيها الله لنفسه ؛ قاله علىّ بن أبى طالب ، ومعناها عندهم براءة الله من
السوء ، وتنزيه الله منه ، قال الشاعر :
أقول لمّا جاءني
فخره
|
|
سبحان من علقمة
الفاخر
|
المسألة الثانية ـ
أما القول بأنه مصدر فلأنه جار على بناء المصادر ، فكثيرا ما يأتى على فعلان. وأما
القول بأنه اسم وضع للمصدر فلأنهم رأوه لا يجرى على الفعل الذي هو سبّح. وأما قول
أبى عبيدة بأنه منادى فإنه ينادى فيه بالمعرفة من مكان بعيد ، وهو كلام جمع فيه
بين دعوى فارغة لا برهان عليها ، ثم لا يعصمه ذلك من أن يقال له : هل هو اسم أو
مصدر؟
__________________
وما زال أبو عبيدة
يجرى في المنقول طلقه حتى إذا جاء المعقول عقله العىّ وأغلقه.
وقد جمع في هذه
الكلمة أبو عبد الله بن عرفة جزءا قرأناه بمدينة السلام ، ولم يحصل له فيه عن
التقصير سلام ، والقدر الذي أشار إليه سيبويه فيه يكفى ، فليأخذ كل واحد منكم
ويكتفى.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (أَسْرى بِعَبْدِهِ).
قال علماؤنا : لو
كان للنبي اسم أشرف منه لسمّاه في تلك الحالة العلية به ، وفي معناه تنشد الصوفية
:
يا قوم قلبي عند
زهراء
|
|
يعرفها السامع والرائي
|
لا تدعني إلّا
بيا عبدها
|
|
فإنه أشرف
أسمائى
|
وقال الأستاذ جمال
الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن : لما رفعه إلى حضرته السنية ، وأرقاه فوق
الكواكب العلوية ، ألزمه اسم العبودية له ، تواضعا للإلهية.
المسألة الرابعة ـ
قضى الله بحكمته وحكمه أن يتكلم الناس ، هل أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أم بروحه؟ ولو لا مشيئة ربنا السابقة بالاختلاف لكانت المسألة أبين عند
الإنصاف ؛ فإن المنكر لذلك لا يخلو أن يكون ملحدا ينكر القدرة ، ويرى أن الثقيل لا
يصعد علوا ، وطبعه استفالى ، فما باله يتكلم معنا في هذا الفرع ، وهو منكر للأصل ،
وهو وجود الإله وقدرته ، وأنه يصرّف الأشياء بالعلم والإرادة ، لا بالطبيعة.
وإن كان المنكر من
أغبياء الملة يقرّ معنا بالإلهية والعلم ، والإرادة والقدرة على التصريف والتدبير
والتقدير ، فيقال له : وما الذي يمنع من ارتقاء النبي في الهواء بقدرة خالق الأرض
والسماء. فإن قال : لأنه لم يرد. قلنا له : قد ورد من كل طريق على لسان كلّ فريق ،
منهم أبو ذرّ ؛ قال أنس ، قال أبو ذر :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فرج سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ، ففرج صدري ، ثم
غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ
__________________
حكمة
وإيمانا ، فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء
الدنيا ، فلما انتهينا إلى سماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح. قال : من هذا؟ قال
: هذا جبريل. قال : هل معك أحد؟ قال : نعم ، معى محمد. فقال : أرسل إليه؟ فقال :
نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل على يمينه أسودة ، وعلى يساره أسودة. إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل
شماله بكى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح.
قلت
: يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه
ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى. ثم عرج بي إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح
، فقال له خازنها مثل ما قال له الأول ، ففتح.
قال أنس : فذكر
أنه وجد في السماء آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم ، ولم يثبت كيف
منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء
السادسة.
قال أنس : فلما مرّ النبىّ صلى الله عليه وسلم مع
جبريل بإدريس ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح. فقلت : من هذا؟ قال :
هذا إدريس. ثم مررت بموسى ، فقال : مرحبا بالنبىّ الصالح والأخ الصالح. قلت : من
هذا؟ قال : موسى. ثم مررت بعيسى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت :
من هذا؟ قال : عيسى. ثم مررت بإبراهيم ، فقال : مرحبا بالنبىّ الصالح والابن
الصالح. قلت : من هذا؟ قال : إبراهيم.
قال ابن شهاب.
فأخبرنى ابن حزم أنّ ابن عباس وأبا حبّة الأنصارى كانا يقولان : قال النبىّ صلى
الله عليه وسلم ثم
عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام.
__________________
قال ابن حزم ،
وأنس بن مالك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ففرض
الله على أمتى خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت بموسى ، فقال : ماذا فرض الله على
أمتك؟ قلت : فرض خمسين صلاة. قال : ارجع إلى ربك ؛ فإنّ أمتك لا تطيق ذلك ،
فراجعني ، فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها . فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال : ارجع إلى ربك فإنّ
أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون لا يبدّل القول لدىّ.
فرجعت
إلى موسى ، فقال : ارجع إلى ربك ، فقلت : قد استحييت من ربي.
قال
: ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، وغشيها ألوان لا أدرى ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ
اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك.
فإن قيل : فقد ثبت
في الصحيح عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا بين النائم واليقظان ... وذكر
حديث الإسراء بطوله ، إلى أن قال : ثم استيقظت ، وأنا في المسجد الحرام.
قلنا عنه أجوبة ؛
منها :
أن هذا اللفظ رواه
شريك عن أنس ، وكان تغيّر بأخرة فيعوّل على روايات الجميع.
الثاني ـ أنه
يحتمل أنه رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم الإسراء رؤيا منام ، وطده الله بها ، ثم
أراه إياها رؤيا عين ، كما فعل به حين أراد مشافهته بالوحي ؛ أرسل إليه الملك في
المنام بنمط من ديباج فيه : اقرأ باسم ربّك ، وقال له اقرأ. فقال : ما أنا بقارئ ،
فغطّه حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله ، فقال : اقرأ. قال ما أنا بقارئ ... إلى آخر
الحديث.
فلما كان بعد ذلك
جاءه الملك في اليقظة بمثل ما أراه في المنام. وكانت الحكمة في ذلك أن أراه الله
في المنام ما أراه من ذلك توطيدا وتثبيتا لنفسه ، حتى لا يأتيه الحال فجأة ،
فتقاسى نفسه الكريمة منها شدة ، لعجز القوى الآدمية عن مباشرة الهيئة الملكية.
__________________
وقد ثبت في الصحيح
وغيره من طرق ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). ولو كانت رؤيا منام ما افتتن بها أحد ، ولا أنكرها ؛ فإنه
لا يستبعد على أحد أن يرى نفسه يخترق السموات ، ويجلس على الكرسي ، ويكلمه الرب.
المسألة الخامسة ـ
في هذه القصة كان فرض الصلاة ، وقد روى أن النّبى صلى الله عليه وسلم كان يصلّى
قبل الإسراء صلاة العشى والإشراق ، ويتنفّل في الجملة ، ولم يثبت ذلك من طريق صحيحة
، حتى رفعه الله مكانا عليّا ، وفرض عليه الصلاة ، ونزل عليه جبريل فعلّمه أعدادها
وصفاتها ، وهي :
المسألة السادسة ـ
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أمّنى
جبريل عند البيت مرتين وصلى بي الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس ، وصلّى بي
العصر عند ما صار ظلّ كل شيء مثله ، وصلى بي المغرب حين غربت الشمس ، وصلى بي
العشاء عند ما غاب الشفق ، وصلى بي الصبح حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على
الصائم. ثم صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر
بالأمس ، وصلى بي العصر حين صار ظلّ كل شيء مثليه ، وصلى بي المغرب حين غربت الشمس
لوقتها بالأمس ، وصلى بي العشاء حين ثلث الليل ، وصلى بي الصبح وقائل يقول : أطلعت
الشمس؟ لم تطلع ، ثم قال : يا محمد ، هذا وقتك ، ووقت الأنبياء قبلك ، والوقت ما
بين هذين الوقتين ، وقد مهدنا القول في الحديث في شرح الصحيحين ، وبينا ما فيه من علوم ، على
اختلاف أنواعها من حديث وطرقه ، ولغة وتصريفها ، وتوحيد وعقليات ، وعبادات وآداب ،
ونحو ذلك فيما نيّف على ثلاثين ورقة ، فلينظر هنالك ، ففيه الشفاء من داء الجهل إن
شاء الله.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).
فيها مسألة واحدة
، وهي قوله : أمرنا.
__________________
فيها من القراآت
ثلاث قراءات.
القراءة الأولى ـ أمرنا
بتخفيف الميم. القراءة الثانية بتشديدها. القراءة الثالثة آمرنا بمدّ بعد الهمزة
وتخفيف الميم.
فأما القراءة
الأولى فهي المشهورة ، ومعناه أمرناهم بالعدل ، فخالفوا ، ففسقوا بالقضاء والقدر ،
فهلكوا بالكلمة السابقة الحاقّة عليهم.
وأما القراءة
الثانية ـ بتشديد الميم ـ فهي قراءة علىّ ، وأبى العالية ، وأبى عمرو ، وأبى عثمان
النهدي ، ومعناه كثّرناهم ، والكثرة إلى التخليط أقرب عادة.
وأما قراءة المد
في الهمزة وتخفيف الميم فهي قراءة الحسن ، والأعرج ، وخارجة عن نافع. ويكون معناه
الكثرة ؛ فإن أفعل وفعّل ينظران في التصريف من مشكاة واحدة.
ويحتمل أن يكون من
الإمارة ، أى جعلناهم أمراء ، فإما أن يريد من جعلهم ولاة فيلزمهم الأمر بالمعروف
، والنهى عن المنكر ، فيقصّرون فيه فيهلكون.
وإما أن يكون من
أن كل من ملك دارا وعيالا وخادما فهو ملك وأمير ، فإذا صلحت أحوالهم أقبلوا على
الدنيا ، وآثروها على الآخرة فهلكوا ، ومنه الأثر : خير المال سكّة مأبورة ومهرة مأمورة : أى كثيرة النتاج ، وإليه يرجع قوله
: لقد جئت شيئا إمرا ؛ أى عظيما.
والقول فيها من كل
جهة متقارب متداخل ، وقد قدمنا القول في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بما يغنى
عن إعادته. وأكثر ما يكون هذا الفسق وأعظمه في المخالفة الكفر أو البدعة ، وقد قال
تعالى ـ في نظيره : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
__________________
فهؤلاء قوم عصوا
وكفروا ، وهذه صفة الأمم السالفة في قصص القرآن ، وأخبار من مضى من الأمم.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).
قد قدمنا أن
الأعمال بالنية ، ولكلّ امرئ ما نوى ، وبينا أن من أراد غير الله فهو متوعّد ،
وأوضحنا أن آية الشورى مطلقة في أنّ من أراد الدنيا يؤتيه الله منها ، وليس له في
الآخرة نصيب ، وهذه مقيدة في أنه إنما يؤتى حظّه في الدنيا من يشاء الله أن يؤتيه
ذلك.
وليس الوعد بذلك
عاما لكل أحد ، ولا يعطى لكل مريد ، لقوله : عجلنا له فيها .. الآية.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَقَضى).
قد بيّنا تفسير
هذه اللفظة في كتاب المشكلين بجميع وجوهها ، وأوضحنا أنّ من معانيها خلق ، ومنها
أمر ، ولا يجوز أن يكون معناها هاهنا إلا أمر ، لأن الأمر يتصور وجود مخالفته ،
ولا يتصور وجود خلاف ما خلق الله ، لأنه الخالق ، هل من خالق غير الله! فأمر الله
سبحانه بعبادته ، وببرّ الوالدين مقرونا بعبادته ، كما قرن شكرهما بشكره ، ولهذا
قرأها ابن مسعود : ووصى ربك.
وفي الصحيح ، عن
أبى بكرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا
أخبركم بأكبر الكبائر؟ قلّنا : بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله ، وعقوق
الوالدين.
__________________
وعن أنس في الصحيح
أيضا : الإشراك بالله
، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين. ومن البر إليهما ، والإحسان إليهما ألا نتعرّض لسبّهما ،
وهي :
المسألة الثانية ـ
ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن من أكبر الكبائر
أن يلعن الرجل والديه. قيل : يا رسول الله ، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال : يسبّ
أبا الرجل فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه فيسب أمه. حتى إنه يبره وإن كان مشركا إذا كان
له عهد ، قال الله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ). وهي :
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما) :
خصّ حالة الكبر ،
لأنها بطول المدى توجب الاستثقال عادة ، ويحصل الملل ، ويكثر الضّجر ، فيظهر غضبه
على أبويه ، وتنتفخ لهما أوداجه ، ويستطيل عليهما بدالّة البنوة ، وقلّة الديانة.
وأقلّ المكروه أن
يؤفّف لهما ، وهو ما يظهره بتنفّسه المردّد من الضجر. وأمر بأن يقابلهما بالقول
الموصوف بالكرامة ، وهو السالم عن كل عيب من عيوب القول المتجرد عن كل مكروه من
مكروه الأحاديث. ثم قال ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
(وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) :
المعنى تذلّل لهما
تذليل الرعية للأمير ، والعبيد للسادة ، وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر
حين ينتصب بجناحه لولده أو لغيرهم من شدّة الإقبال. والذلّ هو اللين والهون في
الشيء ، ثم قال ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
(وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).
معناه ادع لهما في
حياتهما وبعد مماتهما بأن يكون البارئ يرحمهما كما رحماك ، وترفّق بهما كما رفقا
بك ، فإن الله هو الذي يجزى الوالد عن الولد ، إذ لا يستطيع الولد كفاء على نعمة
والده أبدا.
__________________
وفي الحديث الصحيح
: «لن يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»، معناه
يخلصه من أسر الرقّ كما خلصه من أسر الصّغر.
وينبغي له أن يعلم
أنهما ولياه صغيرا جاهلا محتاجا ، فآثراه على أنفسهما ، وسهرا ليلهما وأناماه ،
وجاعا وأشبعاه ، وتعرّيا وكسواه ، فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر إلى الحدّ
الذي كان هو فيه من الصّغر ، فيلي منهما ما وليا منه ، ويكون لهما حينئذ عليه فضل
التقدم بالنعمة على المكافئ عليها.
وقد أخبرنى الشريف
الأجل الخطيب نسيب الدولة أبو القاسم علىّ بن القاضي ذو الشرفين أبو الحسين
إبراهيم بن العباس الحسيني بدمشق ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن الحسن بن الحسين بن
الشيرازي بمكة في المسجد الحرام ، سمعته داخل الكعبة من هذا الرجل ، وكان حافظا ،
حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن ريدة الضبي الأصبهانى بأصبهان قراءة ،
أنبأنا أبو القاسم سليمان ابن أحمد بن أيوب الحافظ الطبري ، حدثنا محمد بن خالد بن
يزيد البردعي بمصر ، حدثني أبو سلمة عبيد بن
خلصة بمعرّة النعمان ، حدثنا عبد الله بن نافع المدني ، عن المنكدر بن محمد ابن
المنكدر ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ، يا رسول
الله ، إنّ أبى أخذ مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل : فأتنى بأبيك. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى
الله عليه وسلم فقال : إن الله عز وجل يقرئك السلام ، ويقول لك : إذا جاءك الشيخ
فاسأله عن شيء قاله في نفسه ، ما سمعته أذناه ، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى
الله عليه وسلم : ما بال ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال : سله يا رسول الله
، هل أنفقه إلا على إحدى عمّاته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : إيه ـ دعنا من هذا ، أخبرنى عن شيء قلته في نفسك ما سمعته
أذناك. فقال الشيخ : والله
يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا ، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته
أذناى: فقال : قل وأنا أسمع. قال : قلت :
__________________
غذوتك
مولودا ومنتك يافعا* تعلّ بما أجنى عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت* لسقمك إلّا ساهرا أتململ كأنى أنا المطروق
دونك بالذي* طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الرّدى نفسي عليك ، وإنها* لتعلم أن
الموت وقت مؤجّل فلما بلغت السنّ والغاية التي* إليها مدى ما كنت فيك
أؤمّل جعلت جزائي غلظة وفظاظة* كأنك أنت المنعم المتفضّل فليتك إذ لم ترع حقّ
أبوتى* فعلت كما الجار المجاور يفعل [فأوليتنى حقّ الجوار ولم تكن* علىّ بحال دون مالك
تبخل] قال : فحينئذ أخذ النبىّ صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه ، وقال : أنت ومالك
لأبيك. قال سليمان : لا يروى هذا الحديث عن محمد بن المنكدر بهذا التمام والشعر
إلا بهذا الإسناد ، تفرد به عبيد بن خلصة.
وأخبرنا أبو
المعالي ثابت بن بندار في دارنا بالمعتمدية ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن غالب الحافظ
، أنبأنا أبو بكر الإسماعيلى ، أخبرنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا سويد بن سعيد بن
عبد الغفار ابن عبد الله ، وأخبرنى عبد الله بن صالح ، حدثنا أبو هشام بن الوليد
بن شجاع بن قيس بن هشام السكوني ، قالوا : حدثنا على بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر
، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ
أصابهم مطر ، فأووا إلى غار فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء لا ينجيكم
إلا الصدق فليدع كلّ رجل منكم بما يعلم الله أنه قد صدق.
فقال
أحدهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير ، عمل لي ، على فرق أرز ، فذهب وتركه ، فزرعته ، فصار من أمره أنى اشتريت من
ذلك الفرق بقرا ، ثم أتانى يطلب أجره ، فقلت له :
__________________
اعمد
إلى تلك البقر ، فسقها فإنها من ذلك الفرق فساقها. فإن كنت فعلت ذلك من خشيتك
ففرّج عنا ، فانساحت عنهم الصخرة.
فقال
الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكانت لي غنم ، وكنت
آتيهما في كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عنهما ذات ليلة ، فأتيتهما وقد رقدا وأهلى
وعيالي يتضاغون من الجوع ، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواى ، فكرهت أن أوقظهما من
رقدتهما ، وكرهت أن أرجع فيستيقظا لشربهما ، فلم أزل أنتظرهما حتى طلع الفجر ،
فقاما فشربا ، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا ، فانساحت عنهم
الصخرة ، حتى نظروا إلى السماء.
فقال
الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحبّ الناس إلىّ ، وأنى راودتها
عن نفسها فأبت على إلّا أن آتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت عليها ، فجئت بها
فدفعتها إليها فأمكنتنى من نفسها ، فلما قعدت بين رجليها قالت لي : اتق الله ولا
تفضّ الخاتم إلا بحقّه. فقمت عنها ، وتركت لها المائة دينار ، فإن كنت تعلم أنّى
تركت ذلك من خشيتك فافرج عنا ، ففرج الله عنهم ، وخرجوا يمشون.
ومن تمام برّ
الأبوين صلة أهل ودّهما ، لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
إنّ أبرّ البر أن
يصل الرجل أهل ودّ أبيه.
وروى عن عبد الله
بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : رضا
الرب في رضا الوالدين ، وسخط الرب في سخط الوالدين. خرجهما الترمذي.
ولذلك عدل عقوقهما
الإشراك بالله في الإثم ، وهذا يدلّ على أن برّهما قرين الإيمان في الأجر. والله
أعلم.
وقد أخبرنا الشريف
الأجل أبو القاسم علىّ بن أبى الحسن الشاشي بها ، قال : حدثنا أبو محمد الجوهري في
كتابه ، أنبأنا أبو القاسم عيسى بن على بن عيسى الوزير ، حدثنا عبد الله ابن محمد
بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ،
عن أسيد ، عن أبيه على بن عبيد ، عن أبى أسيد ، وكان بدريّا ، قال: كنت عند النبي
__________________
صلى
الله عليه وسلم جالسا فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي من برّ والديّ من بعد موتهما شيء
أبرهما به؟ قال : نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنقاذ عهدهما بعدهما ،
وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلّا من قبلهما ، فهذا الذي بقي عليك.
وقد كان النبىّ
صلى الله عليه وسلم يهدى لصداق خديجة برّا بها ووفاء لها ، وهي زوجة ، فما ظنّك
بالأبوين.
وقد أخبرنى شيخنا
الفهري في المذاكرة أنّ البرامكة لما احتبسوا أجنب الأب ، فاحتاج إلى غسل ، فقام
ابنه بالإناء على السراج ليلة حتى دفيء واغتسل به ، ونسأل الله التوفيق لنا ولكم
برحمته.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ، إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ
تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
قدمنا القول في حق ذوى القربى في سورة البقرة والنساء ، وأكد الله هاهنا حقّه ،
لأنه وصّى ببرّ الوالدين خصوصا من القرابة ، ثم ثنّى التوصية بذي القربى عموما ،
وأمر بتوصيل حقّه إليه من صلة رحم وأداء حقّ من ميراث وسواه فلا يبدّل فيه ، ولا
يغيّر عن جهته بتوليج وصية ، أو سوى ذلك من الدخل. ويدخل في ذلك قرابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم دخولا متقدّما ، أو من طريق الأولى ، من جهة أن الآية للقرابة
الأدنين المختصين بالرجل ، فأما قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبان الله
على الاختصاص حقّهم ، وأخبر أنّ محبتهم هي أجر النبي صلى الله عليه وسلم على هداه
لنا.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ).
ولهم حقّان :
__________________
أحدهما ـ أداء
الزكاة.
والثاني ـ الحق
المفترض من الحاجة عند عدم الزكاة ، أو فنائها ، أو تقصيرها من عموم المحتاجين ،
وأخذ السلطان دونهم ، وقد حققنا ذلك فيما مضى ، فانظروا فيه.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيراً).
قال أشهب ، عن
مالك : التبذير هو منعه من حقه ، ووضعه في غير حقه ، وهو أيضا تفسير الحديث : نهى
النبىّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وكذلك يروى عن ابن مسعود ، وهو الإسراف
، وذلك حرام بقوله : (إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ). وذلك نصّ في التحريم.
فإن قيل : فمن
أنفق في الشهوات ، هل هو مبذّر أم لا؟
قلنا : من أنفق
ماله في الشهوات زائدا على الحاجات ، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذّر. ومن أنفق ربح
ماله في شهواته ، أو غلّته ، وحفظ الأصل أو الرقبة ، فليس بمبذّر. ومن أنفق درهما
في حرام فهو مبذّر يحجر عليه في نفقة درهم في الحرام ، ولا يحجر عليه ببذله في
الشهوات ، إلا إذا خيف عليه النفاد.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ ...) الآية.
أمر الله بالإقبال
على الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل عند التمكّن من العطاء ، والقدرة ،
فإن كان عجز عن ذلك جاز الإعراض ، حتى يرحم الله بما يعاد عليهم به ، فاجعل بدل
العطاء قولا فيه يسر.
وقيل : إنما أمر
بالإعراض عنهم عند خوف نفقتهم في معاصى الله ، فينتظر رحمة الله بالتوبة عليهم.
وقد قال جماعة من
المفسرين : إن هذه الآية نزلت في خبّاب ، وبلال ، وعامر بن فهيرة ، وغيرهم ، من
فقراء المسلمين ، كانوا يأتون النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فيسألونه ، فيعرض عنهم
، إذ لا يجد ما يعطيهم ، فأمر أن يحسن لهم القول إلى أن يرزقه الله ما يعطيهم ،
وهو قوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ
مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها).
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ).
هذا مجاز ، عبّر
به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله ، فضرب له مثلا الغلّ
الذي يمنع من تصرف اليدين ، وقد ضرب له النبىّ صلى الله عليه وسلم مثلا آخر ، فقال
: مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد ،
من لدن ثديّهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت ووفرت على جلده حتى
يخفى بنانه ، ويعفو أثره. وأما
البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزمت كلّ حلقة مكانها ، فهو يوسع ولا يتسع.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ).
ضرب بسط اليد مثلا
لذهاب المال ، فإن قبض الكف يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، ومنه المثل
المضروب في سورة الرعد : (إِلَّا كَباسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) في أحد وجهى تأويله كأنه حمله على التوسط في المنع والرفع
، كما قال : (وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، فيؤول معنى الكلام إلى أوجه ثلاثة :
الأول ـ لا يمتنع
عن نفقته في الخير ، ولا ينفق في الشر.
الثاني ـ لا يمنع
حقّ الله ، ولا يتجاوز الواجب ، لئلا يأتى من يسأل ، فلا يجد عطاء.
الثالث ـ لا تمسك
كلّ مالك ، ولا تعط جميعه ، فتبقى ملوما في جهات المنع الثلاث ، محسورا ، أى
منكشفا في جهة البسط والعطاء للكل أو لسائر وجوه العطاء المذمومة.
المسألة الثالثة ـ
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمّته ، وكثيرا ما جاء في القرآن ،
فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبّر به عنهم ،
على عادة العرب ، في ذلك ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد خيّره الله في الغنى
والفقر ، فاختار الفقر ، يجوع يوما ، ويشبع يوما ، ويشدّ على بطنه من الجوع حجرين
، وكان على ذلك
__________________
صبّارا ، وكان
يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر ، ثم يصرف ما بقي في
الحاجات ، حتى يأتى أثناء الحول وليس عنده شيء ، فلم يدخل في هذا الخطاب بإجماع من
الأمة ، لما هو عليه من الخلال والجلال ، وشرف المنزلة ، وقوة النفس على الوظائف ،
وعظيم العزم على المقاصد ، فأما سائر الناس فالخطاب عليهم وارد ، والأمر والنهى ـ كما
تقدم ـ إليهم متوجّه ، إلا أفرادا خرجوا من ذلك بكمال صفاتهم ، وعظيم أنفسهم ،
منهم أبو بكر الصديق ، خرج عن جميع ماله للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقبله منه لله
سبحانه ، وأشار على أبى لبابة وكعب بالثلث من جميع مالهم ، لنقصهم عن هذه المرتبة
في أحوالهم ، وأعيان من الصحابة ، كانوا على هذا ، فأجراهم النبىّ صلى الله عليه
وسلم ، وائتمروا بأمر الله ، واصطبروا على بلائه ، ولم تتعلّق قلوبهم بدنيا ، ولا
ارتبطت أبدانهم بمال منها ، وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق ، وعزوب أنفسهم عن
التعلّق بغضارة الدّنيا.
وقد كان في أشياخى
من ارتقى إلى هذه المنزلة فما ادّخر قطّ شيئا لغد ، ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد ،
ولا ربط على الدنيا بيد ، وقد تحقّق أنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وهو
بعباده خبير بصير.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ
قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
ابن مسعود عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه
سئل ، أىّ الذّنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله نداء ، وهو خلقك. قال : ثم أى؟ قال : أن
تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. وهذا نصّ صريح وحديث صحيح ، وذلك لأنّ القتل أعظم الذنوب ، إذ فيه إذاية الجنس
، وإيثار النفس ، وتعاطى الوحدة التي لأقوام للعالم بها ، وتخلّق الجنسية بأخلاق
السبعيّة ، وإذا كانت مع قوة الأسباب في جار أو قريب ، والولد ألصق القرابة ،
وأعظم الحرمة ، فيتضاعف الإثم بتضاعف الهتك للحرمة.
__________________
المسألة الثانية ـ
وكان مورد هذا النّهى في المقصد الأكبر أهل الموءودة الذين كانوا يرون قتل الإناث
مخافة الإنفاق عليهن ، وعدم النصرة منهن ، ويدخل فيه كلّ من فعل فعلهم من قتل ولده
، إمّا خشية الإنفاق أو لغير ذلك من الأسباب ، لكن هذا أقوى فيها.
وقد قدمنا بيان
القول في جريان القصاص بين الأب والابن بما يغنى عن إعادته هاهنا.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (إِنَّ قَتْلَهُمْ
كانَ خِطْأً كَبِيراً).
الخاء والطاء
والهمزة تتعلق بالقصد ، وبعدم القصد ، تقول : خطئت إذا تعمدت ، وأخطأت إذا تعمدت
وجها وأصبت غيره ، وقد يكون الخطأ مع عدم القصد ، وهو معنى متردّد كما بينا ،
لقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً).
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً
فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ) :
المعنى للقريب منه
، مأخوذ من الولي ، وهو القرب على ما حققناه في كتاب الأمد الأقصى ، والقرب في
المعاني ليس بالمسافة ، وإنما هو بالصفات ، والصفة التي بها كان قريبا هي النسب
الذي هو البعضية ، فكلّ من كان ينتسب إليه بنوع من أنواع البعضية فهو ولىّ.
واختلف العلماء في
ذلك حسبما بيناه في مواضع كثيرة ، فمنهم من قال : هو الوارث مطلقا ، فكلّ من ورثه
فهو وليّه. وعلى ذلك ورد لفظ الولاية في القرآن.
وتحقيق ذلك أن
الله تعالى أوجب القصاص ردعا عن الإتلاف ، وحياة للباقين ، وظاهره أن يكون حقّا
لجميع الناس ، كالحدود والزواجر عن السرقة والزنا ، حتى لا يختصّ بها مستحقّ ، بيد
أن البارئ تعالى استثنى القصاص من هذه القاعدة ، وجعله للأولياء الوارثين ،
ليتحقّق فيه العفو الذي ندب إليه في باب القتل ، ولم يجعل عفوا في سائر الحدود ،
لحكمته البالغة ، وقدرته النافذة ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : من قتل له قتيل فهو بخير
__________________
النظرين
بين أن يقتل أو يأخذ الدّية. وكانت هذه ـ كما تقدم ذكره ـ خاصية أعطيتها هذه الأمة ، تفضّلا وتفضيلا ،
وحكمة وتفصيلا ، فخصّ بذلك الأولياء ، ليتصوّر العفو ، أو الاستيفاء لاختصاصه
بالحزن ، فإذا ثبت هذا ، وهي :
المسألة الثانية ـ
فقد اختلف قول مالك في دخول النساء في الدم ، فإذا قال بدخولهن فيه ، فلعموم الآية
، وإذا قال بخروجهن عنه فلأنّ طلب القصاص مبناه على النصرة والحماية ، وليست
المرأة من أهلها ، وإليه وقعت الإشارة بقوله : (إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً). فإذا قلنا بدخولهن فيه ، وهي الرواية الأخرى ففي أىّ شيء
يكون دخولهنّ؟ في ذلك روايتان :
إحداهما ـ في
القود دون العفو. ووجهه أن الغرض استبقاؤه لحصول الحياة ، والتشفّى من عدم النصير
، وعظيم الحزن على الفقيد ، والنساء بذلك أخصّ.
والثانية ـ أنّ
دخولهنّ في العفو دون القود تغليبا لجانب الإسقاط الذي يغلب في الحدود ، فمن أىّ
وجه وجدنا الإسقاط ، وإن ضعف ، أمضيناه.
انتصاف ـ ذكر على
بن محمد الطبري ، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، أنه احتجّ على منع النساء من
الدخول في الآية بوجوه ركيكة ، منها :
أن الولي في ظاهره
على التذكير وهو واحد ، ولم يعلم أن ما كان بمعنى الجنس استوى المذكر والمؤنث فيه.
قال القاضي : لم
ينصف الطبرىّ من وجهين : أحدهما أنه لم يستوف كلام إسماعيل ، واستركّه قبل
استيفائه ، فالركيك هو قوله الذي لم يتم ، وتمام قول إسماعيل هو أنه قال : إن
الولىّ هاهنا على التذكير ، لأنه واحد في معنى الجنس ، كما قال : إن الإنسان لفي
خسر ، فيمكن أن يكون ولى القتيل واحدا ، ويمكن أن يكون جماعة ، ولا تدخل المرأة في
جملة الأولياء ، كما دخلت في جملة الناس حين قال : إن الإنسان لفي خسر ، لأنها في
هذا الموضع معناها ومعنى الرجل سواء ، إذ كان الخير وعمل الصالحات إنما هو شيء يخصهما
في أنفسهما ، والولىّ يكون وليّا لغيره ، وهو واحد أو أكثر ، والمرأة لا تستحق
الولاية كلها.
قال الطبرىّ : قال
إسماعيل : المرأة لا تستحقّ كلّ القصاص ، والقصاص لا بعض له ، فلزمه من ذلك إخراج
الزوج من الولاية.
قال ابن العربي :
تبصّر أيها الطبري ما قاله إسماعيل المالكي : إنما لا تستحقّ المرأة الولاية كلها
، لأنها ليست بكاملة ، لا في شهادة ولا في تعصيب ، فكيف تضعف عن الكمال في أضعف
الأحكام ، ويثبت القصاص لها على الكمال ، أين يا طبرىّ تحقيق شيخك إمام الحرمين من
هذا الكلام!
وأما احتجاجك
بالزوج فهو الركيك من القول ، فإن الزوج لا مدخل له في ولاية الدم.
قال الطبرىّ : قال
إسماعيل : المقصود من القصاص تقليل القتل ، والمقصود بكثرة القتل الرجال دون
النساء ، ويلزم على هذا ألّا يجرى القصاص بين الرجال والنساء.
قال القاضي أبو
بكر : إما أنّ فكّيك ضعفا عن لوك ما قاله إسماعيل ، وإما تعاميت عمدا ، وذلك لأنّ
القتل والاعتداء إنما شأنه الغوائل والشّحناء ، وهي بين الرجال دون النساء ، ولا
يقتل على الغائلة امرأة إلّا دنيء الهمّة ، ويعيّر به بقية الدهر ، فكان ذلك واقعا
في الغالب على الرجال دون النساء ، فوقع القول بجزاء ذلك ، وهو القصاص على الرجال
دون النساء ، إذ خروج الكلام على غالب الأحوال هي الفصاحة العربية ، والقواعد
الدينية.
وقد تفطّن لذلك
شيخك إمام الحرمين ، فجعله أصلا من أصول الفقه ، وردّ إليه كثيرا من مسائل
الاجتهاد ، فكيف ذهلت عنه ، وأنت تحكيه وتعوّل في تصانيفك عليه!
المسألة الثالثة ـ
قوله : (سُلْطاناً).
فيه خمسة أقوال :
الأول ـ قال ابن
وهب : قال مالك : السلطان أمر الله في أرضه.
الثاني ـ قال ابن
عباس : السلطان الحجة.
الثالث ـ قال
الضحاك وغيره : السلطان إن شاء عفا ، وإن شاء قتل ، وإن شاء أخذ الدّية ، قالة
أشهب والشافعى.
الرابع ـ السلطان
طلبه حتى يدفع إليه.
وهذه الأقوال
متقاربة ، وإن كان بعضها أظهر من بعض ، أما طلبه حتى يدفع إليه فهو ابتداء الحق ،
وآخره استيفاؤه ، وهو القول الخامس. وأمر الله هي حجة الخلق لعباده ، وعليهم ،
والاستيفاء هو المنتهى ، وقد تداخلت ، وتقاربت ، وأوضحها قول مالك وأبى حنيفة :
إنه أمر الله. ثم إن أمر الله لم يقع نصّا ، فاختلف العلماء فيه ، فقال ابن القاسم
، عن مالك وأبى حنيفة : القتل خاصة. وقال أشهب عنه : الخيرة بين القتل والدية ،
وبه قال الشافعى ، وقد قدّمناه في موضعه ، فلينظر فيه من سورة البقرة ، وفي مسائل الخلاف.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ قال الحسن
: لا يقتل غير قاتله.
الثاني ـ قال
مجاهد : لا يقتل بدل وليّه اثنين ، كما كانت العرب تفعله.
الثالث ـ لا يمثّل
بالقاتل ، قاله طلق بن حبيب ، وكلّه مراد ، لأنه إسراف كله منهىّ عنه.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً) ، يعنى معانا.
فإن قيل : وكم من
ولى مخذول لا يصل إلى حقّه.
قلنا : المعونة
تكون بظهور الحجة تارة ، وباستيفائها أخرى ، وبمجموعهما ثالثة ، فأيّها كان فهو
نصر من الله سبحانه ، وحكمته في الجمع بين الوجهين وفي إفراد النوعين ، والله
أعلم.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
قدّمنا القول في مال اليتيم في مواضع بما يغنى عن إعادته ، وقوله: (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : يعنى التي هي أحسن لليتيم ، وذلك بكل وجه تكون المنفعة
فيه
__________________
لليتيم ، لا
للمتصرف فيه ، كقول عائشة : اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ، وقد فسر
مجاهد وغيره الحسن فيه يعنى التجارة.
المسألة الثانية ـ
قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ) ، يعنى قوته. وقد تقدم القول في الأشد في سورة يوسف ،
وسردنا الأقوال فيه ، والأشد كما قلنا في القوة ، وقد تكون في البدن. وقد تكون في
المعرفة والتجربة ، ولا بدّ من حصول الوجهين ، فإن الأشدّ هاهنا وقعت مطلقة ، وجاء
بيان اليتيم في سورة النساء مقيّدا ، قال تعالى : (وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).
فجمع بين قوّة
البدن ببلوغ النكاح ، وبين قوة المعرفة بإيناس الرّشد ، وعضد ذلك المعنى ، فإنه لو
اقتضت الآية تمكين اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة له ، وبعد حصول قوة البدن
لأذهبه في شهواته ، وبقي صعلوكا لا مال له. وخصّ اليتيم بهذا الشرط في هذا الذكر
لغفلة الناس عنه ، وافتقاد الآباء لبنيهم ، فكان الإهمال لفقيد الأب أولى.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) ، يعنى مسئول عنه ، وقد تقدم القول في العهد في مواضع.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
إِذا كِلْتُمْ) ، يريد أعطوه بالوفاء ، وهو التمام ، لا بخس فيه ، بالقسط
، كما أمر الله به.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَزِنُوا
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) : يعنى الميزان العدل. وقال الحسن : هو القبان ، يعنى به
ما قال الله مخبرا عنه في موضع آخر : (وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ). وقال : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ.
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) ، لا بزيادة ولا بنقصان.
ومن نوادر أبى
الفضل الجوهري ما أنبأنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره ـ أنه كان يقول : إذا
أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسّبابة ، وارتفعت سائر الأصابع كان
__________________
تشكلها مقروءا
بقولك الله ، فكأنها إشارة منه سبحانه في تسيير الوزن كذلك إلى أن الله مطلع عليك
، فاعدل في وزنك.
المسألة السادسة ـ
قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) : أى عاقبة. معناه أن العدل والوفاء في الكيل أفضل للتاجر
وأكرم للبائع من طلب الحيلة في الزيادة لنفسه ، والنقصان على غيره ، وأحسن عاقبة ،
فإن العاقبة للمتقين.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (لا تَقْفُ) ، تقول العرب : قفوته أقفوه ، وقفته أقوفه ، وقفيته إذا
اتبعت أثره ، وقافية كلّ شيء آخره ، ومنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم المقفّى ، لأنه جاء آخر الأنبياء وأخيرهم. ومنه القائف ، وهو الذي
يتبع أثر الشبه ، يقال : قاف القائف يقوف ، إذا فعل ذلك ، وكذلك قرأه بعضهم : ولا
تقف ، مثال تقل.
المسألة الثانية ـ
في تفسير هذه اللفظة :
للناس فيها خمسة
أقوال :
الأول ـ لا تسمع
ولا تر مالا يحلّ لك سماعه ولا رؤيته.
الثاني ـ قال ابن
عباس : لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك.
الثالث ـ قال
قتادة : لا تقل رأيت ما لم أر ، ولا سمعت ما لم أسمع.
الرابع ـ قال محمد
ابن الحنفية : هو شهادة الزور.
الخامس ـ قيل عن
ابن عباس : معناه لا تقف لا تقل.
المسألة الثالثة ـ
هذه الأقوال كلها صحيحة ، وبعضها أقوى من بعض ، وإن كانت مرتبطة ، لأنّ الإنسان لا
يحلّ له أن يسمع ما لا يحلّ ، ولا يقول باطلا ، فكيف أعظمه وهو الزور.
__________________
ويرجع الخامس إلى
الثالث ، لأنه تفسير له ، وإذا لم يحلّ له أن يقول ذلك فلا يحلّ له أن يتبعه ،
ولذلك قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إن المفتي بالتقليد إذا خالف نصّ الرواية في
نصّ النازلة عمّن قلده ـ أنه مذموم داخل في الآية ، لأنه يقيس ويجتهد في غير محلّ
الاجتهاد ، وإنما الاجتهاد في قول الله وقول الرسول ، لا في قول بشر بعدهما.
ومن قال من
المقلّدين : هذه المسألة تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية.
فإن قيل : فأنت
تقولها وكثير من العلماء قبلك.
قلنا : نعم ، نحن
نقول ذلك في تفريع مذهب مالك على أحد القولين في التزام المذهب بالتخريج ، لا على
أنها فتوى نازلة تعمل عليها المسائل ، حتى إذا جاء سائل عرضت المسألة على الدليل
الأصلى ، لا على التخريج المذهبى ، وحينئذ يقال له الجواب كذا فاعمل عليه.
ومنها قول الناس :
هل الحوض قبل الميزان والصراط أو الميزان قبلهما أم الحوض؟ فهذا قفو ما لا سبيل
إلى علمه ، لأن هذا أمر لا يدرك بنظر العقل ، ولا بنظر السمع ، وليس فيه خبر صحيح
، فلا سبيل إلى معرفته. ومثله : كيف كفة من خفّت موازينه من المؤمنين؟ كيف يعطى
كتابه؟
المسألة الرابعة ـ
قوله : (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ).
يسأل كلّ واحد
منها عن ذلك كله ، فيسأل الفؤاد عما افتكر واعتقد ، والسمع والبصر عما رأى
من ذلك أو سمع ، فأما الكافر فينكر ، فتنطق عليه جوارحه ، فإذا شهدت استوجبت
الخلود الدائم ، وأما المؤمن العاصي فلم يأت فيه أمر صحيح ، فهو مثال رابع منها ،
وقد بينا هذه المسألة في رسالة تقويم الفتوى على أهل الدعوى.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ
طُولاً. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذلِكَ مِمَّا
أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).
__________________
فيه خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (مَرَحاً). فيه أربعة أقوال :
الأول : متكبّرا.
الثاني : بطرا. الثالث : شديد الفرح. الرابع : النشاط.
فإذا تتبعت هذه
الأقوال وجدتها متقاربة ، ولكنها منقسمة قسمين مختلفين : أحدهما مذموم ، والآخر
محمود ، فالتكبر والبطر مذمومان ، والفرح والنشاط محمودان ، ولذلك يوصف الله بالفرح
، ففي الحديث : لله أفرح بتوبة العبد من رجل ... الحديث.
والكسل مذموم شرعا
، والنشاط ضدّه. وقد يكون التكبّر محمودا ، وذلك على أعداء الله وعلى الظّلمة.
وحقيقة القول في
ذلك الآن أنّ الفرح إذا كان بدنيّا وصفات ليس لها في الآخرة نصيب ، أو كان النشاط
إلى ما لا ينفع في الآخرة ، ولا يكون في الوجهين جميعا نية دينية للمتصف بهما ،
فذلك الذي ذمّ الله هاهنا.
والدليل عليه قوله
في المسألة الثانية : (إِنَّكَ لَنْ
تَخْرِقَ الْأَرْضَ).
يعنى لن تتولج
باطنها ، فتعلم ما فيها ، ولن تبلغ الجبال طولا ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
يريد لن تساوى الجبال بطولك ، ولا بطولك ، وإنما تستقبل ما أمامك ، وأىّ فضل لك في
ذلك؟ والمساواة فيه موجودة بين الخلق.
ويروى أن سبأ دوّخ
الأرض بأجناده شرقا وغربا ، سهلا وجبلا ، وقتل وأسر ـ وبه سمى سبأ ـ ودان له الخلق ، فلما قال ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ، ثم خرج عليهم فقال : إنى لما
نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم ، فلم أر أوقع في ذلك من السجود
للشمس إذا شرقت ، فسجدوا لها ، فكان ذلك أول عبادة الشمس ، فهذه عاقبة الخيلاء ،
والتكبّر والمرح.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ
عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً).
قرئ «سيئه» برفع
الهمزة وبالهاء ، وبنصب الهمزة والهاء ، فمن قرأه برفع الهمزة والهاء
__________________
أراد أنّ الكلام
المتقدم فيه حسن مأمور به ، وفيه سيّئ منهىّ عنه ، فرجع الوصف بالسوء إلى السيّئ
منه.
ومن قرأه بالهمزة
المنصوبة والتاء رجع إلى ما نهى عنه منها ، لأنه أكثر من المأمور به. واختار
الطبري الأول.
فإن قيل : فكيف
يكون الشيء مكروها ، والكراهية عندكم إرادة عدم الشيء ، فكيف يوجد ما أراد الله عدمه؟
قلنا : قد أجبنا
عن ذلك في كتاب شرح المشكلين ، ببسط. بيانه على الإيجاز ، أنّ معنى مكروها منهيّا
عنه في أحد الوجهين ، ومرادا مأمورا به ، وعلى هذا جاء قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، أى يأمر باليسر ، ولا يأمر بالعسر ، ويكون معناه أيضا
كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروها شرعا ، أى لا يريد أن يكون من الشرع ، وإن أراد
وجوده ، كقوله : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ، معناه دينا لا وجودا ، لأنه وجد بإرادته ومشيئته ، تعالى
أن يكون من عبده في ملكه ما لا يريده.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ).
قد قدمنا بيان
الحكمة هاهنا ، وفي كتبنا ، وفسرنا وجوهها ومواردها : ولبابها هاهنا أنها العمل
بمقتضى العلم. وأعظمها قدرا وأشرفها مأمورا ما بدأ به من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ). ولا تجعل مع الله إلها آخر.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً
غَفُوراً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ اختلف
الناس في معنى هذه الآية على أقوال كثيرة ، أمّهاتها ستة :
الأول ـ دلالتها
على وحدانية الله وقدرته وعلمه وإرادته وسائر صفاته العلا وأسمائه الحسنى.
__________________
الثاني ـ تذكرتها
للتسبيح بها.
الثالث ـ كلّ شيء
له يسبح : لمح البرق ، وصريف الرعد ، وصرير الباب ، وخرير الماء.
الرابع ـ قال
قتادة والحسن : كلّ ذي روح يسبّح.
الخامس ـ قال
النخعي وغيره : الطعام يسبّح.
السادس ـ قال أكثر
الناس ، من قراء القرآن والحديث : كلّ شيء يسبح تسبيحا لا يعلمه الآدميون.
المسألة الثانية ـ
اعلموا نوّر الله بصائركم بعرفانه أنّ هذه مسألة كثر الخوض فيها بين الناس. وقد
أوضحناها في كتاب المشكلين على مقتضى أدلّة المعقول والمنقول ، وترتيب القول هاهنا
أنه ليس يستحيل أن يكون للجمادات ـ فضلا عن البهائم ـ تسبيح بكلام ، وإن لم نفقهه
نحن عنها ، إذ ليس من شرط قيام الكلام بالمحل عند أهل السنة هيئة آدمية ، ولا وجود
بلّة ولا رطوبة ، وإنما تكفى له الجوهرية أو الجسمية خلافا للفلاسفة وإخوتهم من
القدرية الذين يرون الهيئة الآدمية والبلة والرطوبة شرطا في الكلام ، فإذا ثبت هذا
الأصل بأدلّته التي تقررت في موضعه ، وبأن كلّ عاقل يعلم أنّ الكلام في الآدميين
عرض يخلقه الله فيهم ، وليس يفتقر العرض إلا لوجود جوهر أو جسم يقوم به خاصة ، وما
زاد على ذلك من الشروط فإنما هي عادة ، وللباري تعالى نقض العادة وخرقها بما شاء
من قدرته لمن شاء من مخلوقاته وبريّته. ولهذا حنّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وسبّح الحصى في كفّه وكفّ أصحابه ، وكان بمكة حجر يسلّم عليه قبل أن يبعث ،
وكانت الصحابة تسمع تسبيح الطعام ببركته صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن لذلك كله
هيئة ، ولا جدت له رطوبة ولا بلة ، وعلى إنكار هذه المعجزات وإبطال هذه الآيات
حامت بما ابتدعته من المقالات ، فيعلم كلّ أحد أنّ دلالة المخلوقات على الخالق
ظاهرة ، وتذكرته للمؤمنين من الآدميين والمسبّحين من المخلوقين بينة.
وهذا وإن سمى
تسبيحا فذلك شائع لغة ، كما كانت العرب تعبّر عن لسان الحال بلسان المقال ، فتقول
: يشكو إلىّ جملي طول السّرى. وكما قالت : قف بالديار فقل : يا ديار من غرس
أشجارك ، وجنى
ثمارك ، وأجرى أنهارك ، فإن لم تجبك جؤارا أجابتك اعتبارا. وكما قال شاعرهم عن
شجرة :
ربّ ركب قد
أناخوا حولنا
|
|
يشربون الخمر
بالماء الزلال
|
سكت الدهر زمانا
عنهم
|
|
وكذاك الدهر
حالا بعد حال
|
وذلك ما لا يحصى
كثرة ، وهو عندهم من البديع في الفصاحة ، والغاية في البلاغة.
وإن قلنا : إن
تسبيح البرق لمعانه ، والرعد هديره ، والماء خريره ، والباب صريره ، فنوع من الدلالة
، ووجه من التسمية بالمجاز ظاهر.
وإن قلنا : إن كل
ذي روح يسبّح بنفسه وصورته ، فمثله في الدلالة وفي المجاز في التسمية.
وإن قلنا : إنّ
الطعام يسبّح التحق بالجماد في المعنى والعبارة عنه كما تقدم.
وإن قلنا : إن لكل
شيء تسبيحا ربّنا به أعلم ، لا نعلمه نحن ، أخذا بظاهر القرآن ـ لم نكذب ، ولم
نغلط ، ولا ركبنا محالا في العقل ، ونقول : إنها تسبّح دلالة وتذكرة وهيئة ومقالة
، ونحن لا نفقه ذلك كله ، ولا نعلم ، إنما يعلمه من خلقه ، كما قال : ألا يعلم من
خلق. وقد مهدنا القول في ذلك في شرح الحديث عند قوله : شكت النار إلى ربها فقالت :
يا رب ، أكل بعضى بعضا ـ هل هو بكلام ، أو على تقدير قوله : امتلأ الحوض وقال قطني
، والكلّ جاء من عندنا ، وربنا عليه قادر.
وأكمل التسبيح
تسبيح الملائكة والآدميين والجنّ ، فإنه تسبيح مقطوع بأنه كلام معقول ، مفهوم
للجميع بعبارة مخلصة ، وطاعة مسلمة ، وأجلّها ما اقترن بالقول فيها فعل من ركوع أو
سجود أو مجموعهما ، وهي صلاة الآدميين ، وذلك غاية التسبيح ، وبه سمّيت الصلاة
سبحة.
فإن قيل : فما
معنى قوله : (وَلكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)؟
قلنا : أما
الكفّار المنكرون للصانع فلا يفقهون من وجوه التسبيح في المخلوقات شيئا كالفلاسفة
، فإنهم جهلوا دلالتها على الصانع ، فهم لما وراء ذلك أجهل.
وأما من عرف
الدلالة وفاته ما وراءها فهو يفقه وجها ويخفى عليه آخر ، فتكون
الآية على العموم
في حقّ الفلاسفة ، وتكون على المخصوص فيما وراءهم ، ممّن أدرك شيئا من تسبيحهم ،
ولذلك قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) ، فجعل تصريف الظل ذلّا ، وعبّر عنه بالسجود ، وهي غاية
المذلة لمن له بالحقيقة وحدة العزّة ، وهذا توقيف نفيس للمعرفة ، فإذا انتهيتم
إليه عارفين بما تقدم من بياننا فقفوا عنده ، فليس وراءه مزيد ، إلا في تفصيل
الإيمان والتوحيد. وذلك مبين في كتب الأصول ، والله أعلم.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَاسْتَفْزِزْ) ، فيه قولان :
أحدهما ـ استخفّهم.
الثاني ـ استجهلهم.
ولا يخفّ إلا من
يجهل ، فالجهل تفسير مجازىّ ، والخفة تفسير حقيقى.
المسألة الثانية ـ
قوله : (بِصَوْتِكَ) ، فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ بدعائك.
الثاني ـ بالغناء
والمزمار.
الثالث ـ كل داع
دعاه إلى معصية الله ، قاله ابن عباس.
فأما القول الأول
فهو الحقيقة ، وأما الثاني والثالث فهما مجازان ، إلا أنّ الثاني مجاز خاصّ ،
والثالث مجاز عام.
وقد دخل أبو بكر
بيت عائشة ، وفيه جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان بما تقاولت به الأنصار يوم
بعاث ، فقال : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
__________________
فقال : دعهما يا
أبا بكر ، فإنه يوم عيد. فلم ينكر النبىّ صلى الله عليه وسلم على أبى بكر تسمية
الغناء مزمار الشيطان ، وذلك لأنّ المباح قد يستدرج به الشيطان إلى المعصية أكثر
وأقرب إلى الاستدراج إليها بالواجب ، فيكون إذا تجرّد مباحا ، ويكون عند الدوام
وما تعلّق به الشيطان من المعاصي حراما ، فيكون حينئذ مزمار الشيطان. ولذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم : نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين ، فذكر الغناء والنّوح. وقدمنا
شرح ذلك كله.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ، وذلك قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللهِ). وهذا تفسير أن صوته أمره بالباطل ، ودعاؤه إليه على
العموم ، ويدخل فيه ما كانت العرب تدينه من تحريم بعض الأموال على بعض الناس وبعض
الأولاد ، حسبما تقدم في سورة الأنعام ، ويدخل فيه ما شرحناه في قوله في سورة
الأعراف : (فَلَمَّا آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما). وقد أوضحنا ذلك كله.
الآية الرابعة ـ عشرة
ـ قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً).
قد بينا أن ركوب
البحر جائز على العموم والإطلاق ، وقسمنا وجوه ركوبه في مقاصد الخلق به ، وذكرنا
أن من جملته التجارة وجلب المنافع من بعض البلاد إلى بعض ، وهذا تصريح بذلك في هذه
الآية بقوله : (لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) يعنى التجارة ، كما قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ). وقال : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ). ولا خلاف أن ذلك في هاتين الآيتين التجارة. فكذلك هذه
الآية ، وكذلك يدل قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) على جواز ركوبه أيضا ، وهي الآية
__________________
الخامسة عشرة ،
وقد أوضحنا تفسيرها في اسم الكريم من كتاب الأمد الأقصى ، فليطلب ذلك فيه.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، أى اجعلها قائمة ، أى دائمة. وقد تقدم.
المسألة الثانية ـ
قوله (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ، وفيه قولان :
أحدهما ـ زالت عن
كبد السماء ، قاله عمر ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وطائفة سواهم من
علماء التابعين وغيرهم.
الثاني ـ أن
الدّلوك هو الغروب ، قاله ابن مسعود ، وعلى ، وأبىّ بن كعب ، وروى عن ابن عباس.
المسألة الثالثة ـ
غسق الليل فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ إقبال
ظلمته.
الثاني ـ اجتماع
ظلمته.
الثالث ـ مغيب
الشفق. وقد قيدت عن بعض العلماء أن الدلوك إنما سمّى به لأنّ الرجل يدلك عينيه إذا
نظر إلى الشمس فيه ، أما في الزوال فلكثرة شعاعها ، وأما في الغروب فليتبيّنها ،
وهذا لو نقل عن العرب لكان قويا ، وقد قال الشاعر :
هذا مقام قدمي
رباح
|
|
حتى يقال دلكت
براح
|
كقوله قطام وحذام ، وفي ذلك كلام.
وقد روى مالك في
الموطّأ عن ابن عباس أنه قال : دلوك الشمس ميلها. وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته
، ورواية مالك عنه أصحّ من رواية غيره ، وهو اختيار مالك في تأويل هذه الآية.
__________________
وقد روى أن ابن
مسعود صلّى المغرب والناس يتمارون في الشمس لم تغب ، فقال : ما شأنكم؟ قالوا : نرى
أنّ الشمس لم تغب. قال : هذا والذي لا إله غيره وقت هذه الصلاة ، ثم قرأ : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ). قال : وهذا دلوك الشمس ، وهذا غسق الليل.
وتحقيق ذلك أن
الدلوك هو الميل ، وله أوّل عندنا وهو الزّوال ، وآخر وهو الغروب ، وكذلك الغسق هو
الظّلمة ، ولها ابتداء وانتهاء ، فابتداؤها عند دخول الليل ، وانتهاؤها عند غيبوبة
الشفق ، فرأى مالك أن الآية تضمّنت الصلوات الخمس فقوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) يتناول الظهر والعصر. وقوله : (غَسَقِ اللَّيْلِ) اقتضى المغرب والعشاء ، وقوله : (قُرْآنَ الْفَجْرِ) اقتضى صلاة الصبح ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
وسمى صلاة الصبح قرآنا ليبيّن أنّ ركن الصلاة ومقصودها الأكبر الذّكر بقراءة
القرآن ، ولقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ) ، معناه صلّوا على ما يأتى بيانه إن شاء الله ، وهي أطول
الصلوات قراءة ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : قسمت
الصلاة بيني وبين عبدى نصفين ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله :
حمدنى عبدى. ويقول النبىّ صلى
الله عليه وسلم للأعرابى الذي علّمه الصلاة : أقرأ
فاتحة الكتاب وما تيسّر معك من القرآن ، معناه صلّوا على ما يأتى بيانه ، إن شاء الله ، وهي أطول
الصلوات قراءة.
المسألة الخامسة ـ
قوله (الْفَجْرِ).
يعنى سيلان الضوء.
وجريان النور في الأفق ، من فجر الماء وهو ظهوره وسيلانه ، فيكون كثيرا ، ومن هذا
الفجر ـ وهو كثرة الماء ـ وهو ابتداء النهار وأول اليوم والوقت الذي يحرم فيه
الطعام والشراب على الصائم ، وتجوز فيه صلاة الصبح فعلا ، وتجب إلزاما في الذمة
وحتما ، ويستحبّ فيه فعلها ندبا ، حسبما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
فيها من مواظبته على صلاتها في الوقت الأوّل ، ولا يجوز أن يصلّى بالمنازل ، لا
بالطالع منها ، ولا بالغارب ، ولا بالمتوسط في كبد السماء ، لأنك إذا تراءيت
الطالع أو الغارب فتراءى
__________________
الفجر أوّلا ،
لأنه لا يجوز ترك الأصل مع القدرة عليه ، والرجوع إلى البدل ، وإنما جعل الله
مواقيت الصلاة بيّنة ليتساوى في دركها العامىّ والخاصىّ ، ولأجل ذلك نصبها بيّنة
للأبصار ، ظاهرة دون استبصار ، فلا عذر لأحد أن يقلبها خفية ، فذلك عكس الشريعة ،
وخلط التكليف وتبديل الأحكام.
المسألة السادسة ـ
قوله : (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ، يعنى مشهودا بالملائكة الكرام والكاتبين. ثبت عن النبىّ
صلى الله عليه وسلم من رواية الأئمة أنه قال : يتعاقبون
فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر. ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم ـ وهو
أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم
وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون.
وبهذا فضلت صلاة
الصبح على سائر الصلوات ، ويشاركها في ذلك العصر ، فيكونان جميعا أفضل الصلوات ،
ويتميّز عليها الصّبح بزيادة فضل حتى تكون الوسطى ، كما بيناه في سورة البقرة ، والله أعلم.
المسألة السابعة ـ
ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب ، لأنّ الله علّق
وجوبها على الدلوك ، وهذا دلوك كلّه ، قاله الأوزاعى ، وأبو حنيفة في تفصيل ،
وأشار إليه مالك والشافعى في حال الضرورة.
وقال آخرون : وقت
المغرب يكون من الغروب إلى مغيب الشفق ، لأنه غسق كله ، وهو المشهور من مذهب مالك
، وقوله في موطّئه الذي قرأه طول عمره ، وأملاه حياته.
ومن مسائل أصول
الفقه التي بينّاها فيها ، وأشرنا إليه في كتبنا عند جريانها أنّ الأحكام المعلّقة
بالأسماء ، هل تتعلّق بأوائلها أم بآخرها؟ فيرتبط الحكم بجميعها.
وقد اختلف في ذلك
العلماء ، وجرى الخلاف في مسائل مالك على وجه يدلّ على أنّ ذلك مختلف عنده.
__________________
والأقوى في النظر
أن يرتبط الحكم بأوائلها ، لئلا يعود ذكرها لغوا ، فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد
ذلك النظر في تعلّقه بالكل إلى الآخر أم اقتصاره على الأول على ما يعطيه الدليل ،
ولا بدّ من تعلّق الصلاة بالزوال ، لأنه أول الدّلوك. وكنا نعلقها بالجميع ، إلا
أنّ صلاة العصر قد أخذت منها وقتها ، من كون ظلّ كل شيء مثله ، فانقطع حكم الظهر
لدخول وقت العصر ، فبقى النظر في اشتراكهما معا ، بدليل آخر بيّناه في مسائل الفقه
وشرح الحديث ، وفيه طول.
وأما صلاة المغرب
فأمرها أبين من الأول ، لأنها تتعلق بآخر الدلوك ، وهو الغروب ، وليس بعدها صلاة
تقطع بها ، وتأخذ الوقت منها إلى مغيب الشفق ، فهل يتمادى وقتها إلى دخول وقت
الصلاة الأخرى ، أم يتعلق بالأول خاصة؟
وقد بيّن النبىّ
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هذا كلّه ، فقال : وقت المغرب ما لم يحضر وقت العشاء. وقال
أيضا فيه : وقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق. فارتفع الخلاف ببيان مبلّغ الشريعة صلّى الله عليه وسلم.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (فَتَهَجَّدْ بِهِ).
يعنى اسهر به ،
والهجود النوم ، والتهجّد تفعّل ، وهو لاكتساب الفعل وإثباته في الأصل ، وقد يأتى
لنفيه في حروف معدودة ، جماعها سبعة :
تهجّد : نفى
الهجود ، تخوف : نفى الخوف ، تحنث نفى الحنث ، تنجّس : ألقى النجاسة عن نفسه ،
تحرّج : نفى الحرج ، تأثم : نفى الإثم ، تعذّر : نفى العذر ، تقذّر : نفى القذر.
وفي البخاري :
تجزع نفى الجزع.
المسألة الثانية ـ
قوله : (نافِلَةً لَكَ).
__________________
والنفل هو الزيادة
، كما تقدم بيانه ، وفي وجه الزيادة هاهنا قولان :
الأول ـ أنه زيادة
على فرضه خاصّة دون الناس.
الثاني ـ قوله : (نافِلَةً لَكَ) ، أى زيادة ، لأنه لا يكفّر شيئا ، إذ غفر له ذنبه.
والأول أصحّ ،
لأنّ الثاني فاسد ، إذ نفله وفرضه لا يصادف ذنبا ، ولا صلاة الليل ولا صلاة النهار
تكفّران خطيئة ، لأن ذلك معدوم في حقّه وجودا ، معدوم في حقه مؤاخذة لو كان لفضل
المغفرة من الله عليه. ومن خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل ، وكان
يقوم حتى ترم قدماه ، وقد بينا ذلك في سورة «الأحزاب» ، وفي سورة «المزمّل».
المسألة الثالثة ـ
في صفة هذا التهجد :
وفيه ثلاثة أقوال
:
الأول ـ أنه النوم
، ثم الصلاة ، ثم النوم ، ثم الصلاة.
الثاني ـ أنه
الصلاة بعد النوم.
الثالث ـ أنه بعد
صلاة العشاء.
وهذه دعاوى من
التابعين فيها ، ولعلهم إنما عوّلوا على أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان ينام
ويصلّى ، وينام ويصلى ، فعوّلوا على أنّ ذلك الفعل كان امتثالا لهذا الأمر ، فإن
كان ذلك فالأمر فيه قريب.
المسألة الرابعة ـ
في وجه كون قيام الليل سببا للمقام المحمود.
وفيه قولان
للعلماء :
أحدهما ـ أن
البارئ يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة فيه ، أو بمعرفة
وجه الحكمة.
الثاني ـ أنّ قيام
الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس ، فيعطى الخلوة به ومناجاته في
القيامة ، فيكون مقاما محمودا ، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم ، فأجلّهم فيه درجة محمد
صلى الله عليه وسلم فإنّه يعطى من المحامد ما لم يعط أحد ، ويشفع ولا يشفع أحد ،
والله أعلم.
__________________
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً).
قد أطلنا النّفس
في هذه الآية في كتاب المشكلين وشرح الصحيح بما يقف بكم فيها على المعرفة ، فأما
الآن فخذوا نبذة تشرف بكم على الغرض :
ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم من طريق ابن مسعود وغيره قال :
بينا أنا مع
النبىّ صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متّكئ على عسيب إذ مرّ اليهود فقال بعضهم
لبعض : سلوه عن الروح ، فقال
: ما رابكم إليه ؟ وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. قالوا : سلوه ، فسألوه عن الرّوح ،
فأمسك النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ،
فقمت مقامي ، فلما نزل الوحى قال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ ...) الآية.
قال ابن وهب عن
مالك : لم يأته في ذلك جواب ، وقد قال بكر بن مضر في رواية ابن وهب عنه : إنّ
اليهود قالوا : سلوه عن الروح ، فإن أخبركم فليس بنبىّ ، وإن لم يخبركم فهو نبىّ ،
فسألوه فنزلت الآية.
ومعنى هذا أنّ
الأنبياء لا يتكلمون مع الخلق في المتشابهات ، ولا يفيضون معهم في المشكلات ،
وإنما يأخذون في البيّن من الأمور المعقولات ، والروح خلق من خلق الله تعالى جعله
الله في الأجسام ، فأحياها به ، وعلمها وأقدرها ، وبنى عليها الصفات الشريفة ،
والأخلاق الكريمة ، وقابلها بأضدادها لنقصان الآدمية ، فإذا أراد العبد إنكارها لم
يقدر لظهور آثارها ، وإذا أراد معرفتها وهي بين جنبيه لم يستطع ، لأنه قصر عنها
وقصر به دونها.
وقال أكثر العلماء
: إنه سبحانه ركّب ذلك فيه عبرة ، كما قال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) ، ليرى أنّ البارئ تعالى لا يقدر على جحده لظهور آياته في
أفعاله :
ففي كل شيء له
آية
|
|
تدلّ على أنه
واحد
|
ولا يحيط به
لكبريائه وعظمته ، فإذا وقف متفكرا في هذا ناداه الاعتبار : لا ترتب ،
__________________
ففيك من ذلك آثار
، انظر إلى موجود في إهابك لا تقدر على إنكاره لظهور آثاره ، ولا تحيط بمقداره ،
لقصورك عنه فيأخذه الدليل ، وتقوم لله الحجّة البالغة عليه.
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ
لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
تفسير الآيات ، وفيها خمسة أقوال :
الأول ـ قال ابن
عباس : هي يده ، وعصاه ، ولسانه ، والبحر ، والطّوفان ، والجراد ، والقمّل ،
والضفادع ، والدم.
الثاني ـ أنها
الطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدّم ، والبحر ، وعصاه ، والطمسة ، والحجر ، قاله محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز ، فقال له
عمر : ما الطمسة ، قال قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ). قال : فدعا عمر بخريطة كانت لعبد الملك بن مروان أصيبت
بمصر ، فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة ، مسخت حجارة كانت من أموال فرعون بمصر.
الثالث ـ روى ابن
وهب عن مالك هي : الحجر ، والعصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ،
والضفادع ، والدم ، والطود. وقال مالك : الطوفان : الماء.
الرابع ـ روى مطرف
عن مالك هي : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ،
والبحر ، والجبل ، في أقوال كثيرة.
الخامس ـ روى
الترمذي وغيره ، عن صفوان بن عسال المرادي أنّ
يهوديّين سألا النبىّ صلى الله عليه وسلم عن التسع الآيات ، فقال : هي ألا تشركوا
بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق
، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تسخروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا
تولّوا الأدبار عند الزحف ، وعليكم خاصة
__________________
يهود
ألّا تعتدوا في السبت ، فقبّلا يديه ورجليه ، وقالا : نشهد أنك نبىّ. فقال : وما
يمنعكما أن تتبعانى؟ فقالا : إنّ داود دعا ألا يزال من ذريته نبىّ ، وإنا نخاف إن
اتبعناك أن تقتلنا يهود.
المسألة الثانية ـ
الذي جرى من الأحكام هاهنا ذكر العصا ، وسنستوفى القول فيها في سورة «طه» إن شاء
الله.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفي ذلك خمسة
أقوال :
الأول ـ روى
البخاري وغيره عن ابن عباس أنّ الصلاة هنا القراءة في الصلاة ، قال : كان النبىّ
صلى الله عليه وسلم إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون
سبّوا القرآن ، ومن أنزله ومن جاء به ، فقال الله لنبيه : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيسمع المشركون ، (وَلا تُخافِتْ بِها) حتى لا يسمعك أصحابك ... الآية.
الثاني ـ أنها
نزلت في الدعاء ، قاله البخاري ، وغيره عن عائشة ، وابن وهب أيضا ، رواه عن مالك ،
عن هشام بن عروة ، عن أبيه.
الثالث ـ قال على
بن أبى طلحة ، عن ابن عباس : قيل لمحمد : لا تحسّن صلاتك في العلانية مراءاة ، ولا
تسيئها في المخافتة.
الرابع ـ روى عن
عكرمة عن ابن عباس إنما نزلت هذه لأمر ، وذلك أنّ الله لما أنزل على رسوله في عدد
خزنة النار : عليها تسعة عشر ، وقالوا في ذلك ما قالوا ، جعلوا إذا سمعوا النبىّ
صلى الله عليه وسلم يقرأ يتفرّقون عنه ، فكان الرجل إذا أراد أن يسمع استرق السمع [دونهم
فرقا منهم ، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع] ذهب خشية أذاهم ، وإن خفض
__________________
صوته يظنّ الذي
يسمع أنهم لا يسمعون من قراءته شيئا وسمع هو شيئا منهم أصاخ له يسمع منه ، فقيل له : لا تجهر بصلاتك فيتفرّقوا عنك ، ولا تخافت بها
فلا يسمعها من يسترق السمع ، رجاء أن يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به الوسنان.
قال محمد بن سيرين
: كان أبو بكر يخافت ، وعمر يجهر ، فقيل : لأبى بكر في ذلك ، فقال : أسمع من
أناجى. وقيل لعمر فيه ، فقال : أوقظ الوسنان ، وأطرد الشيطان ، وأذكر
الرحمن. فقيل لأبى بكر : ارفع قليلا. وقيل لعمر : اخفض قليلا ، وذكر هذا
عند قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها).
المسألة الثانية ـ
عبّر الله هاهنا بالصلاة عن القراءة ، كما عبّر بالقراءة عن الصلاة في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ، لأنّ كلّ واحد منهما مرتبط بالآخر ، الصلاة تشتمل على
قراءة وركوع وسجود ، فهي من جملة أجزائها ، فيعبّر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن
الجزء ، على عادة العرب في المجاز ، وهو كثير.
المسألة الثالثة ـ
في تتبع الأسباب بالتنقيح :
أما روايات ابن
عباس فأصحّهها الأول. وأما رواية عائشة فيعضدها ما روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان في
مسير ، فرفعوا أصواتهم بالتكبير ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنكم لا تدعون أصمّ ،
ولا غائبا ، وإنما تدعون سميعا قريبا ، إنه بينكم وبين رءوس رحالكم.
وأما الثالث فإن
صحّ الأول فيكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته ، إذ لا يجوز عليه
شيء من ذلك.
وأما الرابع
فمحتمل ، لكنه لم يصح.
وأما حديث أبى بكر
وعمر فيشبه الحديث الوارد في الدعاء ، ولعل ذلك محمول على الزيادة في الجهر ، حتى
يضرّ ذلك بالقارئ ، ولا يمكنه التمادي عليه ، فأخذ بالوسط من الجهر التعب والإسرار
المخافت. وقد رأيت بعض العلماء قال فيها قولا سادسا ، وهو : لا تجهر بصلاتك
بالنهار ، ولا تخافت بها بالليل ، وابتغ بين ذلك سبيلا سنّها الله لنبيه ،
وأوعزتها إليكم.
__________________
سورة الكهف
[فيها عشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
قد تقدم بيانه في
قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، فلا معنى لإعادته.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ
لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ
أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا
يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ
أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).
فيها أربع مسائل.
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ).
هذا يدل على صحة
الوكالة ، وهو عقد نيابة أذن الله فيه للحاجة إليه ، وقيام المصلحة به ، إذ يعجز
كل أحد عن تناول أموره إلا بمعونة من غيره ، أو يترفّه فيستنيب من يريحه ، حتى جاز
ذلك في العبادات ، لطفا منه سبحانه ، ورفقا بضعفة الخليقة ، ذكرها الله كما ترون ،
وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمعون ، وهو أقوى آية في الغرض.
وقد تعلق بعض
علمائنا في صحة الوكالة من القرآن بقوله تعالى : (وَالْعامِلِينَ
عَلَيْها) ، وبقوله : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً).
__________________
وآية القميص ضعيفة
، وآية العاملين حسنة. وقد روى جابر بن عبد الله قال : أردت الخروج إلى خيبر ، فأتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقلت له : إنى أريد الخروج إلى خيبر ، فقال : ائت وكيلي ،
فخذ منه خمسة عشر وسقا ، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته.
وقد وكلّ عمرو بن
أمية الضمري على عقد نكاح أم حبيبة بنت أبى سفيان عند النجاشيّ ، ووكل أبا رافع
على نكاح ميمونة في إحدى الروايتين ، ووكل حكيم بن حزام على شراء شاة ، والوكالة
جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه ، وقد مهدنا ذلك في كتب المسائل ، تحريره في خمسة
وعشرين مثالا :
الأول ـ الطهارة ،
وهي عبادة تجوز النيابة فيها في صبّ الماء خاصة على أعضاء الوضوء ، ولا تجوز على
عركها ، إلا أن يكون المتوضّئ مريضا لا يقدر عليه.
الثاني ـ النجاسة.
الثالث ـ الصلاة ،
ولا تجوز النيابة فيها بحال ، بإجماع من الأمة ، وإنما يؤدّيها المكلّف ، ولو
بأشفار عينيه إشارة ، إلا في ركعتي الطواف.
الرابع ـ الزكاة ،
وتجوز النيابة في أخذها وإعطائها.
الخامس ـ الصيام ،
ولا تجوز النيابة فيه بحال ، إلا عند الشافعى وأحمد وجملة من السلف الأول ، وقد
بيناه في مسائل الخلاف.
السادس ـ الاعتكاف
، وهو مثله.
السابع ـ الحجّ.
الثامن ـ البيع ،
وهي المعاوضة وأنواعها.
التاسع ـ الرّهن.
العاشر ـ الحجر ،
يصح أن يوكّل الحاكم من يحجر وينفّذ سائر الأحكام عنه ، وكذلك الحوالة ، والضمان ،
والشركة ، والإقرار ، والصلح ، والعارية. فهذه ستة عشر مثالا.
وأما الغصب ، فإن
وكل فيه كان الغاصب الوكيل دون الموكّل ، لأنّ كل محرّم فعله
لا تجوز النيابة
فيه ، ويتبع ذلك الشفعة ، والقرض ، ولا يصحّ التوكيل في اللقطة.
وأما قسم الفيء
والغنيمة فتصحّ النيابة فيه. والنكاح وأحكامه تصحّ النيابة فيه ، كالطلاق.
والإيلاء يمين لا وكالة فيه.
وأما اللعان فلا
تصحّ الوكالة فيه بحال.
وأما الظّهار فلا
تصحّ النيابة فيه ، لأنه منكر من القول وزور ، ولا يجوز فعله.
والخيانات لا يصح
التوكيل فيها لهذه العلّة من أنها باطل وظلم ، ويجوز التوكيل على طلب القصاص
واستيفائه ، وكذلك في الدّية ، ولا وكالة في القسامة ، لأنها أيمان.
ويصح التوكيل في
الزكاة ، وفي العتق وتوابعه إلا في الاستيلاد ، فهذه خمسة وعشرون مثالا ، تكون
دستورا لغيرها ، وإن كان لم يبق بعدها إلا يسير فرع لها.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا : في هذه الآية دليل على جواز الاجتماع على الطعام المشترك وأكله على
الإشاعة. وليس في هذه الآية دليل على ما قالوه ، لأنه يحتمل أن يكون كلّ واحد منهم
قد أعطاه ورقه مفردا ، فلا يكون فيه اشتراك ، ولا معوّل في هذه المسألة إلا على
حديثين :
أحدهما ـ أنّ ابن
عمر مرّ بقوم يأكلون تمرا ، فقال : نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل أخاه.
الثاني ـ حديث أبى
عبيدة في جيش الخبط وأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعثهم وفقدوا الزاد ، فأمر
أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمعت ، فكان يقوتنا كلّ يوم قليلا.
وهذا دون الأول في
الظهور ، لأنه كان يحتمل أن يكون أبو عبيدة كان يعطيهم كفافا من ذلك القوت ، ولا
يجمعهم عليه. وقد بينا أحاديث ذلك ومسائله في شرح الصحيح.
__________________
المسألة الثالثة ـ
في هذه الآية نكتة ، وهي أنّ الوكالة فيها إنما كانت مع التّقيّة وخوف أن يشعر بهم
أحد لما كانوا يخافون على أنفسهم منهم ، وجواز توكيل ذي العذر متّفق عليه ، فأما
من لا عذر له فأكثر العلماء على جواز توكيله.
وقال أبو حنيفة :
لا يجوز. وكان سحنون قد تلقفه عن أسد بن الفرات ، فحكم به أيام قضائه. ولعله كان
يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت ، إنصافا منهم ، وإرذالا بهم . وهو الحقّ ، فإن الوكالة معونة ، ولا تكون لأهل الباطل.
والدليل على جواز
النيابة في ذلك قائم ، لأنه حق من الحقوق التي تجوز النيابة فيها ، فجازت الوكالة
عليه ، أصله دفع الدين. ومعوّلهم على أنّ الحقوق تختلف ، والناس في الأخلاق
يتفاوتون ، فربما أضرّ الوكيل بالآخر.
قلنا : وربما كان
أحدهما ضعيفا فينظر لنفسه فيمن يقاوم خصمه ، وهذا مما لا ينضبط ، فرجعنا إلى الأصل
، وهو جواز النيابة على الإطلاق ، وللوكالة مسائل يأتى في أبوابها ذكر فروعها إن
شاء الله.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها
أَزْكى طَعاماً).
قيل : أراد أكثر.
وقيل أراد أطهر ، يعنى أزكى وأحلّ ، ولا ينبغي لأحد أن يستبعد طلبه أكثر ، لأنه
ليس من باب النهامة ، وإنما محمله على أنه إن كان مرادا فمعناه يرجع إلى أنّ رزقهم
كان من عددهم ، فاحتاجوا إلى وضع في المطعوم ليقوم بهم. والمعنى الآخر من طلب
الطهارة بيّن ، ولعله أراد المعنيين جميعا ، والله أعلم.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
قال ابن إسحاق
وغيره : قال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما أرانا إلّا قد أعذرنا
__________________
في أمر هذا الرجل
من بنى عبد المطلب ، والله لئن أصبحت ، ثم صنع كما كان يصنع في صلاته ، لقد أخذت
صخرة ، ثم رضخت رأسه فاسترحنا منه ، فامنعوني عند ذلك ، أو أسلمونى. قالوا : يا
أبا الحكم ، والله لا نسلمك أبدا.
فلما أصبح رسول
الله صلى الله عليه وسلم من تلك الليلة غدا إلى مصلّاه الذي كان يصلّى فيه ، وغدا
أبو جهل معه حجر ، وقريش في أنديتهم ينظرون ما يصنع ، فلما سجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم قام إليه أبو جهل بذلك الحجر ، فلما دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه ،
قد كادت روحه تفارقه ، فقام إليه نفر من قريش ممّن سمع ما قال تلك الليلة ، قالوا
: يا أبا الحكم ، مالك؟ فو الله لقد كنت مجدّا في أمرك ، ثم رجعت بأسوإ هيئة رجع
بها رجل ، وما رأينا دون محمد شيئا يمنعه منك. فقال : ويلكم! والله لعرض دونه لي
فحل من الإبل ، ما رأيت مثل هامته وأنيابه وقصرته لفحل قطّ ، يخطر دونه ، لو دنوت
لأكلني.
فلما قالها أبو
جهل قام النضر بن الحارث فقال : يا معشر قريش ، والله لقد نزل بساحتكم أمر ما
أراكم ابتليتم به قبله ، قلتم لمحمد : شاعر ، والله ما هو بشاعر. وقلتم : كاهن ،
والله ما هو بكاهن. وقلتم : ساحر ، والله ما هو بساحر. وقلتم : مجنون ، والله ما
هو بمجنون. والله لقد كان محمد أرضاكم فيكم : أصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ،
وخيركم جوارا ، حتى بلغ من السنّ ما بلغ ، فأبصروا بصركم ، وانتبهوا لأمركم.
فقالت قريش : هل
أنت يا نضر خارج إلى أحبار يهود بيثرب ، ونبعث معك رجلا ، فإنهم أهل الكتاب الأول
، والعلم بما أصبحنا نختلف نحن ومحمد فيه ، تسألهم ، ثم تأتينا عنهم بما يقولون.
قال : نعم ، فخرجوا ، وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط ، فقدما على أحبار اليهود ،
فوصفا لهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه ، وخلافهم إياه ،
فقالوا لهما : سلوه عن ثلاث خلال ، نأمركم بهنّ ، سلوه عن فتية مضوا في الزمن
الأول ، قد كان لهم خبر ونبأ ، وحديث معجب ، وأخبروهم خبرهم. وسلوه عن رجل طوّاف
قد بلغ من البلاد ما لم يبلغ غيره من مشارقها ومغاربها يقال له ذو القرنين ،
وأخبروهم خبره. وسلوه
عن الروح ما هو؟
فإن أخبركم بهؤلاء الثلاث فالرجل نبىّ مرسل فاتّبعوه ، وإن لم يفعل فالرجل كذّاب ،
فروا رأيكم.
فقدم النضر وعقبة
على قريش مكة ، فقالا : قد أتيناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، أمرتنا أحبار يهود أن
نسأله عن ثلاث أمور ، فإن أخبرنا بهنّ فهو نبىّ مرسل ، فاتبعوه ، وإن عجز عنها
فالرجل كذاب.
فمشوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن ثلاث أمور ، نسألك عنها ،
فإن أخبرتنا عنها فأنت نبىّ : أخبرنا عن فتية مضوا في الزمن الأول ، كان لهم حديث
معجب ، وعن رجل طوّاف بلغ من البلاد ما لم يبلغه غيره ، وعن الرّوح ما هو؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : غدا
أخبركم عن ذلك ، ولم يستثن ، فمكث عنه جبريل بضع عشرة ليلة ، ما يأتيه ، ولا يراه
حتى أرجف به أهل مكة ، قالوا : إن محمدا وعدنا أن يخبرنا عما سألناه عنه غدا ،
فهذه بضع عشرة ليلة ، فكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث جبريل عنه ، ثم
جاءه بسورة الكهف ، فقال رسول لله صلى الله عليه وسلم : لقد احتبست عنّى يا جبريل
حتى سؤت ظنا. فقال له جبريل : (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ...)
الآية. ثم قرأ
سورة الكهف.
فنزل في أمر
الفتية : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ ...) إلى آخر القصة.
فقال حين فرغ من
وصفهم ، وتبين له خبرهم : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلَّا مِراءً ظاهِراً) ، يقول لا منازعة ، ولا تبلغ بهم فيها جهد الخصومة ، ولا تستفت
فيهم منهم أخدا ، لا اليهود الذين أمروهم أن يسألوك ، ولا الذين سألوهم من قريش ،
يقول : قد قصصنا عليك خبرهم على حقّه وصدقه. ونزل في قوله : أخبركم به غدا قوله
تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، فإنك لا تدرى ما الله صانع في ذلك أيخبرهم عما يسألونك
عنه؟ م يتركهم؟ واذكر ربّك إذا نسيت ... الآية.
__________________
وجاءه : ويسألونك
عن الروح ... الآية ، وزعموا أنه ناداهم الرّوح جبريل.
قال ابن إسحاق : وبلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما قدم المدينة قال له أحبار يهود : بلغنا يا محمد أنّ فيما تلوت ـ حين سألك
قومك عن الروح ـ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، فإيانا أردت بها أم قومك؟ فقال :
كلّا أريدكم بها. قالوا : أو ليس فيما تتلو : إنا أوتينا التوراة فيها بيان كلّ
شيء؟ قال : بلى ، والتوراة في علم الله قليل ، وهي عندكم كثير مجزئ ، فيذكرون ـ والله
أعلم ـ أن هؤلاء الآيات نزلن عند ذلك : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) إلى آخر الآيات.
وقد روى في الصحيح
أن اليهود سألوه عن الروح بالمدينة ، وقد تقدّم ذلك من قبل.
وهو أصحّ.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).
قال علماؤنا : هذا
تأديب من الله لرسوله ، أمره فيه أن يعلّق كلّ شيء بمشيئة الله ، إذ من دين الأمة
ومن نفيس اعتقادهم «ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن» ، لا جرم ، فلقد تأدّب
نبيّنا بأدب الله حين علّق المشيئة بالكائن لا محالة ، فقال يوما ـ وقد خرج إلى
المقبرة : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وقال أيضا
: وإنى والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير ،
وكفّرت عن يميني.
المسألة الثالثة ـ
فإذا ثبت هذا فقاله المرء كما يلزمه في الاعتقاد ، فهل يكون استثناء في اليمين أم
لا؟
قال جمهور فقهاء
الأمصار : يكون استثناء.
وقال ابن القاسم ،
وأشهب ، وابن عبد الحكم ، وأسامة بن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن مالك : إن قوله
تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إنه إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو والغفلة ، وليس
باستثناء.
وهذا الذي قاله
مالك رضى الله عنه لم أجد عليه دليلا ، لأنّ الله ربط المشيئة ، وذكرها
__________________
قولا من العبد
لفعل العبد ، فقال لعبده : لا تقل إنى فاعل شيئا فيما تستقبله إلا أن يشاء الله ،
تقديره عند قوم : إلا بمشيئة الله. وتقديره عند آخرين : إلا أن تقول إن شاء الله.
وقد مهدناه في
رسالة الملجئة ، وهذا جزم من الله لعبده على أن يدخل قولا وعقدا في مشيئة ربه ،
فما تشاءون إلا أن يشاء الله ، وقول ذلك أجدر في قضاء الأمر ، ودرك الحاجة. قال
النبي صلى الله عليه وسلم ، قال سليمان بن داود : لأطوفنّ
الليلة على سبعين امرأة تحمل كلّ امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه :
إن شاء الله ، فلم يقل ، فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقّيه. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : لو قالها لجاهدوا في سبيل الله.
فهذا بيان الثّنيا
في اليمين ، وأنها حالة لعقد الأيمان ، وأصل في سقوط سبب الكفارة عنها ،
وإنما الذي قاله مالك من أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أمر أن يذكر الله عند السهو
والغفلة يصحّ أن يكون تفسيرا لقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ).
وفيها ثلاثة أقوال
:
الأول ـ قال ابن
عباس : معناه واذكر ربّك إذا نسيت بالاستثناء في الأيمان ، متى ذكرت ، ولو إلى سنة
، وتابعه على ذلك أبو العالية ، والحسن.
الثاني ـ قال
عكرمة : معناه واذكر ربك إذا غضبت.
الثالث ـ أن معناه
واذكر ربك إذ نسيت بالاستثناء ، فيرفع عنه ذكر الاستثناء الحرج ، وتبقى الكفارة.
وإن كان الاستثناء متصلا انتفى الحرج والكفارة.
فأما من قال : إن
معناه واذكر ربّك إذا نسيت بالاستثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم : وإنى والله لا أحلف على يمن فأرى غيرها
خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني.
وأما من قال :
معناه واذكر ربك إذا غضبت ـ بالغين والضاد المعجمتين ـ فمعناه
__________________
التثبت عند الغضب
، فإنه موضع عجلة ، ومزلّة قدم ، والمرء يؤاخذ بما ينطق به فمه ، كما تقدم بيانه.
ومن رواه بالعين
والصاد المهملتين فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أمته ، لاستحالة
المعصية على الأنبياء شرعا بالخبر الوارد الصادق في تنزيههم عنها.
وأما من قال : إن
معناه واذكر ربك بالاستثناء في اليمين ليرتفع عنك الحرج دون الكفّارة فهو تحكم
بغير دليل.
فتبين أنّ الصحيح
في معنى الآية إرادة الاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى ، وهي رخصة
من الله وردت في اليمين به خاصة لا تتعدّاه إلى غيره من الأيمان ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
وخالف في ذلك مالك والشافعى وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا : إنّ الاستثناء نافع في كلّ
يمين كالطلاق والعتق ، لأنها يمين تنعقد مطلقة ، فإذا قرن بها ذكر الله على طريق
الاستثناء كان ذلك مانعا من انعقادها ، كاليمين بالله.
ومعوّل المالكية
على أن مشيئة الله سبحانه إنما تعلم بوقوع الفعل ، لأنه لا يكون إلا ما يشاء ،
فإذا قال : أنت طالق إن شاء الله ، أو أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله ، فقد
كان الطلاق بوجود المشيئة ، لأن وجود الفعل علامة عليها ، وهذا أصل من أصول السنة
، وقد مهدناه في مسائل الخلاف.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي ...) الآية.
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أمر قيل
للنبي صلى الله عليه وسلم على معنى التبرك أو التأديب.
الثاني ـ أن
المعنى عسى أن يهدين ربي لأقرب من ميعادكم.
فإن قيل : وأىّ
قرب ، وقد فات الأجل؟
قلنا : القرب هو
ما أراد الله وقته وإن بعد ، والبعد ما لم يرد الله وقته وإن قرب.
الثالث ـ المعنى
إنكم طلبتم منى آيات دالة على نبوتي ، فأخبرتكم ، فلم تقبلوا منى ، فعسى أن يعطيني
الله ما هو أقرب لإجابتكم مما سألتم.
المسألة السادسة ـ
قال قوم : أىّ فائدة لهذا الاستثناء وهو حقيق واقع لا محالة ، لأنّ الدليل قد قام
، وكلّ أحد قد علم بأنّ ما شاء الله كان.
قلنا : عنه أربعة
أجوبة :
الأول ـ أنه تعبّد
من الله ، فامتثاله واجب ، لالتزام النبىّ صلى الله عليه وسلم له ، وانقياده إليه
، ومواظبته عليه.
الثاني ـ أنّ
المرء قد اشتمل عقده على أنه إن شاء الله كان ما وعد بفعله أو تركه ، واتصل بكلامه
في ضميره ، فينبغي أن يتصل ذلك من قوله في كلامه بلسانه ، حتى ينتظم اللسان والقلب
على طريقة واحدة.
الثالث ـ أنه شعار
أهل السنة ، فتعيّن الإجهار به ، ليميّز من أهل البدعة.
الرابع ـ أن فيه
التنبيه على ما يطرأ في العواقب بدفع أو تأت ، ورفع الإبهام المتوقع بقطع العقل
المطلق في الاستغناء عن مشيئة الله سبحانه.
وهذه كانت فائدة
الاستثناء دخلت في اليمين بالله رخصة ، وبقيت سائر الالتزامات على الأصل ، ولهذا
يروى عن بعض المتقدمين أنه قال لعبده : أنت حر إن شاء الله ، فهو حرّ ، لأنه قربة.
ولو قالها في الطلاق لم تلزم ، لأنه أبغض الحلال إلى الله.
وهذا ضعيف ، لأنه
إن كان الاستثناء برفع العقد الملتزم في اليمين بالله والطلاق فليرفعه في العتق ،
وإن كانت رخصة في اليمين بالله لكثرة ترددها فلا يقاس على الرّخص.
المسألة السابعة ـ
هذه الآية حجزة بين الكفر والإيمان والبدعة والسنة ، وذلك أنّ الله أدّب رسوله
عليه السلام بربط الأمور بمشيئة الله ، تقدّس وتعالى ، وأجمعت الأمّة على أنّ
الرجل لو قال لرجل آخر له عليه حقّ : والله لأعطينّك حقّك غدا إن شاء الله ، فجاء
الغد ، ولم يعطه شيئا أنه لا حنث عليه في يمينه ، ولا يلحقه فيه كذب ، والتأخير
معصية من الغنى القادر ، ولو كان الله لم يشأ التأخير ، لأنه معصية ، وهو لا يشاء
المعاصي ، كما يقولون ، إذن كان يكون الحالف كاذبا حانثا. ألا ترى أنه لو قال :
والله لأعطينّك حقّك إن عشت غدا ، فعاش فلم يعطه كان حانثا كاذبا.
(١٣ ـ أحكام ـ ٣)
وعند معتزلة
البصرة وبغداد أنّ مشيئة الله لإعطاء هذا الحالف ما عليه من الحقّ أمره ، وقد علم
حصول أمره بذلك ، فيجب أن يكون استثناء الحالف بمشيئة الله في ذلك المعلوم حصوله
بمنزلة استثناء الحالف بكلّ معلوم حصوله ، وكما لو قال : والله لأعطينّك حقّك إن
أمرنى الله غدا بذلك. ولا فرق بينهما ، بيد أن أهل البصرة قالوا : إنّ الله أراد
إعطاء حقّ هذا إرادة متقدمة للأمر به ، وبذلك صار الأمر أمرا ، وهي متجددة في كل
وقت ، والحالف كاذب على كلّ قول من أقوالهم ، حانث.
وقد زعم
البغداديّون أنّ مشيئة الله هي تقيّة العبد إلى غد وتأخيره له ، ورفع العوائق عنه.
ولو كان صحيحا لوجب إذا أصبح الحالف حيّا باقيا سالما من العوائق أن يكون كاذبا
حانثا إذا لم يعطه حقّه. وقد قالوا : إنما لم يلزمه الحنث إذا قال : إن شاء الله ،
رخصة من الشرع.
قلنا : حكم الشّرع
بسقوط الحرج والحنث عنه إذا قال : إن شاء الله ، وبقائه عليه إذا قال : إن أبقانى
الله ـ دليل على أنّ الفرق بينهما بيّن معنى ، كما هو بيّن لفظا ، إذ لو كان معنى
واحدا لما اختلف الحكم.
ومنهم من قال : إن
معناه إلا أن يشاء الله إلجائى إليه ، وهذا فاسد ، فإنّ الله لو ألجأه إليه لم
يتصوّر التكليف فيه بالإلزام ، لأنّ الإكراه على فعل الشيء مع الأمر به عندهم محال
، فلا وجه لقولهم بحال. وقد بسطناه في كتب الأصول بأعمّ من هذا التفصيل.
الآية الرابعة ـ قوله
: (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
مالك : الكهف من ناحية الروم. وروى سفيان ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ،
عن ابن عباس ، قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم ، فمررنا بالكهف الذي
فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن ، وذكر الحديث بطوله.
__________________
واسم الجبل الذي
فيه الكهف بنجلوس. وقال الضحاك : الكهف الغار في الوادي ، والأول أصح .
وقال قوم : إنّ
الكهف في ناحية الشام على قرب من وادي موسى ، ينزله الحجاج إذا ساروا إلى مكة ،
والله أعلم بصحة ذلك.
وقال البخاري في
باب : أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرّقيم ، ثم أدخل عليه باب حديث الغار ، وذكر
عليه خبر الثلاثة الذين آواهم المطر إلى غار ، وانطبق عليهم ، فقالوا : والله لا
ينجيكم إلا الصدق ... وذكر الحديث.
المسألة الثانية ـ
في قوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا).
هي الحجة : لأن
قوله : (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ) من كلامهم. وقد قدّمنا فيما قبل سكنى الجبال ودخول الغيران
للعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، والله أعلم.
المسألة الثالثة ـ
فيه جواز الفرار من الظالم ، وهي سنّة الأنبياء والأولياء ، وحكمة الله في
الخليقة. وقد شرحناها في كتب الحديث.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ الذكر
مشروع للعبد في كل حال على الندب ، وقد روى الترمذي وغيره ، عن عائشة أنها قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله كل أحيانه. وقال النبي صلى الله عليه
وسلم في الصحيح : لو
أنّ أحدهم إذا أتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما
رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا.
ومن جملة الأوقات
التي يستحبّ فيها ذكر الله إذا دخل أحدنا منزله أو مسجده ، وهي :
المسألة الثانية ـ
أن يقول كما قال الله : (وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أى منزلك قلت :
__________________
ما شاء الله لا
قوة إلا بالله. قال أشهب : قال مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا.
وقال ابن وهب :
قال لي حفص بن ميسرة : رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا «ما شاء الله لا قوة إلا
بالله».
وروى أن من قال
أربعا أمن من أربع ، من قال هذه أمن من هذا ، ومن قال : حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الناس له ،
قال تعالى : (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ
إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
ومن قال : (أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أمّنه الله من المكر ، قال تعالى ـ مخبرا عن العبد الصالح
أنه قال : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما
مَكَرُوا ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ).
ومن قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، أمن من الغم ، وقد قال قوم : ما من أحد يقول ما شاء الله
كان فأصابه شيء إلا رضى به ، والله أعلم.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
بيّنا في كتب الأصول أنّ كل موجود ـ ما عدا الله وصفاته العلا ـ له أول ، فإن كلّ
موجود ـ ما عدا نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ـ له آخر ، وكل ما لا آخر له فهو
الباقي حقيقة. ولكن الباقي بالحق والحقيقة هو الله ، حسبما بينّاه في كتاب الأمد.
فأما نعيم الجنة فأصول مذ خلقت لم تفن ولا تفنى بخبر الله تعالى ، وفروع وهي النعم
، هي أعراض إنما توصف بالبقاء على معنى أن أمثالها يتجدّد من غير انقطاع ، كما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتى بيانه في سورة مريم وغيرها إن شاء الله ،
وعلى ما تقدم بيانه قبل في سورة النساء بقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ، فهذا فناء
__________________
وتجديد ، فيجعله
بقاء مجازا بالإضافة إلى غيره ، فإنه يفنى فلا يعود ، فإذا ثبت هذا ، وهي :
المسألة الثانية ـ
فالأعمال التي تصدر عن الخلق من حسن وقبيح لا بقاء لها ، ولا تجدّد بعد فناء الخلق
، فهي باقيات صالحات وصالحات ، حسنات وسيئات في الحقيقة ، لكن لما كانت الأعمال
أسبابا في الثواب والعقاب ، وكان الثواب والعقاب دائمين لا ينقطعان ، وباقيين لا
يفنيان ، كما قدمنا بيانه ، وصفت الأعمال بالبقاء ، حملا مجازيا عليها ، على ما
بيناه في كتب الأصول من وجه تسمية المجاز.
وأما تسمية الشيء
بسببه المتقدّم عليه ، أو تسميته بفائدته المقصودة به ، فندب الله تعالى إلى
الأعمال الصالحة ، ونبّه على أنّها خير ما في الدنيا من أهل ومال ، وعمل وحال في
المآل ، فقال ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثوابا من المال والبنين ، وخير أملا فيما يستقبلون
إرادته ، واقتضى ذلك ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
أن يكون بهذا العموم الباقيات الصالحات كلّ عمل صالح ، وهو الذي وعد بالثواب عليه
، إلا أنّ المفسرين عيّنوا في ذلك أقوالا ، ورووا فيه أحاديث ، واختاروا من ذلك
أنواعا يكثر تعدادها ، ويطول إيرادها ، أمّهاتها أربعة :
الأول ـ روى مالك
، عن سعيد بن المسيب ، أنّ الباقيات الصالحات قول العبد : الله أكبر ، وسبحان الله
، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الثاني ـ روى ابن
وهب ، عن على بن أبى طالب مثله.
الثالث ـ مثله ،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرابع ـ أنها
الصلوات الخمس ، روى عن ابن عباس وغيره. وبه أقول ، وإليه أميل وليس في الباب حديث صحيح ،
أما أن فضل التسبيح والتكبير والتهليل والحوقلة مشهور في الصحيح كثير ، ولا مثل
للصلوات الخمس في ذلك بحساب ولا تقدير. والله أعلم.
__________________
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً).
وهي آية سيرتبط
بها غيرها ، لأنه حديث الخضر كله ، وذلك في سبع عشرة مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سرد الحديث ، وقد مهدناه في شرح الصحيحين بغاية الإيعاب ، وشرحنا مسائله ، وتكلمنا
على ما يتعلّق به ، ونحن الآن هاهنا لا نعدو ما يتعلق بالآيات على التقريب الموجز
الموعب فيها بعون الله ومشيئته.
فأما حديثه فهو ما
روى أبىّ بن كعب وغيره ، والمعوّل على حديث ابن عباس ، قال سعيد بن جبير :
قلت لابن عباس :
إن نوفا البكالي يزعم أنّ موسى صاحب بنى إسرائيل ليس موسى صاحب الخضر ، فقال : كذب
عدوّ الله ، سمعت أبىّ ابن كعب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
قام موسى خطيبا في بنى إسرائيل ، فسئل أى الناس أعلم؟ فقال : أنا أعلم. فعتب الله
عليه ، إذ لم يردّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه أنّ عبدا من عبادي بمجمع البحرين
هو أعلم منك. قال موسى : أى رب ، فكيف لي به؟ فقال له : احمل حوتا في مكتل ، فحيث
تفقد الحوت فثمّ هو ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، فجعل موسى حوتا في مكتل ،
فانطلق وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة ، فرقد موسى وفتاه ، فاضطرب الحوت في المكتل
حتى خرج من المكتل ، فسقط في البحر ، قال : وأمسك الله عنه جرية الماء ، حتى كان
مثل الطاق ، وكان للحوت سربا ، ولموسى ولفتاه عجبا ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ،
ونسى صاحب موسى أن يخبره. فلما أصبح موسى قال لفتاه : (آتِنا غَداءَنا
لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً).
قال
: ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به.
قال
: (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.) قال : ذلك (ما كُنَّا نَبْغِ
فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).
__________________
قال
: فكانا يقصّان آثارهما. قال سفيان : يزعم ناس أنّ تلك الصخرة عندها عين الحياة ،
ولا يصيب ماؤها ميتا إلا عاش.
قال
: وكان الحوت قد أكل منه ، فلما قطر عليه الماء عاش.
قال
: فقصّا آثارهما حتى أتيا الصخرة ، فرأى رجلا مسجّى عليه بثوب ، فسلّم عليه ، فقال
: أنّى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى. قال : موسى بنى إسرائيل؟ قال : نعم ، قال:
يا موسى ، إنك على علم من علم الله علّمكه لا أعلمه ، وأنا على علم من علم الله
علّمنيه لا تعلمه. فقال موسى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً. قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْراً).
قال
له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي
عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً). قال
: نعم.
فانطلق
الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر ، فمرّت بهما سفينة ، فكلّماهم أن يحملوهما ،
فعرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول ، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه ،
فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ، لقد
جئت شيئا إمرا.
قال
: (أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.) قال : (لا تُؤاخِذْنِي بِما
نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).
ثم
خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بغلام يلعب مع الغلمان ، فأخذ
الخضر برأسه ، فاقتلعه بيده ، فقتله. قال له موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً
زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً). قال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).
قال
: وهذه أشدّ من الأولى : (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ
عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا
أَنْ
__________________
يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) ، قال
: (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً) قال : (هذا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقصّ علينا من
أخبارهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأولى كانت من موسى نسيانا.
قال
: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، ثم نقر في البحر ، فقال له الخضر : ما علمي
وعلمك في علم الله إلا بمقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر.
قال سعيد بن جبير
: وكان ابن عباس يقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ :
وأما الغلام فكان كافرا.
قال ابن عباس :
قال أبى : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الغلام
الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا.
وقال أبو هريرة :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما
سمى الخضر ، لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزّت تحته خضراء.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أنه كان
معه يخدمه.
والثاني ـ أنه ابن
أخته ، وهو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب.
وإنما سمّاه فتاه
، لأنه قام مقام الفتى ، وهو العبد. قال تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ
اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ). وقال : (تُراوِدُ فَتاها). وقال صلى الله عليه وسلم : لا
يقولن أحدكم عبدى وأمتى ، وليقل فتاي وفتأتي.
فظاهر القرآن
يقتضى أنه عبد. وفي الحديث أنه كان يوشع بن نون. وفي التفسير أنه ابن أخته. وهذا
كلّه ما لا يقطع به ، فالوقف فيه أسلم.
المسألة الثالثة ـ
فيه الرحلة في طلب العلم الذي ليس بفرض ، وقد رحلت الصحابة فيه ، وأذن لهم في
الترحل في طلب الدنيا فضلا عن الدين ، وقد بيناه في غير موضع.
__________________
المسألة الرابعة
من الآية الثامنة : (فَلَمَّا بَلَغا
مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً).
جعل الله تعالى
النسيان سببا للزيادة على مقدار الحاجة في المسير ، لأنّ الله كان كتب له لقاءه ،
وكتب الزيادة في السير على موضع اللقاء ، فنفذ الكلّ ، وفيه دليل على جواز النسيان
على الأنبياء ، وكذلك على الخلق في معاني الدّين ، وهو عفو عند الله سبحانه ، كما
تقدم.
المسألة الخامسة
من الآية التاسعة ـ قوله تعالى : (قالَ لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا).
بيّن ذلك جواز
الاستخدام للأصحاب أو العبيد في أمور المعاش وحاجة المنافع ، لفضل المنزلة ، أو
لحقّ السيدية.
المسألة السادسة
من الآية العاشرة ـ قوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ).
نسيه يوشع ، ونسيه
أيضا موسى ، ونسبة الفتى نسيانه إلى الشيطان ، لأنه متمكّن منه. ولا ينسب نسيان
الأنبياء إلى الشيطان ، لأنه لا يتمكن منهم ، وإنما نسيانهم أسوة للخلق ، وسنّة
فيهم.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
فِي الْبَحْرِ عَجَباً).
قال النبي صلى
الله عليه وسلم : فصار
الماء على الحوت مثل الطاق ، ليكون ذلك علامة لموسى ، ولولاه ما علم أين فقد الحوت
، ولا وجد إلى لقاء المطلوب سبيلا.
المسألة الثامنة
من الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) وهو دليل على أنّ المتعلم تبع للعالم ، ولو تفاوتت
المراتب.
المسألة التاسعة
من الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). حكم عليه بعادة الخلق في عدم الصبر عما يخرج عن الاعتياد
، وهو أصل في الحكم بالعادة.
المسألة العاشرة
من الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).
قال علماؤنا رحمة
الله عليهم : استثنى في التصبّر ، ولم يستثن في امتثال الأمر ، فلا جرم
__________________
وجّه ما استثنى
فيه ، فكان إذا أراد أن يخرق السفينة أو يقتل الغلام لم يقبض يده ، ولا نازعه ،
وخالفه في الأمر ، فاعترض عليه ، وسأله.
المسألة الحادية
عشرة من الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (لا تُؤاخِذْنِي بِما
نَسِيتُ) :
ذكر أنّ النسيان
لا يقتضى المؤاخذة ، وهذا يدلّ على ما قدمناه من أنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا
يتعلّق به حكم في طلاق ولا غيره.
المسألة الثانية
عشرة من الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ
شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي).
فهذا شرط ، وهو
لازم ، والمسلمون عند شروطهم ، وأحقّ الشروط أن يوفّى به ما التزمه الأنبياء ، أو
التزم للأنبياء ، فهذا أصل من القول بالشروط وارتباط الأحكام بها ، وهو يستدلّ به
في الأيمان وغيرها.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْراً).
هذا يدلّ على قيام
الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا ، وبقيام الحجّة من المرة الثانية بالقطع.
المسألة الرابعة
عشرة ـ صبر موسى على قتل من لا يستحقّ عنده القتل ، ولم يغترّ لما كان أعلمه من
أنّ عنده علما ليس عنده ، ولو لا ذلك ما صبر على حال ظاهرها المحال ، وكان هو أعلم
بباطنها في المآل.
المسألة الخامسة
عشرة من الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها).
وصلا إلى القرية
محتاجين إلى الطعام ، فعرضوا أنفسهم عليهم ، وكانوا ثلاثة ، فأبوا عن قبول ذلك
منهم ، وهذا سؤال ، وهو على مراتب في الشرع ، ومنازل بيّناها في كتاب شرح
الصحيحين.
وهذا السؤال من
تلك الأقسام هو سؤال الضيافة ، وهي فرض أو سنّة كما بيناه هنالك ، وسؤالها جائز ،
فقد تقدم في حديث أبى سعيد الخدري أنهم نزلوا بقوم فاستضافوهم ، فأبوا
__________________
أن يضيفوهم ، فلدغ
سيّدهم ، فسألوهم : هل من راق ، فجاعلوهم على قطيع من الغنم ... الحديث إلى آخره.
وذكروا ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم فجوّز الكل ، وقد كان موسى ـ حين سقى لبنتي شعيب ـ أجوع منه
حين أتى القرية مع الخضر ، ولم يسأل قوتا ، بل سقى ابتداء ، وفي القرية سألا القوت
، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة ، منها أنّ موسى كان في حديث مدين منفردا ، وفي
قصة القرية تبعا لغيره.
وقيل : كان هذا
سفر تأديب فوكل إلى تكليف المشقة ، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والقوة.
المسألة السادسة
عشرة من الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً).
فاستدلّ به من قال
: إن المسكين هو الذي ليس له شيء ، وفرّ من ذلك قوم حتى قرءوها لمسّاكين ـ بتشديد
السين ـ من الاستمساك ، وهذا لا حاجة إليه ، فإنه إنما نسبهم إلى المسكنة لأجل ضعف
القوة ، بل عدمها في البحر ، وافتقار العبد إلى المولى كسبا وخلقا.
ومن أراد أن يعلم
يقينا أن الحول والقوة لله فليركب البحر.
المسألة السابعة
عشرة من الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
فيها مسألة واحدة
:
الخرج الجزاء
والأجرة ، وكان ملكا ينظر في أمورهم ، ويقوم بمصالحهم ، فعرضوا عليه
__________________
جزاء في أن يكفّ
عنهم ما يجدونه من عادية يأجوج ومأجوج ، وعلى الملك فرض أن يقوم بحماية الخلق في
حفظ بيضتهم ، وسدّ فرجتهم ، وإصلاح ثغرهم من أموالهم التي تفي عليهم ، وحقوقهم
التي يجمعها خزنتهم تحت يده ونظره ، حتى لو أكلتها الحقوق ، وأنفدتها المؤن ،
واستوفتها العوارض ، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم ، وعليه حسن النظر لهم ، وذلك
بثلاثة شروط :
الأول ـ ألّا
يستأثر بشيء عليهم.
الثاني ـ أن يبدأ
بأهل الحاجة منهم فيعينهم.
الثالث ـ أن يسوّى
في العطاء بينهم على مقدار منازلهم ، فإذا فنيت بعد هذا ذخائر الخزانة وبقيت صفرا
فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم ، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ
منهم على تقدير ، وتصرف بأحسن تدبير.
فهذا ذو القرنين
لما عرضوا عليه المال قال : لست أحتاج إليه ، وإنما أحتاج إليكم فأعينونى بقوة ،
أى اخدموا بأنفسكم معى ، فإنّ الأموال عندي والرجال عندكم ، ورأى أنّ الأموال لا
تغنى دونهم ، وأنهم إن أخذوها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه ، فعاد عليهم بالأخذ ،
فكان التطوّع بخدمة الأبدان أولى.
وقد بينا ذلك كله
في كتاب الفيء والخراج والأموال من شرح الحديث بيانا شافيا ، وهذا القدر يتعلق
بالقرآن من الأحكام ، وتمامه هنالك.
وضبط الأمر فيه
أنّه لا يحلّ أخذ مال أحد إلّا لضرورة تعرض فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرّا ، وينفق
بالعدل لا بالاستئثار ، وبرأى الجماعة لا بالاستبداد بالرأى. والله الموفّق
للصواب.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
فيها مسألة : أجاب
الله عما وقع التقرير عليهم بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ
__________________
رَبِّهِمْ
وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً). لكن العلماء من الصحابة ومن بعدهم حملوا عليهم غيرهم ،
وألحقوا بهم من سواهم ممن كان في معناهم ، ويرجعون في الجملة إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأول ـ الكفار
بالله ، واليوم الآخر ، والأنبياء ، والتكليف ، فإنّ الله زيّن لكل أمة عملهم ،
إنفاذا لمشيئته ، وحكما بقضائه ، وتصديقا لكلامه.
الصنف الثاني ـ أهل
التأويل الفاسد الدليل الذين أخبر الله عنهم بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ، كأهل حروراء والنهروان ، ومن عمل بعملهم اليوم ، وشغّب
الآن على المسلمين تشغيب أولئك حينئذ ، فهم مثلهم وشرّ منهم. قال على بن أبى طالب يوما ، وهو على المنبر : لا يسألنى أحد
عن آية من كتاب الله إلّا أخبرته ، فقام ابن الكواء ، فأراد أن يسأله عما سأل عنه
صبيغ عمر بن الخطاب ، فقال : ما
الذاريات ذروا؟ قال علىّ : الرياح. قال : ما الحاملات وقرا؟ قال : السحاب. قال :
فما الجاريات يسرا؟ قال : السفن. قال : فما المقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة. قال :
فقول الله تعالى : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)؟ قال : ارق إلىّ أخبرك. قال : فرقى إليه درجتين ، قال :
فتناوله بعصا كانت بيده ، فجعل يضربه بها. ثم قال : أنت وأصحابك ، وهذا بناء على
القول بتكفير المتأولين. وقد قدمنا نبذة منه ، وتمامها في كتب الأصول.
الصنف الثالث ـ الذين
أفسدوا أعمالهم بالرياء وضيّعوا أحوالهم بالإعجاب ، وقد أتينا على البيان في ذلك
من قبل ، ويلحق بهؤلاء الأصناف كثير ، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب
الخسيس. كان شيخا الطوسي الأكبر يقول : لا يذهب بكم الزمان في مصاولة الأقران
ومواصلة الإخوان. وقد ختم الباري البيان ، وختم البرهان بقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً).
__________________
سورة مريم
[فيها ست آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ هذا
يناسب قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً).
وقد روى سعد عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خير
الذكر الخفىّ ، وخير الرزق ما يكفى ، وذلك لأنه أبعد من الرياء ، فأما دعاء زكريا فإنما كان
خفيّا ، وهي :
المسألة الثانية ـ
لوجهين :
أحدهما ـ أنه كان
ليلا.
والثاني ـ لأنه
ذكر في دعائه أحوالا تفتقر إلى الإخفاء ، كقوله : وإنّى خفت الموالي من ورائي.
وهذا مما يكتم ولا يجهر به ، وقد أسرّ مالك القنوت ، وجهر به الشافعى ، والجهر
أفضل ، لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا حسبما ورد في الصحيح.
والله أعلم.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قد
بينا أنّ للمولى ثمانية معان في كتب الأصول والحديث ، وأوضحنا أنّ من جملتها
الوارث ، وابن العم. ولم يخف زكريا إرث المال ، ولا رجاه من الولد ، وإنما أراد
إرث النبوة ، وعليها خاف أن تخرج عن عقبه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه
صدقة. وفي لفظ آخر : إنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا
درهما ، وإنما ورّثوا علما. والأول أصح.
__________________
المسألة الثانية ـ
رجا زكريّا ربّه في الولد لوجهين :
أحدهما ـ أنه دعاه
لإظهار دينه ، وإحياء نبوّته ، ومضاعفة أجره ، في ولد صالح نبىّ بعده ، ولم يسأله
للدنيا.
الثاني ـ لأنّ
ربّه كان قد عوّده الإجابة ، وذلك لقوله تعالى : (وَلَمْ أَكُنْ
بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). وهذه وسيلة حسنة أن يتشفّع إليه بنعمه ، ويستدرّ فضله
بفضله. يروى أن حاتم الجواد لقيه رجل ، فسأله فقال له حاتم : من أنت؟ قال : أنا
الذي أحسنت إليه عام أوّل. قال : مرحبا بمن تشفّع إلينا بنا.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) :
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قد
بيّنا الحكمة والحكم في سورة البقرة من كتابنا هذا ، وفي غيره من الكتب ، وأوضحنا
وجوهها ومتصرّفاتها ومتعلقاتها كلّها ، وأجلّها مرتبة النّبوة.
المسألة الثانية ـ
في المراد بالحكم هاهنا ، وفيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ الوحى.
والثاني النبوّة. والثالث المعرفة والعمل بها.
وهذا كلّه محتمل
يفتقر إلى تحقيق ، فأما من قال : إنه الوحى فجائز أن يوحى الله إلى الصغير ،
ويكاشفه بملائكته وأمره ، وتكون هذه المكاشفة نبوّة غير مهموزة رفعة ومهموزة
إخبارا ، ويجوز أن يرسله إلى الخلق كامل العقل والعلم مؤيّدا بالمعجزة ، ولكن لم
يرد بذلك خبر ، ولا كان فيمن تقدم. وقول عيسى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ
آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إخبار عما وجب له حصوله ، لا عما حصل بعد.
وأما العلم والعمل
فقد روى ابن وهب ، عن مالك في قوله : (وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا).
قال عيسى : أوصيكم
بالحكمة ، والحكمة في قول مالك هي طاعة الله ، والاتباع لها ، والفقه في الدين
والعمل به ، وقال : ويبيّن ذلك أنّك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر فيها ،
وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به ، يؤتيه الله إياه ، ويحرمه
هذا ، فالحكمة الفقه في دين الله.
__________________
وروى عنه ابن
القاسم أنه سئل عن تفسير قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا) قال: المعرفة والعمل به ، انتهى قول مالك.
وفي الإسرائيليات
أنه قيل ليحيى ، وهو صغير : ألا تذهب نلعب؟ قال : ما خلقت للعب.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (هُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) : أمر بتكلّف الكسب في الرزق ، وقد كانت قبل ذلك يأتى
رزقها من غير تكسّب ، كما قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَ
عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى
لَكِ هذا؟ قالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ).
قال علماؤنا : كان
قلبها فارغا لله ، ففرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى ، وتعلّق قلبها
بحبه ، وكلها الله إلى كسبها ، وردّها إلى العادة في التعلق بالأسباب ، وفي معناه
أنشدوا :
ألم تر أنّ الله
قال لمريم
|
|
إليك فهزّى
الجذع يساقط الرطب
|
ولو شاء أحنى
الجذع من غير هزّها
|
|
إليها ، ولكن
كلّ شيء له سبب
|
وقد كان حبّ
الله أولى برزقها
|
|
كما كان حبّ
الخلق أدعى إلى النصب
|
المسألة الثانية ـ
في صفه الجذع قولان :
أحدهما ـ أنه كان
لنخلة خضراء ، ولكنه كان زمان الشتاء ، فصار وجود التمر في غير إبّانه آية.
الثاني ـ أنه كان
جذعا يابسا فهزّته ، فاخضرّ وأورق وأثمر في لحظة.
ودخلت بيت لحم سنة
خمس وثمانين وأربعمائة ، فرأيت في متعبدهم ، غارا عليه جذع يابس كان رهبانهم
يذكرون أنه جذع مريم بإجماع ، فلما كان في المحرم سنة اثنتين وتسعين دخلت
__________________
بيت لحم قبل
استيلاء الروم عليه لستة أشهر ، فرأيت الغار في المتعبّد خاليا من الجذع ، فسألت الرهبان
به ، فقالوا : نخر وتساقط ، مع أن الخلق كانوا يقطعونه استشفاء حتى فقد.
المسألة الثالثة ـ
قال ابن وهب : قال مالك : قال الله : (رُطَباً جَنِيًّا).
الجنىّ : ما طاب
من غير نقش ولا إفساد ، والنقش أن ينقش في أسفل البسرة حتى ترطب ،
فهذا مكروه ، يعنى مالك أنّ هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، وإفساد لجناه ، فلا ينبغي
لأحد أن يفعله ، ولو فعله فاعل ما كان ذلك مجوّزا لبيعه ، ولا حكما بطيبه ، وقد
تقدم شيء من ذلك في سورة الأنعام .
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
محمد بن كعب : لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة بقولهم هذا ، لقوله
تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).
وصدق ، فإنه قول
عظيم سبق القضاء والقدر ، ولو لا أنّ البارئ لا يضعه كفر الكافر ، ولا يرفعه إيمان
المؤمن ، ولا يزيد هذا في ملكه ، كما لا ينقص ذلك من ملكه ، لما جرى شيء من هذا
على الألسنة ، ولكنه القدّوس الحكيم الحليم ، فلم يبال بعد ذلك بما يقوله
المبطلون.
المسألة الثانية ـ
قوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) دليل على أنّ الرجل لا يجوز أن يملك ابنه.
ووجه الدليل عليه
من هذه الآية أنّ الله تعالى جعل الولديّة والعبدية في طرفي تقابل ،
__________________
فنفى إحداهما ،
وأثبت الأخرى ، ولو اجتمعتا لما كان لهذا القول فائدة ، يقع الاحتجاج بها ،
والاستدلال عليها ، والتبرّى منها ، ولهذا أجمعت الأمة على أن أمّة الرجل إذا حملت
فإن ولدها في بطنها حرّ لا رقّ فيه بحال ، وما جرى في أمّه موضوع عنه ، ولو لم
يوضع عنه ، فلا خلاف في الولد ، وبه يقع الاحتجاج.
وإذا اشترى الحرّ
أباه وابنه عتقا عليه ، حين يتم الشراء. وفي الحديث الصحيح :
لن يجزى ولد والده
إلّا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه. فهذا نصّ.
والأول دليل من
طريق الأولى ، فإن الأب إذا لم يملك أبنه مع علوّ مرتبته عليه فالابن بعدم ملك
الأب أولى ، مع قصوره عنه ، وكان الفرق بينهما أنّ هذا الولد مملوك لغيره ، فإذا
أزال ملك الغير بالشراء إليه تبطل عنه ، وعتق ، والتحق بالأول ، وفي ذلك تفريع
وتفصيل موضعه شرح الحديث ، ومسائل الفقه ، فلينظر فيها.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ روى
مالك وغيره من الأئمة قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الله إذا أحبّ عبدا نادى جبريل :
إنّى أحبّ فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل. ثم ينادى ملائكة السماء : إن الله يحبّ
فلانا فأحبوه ، فتحبه ملائكة السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، فذلك قول الله
سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).
وإذا أبغض عبدا ... فذكر مثله. وفي كتب التفسير أحاديث في هذه الآية
أعرضنا عنها لضعفها.
__________________
المسألة الثانية ـ
روى ابن وهب وغيره عن مالك في حديث : اتق
الله يحبك الناس ، وإن كرهوك ، فقال : هذا حقّ ، وقرأ : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ...) الآية. وقرأ مالك : (وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). وهذا يبين سبب حبّ الله ، وخلقه المحبة في الخلق ، وذلك
نصّ في قوله : (فَإِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). وهو أحد قسمي الشريعة من اجتناب النهى.
__________________
سورة طه
[فيها ست آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
خلع النعلين قولان :
أحدهما ـ ما
أنبأنا أبو زيد الحميرى ، أنبأنا أبو عبد الله اللخمي ، أنبأنا أبو على أحمد بن
عبد الوهاب ، أنبأنا عمى عبد الصمد ، حدثنا عمى أبو عمر محمد بن يوسف ، حدثنا
إسماعيل ابن إسحاق ، حدثنا مسدّد ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا حميد بن عبد الله ،
عن عبد الله ابن الحارث ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: كانت نعلا موسى من
جلد حمار ميت.
وحدثنا إبراهيم
الهروي ، حدثنا خلف بن خليفة الأشجعى ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ،
عن ابن مسعود ، قال : يوم كلّم الله موسى كان عليه جبّة صوف ، وكساء صوف ، وسراويل
صوف ، وكمّة صوف ، ونعلان من جلد حمار غير مذكّى. ورواه ابن عرفة عن
خلف بن خليفة بمثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني ـ قال
مجاهد : قال له ربّه : «اخلع نعليك ، أفض بقدميك إلى بركة الوادي».
قال القاضي أبو
بكر في المسألة الثانية : إن قلنا إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما
أجدره بالصحة ؛ فقد استحق التنزيه عن النعل ، واستحقّ الواطئ التبرك بالمباشرة ،
كما لا تدخل الكعبة بنعلين ، وكما كان مالك لا يركب دابة بالمدينة ؛ برّا بتربتها
المحتوية على الأعظم الشريفة ، والجثة الكريمة
__________________
وإن قلنا برواية
ابن مسعود ، وإن لم تصح ، فليس بممتنع أن يكون موسى أمر بخلع نعليه ، وكان أول
تعبّد أحدث إليه ، كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : (قُمْ فَأَنْذِرْ ،
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ).
وقد اختلف الناس
في جلد الميتة على أربعة أقوال :
الأول ـ أنه ينتفع
به على حاله ، وإن لم يدبغ ؛ قاله ابن شهاب ، لمطلق قوله صلى الله عليه وسلم : هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ؛ ولم يذكر دباغا.
الثاني ـ أنه يدبغ
فينتفع به مدبوغا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :
هلا أخذتم إهابها
فدبغتموه فانتفعتم به ؛ قاله مالك في أحد أقواله.
الثالث ـ أنه إذا
دبغ فقد طهر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :
أيما إهاب دبغ فقد
طهر. خرجه مسلم. وخرج البخاري أنه
صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من قربة مدبوغة من جلد ميتة ، حتى صارت شنّا ؛ قاله مالك في القول الثاني ، وهو الرابع ، ووراء هذه
تفصيل.
والصحيح جواز
الطهارة على الإطلاق ، ويحتمل أن نكون نعلا موسى لم تدبغا ، ويحتمل أن تكونا دبغتا
، ولم يكن في شرعه إذن في استعمالها. والأظهر أنها لم تدبغ ، وقد استوفينا القول
في كتب الفقه والحديث في الباب.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
معنى قوله : (لِذِكْرِي).
وفي ذلك ثلاثة
أقوال :
الأوّل ـ أقم
الصلاة ، لأن تذكرني ؛ قاله مجاهد.
الثاني ـ أقم
الصلاة لذكرى لك بالمدح.
__________________
الثالث ـ أقم
الصلاة إذا ذكرتني. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى ـ ورويت عن ابن عباس : أقم الصلاة
للذّكر ، وقرئ : للذّكرى.
المسألة الثانية ـ
لا خلاف في أن الذكر مصدر مضاف إلى الضمير ، ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل ،
ويحتمل أن يكون مضافا إلى ضمير المفعول.
وقد روى مالك
وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : من
نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ؛ فإن الله يقول : أقم الصلاة للذكرى ، ولذكرى ، ومعنى قوله : للذكرى إذا ذكّرتك بها ؛ ولتذكرني
فيها ، ولذكرى لك بها.
فإن قيل : الذكر
مصدر في الإثبات ، ولا يحتمل العموم.
قلنا : بل يحتمل
العموم ، كما تقول : عجبت من ضربي زيدا ، إذا كان الضرب الواقع به عاما في جميع
أنواع الضرب ، فيكون العموم في كيفيات الضرب ومتعلقاته ، والإثبات في النكرة التي
لا تعمّ ما يتناول الأشخاص.
المسألة الثالثة ـ
قوله : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها» يقتضى وجوب الصلاة على كل
ذاكر إذا ذكر ، سواء كان الذكر دائما ، كالتارك لها عن علم ؛ أو كان الذكر طارئا ،
كالتارك لها عن غفلة ، وكلّ ناس تارك ، إلا أنه قد يكون بقصد وبغير قصد ، فمتى كان
الذكر وجب الفعل دائما أو منقطعا.
فافهموا هذه
النكتة تريحوا أنفسكم من شغب المبتدعة ، فما زالوا يزهّدون الناس في الصلاة ، حتى
قالوا : إنّ من تركها متعمدا لا يلزمه قضاؤها ، ونسبوا ذلك إلى مالك. وحاشاه من
ذلك! فإن ذهنه أحدّ ، وسعيه في حياطة الدّين آكد من ذلك ، إنما قال : إن من ترك
صلاة متعمدا لا يقضى أبدا. كما قال في الأثر : من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم
يجزه صيام الدهر وإن صامه ، إشارة إلى أن ما مضى لا يعود ، لكن مع هذا لا بدّ من
توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء ، وإتباعه بالتوبة ، ويفعل الله بعد
ذلك ما يشاء.
المسألة الرابعة ـ
قالت المتزهدة : معنى (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) ؛ أى لا تذكر فيها غيرى ؛
__________________
فإنه قال :
فاعبدني ، أى تذلل لي ، وأقم الصلاة لمجرد ذكرى ، تحرّم عن الدنيا ، وأخلص للأخرى
، واعمر لسانك وقلبك بذكر المولى.
وقد بينا أن هذا
لمن قدر عليه هو الأولى ، فمن لم يفعل كتب له منها بمقدار ذلك فيها ، وقد مهدنا
هذا في شرح الحديث.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها
عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ).
قال علماؤنا :
إنما سأله عنها لما كان أضمر من الآية له فيها ، حتى إذا رجع عليها ، وتحقّق حالها
، وكسيت تلك الحلة الثعبانية بمرأى منه لابتدائها كان تبديلها مع الذكر أوقع في
القلب وأيسر له من أن يغفل عنها ، فيراها بحلة الثعبانية مكسوّة ، فيظن أنها عين
أخرى سواها.
المسألة الثانية ـ
(قالَ هِيَ عَصايَ).
قال أرباب القلوب
: الجواب المطلق أن يقول هي عصا ، ولا يضيف إلى نفسه شيئا ، فلما أراد أن يكونا
اثنين أفرد عنها بصفة الحية ؛ فبقى وحده لله كما يحب ، حتى لا يكون معه إلا الله ،
يقول الله : أنت عبدى ، ويقول موسى : أنت ربّى.
المسألة الثالثة ـ
أجاب موسى بأكثر من المعنى الذي وقع السؤال عنه ؛ فإنه ذكر في الجواب أربعة معان ، وكان يكفى واحد ، قال : الإضافة ، والتوكؤ ، والهشّ ، والمآرب المطلقة ، وكان ذلك دليلا
على جواب السؤال بأكثر من مقتضى ظاهره. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ، لمن سأله عن طهورية ماء البحر.
المسألة الرابعة ـ
الهش : هو أن يضع المحجن في أصل الغصن ويحرّكه فيسقط منه ما سقط ، ويثبت ما ثبت ؛
قاله ابن القاسم ، عن مالك ، وروى عنه أيضا أنه قال : مرّ النبىّ
__________________
صلى
الله عليه وسلم براع يعضد شجرة فنهاه عن ذلك ، وقال : هشّوا وارعوا ، وهذا من باب الاقتصاد في الاقتيات
، فإنه إذا عضد الشجرة اليوم لم يجد فيها غدا شيئا ولا غيره ممن يخلفه ، فإذا هشّ
ورعى أخذ وأبقى ، والناس كلّهم فيه شركاء ، فليأخذ وليدع ، إلا أن يكون الشيء
كثيرا فليأخذه كيف شاء.
المسألة الخامسة ـ
تعرّض قوم لتعديد منافع العصا ، كأنهم يفسرون بذلك قول موسى (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) ، وهذا مما لا يحتاج إليه في العلم ، وإنما ينبغي أن يصرّف
العصا في حاجة عرضت ؛ أما إنه يحتاج إليها في الدين في موضع واحد إجماعا وهو
الخطبة ، وفي موضع آخر باختلاف وهو التوكؤ عليها في صلاة النافلة.
وقد روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر به ، رواه أبو داود وغيره ؛ وقد قدمنا ذكره في كل موضع هنا
وسواه.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ
أَوْ يَخْشى. قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ
يَطْغى).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ يجوز
أن يرسل الله رسولين ، وقد بينا ذكر قاضيين وأميرين ، والرسالة بخلاف ذلك ، فإنها
تبليغ عن الله ، فهي بمنزلة الشهادة ، فإن كان القضاء وقلنا لا يجوز لنبي أن يشرع
إلا بوحي جاز أن يحكما معا ، وإن قلنا إنه يجوز أن يجتهد النبىّ لم يحكم إلا
أحدهما ، وهذا يتم بيانه في قصة داود وسليمان إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية ـ
في هذا جواز الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باللين لمن معه القوة ، وضمنت له
العصمة ؛ ألا تراه قال لهما : قولا له قولا لينا ، ولا تخافا إننى معكما أسمع
وأرى.
ففي الإسرائيليات
أن موسى أقام على باب فرعون سنة لا يجد رسولا يبلّغ كلاما ، حتى لقيه حين خرج فجرى
له ما قصّ الله علينا من أمره ، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في
سيرتهم مع الظالمين. وربّك أعلم بالمهتدين.
__________________
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
وقد تقدّم ما في
مثلها من أحكام ؛ بيد أنه كنّا في الإملاء الأول قد وعدنا ـ في قولهم : إنه أكلها
ناسيا ـ ببيانه في هذا الموضع ، فها نحن بقوة الله لانتقض عن عهدة الوعد ، فنقول :
كم قال في تنزيه الأنبياء عن الذي لا يليق بمنزلتهم مما ينسب الجهلة إليهم من
وقوعهم في الذنوب عمدا منهم إليها ، واقتحاما لها مع العلم بها ، وحاش لله ، فإن
الأوساط من المسلمين يتورّعون عن ذلك ، فكيف بالنبيين ، ولكن البارئ سبحانه وتعالى
بحكمه النافذ ، وقضائه السابق ، أسلم آدم إلى المخالفة ، فوقع فيها متعمّدا ناسيا
، فقيل في تعمّده : (عَصى آدَمُ رَبَّهُ). وقيل في بيان عذره : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ). ونظيره من التمثيلات أن يحلف الرجل لا يدخل دارا أبدا ،
فيدخلها متعمّدا ناسيا ليمينه ، أو مخطئا في تأويله ، فهو عامد ناس ، ومتعلّق
العمد غير متعلّق النسيان ؛ وجاز للمولى أن يقول في عبده : عصى تحقيرا وتعذيبا ،
ويعود عليه بفضله ، فيقول : نسى تنزيها ؛ ولا يجوز لأحد منا أن يخبر بذلك عن آدم ،
إلّا إذا ذكرناه في أثناء قول الله عنه ، أو قول نبيه.
وأما أن نبتدئ في
ذلك من قبل أنفسنا فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا ، المماثلين لنا ، فكيف
بأبينا الأقدم الأعظم ، النبي المقدم ، الذي عذره الله ، وتاب عليه ، وغفر له.
ووجه الخطأ في
قصّة آدم غير متعيّن ؛ ولكن وجوه الاحتمالات تتصرّف ، والمدرك منها عندنا أن يذهل
عن أكل الشجرة ، كما ضربنا المثل في دخول الدار.
الثاني ـ أن يذهل
عن جنس منهىّ منه ، ويعتقده في عينه ؛ إذ قال الله له هذه الشجرة ، كما تقدم في
سورة البقرة.
الثالث ـ أن يعتقد
أنّ النهى ليس على معنى الجزم الشرعي لمعنى مغيّب.
فإن قيل : فقد قال
: (فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ).
قلنا : قد قيل
معناه من الظالمين لأنفسكما ، كما قال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ).
__________________
والصحيح هو المعنى
الأول ، وهو الذي نسى من تحذير الله له ، أو تأويله في تنزيله ، وربّك أعلم كيف
دار الحديث. والتعيين يفتقر إلى تأويله ، وكذلك قلنا إن الناسي في الحنث معذور ،
ولا يتعلّق به حكم ، والله أعلم.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ
تَرْضى).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (وَمِنْ آناءِ) وزنه أفعال ، واحدها إنى مثل عدل ، وإنى مثل عنب في السالم ، قال الله تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ).
المسألة الثانية ـ
لا خلاف أنّ المراد بقوله تعالى هاهنا : (سَبِّحْ) ، صلّ ، لأنه غاية التسبيح وأشرفه.
واختلف الناس هل
ذلك بيان لصلاة الفرض أم لصلاة النفل؟
فقيل : قبل طلوع
الشمس ، يعنى الصبح. وقبل غروبها ، يعنى العصر. وقد قال صلى الله عليه وسلم : إنكم ترون ربّكم ، كما ترون القمر ليلة
البدر ، فإن استطعتم ألّا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. وفي الحديث الصحيح أيضا :
من صلّى البردين دخل الجنة.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَمِنْ آناءِ
اللَّيْلِ) :
يعنى ساعاته ،
يريد بذلك قيام الليل كلّه على أحد القولين. وفي الثاني صلاة المغرب والعشاء
الآخرة على حدّ قوله تعالى : (حِينَ تُمْسُونَ) في الفرض ، وعلى حد قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ، على حدّ قولنا في أنه النفل.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) :
يعنى في أحد
القولين صلاة الظهر. وقيل صلاة المغرب ، لأنها في الطرف الثاني.
والأول أصحّ ، لأن
المغرب من طرف الليل ، لا من طرف النهار. وفي القول الثاني يعنى به صلاة التطوّع ،
وهو قول الحسن. والأول أصح.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (لَعَلَّكَ تَرْضى).
هو مجمل قوله المفسّر : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، ويماثل قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى).
__________________
سورة الأنبياء
[فيها ثلاث آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (قالَ : بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
الأئمة عن أبى هريرة وغيره ، واللفظ له ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم في شيء قطّ إلا في ثلاث
: قوله : إنّى سقيم ، ولم يكن سقيما ، وقوله لسارة : أختى ، وقوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا).
وثبت أيضا في
الصحيح ، عن أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لم يكذب إبراهيم
إلا ثلاث كذبات ، ثنتين منها في ذات الله ، قوله : إنى سقيم. وقوله
: بل فعله كبيرهم هذا. وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل
: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه ، فسأله عنها ، فقال : من
هذه؟ قال : أختى. فأتى سارة فقال : يا سارة ، ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك ،
وإنّ هذا سألنى فأخبرته أنك أختى ، فلا تكذبيننى. فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب
يتناولها بيده ، فأخذ ، فقال : ادعى الله لي ولا أضرّك ، فدعت الله ، فأطلق. ثم
تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشدّ. فقال : ادعى الله لي ولا أضرك ، فأطلق ، فدعا
بعض حجبته فقال : لم تأتنى بإنسان ، إنما أتيتنى بشيطان ، فأخذمها هاجر.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا).
اختلف الناس في
ظاهر المقصود به ، فمنهم من قال : هذا تعريض ، وفي التعاريض مندوحة عن الكذب ،
ومنهم من قال : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون ، فشرط النّطق في الفعل.
__________________
والأول أصح :
لأنّه عدده على نفسه فدلّ على أنه خرج مخرج التعريض ، وذلك أنهم كانوا يعبدونهم
ويتّخذونهم آلهة دون الله ، وهم كما قال إبراهيم لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا
يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا؟ فقال إبراهيم : بل فعله كبيرهم هذا ، ليقولوا
إنهم لا ينطقون ولا يفعلون ولا ينفعون ولا يضرّون ، فيقول لهم : فلم تعبدون؟ فتقوم
الحجة عليهم منهم. ولهذا يجوز عند الأئمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات
نفسه ، فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة ، كما قال لقومه : هذا ربي ، على معنى
الحجة عليهم ، حتى إذا أقل منهم تبيّن حدوثه ، واستحالة كونه إلها.
المسألة الثالثة ـ
قوله : هذا ربّى ، وهذه أختى ، وإنى سقيم ، وبل فعله كبيرهم : هذه وإن كانت معاريض
وحسنات ، وحججا في الحق ، ودلالات ، ولكنها أثرت في الرتبة ، وخفضت عن محمد من
المنزلة ، واستحيا منها قائلها على ما ورد في حديث الشفاعة ، لأن الذي كان يليق
بمرتبته في النبوّة والخلة أن يصدع بالحق ، ويصرّح بالأمر فيكون ما كان ، ولكنه
رخّص له فقيل الرخصة ، فكان ما كان من القصة ، ولهذا جاء في حديث الشفاعة: إنما اتّخذت خليلا من وراء وراء ، يعنى بشرط أن تتبع
عثراتي ، وتختبر أحوالى ، والخلة المطلقة لمحمد ، لأنه قال له : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، ولذلك تقول العرب في أمثالها : ابغني من ورائي ، أى
اختبر حالي.
المسألة الرابعة ـ
في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر ، وهي أنه قال رسول الله: لم يكذب إبراهيم إلا
ثلاث كذبات ، ثنتين منها ما حل بهما عن دين الله ، وهي قوله : إنى سقيم ، وبل فعله
كبيرهم هذا ، ولم يعدّ قوله : هذه أختى في ذات الله ، وإن كان دفع بها مكروها ،
ولكنه لما كان لإبراهيم فيها حظّ من صيانة فراشه ، وحماية أهله ، لم يجعل في جنب
الله ذلك ، لأنه لا يجعل في ذات الله إلا العمل الخالص من شوائب الحظوظ الدنياوية
، أو المعاني التي ترجع إلى النفس ، حتى إذا خلصت للمدين كانت لله ، كما
قال : (أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ). وهذا لو صدر منا لكان لله ، ولكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا
والله أعلم.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فاعِلِينَ).
فيها ثماني عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ).
لم يرد ـ إذ
جمعهما في القول ـ اجتماعهما في الحكم ، فإنّ حاكمين على حكم واحد لا يجوز ، كما
قدمناه ، وإنما حكم كلّ منهما على انفراد بحكم ، وكان سليمان هو الفاهم لها.
المسألة الثانية ـ
في دستور في قصص القرآن :
وذلك أن الله ،
ذكر لرسوله ما جرى من الأمم وعليها ، وأقوال الأنبياء وأفعالها ، فأحسن القصص وهو
أصدقه ، فإن الإسرائيليات ذكروها مبدّلة وبزيادة باطلة موصولة ، أو بنقصان محرّف
للمقصد منقولة ، وما نقل من حديث نفش الغنم ، وقضاء داود وسليمان فيها ، انظروا
إليه ، فما وافق منه ظاهر القرآن فهو صحيح ، وما خالفه فهو باطل ، وما لم يرد له
فيه ذكر فهو محتمل ، ربّك أعلم به.
المسألة الثالثة ـ
في ذكر وصف ما قضاه النبيان صلّى الله عليهما وسلم فيه :
وفيه قولان :
أحدهما ـ أنه كان
زرعا وقعت فيه الغنم ليلا ، قاله قتادة.
الثاني ـ أنه كان
كرما نبتت عنا قيده ، وهو قول ابن مسعود وشريح.
وقد روى أنّ النفش
رعى الليل ، والهمل رعى النهار ، وهذا هو المشهور في اللغة.
المسألة الرابعة ـ
في ذكر وصف قضائهما :
أما حكم داود فإنه
يروى أنه قضى لصاحب الحرث بالغنم. وأما حكم سليمان فإنه قضى
__________________
بأن تدفع الغنم
لصاحب الحرث علّه يغتلّها ، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بعمارته ، فإذا عاد
في السنة المقبلة إلى مثل حالته ردّ إلى كلّ أحد ماله ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ،
فرجع داود إلى حكم سليمان.
المسألة الخامسة ـ
في صفة حكم المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها :
روى الزهري ، أخبرنى سعيد بن المسيب ، وحرام بن سعد
بن محيّصة أن ناقة للبراء دخلت حائطا ، فأفسدت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنّ على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأنّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. وفي رواية : وعلى
أهل المواشي حفظها بالليل. وهذا حديث صحيح لا كلام فيه.
المسألة السادسة ـ
في هذه دليل على رجوع القاضي عما حكم به ، إذا تبيّن له أنّ الحق في غيره ، وهكذا
في رسالة عمر إلى أبى موسى : فأما أن ينظر قاض فيما حكم به قاض فلا يجوز له ، لأنّ
ذلك يتداعى إلى ما لا آخر له ، وفيه مضرّة عظمى من جهة نقض الأحكام ، وتبديل
الحلال بالحرام ، وعدم ضبط قوانين الإسلام ، ولم يتعرض أحد من الخلفاء إلى نقض ما رآه
الآخر ، وإنما كان يحكم بما يظهر إليه.
المسألة السابعة ـ
قال بعض الناس : إن داود لم يكن أنفذ الحكم ، وظهر له ما قال غيره.
وقال آخرون : لم
يكن حكما ، وإنما كانت فتيا ، فأما القول بأن ذلك من داود كان فتيا فهو ضعيف ،
لأنه كان النبىّ ، وفتياه حكم.
وأما قوله الآخر :
إنه لم يكن أنفذ الحكم فظهر له ما قال غيره. فهو ضعيف ، لأنه قال : «إذ يحكمان» ،
فبيّن أنّ كلّ واحد منهما كان قد حكم ، على أنه قد قيل : إن الفتيا حكم ، وهو صحيح
لفظا ، وفي بعض المعنى ، لأنه يلزم المقلّد قوله ، ولا يلزم المجتهد قول غيره.
وقد قيل : إنّ
الله أوحى أنّ الحكم حكم سليمان ، فعلى هذا كان القضاء من الله ، وكلّ ذلك محتمل.
وهذا كله مبنيّ على أن الأنبياء يجوز لهم الحكم بالاجتهاد ، وهي :
__________________
المسألة الثامنة ـ
وقد بيّنا في كتاب التمحيص أنّ اجتهادهم صحيح ، لأنه دليل شرعىّ ، فلا إحالة في أن
يستدلّ به الأنبياء.
فإن قيل : إنما
يكون دليلا إذا عدم النص ، وهم لا يعدمونه ، لأجل نزول الملك.
قلنا : إذا لم
ينزل الملك فقد عدموا النصّ.
جواب آخر ـ وذلك
أنه عندنا دليل مع عدم النصّ ، وعندهم هو دليل مع وجوده. والله أعلم.
المسألة التاسعة ـ
في تحرير هذه المسألة كلها :
وذلك أنه لا إشكال
في أنّ من أتلف شيئا فعليه الضمان ، لكن المواشي جاء فيها حديث صحيح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه
قال : العجماء جرحها
جبار. فحكم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأن فعل البهائم هدر ، وهذا عموم
متفق عليه سندا ومتنا ، وحديث ناقة البراء خاصّ ، وما قضى به داود وسليمان غير
معلوم على التعيين ممن يقطع بصدقه ، فتعيّن أن نعتنى بشرعنا ، فنقول :
لا خلاف أنّ
العامّ يقضى عليه الخاص ، وقضاء النبىّ صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بأنّ
حفظ الزروع والثمار بالنهار على أربابها ، لما على أهل المواشي من المشقّة في
حفظها بالنهار ، وبأن حفظ الكلّ بالليل على أرباب المواشي ، لأنّ ذلك من حفظ
الزروع والثمار شاقّ على أربابها ، فجرى الحكم على الأوفق والأسمح بمقتضى الحنيفية
السمحة ، ومجرى المصلحة ، وكان ذلك أوفق للفريقين ، وأسهل على الطائفتين ، وأحفظ
للمالكين.
وليس في هذا
اختلاف ، لما يروى عن النبيّين المتقدمين صلى الله عليهما وسلم في أصل الضمان ،
وإنما هو خلاف في صفته.
المسألة العاشرة ـ
قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعى : لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت
بالنهار.
وقال الليث : يضمن
أرباب المواشي بالليل والنهار.
__________________
وقال أبو حنيفة :
إذا أفسدت المواشي ليلا أو نهارا لم يكن على صاحبها ضمان.
وتحقيق المسألة
أنه معنى حديث «العجماء جبار» ، وهذا ينفى الضمان كلّه ، ومعنى حديث البراء ، وهو
نصّ في الفرق بين الليل والنهار ، فوجب تخصيص حديث البراء بحديث العجماء ، وليس
عندنا بقضاء داود وسليمان نصّ ، فنقول : إنه يعارض هذا على أحد القولين في أنّ شرع
من قبلنا شرع لنا ، فيفتقر حينئذ إلى الكلام عليه ، والترجيح فيه ، فوجب الوقوف عندها
وقف بناء النص عليه. والله أعلم.
المسألة الحادية
عشرة ـ إذا قلنا : إنّ أرباب المواشي يضمنون ما أفسدت ماشيتهم بالليل ، فإنهم
يضمنون قيمة الزرع على رجاء أن يتمّ أو لا يتم ، قاله عنه مطرف ، ولا يستأنى
بالزرع أن ينبت أو لا ينبت كما يفعل في سنّ الصغير.
وقال عيسى ، عن
ابن القاسم : قيمته لو حلّ بيعه.
وقال أشهب : وابن
نافع عنه في المجموعة : وإن لم يبد صلاحه.
والأول أقوى ،
لأنها صفته ، فيقوّم كذلك لو تمّ أو لم يتم ، كما يقوّم كلّ متلف على صفته.
المسألة الثانية
عشرة ـ إذا أفسدت المواشي ذلك فعلى أربابها قيمة ما أفسدت ، وإن زاد على قيمتها.
وقال الليث ، تسقط
الزيادة على القيمة ، وهذا باطل ، لأن القيمة إنما هي على أرباب المواشي ، وليست
على المواشي ، وتخالف هذا جناية العبد ، فإنها عليه ، فيحمل السيد منها إن أراد
فداءه ـ قيمته.
المسألة الثالثة
عشرة ـ لو لم يقض في المفسد بشيء حتى نبت أو انجبر فإن كانت فيه قبل ذلك منفعة رعى
أو شيء ضمن تلك المنفعة ، وإن لم يكن فيه منفعة فلا ضمان ـ رواه ابن حبيب.
وقال أصبغ : يضمن
، لأنّ التلف قد تحقّق ، والجبر ليس من جهته ، فلا يعتدّ له به.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قال أصبغ في المدينة : ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع
بغير ذوّاد ، فركّب العلماء على هذا أنّ البقعة لا تخلو أن تكون بقعة
زرع أو بقعة سرح ، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تحتاج في الزرع ،
وعلى
__________________
أربابها حفظها ،
وما أفسدت [فصاحبها] ضامن على أهلها ليلا أو نهارا ، وإن كانت بقعة سرح فعلى
صاحب الزرع الذي يحرثه فيها حفظه ، ولا شيء على أرباب المواشي.
المسألة الخامسة
عشرة ـ قال أشهب ، وابن نافع في العتبية ، عن مالك : سواء كانت الثمار والزروع
محظرا عليها أو بغير حظار ، ولا يختلف الحكم بالحظار.
وقال غيره :
يختلف. وهذا أصوب ، فإن العجماء لا يردّها حظار.
المسألة السادسة
عشرة ـ المواشي على قسمين : ضوارى ، وحريسة ، وعليهما قسمها مالك ، فالضوارى هي
المعتادة للزروع والثمار ، فقال مالك : تغرّب وتباع في بلد لا زرع فيه ـ رواه ابن
القاسم في الكتاب وغيره.
قال ابن حبيب :
وإن كره ذلك ربّها ، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت إفساد الزرع : تغرّب
وتباع.
وأما ما يستطاع
الاحتراز منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه ، وهذا بيّن.
المسألة السابعة
عشرة ـ قال أصبغ : النحل ، والحمام ، والإوز ، والدجاج ، كالماشية ، لا يمنع
صاحبها من اتخاذها ، وإن أضرّت ، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم.
وهذه رواية ضعيفة
لا يلتفت إليها ، ومن أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه ، وأما
انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه ، وهذه الضواري عن ابن القاسم في
المدينة أنه لا ضمان على أربابها إلّا بعد التقدّم. وأرى الضمان عليهم قبل التقدم
، إذا كانت ضوارى.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قال الحسن. لو لا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا ، ولكنه تعالى أثنى على
سليمان بصوابه ، وعذر داود باجتهاده.
وقد اختلف العلماء
في المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا ، هل الحق في قول واحد منهم غير معين ، أم
جميع أقوالهم حق؟
والذي نراه أن
جميعها حقّ لقوله : ففهّمناها سليمان وكلّا آتينا حكما وعلما. وقد مهدنا ذلك في
كتاب التمحيص ، فلينظر فيه إن شاء الله.
__________________
سورة الحج
[فيها ست عشرة آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ، وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ
مِنْ تُرابٍ) ، يعنى آدم ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ، يعنى ولده ، وهو المنى سمى نطفة لقلته ، وهو القليل من الماء. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ، يعنى قطعة صغيرة من دم. (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) يعنى ثم من جزء مخثر يشبه اللقمة التي مضغت.
وقوله : (مُخَلَّقَةٍ) فيه أربعة أقوال :
الأولى ـ صارت
خلقا ، وغير مخلّقة ما قذفته الرّحم نطفة ، قاله ابن مسعود.
الثاني ـ تامة
الخلق ، وغير تامة الخلق ، قاله قتادة.
الثالث ـ معناه
مصوّرة وغير مصوّرة كالسقط ، قاله مجاهد.
الرابع ـ يريد
تامة الشهور ، وغير تامة.
المسألة الثانية ـ
قد قدّمنا شيئا من القول في هذا الغرض ، ونحن الآن نفيض فيه بما إذا اتصل بما في
سورة الرعد كان بيانا للمسألة وعرفانا ، فنقول :
في ذلك روايات عن
النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال عن السلف :
__________________
فأما الروايات فقد
قدمنا بعضها ونعيد منها هاهنا الرواية الأولى :
روى يحيى بن زكريا
بن أبى زائدة ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود نحوه ، وعن ابن
عمر أنّ النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفّه ، فقال : أى ربّ ، ذكر أم
أنثى؟ شقىّ أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ وبأى أرض تموت؟ قال داود : وشكلت في
الخلق والخلق ، فيقال له : انطلق إلى أمّ الكتاب ، فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة ،
فينطلق فيجد قصّتها في أمّ الكتاب تتخلّق فتأكل رزقها ، وتطأ أثرها ، فإذا جاء
أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدّر لها ، ثم قرأ عامر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ،
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).
الثانية ـ محمد بن
أبى عدى ، عن داود بمثله ، قال عبد الله : إذا استقرت النطفة في الرّحم أدارها ملك
بكفّه ، وقال : أى ربّ ، مخلّقة أو غير مخلّقة؟ قال : فإن كانت غير مخلقة قذفتها
الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة قال : أى رب ، أذكر أم أنثى؟ شقىّ أم سعيد؟ ما الرزق؟
ما الأثر؟ بأىّ أرض تموت؟
آثار السلف أربعة
:
الأول ـ قال عامر
في النطفة والعلقة والمضغة : فإذا انتكست في الخلق الرابع كانت نسمة مخلّقة ، وإذا
قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلّقة.
الثاني ـ قال أبو
العالية : غير مخلّقة السقط قبل أن يخلق.
الثالث ـ قال
قتادة : تامّة وغير تامة.
الرابع ـ قال ابن
زيد : المخلّقة التي خلق فيها الرأس واليدين والرّجلين. وغير مخلقة التي لم يخلق
فيها شيئا.
المسألة الثالثة ـ
قال المغيرة بن شعبة : إنه كان يأمر بالصلاة على السقط ، ويقول : سمّوهم واغسلوهم
، وكفّنوهم وحنّطوهم ، فإنّ الله أكرم بالإسلام صغيركم وكبيركم ، ويتلو هذه الآية
: «هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة» ،
لم يستتم سائر خلقها ، فإنّ الله يبعثها يوم القيامة خلقا تامّا.
المسألة الرابعة ـ
إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإنّ النطفة والعلقة والمضغة مخلّقة ، لأنّ الكلّ خلق
الله ، وإذا رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال : ثم أنشأناه خلقا
آخر ـ فذلك ما قال ابن زيد : إنها التي صوّرت برأس ويدين ورجلين ، وبينهما حالات.
فأما النطفة فليست
بشيء يقينا ، وأما إن تلونت فقد تخلّقت في رحم الأمّ بالتلوين ، وتخلقت بعد ذلك
بالتخثير ، فإنه إنشاء بعد إنشاء.
ويزعم قوم أنّ مع
التخثير يظهر التخطيط ومثال التصوير ، فلذلك شكّ مالك فيه ، وقال : ومن رأيى من
يعرف أنه سقط فهو الذي تكون به أمّ ولد. وقد استوفيناه في سورة الرعد ، وشرح الحديث في كتاب الحيض فلينظر هنالك.
وعلى هذا يحمل ما
جاء من الأخبار والآثار على المخلّق وغير المخلّق ، وعلى التام والناقص. ولعل
المغيرة بن شعبة أراد السقط ما تبيّن خلقه فهو الذي يسمّى ، وما لم يتبين خلقه فلا
وجود له ، والاسم فيه دون موجود يسمّى وبما ذا تكوّن الولد ، وقد بيناه هنالك ،
كما أشرنا إليه ، والله ينفعنا بعزته.
المسألة الخامسة ـ
إذا ثبت هذا فإنّ عدّة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع ، ذكره إسماعيل القاضي ، واحتج
عليه بأنه حمل ، وقد قال الله : (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، وكذلك قال : لا تكون به أمّ ولد ، ولا يرتبط شيء من
الأحكام به ، إلا أن يكون مخلّقا ، لقوله تعالى : (فَإِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، فيطلق عليه أنه خلق ، كما أنه حمل.
واعترض عليه بعض
الشافعية بأنّ الولد ليس بمضغة ، وإنما ذكره الله سبحانه وتعالى تنبيها على
القدرة.
قلنا : فأين
المقدور الذي تعلّقت به القدرة؟ هل هو تصريف الولد بين الأحوال ، ونقله من صفة إلى
صفة؟ فذكر أنّ أصله النطفة ، ثم تداوله الصفات ، فيكون خلقا وحملا.
قال المعترض :
والمراد بقوله : (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) : ما يسمّى ولدا.
__________________
قلنا : بل المراد
به ما يسمّى حملا وخلقا لشغل الرّحم ، فإذا سقط برئت الرّحم من شغلها.
قال القاضي
إسماعيل : والدليل على صحة ذلك أنه يرث أباه ، فدلّ على وجوده خلقا ، وكونه ولدا
وحملا.
قال المعترض : لا
حجة في الميراث ، لأنه جاء مستندا إلى حال كونه نطفة.
قلنا : لو لم يكن
خلقا موجودا ، ولا ولدا محسوبا ما أسند ميراثه إلى حال ، ولا قضى له به.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي
جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).
فيها ستّ مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها .
روى أنها نزلت حين
خرج النبىّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية عام ستّ ، فصدّه المشركون عن دخول
البيت ، ومنعوه ، فقاضاهم على العام المستقبل ، وقضى عمرته في مكانه ، ونحر هديه ،
وحلق رأسه ، ورجع إلى المدينة.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) : فيه قولان :
أحدهما ـ أنه أراد
به المسجد نفسه ، دون الحرم ، وهو ظاهر القرآن ، لأنه لم يذكر غيره.
الثاني ـ أنه أراد
به الحرم كلّه ، لأنّ المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه ،
فنزل خارجا منه في الحل ، وعيّرهم الله بذلك ، ودلّ عليه أيضا قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، فصفة الحرام تقتضي الحرم كلّه ، لأنه بصفته في التحريم ،
وآخذ بجزء عظيم من التكرمة والتعظيم بإجماع من المسلمين ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) ، وكان الحرم مثله ، لأنه حريمه ، وحريم الدار من الدار.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ).
يريد خلقناه لهم ،
وسمّيناه ، ووضعناه شرعا ودينا ، وقد بيّنا معنى الجعل وتصرفاته.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (سَواءً الْعاكِفُ) ، يعنى المقيم ، وكذلك اسمه في اللغة. والبادي : يريد
الطارئ عليه.
وقد قال ابن وهب :
سألت مالكا عن قول الله : (سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ). فقال لي مالك : السعة والأمن والحق ، قال مالك : وقد كانت
الفساطيط تضرب في الدور ينزلها الناس.
والبادي أهل
البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم. ثم قال : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ
الْبَدْوِ).
قال ابن القاسم :
وسئل مالك عن ذلك ، فقال : سواء في الحق والسعة ، والبادي أهل البادية ، ومن يقدم
عليهم ، وقد كانت تضرب في الدور ، ولقد سمعت أنّ عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة
إذا قدم الناس. قال : والحج كله في كتاب الله تعالى.
المسألة الخامسة ـ
في المعنى الذي فيه التسوية :
وفيه قولان :
أحدهما ـ في دوره
ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى بها من الطارئ عليها. هذا قول مجاهد ومالك كما
تقدم وغيره.
الثاني ـ أنهما في
الحق سواء والحرمة والنسك.
والصحيح عموم
التسوية في ذلك كله ، كما قال مالك ، وعليه حمله عمر بن الخطاب ، فقد روى أنه كان
يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة حتى يدخلها الذي يقدم ، فينزل حيث شاء ، وهذا ينبنى على أصلين :
أحدهما ـ أنّ دور
مكة [هل هي] ملك لأربابها أم هي للناس؟
الثاني ـ ينبنى
عليه هذا الأصل ، وهو أنّ مكة هل افتتحت عنوة أو صلحا؟ وقد بينا ذلك فيما تقدم.
__________________
وقد روى علقمة بن
نضلة قال : توفى النبىّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما نرى رباع مكة إلا
السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن ، وقد بيّنا في مسائل
الخلاف القول في رباع مكة.
والذي عندي الآن
فيها أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم افتتح مكة عنوة ، لكنه منّ عليهم في أنفسهم ،
فسمّوا الطلقاء ، ومن عليهم في أموالهم ، أمر مناديه فنادى من أغلق عليه بابه فهو
آمن ، وتركهم في منازلهم على أحوالهم من غير تغيير عليهم ، ولكنّ الناس إذا كثروا
واردين عليهم شاركوهم بحكم الحاجة إلى ذلك.
وقد روى نافع ، عن
ابن عمر ، أنّ عمر كان نهى أن تغلق مكة زمن الحاج ، وأنّ الناس كانوا ينزلون منها
حيث وجدوا فارغا ، حتى كانوا يضربون الفساطيط في جوف الدور.
المسألة السادسة ـ
قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ).
تكلّم الناس في
دخول الباء هاهنا ، فمنهم من قال : إنها زائدة ، كزيادتها في قوله:(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، وعليه حملوا قول الشاعر :
نحن بنو جعدة
أصحاب الفلج
|
|
نضرب بالسيف
ونرجو بالفرج
|
أراد ونرجو الفرج.
وهذا مما لا يحتاج إليه في سبيل العربية ، لأن حمل المعنى على الفعل أولى من حمله
على الحرف ، فيقال المعنى : ومن يهم فيه بميل يكون ذلك الميل ظلما ، لأن الإلحاد
هو الميل في اللغة ، إلّا أنه قد صار في عرف الشريعة ميلا مذموما ، فرفع الله
الإشكال ، وبيّن أنّ الميل بالظلم هو المراد هاهنا ، والظلم في الحقيقة لغة وشرعا
وضع الشيء في غير موضعه ، وذلك يكون بالذنوب المطلقة بين العبد ونفسه ، وبالذنوب
المتعدّية إلى الخلق ، وهو أعظم ، ولذلك كان ابن عمر له فسطاطان : أحدهما في الحلّ
، والآخر في الحرم ، فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد الأمر لبعض
شأنه دخل فسطاط الحلّ ، صيانة للحرم عن قولهم : كلا والله ، وبلى والله ، حين
__________________
عظّم الله الذّنب
فيه ، وبيّن أنّ الجنايات تعظم على قدر عظم الزمان ، كالأشهر الحرم ، وعلى قدر عظم
المكان ، كالبلد الحرام ، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما بنفس المخالفة ،
والثانية بإسقاط حرمة الشهر الحرام ، أو البلد الحرام.
فإن أشرك فيه أحد
فقد أعظم الذّنب ، ومن استحلّه متعمّدا فقد أعظم الذنب ، ومن استحله متأوّلا فقد
أعظم الذنب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن مكة حرّمها
الله يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحلّ
لأحد بعدي ، فإن أحد ترخّص فيها بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إنّ
الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم. وهذا نصّ.
وقد قال أبو
شريح العدوى لعمرو بن سعيد بن العاصي ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن
لي أيها الأمير أحدّثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح
، سمعته أذناى ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلّم به : حمد الله وأثنى عليه
، ثم قال : إنّ مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس ، لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقولوا له : إنّ الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن له فيه ساعة من
نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلّغ الشاهد الغائب.
فقيل لأبى شريح :
ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ،
ولا فارّا بدم ، ولا فارا بخربة .
وهذا من احتجاج
عمرو باطل ، لأنّ ابن الزّبير رضى الله عنه كان قائما بالحق ، عادلا في الحرم ،
داعيا إلى الله سبحانه.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
فيها أربع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قالوا
معناه وطّأنا ومهّدنا. وليس كما زعموا ، إنما المباءة المنزل ، وبوّأنا فعلنا منه
، فالمعنى وإذ نزّلنا ـ بتشديد الزاى ـ لإبراهيم مكان البيت ، أى عرّفناه به منزلا
، ولذلك دخلت اللام فيه ، فخفى الأمر على يحيى بن زكريّا حتى قال : إنّ اللام
هاهنا زائدة ، وليس كذلك.
المسألة الثانية ـ
قال الناس : جعل الله لإبراهيم علامة ريحا هبّت حتى كشفت أساس آدم في البيت.
وقيل : نصب له
ظلّا على قدر البيت ، فقدره به ، ويحتمل أن يكون خطّه له جبريل.
وهذه الجمل لا
تتخصص إلا بنصّ صريح صحيح. وقد قدمنا حديث إبراهيم وما كان منه مع هاجر وابنها ،
وكم عاد ، وكيف بنى ، وليس فيه ذكر لذلك كله.
المسألة الثالثة ـ
روى أبو ذرّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له : أىّ المسجد وضع في الأرض الأول؟ قال :
المسجد الحرام. قلت : ثم أىّ؟ قال : المسجد الأقصى. قلت : كم كان بينهما؟ قال :
أربعون سنة. ثم أينما أدركتك الصلاة فصلّ ، كما تقدم بيانه هاهنا وفي غير موضع.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ).
يعنى لا تقربه
بمعصية ولا نجاسة ولا قذارة ، وكان على ذلك حتى شاء الله فعبد فيه غيره ، وأشرك
فيه به ، ولطخ بالدماء النّجسة ، وملئ من الأقذار المنتنة.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ).
فيه سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (وَأَذِّنْ).
تقدم بيان «أذّن» في سورة براءة ، وأوضحنا أنّ معناه أعلم ،
وأنّ الله أمر نبيّه إبراهيم أن ينادى في الناس بالحجّ ، وذلك نص القرآن.
واختلفوا في كيفية
النداء كيف وقعت على قولين :
__________________
أحدهما ـ أنه أمر
به في جملة شرائع الدّين ، الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، حسبما تمهّدت به
ملّة الإسلام التي أسّسها لسانه ، وأوضحها ببيانه ، وختمها مبلّغة تامّة بمحمد في
زمانه.
الثاني ـ أن الله
أمره أن يرقى على أبى قبيس وينادى : أيها الناس ، إنّ الله كتب عليكم الحجّ فحجّوا
، فلم تبق نفس إلا أبلغ الله نداء إبراهيم إليها ، فمن لبّى حينئذ حجّ ، ومن سكت
لم يكن له فيه نصيب ، وربّنا على ذلك مقتدر ، فإن صحّ به الأثر استمرّ عقيدة
واستقر ، وإلا فالأول يكفى في المعنى.
المسألة الثانية ـ
قوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً).
قال أكثر فقهاء
الأمصار : لا يفترض الحجّ على من ليس له زاد ولا راحلة ، وهي الاستطاعة ، حسبما
تفسر في حديث الجوزي ، وقد بينا ذلك كلّه في سورة آل عمران ، فلا وجه لإعادته ،
بيد أنّ هذه الآية نصّ في أنّ حال الحاجّ في فرض الإجابة منقسمة إلى راجل وراكب ،
وليس عن هذا لأحد مذهب ، ولا بعده في الدليل مطلب ، حسبما هي عليه عند علماء المذهب
، فإنّ الاستطاعة عندنا صفة المستطيع ، وهي قائمة ببدنه ، فإذا قدر يمشى وجبت عليه
العبادة ، وإذا عجز ووجد الزاد والراحلة وجبت عليه أيضا ، وتحقّق الوعد بالوجهين.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ
يَأْتِينَ).
يعنى التي انضمّ
جنباها من الهزال حتى أكلتها الفيافي ، ورعتها المفازات ، وإن كان خرج منها أو ان
انفصاله من بلده على بدن ، فإنّ حرب البيداء ومعالجة الأعداء ردّها هلالا ، فوصفها
الله بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (يَأْتِينَ).
رد الضمير إلى
الإبل تكرمة لها ، لقصدها الحجّ مع أربابها ، كما قال تعالى : (وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً) في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قوله : (عَمِيقٍ) :
يعنى بعيد ، وبناء
(ع م ق) للبعد ، قال الشاعر يصف قفرا :
وقاتم الأعماق
خاوى المخترق
يريد بالأعماق الأبعاد ترى عليها قتاما يخترق منها جوّا خاويا ، وتمشى
فيه كأنك ـ وإن كنت مصعدا ـ هاو ، ولذلك يقال بئر عميقة ، أى بعيدة القعر.
المسألة السادسة ـ
روى الدارقطني وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حجّ قبل الهجرة حجّتين ، وحجّ
حجة الوداع ثالثة ، وظن قوم أن حجّه كان على دين إبراهيم ودعوته ، وإنما حجّ على
دينه وملّته تنفّلا بالعبادة ، واستكثارا من الطاعة ، فلما جاءه فرض الحج بعد
تملكه لمكّة وارتفاع العوائق ، وتطهير البيت ، وتقديس الحرم ، قدّم أبا بكر ليقيم
للناس حجّهم ، ثم أدّى الذي عليه في العام الثاني ، وقد قدمنا وجه تأخيره إلى حجة
الوداع من قبل.
المسألة السابعة ـ
قال علماؤنا رحمهم الله : لما قدّم الله تعالى ذكره رجالا على كل ضامر دلّ على أنّ
حجّ الراجل أفضل من حجّ الراكب. وقد قال ابن عباس : إنها لحوجاء في نفسي أن أموت
قبل أن أحجّ ماشيا ، لأنى سمعت الله يقول : (يَأْتُوكَ رِجالاً
وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ، فبدأ بأهل الرّجلة.
وقد جاء في
الأخبار أنّ إبراهيم وعيسى حجّا ماشيين ، وإنما حجّ النبىّ صلى الله عليه وسلم
راكبا ، ولم يحجّ ماشيا ، لأنه إن اقتدى به أهل ملّته لم يقدروا ، وإن قصّروا عنه تحسّروا
، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما. ولعمر الله لقد طاف راكبا ليرى الناس هيئة الطواف.
__________________
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ هذه
لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها وتنسّق عليه ، وأجلّها قوله : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْماً).
وقد تتّصل بالفعل
، كما قدمناه ، وتتصل بالحرف ، كقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ). وقد حققنا موردها في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض
النحويين.
الثانية ـ قوله : (مَنافِعَ).
فيها أربعة أقوال
:
الأول ـ المناسك.
الثاني ـ المغفرة. الثالث ـ التجارة. الرابع ـ من الأموال ، وهو الصحيح.
وذلك كلّه من نسك
وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وآخرة.
والدليل عليه عموم
قوله : (مَنافِعَ) ، فكلّ ذلك يشتمل عليه هذا القول ، وهذا يعضده ما تقدّم في
البقرة في تفسير قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ، وذلك هو التجارة بإجماع من العلماء.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ).
فيها قولان :
أحدهما ـ أنها عشر
ذي الحجة.
الثاني ـ أنها
أيام التّشريق.
وبالأوّل يقول
الشافعى ، وقد تقدم ذكر المعلومات في سورة البقرة بما يغنى عن إعادته هاهنا.
__________________
وقد روى ابن
القاسم عن مالك الأيام المعلومات أيام النحر ، يوم النحر ويومان بعده. وقال : هو
النهار دون الليل. ومثله روى أشهب وابن عبد الحكم عن مالك ، وثبت يقينا أنّ المراد
بذكر اسم الله هاهنا الكناية عن النحر لأنه شرطه.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (فَكُلُوا).
قد تقدم ذكر الأكل
من لحم الصيد ، وجرى فيه شيء من ذكر الهدى ، وحقيقته تأتى بعد إن شاء الله.
المسألة الخامسة ـ
(وَأَطْعِمُوا
الْبائِسَ الْفَقِيرَ).
فأما الفقير فهو
الذي لا شيء له على نعت ما تقدم في سورة براءة .
وأما البائس فهو
الذي ظهر عليه البؤس ، وهو ضرر المرض أو ضرر الحاجة.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) :
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
ذكر التّفث :
قال القاضي الإمام
: هذه لفظة غريبة عربية لم يجد أهل المعرفة فيها شعرا ، ولا أحاطوا بها خبرا ، وتكلم السلف عليها على
خمسة أقوال :
الأوّل ـ قال ابن
وهب ، عن مالك : التفث حلق الشعر ، وليس الثياب ، وما أتبع ذلك مما يحلّ به
المحرم.
الثاني ـ أنه
مناسك الحج ، رواه ابن عمرو ابن عباس.
الثالث ـ حلق
الرأس ، قاله قتادة.
الرابع ـ رمى
الجمار ، قاله مجاهد.
الخامس ـ إزالة
قشف الإحرام ، من تقليم أظفار ، وأخذ شعر ، وغسل ، واستعمال طيب ، قاله الحسن ،
وهو قول مالك الأول.
__________________
فأما قول ابن
عبّاس وابن عمر فلو صحّ عنهما لكان حجة ، لشرف الصحبة والإحاطة باللغة.
وأما قول قتادة
إنه حلق الرأس فمن قول مالك.
وأما قول مجاهد
إنه رمى الجمار فمن قول ابن عمرو ابن عباس ، ثم تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة
معمر بن المثنى قد قال : إنه قصّ الأظفار ، وأخذ الشارب ، وكلّ ما يحرم على المحرم
، إلا النكاح ، ولم يجيء فيه بشعر يحتجّ به.
وقال صاحب العين :
التّفث هو الرّمى ، والحلق ، والتقصير ، والذبح ، وقصّ الأظفار والشارب ، ونتف
الإبط.
وذكر الزجاج والفراء نحوه ، ولا أراه أخذه إلا من قول العلماء.
وقال قطرب : تفث
الرجل إذا كثر وسخه ، وقال أمية بن أبى الصلت :
حفّوا رءوسهم لم
يحلقوا تفثا
|
|
ولم يسلّوا لهم
قملا وصئبانا
|
وإذا انتهيتم إلى
هذا المقام ظهر إليكم أنّ ما ذكر أشار إليه أمية بن أبى الصلت ، وما ذكره قطرب هو
الذي قاله مالك ، وهو الصحيح في المتّفث ، وهذه صورة قضاء التفث لغة.
وأما حقيقته
الشرعية فإذا نحر الحاجّ أو المعتمر هديه ، وحلق رأسه ، وأزال وسخه ، وتطهّر
وتنقّى ، ولبس الثياب ، فيقضى تفثه .
وأما وفاء نذره ،
وهي :
المسألة الثانية ـ
فإنّ النذر كل ما لزم الإنسان أو التزمه.
وقال مالك في
رواية ابن وهب وابن القاسم وابن بكير : إنه رمى الجمار ، لأن النذر هو العقل ، فهو
رمى الجمار ، لأجل النذر ، يعنى بالعقل الدية.
والأول أقوى ،
لأنه يلزم الوفاء برمي الجمار ، وبنحر الهدى ، ويجتنب الوطء والطيب ، حتى تقع
الزيارة.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
هذا هو طواف
الزيارة ، وهو طواف الإفاضة ، وهو ركن الحجّ باتفاق ، وبه يتمّ الحجّ ، لأنه أحد
أعماله ونهاية أركانه.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ).
وفي تسميته
بالعتيق قولان :
أحدهما ـ أنه من
عتق أى قدم ، إذ هو أول مسجد وضع في الأرض أول.
الثاني ـ أنه عتق
، أى خلص من الجبابرة عن الهوان إلى انقضاء الزمان ، حسبما بيّناه من قبل.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ الحرمات
: امتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، فإنّ لهذا حرمة المبادرة إلى الامتثال
، ولذلك حرمة الانكفاف والانزجار.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).
قد تقدم بيانه في
سورة المائدة .
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).
وصف الله الأوثان
بأنها رجس ، والرجس النجس ، وهي نجسة حكما ، والنجاسة ليست وصفا ذاتيا للأعيان ،
وإنما هي وصف شرعىّ من أحكام الإيمان ، ولهذا قلنا : إنها لا تزال إلا بالإيمان كما لم تجز الطهارة في الأعضاء إلا بالماء ، إذ المنعان
متماثلان في حكم الشرع ليسا بجنسين ، وقد بينا ذلك في مسألة إزالة النجاسة من
مسائل الخلاف.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ) ، وهو الكذب.
__________________
وله متعلقات
أعظمها عقوبة الكذب على الله في ذاته ، أو صفاته أو أفعاله ، وهو الشّرك. ويلحق به
الكذب على النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه على الله ، إذ بكلامه يتكلم.
المتعلق الثاني ـ الشهادة ، وهو تصوير الباطل بصورة الحقّ في طريق الحكم ،
ولهذا عظّم النبىّ صلى الله عليه وسلم أمرها ، فذكر الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وشهادة الزور ، ثم قال
: وقول الزور ، ألا وقول الزور. فما زال يكرّرها حتى قلنا : ليته سكت.
ومن طريق آخر عدلت
شهادة الزور الإشراك بالله ، ثم قرأ : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
ثم تتفاوت متعلقات
الكذب بحسب عظم ضرره وقلّته.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (شَعائِرَ اللهِ) ، واحدها شعيرة ، ولم يختلفوا أنها المعالم. وحقيقتها أنها
فعيلة ، من شعرت ، بمعنى مفعولة. وشعرت : دريت ، وتفطّنت ، وعلمت ، وتحققت ، كله
بمعنى واحد في الأصل ، وتتباين المتعلقات في العرف ، هذا معناها لغة.
فأما المراد بها
في الشرع ، وهي :
المسألة الثانية ـ
ففي ذلك أربعة أقوال :
الأول ـ أنها عرفة
، والمزدلفة ، والصّفاء ، والمروة ، ومحل الشعائر إلى البيت العتيق ، قاله ابن
القاسم ، عن مالك.
الثاني ـ أنها
مناسك الحجّ ، وتعظيمه استيفاؤها.
الثالث ـ أنها
البدن ، وتعظيمها استسمانها.
الرابع ـ أنه دين
الله وكتبه ، وتعظيمها التزامها.
والصحيح أنها جميع
مناسك الحج.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ).
يريد فإنّ حالة
التعظيم إذا كست العبد باطنا وظاهرا فأصله تقاة القلب بصلاح السرّ وإخلاص النية ،
وذلك لأنّ التعظيم فعل من أفعال القلب ، وهو الأصل لتعظيم الجوارح بالأفعال.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها
التجارة ، ويكون الأجل على هذا القدرة على الحج.
الثاني ـ أنّ
المنافع الثواب ، والأجل يوم الدين.
الثالث ـ أن
المنافع الركوب ، والدرّ ، والنّسل ، والأكل ، وهذا على قول من قال : إنها البدن ،
والأجل إيجاب الهدى.
والصحيح أنها
البدن ، وتدل على غيرها إمّا من طريق المماثلة ، وإما من طريق الأولى.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
يريد أنها تنتهي
إلى البيت العتيق ، وهو الطّواف ، وهذا قول مالك : إنّ الحج كلّه في كتاب الله ،
يعنى أنّ شعائر الحجّ كلّها تنتهي إلى الطواف بالبيت.
وقال عطاء : تنتهي
إلى مكة ، وهذا عموم لا يفيد شيئا ، فإنه قد صرح بذكر البيت ، فلا معنى لإلغائه ،
وكذلك قول الشافعى : إنه إلى الحل والحرم ، وهذا إنما بنوه على أنّ الشعائر هي البدن ، ولا بدّ فيها
من الجمع بين الحلّ والحرم ، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا
مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ. فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قرئ
منسك ـ يكسر السين وفتحها ، وباب مفعل في اللغة يختلف
__________________
حال دلالته
باختلاف حال فعله ، فإذا كان مكسور العين في المستقبل فاسم المكان منه مفعل ،
والمصدر مفتوح العين ، واسم الزمان منه كاسم المكان ، قالوا : أتت الناقة على
مضربها ومحلبها. وما كان العين في المستقبل منه مفتوحا فالمصدر والمكان مفتوحان ،
كالمشرب والملبس ، ويأتى لغيره كالمكبر من كبر يكبر ، وما كان على فعل يفعل بضم العين فبمنزلة ما
كان على يفعل مفتوحا ، لم يقولوا فيه مفعل ـ بضم العين. وقد جاء المصدر مكسورا في
هذا الباب ، قالوا مطلع الشمس ، والحجازيون يفتحونه ، وقد كسروا اسم المكان أيضا ،
فقالوا : المنبت لموضعه ، والمطلع لموضعه ، فعلى هذا قل : منسكا ومنسكا ـ بالفتح
والكسر.
المسألة الثانية ـ
إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في معناه ، فقيل : معنى منسكا حجّا ، قاله قتادة.
وقيل : ذبحا ،
قاله مجاهد. وقيل : عيدا ، قاله الفرّاء ، واشتقاقه من نسكت ، وله في اللغة معان :
الأول ـ تعبّدت ،
ومنه قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) ، خصّ في الحج على عادة اللغة.
الثاني ـ قال ثعلب
: هو مأخوذ من النسيكة ، والنسيكة : المخلصة من الخبث ، ويقال للذبح نسك ، لأنه من
جملة العبادات الخالصة لله ، لأنه لا يذبح لغيره.
وادعى ابن عرفة
أنّ معنى نسكت ذهبت ، وكلّ من ذهب مذهبا فقد نسك ، ولا يرجع إلّا إلى العبادة
والتقرّب ، وهو الصحيح.
ولما رأى قوم أنّ
العبادة تتكرّر قال : إنّ نسكت بمعنى تعهدت. والذي ذهب إليه الفراء من أنه العيد
روى عن ابن عباس ، وهو من أفضل المناسك.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).
يعنى يذبحونها لله
دون غيره في هدى أو ضحيّة حسبما تقدم بيانه في سورة الأنعام.
المسألة الرابعة ـ
في إقامة الصلاة. وقد تقدم.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، وقد تقدم في مواضع كثيرة.
__________________
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فيها ثماني عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).
البدن : جمع بدنة
، وهي الواحدة من الإبل ، سمّيت بذلك من البدانة وهي السّمن ، يقال بدن الرجل ـ بضم
العين : إذا سمن ، وبدّن ـ بتشديدها : إذا كبر وأسنّ ، وإنما سماها بصفتها لينبّه
بذلك على اختيارها ، وتعيين الأفضل منها ، فإنّ الله أحقّ ما اختير له.
وقد روى عن جابر
وعطاء أنّ البقرة يقال لها بدنة. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم ، وهو قول شاذّ
، والبدن هي الإبل. والهدى عامّ في الإبل ، والبقرة ، والغنم.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (جَعَلْناها لَكُمْ
مِنْ شَعائِرِ اللهِ).
وهذا نص في أنها
بعض الشعائر ، كما تقدم بيانه.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ).
يعنى منفعة اللباس
والمعاش والركوب والأجر ، فأما الأجر فهو خير مطلقا ، وأمّا غيره فهو خير إذا قوّى
على طاعة الله.
المسألة الرابعة ـ
(فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَ).
فيها ثلاث قراءات
: صوافّ بفاء مطلقة ، قراءة الجمهور. صوافن بنون ، قراءة ابن مسعود. صوافي بياء
معجمة باثنتين من تحتها ، قراءة أبىّ بن كعب.
فأما قوله صوافّ
فمن صفّ يصفّ إذا كانت جملة ، من قيام أو قعود ، أو مشاة ، بعضها إلى جانب بعض على
الاستواء ، ويكون معناها هاهنا صفّت قوائمها في حال نحرها ، أو صفّت أيديها ، قاله
مجاهد.
وأما صوافن
فالصافن هو القائم. وقيل : هو الذي يثنى إحدى رجليه.
__________________
وأما صوافي فهو
جمع صافية ، وهي التي أخلصت لله نيّة وجلالا ، وإشعارا وتقليدا.
وقال أبو حنيفة :
لا إشعار ، وهو بدعة ، لأنه مثلة ، وكأنه لا خبر عنده للسنة الواردة في ذلك ، ولا
للأحاديث المتعاضدة ، فهي فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ومعه
والخلفاء للإشعار.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ).
يعنى انحروها ،
كما تقدم أنّ ذكر الله اسم صار كناية عن النّحر والذبح ، لما بينا من أنه شرط فيه
وأصل معه.
المسألة السادسة ـ
في كيفية نحر الهدى ، وفيه أقوال :
الأول ـ قال ابن
وهب : أخبرنى ابن أبى ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف ، فقال : يقيّدها ثم يصفّها.
وقال لي مالك بن
أنس مثله. وقال : فينحروها قائمة ، ولا يعقلها ، إلا أن يضعف إنسان فيتخوّف أن
تتفلّت بدنته ، فلا بأس بأن ينحرها معقولة ، وإن كان يقوى عليها فلينحرها قائمة
مصفوفة يداها بالقيود.
قال : وسألت مالكا
عن البدنة تنحر وهي قائمة هل تعرقب؟ قال : ما أحبّ ذلك إلا أن يكون الإنسان يضعف
عنها ، فلا يقوى عليها ، فيخاف أن تتفلّت منه ، فلا أرى بأسا أن يعرقبها ، وهذه
الأقوال الثلاثة للعلماء :
الأول ـ يقيمها.
الثاني ـ يقيدها أو يعقلها. الثالث ـ يعرقبها.
وزاد مالك أن يكون
الأمر يختلف بحسب قوّة الرجل وضعفه.
وروى عن بعض السلف
مثله. والأحاديث الصحاح في ذلك ثلاثة :
الأول ـ في نحرها
مقيّدة : في الصحيح عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها ، قال :
ابعثها قياما مقيّدة سنة محمد.
الثاني ـ في نحرها
قائمة : في الصحيح ، عن أنس أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده سبع بدن قياما.
وقد كان ابن عمر
يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحر بها في صدرها ويخرجها على سنامها ، فلما أسنّ كان
ينحرها باركة لضعفه ، ويمسك معه رجل الحربة ، وآخر بخطامها.
والعقل بعض تقييد
، والعرقبة تعذيب لا أراه إلا لو ندّ ، فلا بأس بعرقبته.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ
جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها).
يعنى سقطت على
جنوبها ، يريد ميتة ، كنى عن الموت بالسقوط على الجنب ، كما كنى عن النحر والذبح
بذكر اسم الله ، والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح ، قال الشاعر :
لمعفّر قهد
ينازع شلوه
|
|
غبس كواسب ما
يمنّ طعامها
|
وقال آخر :
فتركنه جزر
السّباع ينشنه
|
|
ما بين قلّة
رأسه والمعصم
|
في معناه ، وذلك
كثير.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها).
ولا يخلو أن يكون
الهدى تطوّعا أو واجبا ، فأما هدى التطوع فيأكل منه ، وأما الهدى الواجب فللعلماء
فيه أقوال ، أصولها ثلاثة :
الأول ـ لا يأكل
منه بحال ، قاله الشافعى.
الثاني ـ أنه يأكل
من هدى التمتّع والقرآن ، ولا يأكل من الواجب بحكم الإحرام ، قاله أبو حنيفة.
الثالث ـ أنه يأكل
من الواجب كلّه إلا من ثلاث : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، ونذر المساكين.
وتعلق الشافعىّ
بأنه وجب عليه إخراجه من ماله ، فكيف يأكل منه؟
__________________
وتعلّق أبو حنيفة
بأنّ ما وجب بسبب محظور التحق بجزاء الصيد.
وتعلق مالك بأنّ
جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله : (أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعامُ مَساكِينَ) ، وحكم البدل حكم المبدل ، وقال في فدية الأذى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فدية الأذى : وأطعم ستة مساكين مدّين لكل مسكين ،
ونذر المساكين مصرّح به ، وأما غير ذلك من الهدايا فهو على أصل قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).
وهذا نصّ في إباحة
الأكل ، وقد ثبت في الصحيح أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنه ، وأمر من كل بدنة ببضعة ، فطبخها وأكل منها ،
وشرب من مرقها ، وكان من هديه واجبا ، وهو دم القران الذي كان عليه في حجّه ، وإنما أذن الله
تعالى في الأكل لأجل أنّ العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها ، فأمر الله نبيه
بمخالفتهم ، فلا جرم كذلك شرع وبلغ ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم.
وما تعلق به أبو
حنيفة غير صحيح ، فليست العلّة ما ذكر من الحظر ، وإنما هو دعوى لا برهان عليها.
المسألة التاسعة ـ
اختلف الناس في حكم قوله تعالى : (فَكُلُوا) ، (وَأَطْعِمُوا) على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنهما
واجبان ، قاله أبو الطيب بن أبى ثعلبة.
الثاني ـ أنهما
مستحبّان ، قاله ابن شريح.
الثالث ـ أن الأكل
مستحبّ ، والإطعام واجب ، قاله الشافعى ، وهو صريح قول مالك ، فأما من قال : إنهما
واجبان فتعلّق بظاهر القول ، مع ما فيه من مخالفة الجاهلية ، ففيه غريبة من الفقه
لم يقع لي ، مذ قرأت العلم ، لها نظير ، وذلك أن قول القائل : إنهما جميعا يتركان
،
__________________
لأنهما مستحبّان
لم يتصوّر شرعا ، فإنه ليس وراء ذلك إلا إتلافها ، وذلك لا يجوز ، فلا يصح
استحبابهما معا ، وإنما يقال أحدهما واجب على البدل ، أو يقال الأكل مستحب ، والإطعام
واجب ، كما قال مالك.
والأصحّ عندي أنّ
الأكل واجب ، وقد احتجّ علماؤنا بأمثلة وردت بصيغة الأمر ، ولم تكن واجبة ، وليس
في ذلك حجة ، لأنه إذا سقط أمر بدليل لا يسقط غيره بغير دليل.
المسألة العاشرة ـ
إذا أكل من لحم الهدى الذي لا يحلّ له أكله ، ففيه لعلمائنا قولان: أحدهما ـ ما
وقع في المدينة أنه إن كان جهل فليستغفر الله ، ولا شيء عليه ـ قال مالك: وقد كان
ناس من أهل العلم يقولون : يأكل منه. وقال في المشهور من مذهبنا : أنه إذا أكل من
جزاء الصيد أو فدية الأذى بعد أن بلغ محلّه غرم ، وما ذا يغرم؟ قولان :
أحدهما ـ يضمن
الهدى كلّه ، قاله ابن الماجشون.
الثاني ـ ليس عليه
إلّا غرم قدر ما أكل ، وهذا هو الحق ، لا شيء غيره. وكذا لو نذر هدى المساكين ،
فأكل منه بعد أن بلغ محلّه لا يغرم إلا ما أكل خلافا للمدوّنة ، لأنّ الصحيح عندي
ما ذكرته لكم ، إذ النّحر قد وقع ، والتعدّى إنما هو في اللحم ، فيغرم بقدر ما
تعدّى فيه.
واختلف علماؤنا
فيما يغرم ـ وهي :
المسألة الحادية
عشرة ـ فقال بعض علمائنا : إنه يغرم قيمة اللّحم. وقال في كتاب محمد وابن حبيب ،
عن عبد الملك : إنه يغرمه طعاما.
والأول أصحّ ، لأن
الطعام إنما هو في مقابلة الهدى كلّه عند تعذّره عبادة ، وليس حكم التعدي حكم
العبادة ، فأما إذا عطب الواجب كلّه قبل محلّه فليأكل منه ، لأن عليه بدله ، وهي :
المسألة الثانية
عشرة ـ فإن كان تطوّعا فعطب قبل محلّه لم يأكل ، لأنه يتّهم أن يكون أسرع به
ليأكله ، وهذا من باب سدّ الذّرائع ، وهي :
المسألة الثالثة
عشرة.
المسألة الرابعة
عشرة ـ القانع.
والخامسة عشرة ـ المعتر.
وفي ذلك خمسة
أقوال :
الأول ـ قال ابن
وهب وابن القاسم : القانع الفقير ، والمعترّ الزائر.
الثاني ـ قال ابن
وهب ، وعتبة : السائل ، وقاله زيد بن أسلم.
الثالث ـ المعترّ
الذي يعتريك ، قاله مجاهد ، والقانع الجالس في بيته ، قاله مجاهد.
الرابع ـ القانع
الذي يرضى بالقليل. والمعتر الذي يمرّ بك ولا يبايتك ، قاله القرطبي.
الخامس ـ الذي
يقنع هو المتعفّف ، والمعترّ السائل.
المسألة السادسة
عشرة ـ هذه الأقوال متقاربة ، فأما القانع ففعله قنع يقنع ، وله في اللغة معنيان :
أحدهما ـ الذي
يرضى بما عنده. والثاني الذي يذلّ ، وكلاهما ينطلق على الفقير ، فإنه ذليل. فإن
وقف عند رزقه فهو قانع ، وإن لم يرض فهو ملحف.
وأما المعترّ
والمعترى فهما متقاربان معنى ، مع افتراقهما اشتقاقا ، فالمعترّ مضاعف ، والمعترى
معتلّ اللام ، ومن النادر في العربية كونهما بمعنى واحد ، قال الحارث بن هشام :
وشيبة فيهم
والوليد ومنهم
|
|
أميّة مأوى
المعترين وذي الرّحل
|
يريد بالمعترين من
يقيم للزيارة ، وذو الرّحل من يمرّ بك فتضيفه. وقال زهير :
على مكثريهم رزق
من يعتريهم
|
|
وعند المقلّين
السماحة والبذل
|
ويعضد هذا قوله
تعالى : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) ، يريد نزل بك ، فهذا كلّه في المعتل.
وأما ما ورد في
المضاعف ، فكقول الشاعر :
يعطى ذخائر ماله
|
|
معترّه قبل
السؤال
|
وقال الكميت :
أيا خير من يأته
الطارقو
|
|
ن إما عيادا
وإما اعترارا
|
__________________
وقال آخر :
لمال المرء
يصلحه فيغنى
|
|
مفاقره أعفّ من
القنوع
|
قال القاضي الإمام
: والذي عندي فيه أنّ المعنى فيهما متقارب كتقارب معنى الفقير والمسكين.
وحقيقة ذلك أنّ
الله أمر بالأكل وإطعام الفقير. والفقير على قسمين : ملازم لك ، ومارّ بك ، فأذن
الله في إطعام الكلّ منهما مع اختلاف حالهما ، ومن هاهنا وهم بعض الناس فيه ، فقال
ـ وهي :
المسألة السابعة
عشرة ـ أنّ القانع هو جارك الغنىّ ، وليس لذلك وجه كما بيناه.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قال بعضهم : إن الهدى يقسّم أثلاثا : قسم يأكله صاحبه ، وقسم يأخذه القانع
، وقسم يأخذه المعترّ ، وإنما يقسم قسمين : قسم يأخذه الآكل ، وقسم يأخذه القانع
والمعترّ ، ولهذا قال ابن القاسم ، عن مالك : ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم
موصوف.
قال مالك في حديثه
: بلغني عن ابن مسعود شيء ليس عليه العمل عندنا ، وهو الذي أشرنا إليه قسّمها
أثلاثا. وقد قال تعالى : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ. فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، ولم يكن ذلك ليجزّأ أثلاثا ، ذلك لتعلموا أنّ هذا
التقدير ليس بأصل يرجع إليه.
وفي صحيح مسلم عن
ثوبان : ضحّى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال لي : أصلح
لحمها ، فما زال يأكل منه ، حتى قدمنا المدينة ، ولم يذكر صدقة. وهذا نص في المسألة.
الآية الحادية عشرة
ـ قوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
__________________
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (لَنْ يَنالَ اللهَ) من الألفاظ المشكلة ، فإنّ النيل لا يتعلّق بالبارئ سبحانه
، ولكن عبّر به تعبيرا مجازيّا عن القبول ، فإنّ كل ما نال الإنسان موافق أو مخالف
، فإن ناله موافق قبله ، أو مخالف كرهه ، ولا عبرة بالأفعال بدنية كانت أو مالية
بالإضافة إلى الله تعالى ، إذ لا يختلف في حقه إلا بمقتضى نهيه وأمره ، وإنما
مراتبها الإخلاص فيها والتقوى منها. ولذلك قال : لن يصل إلى الله لحومها ولا
دماؤها ، وإنما يصل إليه التقوى منكم ، فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه.
المسألة الثانية ـ
(كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ).
امتنّ علينا
سبحانه بتذليلها لنا وتمكيننا من تصريفها ، وهي أعظم منّا أبدانا ، وأقوى أعضاء ،
ذلك ليعلم العبد أنّ الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير ، وإنما هي
بحسب ما يدبرها العزيز القدير ، فيغلب الصغير الكبير ، ليعلم الخلق أنّ
الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ
عَلى ما هَداكُمْ).
ذكر سبحانه ذكر
اسمه عليها في الآية قبلها فقال : (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَ) ، وذكر هاهنا التكبير ، فكان ابن عمر يجمع بينهما إذا نحر
هديه ، فيقول : بسم الله ، والله أكبر. وهذا من فقهه رضى الله عنه.
وقد قال قوم :
التسمية عند الذبح والتكبير عند الإحلال بدلا من التلبية عند الإحرام ، وفعل ابن
عمر أفقه. والله أعلم.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
__________________
وفي ذلك ثلاثة
أقوال :
الأول ـ روى عن
ابن عباس أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة قال أبو بكر : أخرجوا
نبيّهم ، إنا لله وإنّا إليه راجعون! ليهلكنّ. فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).
قال أبو بكر :
فعرفت أنه سيكون قتال ، خرجه الترمذي وغيره.
الثاني ـ قال
مجاهد : الآية مخصوصة ، نزلت في قوم مهاجرين ، وكانوا يمنعون ، فأذن الله في
قتالهم ، وهي أول آية نزلت في القتال.
الثالث ـ قال
الضحاك : استأذن أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار ، فقيل : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). فلما هاجر نزلت : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح ، وقد
بيناه في قسم النسخ الثاني من علوم القرآن.
المسألة الثانية ـ
معنى «أذن» أبيح ، فإنه لفظ موضوع في اللغة لإباحة كلّ ممنوع ، وهو دليل على أن
الإباحة من الشرع ، وأنه لا يحكم قبل الشرع ، لا إباحة ولا حظرا إلّا ما حكم به
الشرع ، وبيّنه ، وقد أوضحناه في أصول الفقه ، ألا ترى أنّ الله قد كان بعث رسوله
ودعا قومه ، ولكنهم لم يتصرفوا إلّا بأمر ، ولا فعلوا بإذن.
المسألة الثالثة ـ
بيّنا أنّ الله سبحانه لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحجة دعا قومه إلى الله
دعاء دائما عشرة أعوام ، لإقامة حجّة الله سبحانه ، ووفاء بوعده الذي امتنّ به
بفضله في قوله : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، واستمر الناس في الطغيان ، وما استدلّوا بواضح البرهان ،
وحين أعذر الله بذلك إلى الخلق ، وأبوا عن الصدق أمر رسوله بالقتال ، ليستخرج
الإقرار بالحق منهم بالسيف.
المسألة الرابعة ـ
قرئ يقاتلون بكسر التاء وفتحها ، فإن كسرت التاء كان خبرا عن فعل المأذون لهم ، وإن فتحتها كان خبرا عن فعل غيرهم بهم ، وإن الإذن وقع
__________________
من أجل ذلك لهم ،
ففي فتح التاء بيان سبب القتال ، وقد كان الكفّار يتعمّدون النبىّ صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين بالإذاية ، ويعاملونهم بالنّكاية : لقد خنقه المشركون حتى كادت
نفسه تذهب ، فتداركه أبو بكر ، وقال : (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)! وقد بلغ بأصحابه إلى الموت ، قد قتل أبو جهل سميّة أم
عمار بن ياسر. وقد عذّب بلال ، وما بعد هذا إلا الانتصار بالقتال.
والأقوى عندي
قراءة كسر التاء ، لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعد وقوع العفو والصفح عما
فعلوا أذن الله له في القتال عند استقراره بالمدينة ، فأخرج البعوث ، ثم خرج بنفسه
، حتى أظهره الله يوم بدر ، وذلك قوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا
دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا رحمهم الله : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن
له في الحرب ، ولم تحلّ له الدماء ، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله ، والصبر على
الأذى ، والصّفح عن الجاهل ، [مدة عشرة أعوام ، لإقامة حجة الله تعالى عليهم ،
ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، فاستمر الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان] .
وكانت قريش قد
اضطهدت من اتّبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ، ونفوهم عن بلادهم ،
فهم بين مفتون في دينه ، ومعذّب ، وبين هارب في البلاد مغرّب ، فمنهم من فرّ إلى
الأرض الحبشة ، ومنهم خرج إلى المدينة ، ومنهم من صبر على الأذى ،
__________________
فلما عتت قريش على
الله ، وردّوا أمره وكرامته ، وكذّبوا نبيه ، وعذّبوا من آمن به ، وعبده ووحّده ،
وصدّق نبيه ، واعتصم بدينه ، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن
ظلمهم وبغى عليهم ، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب وإحلاله له الدماء : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ـ إلى قوله ... (الْأُمُورِ) .
أى إنما أحللت لهم
القتال ، لأنهم ظلموا ، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس إلا أن يعبدوا الله
، وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة.
ثم أنزل الله
عليهم : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، وقد تقدم بيان ذلك.
وعن هذا عبّر رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا نصر بن إبراهيم الزاهد ، قال : حدثنا على بن
موسى ، أنبأنا المروزى ، حدثنا الفربري ،
حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمد المسندى ، حدثنا حرمي بن عمارة ، حدثنا
شعبة عن واقد بن محمد : سمعت أبى يحدّث عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ،
ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ،
وحسابهم على الله.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) دليل على نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي
ألجأه وأكرهه ، ويترتب عليه حكم فعله ، ولذلك قال علماؤنا : إن المكره على إتلاف
المال يلزمه الغرم ، وكذلك المكره على فتل الغير يلزمه القتل.
وروى في مختصر
الطبري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استأذنوه في قتال الكفار ، إذ آذوه بمكة
غيلة ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). فلما هاجر إلى
__________________
المدينة أطلق
قتالهم ، وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من
لكعب بن الأشرف ، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول
الله ، أتحبّ أن أقتله؟ قال : نعم ، فقتله مع أصحابه غيلة.
وكذلك بعث النبىّ
صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبى رافع عبد الله بن أبى الحقيق ، فقتلوه غيلة.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
في ذلك روايات
مختلفة ، أظهرها وما فيها ظاهر : أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه ، كثير أهله ، فتمنّى يومئذ
ألّا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه يومئذ ، فأنزل الله عليه : (وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى) فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق : العلا ، وإن شاعتهنّ لترتجى.
فتكلّم
بها ، ثم مضى بقراءة السورة كلها ، ثم سجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعا معه ،
ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه ، وكان شيخا كبيرا ، فلما أمسى
أتاه جبريل ، فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال : ما جئتك بهاتين ، فأوحى
الله إليه : (وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً.
__________________
وَلَوْ
لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً
لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا
نَصِيراً).
فما
زال مغموما مهموما حتى نزلت : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ).
وفي رواية أنّ جبريل قال له : لقد تلوت يا محمد
على الناس شيئا لم آتك به ، فحزن وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله عليه : إنه لم يكن
قبله رسول ولا نبىّ تمنى كما تمنّى ، وأحب كما أحب ، إلا والشيطان قد ألقى في
أمنيته كما ألقى الشيطان على لسانه.
المسألة الثانية ـ
اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه ، ويسّر لكم مقصد التوحيد ومغزاه ـ أنّ الهدى
هدى الله ، فسبحان من يتفضّل به على من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، وقد بيّنا معنى
الآية في فصل تنبيه الغبىّ على مقدار النبىّ بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى ،
في مقام الزّلفى ، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء ، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء
، إلى بقاع العلماء في عشرة مقامات :
المقام الأوّل ـ أن
النبىّ إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه ، فإنه يخلق له العلم به ، حتى يتحقق أنه
رسول من عنده ، ولو لا ذلك ما صحّت الرسالة ، ولا تبيّنت النبوة ، فإذا خلق الله
له العلم به تميّز عنده من غيره ، وثبت اليقين ، واستقام سبيل الدين ، ولو كان
النبىّ إذا شافهه الملك بالوحي لا يدرى أملك هو أم شيطان ، أم إنسان ، أم صورة
مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاما ، وبلّغت إليه قولا ـ لم يصح له أن يقول :
إنه من عند الله ، ولا ثبت عندنا أنه أمر الله ، فهذه سبيل متيقّنة ، وحالة متحققة
، لا بد منها ، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها ، ولو جاز للشيطان أن
يتمثّل فيها ، أو يتشبّه بها ما أمنّاه على آية ، ولا عرفنا منه باطلا من حقيقة ،
فارتفع بهذا الفصل اللّبس ، وصحّ اليقين في النفس.
المقام الثاني ـ أنّ
الله قد عصم رسوله من الكفر ، وأمنه من الشرك ، واستقرّ ذلك من دين المسلمين
بإجماعهم فيه ، وإطباقهم عليه ، فمن ادّعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله ، أو يشكّ
فيه طرفة عين ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، بل لا تجوز عليه المعاصي في
الأفعال ، فضلا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد ، بل هو المنزّه عن ذلك فعلا واعتقادا.
وقد مهّدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل.
المقام الثالث ـ أنّ
الله قد عرّف رسوله بنفسه ، وبصّره بأدلته ، وأراه ملكوت سماواته وأرضه ، وعرّفه
سنن من كان قبله من إخوته ، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم ، ونحن
حثالة أمته ، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشى مكبّا على وجهه ، غير عارف بنبيه ولا
بربّه.
المقام الرابع ـ تأمّلوا
ـ فتح الله أغلاق النظر عنكم ـ إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام
، ممن صرح بعداوته ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنّى ألا ينزل
عليه من الله وحى ، فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أنّ النبي صلى الله
عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه ، وأراد إلّا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من
عند ربه من الوحى الذي كان حياة جسده وقلبه ، وأنس وحشته ، وغاية أمنيته.
وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، فإذا جاءه جبريل كان أجود بالخير من الريح
المرسلة ، فيؤثّر على هذا مجالسة الأعداء.
المقام الخامس ـ أنّ
قول الشيطان تلك الغرانقة العلا ، وإنّ شفاعتها ترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم ـ قبله
منه ، فالتبس عليه الشيطان بالملك ، واختلط عليه التوحيد بالكفر ، حتى لم يفرق
بينهما.
وأنا من أدنى
المؤمنين منزلة ، وأقلّهم معرفة بما وفقني الله له ، وآتاني من علمه ، لا يخفى
علىّ وعليكم أنّ هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله. ولو قاله أحد لكم لتبادر
الكلّ إليه قبل التفكير بالإنكار والرّدع ، والتثريب والتشنيع ، فضلا عن أن يجهل
النبىّ صلى الله عليه وسلم حال القول ، ويخفى عليه قوله ، ولا يتفطّن لصفة الأصنام
بأنها الغرانقة العلا ، وأنّ شفاعتها ترتجى. وقد علم علما ضروريا أنها جمادات لا
تسمع ولا تبصر ، ولا تنطق ولا تضر ، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع ، بهذا كان يأتيه
جبريل الصباح والمساء ، وعليه انبنى التوحيد ، ولا يجوز نسخه من جهة المعقول ولا
من جهة المنقول ، فكيف يخفى هذا على الرسول؟ ثم لم يكف هذا حتى قالوا : إنّ جبريل
لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقى إليه
(١٧ ـ أحكام ـ ٣)
من الوحى كرّرها
عليه جاهلا بها ـ تعالى الله عن ذلك ـ فحينئذ أنكرها عليه جبريل ، وقال له : ما
جئتك بهذه. فحزن النبىّ صلى الله عليه وسلم لذلك ، وأنزل عليه : (وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) ، فيا لله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد وسوس هامد ،
لا يعلم أنّ هذه الآية نافية لما زعموا ، مبطلة لما رووا وتقوّلوا! وهو : المقام
السادس ـ وذلك أن قول العربي : كاد يكون كذا : معناه قارب ، ولم يكن ، فأخبر الله
في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحى إليه ، ولم تكن فتنة ، ثم قال : لتفترى
علينا غيره. وهو :
المقام السابع ـ ولم
يفتر ، ولو فتنوك وافتريت لاتّخذوك خليلا ، فلم تفتتن ولا افتريت ، ولا عدوّك
خليلا. ولو لا أن ثبتناك وهو :
المقام الثامن ـ (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئاً قَلِيلاً) ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبّته ، وقرّر التوحيد
والمعرفة في قلبه ، وضرب عليه سرادق العصمة ، وآواه في كنف الحرمة. ولو وكله إلى
نفسه ، ورفع عنه ظلّ عصمته لحظة لألممت بما راموه ، ولكنا أمرنا عليك بالمحافظة ،
وأشرقنا بنور الهداية فؤادك ، فاستبصر ، وأزح عنك الباطل ، وادحر .
فهذه الآية نصّ في
عصمته من كل ما نسب إليه ، فكيف يتأوّلها أحد؟ عدّوا عما نسب من الباطل إليه.
المقام التاسع ـ قوله
: فما زال مهموما حتى نزلت عليه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ...) الآية.
فأما غمّه وحزنه
فبأن تمكّن الشيطان مما تمكّن ، مما يأتى بيانه ، وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم
يعزّ عليه أن ينال الشيطان منه شيئا وإن قلّ تأثيره.
المقام العاشر ـ أنّ
هذه الآية نصّ في غرضنا ، دليل على صحة مذهبنا ، أصل في براءة النبىّ صلى الله
عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا ، وذلك أنه قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، فأخبر الله تعالى أن من سنته
__________________
في رسله وسيرته في
أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه ، كما يفعل سائر
المعاصي ، كما تقول : ألقيت في الدار كذا ، وألقيت في العكم كذا ، وألقيت في الكيس كذا. فهذا نص في أنّ الشيطان زاد في
الذي قاله النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لا أنّ النبي قاله ، وذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطعا ، وسكت في مقاطع الآي سكوتا محصلا ،
وكذلك كان حديثه مترسلا فيه متأنّيا ، فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، وبين قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى) ، فقال ـ يحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم : وإنهن
الغرانقة العلا ، وإن شفاعتهنّ لترتجى.
فأما المشركون
والذين في قلوبهم مرض ـ لقلّة البصيرة وفساد السريرة ـ فتلوها عن النبىّ صلى الله
عليه وسلم ، ونسبوها بجهلهم إليه ، حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم ، وعلم الذين
أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حقّ من عند الله فيؤمنون به ، ويرفضون غيره ،
وتجيب قلوبهم إلى الحق ، وتنفر عن الباطل ، وكلّ ذلك ابتلاء من الله ومحنة. فأين
هذا من قولهم! وليس في القرآن إلّا غاية البيان بصيانة النبىّ صلى الله عليه وسلم
في الإسرار والإعلان ، عن الشكّ والكفران.
وقد أوعدنا إليكم
توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم ، وحروفه أمامكم ، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها ،
ولا تربطوا فيها ما ليس منها ، وما هدى لهذا إلا الطبري بجلالة قدره ، وصفاء فكره ، وسعة باعه في العلم ، وشدة ساعده
وذراعه في النّظر ، وكأنه أشار إلى هذا الغرض ، وصوّب على هذا المرمى ، فقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلّها باطلة ، لا أصل لها
، ولو شاء ربّك لما رواها أحد ولا سطرها ، ولكنه فعّال لما يريد ، عصمنا الله
وإياكم بالتوفيق والتسديد ، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته.
__________________
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
حملها ـ كما تقدم
بياننا له ـ قوم على أنها سجدة تلاوة ، فسجدوها.
وقال آخرون : هو
سجود الصلاة ، فقصروه عليه.
ورأى عمر أنها
سجدة تلاوة. وإنى لأسجد بها وأراها كذلك ، لما روى ابن وهب وغيره ، عن مالك ، عن
نافع أنّ رجلا من الأنصار أخبره أنّ عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج ، فسجد فيها
السجدتين ، ثم قال : إن هذه السورة فضّلت بسجدتين.
قال مالك : وحدثني
عبد الله بن دينار ، قال : رأيت ابن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين. وكان ابن عمر
أكثر الخلق بالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة.
وروى عقبة بن عامر قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا رسول الله ، أفي سورة الحج سجدتان؟ قال : نعم. ومن لم يسجدهما لا يقرأهما ، رواه وهب بن لهيعة ، عن مسرح بن هاعان ، عنه.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي
هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى
النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ
مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ الحرج
هو الضّيق ، ومنه الحرجة ، وهي الشجرات الملتفّة لا تسلك ، لالتفاف شجراتها ،
وكذلك وقع التفسير فيه من الصحابة رضى الله عنهم.
روى أنّ عبيد بن
عمير جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس ، فسأله عن الحرج ، فقال : أو لستم العرب؟
فسألوه ثلاثا. كلّ ذلك يقول : أو لستم العرب! ثم قال : ادع لي رجلا من هذيل ، فقال
له : ما الحرج فيكم؟ قال : الحرجة من الشجر : ما ليس له مخرج.
__________________
وقال ابن عباس :
ذلك الحرج ، ولا مخرج له.
المسألة الثانية ـ
في محل النفي :
وقد روى عن عثمان
بن يسار ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قال : هذا في تقديم الأهلّة وتأخيرها بالفطر ، والأضحى ، وفي الصوم.
وثبت صحيحا عن ابن
عباس قال : تقول : ما جعل عليكم في الدّين من حرج ، إنما ذلك سعة الإسلام : ما جعل
الله فيه من التوبة والكفّارات.
وقال عكرمة : أحلّ
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، وما ملكت يمينك.
قال القاضي : قال
النبىّ صلى الله عليه وسلم : بعثت
بالحنيفية السمحة. وقد كانت الشدائد والعزائم في الأمم ، فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة
واللّين ما لم يعط أحدا قبلها في حرمة نبيها ، ورحمة نبيه صلى الله عليه وسلم لها.
فأعظم حرج رفع
المؤاخذة بما نبدى في أنفسنا ونخفيه ، وما يقترن به من إصر وضع ، كما بينا من قبل
في سورة الأعراف وغيرها.
ومنها التوبة
بالندم ، والعزم على ترك العود في المستقبل ، والاستغفار بالقلب واللسان. وقيل لمن
قبلنا : (فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام.
ومن جملته أنه لا
يؤاخذنا تعالى إن نسينا أو أخطأنا. وقد بيناه أيضا فيما قبل ذلك.
وقد ثبت في الصحيح
عن عبد الله بن عمرو وغيره أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع ، فجعلوا يسألونه ، فقال رجل : لم
أشعر فحلقت قبل أن أذبح. قال : اذبح ، ولا حرج. فجاء آخر ، فقال : لم أشعر فنحرت
قبل أن أرمى ، فقال : ارم ، ولا حرج. فما سئل يومه عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال :
افعل ولا حرج.
فأعجب لمن يقول :
إنّ الدم على من قدّم الحلق على النحر ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم
__________________
قد قال : ولا حرج
، ولقد نزلت بي هذه النازلة سنة تسع وثمانين ، كان معى ما استيسر من الهدى ، فلما
رميت جمرة العقبة ، وانصرفت إلى النحر ـ جاء المزين وحضر الهدى ، فقال أصحابى :
ننحر ونحلق ، فحلقت ، ولم أشعر قبل النحر ، وما تذكّرت إلا وجلّ شعري قد ذهب
بالموسى ، فقلت : دم على دم ، لا يلزم ، ورأيت بعد ذلك الاحتياط لارتفاع الخلاف. والحقّ
هو الأول ، فهو المعقول.
المسألة الثالثة ـ
إذا تعارض دليلان أحدهما بالحظر ، والآخر بالإباحة ، فمن العلماء من مال إلى
الاستظهار ، وقال : يقدم دليل الحظر. ومنهم من قال : يقدّم دليل الإباحة ، ويختلف
في ذلك مقاصد مالك ، إلا في باب الربا ، فيقدّم دليل الحظر ، وذلك من فقهه العظيم.
وكذلك لو قام دليل
على زيادة ركن في العبادة ، أو شرط ، وقام الدليل على إسقاطه ، فاختلف العلماء
أيضا فيه ، فمن العلماء من أخذ بالاحتياط ، وقضى بزيادة الركن والشرط ، ومنهم من
أخذ بالخفّة ، وقال بدليل الإسقاط ، ولم يعوّل مالك هاهنا على أقوى الدليلين : كان
بزيادة أو بإسقاط ، ورأيه هو الذي نراه ، وقد مهدناه في أصول الفقه ، فهنالك ينظر
إن شاء الله.
المسألة الرابعة ـ
إذا كان الحرج في نازلة عامّا في الناس فإنه يسقط ، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا
، وفي بعض أصول الشافعى اعتباره ، وذلك يعرض في مسائل الخلاف ، فمنه خذوه بعون
الله.
سورة المؤمنون
[فيها اثنتا عشرة آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى الزهري ، عن
عروة بن الزبير ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري ، قال : سمعت عمر ابن الخطاب يقول :
كان النبىّ صلى الله
عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحى يسمع عند وجهه كدوىّ النحل ، فأنزل عليه يوما ،
فلبثنا ساعة ، ثم سرّى عنه ، فاستقبل القبلة ، ورفع يديه ، وقال : اللهم زدنا ولا
تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا
وارض عنا ، ثم قال : أنزل علىّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة. ثم قال : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم عشر آيات. رواه الترمذي وغيره ، وهو صحيح وإن كان
قد تكلم فيه أبو عيسى وقطعه.
وكان سبب نزولها
في رواية محمد أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يقلّب بصره في السماء إذا صلّى ،
فنزلت آية : قال محمد : إن لم تكن (الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) فلا أدرى أيّة آية
هي؟
قال القاضي هو
محمد بن سيرين. وهذا الحديث مقطوع مظنون ، فمقصوده غير مقطوع ، فسقناه على حاله
لكم حتى نكون في معرفته سواء معكم.
المسألة الثانية ـ
الخشوع هو الخضوع ، وهو الإخبات والاستكانة ، وهي ألفاظ مترادفة أو متقاربة ، أو
متلازمة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : خضع لك سوادي ، وآمن بك فؤادي.
__________________
وحقيقته السكون
على حالة الإقبال التي تأهّب لها واحترم بها بالسر في الضمير ، وبالجوارح في
الظاهر ، فقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في صلاته خاشعا خاضعا ،
وكذلك كان أبو بكر لا يلتفت ، وكذلك كان حفيده عبد الله بن الزبير.
قال ابن المنكدر
لعروة : لو رأيت قيام ابن الزبير ـ يعنى أخاه عبد الله ـ في الصلاة لقلت : غصن
تصفّقه الرياح ، وحجارة المنجنيق تقع هاهنا ، ورضف عن يمينه وعن يساره وهو قائم
يصلّى.
وقال مجاهد : كان
ابن الزبير إذا قام يصلّى كأنه عود من الخشوع.
وقال عمرو بن
دينار : إنّ ابن الزبير كان يصلّى في الحجر مرخيا ثيابه. فجاء حجر الخذاف ، فذهب
بطائفة من ثوبه ، فما التفت ، وكذلك كان عبد الله بن مسعود إذا صلّى لا يتحرّك منه
شيء ، ومن هاهنا قال العلماء وهي :
المسألة الثالثة ـ
إنه يضع المصلّى بصره في موضع سجوده ، وبه قال الشافعى ، والصوفية بأسرهم ، فإنه
أحضر لقلبه ، وأجمع لفكره.
وقال مالك : إنما
ينظر أمامه ، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المنقوض عليه في الرأس ، وهو أشرف
الأعضاء منه ، وإن أقام رأسه وتكلّف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقّة عظيمة وحرج
، يعرفون ذلك بالتجربة ، وما جعل علينا في الدين من حرج ، وإنما أمرنا أن نستقبل
الجهة ببصائرنا وأبصارنا ، أما إنه أفضل لمن قدر عليه متى قدر ، وكيف قدر ، وإنما
الممنوع أن يرفع بصره في الصلاة إلى السماء ، فإنه لم يؤمر أن يستقبل السماء ،
وإنما أمر أن يستقبل الجهة الكعبية ، فإذا رفع بصره فهو إعراض عن الجهة التي أمر
بها ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم :
لينتهينّ أقوام عن
رفعهم أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفنّ أبصارهم ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
حتى قال علماؤنا ـ حين رأوا عامّة الخلق يرفعون أبصارهم إلى السماء ـ وهي سالمة :
إنّ المراد بالخطف هاهنا أخذها عن الاعتبار حين يمرّ بآيات السماء والأرض ،
__________________
وهو معرض ، وذلك
أشد الخطف ، ومن الحنيفة السمحة برفع الحرج الإذن في أن يلحظ يمينا وشمالا ، وإن
كان يصلّى ببصره ورأسه دون بدنه ، أذن الشرع فيه ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
فمن مراسيل سعيد بن المسيّب أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يلمح في الصلاة ،
ولا يلتفت. وروى معاوية بن قرّة قال : قيل لابن عمر : إن ابن الزبير إذا صلّى لم
يقل هكذا وهكذا. فقال : لكنا نقول هكذا وهكذا ، ونكون مثل الناس ، إشارة من ابن
عمر إلى أنه تكليف يخرج إلى الحرج.
المسألة السادسة ـ
قال ابن القاسم ، عن مالك في قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ـ قال : الإقبال عليها. وقال مقاتل : لا يعرف من على يمينه
، ولا من على يساره. صليت المغرب ليلة ما بين باب الأخضر ، وباب حطّة من البيت
المقدس ، ومعنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي
الزاهد ، فلما سلّمنا تمارى رجلان كانا عن يمين أبى عبد الله المغربي ، وجعل
أحدهما يقول للآخر : أسأت صلاتك ، ونقرت نقر الغراب. والآخر يقول له : كذبت ، بل
أحسنت وأجملت. فقال المعترض لأبى عبد الله الزاهد : ألم يكن إلى جانبك ، فكيف
رأيته يصلّى؟
قال أبو عبد الله
: لا علم لي به ، كنت مشتغلا بنفسي وصلاتي عن الناس وصلاتهم.
فخجل الرجل وأعجب
الحاضرون بالقول.
وصدق شيخنا أبو
عبد الله الزاهد ، لو كان لصلاته قدر ، أوله بها شغل وإقبال بالكلية لما علم من عن
يمينه ، أو عن يساره ، فضلا عن معرفته كيفيّة صلاته ، وإلا فأحد الرجلين أساء
صلاته في حذف صفاتها ، واختصار أركانها ، وهذا أساء صلاته في الاشتغال بصلاة هذا ،
حتى ذهب حفظ صلاته وخشوعها.
ونكتة المسألة أنّ
قولك : الله أكبر يحرم عليك الأفعال بالجوارح ، والكلام باللسان ، ونيّة الصلاة
تحرّم عليك الخواطر بالقلب ، والاسترسال عن الأفكار ، إلا أن الشرع لما علم أنّ
ضبط النشر من السر يفوت طوق البشر سمح فيه ، كما تقدم بياننا له : والله أعلم.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ من
غريب القرآن أنّ هؤلاء الآيات العشر هي عامّة في الرجال والنساء ، كسائر ألفاظ
القرآن التي هي محتملة لهم ، فإنها عامة فيهم ، إلا قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ) فإنه خطاب للرجال خاصة دون النساء ، بدليل قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، ولا إباحة بين النساء وبين ملك اليمين في الفرج ، وإنما
عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر ، كآيات الإحصان عموما وخصوصا ، وغير ذلك من
الأدلة.
المسألة الثانية ـ
قال محمد بن عبد الحكم : سمعت حرملة بن عبد العزيز ، قال : سألت مالكا عن الرجل
يجلد عميرة ، فتلا هذه : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ).
وهذا لأنهم يكنون
عن الذكر بعميرة ، وفيه يقول الشاعر :
إذا حللت بواد
لا أنيس به
|
|
فاجلد عميرة لا
داء ولا حرج
|
ويسميه أهل العراق
الاستمناء ، وهو استفعال من المنىّ.
وأحمد بن حنبل على
ورعه يجوّزه ، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن ، فجاز عند الحاجة ، أصله الفصد
والحجامة.
وعامة العلماء على
تحريمه ، وهو الحق الذي لا ينبغي أن يدان الله إلا به.
وقال بعض العلماء
: إنه كالفاعل بنفسه ، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس ، حتى صارت
قيلة ، ويا ليتها لم تقل ، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها
لدناءتها.
فإن قيل : فقد قيل
: إنها خير من نكاح الأمة.
قلنا : نكاح الأمة
ولو كانت كافرة ـ على مذهب العلماء ـ خير من هذا ، وإن كان
__________________
قد قال به قائل
أيضا ، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنىء ، فكيف بالرجل الكبير!
المسألة الثالثة ـ
قال قوم : هذه الآية دليل على تحريم نكاح المتعة ، لأن الله قد حرّم الفرج إلا
بالنكاح أو بملك اليمين ، والمتمتعة ليست بزوجة ، وهذا يضعف ، فإنا لو قلنا : إن
نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجة ، وإن قلنا بالحق الذي
أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة ، فلم تدخل في الآية ، وبقيت
على أصل حفظ الفرج فيها وتحريمه من سببها.
المسألة الرابعة ـ
قوله في الآية بعدها ، وهي الثالثة : (فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ).
فسمّى من نكح ما
لا يحلّ عاديا ، وأوجب عليه الحدّ لعدوانه ، واللائط عاد قرآنا ولغة ، بدليل قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عادُونَ) ، فوجب أن نقيم الحدّ عليه. وهذا ظاهر لا غبار عليه.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).
قد قدمنا وجوب حفظ
الأمانة والعهد ، وبينّا قيام الدليل على ذلك فيما مضى ، فأدّ إلى من ائتمنك ، ولا
تخن من خانك ، وكذلك من نقض العهد فيك فلا تنقضه فيه ، ومن كفر بالله عندك فلا
تكفر به عنده ، ومن غدر بك فلا تغدر به. وقد أوضحنا ذلك فيما سلف في مواضع ،
فلينظر فيها ، وليجمع في القلب منها.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ).
قد تقدم القول في
حفظ الصلاة في نفسها ، وبيّنا المحافظة عليها بإدامة أفعالها في أوقاتها متى تكررت
مفروضاتها ، فاعلموه.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ
لَقادِرُونَ).
__________________
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ هذه
من نعم الله على خلقه ، ومما امتنّ عليهم به ، ومن أعظم المنن الماء الذي به حياة
الأبدان ونماء الحيوان.
والماء المنزّل من
السماء على قسمين : هذا الذي ذكره الله في هذه الآية ، وأخبر عنه بأنه استودعه في
الأرض ، وجعله فيها مخزونا لسقيا الناس ، يجدونه [عدة] عند الحاجة إليه ، وهو ماء الأنهار والعيون ، وما يستخرج
من الآبار.
والقسم الآخر هو
الذي ينزل من السماء على الأرض في كلّ وقت.
المسألة الثانية ـ
روى أشهب عن مالك أنه سئل عن قول الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ...) الآية ، أهو في الخريف فيما بلغك! قال : لا والله ، بل هذا
في الخريف والشتاء ، وكل شيء ينزل ماؤه من السماء إذا شاء ، ثم هو على ذهاب به
لقادر.
قال القاضي : هذا
الذي ذكره مالك محتمل ، فإنّ الله أنزل من السماء ماء ، فأسكنه في الأرض ، ثم ينزله في كل وقت ، فيكون منه غذاء ، ومنه
اختزان زائد على ما كان عليه.
وقد قال أشهب :
قال مالك : هي الأرض التي لا نبات فيها ، يعنى قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) ، وقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ) ، يعنى المطر ، (وَالْأَرْضِ ذاتِ
الصَّدْعِ) ، يعنى النبات. وهذا يكون في كل لحظة ، كما جاء في الأثر :
إن الله لا يخلى الأرض من مطر في عامر أو غامر ، وإنه ما نزل من السماء ماء إلّا
بحفظ ملك موكل به ، إلا ما كان من ماء الطوفان ، فإنه خرج منه ما لم يحفظه الملك ،
وذلك قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) ، لأن الماءين التقيا على أمر قد قدر ما كان في الأرض وما
نزل من السماء
__________________
بالإقلاع ، فلم
تمتص الأرض من قطره ، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط ، وذلك قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْماءُ).
وهذا يدل على أن
الأرض لم تشرب من ماء السماء قطرة.
نكتة أصولية ـ قال
القاضي أبو بكر : قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ).
فيه ثلاثة أقوال :
أحدها ـ أنه ذات
المطر ، لأنها ترجع في كل عام إلى الحالة التي كانت عليها من إنزال المطر منها.
وظنّ بعض الناس
كما بينا ـ أنها تردّ ما أخذت من الأرض من الماء ، إذ السحاب يستقى من البحر ،
وأنشدوا في ذلك قول الهذلي :
شربن بماء البحر ثم ترفّعت
يعنى السحاب ،
وهذه دعوى عريضة طويلة ، وهي في قدرة الله جائزة ، ولكنه أمر لا يعلم بالنظر ،
وإنما طريقه الخبر ، ولم يرد بذلك أثر.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ) ، يعنى لقادرون على إذهاب الماء الذي أسكناه في الأرض ،
فيهلك الناس بالعطش ، وتهلك مواشيهم ، وهذا كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) ، وقد قال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ـ وهي :
المسألة الرابعة ـ
فهذا عامّ في ماء المطر والماء المختزن في الأرض ، فصارت إحدى الآيتين عامة وهي
آية الطهور. والآية الأخرى خاصة ـ وهي ماء القدر المسكن في الأرض ، ومن هاهنا قال
من قال : إن ماء البحر لا يتوضأ به ، لأنه مما لم يخبر الله عنه أنه أنزل من
السماء. وقد بينا أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ، وهذا نصّ فيه.
المسألة الخامسة ـ
روى ابن عباس وغيره أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة
أنهار : سيحون ، وهو نهر الهند. وجيحون ، وهو نهر بلخ ، ودجلة ، والفرات ،
__________________
وهما
نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في
أسفل درجة من درجاتها ، فاستودعها الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها معايش
للناس في أصناف معايشهم ، وذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ). فإذا
كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم ، وهذه
الأنهار الخمسة ، فيرفع ذلك إلى السماء ، وذلك قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ). وهذا جائز في القدرة إن صحّت به الرواية.
[وروى مسلم في
الصحيح عن أبى هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم : سيحون وجيحون والفرات كل من أنهار
الجنة. وهذا تفسير لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ
لَقادِرُونَ) ، يعنى به نهرا يجرى ، وعينا تسيل ، وماء راكدا في جوفها ـ
والله أعلم] .
وإنما الذي في
الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء ـ رأى سدرة المنتهى ، وذكر ما
أنشأ من الماء ومن النبات. وقد تقدم في سورة الأنعام.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (رَبْوَةٍ) ، فيها خمس لغات : كسر الراء ، وفتحها ، وضمها ، ثلاث لغات
، ويقال رباوة ـ بفتح الراء وكسرها ، ولم أقيد غيره فيما وجدته الآن عندي.
المسألة الثانية ـ
في تعيين هذه الربوة ستة أقوال :
الأول ـ أنها
الرملة ، وهي فلسطين ، قاله أبو هريرة ورواه.
الثاني ـ قال
قتادة : هي بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
الثالث ـ أنها
دمشق ، قاله ابن المسيب ، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك.
__________________
الرابع ـ أنها مصر
ـ قاله [ابن] زيد بن أسلم. وليس الرّبا إلا بمصر ، والماء يرسل فيكون
الربا عليها القرى ، ولو لا ذلك غرقت.
الخامس ـ أنه
المرتفع من الأرض ، قاله ابن جبير والضحاك.
السادس ـ أنها
المكان المستوي ، قاله ابن عباس.
قال القاضي : هذه
الأقوال منها ما تفسّر لغة ، ومنها ما تفسّر نقلا ، فأما التي تفسّر لغة فكل أحد
يشترك فيه ، لأنها مشتركة المدرك بين الخلق.
وأما ما يفسّر
منها نقلا فمفتقر إلى سند صحيح يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه تبقى
هاهنا نكتة ، وذلك أنه إذا نقل الناس تواترا أنّ هذا موضع كذا ، أو أنّ هذا الأمر
جرى كذا ، أو وقع ـ لزم قبوله ، والعلم به ، لأن الخبر المتواتر ليس من شرطه
الإيمان ، وخبر الآحاد لا بد من كون المخبر به بصفة الإيمان ، لأنه بمنزلة الشاهد
، والخبر المتواتر بمنزلة العيان ، وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه.
والذي شاهدت عليه
الناس ، ورأيتهم يعينونها تعيين تواتر دمشق ، ففي سفح الجبل في غربي دمشق مائلا
إلى جوفها موضع مرتفع تتشقّق منه الأنهار العظيمة ، وفيها الفواكه البديعة من كلّ
نوع ، وقد اتخذ بها مسجد يقصد إليه ، ويتعبّد فيه ، أما أنه قد قدمنا أنّ مولد عيسى
صلى الله عليه وسلم كان ببيت لحم لا خلاف فيه ، وفيه رأيت الجذع كما تقدم ، ولكنها
لما خرجت بابنها اختلفت الرواة ، هل أخذت به غربا إلى مصر؟ أم أخذت به شرقا إلى
دمشق؟ فالله أعلم.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (ذاتِ قَرارٍ
وَمَعِينٍ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أرض منبسطة
وباحة واسعة.
الثاني ـ ذات شيء
يستقرّ فيه من قوت وماء ، وذلك كله محتمل.
وقوله : (وَمَعِينٍ) ، وهي :
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَمَعِينٍ) ، يريد به الماء ، وهو مفعل بمعنى مفعول ، ويقال: معن
الماء وأمعن إذا سأل ، فيكون فعيل بمعنى فاعل. قال عبيد :
واهية أو معين
ممعن
|
|
أو هضبة دونها
لهوب
|
وفيها أقوال لا
يتعلق بها حكم.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ).
قد تقدم ذكر الطيب
، وتفسيره بالحلال ، وكذلك فسره مالك في رواية أبى بكر بن عبد العزيز العمرى عنه ،
وقد روى مالك عن عثمان أنه قال في خطبته : وعليكم من المطاعم بما طاب منها. وقد
روى أبو هريرة أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : يا
أيها الناس ، إن الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به
المرسلين ، فقال : يا أيها الرسل كلوا ... الآية. ثم قال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه : يا رب يا
رب ، مطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذى بالحرام فإنّى يستجاب له!
وقال النبي صلى
الله عليه وسلم : إن
من أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه. وقال تعالى في داود : (وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ).
وروى علماؤنا أنّ
عيسى كان يأكل من غزل أمه.
وقال النبي صلى
الله عليه وسلم : جعل
رزقي تحت ظلّ رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى. فجعل الله رزق محمد في كسبه لفضله ، وخص له أفضل أنواع
الكسب ، وهو أخذ الغلبة والقهر ، لشرفه صلى الله عليه وسلم.
__________________
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ.
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ فيها
قولان :
أحدهما ـ الذين
يطيعون وهم خائفون ألا يقبل منهم.
الثاني ـ الذين
يعصون ، وهم يخافون أن يعذّبوا.
المسألة الثانية ـ
روى الترمذي وغيره عن عائشة ، قالت : سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : (وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، قالت عائشة : أهم
الذين يشربون الخمر ، ويسرقون. قال : لا ، يا بنت الصديق أو يا بنت أبى بكر ،
ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون ، وهم يخافون ألّا يقبل منهم ، أولئك الذين
يسارعون في الخيرات.
وقد روى عطاء قال
: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة ، فقال لها : كيف كانوا يقرءون ، (يُؤْتُونَ ما آتَوْا)؟ قالت : يأتون ما أتوا ، فلما خرجنا من عندها قال لي عبيد
ابن عمير : لأن يكون كما قالت أحبّ إلى من حمر النّعم ، يعنى بقولها : يأتون ما
أتوا من المجيء ، أى يأتون الذنوب وهم خائفون.
المسألة الثالثة ـ
عوّلوا على قراءة الجمهور ، ولا تتعلقوا بأعضاء الكسير ، إنما كان القوم إذا غلب
على أعمالهم الإخلاص والقرب خافوا يوم الفزع الأكبر ، وهي مسألة كبيرة ، وهي أن
الأفضل للمتقين أن يغلب عليهم مقام الرجاء ، أو يغلب عليهم مقام الخوف ، فهذه
الآية تشهد بفضل غلبة مقام الخوف ، لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).
__________________
وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد غلب عليه مقام الخوف ، فرفع يديه إلى السماء
، وقال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، مادّا يديه ، حتى سقط
رداؤه عن منكبيه ، فقال له أبو بكر : كفاك يا رسول الله مناشدتك ربّك ، فإنه منجز
لك ما وعدك ، حسبك يا رسول الله ، فقد ألححت على ربك ، مغلبا جانب الرجاء في نفوذ
الوعد.
قال القاضي : ليس
يحتاج في هذه الآية إلى اختلاف القراءة بين يأتون ويؤتون ، فإن قوله : يؤتون يعطى الأمرين ، تقول
العرب : آتيت من نفسي القبول ، وآتيت منها الإنابة ، تريد أعطيت القياد من نفسي ،
يعنى إذا أطاع. وأعطيت العناد من نفسي يعنى إذا عصى ، فمعناه يؤتون ما أتوا من
طاعة أو من معصية ، ولكن ظاهر الآية وسياق الكلام يقتضى أنه يؤتى الطاعة ، لأنه
وصفهم بالخشية لربهم ، والإيمان بآياته ، وتنزيهه عن الشرك ، وخوفهم عدم القبول
منهم عند لقائه لهم ، فلا جرم من كان بهذه الصفة يسارع في الخيرات ، وأما من كان
على العصيان متماديا في الخلاف مستمرّا ، فكيف يوصف بأنه يسارع في الخيرات أو
بالخشية لربّه ، وغير ذلك من الصفات المتقدمة فيه.
أما إن الذي يأتى
المعصية على ثلاثة أقسام : أحدها الذي يأتيها ويخاف العذاب ، فهذا هو المذنب.
والذي يأتيها آمنا من عذاب الله من جهة غلبة الرجاء عليه فهو المغرور ، والمعرور
في حزب الشيطان. وإن أتاها شاكّا في العذاب فهو ملحد لا مغفرة له. ولأجل إشكال
قوله : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) قال بعضهم : يعنى به إنفاق الزكاة ، لأنه لم يظهر إليه صلاحية
لفظ العطاء إلا في المال. وقد بيّنا أن لفظ العطاء ينطلق في كل معنى : مال وغيره ،
وفي كل طاعة ومعصية ، واتضحت الآية ، والله أعلم.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ
فِي الْخَيْراتِ).
هذا دليل على أنّ
المبادرة إلى الأعمال الصالحة ، من صلاة في أول الوقت ، وغير ذلك من العبادات ـ هو
الأفضل ، ومدح الباري أدلّ دليل على صفة الفضل في الممدوح على غيره ، والله أعلم.
وقد بيناه في مواضع متقدمة.
__________________
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سامِراً تَهْجُرُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ لم
يختلف أحد أنّ المراد بهذا الذم أهل الحرم ، قال الله لهم : (قَدْ كانَتْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) مستكبرين به ، أى بالحرم ، يريد يتعاطون به الكبر ويدّعون
، حتى كانوا يرون الناس يتخطّفون من حولهم ، وهم آمنون. ومن الكبر كفر ، وهو التكبر
على الله ، وعلى رسوله ، والتكبّر على المؤمنين فسق ، والتكبّر على الكفّار إيمان
، فليس الكبر حراما لعينه ، وإنما يكون حكمه بحكم متعلّقة.
المسألة الثانية
قوله : (سامِراً).
قال المفسرون :
حلقا حلقا ، وأصله التحلّق بالليل للسمر ، وكنى بقوله : سامرا عن الجماعة ، كما
يقال : باقر وجامل لجماعة البقر والجمال ، وقد جاء في المثل : لا أكلّمه السمر
والقمر ، يعنى في قولهم : الليل والنهار ، وقال الثوري : السمر ظلّ القمر.
وحقيقته عندي أنه
لفظ يستعمل في الليل والنهار ، ولذلك يقال لهما ابنا سمير ، لأنّ ذلك في النهار جبلّة ، وفي الليل عادة ، فانتظما
وعبّر عنهما به ، وقد قرأه أبو رجاء سمّارا ـ جمع سامر.
وقد قال الطبري :
إنما وحّد سامرا ، وهو في موضع الجمع ، لأنه وضع موضع الوقت ، يعنى والوقت واحد ،
وإذا خرج الكلام عن الفاعل أو الفعل إلى الوقت وحّد ليدلّ على خروجه عن بابه.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (تَهْجُرُونَ).
قرئ برفع التاء
وكسر الجيم ، وبنصب التاء وضم الجيم ، فالأول عندهم من أهجر إذا نطق بالفحش.
والثاني من هجر إذا هذى ، ومعناه تتكلمون بهوس ، لا يضرّ النبي صلى الله عليه وسلم
، ولا يتعلّق به ، إنما ضرره نازل بكم ، وقد بينا حقيقة (ه ج ر) في سورة النساء .
__________________
ولذلك فسّرها سعيد بن جبير ، فقال : مستكبرين بحرمي ، تهجرون
نبىّ وزاد قتادة أنّ سامر الحرم آمن ، لا يخاف بياتا ، فعظّم الله
عليهم السمر في الأمن وإفناءه في سبّ الرسول.
المسألة الرابعة ـ
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً
تَهْجُرُونَ) ، يعنى أنّ الله ذمّ قوما بأنهم يسمرون في غير طاعة الله ،
إما في هذيان ، وإما في إذاية.
وفي الصحيح ، عن
أبى برزة وغيره : كان
النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها ، يعنى صلاة العشاء والآخرة ، أما الكراهية
للنوم قبل العشاء فلئلا يعرّضها للفوات.
وكذلك قال عمر
فيها : فمن نام فلا نامت عينه ، فمن نام فلا نامت عينه ، فمن نام فلا نامت عينه.
وأما كراهية السمر
بعدها فلأنّ الصلاة قد كفّرت خطاياه ، لينام على سلامة ، وقد ختم الملك الكريم
الكاتب صحيفته بالعبادة ، فيملؤها بالهوس ، ويجعل خاتمها الباطل أو اللّغو ، وليس
هذا من فعل المؤمنين.
وقد قيل : إنما
يكره السّمر بعدها لما روى جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : إياكم والسمر بعد
هدأة الرجل ، فإن أحدكم لا يدرى ما يبثّ الله من خلقه ، أغلقوا الأبواب ، وأوكوا
السقاء ، وخمّروا الآنية ، وأطفئوا المصابيح. وكان عمر يجدب السمر بعد العشاء ، أى يعيبه ، ويطوف
بالمسجد بعد العشاء الآخرة ، ويقول : ألحقوا برحالكم ، لعلّ الله أن يرزقكم صلاة
في بيوتكم.
وقد كان يضرب على
السمر حينئذ ويقول : أسمرا أول الليل ، ونوما آخره! أريحوا كتّابكم! حتى إنه روى
عن عبد الله بن عمر أنه قال : من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى
يصبح.
وأسنده شداد بن
أوس إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم.
__________________
وقد قال البخاري :
باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ، وذكر أن قرّة بن خالد قال : انتظرنا الحسن
وراث علينا ، حتى جاء قريبا من وقت قيامه ، فقال : دعانا جيراننا هؤلاء. ثم قال :
قال أنس : انتظرنا النبىّ ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل ، فجاء فصلّى ، ثم خطبنا
، فقال : ألا إنّ الناس قد صلّوا ورقدوا ، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم
الصلاة. قال الحسن : وإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير.
ثم قال «باب السمر
مع الضيف والأهل» : وقال عبد الرحمن بن أبى بكر : إنّ أصحاب الصّفة كانوا أناسا فقراء ، وإن النبي قال : من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ،
وإن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس ، وإنّ أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق
النبىّ بعشرة. قال : فهو وأنا وأبى وأمّى ، ولا أدرى هل قال : وامرأتى وخادم بين
بيتنا وبيت أبى بكر ، وإن أبا بكر تعشّى عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لبث
حتى صلّيت العشاء ، ثم رجع فلبث حتى نعس النبىّ ، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء
الله. قالت له امرأته : ما حبسك عن أضيافك؟ قال : أو ما عشّيتهم! قالت : أبوا حتى
تجيء. قال : فذهبت أنا فاختبأت. وقال : يا غنثر ، فجدّع وسبّ ، وقال : كلوا ، لا هنيئا ، والله لا أطعمه أبدا. وايم الله ما كنّا نأخذ
من لقمة إلّا ربا من أسفلها أكثر منها. قال : وشبعوا ، وصارت أكثر مما كانت قبل
ذلك ، فنظر إليها أبو بكر ، فإذا هي كما هي أو أكثر . فقال لامرأته : يا أخت بنى فراس ، ما هذا؟ قالت : لا ،
وقرّة عيني ، لهى الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار ، فأكل منها أبو بكر ، وقال :
إنما كان ذلك من الشيطان ـ يعنى يمينه ، ثم أكل منها لقمة ، ثم حملها إلى النبي ،
فأصبحت عنده ، وكان بيننا وبين قوم عقد ، فمضى الأجل ، ففرقنا اثنى عشر رجلا ، مع كلّ رجل منهم
أناس ، الله أعلم كم مع كلّ رجل ، فأكلوا منها أجمعون ، أو كما قال.
__________________
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضى الله عنه : هذا يدلك على أن النهى عن السمر إنما هو لأجل هجر القول أو
لغوه ، أو لأجل خوف فوت قيام الليل. فإذا كان على خلاف هذا ، أو تعلّقت به حاجة أو
غرض شرعي فلا حرج فيه ، وليس هو من منزع الآية ، وإنما هو مأخذ آخر على ما بيناه ، والله
أعلم.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ للعلماء
فيها ثلاثة أقوال :
الأول ـ ادفع
بالإغضاء والصفح إساءة المسيء.
الثاني ـ ادفع
المنكر بالموعظة الحسنة.
الثالث ـ ادفع
سيئتك بالحسنة بعدها.
المسألة الثانية ـ
معنى هذه الآية قريب من معنى : (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ) ، إلا أنّ هذه خاصة في العفو ، والتي شرحنا الكلام فيها هاهنا عامة فيه وفي غيره حسبما سطرناه آنفا ،
وهي مخصوصة في الكفار بالانتقام منهم ، باقية في المؤمنين على عمومها ، فأما قولهم
: ادفع سيئتك بالحسنة بعدها فيشير إلى الغفلة وحسنتها الذّكر ، كما قال في حديث
الأغرّ المزني :
أنه قال صلى الله عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله [في اليوم] سبعين مرة.
وفي كتاب مسلم ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنى
لأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
وقالت الصوفيّة :
إنه يدخل فيه ادفع حظّ الدنيا إذا زحم حظ الآخرة بحظ الآخرة وحدها.
قال لي شيخنا أبو
بكر الفهري : متى اجتمع لك أمران أحدهما للدنيا والآخر لله فقدّم
__________________
ما لله ، فإنهما
يحصلان لك جميعا. وإن قدمت الدنيا ربما فأتا معا ، وربما حصل حظّ الدنيا ولم يبارك
لك فيه.
ولقد جرّبته
فوجدته ، ويدخل فيه ادفع الجفاء ، لا جرم ، كذلك قال : ربّ اغفر لقومي فإنهم لا
يعلمون.
وفقه الآية : اسلك
مسلك الكرام ، ولا تلحظ جانب المكافأة ، ادفع بغير عوض ، ولا تسلك مسلك المبايعة ،
ويدخل فيه : سلم على من لم يسلّم عليك ، وتكثر الأمثلة ، والقصد مفهوم ، فاسلكوه.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قد
بيّنا أنه لا سلطان للشيطان على النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وأن الله عصمه منه ،
ولكنه كان يستعيذ منه ، كما كان يستغفر بعد إعلامه بالمغفرة له ، تحقيقا للموعد ،
أو تأكيدا للشرط.
المسألة الثانية ـ
أمره [لنا] له بالاستعاذة عامّ ، فلا جرم كان النبىّ صلى الله عليه
وسلم يستعيذ ، حتى عند افتتاح الصلاة ، فيقول : أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفثه ونفخه ، حسبما تقدّم بيانه ، والحمد لله.
__________________
سورة النور
[فيها تسع وعشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: سورة ، يعنى منزّلة ومرتبة : ألم تروا قول الشاعر :
ألم تر أنّ الله
أعطاك سورة
|
|
ترى كلّ ملك
دونها يتذبذب
|
وعامة القراء على
رفعها ، وقرأها عيسى بن عمر بالنصب ، وهو بيّن ، فأما الرفع فقال أهل العربية :
إنها على خبر الابتداء ، التقدير هذه سورة ، لأن الابتداء بالنكرة قبيح ، وقد بينا
في الرسالة الملجئة أنه فصيح مليح ، وجئنا فيه بالمثال الصحيح.
المسألة الثانية ـ
قوله : (فَرَضْناها) ، يقرأ بتخفيف الراء وتشديدها ، فمن خفّف فمعناه أوجبناها
معيّنة مقدّرة ، كما قال : فرض رسول الله صدقة الفطر على كل حرّ وعبد ، ذكر وأنثى
من المسلمين.
ومن شدّد فمعناه
على وجهين : إما على معنى وضعناها فرائض فرائض ، أو فرضا فرضا ، كما تقول : نزّلت
فلانا ، أى قدّرت له المنازل واحدا بعد واحد.
وفي صحيح مسلم :
فنزّلني زيد ، أى رتب لي منازل كثيرة.
الثاني ـ على معنى التكثير ، وهو صحيح لا اعتراض عليه.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَأَنْزَلْنا فِيها
آياتٍ بَيِّناتٍ) ، فيها حجج وتوحيد ، وفيها دلائل الأحكام ، والكلّ آيات
بينات : حجج العقول ترشد إلى مسائل التوحيد ، ودلائل الأحكام ترشد إلى وجه الحق ،
وترفع غمّة الجهل ، وهذا هو شرف السورة ، وهو أقلّ ما وقع التحدي به في سبيل
المعجزة ، فيكون شرفا للنبىّ في الولاية ، شرفا لنا في الهداية.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (الزَّانِيَةُ) : قد تقدم بيان حدّ الزنا ، وحقيقته ، وأنه الوطء المحرّم
شرعا في غير ملك ولا شبهة ملك ، كان في قبل أو دبر ، في ذكر أو أنثى ، فإن كان ذلك
باسم اللغة فيها ونعمت ، وإن كان بأنّ الّلواط في معنى الزنا فحسن أيضا ، ولا
مبالاة كيف يرد الأمر عليكم ، فقد أحكمناه في موضعه ، وحققناه في مسائل الخلاف
بأدلّته.
المسألة الثانية ـ
قرئ بالرفع والنصب فيهما ، كما تقدم في آية السرقة إعرابا وقراءة ومعنى ، كفّة كفّة ، فلا وجه
لإعادته.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) فذكر الذكر والأنثى فيه ، والزاني كان يكفى عنه.
قلنا : هذا تأكيد
للبيان ، كما قال : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ). ويحتمل أن يكون ذكر في الزّنا لئلا يظنّ ظانّ أنّ الرجل
لما كان هو الواطئ والمرأة محلّ ذكرهما دفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من
العلماء ، حتى قالوا : لا كفّارة على المرأة في الوطء في رمضان ، لأنه قال : جامعت
أهلى في رمضان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كفّر.
والمرأة ليست
بمجامعة ولا واطئة ، وهذا تقصير عظيم من الشافعى : وقد بيناه في مسائل الخلاف ،
وأنها تتّصف بالوطء ، فكيف بالجماع الذي هو مفاعلة ، هذا ما لا يخفى على لبيب.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) فبدأ بالمرأة قبل الرجل. قال علماؤنا : ذلك لفائدتين :
إحداهما ـ أن
الزنا في المرأة أعر لأجل الحمل ، فصدّر بها لعظيم حالها في الفاحشة.
__________________
الثانية ـ أن الشهوة
في المرأة أكثر ، فصدّر بها تغليظا لردع شهوتها ، وإن كان قد ركّب فيها حياء ،
ولكنها إذا زنت ذهب الحياء.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (فَاجْلِدُوا كُلَّ
واحِدٍ مِنْهُما) : جعل الله كما تقدم حدّ الزنا قسمين : رجما على الثيب ،
وجلدا على البكر ، وذلك لأنّ قوله : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) عامّ في كل زان ، ثم شرحت السنّة حال الثيب ، كما تقدم في
سورة النساء .
وقد قال النبىّ
صلى الله عليه وسلم : قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام
، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. فقاله سنّة ، وأنزل الله الجلد قرآنا ، وبقي
الرجم على حاله في الثيب ، والتغريب في البكر ، كما تقدم بيانه هنالك.
المسألة السادسة ـ
لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر بالجلد الإمام ، ومن ناب عنه ، وزاد مالك والشافعى
: السادة في العبيد ، قال الشافعى : في كلّ جلد وقطع ، وقال مالك : في الجلد خاصّة
دون القطع ، كما وردت به السنّة : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ. وقد بيناه في
مسائل الخلاف.
المسألة السابعة ـ
قوله : (لا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ).
اختلف السلف فيها
، فمنهم من قال : (لا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ) ، فتسقطوا الحدّ. ومنهم من قال : (لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) فتخفّفوا الحدّ ، وهو عندي محمول عليهما جميعا ، فلا يجوز
أن تحمل أحدا رأفة على زان بأن يسقط الحدّ أو يخففه عنه.
وصفة الضّرب أن
يكون سوطا بين السوطين ، وضربا بين الضربين ، وتستوي في ذلك الحدود كلها.
وقال أبو حنيفة :
لا سواء بين الحدود ، ضرب الزاني أشدّ من ضرب القذف ، وضرب القذف أشدّ من ضرب
الشرب ، وكأنهم نظروا صورة الذنب ، فركّبوا عليه صفة العقوبة ، والشرب أخفّ من القذف ، والقذف أخفّ من الزنا ،
فحملوه عليه وقرنوه به.
__________________
وقد روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أتى برجل
قد أصاب حدّا ، وأتى بسوط شديد ، فقال : دون هذا. وأتى بسوط دونه ، فقال : [فوق] هذا.
وأمر عمر برجل
يضرب الحدّ ، فقال له : لا ترفع إبطك. وعنه : أنه اختار سوطا بين السوطين. ويفرق
عليه الضرب في ظهره ، وتجتنب مقاتله ، ولا خلاف فيه.
وهذا ما لم يتتابع
الناس في الشر ، ولا احلولت لهم المعاصي ، حتى يتخذوها ضراوة ،
ويعطف الناس عليهم بالهوادة ، فلا يتناهوا عن منكر فعلوه ، فحينئذ تتعيّن الشدّة ،
ويزيد الحدّ ، لأجل زيادة الذنب.
وقد أتى عمر بسكران في رمضان ، فضربه مائة : ثمانين حدّ الخمر ، وعشرين
لهتك حرمة الشهر ، فهكذا يجب أن تتركّب العقوبات على تغليظ الجنايات ، وهتك
الحرمات.
وقد لعب رجل بصبىّ
، فضربه الوالي ثلاثمائة سوط ، فلم يغيّر ذلك مالك حين بلغه ، فكيف لو رأى زماننا
هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي ، والتظاهر بالمناكر ، وبيع الحدود ، واستيفاء
العبيد لها في منصب القضاة ، لمات كمدا ، ولم يجالس أحدا ، وحسبنا الله ونعم
الوكيل.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
وفقه ذلك أنّ
الحدّ يردع المحدود ، ومن شهده وحضره يتّعظ به ويزدجر لأجله ، ويشيع حديثه ،
فيعتبر به من بعده.
المسألة التاسعة ـ
واختلف في تحديد الطائفة على خمسة أقوال :
الأول ـ واحد ،
فما زاد عليه ، قاله إبراهيم.
الثاني ـ رجلان
فصاعدا ، قاله عطاء.
الثالث ـ ثلاثة
فصاعدا ، قاله قوم.
الرابع ـ أربعة
فصاعدا ، قاله عكرمة.
الخامس ـ أنه
عشرة.
__________________
وحقيقة الطائفة في
الاشتقاق فاعلة من طاف. وقد قال الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). وذلك يصحّ في الواحد. ومن هاهنا استدل العلماء على قبول
خبر الواحد ، إلّا أنّ سياق الآية هاهنا يقتضى أن يكونوا جماعة لحصول المقصود من
التشديد والعظة والاعتبار.
والذي أشار إلى أن
تكون أربعة نزع بأنه أقلّ عدد شهوده.
والصحيح سقوط
العدد ، واعتبار الجماعة الذين يقع بهم التشديد من غير حدّ.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
وجه نزولها :
فيه ستة أقوال :
الأول ـ أنها نزلت
مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة
يقال لها أمّ مهزول ، كانت من بغايا الزانيات ، وشرطت له أن تنفق عليه ، فأنزل
الله هذه الآية ، قاله ابن عمر ومجاهد .
الثاني ـ أنها
نزلت في شأن رجل يقال له مرثد بن أبى مرثد ، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى
يأتى بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بغىّ بمكة يقال لها عناق ، وكانت صديقة له ،
وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظلّ حائط من
حوائط مكة في ليلة مقمرة. قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط ، فلما
انتهت إلىّ عرفتني ، فقالت : مرثد! فقلت : مرثد ، فقالت : مرحبا وأهلا. هلمّ ، فبت
عندنا الليلة ، فقلت : يا عناق ، إن الله حرم الزنا. قالت : يأهل الخيام ، هذا
الرجل يحمل أسراكم ، فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ، فانتهيت إلى غار ، فدخلت
فجاءوا حتى قاموا على رأسى ، فبالوا فتطاير بولهم على رأسى ، وعماهم الله عنى. قال
: ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا ، حتى
__________________
انتهيت إلى الإذخر
، ففككت عنه كبله ، فجعلت أحمله ، ويعينني ، حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا! فأمسك رسول الله فلم
يردّ شيئا حتى نزلت : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا مرثد ، الزّانى لا ينكح إلا زانية أو
مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ... إلى آخر الآية ، فلا تنكحها.
الثالث ـ أنها
نزلت في أهل الصّفة ، وكانوا قوما من المهاجرين لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا
عشائر ، فنزلوا صفّة المسجد ، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ، ويأوون
إلى الصّفة بالليل ، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور ، مخاصيب بالكسوة
والطعام ، فهمّ أهل الصّفة أن يتزوجوهنّ ، فيأووا إلى مساكنهنّ ، ويأكلوا من
طعامهن وكسوتهن ، فنزلت فيهم هذه الآية ، قاله ابن أبى صالح.
وقاله مجاهد ،
وزاد أنهن كن يدعين الجهنّميات ، نسبة إلى جهنم.
الرابع ـ معناه
الزاني لا يزنى إلّا بزانية ، والزانية لا تزنى إلا بزان ـ وروى عن ابن عباس.
الخامس ـ أنها
مخصوصة في الزاني لا ينكح إلا زانية محدودة ، ولا ينكح الزانية المحدودة إلا زان ـ
روى عن ابن مسعود والحسن وغيرهما.
السادس ـ أنه عامّ
في تحريم نكاح الزانية على العفيف ، والعفيف على الزانية.
المسألة الثانية ـ
هذه الآية من مشكلات القرآن من وجهين :
أحدهما ـ أن هذه
صيغة الخبر ، وهو على معناه ، كما بيناه في غير موضع وشرحناه ، ردّا على من يقول :
إنّ الخبر يرد بمعنى الأمر ، وذلك أنّ الله أخبر أنّ الزاني لا ينكح إلا زانية أو
مشركة. ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة. وقال أيضا : والزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك ، ونحن نرى الزانية ينكحها العفيف ، فكيف يوجد خلاف ما أخبر الله به عنه؟ وخبره
صدق ، وقوله حقّ لا يجوز أن يوجد مخبره بخلاف خبره ، ولهذا أخذ العلماء فيها
__________________
مآخذ متباينة ،
ولم أسمع لمالك فيها كلاما. وقد كان ابن مسعود يرى أنّ الرجل إذا زنى بالمرأة ثم
نكحها أنهما زانيان ، ما عاشا.
وقال ابن عباس :
أو له سفاح وآخره نكاح. وقال ابن عمر مثله. وقال : هذا مثل رجل سرق ثمرة ثم
اشتراها ، وأخذ مالك بقول ابن مسعود ، فرأى أنه لا ينكحها حتى
يستبرئها من مائة الفاسد.
وروى الشافعى وأبو
حنيفة أنّ ذلك الماء لا حرمة له ، ورأى مالك أنّ ماء الزنا وإن كان لا حرمة له ،
فماء النكاح له حرمة ، ومن حرمته ألّا يصبّ على ماء السفاح ، فيخلط الحرام بالحلال
، ويمزج ماء المهانة بماء العزّة ، فكان نظر مالك أشد من نظر سائر
فقهاء الأمصار.
المسألة الثالثة ـ
في التنقيح :
أما من قال : إنها
نزلت في البغايا فظاهر في الرواية. وأما من قال : إن الزاني المحدود ـ وهو الذي
ثبت زناه لا ينكح إلا زانية محدودة ، فكذلك روى عن الحسن ، وأسنده قوم إلى النبىّ
صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى لا يصحّ نظرا كما لم يثبت نقلا. وهل يصحّ أن يوقف
نكاح من حدّ من الرجال على نكاح من حدّ من النساء ، فبأى أثر يكون ذلك أو على أى
أصل يقاس من الشريعة؟
والذي عندي أنّ
النكاح لا يخلو من أن يراد به الوطء ، كما قال ابن عباس ، أو العقد ، فإن أريد به
الوطء فإن معناه لا يكون زنا إلا بزانية ، وذلك عبارة عن أنّ الوطأين من الرجل
والمرأة زنا من الجهتين ، ويكون تقدير الآية وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك
، وهذا يؤثر عن ابن عباس ، وهو معنى صحيح.
فإن قيل : وأىّ
فائدة فيه؟ وكذلك هو. قلنا : علمناه كذلك من هذا القول ، فهو أحد أدلّته.
فإن قيل : فإذا بالغ
زنى بصبية أو عاقل بمجنونة ، أو مستيقظ بنائمة ، فإن ذلك من جهة
__________________
الرجل زنا ، ولا
يكون ذلك من جهة المرأة زنا ، فهذا زان ينكح غير زانية ، فيخرج المراد عن بابه
الذي تقدّم.
قلنا : هو زنا من
كل جهة ، إلّا أنّ أحدهما سقط فيه الحدّ ، والآخر ثبت فيه الحدّ ، وإن أردنا به
العقد كان معناه أن يتزوّج الزانية زان ، أو يتزوج زان الزانية ، وتزويج الزانية
يكون على وجهين :
أحدهما ـ ورحمها
مشغول بالماء الفاسد.
الثاني ـ أن تكون
قد استبرئت. فإن كان رحمها مشغولا بالماء فلا يجوز نكاحها ، فإن فعل فهو زنا ، لكن
لا حدّ عليه ، لاختلاف العلماء فيه. وأما إن استبرئت فذلك جائز إجماعا.
وقد ثبت عن ابن
عمر : بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثا من كلام وهو دهش ، فقال لعمر : قم فانظر في شأنه
، فإن له شأنا. فقام إليه عمر ، فقال : إن ضيفا ضافه فزنى بابنته ، فضرب عمر في
صدره. وقال : قبّحك الله ألا سترت على ابنتك! فأمر بهما أبو بكر فضربا الحدّ ، ثم
زوّج أحدهما الآخر ، ثم أمر بهما أن يغرّبا حولا.
وقد روى نافع أنّ
رجلا استكره جارية فافتضّها ، فجلده أبو بكر ، ولم يجلدها ، ونفاه سنة ، ثم جاء
فزوّجه إياها بعد ذلك ، وجلده عمر ونفى أحدهما إلى خيبر ، والآخر إلى فدك.
وروى الزّهرى أنّ
رجلا فجر بامرأة وهما بكران ، فجلدهما أبو بكر ، ونفاهما ، ثم زوجه إياها من بعد
الحول. وهذا أقرب إلى الصواب وأشبه بالنظر ، وهو أن يكون الزواج بعد تمام التغريب.
وقد روى مالك ، عن
يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ).
قال : نسخت هذه الآية
الآية التي بعدها : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ، وقد بينا في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ من علوم
القرآن أنّ هذا ليس بنسخ ، وإنما هو تخصيص عامّ وبيان
__________________
لمحتمل ، كما
تقتضيه الألفاظ وتوجيه الأصول ، من فسر النكاح بالوطء أو بالعقد وتركيب المعنى
عليه. والله أعلم.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
فيها ستّ عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ).
يريد يشتمون ،
واستعير له اسم الرمي ، لأنه إذاية بالقول ، ولذلك قيل له القذف. ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال : إن هلال بن
أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء ، وقال أبو كبشة :
وجرح اللسان كجرح
اليد وقال :
رمانى بأمر كنت
منه ووالدي
|
|
بريئا ومن أجل
الطّوىّ رمانى
|
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ).
مختلف في كونه
موضع رفع أو نصب ، كاختلافهم في السارق والسارقة والزانية والزاني ، سواء.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (الْمُحْصَناتُ).
قد بيّنا الإحصان
وأقسامه في سورة النساء ، وقلنا : إنه ينطلق على الإسلام والحرية والعفّة ، ولا
خلاف في أنّ المراد بها العفة هاهنا.
وشروط القذف عند
العلماء تسعة : شرطان في القاذف ، وشرطان في المقذوف به ، وخمسة في المقذوف.
فأما الشّرطان
اللذان في القاذف ، فالعقل والبلوغ.
وأما الشرطان في
الشيء المقذوف به ، فهو أن يقذفه بوطء يلزمه فيه الحدّ ، وهو الزنا أو اللواط ، أو
ينفيه من أبيه ، دون سائر المعاصي.
__________________
وأما الخمس التي
في المقذوف فهي : العقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والحرية ، والعفّة عن الفاحشة التي
رمى بها كان عفيفا عن غيرها أو لا.
فأما اشتراط
البلوغ والعقل في القاذف فلأنهما أصلا التكليف ، إذ التكليف ساقط دونهما ، وإنما
شرطناهما في المقذوف وإن لم يكونا في معاني الإحصان لأجل أنّ الحدّ
إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمعرّة الداخلة على المقذوف ، ولا معرّة على من عدم العقل والبلوغ
، إذ لا يوصف الوطء فيهما ولا منهما بأنه زنا.
وأما شرط الإسلام
فيه فلأنّه من معاني الإحصان وأشرفها ، كما بيناه من قبل ، ولأنّ عرض الكافر لا
حرمة له يهتكها القذف ، كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه ، بل هو أولى لزيادة الكفر على المعلن بالفسق.
وأما شرف العفة
فلأنّ المعرّة لاحقة به ، والحرمة ذاهبة ، وهي مرادة هاهنا إجماعا.
وأما الحرّية
فإنما شرطناها لأجل نقصان عرض العبد عن عرض الحر ، بدليل نقصان حرمة دمه عن دمه ،
ولذلك لا يقتل الحرّ بالعبد ، ولا يحدّ بقذفه ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.
المسألة الرابعة ـ
المراد بالرّمى هاهنا التعبير بالزنا خاصة ، لقول ابن عباس : إن هلال ابن أمية قذف
زوجه بشريك بن السحماء ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : البينة وإلا حدّ في ظهرك.
والنكتة البديعة
فيه أنه قال : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) والذي يفتقر إلى أربعة شهداء هو الزّنا ، وهذا قاطع.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (يَرْمُونَ).
اتفق العلماء على
أنه إذا صرح بالزنا كان قذفا وذنبا موجبا للحد ، فإن عرّض
__________________
ولم يصرّح ، فقال
مالك : هو قذف. وقال الشافعى وأبو حنيفة : ليس بقذف. ومالك أسدّ طريقة فيه ، لأنّ
التعريض قول يفهم منه سامعه الحد ، فوجب أن يكون قذفا ، كالتصريح. والمعوّل على
الفهم. وقد قال الله ـ مخبرا عن قوم شعيب : (إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). وقال في أبى جهل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). وهذا ظاهر.
المسألة السادسة ـ
فإن قال له يا من وطئ بين الفخذين.
قال ابن القاسم :
فيه الحدّ ، لأنه تعريض. وقال أشهب : لا حدّ فيه ، لأنه نسبه إلى فعل لا يعدّ زنا
إجماعا.
وقال ابن القاسم :
أصوب من جهة التعريض.
المسألة السابعة ـ
إذا رمى صبيّة يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفا عند مالك.
وقال أبو حنيفة
والشافعى : ليس بقذف ، لأنه ليس بزنا ، إذ لا حدّ عليها.
وعوّل مالك على
أنه تعبير تامّ بوطء كامل ، فكان قذفا. والمسألة محتملة مشكلة ، لكن مالك غلّب
حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية طهر القاذف. وحماية عرض المقذوف أولى ، لأنّ القاذف كشف ستره
بطرف لسانه فلزمه الحدّ.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ).
كثّر الله عدد
الشهود في الزنا على سائر الحقوق رغبة في الستر على الخلق ، وحقق كيفية الشهادة
حتى ربط أن يقول : رأيت ذلك منه في ذلك منها ، أى المرود في المكحلة ، حسبما
بينّاه في الأحاديث من قبل.
فلو قالوا :
رأيناه يزنى بها الزنا الموجب للحد؟ فقال ابن القاسم : يكونون قذفة. وقال غيره :
إذا كانوا فقهاء والقاضي فقيها كانت شهادة.
والأول أصحّ ،
لأنّ عدد الشهود تعبّد ، ولفظ الشهادة تعبّد ، وصفتها تعبّد ، فلا يبدّل شيء منها
بغيره ، حتى قال علماؤنا ، وهي :
__________________
المسألة التاسعة ـ
إن من شرط أداء الشهود للشهادة أن يكون ذلك في مجلس واحد ، فإن افترقوا لم تكن
شهادة.
وقال عبد الملك :
تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين ، فرأى مالك أنّ اجتماعهم تعبّد ، ورأى عبد الملك
أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها ، وهو أقوى.
المسألة العاشرة ـ
قوله : (الْمُحْصَناتِ).
قيل : هو وصف
للنساء ، ولحق بهنّ الرجال ، واختلف في وجه إلحاق الرجال بهنّ ، فقيل بالقياس
عليهن ، كما ألحق ذكور العبيد بإمائهم في تشطير الحدّ ، وهو مذهب شيخ السنة ، ومذهب لسان الأمة.
وقال إمام الحرمين
: ليس من باب القياس ، وإنما هو من باب كون الشيء في معنى الشيء قبل النظر إلى
علّته ، وجعل من هذا القبيل إلحاق الأمة بالعبد في قوله : من أعتق شركا له في عبد [فكان له من المال قدر ما يبلغ
قيمته] قوّم عليه قيمة عدل. فهذا إذا سمعه كلّ أحد علم أنّ الأمة
كذلك قبل أن ينظر في وجه الجامع بينهما في الاشتراك في حكم السراية.
وقيل : المراد
بقوله : (الْمُحْصَناتِ) الأنفس المحصنات. وهذا كلام من جهل القياس وفائدته ، وخفى
عليه ، ولم يعلم كونه أصل الدّين وقاعدته.
والصحيح ما أشار
إليه أبو الحسن والقاضي أبو بكر كما قدمنا عنهما ، من أنه قياس صريح صحيح.
المسألة الحادية
عشرة ـ قيل : نزلت هذه الآية في الذين رموا عائشة رضى الله عنها ، فلا جرم جلد
النبي منهم من ثبت ذلك عليه.
وقيل : نزلت في
سائر نساء المسلمين ، وهو الصحيح.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله : (فَاجْلِدُوهُمْ).
فيه ثلاثة أقوال :
أحدها ـ أن حدّ
القذف حقّ من حقوق الله كالزنا ، قاله أبو حنيفة.
__________________
الثاني ـ أنه حق
من حقوق المقذوف ، قاله مالك ، والشافعى.
الثالث ـ قال
المتأخرون من الطائفتين : في حدّ القذف شائبتان ، شائبة حقّ الله وهي المغلبة.
وقال الآخرون : شائبة حقّ العبد هي المغلبة. ولهذا الشّوب اضطرب فيه رأى المالكية.
والصحيح أنه حقّ
الآدميين ، والدليل عليه أنه يقف على مطالبته ، وأنه يصحّ له الرجوع عنه ، أصله
القصاص في الوجهين ، وعمدتهم أنه يتشطّر بالرق فكان كالزنا.
قلنا : يبطل
بالنكاح ، فإنه يتشطر بالرق ، فلا ينكح العبد إلا اثنتين في أحد قولينا ، وعندهم
هو حقّ الآدمي ، فيبطل ما قالوه.
المسألة الثالثة
عشرة ـ أنه لا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف عند الجمهور.
وقال ابن أبى ليلى
: لا يفتقر إلى مطالبة الآدمي. ولعل ابن أبى ليلى يقول ذلك إذا سمعه الإمام بمحضر
عدول الشهود ، فيكون ذلك أظهر. ولكن بقي أن يقال : إنه يحتمل أن يكون من حجّة
الإمام أن يقول لا أحدّه لأنه لم يدّع عندي إثبات ما نسب إليه ، فإن ادّعى سجنه ،
ولم يحدّ بحال.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قال ابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعى : يحدّ العبد ثمانين بعموم
الآية.
وقال علماؤنا :
إنه حدّ فليتشطر بالرق ، كحدّ الزنا ، وخصّوا الأمة بالقياس.
المسألة الخامسة
عشرة ـ قوله : (وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً).
علّق الله على
القذف ثلاثة أحكام : الحدّ ، وردّ الشهادة ، والتفسيق ، تغليظا لشأنه ، وتعظيما
لأمره ، وقوة في الردع عنه.
وقال أبو حنيفة :
ردّ الشهادة من جملة الحدّ.
وقال علماؤنا : بل
ردّها من علّة الفسق ، فإذا زال بالتوبة زال ردّ الشهادة ، بدليل قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وهي :
__________________
المسألة السادسة
عشرة ـ ولا خلاف في أن التوبة تسقط الفسق ، واختلفوا في ردّ الشهادة على أربعة
أقوال :
الأوّل ـ أنها
تقبل قبل الحدّ وبعد التوبة ؛ قاله مالك ، والشافعى ، وغيرهما من جمهور الناس.
الثاني ـ أنه إذا
قذف لا تقبل شهادته أبدا ، لا قبل الحدّ ولا بعده ؛ وهو مذهب شريح.
الثالث ـ أنها
تقبل قبل الحدّ ، ولا تقبل بعده ؛ وإن تاب ؛ قاله أبو حنيفة.
الرابع ـ أنها
تقبل شهادته بعد الحد ، ولا تقبل قبله ؛ وهو قول إبراهيم النخعي. وهذه مسألة
طيولية. وقد حققناها في مسائل الخلاف ، وأوضحنا سبيل النحو فيها في كتاب الملجئة.
وبالجملة فإنّ أبا
حنيفة يجعل ردّ الشهادة من جملة الحدّ ، ويرى أنّ قبول الشهادة ولاية قد زالت
بالقذف ، وجعلت العقوبة فيها في محل الجنابة ، وهي اللسان تغليظا لأمرها.
وقلنا نحن : إنها حكم علّته الفسق ، فإذا زالت العلة ـ وهي الفسق ـ بالتوبة
قبلت الشهادة ، كما في سائر المعاصي.
وقد اختلف الصحابة
كاختلاف الفقهاء ؛ فكان عمر يقول لأبى بكرة : تب أقبل شهادتك ، فيقول : أشهد أن لا
إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله ، وأنّ المغيرة بن شعبة زنى بفلانة.
ونصّ الحادثة ما
رواه أبو جعفر ، قال : كان المغيرة بن شعبة يباغى أبا بكرة وينافره ، وكانا
بالبصرة متجاورين بينهما طريق ، وكانا في مشربتين متقابلتين في داريهما ، في كلّ
واحدة منهما كوّة تقابل الأخرى ، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدثون في مشربته ،
فهبّت ريح ، ففتحت باب الكوّة فقام أبو بكرة ليصفقه ؛ فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوّة في مشربته وهو
بين رجلي امرأة قد توسّطها ، فقال للنفر : قوموا فانظروا ، ثم اشهدوا ؛ فقاموا
فنظروا ، فقالوا : ومن هذه؟ فقال : هذه أم جميل بنت الأرقم. وكانت
__________________
أم جميل غاشية
للمغيرة والأمراء والأشراف ، وكان بعض النساء يفعل ذلك في زمانها ، فلما خرج
المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة ، فقال : لا تصلّ بنا ، فكتبوا
إلى عمر بذلك ، فبعث عمر إلى أبى موسى ، واستعمله ، وقال له : إنى أبعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وفرّخ ؛ فالزم ما تعرف ، ، ولا تبدّل فيبدّل الله بك.
فقال : يا أمير
المؤمنين ؛ أعنّى بعدة من أصحاب النّبى صلى الله عليه وسلم ؛ من المهاجرين
والأنصار ، فإنى وجدتهم في هذه الأمّة ، وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلّا
به.
قال : فاستعن بمن
أحببت. فاستعان بتسعة وعشرين رجلا ، منهم أنس بن مالك ، وعمران بن حصين ، وهشام بن
عامر.
ثم خرج أبو موسى ،
حتى أناخ بالبصرة ، وبلغ المغيرة إقباله ، فقال : والله ما جاء أبو موسى زائرا ولا
تاجرا ، ولكنه جاء أميرا. ثم دخل عليه أبو موسى ، فدفع إلى المغيرة كتاب عمر رضى
الله عنه ، وفيه :
أما بعد : فإنه قد
بلغني أمر عظيم ، فبعثت أبا موسى أميرا ، فسلّم إليه ما في يديك ،
والعجل.
فأهدى المغيرة
لأبى موسى وليدة من وليدات الطائف تدعى عقيلة ، وقال له : إنى قد رضيتها لك. وكانت
فارهة.
وارتحل المغيرة
وأبو بكرة ونافع بن كلدة ، وزياد ، وشبل بن معبد ، حتى قدموا على عمر ، فجمع بينهم
وبين المغيرة ، فقال المغيرة لعمر : يا أمير المؤمنين ، سل هؤلاء الأعبد كيف رأونى
مستقبلهم أو مستدبرهم ، وكيف رأوا المرأة ، وهل عرفوها ، فإن كانوا مستقبلىّ فكيف
لم أستتر ، أو مستدبرىّ فبأىّ شيء استحلّوا النظر إلىّ على امرأتى! والله ما أتيت
إلّا زوجتي ، وكانت تشبهها.
فبدأ بأبى بكرة ،
فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل ، وهو يدخله ويخرجه كالميل
__________________
في المكحلة. قال :
وكيف رأيتهما؟ قال : مستدبرهما. قال : وكيف استثبتّ رأسها. قال : تحاملت حتّى
رأيتها.
ثم دعا بشبل بن
معبد ، فشهد بمثل ذلك ، وشهد نافع بمثل شهادة أبى بكرة ، ولم يشهد زياد بمثل
شهادتهم ، ولكنه قال : رأيته جالسا بين رجلي امرأة. فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان ،
واستين مكشوفين ، وسمعت حفزانا شديدا. قال : هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال : لا. قال : فهل تعرف المرأة؟ قال
: لا ، ولكن أشبهها. قال له : تنحّ. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحدّ ، وقرأ : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).
قال المغيرة :
اشفني من الأعبد يا أمير المؤمنين. فقال له : اسكت ، أسكت الله نأمتك ، أما والله لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
وردّ عمر شهادة
أبى بكرة ، وكان يقول له : تب ، أقبل شهادتك ، فيأبى حتى كتب عهده عند موته. هذا ما عهد به أبو بكرة نفيع بن
الحارث ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأنّ المغيرة بن شعبة زنا بجارية بنى فلان. وحمد
الله عمر حين لم يفضح المغيرة.
وروى أنّ الثلاثة
لما أدّوا الشهادة على المغيرة ، وتقدم زياد آخرهم قال له عمر ـ قبل أن يشهد : إنى
لأراك حسن الوجه. وإنى لأرجو ألّا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم. فقال ما قال. وكان ذلك أول ظهور زياد ، فليته وقف على ذلك ، وما زاد ،
ولكنه استمر حتى ختم الحال بغاية الفساد ، وكان ذلك من عمر قضاء ظاهرا في ردّ شهادة القذفة ، إذا لم تتم شهادتهم ،
وفي قبولها بعد التوبة. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف والأصول.
وتعلّق علماؤنا
بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) ، وقالوا : إن هذا الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ، ما
عدا إقامة الحد ، فإنه سقط بالإجماع.
__________________
وقال أبو حنيفة :
إنه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور. والصحيح رجوعه إلى الجميع لغة وشريعة ، ألا
ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وهذه الآية أختها ونظيرتها في المقصود.
وأما قبول الشهادة
قبل الحدّ فلأنه إذا لم يقم عليه الحد فحاله متردد بين الكذب السالب للعدالة ،
وبين الصدق المصحّح لها ، فلا يسقط يقين حاله بمحتمل مقاله ، وبهذا يتبيّن ضعف
مقالة شريح.
وأما قول إبراهيم
فإن لم يكن مثل قول أبى حنيفة وإلا فلا معنى له.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
فيها أربع عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها .
وذلك أن الله
تعالى لما أنزل قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ ...) الآية كان ذلك عاما في الزوجات وغيرهن ، فلما علم الله من
ضرورة الخلق في التكلم بحال الزوجات جعل لهم مخلصا من ذلك باللعان ، على ما روى
ابن عباس أنه قال : لما
نزلت هذه الآية : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) قال سعد بن عبادة : أهكذا نزلت يا رسول الله؟ لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه وأخرجه حتى آتى
بأربعة شهداء! فو الله ما كنت لآتى بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته!
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ، أما تسمعون ما يقول سيّدكم؟
__________________
قالوا : لا تلمه ،
فإنه رجل غيور ، ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ، ولا طلّق امرأة [قطّ] فاجترأ رجل منّا أن يتزوجها.
قال
سعد : يا رسول الله ، بأبى وأمى ، والله لأعرف أنها من الله ، وأنها الحق. فو الله
ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له ، فرأى بعينه وسمع بأذنيه ،
فأمسك حتى أصبح ، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله
، إنى جئت أهلى عشاء ، فرأيت رجلا مع أهلى ، رأيت بعيني وسمعت بأذني. فكره رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه ، وثقل عليه جدّا ، حتى عرفت الكراهية في وجهه ،
فقال هلال : يا رسول الله ، إنى أرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم
أنى لصادق ، وإنى لأرجو أن يجعل الله فرجا. فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، أيجلد
هلال ، وتبطل شهادته في المسلمين؟ فهمّ رسول الله بضربه ، وإنه لكذلك يريد أن يأمر
بضربه إذ نزل عليه للوحى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) الآيات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشر يا هلال
، إنّ الله قد جعل لك فرجا.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلوا إليهما ، فلما اجتمعا قيل لها فكذّبت . فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يعلم أنّ أحد كما لكاذب ، فهل فيكما تائب ،
فقال هلال : لقد صدقت ، وما قلت إلا حقّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا
عنوا بينهما.
قيل لهلال : اشهد
، فشهد أربع شهادات إنه لمن الصادقين ، والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين.
فقيل له ـ عند
الخامسة : يا هلال ، اتّق الله ، فإنّ عذاب الله أشدّ من عذاب الناس ، وإنها
الموجبة التي توجب عليك العقوبة. فقال هلال : والله ما يعذّبنى الله عليها كما لم
يجلدنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن
كان من الكاذبين.
ثم قيل لها :
تشهّدى ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. ثم قيل لها عند الخامسة : اتقى
الله فإنّ عذاب الله أشدّ من عذاب الناس ، وإنّ هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب
،
__________________
فتلكأت ساعة ، ثم
قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة إنّ غضب الله عليها إن كان من
الصادقين.
ففرّق رسول الله
صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أنّ الولد لها ، ولا يدعى لأبيه ، ولا يرمى
ولدها.
وفي رواية قيل لهلال : إن قذفت امرأتك جلدت
ثمانين. قال : الله أعدل من ذلك. وقد علم أنّى قد رأيت حتى استيقنت ، وسمعت حتى استثبت ، فنزلت آية الملاعنة.
وفي رواية : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن
جاءت به كذا وكذا فهو للّذى قيل ، فجاءت به كأنه جمل أورق ، فكان بعد أميرا بمصر ، لا يعرف نسبه ، وقيل: لا يدرى من
أبوه.
وفي رواية : إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم
الأليتين خدلّج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا صدق ، وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها ، فجاءت به على النعت
الذي يصدّق عويمرا.
وفي رواية عن سهل أنّ رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فقال: أرأيت لو أنّ رجلا وجد مع امرأته رجلا ، أيقتله فتقتلونه ،
أم كيف يفعل؟ فأنزل الله أمر المتلاعنين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد
قضى الله فيك وفي امرأتك ، فتلاعنا ، ثم فارقها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
، فكانت السنّة بعدها أن يفرق بين المتلاعنين ، وكانت حاملا فأنكره ، فكان ابنها
يدعى إلى أمه. ثم جرت السنّة أنّ
ابنها يرثها وترث ما فرض الله لها.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ).
عامّ في كل رمى
سواء قال : زنت ، أو رأيتها تزنى ، أو هذا الولد ليس منى ، فإن الآية مشتملة عليه
، وهو مبين الحكم فيها.
__________________
واختلفت الرواية
عن مالك في اقتصار اللعان على دعوى الرؤية على روايتين ، كما اختلف العلماء في ذلك
، وإذا شرطنا الرؤية أيضا فاختلفت الرواية ، هل يصف الرؤية صفة الشهود أم يكفى
ذكرها مطلقا على روايتين عنه.
ووجه القول
باشتراط الرؤية الزجر عن دعواها حتى إذا رهب ذكرها وخاف من تحقيق ما لم يتيقّن
عيانه كفّ عن اللّعان ، فوقعت السترة ، وتخلّص منها بالطلاق إن شاء ، ولذلك شرطنا
على إحدى الروايتين كيفية الرؤية ، كما يذكرها الشهود تغليظا.
وظاهر القرآن يكفى
لإيجاب اللعان بمجرّد القذف من غير رؤية ، فلتعوّلوا عليه ، لا سيما وفي الحديث
الصحيح ، أرأيت لو أنّ رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
اذهب فأت بها ، فلا عن بينهما ولم يكلفه ذكر رؤيته . أما إنه قال في الحديث الثاني : رأيت بعيني وسمعت بأذنى ،
كما قال سعد بن عبادة : إذا أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل ، وكذلك إذا نفى الحمل فإنه
يلتعن ، لأنه أقوى من الرؤية ، إذ قد ظهرت ثمرة الفعل ، ولا بدّ من ذكر عدم الوطء
والاستبراء بعدة.
واختلف علماؤنا في
الاستبراء ، هل يكون بحيضة أو بثلاث؟ والصحيح أنّ الواحدة تكفى ، لأن براءة الرحم
له من الشغل تقع بها ، كما في استبراء الأمة ، وإنما راعينا الثلاث حيض في
العدّة لحكم آخر.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (أَزْواجَهُمْ) عامّ في كل زوجين حرّين كانا أو عبدين ، مؤمنين أو كافرين
، فاسقين أو عدلين ، لعموم الظاهر ، ووجود الحاجة إلى ذلك في كل رجل وامرأة ،
وتحصيل الفائدة فيه بينهما.
وقال أبو حنيفة :
لا يصحّ اللعان إلا من زوجين حرّين مسلمين ، واتّفق الجميع على أنه لا بدّ أن
يكونا مكلّفين ، وذلك لأن اللعان عنده شهادة ، وعندنا وعند الشافعى أنه يمين.
وقد حققنا ذلك في
مسائل الخلاف بما نكتته أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن ، فسماها أيمانا.
__________________
ومن طريق المعنى
أن الفاسقين اللذين لا تقبل شهادتهما يلتعنان ، وهذا يدلك على أنه يمين. فإن قيل :
الدليل على أنه شهادة قوله : (فَشَهادَةُ
أَحَدِهِمْ) فجاء بالاسم الخاص بها ، ومن طريق المعنى أنه ردّدها خمسا
، ولو كانت يمينا ما رددت ، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام عدد الشهود
في الزنا.
قلنا : أما ذكره
تبارك وتعالى للفظ الشهادة فلا يقتضى لها حكمها لوجهين :
أحدهما ـ أنّ
العادة في العرب جارية بأن يقول : أشهد بالله ، وأحلف بالله ، في معرض الأيمان دون
الشهادة. وأما تكرارها فيبطل بيمين القسامة ، فإنها تكررت ، وليست بشهادة إجماعا.
والحكمة في
تكرارها التغليظ في الفروج والدماء على فاعلها ، لعله أن يكفّ عنها فيقع الستر في
الفروج والحقن في الدم ، والفيصل في أنه يمين ، لا شهادة ، أنّ الزوج يحلف لنفسه
في إثبات دعواها ، وتخليصه عن العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدّعى في الشريعة أنّ
شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره؟ هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
المسألة الرابعة ـ
راعى أبو حنيفة عموم
الآية ، فقال : إنّ الرجل إذا قذف زوجته بالزنا قبل أن يتزوّجها فإنه يلاعن ، ونسى
أنّ ذلك قد تضمنه قوله : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ، وهذا رماها وهي محصنة غير زوجة ، وإنما يكون اللعان في
قذف يلحق فيه النسب ، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب ، فلا يوجب لعانا ، كما لو قذف
أجنبية ثم تزوّجها.
المسألة الخامسة ـ
إذا قذفها بعد الطلاق نظرت ، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه ، أو حمل يتبرّأ منه
لاعن ، وإلا لم يلاعن.
وقال عثمان البتّى
: لا يلاعن بحال ، لأنها ليست بزوجة.
وقال أبو حنيفة :
لا يلاعن في الوجهين ، لأنها ليست بزوجة.
وهذا ينتقض عليه
بالقذف قبل الزوجية كما تقدم ، بل هذا أولى ، لأن النكاح قد تقدم ، وهو يريد
الانتفاء من النّسب ، وتبرئته من ولد يلحق به ، فلا بدّ من اللعان.
__________________
وإذا لم يكن هنالك
حمل يرجى ، ولا نسب يخاف تعلّقه ، لم يكن للعان فائدة ، فلم يحكم به ، وكان قذفا
مطلقا داخلا تحت قوله : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، فوجب عليه الحدّ ، وبطل ما قال البتّى لظهور فساده.
المسألة السادسة ـ
إذا انتفى من الحمل كما قدمنا ، ووقع ذلك بشروطه لاعن قبل الوضع ، وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة :
لا يلاعن إلا بعد أن تضع ، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء.
ودليلنا النصّ
الصريح الصحيح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لاعن قبل الوضع. وقال : إن جاءت به كذا فهو لأبيه ، وإن جاءت به
كذا فهو لفلان ، فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم :
لو كنت راجما أحدا بغير بيّنة لرجمتها.
فإن قيل : علم
النبىّ صلى الله عليه وسلم حملها ، فلذلك حكم باللّعان ، والحاكم منا لا يعلم أحمل
هو أم ريح؟
قلنا : إذا جرت
أحكام النبىّ صلى الله عليه وسلم على القضايا لم تحمل على الاطلاع على الغيب ،
فإنّ الأحكام لم تبن عليه ، وإن كان به عليما ، وإنما البناء فيها على الظاهر الذي
يشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم فيه القضاة كلّهم. وقد أعرب عن ذلك بقوله : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلىّ ،
ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، فأقضى له على نحو ما أسمع. فأحال على الظواهر ، وهذا لا إشكال فيه.
المسألة السابعة ـ
إذا قذف بالوطء في الدّبر لزوجه لاعن.
وقال أبو حنيفة :
لا يلاعن ، وبناه على أصله في أنّ اللواط لا يوجب الحدّ.
وهذا فاسد ، لأن
الرمي به فيه معرّة ، وقد دخل تحت قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ). وقد بينا في المتقدم من قولنا وفي مسائل الخلاف وجوب الحدّ فيه.
المسألة الثامنة ـ
من غريب أمر هذا الرجل أنه قال : إذا قذف زوجته وأمّها بالزنا إنه
__________________
إن حدّ للأم سقط
حدّ البنت ، وإن لاعن للبنت لم يسقط حدّ الأم.
وهذا لا وجه له ،
وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى ، وهذا باطل جدا ، فإنه خصّ عموم الآية في البنت وهي
زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
المسألة التاسعة ـ
يلاعن في النكاح الفاسد ، كما يلاعن في النكاح الصحيح ، لأن اللعان حكم من أحكام
النكاح يتعلّق بالفاسد منه ، كالنسب والعدّة والمهر ، وهذا الفقه صحيح ، وذلك أنّ
اللعان موضوع لنفى النسب وتطهير الفراش ، والزوجة بالنكاح الفاسد قد صارت فراشا ،
ويلحق النسب فيه ، فجرى اللعان عليه.
المسألة العاشرة ـ
فائدة لعان الزوج درء الحدّ عنه ، ونفى النسب منه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
: البينة وإلّا حدّ في
ظهرك. فلو جاء بالبينة لدرأت الحدّ عنه ، فقد قام اللعان مقام البينة.
وقال أبو حنيفة :
لو لم يلتعن الزوج لم يحدّ ، ولكنه يحبس حتى يلاعن ، وتارة يجعل اللعان شهادة ،
وتارة يجعل حدّا. ولو كان حدّا ما حبس على فعله ، لأن الحد يؤخذ قسرا من صاحبه ،
فإذا لاعن فقد برىء من الحد ، وتعلّق ذلك بالمرأة ، لأنهما خصمان يتنازعان ، فلو
كان اللعان شهادة لكان تحقيقا للزنا عليها ، وإنما هو كما قدمنا لتبرئة نفسه ، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم : البينة
وإلا حدّ في ظهرك ، ثم يقال لها : اعترفى فتحدّى أو برّئى نفسك ، وذلك لقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) ، وهي :
المسألة الحادية
عشرة ـ وقال أبو حنيفة : العذاب المراد بالآية الحبس ، فيقال له : ولم تحبس ، ولم
يجب عليها بقول الزوج شيء عندك؟ ثم قلت : اللعان حدّ ، فكيف وجب عليها بقول الزوج
حدّ ، والله تعالى يقول : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ) ، وهو الحدّ ، بدليل قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى الحدّ ، فسماه عذابا هاهنا ، وهو ذاك بعينه ، لاتّحاد
المقصد فيها.
__________________
فإن قيل : اللعان
يمين أو شهادة من الزّوج؟ وأيما كان فلا يوجب حدّا على المرأة.
قلنا : أقيم مقام
الشهادة بدليل أنه يخلص به الزّوج من الحدّ.
المسألة الثانية عشرة
ـ البداءة في اللعان بما بدأ الله به ، وهو الزوج ، ولو بدأ بالمرأة قبله لم يجزه
، لأنه عكس ما رتّبه الله.
وقال أبو حنيفة :
يجزيه ، وهذا باطل ، لأنه خلاف القرآن ، وليس له أصل يردّه إليه ، ولا معنى يقوى
به ، بل المعنى لنا ، لأن المرأة إذا بدأت باليمين فتنفى ما لم يثبت ، وهذا لا وجه
له.
المسألة الثالثة
عشرة ـ إذا صدقته المرأة في قذفه ، وهناك ولد لم يلاعن عند أبى حنيفة ، لأنه لا
لعان عنده على نفى الولد ، وقد بيناه.
المسألة الرابعة
عشرة ـ إذا قذفها برجل سمّاه كشريك بن سحماء أسقط اللعان عنه حدّ القذف لزوجته وحدّ
لشريك ، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعى : لا
يحدّ له إذا لاعن زوجه.
وظاهر القرآن لنا
، لأنّ الله وضع الحد في قذف الأجنبى والزوجة مطلقين ، ثم خصّ الزوجة بالخلاص
باللعان ، وبقي الأجنبىّ على مطلق الآية.
واحتج الشافعىّ
بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد هلالا لشريك بن سحماء.
قلنا : لأنه لم
يطلبه ، وحدّ القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا.
ومن العجب أن قالت
أحبار الشافعية : إنه يحتاج إلى ذكر الزاني بزوجه ليعرّه كما عرّة ، وأى معرّة فيه
، وخبره عنه لا يقبل ، وحكمه فيه لا ينفذ ، إنما المعرة كلّها بالزوج ،
فلا وجه لذكره ، فإن قذفه تعلّق به حكمه لعموم القرآن.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ).
__________________
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى ابن شهاب ، عن
عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن
عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل
الإفك ما قالوا ، فبرّأها الله مما قالوا ، وكلّ حدّثنى بطائفة من الحديث ، وبعض حديثهم يصدّق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى
له من بعض.
فالذي حدثني عروة عن
عائشة أنّ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه.
قالت عائشة :
فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
ما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا
فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة قافلين
، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش.
فلما قضيت شأنى
أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فالتمست عقدي ، وحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحلون بي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت ، وهم يحسبون أنى فيه.
وكان النساء إذ
ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه ،
وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل ،
__________________
وساروا فوجدت عقدي
بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب.
فأممت منزلي الذي كنت به ، وظننت أنهم سيفقدونني ، فيرجعون إلىّ.
فبينما أنا جالسة
في منزلي غلبتني عيني فنمت.
وكان صفوان بن
المعطّل السّلمى ثم الذّكوانى من وراء الجيش ، فادّلج ، فأصبح عند منزلي. فرأى سواد إنسان نائم ، فعرفني حين
رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه ، حين عرفني ، فخمّرت وجهى بجلبابي ، وو الله ما كلمني كلمة ، وما سمعت منه كلمة غير
استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة
، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك .
وكان الذي تولّى الإفك
عبد الله بن أبىّ بن سلول. فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس
يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أنّى لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم
اللّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى. إنما
كان يدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول : كيف تيكم ؟ ثم
ينصرف ، فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشرّ ، حتى خرجت بعد ما نقهت ، فخرجت
مع أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرّزنا ، وكنا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر
العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فكنا نتأذّى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت
أنا وأم مسطح ، وهي ابنة أبى رهم بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة أبى
بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة ، فأقبلت أنا وأمّ مسطح قبل بيتي ،
__________________
(٢٠ ـ أحكام ـ ٣)
وقد
فرغنا من شأننا ، فعثرت أمّ مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح! فقلت لها : بئس ما
قلت! أتسبّين رجلا شهد بدرا! قالت : أى هنتاه ! ألم تسمعي ما قال! قالت : قلت
لها : وما قال؟ قالت : فأخبرتنى بقول أهل الإفك.
قالت
: فازددت مرضا على مرضى. قالت : فلما رجعت إلى بيتي ، ودخل علىّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم [فسلّم] ، ثم قال : كيف تيكم! فقلت : أتأذن لي أن آتى أبوىّ؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر
من قبلهما.
قالت
: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوىّ ، فقلت لأمى : يا أمّتاه ،
ما يتحدّث الناس؟ قالت : يا بنيّة ، هوّنى عليك ، فو الله لقلّما كانت امرأة قط
وضيئة عند رجل يحبّها ، ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها. قالت : فقلت : سبحان الله!
ولقد تحدث الناس بهذا!
فبكيت تلك الليلة
حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، حتى أصبحت أبكى ، فدعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب ، وأسامة بن زيد ، حين استلبث الوحى ، يستأمرهما في فراق أهله.
فأما أسامة بن زيد
فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله. وبالذي يعلم
لهم في نفسه من الودّ ، فقال : يا رسول الله ، أهلك ، ولا نعلم إلّا خيرا.
وأما علىّ بن أبى
طالب فقال : يا
رسول الله ، لم يضيّق الله عليك والنساء ، سواها ، كثير. واسأل الجارية تصدقك.
قالت
: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : يا بريرة ، هل رأيت من شيء
يريبك؟ قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق ، إن رأيت عليها أمرا قطّ أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السنّ ، تنام عن عجين أهلها ،
فتأتى الداجن فتأكله.
__________________
فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبىّ بن سلول.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ، من يعذرني من
رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت من أهلى إلّا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا
وما كان يدخل على أهل إلّا معى.
فقام سعد بن معاذ
الأنصارى ، فقال : يا رسول الله ، أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه
أمرك.
فقام سعد بن عبادة
ـ وهو سيّد الخزرج ـ وكان [فينا] قبل ذلك صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، والله لا
تقتله ، ولا تقدر على قتله.
فقام أسيد بن حضير
، وهو ابن عمّ لسعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت والله لنقتلنّه ، فإنك
منافق ، تجادل عن المنافقين.
فثار الحيّان
الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على
المنبر ، فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا ، [وسكت] .
قالت : فمكثت يومى ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم. فأصبح أبواى
عندي ، وقد مكثت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع ، يظنان أنّ البكاء
فالق كبدي.
قالت : فبينما هما
جالسان عندي ، وأنا أبكى ، فاستأذنت علىّ امرأة من الأنصار ، فاستأذنت لها ، فجلست
تبكى معى.
قالت : فبينما هما
نحن كذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ، ثم جلس. قالت : ولم يجلس
عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها.
__________________
وقد لبث شهرا لا
يوحى إليه في شأنى.
قالت : فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين جلس. ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة
فسيبرّئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإنّ العبد إذا
اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
قالت : فلما قضى
رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة. فقلت لأبى: أجب رسول الله فيما
قال. قال : فو الله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت : فقلت
لأمّي : أجيبى رسول الله. قالت : والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قلت ـ وأنا جارية
حديثة السنّ ، لا أقرأ كثيرا من القرآن : إنى والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا
الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به. فلئن قلت لكم : إنى بريئة ، والله يعلم
أنى بريئة لا تصدّقونى ، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أنى منه بريئة ،
لتصدّقوننى. والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا قول أبى يوسف : فصبر جميل ، والله
المستعان على ما تصفون.
قالت : ثم تحوّلت
فاضطجعت على فراشي. قالت : وأنا حينئذ أعلم أنى بريئة ، وأنّ الله سيبرئنى
ببراءتي. ولكن ، والله ما كنت أظنّ أنه ينزل فىّ قرآن يتلى ، ولشأنى في نفسي كان
أحقر من أن يتكلّم الله فىّ بآية تتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم رؤيا في النوم يبرّئنى الله بها.
قالت : فو الله ما
رام رسول الله مكانه ، وما خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله عليه ، فأخذه
ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل القول عليه.
__________________
فلما
سرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّى عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها
: [أبشرى] يا عائشة أمّا الله فقد برّأك.
قالت أمى : قومي
إليه. فقلت ، والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، وأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ...) العشر الآيات كلّها.
فلما أنزل الله
هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق ـ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه
وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله عز وجل
: (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قال أبو بكر : بلى
والله ، إنى أحبّ أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه ،
وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة ـ وكان رسول الله يسأل زينب بنت جحش عن أمرى ، قال : يا زينب ، ماذا علمت؟ وماذا
رأيت؟ فقالت : يا رسول الله ، أحمى سمعي وبصرى ، ما علمت إلا خيرا. قالت : وهي التي كانت تسامينى من
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب
لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
المسألة الثانية ـ
قوله : (لا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
قد بينا في كتب
الأصول حقيقة الخير ، وأنه ما زاد نفعه على ضره. وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه
، وأن خيرا لا شر فيه هو الجنة ، وشرّا لا خير فيه هو جهنم ، ولهذا صار البلاء
النازل على الأولياء خيرا ، لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا ، وخيره ـ وهو
الثواب ـ كثير في الآخرة ، فنبّه الله تعالى عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه
__________________
شرّ ، بل هو خير
على ما وضع الله الشر والخير عليه في الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ، ورجحان
النفع في جانب الخير ، ورجحان الضر في جانب الشر.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).
هذا حكم الله في
كلّ ذنب أنه لا تحمل كلّ نفس إلا ما اكتسبت من الإثم ، ولا يكون لها إلا ما اكتسبت
، إلا أنّ الذي تولّى كبره ـ وكان يرميه ويشيعه ويستوشيه ويجمعه ـ له عذاب عظيم.
في صحيح حديث الإفك
: إنّ الذي كان يتكلّم فيه مسطح وحسان [بن ثابت] ، والمنافق عبد الله بن أبىّ بن سلول ، وهو الذي كان
يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (عَذابٌ عَظِيمٌ).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه
العمى. الثاني ـ أنه عذاب جهنم .
الثالث ـ الحد.
فأما العمى فهو
الذي أصاب حسّان ، وأما عذاب جهنم فلمن كتبه الله له ، وأما عذاب الحدّ فقد روى
محمد بن إسحاق وغيره أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم حدّ في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا ، وحسّان ، وحمنة.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ،
وَقالُوا : هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ المعنى
ظنّ الناس بعضهم ببعض خيرا ، وجعل الغير مقام النفس ، لذمام الإيمان ، كما بينا في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أى لا يقتل بعضكم بعضا.
__________________
المسألة الثانية ـ
هذا أصل في أنّ درجة الإيمان التي حازها الإنسان ، ومنزلة الصلاح التي حلها المرء ، ولبسة العفاف التي تستّر بها المسلم لا يزيلها عنه
خبر محتمل ، وإن شاع ، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
المسألة الثالثة ـ
(وَقالُوا هذا إِفْكٌ
مُبِينٌ) ، أى كذب ظاهر ، لأنه خبر عن أمر باطن ممن لم يشاهده ،
وذلك أكذب الأخبار وشرّ الأقوال حيث استطيل به على العرض الذي هو أشرف المحرمات ،
ومقرون في تأكيد التحريم بالمهجات.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (لَوْ لا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ
عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ هذا
ردّ إلى الحكم الأول ، وإحالة على الآية السابقة ، فإنّ الله حكم في رمى المحصنات
بالكذب ، إلا أن يقيم قائل ذلك أربعة من الشهداء على ما زعم من الافتراء ، حتى
يخرجه إلى الظاهر من حدّ الباطن ، وإلا لزمه حكم المفترى في الإثم وحاله في الحد.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).
وهذه آية مشكلة ،
فإنه قد يكون من القذف الظاهر ما هو عند الله في الباطن صدق ، ولكنه يؤخذ في
الظاهر بحكم الكاذب ، ويجلد الحدّ.
وهذا الفقه صحيح ،
وهو أن معنى قوله : (عِنْدَ اللهِ) يريد في حكمه ، لا في علمه ، وهو إنما رتّب الحدود على
حكمه الذي شرعه في الدنيا ، لا مقتضى علمه الذي تعلق بالأشياء على ما هي عليه ،
وإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فيها مسألة ـ قوله
تعالى : (لِمِثْلِهِ) ، يعنى في عائشة ، لأنّ مثله لا يكون إلا نظير القول
__________________
في المقول عنه
بعينه ، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لما في ذلك من
إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله ، وذلك كفر من فاعله.
قال هشام بن عمار
: سمعت مالكا يقول : من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ، ومن سبّ عائشة قتل ، لأن الله
يقول : (يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : قال أصحاب الشافعى : من سبّ عائشة أدب ، كما في سائر المؤمنين
، وليس قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) في عائشة ، لأنّ ذلك كفر ، وإنما هو كما قال : لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه. ولو كان سلب الإيمان في سبّ عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله
صلى الله عليه وسلم : «لا
يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن» حقيقة.
قلنا : ليس كما
زعمتم ، إنّ أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة ، فبرّأها الله ، فكلّ من
سبّها بما برأها الله منه فهو مكذّب لله ، ومن كذّب الله فهو كافر. فهذا طريق قول
مالك. وهي سبيل لائحة لأهل البصائر ، ولو أنّ رجلا سبّ عائشة بغير ما برّأها
الله منه لكان جزاؤه الأدب.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ).
يعنى يريد ذلك
ويتفعّله له ، لأن المحبة فعل القلب ، ومن أحبّ شيئا أظهره ، فإن لم يظهره كانت
نيته فاسدة يعاقب عليها في الآخرة ، كما بينا في شرح الحديث ، وليس له عقوبة في
الحدود.
المسألة الثانية ـ
إذا أشاعها فقد بينا ماله من العذاب في الدنيا.
وقد روى مسروق ،
عن عائشة ، قال : جاء حسان بن ثابت يستأذن عليها فدخل فشبّب ، وقال :
__________________
حصان رزان ما
تزنّ بريبة
|
|
وتصبح غرثى من
لحوم الغوافل
|
قالت له : لكنك
لست كذلك. قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك ، وقد أنزل الله : (وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ). قالت : وأىّ عذاب أشدّ من العمى. وقد كان يرد عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فبينت له أنّ العمى من العذاب الدنيوي الذي قورض به ،
وذكر ذمامه في منافحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنها رعت له ذلك ، وإن
كان قال فيها.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
بيّنا أنّ ذلك نزل في أبى بكر ، قالت عائشة في حديثها : فحلف أبو بكر ألّا ينفع
مسطحا بنافعة أبدا ، فأنزل الله الآية : (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ) ـ يعنى أبا بكر ، أن يؤتوا أولى القربى والمساكين
والمهاجرين في سبيل الله ـ يعنى مسطحا إلى قوله : غفور رحيم.
قال أبو بكر : بلى
والله يا ربنا ، إنا لنحبّ أن يغفر لنا ، وعاد لما كان يصنع له ، وفيه دليل على أن
القذف وإن كان كبيرة لا يحبط الأعمال ، لأن الله وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة
والإيمان.
المسألة الثانية ـ
قال ابن العربي : عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون ، هذا أبو بكر حلف
ألّا ينفق على مسطح ، ثم رجع إليه نفقته ، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأنّ أبا بكر لم
يكفّر حتى يتكلّم بهذا الهزء ، وقد بينا ذلك في شرح الحديث.
المسألة الثالثة ـ
قد بينا أنّ اليمين لا تحرم ، أو لا تحرم في سورة المائدة ، وتحقيقه في سورة
التحريم.
__________________
المسألة الرابعة ـ
وهي حسنة أن في ذلك دليلا على أنّ الحنث إذا رآه خيرا أولى من البر ، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : فرأى
غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه. وقد قدمناه.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ اعلموا
وفّقكم الله ـ أنّ الله سبحانه وتعالى خصص الناس بالمنازل ، وسترهم فيها عن
الأبصار ، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد ، وحجر على الخلق أن يطّلعوا على ما
فيها من خارج أو يلجوها بغير إذن أربابها ، لئلا يهتكوا أستارهم ، ويبلوا في
أخبارهم.
وتحقيق ذلك ما روى
في الصحاح ، عن سهل بن سعد ، قال : أطّلع
رجل من حجرة في حجر النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ومع النبي مدرى يحكّ بها رأسه ، فقال : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك
، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر. ومن حديث أنس فيها : فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليه
بمشقص ، فكأنى أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه.
المسألة الثانية ـ
نزلت هذه الآية عامة في كل بيت ، ونزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) صلى الله عليه وسلم خاصة في أبياته صلى الله عليه وسلم. وسيأتى
بيانها في سورة الأحزاب إن شاء الله.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا).
مدّ الله التحريم
في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس .
واختلف فيه على
ثلاثة أقوال :
الأول ـ أن معناه
حتى تستأذنوا ، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عباس ، ويقول :
أخطأ الكاتب.
__________________
الثاني ـ حتى
تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح ، فيعلموا بالدخول عليهم ، قاله ابن مسعود ومجاهد
وغيره.
الثالث ـ حتى
تعلموا أفيها من تستأذنون عليه أم لا ، قاله ابن قتيبة.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : أما قوله أن تستأنسوا بمعنى تستأذنوا فلا مانع في أن يعبّر عن
الاستئذان بالاستئناس ، وليس فيه خطأ من كاتب ، ولا يجوز أن ينسب الخطأ إلى كتاب
تولى الله حفظه ، وأجمعت الأمة على صحته ، فلا يلتفت إلى راوي ذلك عن ابن عباس.
ووجه التعبير عن
الاستئذان بالاستئناس أنه مثله في معنى الاستعلام.
وأما من قال : إنه
التنحنح فهي زيادة لا يحتاج إليها. وأشبه ما فيه قول ابن قتيبة ، فإنه عبّر عن
اللفظين بمعنيين متغايرين مقيدين. وهذا هو حكم اللغة في جعل معنى لكل لفظ.
المسألة الرابعة ـ
في كيفية الاستئذان ، وهو بالسلام ، وصفته ما روى عن أبى سعيد الخدري ، قال : كنت
في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، قال: استأذنت على عمر ثلاثا ، فلم يأذن لي ، فرجعت. قال : ما
منعك؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت.
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إذا
استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع. فقال : والله لتقيمنّ عليه بينة. أمنكم
أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أبىّ ابن كعب : والله لا يقوم معك إلا
أصغرنا. فكنت أصغرهم. فقمت
معه ، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وهذا حديث صحيح لا
غبار عليه. وحكمة التعداد في الاستئذان أنّ الأولى استعلام ، والثانية تأكيد ،
والثالثة إعذار.
وقد روى ابن وهب ،
وابن القاسم ، عن مالك ـ أن الاستئناس هو الاستئذان على التأويل الأول ، ويكون
قوله : (وَتُسَلِّمُوا) تفسيرا للاستئذان. وقد اخترنا قول ابن قتيبة. والله أعلم.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قال جماعة : الاستئذان فرض ، والسلام مستحبّ. وبيانه أن التسليم كيفية في الإذن ،
روى مطرف ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم أنه استأذن على ابن عمر ، فقال : أألج؟ فأذن
له ابن عمر. قال زيد : فلما قضيت حاجتي أقبل علىّ ابن عمر ، فقال : مالك واستئذان
العرب! إذا استأذنت فقل : السلام عليكم ، فإذا ردّ عليك السلام فقل : أأدخل ، فإن
أذن لك فادخل. فعلّمه سنّة السلام.
وقد روى ابن سيرين
أنّ رجلا استأذن على
النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال : أدخل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عنده
: قم فعلّم هذا كيف يستأذن ، فإنه لم يحسن : فسمعها الرجل فسلّم فاستأذن.
المسألة السادسة ـ
روى الزّهرى ، عن عبيد الله بن أبى ثور ، عن ابن عباس ، قال :
سألت عمر بن
الخطاب ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم اللتان تظاهرتا عليه ، اللتان قال الله فيهما : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)؟ فقال : حفصة وعائشة. قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، وذكر
اعتزال النبىّ في المشربة ـ قال : فأتيت غلاما أسود فقلت : استأذن لعمر. فدخل
الغلام ثم خرج إلىّ. فقال : قد ذكرتك له ، فصمت. فرجعت فجلست إلى المنبر ثم غلبني
ما أجد ، فرجعت إلى الغلام ، فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ، ثم خرج ، فقال : قد
ذكرتك له فصمت. قال : فولّيت مدبرا فإذا الغلام يدعوني ، فقال : ادخل ، فقد أذن
لك. فدخلت فسلّمت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متّكئ على رمال حصير ، قد أثّر في جنبه ،
فقلت : يا رسول الله ، أطلّقت نساءك؟ فرفع إلىّ رأسه ، وقال : لا. فقلت : الله
أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله وكنّا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة
وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم ، فغضبت يوما علىّ
امرأتى فطفقت تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني فقالت : ما تنكر! فو الله إنّ أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن يومها حتى الليل. فقلت :
قد خاب من فعل ذلك منهن ، وخسر ، أتأمن إحداهن
__________________
ان
يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فدخلت علىّ حفصة ، فقلت : لا يغررك أن كانت جاريتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى. فقلت : أستأنس يا رسول الله. قال : نعم
، فجلست فرفعت رأسى في البيت ، فو الله ما رأيت شيئا يردّ البصر إلا أهبة ثلاث ،
وذكر الحديث.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضى الله عنه : ففي هذا الحديث أنّ عمر رجع من مرتين ، ولم ينتظر الثالثة
، فهذا يدلّك على أنّ كمال التعداد حقّ الذي يستأذن إن أراد استقصاءه وإلّا تركه ،
وفيه قوله بعد الدخول : أستأنس يا رسول الله ، وهذا من الأنس والتبسط ، لا من
الإعلام الذي تقدّم في الآية.
المسألة السابعة ـ
قال علماؤنا : إن وقعت العين على العين فالسلام قد تعيّن ، ولا تعدّ رؤيتك له إذنا
لك في دخولك عليه ، فإذا قضيت حقّ السلام لأنك الوارد حينئذ تقول: أدخل؟ فإن أذن
لك فادخل وإلّا رجعت.
المسألة الثامنة ـ
هذا كلّه في بيت ليس لك ، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها ،
وإن كانت فيه معك أمك أو أختك فقالوا تنحنح واضرب برجليك حتى تنتبه لدخولك ، لأنّ الأهل لا حشمة بينك وبينها.
وأما الأمّ والأخت
فقد تكون على حالة لا [تحبّ أن] تراها فيها.
قال ابن القاسم :
قال مالك : ويستأذن الرجل على أمّه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما.
وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي : أستأذن على أمى؟
قال : نعم. قال: إنى أخدمها. قال : استأذن عليها. قال : فعاوده ثلاثا ، قال : أتحبّ
أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال : فاستأذن عليها.
وعن ابن مسعود
وابن عباس ، واللفظ له ، أنه
قيل له : أستأذن على أخواتى وهنّ في حجرتي معى في بيت واحد؟ قال : نعم ، فرددت
عليه ليرخّص لي فأبى. قال : أتحبّ أن تراها عريانة؟ قلت : لا. قال : فاستأذن عليها
، فراجعته ، فقال : أتحبّ أن تطيع الله؟ قلت : نعم. قال : فاستأذن عليها.
__________________
وقال طاوس : ما من
امرأة أكره إلىّ أن أرى عورتها من ذات محرم ، ذكر ذلك كله الطبري.
المسألة التاسعة ـ
هذا الإذن في دخوله بيتا غير بيته ، فإن دخل بيت نفسه فقال علماؤنا : ليقل السلام
علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات لله ، السلام عليكم. رواه ابن وهب عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، وسنده ضعيف.
والصحيح ترك
السلام والاستئذان ، والله أعلم.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ هذا
تبيان من الله لإشكال يلوح في الخاطر ، وهو أن يأتى الرجل إلى منزل لا يجد فيه
أحدا ، فيقول في نفسه : إذا كانت المنازل خالية فلا إذن ، لأنه ليس هنالك محتجب ،
فيقال له : إن الإذن يفيد معنيين : أحدهما ـ الدخول على أهل البيت. والثاني ـ كشف
البيت واطلاعه ، فإن لم يكن هنالك أحد محتجب فالبيت محجوب لما فيه ، وبما فيه ،
إلا بإذن من ربّه .
المسألة الثانية ـ
قوله : (حَتَّى يُؤْذَنَ
لَكُمْ).
يعنى حتى يأتى
صاحب المنزل فيأذن ، أو يتقدم له بالإذن.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا).
هذا مرتبط بالآية
قبلها ، التقدير : «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا
وتسلموا على أهلها ، فإن أذن لكم فادخلوا ، وإلا فارجعوا» ، كما فعل عمر مع النبي
صلى الله عليه وسلم وأبو موسى مع عمر حسبما تقدم تسطيره وإيراده.
فإن لم تجدوا فيها
أحدا يأذن لكم فلا تدخلوا حتى تجدوا إذنا.
__________________
المسألة الرابعة ـ
وسواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا ، لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه
الإذن من ربّه ، بل يجب عليه أن يأتى الباب ، ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه.
فقد روى علماؤنا
عن عمر بن الخطاب أنه قال : من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق. وقد تقدم قول النبي صلى
الله عليه وسلم : إنما
جعل الاستئذان من أجل البصر.
المسألة الخامسة ـ
إذا استأذن أحد فينبغي للمستأذن عليه أن يقول : ادخل أو ما في معناه من الألفاظ ،
لا يزيد على ذلك ولا يستحقر فيه.
روى أنّ عبد الله
بن عمر جاء دارا لها بابان قال : أدخل؟ قال له إنسان : ادخل بسلام. قال له : وما
يدريك أنى أدخل بسلام ، ثم انصرف كراهية ما زاد ، لأنّ الذي قال :
ادخلوها بسلام
عالم بذلك قادر عليه ، وهو الذي زاد في الإذن بسلام زاد ما لم يسمع ، وقال ما لم
يعلم ، وضمن ما لم يقدر عليه.
المسألة السادسة ـ
إذا ثبت أنّ الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير. وإن كان قول
الصغير لغوا في الأحكام بإجماع أهل الإسلام ، ولكن الإذن في المنازل مرخّص فيه
للضرورة الداعية إليه ، وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيعمل على قوله ، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ
يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
المراد بهذه البيوت أربعة أقوال :
الأول : أنها
الخانات والخانكات.
الثاني ـ أنها
دكاكين التجار ، قاله الشعبي.
__________________
الثالث ـ قال
مجاهد : هي منازل الأسفار ومناجاة الرجال.
الرابع ـ أنها
الخرابات العاطلة ، قاله قتادة.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ).
فيها ثلاثة أقوال
:
الأول ـ أنها
أموال التجار.
الثاني ـ أنها
المنافع كلها.
الثالث ـ أنها
الخلاء لحاجة الإنسان.
المسألة الثالثة ـ
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضى الله عنه :
أما من قال إنها
الخانات وهي الفنادق والخانكات وهي المدارس للطلبة فإنها مشتركة بين السكّان فيها
والعاملين بها فلا يصحّ المنع ، فلا يتصوّر الإذن. وكذلك دكاكين التجار ، قال
الشعبي : لا إذن فيها ، لأنّ أصحابها جاءوا ببيوعهم ، وجعلوها فيها ، وقالوا للناس
: هلم. فالمعنى في ذلك كله ألا يدخل في كل موضع بغير إذن إلا من كان من أهله ومن
خرج عنهم فلا دخول فيه لهم.
المسألة الرابعة ـ
وأما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل ، وجاء بالفيصل ، وبيّن أنّ
دخول الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع ، فالطالب يدخل في الخانكات للعلم ،
والساكن يدخل في الخان للمنزل فيه ، أو لطلب من نزل لحاجته إليه ، والزبون يدخل
لدكان الابتياع ، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة ، وكلّ يؤتى على وجهه من
بابه ، فإن دخل في موضع من هذه باسمها الظاهر ولمنفعتها البادية ونيته غير ذلك
فالله عليم بما أبدى ، وبما كتم ، يجازيه عليه وبما يظهره منه.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ
اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ).
فيها أربع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
: (يَغُضُّوا) ، يعنى يكفّوا عن الاسترسال ، قال الشاعر :
فغضّ الطّرف إنك
من نمير
|
|
فلا كعبا بلغت
ولا كلابا
|
المسألة الثانية ـ
قوله : (يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ) ، فأدخل حرف «من» المقتضية للتبعيض ، وذكر (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) مطلقا.
وللعلماء في ذلك
ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنّ غضّ
الأبصار مستعمل في التحريم ، لأن غضّها عن الحلال لا يلزم ، وإنما يلزم غضّها عن
الحرام ، فلذلك أدخل حرف التبعيض في غضّ الأبصار ، فقال : من أبصارهم الثاني ـ أنّ
من نظر العين ما لا يحرم ، وهو النظرة الأولى والثانية ، فما زاد عليها محرّم ،
وليس من أمر الفرج شيء ما يحلل.
الثالث ـ أنّ من
النظر ما يحرم ، وهو ما يتعلق بالأجانب ، ومنه ما يحلل ، وهو ما يتعلق بالزوجات
وذوى المحارم ، بخلاف الفرج ، فإن ستره واجب في الملأ والخلوة ، لحديث بهز ابن
حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه معاوية بن حيدة القشيري. قال : قلت : يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتى
منها وما نذر؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجك ، أو ما ملكت يمينك. فقال : الرجل
يكون مع الرجل؟ قال : إن استطعت ألا يراها أحد فافعل. قلت : فالرجل يكون خاليا؟
قال : الله أحقّ أن يستحيا منه.
وقد ذكرت عائشة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالها معه فقالت : ما رأيت ذلك منه ، ولا رأى ذلك
منى.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) ، يعنى به العفّة ، وهو اجتناب ما نهى الله عنه فيها. وقد
تقدم بيانه.
وقال أبو العالية
: المراد به هاهنا حفظها عن الأبصار ، حتى لا يراها أحد ، وقد تقدم وجوب سترها
وشيء من أحكامها في البقرة والأعراف ، وإيضاحه في شرح الحديث والمسائل.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ). يريد أطهر على معاني الزكاة ، فإنه إذا غضّ بصره كان أطهر
له من الذنوب ، وأنمى لأعماله في الطاعة ، ولذلك قال النبىّ صلى الله عليه وسلم
لعلى : يا على ، إن لك كنزا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة
النظرة ، فإن الأولى لك والثانية ليست لك. وهو أيضا أفرغ لباله وأصلح لأحواله.
وقد أنشد أرباب
الزهد :
وأنت إذا أرسلت
طرفك رائدا
|
|
لقلبك يوما
أتعبتك المناظر
|
رأيت الذي لا
كلّه أنت قادر
|
|
عليه ولا عن
بعضه أنت صابر
|
وقالوا : من أرسل
طرفه أدنى حتفه ، ومن غضّ البصر كفّه عن التطلع إلى المباحات من زينة
الدنيا وجمالها ، كما قال الله لنبيه : (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) ، يريد ما عند الله تعالى.
وفي الإسرائيليات
أن رجلا كان قائما يصلّى فنظر إلى امرأة بإحدى عينيه ، فتطأطأ إلى الأرض ، فأخذ
عودا ففقأ به عينه التي نظر بها إلى المرأة ، وهي من خير عين تحشر.
وتحكى الصوفية أنّ
امرأة كانت تمشى على طريق ، فاتبعها رجل حتى انتهت إلى باب دارها ، فالتفتت إليه ،
فقالت له : يا هذا ، مالك تتبعني؟ فقال لها : أعجبتنى عيناك. فقالت : البث قليلا.
فدخلت دارها ، ثم فقأت عينيها في سكرّجة ، وأخرجتهما إليه ، وقالت له : خذ ما
أعجبك ، فما كنت لأحبس عندي ما يفتن الناس منى.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلى
__________________
عَوْراتِ
النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ
زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ).
فيها ثماني مسائل
:
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين ، حسب كل خطاب
عامّ في القرآن على ما بيناه في أصول الفقه ، إلّا أنّ الله تعالى قد يخصّ الإناث
بالخطاب على طريق التأكيد ، كما ورد في حديث أم عمارة الأنصارية أنها قالت : يا رسول الله ، إنى أرى كل شيء للرجال
وما أرى النساء يذكرن بشيء ، فنزلت : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ ...) الآية ـ خرّجه الترمذي وغيره. فلما أراد الله من غض البصر
وحفظ الفرج أكّده بالتكرار ، وخصّ النساء فيه بالذكر على الرجال.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَ).
وذلك حرام لأنّ
النظر إلى ما لا يحل شرعا يسمى زنا.
قال أبو هريرة :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ
الله إذا كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فالعينان تزنيان ،
وزناهما النظر ، واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرّجلان تزنيان ، وزناهما المشي
، والنفس تمنّى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذّبه.
وكما لا يحلّ
للرجل أن ينظر إلى المرأة فكذلك لا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى الرجل ، فإنّ علاقته
بها كعلاقتها به ، وقصده منها كقصدها منه. وقد روت أمّ سلمة قالت : كنت أنا وعائشة ـ وفي رواية وميمونة ـ عند
النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن عليه ابن أمّ مكتوم ، فقال لنا : احتجبن منه.
فقلنا : أو ليس أعمى؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنّما؟
فإن قيل : يعارضه
ما روى أنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم قالت له فاطمة بنت قيس في شأن العدّة في بيت أم شريك ، فقال لها : تلك
امرأة يغشاها أصحابى ، اعتدّى في بيت ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك
عنده.
__________________
قلنا : قد أوعبنا
القول في هذا الحديث في الشرح من جميع وجوهه ، وسترونه في موضعه إن شاء الله
تعالى. والذي يتعلّق به هاهنا أنّ انتقالها من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم
كان أولى بها من بقائها في بيت أم شريك ، إذ كانت في بيت أم شريك يكثر الداخل فيه
والرائي لها ، وفي بيت أم مكتوم كان لا يراها أحد ، وكان إمساك بصرها عنه أقرب من
ذلك وأولى ، فرخّص لها في ذلك.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها).
الزّينة على قسمين
: خلقية ومكتسبة.
فالخلقية وجهها ،
فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ، ومعنى الحيوانية ، لما فيه من المنافع وطرق العلوم
وحسن ترتيب محالّها في الرأس ، ووضعها واحدا مع آخر على التدبير البديع. وأما
الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها بالتصنّع ، كالثياب والحلىّ
والكحل والخضاب.
ومنه قوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، يعنى الثياب. وقال الشاعر :
يأخذن زينتهنّ
أحسن ما ترى
|
|
وإذا عطلن فهنّ
خير عواطل
|
المسألة الرابعة ـ
قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها).
اعلموا عرّفكم
الله الحقائق ـ أنّ الظاهر من الألفاظ المتقابلة التي يقتضى أحدها الآخر ، وهو
الباطن هاهنا ، كالأول مع الآخر ، والقديم مع الحديث ، فلما وصف الزينة بأنّ منها
ظاهرا دلّ على أنّ هنالك باطنا.
واختلف في الزينة
الظاهرة على ثلاثة أقوال :
الأوّل ـ أنها
الثياب ، يعنى أنها يظهر منها ثيابها خاصة ، قاله ابن مسعود.
الثاني ـ الكحل
والخاتم ، قاله ابن عباس والمسور.
الثالث ـ أنه
الوجه والكفّان.
وهو القول الثاني
بمعنى ، لأن الكحل والخاتم في الوجه والكفّين ، إلا أنه يخرج عنه
__________________
بمعنى آخر ، وهو
أنّ الذي يرى الوجه والكفين هي الزينة الظاهرة يقول ذلك ما لم يكن فيها كحل أو
خاتم ، فإن تعلق بها الكحل والخاتم وجب سترها ، وكانت من الباطنة.
فأما الزينة
الباطنة فالقرط والقلادة والدّملج والخلخال وغيره.
وقال ابن القاسم ،
عن مالك : الخضاب ليس من الزينة الظاهرة.
واختلف الناس في
السّوار ، فقالت عائشة : هي من الزينة الظاهرة ، لأنها في اليدين. وقال مجاهد : هي
من الزينة الباطنة ، لأنها خارجة عن الكفّين ، وإنما تكون في الذراع.
وأما الخضاب فهو
من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
والصحيح أنها من
كل وجه هي التي في الوجه والكفين ، فإنها التي تظهر في الصلاة. وفي الإحرام عبادة
، وهي التي تظهر عادة.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ).
الجيب هو الطوق ،
والخمار هي المقنعة.
روى البخاري عن
عائشة أنها قالت : رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَ) شققن مروطهنّ ـ وفي رواية فيه أيضا : شققن أزرهنّ ـ فاختمرن
بها ، كأنه من كان لها مرط شقّت مرطها ، ومن كانت لها إزار شقت إزارها.
وهذا يدلّ على أن
ستر العنق والصّدر بما فيه ، ويوضحه حديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلّى الصبح فينصرف النساء متلفّعات بمروطهن ، ما يعرفن من الغلس ، أى لا
تعرف فلانة من فلانة.
المسألة السادسة ـ
قوله : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ).
حرم الله إظهار
الزينة ، كما تقدم على الإطلاق ، واستثنى من ذلك اثنى عشر محلا :
المستثنى الأوّل ـ
البعولة. والبعل : هو الزوج والسيد في لسان العرب ، ومنه قول النبي ـ حين ذكر
أشراط الساعة : حتى تلد الأمة بعلها ، يعنى سيدها ، إشارة إلى كثرة السراري بكثرة
الفتوحات ، فيأتى الأولاد من الإماء ، فتعتق كلّ أم بولدها ، فكأنه سيّدها الذي
منّ عليها بالعتق ، إذ كان العتق حاصلا لها من سببه ، فالزوج والسيد ممن يرى
الزينة
من المرأة وأكثر
من الزينة ، إذ كلّ محل من بدنها حلال له لذة ونظرا ، وذلك مخصوص بالزوج والسيد ،
لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).
وقد اختلف الناس
في جواز نظر الرجل إلى فرج زوجته على قولين :
أحدهما ـ يجوز ،
لأنه إذا جاز له التلذذ فالنظر أولى.
وقيل : لا يجوز
لقول عائشة في ذكر حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت ذلك منه ولا
رأى ذلك منى.
والأول أصحّ. وهذا
محمول على الأدب ، فقد قال أصبغ من علمائنا : يجوز له أن يلحسه بلسانه.
المستثنى الثاني ـ
أو آبائهن. ولا خلاف أنّ غير الزوج لا يلحق بالزوج في اللذة. وكذلك أجمعت الأمة
على أنه يلحق غير الزوج بالزوج في النظر ، وإن كان قد شورك بينهم في لفظة العطف
الذي يقتضى التشريك في ذلك كله ، ولكن فرّقت بينهم السنّة.
واختلف العلماء
فيما يبدو للأب من الزينة على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه الرأس
، قاله قتادة.
الثاني ـ أن الذي
تبدى القرط والقلادة والسوار ، فأما خلخالها وشعرها فلا ، قاله ابن عباس. ونحوه عن
ابن مسعود.
الثالث ـ أن يكون
على رأسها خمار ومقنعة ، فتكشف المقنعة له.
وهي متقاربة
المعنى ، إذ الزينة الباطنة يجوز للأب النظر إليها للضرورة الداعية إلى ذلك في
الخلطة ، ولأجل المحرمية التي مهدت الشريعة ، إذ لا يقترن بها النظر شهوة ،
لتعذّرها في هذا الموضع بالتحريم المتعبّد به والبعضيّة القائمة معه.
المستثنى الثالث ـ
أو آباء بعولتهن :
قال أيوب
السّختيانى : قلت لسعيد بن جبير : الرجل ينظر إلى شعر ختنته ، فقرأ هذه الآية : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ ...) إلى آخر الآية. وقال : لا أراها منها.
__________________
وفي الحديث : إنّ الحمو هو الموت ، يعنى لا بد منه ، كما لا بد من
الموت في أحد التأويلات ، ولأنها بنته ، فنزّلت منه بتلك المنزلة. والأختان
والأصهار والأحماء مما كثر فيهم القول ، وجله أن الختن الصّهر. وقيل من كان من قبل
الزوج من رجل أو امرأة.
المستثنى الرابع ـ
الأبناء : قال إبراهيم : لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وأخته وعمته وكره
للباقين ، وبالجملة فإنّ الابن والأب أحقّ الأجانب من جهة المحرمية بالاطلاع على
الزينة الباطنة.
المستثنى الخامس ـ
أبناء البعولة ، وهم ينزّلون بتلك المنزلة في جواز رؤية الزينة الباطنة ، لنزولهم
منزلة الأبناء في المحرميّة.
المستثنى السادس ـ
الإخوة ، وقد روى أنّ الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط ،
وذلك هو الصحيح عندي.
المستثنى السابع ـ
أبناء الإخوة ، وهم من آبائهم.
روى علماؤنا أنّ
صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لا تغطّى رأسها منه
ولا من عشرة من المهاجرين الأولين : من حمزة أخيها ، ولا من جعفر ، ولا علىّ ابن
أبى طالب أخيها ، ولا من الزبير ابنها ، ولا من عثمان بن عفان ابن بنت أختها ـ أمه
أروى بنت كريز ، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب ، ولا من أبى سلمة بن عبد
الأسد ، ولا من أبى سبرة بن أبى رهم ابني أختها برة بنت عبد المطلب ، ولا من طليب
بن عمير ابن وهب بن عبد بن قصىّ ، وأمّه أروى بنت عبد المطلب ، ولا من عبد الله ،
وأبى أحمد الشاعر ـ واسمه عبيد ـ ابني جحش ، أمهما أميمة بنت عبد المطلب.
المستثنى الثامن ـ
بنو الأخوات. ولما لحقوا في المحرمية بمن تقدّم لحقوا بهم في جواز النظر.
المستثنى التاسع ـ
قوله : (أَوْ نِسائِهِنَ).
وفيه قولان :
أحدهما ـ أنه جميع
النساء.
والثاني ـ أنه
نساء المؤمنين.
__________________
فأما أهل الذمّة
فلا ينبغي أن تكون المسلمة مبدية لهنّ زينتها.
وقد كتب عمر بن
الخطاب إلى أبى عبيدة بن الجراح : أما بعد ، فقد بلغني أنّ نساء المسلمين يدخلن
الحمامات معهن نساء أهل الكتاب ، فامنع ذلك ، وحل دونه .
ثم إن أبا عبيدة
قام في ذلك المقام ممتثلا ، فقال : أيما امرأة دخلت الحمام من غير علّة ولا سقم
تريد البياض لزوجها فسوّد الله وجهها يوم تبيضّ الوجوه.
والصحيح عندي أن
ذلك جائز لجميع النساء ، وإنما جاء بالضمير للإتباع ، فإنها آية الضمائر ، إذ فيها
خمسة وعشرون ضميرا لم يروا في القرآن لها نظيرا ، فجاء هذا للإتباع.
المستثنى العاشر ـ
قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ).
حرّم الله على
المرأة عبدها ، وكانت الحكمة في ذلك فيما سمعت من شيخنا فخر الإسلام بمدينة السلام
ـ تناقض الأحكام ، فإنها تملكه بالعبودية ، فلو ملكها بالزوجية لقال لها : اخرجى
وأطيعى زوجك ، وقالت هي له : اسكت وأطع سيدتك.
وقال أحدهما : أقم
، وقال الآخر : ارحل. وقال أحدهما : أنفق بالرق. وقال الآخر : أنفق بالزوجية.
فيعود الطالب مطلوبا والآخر مأمورا ، فحسم الله العلة بالمحرمية.
وفيما يروى فيها
قولان :
أحدهما ـ أنّ
العبد كالأجنبى.
والثاني ـ أنه
كذوى المحارم.
وقد روى ابن وهب
وابن القاسم ، عن مالك ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ قال مالك : أكره أن يسافر الرجل
بامرأة أبيه أو ابنه ، ولله درّه! إنها ليست كأمه وابنته. قالا : قال مالك : وإذا
كان بعض الجارية حرّا فلا يجوز لمن يملك بقيّتها أن ينظر إلى شيء منها غير شعرها ،
كما ينظر غيره ، ولا بأس أن يدخل على زوجته ومعها المرأة إذا كانت عليها ثيابها. وإذا
كان بعض الغلام حرّا فلا يرى شعر من يملك بقيته ، وإن كان خصيّا لا تملكه لم ينظر
شعرها وصدرها. ولا بأس أن ينظر خصيان العبيد إلى شعور النساء ، فأما الأحرار فلا ،
وذلك في الوغد منهم ، فأما من له المنظرة فلا.
__________________
وقال مالك : يجوز
للوغد أن يأكل مع سيدته ، ولا يجوز ذلك لذي المنظرة.
وقال في الخصىّ
خادم الرجل في منزله ، يرى فخذه منكشفة : إنه خفيف.
وقال في جارية
المرأة : لا ينبغي أن ترى فخذ زوجها ينكشف عنها. قال الله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) ، فامرأته في هذا كغيرها. ونهى عمر بن الخطاب النساء أن
يلبسن القباطي ، وقال : إن كانت لا تشفّ فإنها تصف.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : يريد الخصور والأرداف.
قال ابن القاسم :
سمعت مالكا يحدّث أنّ عائشة دخل عليها رجل أعمى ، وأنها احتجبت منه ، فقيل لها :
يا أم المؤمنين ، إنه أعمى لا ينظر إليك. قالت : ولكني أنظر إليه.
قال أشهب : سئل
مالك أتلقى المرأة خمارها بين يدي الخصىّ؟ وهل هو من غير أولى الإربة؟ فقال : نعم
، إذا كان مملوكا لها أو لغيرها ، فأما الحرّ فلا ، وإن كان فحلا كبيرا وغدا تملكه
لا هيئة له ولا منظرة فلينظر إلى شعرها.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله ، كما قال ابن عباس : لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته.
قال أشهب : قال
مالك : ليس بواسع أن تدخل جارية الزوجة أو الولد على الرجل المرحاض. قال الله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).
وقال أشهب ، عن مالك
: ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته ولا أحبه لغلام الزوج.
وأطلق علماؤنا
المتأخرون القول بأن غلام المرأة من ذوى محارمها يحلّ له منها ما يحل لذي المحرم.
وهو صحيح في القياس. وقول مالك في الاحتياط أعجب إلىّ.
فرع ـ قال علماؤنا
رحمة الله عليهم : لا تسافر المرأة مع عبدها وإن كان ذا محرم منها ، إذ يجوز أن
يعتق في السفر فيحلّ لها تزوّجه. وهذا عندي ضعيف ، فإن عتقه بيدها ، فلا يتفق له
ذلك حتى يكون بموضع يتأتّى فيه ما ذكرنا.
__________________
المستثنى الحادي
عشر ـ قوله : (أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) .
فيه ثمانية أقوال
:
الأول ـ أنه
الصغير ، قاله مجاهد.
الثاني ـ أنه
العنّين ، قاله عكرمة ، والشعبي.
الثالث ـ أنه
الأبله المعتوه لا يدرى النساء ، قاله سعيد بن جبير ، وعطاء.
الرابع ـ أنه
المجبوب لفقد إربه.
الخامس ـ أنه
الهرم ، لعجز إربه.
السادس ـ أنه
الأحمق الذي لا يشتهى المرأة ، ولا يغار عليه الرجل ، قاله قتادة.
السابع ـ أنه الذي
لا يهمه إلّا بطنه ، قاله مجاهد.
الثامن ـ أنه خادم
القوم للمعاش ، قاله الحسن.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضى الله عنه : أما القول الأول بأنه الصغير فلا معنى له ، لأنّ ذلك قد
أفرده الله بالذكر بعد ذلك في قوله : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ).
وأما غير ذلك فهم
على قسمين ، منهم من له آلة ، ومنهم المجبوب الذي ليس له آلة ، والذي له آلة على
قسمين : منهم العنّين الذي لا يقوم له شيء ، ومنهم الذي لا قلب له في ذلك ، ولا
علاقة بينه وبينه.
فأما المجبوب
والعنّين فلا كلام فيهما. وأما من عداهما ممن لا قلب له في ذلك فالقياس يقتضى ألّا
يكون بينه وبين المرأة اجتماع لضرورة حاله ، لكن الشريعة رخصت في ذلك للحاجة
الماسّة إليه ، ولقصد نفى الحرج به.
والدليل عليه حديث
النبىّ صلى الله عليه وسلم : إنه كان جالسا عند أم سلمة ، فدخل عليهما هيت المخنّث
، فقال لأخيها عبد الله بن أبى أمية ـ وهو عندها : يا عبد الله ، إن فتح الله
عليكم الطائف غدا فإنى أدلّك على بادنة بنت غيلان ، يعنى زوج عبد الرحمن بن عوف ، فإنها تنيف
بالذكر والأنثى ، وتقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كأنه الأقحوان ، وبين رجليها
__________________
كالإناء المكفوء ،
إن جلست تبنّت ، وإن قامت تثنّت ، وإن تكلّمت تغنّت :
بين شكول النساء
خلقتها
|
|
قصد فلا جبلة
ولا قضف
|
تغترق الطّرف
وهي لاهية
|
|
كأنما شفّ وجهها
نزف
|
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لأرى هذا يعرف ما هاهنا ، لا يدخل عليكنّ. فحجبه.
المستثنى الثاني
عشر ـ قوله : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ).
واختلف الناس في
وجوب ستر ما سوى الوجه والكفّين منه على قولين :
أحدهما ـ لا يلزم
، لأنه لا تكليف عليه ، وهو الصحيح.
والآخر ـ يلزم ،
لأنه قد يشتهى ، وقد تشتهي هي أيضا ، فإن راهق فحكمه حكم البالغ في وجوب الستر
ولزوم الحجبة.
وبقي هاهنا
المستثنى الثالث عشر ، وهو الشيخ الذي سقطت شهوته ، وفيه قولان ، كما قدمناه في
الصبىّ ، والصحيح بقاء الحرمة.
المسألة السابعة ـ
قال أصحاب الشافعى : عورة المرأة مع عبدها من السرّة إلى الركبة ، وكأنهم ظنوها
رجلا أو ظنوه امرأة ، والله تعالى حرّم المرأة على الإطلاق نظرا ولذّة ، ثم استثنى
اللذة للزوج وملك اليمين ، ثم استثنى الزينة : ظاهر الثلاثة عشر شخصا العبد منهم ،
فما لنا ولغير ذلك؟ هذا نظر فاسد ، واجتهاد عن السداد متباعد.
وقد تأول بعض
الناس قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) على الإماء دون العبيد ، منهم سعيد بن المسيّب ، فكيف يحمل
على العبيد ، ثم يلحقون بالنساء؟ هذا بعيد جدا.
__________________
المسألة الثامنة ـ
قوله : (وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ).
قال : كانت المرأة
تضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخاليها ، فمن فعل ذلك فرحا بحليهن فهو مكروه. ومن فعل
ذلك تبرّجا وتعرّضا للرجال فهو حرام.
وكذلك من صرّ
بنعله من الرجال ، إن فعل ذلك عجبا حرم ، فإن العجب كبيرة ، وإن فعل ذلك تبرّجا لم يجز. والله
أعلم.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (الْأَيامى مِنْكُمْ).
والأيّم فيها
قولان :
أحدهما ـ أنها
التي توفّى عنها زوجها.
الثاني ـ أنها
التي لا زوج لها. وفي الحديث أنه نهى عن الأيمة . وقال الشاعر :
فإن تنكحى أنكح
وإن تتأيّمي
|
|
وإن كنت أفتى
منكم أتأيّم
|
وفي الحديث :
الأيم أحقّ بنفسها من وليها ، وهي التي لا زوج لها بعد زوجها. وفي لفظ : الثيّب
أحقّ بنفسها.
المسألة الثانية ـ
في المراد بالخطاب بقوله : (أَنْكِحُوا). فقيل : هم الأزواج ، وقيل: هم الأولياء من قريب أو سيّد.
والصحيح أنهم
الأولياء ، لأنه قال : أنكحوا. بالهمزة ، ولو أراد الأزواج لقال ذلك بغير همزة ،
وكانت الألف للوصل ، وإن كان بالهمزة في الأزواج له وجه فالظاهر أولى ، فلا يعدل
إلى غيره إلا بدليل.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَأَنْكِحُوا). لفظه لصيغة الأمر ، واختلف في وجوبه أو ندبه أو إباحته
على ثلاثة أقوال :
وقال علماؤنا :
يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المرء من خوفه العنت ، وعدم صبره ، ومن قوته على الصّبر ، وزوال
خشية العنت عنه.
وإذا خاف الهلاك
في الدّين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم.
وإن لم يخش شيئا
وكانت الحال مطلقة ، فقال الشافعى : النكاح مباح. وقال أبو حنيفة ومالك : هو
مستحبّ.
وتعلّق الشافعىّ
بأنه قضاء لذّة ، فكان مباحا كالأكل والشرب.
وتعلق علماؤنا في
ذلك بأحاديث كثيرة ، ولا فائدة في التعلق بغير الصحيح. وفي ذلك حديثان صحيحان :
الأول ـ قال أنس
بن مالك : جاء ثلاثة رهط إلى
بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبىّ صلى الله عليه وسلم ،
فلما أخبروها كأنهم تقالّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وقد
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم : أما
أنا فأصلّى الليل أبدا. وقال الآخر : أنا أصوم الدهر ، ولا أفطر. وقال الآخر : أنا
أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقال :
أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، ولكني أصوم
وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوّج النساء ، من يرغب عن سنّتى فليس منى.
الثاني ـ قال عروة
: سألت عائشة عن قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ـ إلى قوله ـ (أَلَّا تَعُولُوا). قالت : يا ابن أختى ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها ،
فيرغب في مالها وجمالها ، يريد أن يتزوّجها بأدنى من سنة صداقها ، فنهوا أن
ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ فيكملوا الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهنّ من النساء.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ).
وفيها قولان :
أحدهما ـ وأنكحوا
الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وأنكحوا إماءكم. وتقريرها : وأنكحوا الأيامى
منكم والصالحين من عبادكم بعضهم ببعض.
الثاني ـ وهو
الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء ، كما أمر بإنكاح الأيامى ، وذلك بيد السادة
في العبيد والإماء ، كما هو في الأحرار بيد الأولياء ، إلّا من ملك نفسه ، وائتمر
أمره ، وأبصر رشده. أما أنّ أصحاب الشافعى تعلّقوا بأن العبد مكلّف فلم يجبر على
النكاح ، لأنّ التكليف يدلّ على أنّ العبد كامل من جهة الآدمية ، وإنما يتعلّق به
المملوكية فيما كان حظّا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة ، فله حقّ المملوكية في بضع
الأمة ليستوفيه ويملكه. فأما بضع العبد فلا حقّ له فيه ، ولأجل ذلك لا تباح السيدة
لعبدها ، هذه عمدة أهل خراسان والعراق.
ولعلمائنا النكتة
العظمى في أنّ مالكيّة العبد استغرقتها مالكية السيد ، ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه
إجماعا. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح ، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد ، هو
يراها ويقيمها للعبد ، ولذلك زوّج الأمة بملكه لرقبتها ، لا باستيفائه لبضعها.
والدليل على صحة
ما نقوله من ذلك أنه لا يملك بضع امرأته وإن كان يملكها ، ويملك بضع أخته من
الرضاع أمة ، وإن كان لا يستوفيه. والمالكية في رقبة العبد كالمالكية في رقبة
الأمة. والمصلحة في كل واحد منهما بيد السيد استيفاؤها وإقامتها والنظر إليها ،
ومنها ومن عدهم الطلاق فإنه يملكه العبد بملك عقده. وهذا لا يلزم ، لأنّ للسيد
نظرا في المصلحة ، فإن أسقطها العبد فقد أسقط خالص حقّه الذي له ، وقد نرى الثّيب
، لا تملك الطلاق ، ولا يملك عليها النكاح ، ويملك النكاح على السفيه المولّى عليه
، ولا يملك عليه الطلاق ، ويملك عليه البيع والشراء ، ولا يملك هو الإقالة ولا
الفسخ ، ولا العتق ، فدلّ على أن مطلع كل واحد من العينين غير مطلع الآخر ،
فافترقا.
فإن قيل : لو أراد
المملوكين لقال من عبيدكم.
قلنا عنه جوابان :
أحدهما ـ أنه قال
بعده : (وَإِمائِكُمْ) ، ولو أراد الناس لما جاء بالهمزة. كما تقدم،
ولذلك قرأها الحسن
من عبيدكم ، ليبيّن الإشكال ويرفع اللبس.
الثاني ـ أن هذا
اللفظ لو قدّرناه كما زعموا لكان عامّا ، وكنا نحكم بعمومه فيمن كان حرّا أو عبدا
، كما حكمنا بعمومه فيمن كانت أمة لله أو لأحد من خلقه بتمليكه إياها له.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وهذا فيه قولان :
أحدهما ـ يغنيهم
الله من فضله بالنكاح ، كقوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا
يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) ـ يعنى النكاح من غيره.
الثاني ـ يغنيهم
بالمال ، وهو اختيار جماعة من السلف ، فروى عن ابن عمر أنه قال: عجبت لمن لا يرغب
في الباءة ، والله يقول : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
ومن حديث أبى
هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة كلّهم ، حقّ على الله عونه : المجاهد في سبيل الله
، والناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء.
فإن قلنا : قد نجد
الناكح لا يستغنى.
قلنا : عنه ثلاثة
أجوبة.
الأول ـ أنه يغنيه
بإيتاء المال ، وقد يوجد ذلك.
الثاني ـ يغنيه عن
الباءة بالعفّة.
الثالث ـ يغنيه
بغنى النفس ، ولا يلزم أن يكون هذا كله على الدوام ، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق
الوعد.
وقد رأيت بعض
علمائنا يقول : إنّ هذا على الخصوص كما قدمناه في الجواب الأول. وفي بعض الآثار :
الناكح معان ، والمكاتب معان ، وباغي الرجعة معان.
المسألة السادسة ـ
فإن قيل : هذه الآية وإن وردت بلفظ واحد فإنها قد تناولت مختلفات الأحكام ، منها
واجب ، ومنها غير واجب ، ومنها في البالغ ، ومنها في الصغير ، ومنها في الثيب ،
ومنها في البكر.
__________________
قلنا : هذا لا
يؤثر في الخطاب ، فإنّ ذلك كثير في القرآن ، وأقرب منه الآية التي تلوناها آنفا في
قوله : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...) إلى آخر الاثنى عشر وجها ، وكلّ واحد يختلف في بابه ،
والخطاب مشترك فيهم ، وإن كان الحكم يختلف في التعلّق بهم.
المسألة السابعة ـ
في هذه الآية دليل على تزويج الفقير ، ولا يقولن كيف أتزوج وليس لي مال؟ فإنّ رزقه ورزق عياله على الله ،
وقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم الموهوبة من بعض أصحابه ، وليس له إلا إزار
واحد ، وليس لها بعد هذا فسح النكاح بالإعسار ، لأنها عليه دخلت ، وإنما يكون ذلك
على الحكم إذا دخلت على اليسار ، فخرج معسرا ، أو طرأ الإعسار بعد ذلك ، والله
أعلم.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ،
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا
تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فيها ست عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ هذا
خطاب لبعض من تناولته الآية الأولى ممن يملك أمر نفسه ، فيتعفّف ويتوقّف ، أو يقدم
على النكاح ، ولا يتخلّف. وأما من زمامه بيد سواه يقوده إلى ما يراه ، فليس له في
هذه الآية مدخل كالمحجور قولا واحدا ، والأمة والعبد على أحد قولي العلماء.
المسألة الثانية ـ
إن كان النكاح في الآية الأولى مختلفا فيه ما بين وجوب وندب وإباحة فالاستعفاف لا
خلاف في وجوبه لأجل أنه تمسك عما حرم الله ، واجتناب المحارم واجب بغير خلاف.
__________________
المسألة الثالثة ـ
لما لم يجعل الله بين العفّة والنكاح درجة دلّ على ما عداهما محرّم ، ولا يدخل فيه
ملك اليمين ، لأنه بنص آخر مباح ، وهو قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) ، فجاءت فيه زيادة هذه الإباحة بآية في آية ، ويبقى على
التحريم الاستمناء ردّا على أحمد بن حنبل ، كما تقدم بيانه ، وكذلك يخرج عنه نكاح
المتعة لنسخه ، كما تقدم.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) ، يعنى يقدرون ، وعبّر عن القدرة بالوجود ، وعن عدمها
بعدمه ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) حرفا بحرف ، فخذه منه.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
فيها قولان :
أحدهما ـ بالقدرة
على النكاح.
الثاني ـ بالرغبة
عنه.
وقال بعض علمائنا
: إنه يستعفّ بالصوم ، لحديث عبد الله بن مسعود ، قال :
كنّا مع النبىّ
صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا
معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج ،
ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء وهو أصحّ الأقوال لانتظام القرآن فيه ، والحديث واللفظ
والمعنى ، والله أعلم.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) ، يعنى يطلبون الكتاب ، يريد المكاتبة على مال يدفعونه إلى
ساداتهم ، فافعلوا ذلك لهم ، فذكر الله طلب العبد للمكاتبة ، وأمر السّيد بها
حينئذ ، وهي حالتان :
الأولى ـ أن
يطلبها العبد ، ويجيبه السيد ، فهذا مطلق الآية وظاهرها.
__________________
الثانية ـ أن
يطلبها العبد ، ويأباها السيد ، وفيه قولان :
الأول ـ لعكرمة
وعطاء أن ذلك واجب على السيّد.
وقال سائر علماء
الأمصار : لا يجب ذلك عليه. وتعلّق من أوجبها بمطلق قوله تعالى: (فَكاتِبُوهُمْ). وافعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتى الدليل بغيره ، وهذه مسألة
أصولية قد بيّناها في أصول الفقه ولا نسلّمها لهم ، بل نقول : إنّ لفظ «افعل»
لاقتضاء الفعل والوجوب يكون بتعلّق الذم بتركه ، والاقتضاء يستقلّ به الاستحباب ،
فأين دليل الوجوب وهذا هو الأصل الذي لا مزعزع له. أما إن من علمائنا المتمرّسين
بالفقه سلموا أنّ مطلق «افعل» على الوجوب ، وادعوا أن الدليل هاهنا قد قام على
سقوط الوجوب من ثلاثة أوجه :
الأول ـ أن
الكتابة إذا طلبها العبد ففيها إخراج ملك السيد من يده بغير اختياره ، ولا أصل
لذلك في الشريعة ، بل أصول الشريعة كلها تقتضي ألّا يخرج ملك أحد عن يده إلا
باختياره؟ وما جاء بخلاف الأصول لا يلتفت إليه.
وهذا لا يلزم ،
لأن الآية عندنا أو الحديث إذا جاء بخلاف الأصول فهو أصل بنفسه ، ويرجع إليه في
بابه ، ويجرى على حكمه ، كما بيناه في مسائل المضرات من كتب الخلاف ، وفي تعارض
الأدلة من كتب أصول الفقه.
الثاني ـ قالوا :
إنما يكون مطلق الأمر يقتضى الوجوب إذا تعرّى عن قرينة ، وهاهنا قرينة تقتضي صرفه
عن الوجوب ، وهو تعليقه بشرط علم الخير فيه ، فتعلّق الوجوب على أمر باطن ، وهو
علم السيد بالخير فيه .
وإذا قال العبد :
كاتبني ، فقال السيد : لم أعلم فيك خيرا ، وهو أمر باطن ، فيرجع فيه إليه ، ويعوّل
عليه ، وهو قوىّ في بابه.
الثالث ـ قال
علماؤنا : مال العبد وأكسابه ملك السيد ، ورقبته ملك له ، فإذا قال العبد : خذ
كسبي وخلّص رقبتي فهو يطالبه بتفويت ملكه عنه ، فكأنه يقول : أعتقنى. وذلك لا يلزم
، وهو كلام قوىّ في الباب على مثبتى الاجتهاد ، ومن ردّه لا يلتفت إليه.
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
وفيه ثلاثة أقوال
:
الأول ـ أنه
القدرة على السعى والاكتساب ، وبه قال مالك والشافعى.
الثاني ـ أنّ
الخير المال ، وهو قول عطاء.
الثالث ـ أنه
الوفاء والصدق والأمانة ، وهو قول الشافعى الثاني.
فأما القول الأول
بأنه المال فلا إشكال فيه.
وأما القدرة على
الأداء بحسن السعى والاكتساب فظاهر أنه يلحق به ، لأنه مال منجّم يجتمع بالسعي في
مدّة الأجل.
وأما من قال : إنه
الصدق والأمانة فكأنه نظر إلى معنى هو مشروط في كل طاعة وفعل ، فلا تختصّ هذه
الكتابة باشتراطه وحدها.
المسألة الثامنة ـ
إذا كاتب عبده على مال قاطعه عليه نجوما ، فإن جعله حالّا فقد اختلف فيه السلف والعلماء
على قولين ، واختلف قول علمائنا باختلافهم .
والصحيح في النظر
أنّ الكتابة مؤجّلة ، كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع
أواق في كلّ عام أوقية. وكما فعلت الصحابة ، ولذلك سميت كتابة ، لأنها تكتب ويشهد
عليها ، فقد استوثق الاسم والأثر ، وعضده المعنى ، فإنّ المال إن جعله حالّا
فلا يخلو أن يكون عند العبد ، أو لا يكون عنده شيء ، فإن كان عنده ما قطعه عليه
فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة ، لا عقد كتابة ، وإن لم يكن عند العبد مال لم يجز أن
يجعل ما يكاتبه عليه حالّا ، لأنه أجل مجهول فيدخله الغرر ، وتقع المنازعة عند
المطالبة ، وذلك منهىّ عنه شرعا من جهة الغرر ، ومن جهة الدين ، مع ما فيه من
مخالفة السنة.
فإن قيل : إنما
جعل الأجل رفقا بالعبد ، فإن شاء أن يرتفق وإلا ترك حقّه.
قلنا : كلّ حقّ هو
إسقاط محض وترك صرف فهو جائر ، وكلّ حق يترك في عقد يعود عليه بالغرر لا يجوز
إجماعا. وقد أشبعنا القول في كتب الخلاف في هذه المسألة ، فمن أراده فلينظره
هنالك.
__________________
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أنه مال
الزكاة ، قاله إبراهيم ، والحسن ، ومالك.
الثاني ـ أنه جزء من مال الكتابة ، قاله علىّ وغيره ، وبه قال الشافعى.
وقدّره علىّ بربع
الكتابة ، وقدّره غيره بنجم من نجومها. ورأى الشافعى أنه مجهول ، وأنّ ذلك موقوف
على اجتهاد الحاكم بحسب ما يراه ، فإنه ينفذه في تركته ، ويقضى به عليه. واحتجّ
بمطلق الأمر في قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، وبقول علىّ ، وروى مثله عن عمر ، وليس للشافعي في
المسألة عمدة ، وإنما هي لعلمائنا. وقد أوضحنا ذلك في مسائل الخلاف ، ولو أنّ
الشافعى حين قال : إنّ الإيتاء واجب يقول : إنّ الكتابة واجبة ـ لكان تركيبا حسنا
، ولكنه قال : إن الكتابة لا تلزم والإيتاء يجب ، فجعل الأصل غير واجب ، والفرع
واجبا ، وهذا لا نظير له ، فصارت دعوى محضة.
فإن قيل : يكون
ذلك كالنكاح لا يجب ، فإذا انعقد وجبت أحكامه ، منها المتعة.
قلنا : عندنا لا
تجب المتعة ، فلا معنى لأصحاب الشافعى في التعلق بها.
والدليل القاطع
على أنّ الإيتاء غير واجب أنه لو كان واجبا غير مقدر ـ كما قال الشافعى ـ لكان
المال في أصل الكتابة مجهولا ، والعقد بالعوض المجهول لا يجوز أن يقال إنّ الله
شرعه ، وقد عضده علماؤنا بقول الله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ). ومال الله هو الزكاة ، والفى ، وليس بمال أوجب حقّا في
عقد ، وإن كان العباد وأموالهم لله ، ولكن مطلق اللفظ إنما ينطلق على الزكاة
والفيء.
فإن قيل : يحسن أن
يقال في هذا : إنه مال الله ، لأنه وجب لحقّ الله من الحرية ، وقصد به القربة
إليه.
قلنا : هذا مجاز ،
لا يصار إليه إلا لضرورة.
وبالجملة فإنّ
أصحاب الشافعى يريدون أن يجعلوا المجاز حقيقة ، ويعدلون باللفظ عن طريقه.
فإن قيل : فكيف
يفعلون بقول عمر وعلى؟
قلنا : سبحان من
لم يجعل الحجة إلا في قول صاحب المعجزة ، على أن الذي روى في ذلك إنما هو أنّ عمر
كاتب عبدا له هو جدّ ميمون بن جابان فقال له عمر : كم تعرض؟ فقال عبده : أعرض
مائتي أوقية. قال : فما استزادنى ، وكاتبني عليها ، فأراد أن يعجّل لي من ماله
طائفة ، فأرسل إلى حفصة أم المؤمنين : إنى كاتبت غلامي ، فأردت أن أعجّل له طائفة
من مالي ، فأرسلى إلىّ بمائتي درهم إلى أن يأتينا بشيء ، فأرسلت بها إليه ، فأخذها
عمر بيمينه ، وقرأ هذه الآية : (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، فخذها ، فبارك الله لك فيها. قال : فبارك الله لي فيها ،
عتقت منها ، وأصبت خيرا كثيرا.
وقال على في قول الله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) قال : ربع الكتابة. وكاتب عبدا له على أربعة آلاف درهم ،
فوضع عنه ربعها ، وهذا من فعل عمر ، وقول علىّ وفعله لا يقتضى إلا الندب ، وليس
فيه على الوجوب دليل لا سيما وقد خالفهما عثمان ، فروى أنه كاتب عبده ، وحلف ألّا
يحطّه ... في حديث طويل.
المسألة العاشرة ـ
في أى وقت يؤتى؟ فيه أربعة أقوال :
الأول ـ قال ابن
وهب سمعت مالكا يقول ـ وسألته عما يترك للمكاتب من كتابته التي يكاتب عليها : متى
يترك ، وكيف يكتب؟ فقال مالك : يكتب في كتابه أنه كاتب على كذا ، وقد وضع عنه من
أجر كتابته كذا.
الثاني ـ أنه يترك
له من كل نجم ، قاله مجاهد.
الثالث ـ يوضع عنه من آخر الكتابة ، قاله على بن أبى طالب.
الرابع ـ يوضع عنه
من أولها ، قاله عمر وفعله.
والأقوى عندي أنه
يكون في آخرها ، ليستفيد بذلك براءته مما عليه ، وحصول العتق له ، والإسقاط أبدا
إنما يكون في أخريات الديون.
المسألة الحادية
عشرة ـ اختلفوا في صفة عقد الكتابة ، وروى أنه كان يقول : كاتبتك على
ألفين في عامين.
وروى أنه يقول : فإذا أدّيت فأنت حر ، وهذا لا يلزم ، لأن لفظ القرآن لا يقتضيه
والحال يشهد له ، فإن ذكره فحسن ، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).
قال جابر بن عبد
الله : كانت جارية لعبد الله بن أبىّ يقال لها مسيكة فأكرهها على البغاء ، فقالت له : لئن كان هذا خيرا لقد
استكثرت منه ـ وروى لقد استنكرت منه ـ وإن كان شرّا لقد بان لي أن أدعه. فأنزل
الله الآية.
وروى الزهري أنه
كان لعبد الله بن أبىّ جارية يقال لها معاذة ، وكان رجل من قريش أسر يوم بدر ،
فكان عنده وكان القرشىّ يريد الجارية على نفسها ، وكانت الجارية تمتنع منه
لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبىّ يضربها على امتناعها من القرشي ، رجاء أن تحمل
منه ، فيطلب فداء ولده ، فأنزل الله الآية. وكذا روى مالك عن الزهري نحوه.
المسألة الثالثة
عشرة ـ وقع في مطلق هذه الآية النهى عن الإكراه على الزنا إن أرادت المكرهة
الإحصان ، ولا يجوز الإكراه بحال ، فتعلّق بعض الغافلين بشيء من دليل الخطاب في
هذه الآية ، وذكروه في كتب الأصول لغفلتهم عن الحقائق في بعض المعاني ، وهذا مما
لا يحتاج إليه ، وإنما ذكر الله إرادة التحصّن من المرأة ، لأن ذلك هو الذي يصوّر
الإكراه ، فأما إذا كانت راغبة في الزنا لم يتصوّر إكراه ، فحصّلوه إن شاء الله.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قد تكلمنا على الإكراه فيما سبق ، وهذه الآية تدلّ على تصوّر الإكراه في
الزنا ، خلافا لمن أنكر ذلك من علمائنا ، وهو ابن الماجشون وغيره ، ولا ينهى الله
إلا عن متصوّر ، ولا يقع التكليف إلا بما يدخل تحت القدرة ، ولذلك قلنا : إنه لا
حدّ عليه ، لأن الإكراه يسقط حكم التكليف :
فإن قيل : إنّ
الزاني ينتشر ويشتهى إذا اتصل بالمرأة طبعا.
قلنا : الإلجاء إلى
ذلك هو الذي أسقط حكمه.
المسألة الخامسة
عشرة ـ نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن مهر
__________________
البغىّ
وحلوان الكاهن ، فإن من البغايا
من كان يأخذ عوضا عن البغي ، وكذلك كان جرى في هذه القصة روى مجاهد في قوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ) : قال : كانوا يأمرون ولائدهم فيباغين فكنّ يفعلن ذلك
فيصبن ، فيأتينهم بكسبهن. وكانت لعبد الله بن أبىّ ابن سلول جارية ، وكانت تباغى ،
فكرهت ذلك ، وحلفت ألّا تفعله ، فانطلقت فباغت ببرد أخضر ، فأتتهم به ، فأنزل الله
الآية.
المسألة السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ مِنْ
بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
هذه المغفرة إنما
هي للمكره لا للذي أكره عليه وألجأ المكره المضطر إليه ، ولذلك كان يقرؤها عبد
الله بن مسعود ، فإن الله من بعد إكراههن لهنّ غفور رحيم. والمغفرة تتعلق بالمكره
المضطر إليه فضلا من الله ، كما قال في الميتة : (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ
فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ
يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
هذه آية عظيمة قد
بيناها في كتاب المشكلين ، وفي قانون التأويل ، وأوضحنا المراد منها على أقوال
العلماء ، وهذا الحرف منها ذكره بعض الأحكاميين ، فرأينا ألا نخلى هذا المختصر
منه. واختلف في هذه الشجرة على ستة أقوال :
الأول ـ أنها ليست
من شجر الشرق دون الغرب ، ولا من شجر الغرب دون الشرق ، لأنّ الذي يختصّ بإحدى
الجهتين كان أدنى زيتا ، وأضعف ضوءا. ولكنها ما بين الشرق والغرب ، كالشام ،
لاجتماع الأمرين فيه ، وهو قول مالك.
وفي رواية ابن وهب
عنه ، قال : هو الشام ، الشرق من هاهنا والغرب من هاهنا ، ورأيته لابن شجرة أحد
حذّاق المفسرين.
__________________
الثاني ـ أنها
ليست بشرقية تستر عن الشمس عند الغروب ، ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع ، بل
هي بارزة ، وذلك أحسن لزيتها أيضا ، قاله قتادة.
الثالث ـ أنها وسط
الشجر ، لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت ، وذلك أجود لزيتها ، قاله عطية.
الرابع ـ أنها ليس
في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها ، قاله يحيى بن سلام.
الخامس ـ أنها من
شجر الجنة لا من الدنيا ، قاله الحسن.
السادس ـ أنها
مؤمنة ليس بنصرانية تصلّى إلى الشرق ، ولا يهودية تصلى إلى الغرب ، وهو قول ابن
عمر.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضى الله عنه : لا خلاف بين المحققين الذين ينزلون التفسير منازله ،
ويضعون التأويل مواضعه من غير إفراط ولا تفريط ـ أنّ هذا مثل ضربه الله لنوره ،
ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظّم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه ، لأن الخلق
بقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم ، ولو لا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده
، وأنور المصابيح في الدنيا مصباح يوقد من دهن الزيتون ، ولا سيما إذا كانت مفردة
قد تباعد عنها الشجر فخلصت من الكلّ ، وأخذتها الشّمس من كل جانب ، فذلك أصفى
لنورها ، وأطيب لزيتها ، وأنضر لأغصانها ، وذلك معنى بركة هذه الشجرة التي فهمها
الناس حتى استعملوها في أشعارهم ، فقالوا :
بورك الميت
الغريب كما
|
|
بورك نضر الرمّان والزيتون
|
وقد رأيت في
المسجد الأقصى زيتونة كانت بين محراب زكريّا وبين باب التوبة والرحمة الذي يقولون
: إنه المراد بقوله : باب باطنه فيه الرحمة ، يعنى المسجد الأقصى ، وظاهره من قبله
العذاب بشرقيّه دون السور ، وادي جهنم ، وفوقه أرض المحشر التي تسمّى بالساهرة ،
فكانوا يقولون : إنها الشجرة المذكورة في هذه الآية. وربّك أعلم.
ومن غريب الأثر أن بعض علمائنا الفقهاء قال : إن هذا مثل ضربه الله
لإبراهيم ،
__________________
ومحمد ، ولعبد
المطلب ، وابنه عبد الله ، فالمشكاة هي الكوّة بلغة الحبشة ، فشبّه عبد المطلب
بالكوّة فيها القنديل ، وهو الزجاجة ، وشبّه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة ،
ومحمد كالمصباح ، يعنى من أصلابهما ، وكأنه كوكب درّيّ وهو المشترى ، يوقد من شجرة
مباركة يعنى إرث النبوة من إبراهيم ، هو الشجرة المباركة ، يعنى حنيفية لا شرقية
ولا غربية ، لا يهودية ولا نصرانية ، يكاد زيتها يضيء ، ولو لم تمسسه نار.
يقول : يكاد
إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه ، نور على نور إبراهيم ثم محمد.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : وهذا كلّه عدول عن الظاهر ، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسّع
المرء فيه ، ولكن على الطريقة التي شرعناها في قانون التأويل لا على الاسترسال
المطلق الذي يخرج الأمر عن بابه ، ويحمّل على اللفظ ما لا يطيقه ، فمن أراد الخبرة
به والشفاء من دائه فلينظر هنالك.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ اختلف
في البيوت على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها
المساجد ، وهو قول ابن عباس ، وجماعة.
الثاني ـ أنها بيت
المقدس ، قاله الحسن.
الثالث ـ أنها
سائر البيوت ، قاله عكرمة.
المسألة الثانية ـ
قوله : (تُرْفَعَ) فيها ثلاثة أقوال :
الأول ـ تبنى ـ كما
قال : (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ، قاله مجاهد.
الثاني ـ تطهّر من
الأنجاس والأقذار ، كقوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ).
__________________
الثالث ـ أن تعظم
، قاله الحسن.
فأما من قال : إن
معناها تبنى فهو متمعّن ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة.
ومن قال : إنها
تطهّر من الأقذار والأنجاس فذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : إن المسجد لينزوى من النجاسة كما تنزوى
الجلدة من النار. وهذا في النجاسة
الظاهرة ، فما ظنّك بغيرها؟ وأما من قال : إنها ترفع فالرفع حسّا كالبناء ، وحكما
كالتطهير والتنظيف ، وكما تطهر عن ذلك فإنها مطهّرة عن اللغو والرفث ، لقوله ، وهي
:
المسألة الثالثة ـ
(وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ). وهذا يدلّ على أنها المساجد كلها ، ضرب الله المثل لنوره
بالزيت الذي يتوقّد منه المصباح في البقعة المكرمة ، وهي المساجد ، تتميما لتشريف
المثل بالمثل وجلاله من كل جهة. وقد بينا في شرح الحديث من ذكر المساجد جملا عظيمة
تربو على المأمول فيه.
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى الطبرىّ أنّ
رجلا من المنافقين كان يقال له بشر ، كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة ، وكان
اليهودي يدعوه إلى [التحاكم عند] النبىّ ، وكان المنافق يدعوه إلى كعب بن الأشرف ، وقال :
إن محمدا يحيف علينا ، وكان المنافق إذا توجّه عليه الحق دعا إلى غير النبي ، وإذا
كان له الحق دعاه إليه ليستوفيه له ، فنزلت الآية فيه.
المسألة الثانية ـ
قد بينا أنه إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ـ أنّ القضاء يكون للمسلمين لا حقّ
لأهل الذمة فيه ، وإن كان بين ذميين فذلك إليهما ، فإذا جاء قاضى الإسلام فإن شاء
حكم وإن شاء أعرض ، حسبما تقدم بيانه مستوفى ، والحمد لله.
__________________
المسألة الثالثة ـ
هذه الآية دليل على وجوب إجابة الدعوى إلى الحاكم ، لأنّ الله سبحانه ذمّ من دعى
إلى رسول الله ليحكم بينه وبين خصمه ـ فلم يجب ـ بأقبح المذمة ، وقد بيّنا في أصول
الفقه أنّ حدّ الواجب ما ذمّ تاركه شرعا ، والله أعلم.
وقد روى أبو
الأشعث ، عن الحسن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دعى إلى حاكم من المسلمين فلم يجب
فهو ظالم ، ولا حقّ له. وهو حديث باطل ، فأما قوله : فهو ظالم فكلام صحيح. وأما قوله : لا حقّ له فلا
يصحّ. ويحتمل أن يريد به أنه على غير الحق.
الآية الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ
مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ، يعنى غاية أيمانهم ، وقد تقدم بيانه.
المسألة الثانية ـ
نزلت في قوم كانوا يتخلّفون عن الجهاد ثم يعتذرون ، فإذا عوتبوا قالوا : لو أمرتنا
يا رسول الله لخرجنا ، ويحلفون على ذلك ، فقال الله لهم : (لا تُقْسِمُوا) ، ثم قال : وهي :
المسألة الثالثة ـ
طاعة معروفة ، وفيها ثلاث تأويلات :
الأول ـ طاعة
معروفة أمثل.
الثاني ـ طاعة
معروفة بينكم فيها الكذب ، أى هي طاعة الله معروفة قولا ، باطلة قطعا ، لا
يفعلونها إلا إذا أمرتهم ولو لم يؤمروا ما فعلوا.
الثالث ـ قال
مجاهد : معنى قوله : طاعة معروفة. أنكم تكذبون ، يعنى ليست لكم طاعة. وقد قرئت «طاعة»
بالنصب على المصدر ، ويكون قوله طاعة منصوبة ابتداء كلام ، ويرجع المعنى فيه إلى
قول مجاهد ، إلا أن الإعراب يختلف ، والمعنى واحد.
__________________
الآية الثالثة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أن بعض أصحاب
النبىّ صلى الله عليه وسلم شكا إليه ما هم فيه من العدوّ ، وتضييقه عليهم ، وشدة
الخوف ، وما يلقون من الأذى ، فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم ، فأنجزه الله ،
وملكهم ما وعدهم ، وأظهرهم على عدوّهم.
وروى أبو العالية
قال : مكث النبىّ عشر سنين
خائفا يدعو إلى الله سرّا وجهرا ، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة ، فمكث بها وأصحابه
خائفين يصبحون في السلاح ويمسون ، فقال رجل : ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ، ونضع
عنا السلاح! فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة معناها : لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس
بيده حديدة ، وأنزل الله هذه الآية.
المسألة الثانية ـ
قال مالك : نزلت هذه الآية في أبى بكر وعمر : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ... إلى آخرها.
وقال علماؤنا :
هذه الآية وعد حق وقول صدق ، يدلّ ذلك على صحة إمامة الخلفاء الأربعة ، لأنه لم
يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا ، فأولئك مقطوع بإمامتهم ، متّفق عليهم.
وصدق وعد الله فيهم ، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم واستقرّ الأمر لهم ، وقاموا
بسياسة المسلمين ، وذبّوا عن حوزة الدّين ، فنفذ الوعد فيهم ، وصدق الكلام فيهم ،
وإذا لم يكن هذا الوعد بهم ينجز ، وفيهم نفذ ، وعليهم ورد ففيمن يكون إذن؟ وليس
بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا ، ولا يكون فيما بعده. قام أبو بكر بدعوة الحق ، واتفاق
الخلق ، وواضح الحجة ، وبرهان
__________________
الدين ، وأدلة
اليقين ، فبايعه الصحابة ، ثم استخلف عمر فلزمت الخلافة ، ووجبت النّيابة ، وتعيّن
السمع والطاعة ، ثم جعلها عمر شورى ، فصارت لعثمان بالنظر الصحيح ، والتبجيل
الصريح ، والمساق الفسيح ، جعل الثلاثة أمرهم إلى ثلاثة ، ثم أخرج عبد الرحمن نفسه
بشرط أن يكون إلى من اختاره من الرجلين ، فاختار عثمان ، وما عدل عن الخيار ،
وقدمه ، وحقّه التقديم على علىّ.
ثم قتل عثمان
مظلوما في نفسه ، مظلوما جميع الخلق فيه ، فلم يبق إلا علىّ أخذا بالأفضل فالأفضل
، وانتقالا من الأول إلى الأول ، فلا إشكال لمن جنف عن المحال أنّ التنزيل على هؤلاء الأربعة وعد الله في هذه
الآية.
ثم كملت لحال أبى
بكر فاتحة وخاتمة.
ثم كملت لعمر ،
وكسر الباب ، فاختلط الخشار باللباب ، وانجرت الحال مع عثمان واضحة للعقلاء ، معترضا
عليها من الحمقى ، ثم نفذ القدر بقتله إيثار للخلق منه على نفسه وأهله ، ثم قام
علىّ أحسن قيام لو ساعده النقض والإبرام ، ولكنه وجد الأمور نشرا ، وما رام رتق خصم إلا انفتق عليه خصم ، ولا حاول طىّ منتشر إلّا عارضه
عليه أشر ، ونسبت إليه أمور هو منها برىء براءة الشمس من الدّنس ، والماء من القبس
، وطالبه الأجل حتى غلبه ، فانقطعت الخلافة ، وصارت الدنيا ملكا تارة لمن غلب
، وأخرى لمن خلب ، حتى انتهى الوعد الصادق ابتداؤه وانتهاؤه.
أما الابتداء فهذه
الآية ، وأما الانتهاء فبحديث سفينة ، قال سعيد بن حمدان ، عن سفينة ، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : خلافة
النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتى الله الملك من يشاء.
قال سعيد : قال لي
سفينة : أمسك عليك ، أبو بكر سنتين ، وعمر عشرا ، وعثمان اثنى عشر ، وعلى كذا .
قال سعيد : قلت
لسفينة : إنّ هؤلاء يزعمون أنّ عليّا لم يكن خليفة. قال : كذبت ،
__________________
استاءه بنور
الزرقاء ـ يعنى بنى مروان ـ زاد في رواية : اعدد ، أبو بكر كذا ، وعمر كذا ،
وعثمان كذا ، وعلى كذا ، والحسن ستة أشهر ، فهؤلاء ثلاثون سنة.
وقد روى الترمذىّ
وغيره أنّ رجلا قام إلى
الحسن بن على بعد ما بايع معاوية ، فقال له : يا مسوّد وجوه المؤمنين. فقال : لا
بأس ، رحمك الله ، فإنّ النبي أرى بنى أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ). ونزلت : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ). يملكها بعدك بنو أمية يا محمد.
قال القاسم ـ راوي
الحديث : فعددناها فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد ولا تنقص.
وفي الحديث الصحيح
أنّ النبي أجلس الحسن في حجره على المنبر ، وقال : إن
ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
المسألة الثالثة ـ
فإن قيل هذا الوعد يصحّ لكم في أبى بكر وحده ، فأما عمر فأىّ أمن معه ، وقد قتل
غيلة. وعثمان قد قتل غلبة ، وعلىّ قد نوزع بالجنبة والجلبة.
قلنا : هذا كلام
جاهل غبىّ أو متهاون ، يكنّ على نفاق خفىّ ، أمّا عمر وعثمان فجاءهما أجلهما ،
وماتا ميتتهما التي كتب الله لهما ، وليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأى وجه
وقع.
وأما علىّ فلم يكن
نزاله في الحرب مذهبا للأمن ، فليس من شرط الأمن رفع الحرب ، إنما من شرطه ملك
الإنسان لنفسه باختياره ، وسلامته عن الغلبة المشحونة بالذّلة ، كما كان أصحاب
النبي بمكة ، فأما بعد ما صاروا إلى المدينة فقد آلوا إلى الأمن والعزّة.
في الصحيح عن
خبّاب بن الأرتّ ، قال : شكونا
إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة ، فقلنا له : ألا
تستنصر لنا! ألا تدعو الله لنا! قال : كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض
، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيشقّ باثنين ، وما يصدّه ذلك عن
دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحم من عظم وعصب ، وما يصدّه ذلك عن دينه ،
والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ، لا يخاف إلا الله
والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون.
__________________
وحقيقة الحال أنهم
كانوا مقهورين فصاروا قاهرين ، وكانوا مطلوبين فعادوا طالبين ، وهذا نهاية الأمن
والعز .
المسألة الرابعة ـ
قال قوم : إن هذا وعد لجميع الأمّة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام ، كما قال
صلى الله عليه وسلم : زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى
لي منها.
قلنا لهم : هذا
وعد عامّ في النبوة والخلافة ، وإقامة الدعوة ، وعموم الشريعة ، بنفاذ الوعد في كل
أحد بقدره وعلى حاله ، حتى في المفتين والقضاة والأئمة ، وليس للخلاف محلّ تنفذ
فيه هذه الموعدة الكريمة إلّا من تقدّم من الخلفاء الأربعة.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أنها أرض
مكة ، وعدت الصحابة أن يستخلفوا فيها الكفار.
الثاني ـ أنها
بلاد العرب والعجم.
وهو الصحيح ، لأن
أرض مكة محرّمة على المهاجرين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن البائس سعد بن خولة ـ يرثى له رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
وقال في الصحيح
أيضا : يمكث المهاجر بمكة
بعد قضاء نسكه ثلاثا. من رواية العلاء بن الحضرمي.
الآية الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ
صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ
__________________
عَلَيْكُمْ
وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فيها اثنتا عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ هذه
آية خاصة ، والتي قبلها عامة ، لأنه قال فعمّ : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ، ثم خصّ هاهنا : فقال : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، فخصّ في هذه الآية بعض المستأذنين ، وهم الذين ملكت
أيمانكم من مسألة جميع المسلمين في الآية قبلها ، وكذلك أيضا تناول القول في الآية الأولى جميع الأوقات عموما ، وخصّ في هذه
الآية بعض الأوقات ، وهي المفسرة على ما يأتى ذكره إن شاء الله.
المسألة الثانية ـ
في قوله : (مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ).
ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنهم
الذكران والإناث.
الثاني ـ أنه
العبد دون الأمّة ، قاله ابن عباس ، وابن عمر.
الثالث ـ أنهن
الإناث ، قاله أبو عبد الرحمن السلمى.
المسألة الثالثة ـ
هل الآية محكمة أو منسوخة؟
فقال ابن عمر : هي
محكمة ، يعنى في الرجال خاصّة. وقال ابن عباس : قد ذهب حكمها ، روى عكرمة أنّ نفرا
من أهل العراق سألوا ابن عباس ، فقالوا : يا ابن عباس ، كيف ترى في هذه الآية التي
أمرنا فيها بما أمرنا ، فلا يعمل بها أحد ، قول الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ... وقرأها إلى قوله تعالى : (عَلى بَعْضٍ)؟ فقال ابن عباس : إنّ الله رفيق بجميع المؤمنين يحبّ
الستر. وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم أو ولده أو يتيمه ، والرجل على أهله ،
فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور ، والخير ، فلم أر
أحدا يعمل بذلك.
__________________
وهذا ضعيف جدّا
بما بيناه في غير موضع من أنّ شروط النسخ لم تجتمع فيه من المعارضة ، ومن التقدم
والتأخر ، فكيف يصحّ لناظر أن يحكم به؟
المسألة الرابعة ـ
في التنقيح :
اعلموا وفّقكم
الله أنّ الحجبة واقعة من الخلق شرعا ، ولذلك وجب الاستئذان حتى يخلص به
المحجور من المطلق ، والمحظور من المباح ، وقد قال الله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها). ثم قال : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) على ما شرحناه ، فاستثنى ما ملكت اليمين من المحجور ، ثم
استثنى في ملك اليمين هذه الأوقات الثلاثة ، فالعبد إذا كان وغدا ، أو ذا منظرة ، وكان حكمه في الحجبة على صفة فإن هذه الأوقات الثلاث لا
يدخل فيها عبد كيفما كان ولا أمة إلا بعد الاستئذان.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، فذكر قبل صلاة الفجر ، وعند الظّهيرة ، وهي القائلة ،
ومن بعد صلاة العشاء ، وهي أوقات الخلوة التي يكون فيها التصرف بخلاف الليل كلّه ،
فإنه وقت خلوة ، ولكن لا تصرّف فيه ، لأنّ كل أحد مستغرق بنومه ، وهذه الأوقات
الثلاثة أوقات خلوة وتصرّف ، فنهوا عن الدخول بغير إذن لئلا يصادفوا منظرة مكروهة.
وفي الصحيح : كان
النبىّ صلى الله عليه وسلم يصلّى كذا وركعتين قبل صلاة الصبح ، وكانت ساعة لا يدخل
على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ـ من حديث ابن عمر.
وفي رواية عنه :
لا أدخل.
وعن عائشة : كان النبىّ صلى الله عليه وسلم ينام أول
الليل ، ويقوم آخره ، ثم يرجع إلى فراشه حتى يأتيه المؤذّن ، فإن كانت به حاجة
اغتسل ، وإلّا توضّأ وخرج ـ رواه البخاري وغيره.
وفي الآثار
التفسيرية أنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم أرسل إلى عمر غلاما من الأنصار ـ يقال له مدلج ـ في الظهيرة ، فدخل على
عمر بغير إذن ، فأيقظه بسرعة ، فانكشف شيء من جسده ،
__________________
فنظر
إليه الغلام ، فحزن لها عمر فقال : وددت أنّ الله بفضله نهى عن الدخول علينا في
هذه الساعات إلا بإذننا. ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه
الآية قد أنزلت عليه ، فحمد الله.
المسألة السادسة ـ
يريد بقوله : (صَلاةِ الْعِشاءِ) التي يدعوها الناس العتمة.
وفي الصحيح من
رواية عبد الله بن المغفل المزني أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم
المغرب. قال : والأعراب تقول العشاء ، وتسمّى أيضا العشاء العتمة ، ففي الحديث الصحيح :
لو يعلمون ما في
العتمة والفجر لأتوهما ولو حبوا.
وفي البخاري أيضا
، عن أبى برزة : كان
النبي صلى الله عليه وسلم يؤخّر العشاء.
وقال أنس :
أخّر النبىّ صلى
الله عليه وسلم العشاء الآخرة.
وفي حديث عائشة : أعتم النبىّ صلى الله عليه وسلم
بالعتمة.
وقول أنس في
البخاري : العشاء الآخرة يدلّ على العشاء الأولى.
وفي الحديث :
لا يغلبنّكم
الأعراب على اسم صلاتكم العشاء يدعونها العتمة ، لأنهم يعتمون بحلاب الإبل.
وهذه أخبار
متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ ، لكن كلّ حديث بذاته يبيّن وقته ،
وذلك أنّ النّهى من النبىّ صلى الله عليه وسلم عن تسمية صلاة المغرب عشاء ، وعن
تسمية صلاة العشاء عتمة ثابت ، فلا مردّ له من أقوال الصحابة فضلا عمّن عداهم.
وقد كان ابن عمر
يقول : من قال صلاة العتمة فقد أثم. وقال ابن القاسم : قال مالك : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ
عَوْراتٍ لَكُمْ) ، فالله سماها صلاة العشاء ، فأحبّ النبىّ صلى الله عليه
وسلم أن تسمّى بما سمّاها به الله ، ويعلّمها الإنسان أهله وولده ، ولا يقل عتمة
إلا عند خطاب من لا يفهم ، وقد قال حسان :
وكانت لا يزال
بها أنيس
|
|
خلال مروجها نعم
وشاء
|
فدع هذا ولكن من
لطيف
|
|
يؤرّقنى إذا ذهب
العشاء
|
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ). العورة كلّ شيء لا مانع دونه. ومنه قوله تعالى : (إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ). أى سهلة المدخل ، لا مانع دونها ، فبين العلّة الموجبة
للإذن ، وهي الخلوة في حال العورة ، فتعيّن امتثاله ، وتعذّر نسخه ، ثم رفع الجناح
بعدهن في ذلك ، وهو الميل بالعتاب أو العقاب على الفاعل ، وهي :
المسألة الثامنة ـ
ثم بيّن العلة الأصلية والحالة الأهلية ، وهي :
المسألة التاسعة ـ
قوله : (طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ) ، أى متردّدون عليكم في الخدمة ، وما لا غنى بكم عنه منهم
، فسقط الحرج عن ذلك ، وزال المانع ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الهرة حين أصغى لها الإناء : إنها من الطوّافين عليكم أو الطّوّافات. وذلك
مسقط لحكم سؤرها في مباشرتها النجاسة وحملها أبدا على الطهارة ، إلا أن يرى في
فمها أذى.
المسألة العاشرة ـ
قوله : (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) ، يريد بعضكم من بعض في المخالطة والملابسة ، فلذلك سقط
الاستئذان لهم عليكم ، ولكم عليهم ، كما ارتفع الجناح بينكم وبينهم ، منهم لكم ، ومنكم لهم.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمُ الْآياتِ).
المعنى يبيّن الله
الآيات الدالة على المعجزة والتوحيد ، كما يبين الآيات الدالة على الأحكام ، وقد
بينا في كتب الأصول ما يدلّ الشّرع عليه ، وما يدلّ العقل عليه ، وما يشترك فيه
دليل العقل والشرع بأوضح بيان. والله أعلم.
المسألة الثانية
عشرة ـ لا بأس أن يجلس الرجل مع أهله وفخذه منكشفة ، وحديث جرهد ـ وكان من أصحاب الصّفة أنه قال : جلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفة ، فقال : خمّر عليك ، أما علمت
أن الفخذ عورة ، وقد غطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول عثمان ، لأنها
كانت منكشفة من جهته التي جلس منها.
__________________
ومن حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جدّه : إذا زوّج أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة
وفوق الركبة ، فإنه عورة.
وقال الأوزاعى :
إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم جرهدا لأنه كان في المسجد مريضا ، وليس الفخذ
عورة.
الآية الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فيها مسألة واحدة
:
هذه الآية مبينة
قوله : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) ، فكان الطفل مستثنى من عموم الحجبة في الآية الأولى إذا
لم يظهر على العورة ، ثم بين الله أنّ الطفل إذا ظهر على العورة ، وهو بالبلوغ ،
يستأذن ، وقد كان قوله : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) كافيا لأنّ المستثنى طفل بصفته المختصة به ، ويبقى غيره
على الحجر ، فكانت هذه الآية زيادة بيان ، لإبانة الله في أحكامه وإيضاح حلاله
وحرامه.
الآية السادسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ
خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (الْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) ، جمع قاعد بغير هاء فرقا بينها وبين القاعدة من الجلوس في
قول بعضهم. وهن اللواتي قعدن عن الحيض وعن الولد ، فليس فيهنّ رغبة لكل أحد ، ولا
يتعلق بهن القلب في نكاح ، ويجوز النّظر إليهنّ بخلاف الشباب منهنّ.
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ
جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ).
فيه قولان :
أحدهما ـ جلبابهنّ
، وهو قول ابن مسعود ، يعنى به الرّداء أو المقنعة التي فوق الخمار تضعه عنها إذا
سترها ما بعده من الثياب.
والثاني ـ تضع
خمارها ، وذلك في بيتها ، ومن وراء سترها من ثوب أو جدار ، وذلك قوله : غير
متبرّجات بزينة ، يعنى وهي :
المسألة الثالثة ـ
غير مظهرات لما يتطلّع إليه منهنّ ، ولا متعرضات بالتزيين للنظر إليهنّ ، وإن كنّ
ليس بمحل ذلك منهن ، وإنما خصّ القواعد بذلك دون غيرهنّ لانصراف النفوس عنهن ،
ولأن يستعففن بالتستر الكامل خير لهن من فعل المباح لهن من وضع الثياب. والله
أعلم.
المسألة الرابعة ـ
من التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصفها ، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم
في الحديث الصحيح : ربّ
نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها. وإنما جعلهنّ كاسيات لأنّ الثياب عليهن ، وإنما وصفهن
بعاريات لأنّ الثّوب إذا رقّ يكشفهن ، وذلك حرام.
الآية السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً
طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
__________________
فيها أربع عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفي ذلك ثمانية
أقوال :
الأول ـ أنّ
الأنصار كانوا يتحرّجون إذا دعوا إلى طعام أن يأكلوا مع هؤلاء من طعام واحد ،
ويقولون : الأعمى لا يبصر طيّب الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزّحام عند الطعام ،
والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام ، وكانوا يعزلون طعامهم مفردا ، ويرون
أنه أفضل ، فأنزل الله الآية ، ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم ، وهذا قول ابن عباس. الثاني
ـ أن أهل الزّمانة هؤلاء ليس عليهم حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد
هذا من أهاليهم ، قاله مجاهد.
الثالث ـ رواه
مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ـ أن الآية نزلت في أناس كانوا إذا خرجوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعنون في الجهاد ـ وضعوا مفاتيح بيوتهم عند أهل
العلّة ممن يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند الأعمى ، والأعرج ،
والمريض ، وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى
ذلك ، فكانوا يتّقونه ويقولون : نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة ، فأنزل الله هذه
الآية يحلّه لهم.
الرابع ـ أن على
بن أبى طلحة روى عن ابن عباس لما أنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ). فقال المسلمون : إنّ الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا
بالباطل ، والطعام هو من أفضل الأموال ، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكفّ
الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله .... أو ما ملكتم مفاتحه. وهو الرجل
يوكل الرجل بضيعته.
الخامس ـ من دعى
إلى وليمة من هؤلاء الزّمنى فلا حرج عليه أن يدخل معه قائده.
السادس ـ أنها
نزلت حين كانت البيوت لا أبواب لها والستور مرخاة ، والبيت يدخل ، فربما لم يوجد
فيه أحد ، والبيوت اليوم فيها أهلها ، فإذا خرجوا أغلقوها.
__________________
السابع ـ أنها
نزلت في جواز مبايعة الزّمنى ، ومعاملتهم ، قالته عائشة.
الثامن ـ قاله
الحسن : قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) : نفى لوجوب الجهاد عليهم. وقوله تعالى بعد ذلك : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلام مستأنف خوطب به جميع الناس.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ) يعنى ولا عليكم أيها الناس ، ولكن لما اجتمع مخاطب وغير
مخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام. وكان المعنى يراد به جميع من ذكر ، من الأعمى ،
والأعرج ، والمريض ، وأصحاب البيوت.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ).
فيه ثلاثة أقاويل
:
الأول ـ يعنى من
أموال عيالكم وأزواجكم ، لأنهم في بيته.
الثاني ـ من بيوت
أولادكم ، ونسبت بيوت أولادهم إليهم لما جاء في الأثر : أنت ومالك لأبيك ، ولذلك
لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب ، لدخولهم فيما تقدّم من
ذكر الأنفس ، كما قررناه.
الثالث ـ أن
المراد به البيوت التي أهلوها وساكنوها خدمة لأصحابها.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (أَوْ بُيُوتِ
آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ).
فأباح الأكل
لهؤلاء من جهة النّسب من غير استئذان في الأكل إذا كان الطعام مبذولا. فإن كان
محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه ، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادّخار ، ولا إلى ما ليس
بمأكول ، وإن كان غير محرز عنهم إلا بإذن منهم ، وهي المسألة الخامسة.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ).
فيه ثلاثة أقوال :
أحدها ـ أنه عنى
به وكيل الرجل على ضيعته ، وخازنه على ماله ، فيجوز له ، أن يأكل مما هو قيّم عليه
، قاله ابن عباس.
الثاني ـ أنه أراد
به منزل الرجل نفسه ، يأكل مما ادّخره فيه ، وهذا قول قتادة.
الثالث ـ أنه عنى
به أكل السيد من منزل عبده وماله ، لأن مال العبد لسيده ، حكاه ابن عيسى.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (أَوْ صَدِيقِكُمْ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أن يأكل
من بيت صديقه في وليمة أو غيرها إذا كان الطعام حاضرا غير محرز ، قاله ابن عباس.
والأصدقاء أكثر من الآباء ، ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ،
وإنما قالوا : (فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ).
المسألة الثامنة ـ
في تنقيح معاني الآية المذكورة في المسائل السبعة ، وذلك يكون بنظم التأويل في
الأقوال على سرد ، فيتبيّن المعنى المستقيم من غيره.
أما إن قلنا بقول
الحسن من أن نفى الحرج عن الثلاثة الأصناف الزّمنى مقطوع عما قبله ، وأنّ قوله
تعالى : (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ) كلام مستأنف. وأما قول من قال في الأول : إن الأنصار
تحرّجوا أن يأكلوا معهم ، فلو كان هذا صحيحا لكان المعنى ليس على من أكل مع هؤلاء
حرج ، فأما أن يتحرّج غيرهم منهم ، وينفى الحرج عنهم ، فهو قلب للقول من غير ضرورة
عقل ولا رواية صحيحة في نقل.
وأما القول الثاني
فإنه كلام ينتظم ، لأن نفى الحرج عن أصحاب الزّمانة وعمّن سواهم أن يأكلوا من بيوت
من سمى الله فهو كلام منتظم ، ولكن بقي وجه الفائدة في تخصيص أهل الزمانة بالذّكر
، مع أن عموم قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) يكفى في تخصيصهم ، فيحتمل أن يكون وجهه أنه بدأ بهم ،
لأنهم رأوا أنهم بضرارتهم أحقّ من الأصحّاء بالمواساة والمشاركة.
وأما رواية مالك
عن ابن المسيب فهو أيضا كلام منتظم ، لأجل تخلّفهم عنهم في الجهاد ، وبقاء أموالهم
بأيديهم ، لكن قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ) قد اقتضاه وأفاده ، فأىّ معنى لتكراره ، فكأن هذا القول
بعيد جدّا.
__________________
وأما القول بأنه
بيان لقوله : (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) فينتظم معنى ، لكن ذكر الزّمانة غير مختصّ به ولا منتظم
معه.
وأما القول الخامس
في أكل الأصحّاء مع الزّمنى فذلك مدخول بما دخل به القول الأول ، من أنّ نظام
الكلام في نفى الحرج عن الناس في الزّمنى لا عن الزّمنى فيهم.
وأما السادس فحسن
جدّا ، وكذلك السابع مثله لو عضدته صحّة النقل.
المسألة التاسعة ـ
في المختار : وذلك أن يقال : إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلّق بالتكليف
الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به المشي ، وما يتعذّر
من الأفعال مع وجود الحرج ، وعن المريض فيما يتعلّق بالتكليف الذي يؤثّر المرض في
إسقاطه كالصوم ، وشروط الصلاة ، وأركانها ، والجهاد ، ونحو ذلك. ثم قال تعالى بعد
ذلك مبنيا : وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم فهذا معنى صحيح ، وتفسير مفيد
، لا يفتقر في تفسير الآية إلى نقل ، ويعضده الشرع والعقل ، فأما الأكل من مال
الأزواج فذلك جائز للزوجة فيما ليس بمحجوب عنها ، ولا محرز منها ، قال النبىّ صلى
الله عليه وسلم :
إذا أنفقت المرأة
من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ، وللزوج مثل ذلك.
وأما ما كان محرزا
عنها فلا سبيل لها إليه ، وكذلك الزوج يأكل من مال زوجه غير مفسد ، لكن الزوجة
أبسط ، لما لها من حقّ النفقة ، ولما يلزمها من خدمة المنفعة.
وأما بيت الابن
فقد تقدّم أنه كبيت المرء نفسه ، لكن كما بيناه فيما كان غير محرز ، فلا يتبسط
الأب على الابن في هتك حرز وأخذ مال ، وإنما يأكله مسترسلا فيما لم يقع فيه حيازة
، ولكن بالمعروف دون فساد ولا استغنام.
وأما بيت الأب
للابن فمثله ، ولكن تبسّط الابن اقلّ من تبسط الأب ، كما كان تبسّط الزوج أقلّ من
تبسط الزوجة.
وأما بيوت سائر
القرابة الذين ذكروا في الآية فلا يلحق بذلك ولا سبيل إليه.
وأما بيت ملكتم
مفاتحه فهو الوكيل ، قال النبي : الخازن الأمين الذي يعطى ما أمر
__________________
كاملا موفّرا طيبة
به نفسه أحد المتصدّقين. ولا بد للخازن من أن يأكل مما يخزن إجماعا. وهذا إذا لم
تكن له أجرة ، فإن استأجره على الخزن حرم الأكل.
وأما مال العبد
فيدخل في قوله : «أو بيوتكم» ، لأن العبد وماله ملك للسيد.
وأما من قال : إنه
منزل الرجل نفسه فخطأ محض ، لأن ذلك قد أفاده قوله : «أو بيوتكم» ، كما بيّنا أنّ
بيت الابن يدخل فيه ، فبيت العبد أولى وأحرى بإجماع.
وأما بيت الصديق ،
فإنه إذا استحكمت الأخوّة جرى التبسّط عادة ، وفي المثل : أيهم أحبّ إليك أخوك أم
صديقك؟ قال : أخى إذا كان صديقي.
قال لنا الإمام
العادل أبو الفضائل بن طوق ، قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم القشيري إمام
الصوفية في وقته : عزيز من يصدق في الصداقة ، فيكون في الباطن كما هو في الظاهر ،
ولا يكون في الوجه كالمرأة ومن ورائك كالمقراض ، وفي معناه ما قلت :
من لي بمن يثق
الفؤاد بودّه
|
|
وإذا ترحّل لم
يزغ عن عهده
|
يا بؤس نفسي من
أخ لي باذل
|
|
حسن الوفاء
بقربه لا بعده
|
يولى الصفاء
بنطقه لا خلقه
|
|
ويدسّ صابا في
حلاوة شهده
|
فلسانه يبدي جواهر
عقده
|
|
وجنانه تغلى
مراجل حقده
|
لا همّ إنى لا
أطيق فراسة
|
|
بك أستعيذ من
الحسود وكيده
|
المسألة العاشرة ـ
في تمام المعنى في الآية من قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً).
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ أنها نزلت
في بنى كنانة ، كان الرجل منهم يحرّم على نفسه أن يأكل وحده ، حتى إن الرجل
ليقيم على الجوع حتى يجد من يؤاكله ، وكانت هذه السيرة موروثة [عندهم] عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان لا يأكل إلّا مع
غيره.
__________________
الثاني ـ أنها
نزلت في قوم من العرب كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرّجوا عن أن يأكل وحده حتى يأكلوا
معه.
الثالث ـ أنها
نزلت في قوم كانوا يتحرّجون أن يأكلوا جميعا ، ويقول الرجل : آكل وحدي.
الرابع ـ أنها
نزلت في المسافرين يخلطون أزودتهم ، فلا يأكل أحد حتى يأتى الآخر ، فأبيح ذلك لهم.
وهذا القول تضمّن
جميع ذلك ، فيجوز للرجل أن يأكل مع الآخر ، وللجماعة ، وإن كان أكلهم لا ينضبط ،
فقد يأكل الرجل قليلا والآخر كثيرا ، وقد يأكل البصير أكثر مما يأكل الأعمى ، فنفى
الله الحرج عن ذلك كله ، وأباح للجميع الاشتراك في الأكل على المعهود ، ما لم يكن
قصدا إلى الزيادة ، كما روى ابن عمر
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القران في التمر إلّا أن يستأذن الرجل أخاه. وهذا هو النّهد الذي يجتمع عليه القوم ، وسواء كان مشترى منهم ، أو كان
بخلطهم له فيما بينهم ، فإن كان طعام ضيافة أو وليمة فلا يلزم ذلك فيه ، لأنّ كلّ
واحد منهم يأكل من مال غيره ، لا سيما ونحن نقول : إن طعام الضّيافة والوليمة
يأكله الحاضرون على ملك صاحبه على أحد القولين ، وهو الصحيح ، حسبما بينّاه في
أصول الفقه ، ولذلك لم تجز التغدية والتعشية عندنا في طعام الكفّارة على ما بيناه
في موضعه.
وقد روى البخارىّ
في النّهد حديث أبى عبيدة في جمع الأزواد ، وكان يغدّيهم كل يوم تمرة
تمرة. وحديث عمر في نحر الإبل ومنعه من ذلك ، وجمع النبىّ صلى الله عليه وسلم
أزواد الجيش ، وبرّك عليها ، ثم احتثى كلّ أحد في مزوده ووعائه من غير تسوية ،
__________________
حتى فرغوا ،
واشتقاقه من الخروج ، يقال : نهد ثدي المرأة ، ونهد القوم لغزوهم ، ونهد الجماعة :
إذا أخرجوا طعاما أو مالا ، ثم جمعوه ، وأكلوا أو أنفقوا منه.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ).
في البيوت قولان :
أحدهما ـ أنها
البيوت كلها.
والثاني ـ أنها
المساجد.
والصحيح هو الأول
، لعموم القول ، ولا دليل على التخصيص.
فأما قوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وهي :
المسألة الثانية عشرة
ـ ففيها أربعة أقوال :
الأول ـ سلموا على
أهاليكم في بيوتكم ، قاله قتاله.
الثاني ـ إذا
دخلتم بيوت غيركم فسلّموا عليهم ، قاله الحسن.
[الثالث ـ إذا
دخلتم المساجد فسلموا على من فيها من ضيفكم] .
الرابع ـ إذا
دخلتم بيوتا فارغة فسلّموا على أنفسكم ، قولوا : السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين ، قاله ابن عمر.
المسألة الثالثة
عشرة ـ في المختار من هذه الأقوال :
وبيانه أنّ الله
سبحانه قال في الآية الأولى : (لا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ، فنصّ على بيوت الغير ، ثم قال في هذه الآية الثانية : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، أى ليسلم بعضكم على بعض ، وأطلق القول لأنه قد بيّن
الحكم في بيوت الغير ، ليدخل تحت هذا العموم كلّ بيت ، كان للغير أو لنفسه، وقال :
(عَلى أَنْفُسِكُمْ) ليتناول اللفظ سلام المرء على عينه ، وليأخذ المعنى سلام
الناس بعضهم على بعض ، فإذا دخل بيتا لغيره استأذن كما تقدّم ، وإن دخل بيتا لنفسه
سلم ، كما ورد في الحديث يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، قاله ابن
عمر.
__________________
وهذا إذا كان
فارغا ، فأما إذا كان فيه أهله وعياله وخدمه فليقل : «السلام عليكم» ، فإنهم أهل
للتحية منه ، وإن كان مسجدا فليقل كما جاء في الحديث : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ.
والذي أختاره إذا
كان البيت فارغا أنه لا يلزم السلام ، فإنه إذا كان المقصود الملك فالملائكة لا تفارق العبد بحال ، أما إنه إذا دخلت بيتك
يستحبّ لك ذكر الله بما قد شرحناه في سورة الكهف بأن يقول : ما شاء الله لا قوّة إلا بالله. والله أعلم.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قد بيّنا في سورة النساء كيفية السلام الذي شرع الله لعباده ، وأوضحنا
مجراه ، ومما أجمع عليه العلماء أنّ سلام الواحد على الجماعة يكفى في الابتداء
والردّ. وقال الحسن : كان النساء يسلّمن على الرجال ، ولا يسلم الرجال على النساء.
وهذا صحيح ، فإنها خلطة وتعرّض إلا أن تكون امرأة متجالّة ، إذ الخلطة لا تكون بين الرجال والنساء ، وهذا هو المقصود
والمنتهى.
الآية الثامنة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزول الآية ، والمراد بها في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنّ الأمر
الجامع الجمعة ، والعيدان ، والاستسقاء ، وكل شيء يكون فيه الخلطة ، قاله يحيى بن
سلام.
الثاني ـ أنه كلّ
طاعة لله ، قاله مجاهد.
الثالث ـ أنه
الجهاد ، قاله زيد بن أسلم.
__________________
وقد روى أشهب ،
ويحيى بن بكير ، وعبد الله بن عبد الحكم ، عن مالك ـ أنّ هذه الآية إنما كانت في
حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وكذلك قال محمد ابن إسحاق. والذي
بيّن ذلك أمران صحيحان :
أما أحدهما ـ فهو
قوله تعالى في الآية الأخرى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) ، وذلك أنّ المنافقين كانوا يتلوّذون ، ويخرجون عن الجماعة
، ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله جميعهم بألا يخرج [أحد] حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يتبيّن
إيمانه.
وأما الثاني فهو
قوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، فأى إذن في الحدث والإمام يخطب ، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه ، وقد
قال : (فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ) ، فبيّن بذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرّق.
أما إن الآية تدلّ بقوة معناها على أن من حضر جماعة لا يخرج إلا لعذر بيّن أو بإذن
قائم من مالك الجماعة ومقدّمها ، وذلك أنّ الاجتماع كان لغرض ، فما لم يتم الغرض
لم يكن للتفرق أصل ، وإذا كمل الغرض جاز التفرق.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم بالخيار إن شاء أذن له
إذا رأى ذلك ضرورة للمستأذن ، ولم ير فيه مضرّة على الجماعة ، أذن بنظر ، أو منع
بنظر.
وقد روى مكحول أنّ
الرجل يوم الجمعة إذا رعف أو أحدث يجعل يده على أنفه ، ويشير إلى الإمام فيشير له
الإمام بيده أن اخرج.
وقال ابن سيرين :
كانوا يستأذنون الإمام وهو على المنبر ، فلما كثر ذلك قال زياد : من جعل يده على
أنفه فليخرج دون إذن. وقد كان هذا بالمدينة ، حتى إنّ سهيل بن أبى صالح رعف يوما
في الجمعة فاستأذن الإمام ، ولكنّ الأمر كما بينا من أنه لا يحتاج إليه ، إذ لا
إذن فيه ، ولا خيرة ولا مشيئة تتعلّق به ، وإنما هو أمر صاحبه مؤتمن عليه ، فيخرج
إذا شاء ، ويجلس إذا شاء.
__________________
الآية التاسعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) :
فيه مسألة بديعة
من العربية ، وهي أنّ المصدر قد يضاف إلى المفعول ، كما يضاف إلى الفاعل ، تقول :
أعجبنى ضرب زيد عمرو ، على الأول ، كما تقول : كرهت ضرب زيد عمرا ، على الثاني.
وقد جهل بعض الأدباء
هذا المقدار ، فعقد فصلا في ترغيب الناس في الدعاء ، قال فيه : فاهتبلوا بالدعاء ،
وابتهلوا برفع أيديكم إلى السماء ، وتضرّعوا إلى مالك أزمّة الفضاء ، فإنه تعالى
يقول : (قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) ، وأراد لو لا سؤالكم إياه ، وطلبكم منه ، ورأى أنه مصدر
أضيف إلى فاعل. وليس كما زعم ، وإنما هو مصدر أضيف إلى المفعول.
والمعنى قل يا
محمد للكفار : ما يعبأ بكم ربّى لو لا دعاؤكم ببعثه الرّسل إليكم ، وتبيين الأدلة
لكم ، فقد كذّبتم فسوف يكون عذابكم ، لزاما.
المسألة الثانية ـ
قد قال جماعة من الناس : إن المراد بالإضافة هاهنا إضافة المصدر إلى الفاعل ،
ويكون لذلك ثلاثة معان :
أحدها ـ لا تجعلوا
دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض بينكم ، فإنّ إجابته واجبة ، وليست إجابتكم
واجبة. يعنى على الإطلاق ، وإنما تجب إجابة الخلق بقرائن من حقوق الله ، أو من حقوق
الداعي. وقد تقدم بيان وجوب إجابة دعاء الرسول في سورة الأنفال.
والثاني ـ أن يكون
معناه احذروا أن تتفرّقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدعو عليكم ، وليس
دعاؤه كدعاء بعضكم بعضا ، فإن دعوته مجابة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إنى عاهدت ربّى عهدا قلت : اللهم إنى بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل لعنته
أو سببته فاجعل ذلك صلاة عليه ورحمة إلى يوم القيامة.
__________________
المعنى الثالث ـ أن
معناه لا تسوّوا بين الرسول وبينكم في الدعوة ، كلّ أحد يدعى باسمه ، إلّا رسول
الله فإنه يدعى بخطّته وهي الرسالة.
وكذلك قال العلماء
غفيرا : إن الخليفة يدعى بها ، والأمير والمعلم ، ويوفر على كل واحد حظّه من الخطة
، فيدعى بها قصد الكرامة.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) : بهذه الآية احتجّ الفقهاء على أنّ الأمر على الوجوب.
وقد بيّنا في أصول
الفقه أنّ الأمر صريح في الاقتضاء والوجوب ، لا يؤخذ من نفس الأمر ، وإنما يؤخذ من
توجّه اللّوم والذم ، فالأمر مقتض ، واللوم والذّم خاتم ، وذكر العقاب بالثأر
مكبّر ، يعدّ به الفعل في جملة الكبائر ، فلينظر تحقيقه هنالك.
وقد قال جماعة :
إن الأمر هاهنا بمعنى البيان من قول أو فعل وهو الصحيح. والمخالفة تكون بالقول
وبالفعل ، وكل ذلك يترتّب على أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم وفعله ، فإن كان
واجبا كانت المخالفة حراما ، وإن كان الأمر والفعل ندبا كانت المخالفة مكروهة ،
وذلك يترتّب على الأدلّة ، وينساق بمقتضى الأحوال والأسباب القاضية عليه بذلك.
المسألة الرابعة ـ
قال علماؤنا في قوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ الكفر.
الثاني ـ العقوبة.
الثالث ـ بلية
يظهر بها ما في قلوبهم من النفاق.
وهذه الأقوال
صحيحة كلها ، ولكن متعلقاتها مختلفة ، فهنالك مخالفة توجب الكفر ، وذلك فيما
يتعلّق بالعقائد ، وهنالك مخالفة هي معصية ، وذلك فيما يتعلق بأعمال الجوارح ،
حسبما بيناه في كتب أصول الدين والردّ على المخالفين من المبتدعة والملحدين ،
ورتّبنا منازل ذلك كله ، ومساقه ومتعلقه بدليله.
وقد أخبرنا أبو
الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الأزدى ، أخبرنا
__________________
أبو الحسن أحمد بن
محمد العتيقى ، أنبأنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيوة ، حدثنا جرهمى ابن أبى
العلاء ، قال : سمعت
الزّبير بن بكار يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : سمعت مالك بن أنس ، وأتاه رجل
، فقال : يا أبا عبد الله ، من أين أحرم؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فقال : إنى أريد أن أحرم ، من المسجد. فقال : لا تفعل.
قال : إنى أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال : لا تفعل ، فإنى أخشى عليك
الفتنة. قال : وأىّ فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها. قال : وأى فتنة أعظم من أن
ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنى سمعت الله
يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
وثبت أنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : افترقت
اليهود والنصارى على إحدى وسبعين فرقة ، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ،
كلّها في النار ، إلا واحدة.
قيل
: من هم يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابى.
والله الموفّق
للعصمة بالطاعة والمتابعة في الألفة ، فإنّ
يد الله مع الجماعة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
سورة الفرقان
[فيها إحدى عشرة آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَقالُوا : ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ عيّر
المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكله الطعام ؛ لأنهم أرادوا أن يكون
الرسول ملكا ، وعيّروه بالمشي في السوق ، فأجابهم الله بقوله : (وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) ؛ فلا ترتب بذلك ولا تغتمّ به ؛ فإنها شكاة ظاهر عنك عارها
، وحجّة قاهر لك خارها .
وهذا إنما أوقعهم
فيه عنادهم ؛ لأنه لما ظهرت عليهم المعجزة ، ووضحت في صدقه الدلالة لم يقنعهم ذلك
، حتى سألوه آيات أخر سواها ، وألف آية كآية عند المكذّب بها ؛ وأوقعهم أيضا في
ذلك جهلهم حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفّعون عن الأسواق ـ أنكروا
على محمد صلى الله عليه وسلم ذلك ، واعتقدوه ملكا يتصرّف بالقهر والجبر ؛ وجهلوا
أنه نبىّ يعمل بمقتضى النهى والأمر ، وذلك أنهم كانوا يرونه في سوق عكاظ ومجنّة
العامة ، وكان أيضا يدخل الخلصة بمكة ، فلما أمرهم ونهاهم قالوا : هذا ملك يطلب أن يتملّك
علينا ، فما له يخالف سيرة الملوك في دخول الأسواق ؛ وإنما كان يدخلها لحاجته ، أو
لتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته ، ويعرض نفسه على القبائل في مجتمعهم ، لعل الله أن
يرجع إلى الحقّ بهم.
المسألة الثانية ـ
لما كثر الباطل في الأسواق ، وظهرت فيها المناكر ، كره علماؤنا دخولها لأرباب
الفضل ، والمهتدى بهم في الدّين ، تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها.
__________________
وفي الآثار : من دخل السوق فقال : لا إله إلّا الله ،
وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت ذنوبه ؛ إنباء بأنه وحده عند صخب الخلق ورغبهم في المال ، أقبل على ذكر الله ، لم يقصد في تلك البقعة
سواه ، ليعمرها بالطاعة إن غمرت بالمعصية ، وليحلّها بالذكر إن عطلت بالغفلة ، وليعلّم الجهلة ، ويذكّر
الناسين.
المسألة الثالثة ـ
أمّا أكل الطعام فضرورة الخلق ، لا عار ولا درك فيها. وأما الأسواق فسمعت مشيخة
العلم يقولون : لا يدخل إلّا سوق الكتب والسلاح. وعندي أنه يدخل كلّ سوق للحاجة
إليه ، ولا يأكل فيه ؛ فإن ذلك إسقاط للمروءة ، وهدم للحشمة.
ومن الأحاديث
الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأكل في السوق دناءة. وهو حديث
موضوع ، لكن رويناه من غير طريق ، ولا أصل له في الصحة ولا وصف.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً ، وَجَعَلَ النَّهارَ
نُشُوراً).
يعنى سترا للخلق ،
يقوم مقام اللباس في ستر البدن ، ويربى عليه بعمومه وسعته. وقد ظنّ بعض الغفلة أنّ
من صلّى عريانا في الظلام أنه يجزئه ؛ لأنّ الليل لباس ؛ وهذا يوجب أن يصلّى
عريانا في بيته إذا أغلق عليه بابه. والستر في الصلاة عبادة تختصّ بها ؛ ليست لأجل
نظر الناس ؛ ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
ماءً طَهُوراً).
فيها اثنتا عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قد
بينا قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً) في سورة المؤمنين ، فلا وجه لإعادته.
المسألة الثانية ـ
قوله : (ماءً طَهُوراً) ، فوصف الماء بأنه طهور.
واختلف الناس في
معنى وصفه بأنه طهور على قولين :
__________________
أحدهما ـ أنه
بمعنى مطهّر لغيره ؛ وبه قال مالك والشافعى ، وخلق كثير سواهما.
والثاني ـ أنه
بمعنى طاهر ، وبه قال أبو حنيفة ، وتعلّق في ذلك بقول الله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً) ، يعنى طاهرا ؛ إذ لا تكليف في الجنّة. وقال الشاعر :
خليلىّ هل في
نظرة بعد توبة
|
|
أداوى بها قلبي
علىّ فجور
|
إلى رجّح
الأكفال هيف خصورها
|
|
عذاب الثنايا
ريقهنّ طهور
|
فوصف الريق بأنه
طاهر ، وليس بمعنى أنه يطهر.
وتقول العرب : رجل
نؤوم ، وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره ، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه ، ودليلنا
قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً). وقال : (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) ؛ فبيّن أنّ وصف «طهور» يفيد التطهير.
وقال صلى الله
عليه وسلم : جعلت
لي الأرض مسجدا وطهورا. وأراد مطهرة بالتيمم ، ولم يرد طاهرة به ، وإن كانت قبل ذلك طاهرة. وقال في ماء البحر : هو الطهور ماؤه ، ولو لم يكن معنى الطهور المطهر لما كان جوابا لسؤالهم.
وأجمعت الأمّة لغة
وشريعة على أنّ وصف «طهور» مختصّ بالماء ، ولا يتعدّى إلى سائر المائعات ، وهي
طاهرة ؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدلّ دليل على أنّ الطهور هو المطهر.
فأما تعلّقهم بوصف
الله لشراب الجنة بأنه طهور ، والجنة لا تكليف فيها ، فلا حجة لهم فيها ؛ لأنّ
الله تعالى أراد بذلك المبالغة في الصفة ، وضرب المثل بالمبالغة في الدنيا ، وهو
التطهير.
وقد قال علماؤنا :
إنّ وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب ، وعن خسائس الصفات ،
كالغلّ والحسد ؛ فإذا شربوا هذا الشراب طهّرهم الله به من رحض الذنوب ، وأوضار الاعتقادات الذميمة ؛
فجاءوا الله بقلب سليم ، ودخلوا الجنة
__________________
بصفة التسليم ، وقيل لهم حينئذ : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، كما حكم في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء ،
وهذه حكمته في الدنيا ، وتلك حكمته ورحمته في الأخرى. وأما قول الشاعر :
ريقهنّ طهور
فوصف الريق بأنه
طهور ، وهو لا يطهر ، فإنما قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية ، أراد أنه لعذوبته
، وتعلّقه بالقلوب ، وطيبه في النفوس ، وسكون غليل الحبّ برشفه ـ كأنه الماء الطهور.
وبالجملة فإنّ
الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازات الشرعية لا تثبت بالمجازات الشعرية ؛ فإن
الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حدّ الصّدق إلى الكذب ، ويسترسلون في القول حتى
يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية ، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون ؛ ألا
ترى إلى قول بعضهم :
ولو لم تلامس
صفحة الأرض رجلها
|
|
لما كنت أدرى
علّة للتيمم
|
وهذا كفر صراح
نعوذ بالله منه.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : هذا منتهى لباب كلام العلماء ، وهو بالغ في فنّه ، إلا أنّى
تأملته من طريق العربية فوجدت فيها مطلعا شريفا ، وهو أنّ بناء «فعول» للمبالغة ؛ إلا أنّ المبالغة قد
تكون في الفعل المتعدى ، كما قال الشاعر :
ضروب بنصل السيف
سوق سمانها
وقد تكون في الفعل
القاصر ، كما قال الشاعر:
نؤوم الضّحى لم
تنتطق عن تفضّل
__________________
فوصفه الأول
بالمبالغة في الضرب ، وهو فعل يتعدّى ، ووصفها الثاني بالمبالغة في النوم ، وهو
فعل لا يتعدّى ، وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ، ومن الشرع طهارة
، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا
يقبل الله صلاة بغير طهور.
وقد يأتى بناء «فعول»
لوجه آخر ، ليس من هذا كلّه ، وهو العبارة به عن آلة الفعل لا عن الفعل ، كقولنا : وقود وسحور ـ بفتح الفاء ؛ فإنه عبارة عن الحطب وعن الطعام المتسحّر به ، وكذلك وصف الماء بأنه طهور يكون بفتح الطاء أيضا خبرا عن
الآلة التي يتطهّر بها.
فإذا ضممت الفاء
في الوقود و السحور والطهور عاد إلى الفعل ، وكان خبرا عنه ؛ فثبت بهذا
أنّ اسم الفعول ـ بفتح الفاء ـ يكون بناء للمبالغة ، ويكون خبرا عن الآلة ، وهذا
الذي خطر ببال الحنفية ، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه ، وبعد هذا يقف البيان به عن
المبالغة ، أو عن الآلة على الدليل ، مثاله قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً). وقوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، ويحتمل العبارة [به] عن الآلة ، فلا حجّة فيه لعلمائنا ، لكن يبقى قوله : (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) نصّا في أنّ فعله متعدّ إلى غيره. وهذه المسألة إنما أوجب
الخلاف فيها ما صار إليه الحنفية والشافعية ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
حين قالوا : إن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز الوضوء به مرة أخرى ، لأن
المنع الذي كان في الأعضاء انتقل إلى الماء.
وقال علماؤنا
حينئذ : إنّ وصف الماء بأنه طهور يقتضى التكرار على رسم بناء المبالغة ، وهذا مما
لا يحتاج إليه ، حسبما بيناه في مسائل الخلاف.
وإنما تنبنى مسألة
الماء المستعمل على أصل آخر ، وهو أنّ الآلة أذا أدّى بها فرض ، هل يؤدّى بها [فرض]
آخر أم لا؟ فمنع ذلك المخالف قياسا على الرّقبة ، إنه إذا أدّى بها فرض عتق
لم يصلح أن يتكرّر في أداء فرض آخر ، وهذا باطل من القول ، فإن العتق إذا أتى على
الرّق أتلفه ، فلا يبقى محلّ لأداء الفرض بعتق آخر.
__________________
ونظيره من الماء
ما تلف على الأعضاء ، فإنه لا يصحّ أن يؤدّى به فرض آخر لتلف عينه حسّا ، كما تلف
الرق في الرقبة بالعتق الأول حكما ، وهذا نفيس فتأمّلوه.
وفي الصحيح عن
جابر قال : دخل علىّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل ، فتوضّأ فصبّ علىّ من وضوئه ، فأفقت ...
وذكر الحديث.
وهذا يدلّ على أنّ
الماء الفاضل عن الوضوء والجنابة طاهر ، لا على طهارة الماء المستعمل ، كما توهّمه
علماؤنا ، وهذا خطأ فاحش فتأمّلوه.
المسألة الرابعة ـ
لما قال الله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ـ وكان الماء معلوما بصفة طعمه وريحه ولونه ـ قال علماؤنا
رحمة الله عليهم : إذا كان بهذه الصفة فلا خلاف في طهوريته ، فإذا انتقل عن هذه
الصفات إلى غيره بتغيّر وصف من هذه الأوصاف الثلاثة خرج عن طريق السنّة وصف
الطهورية.
والمخالط للماء
على ثلاثة أضرب :
ضرب يوافقه في
صفتيه جميعا : وهي الطهارة والتطهير ، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما ،
لموافقته له فيهما ، وهو التراب.
والضرب الثاني
يوافق الماء في إحدى صفتيه ، وهي الطهارة ، ولا يوافقه في صفته الأخرى ، وهي
التطهير ، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه ، وهو التطهير ، دون ما وافقه ، وهي
الطهارة ، كماء الورد وسائر الطهارات.
والضرب الثالث
مخالفته في الصفتين جميعا : وهي الطهارة والتطهير ، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين
جميعا ، لمخالفته له فيهما ، وهو النجس. وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وكتب
الفروع.
وقال أبو حنيفة :
إذا وقعت نجاسة في ماء أفسدته كلّه ، كثيرا كان أو قليلا ، إذا تحققت عموم النجاسة
فيه.
ووجه تحقّقها عنده
أن تقع مثلا نقطة بول في بركة ماء ، فإن كانت البركة يتحرّك طرفاها بتحريك أحدهما
فالكلّ نجس ، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرّك الآخر لم ينجس.
والمصريون ، كابن
القاسم وغيره ، يقولون : إنّ قليل الماء ينجّسه قليل النجاسة.
وفي المجموعة نحوه
من مذهب أبى حنيفة.
وقال الشافعى
بحديث القلّتين ، ورواه عن الوليد بن كثير حسن ظنّ به ، وهو مطعون فيه. والحديث
ضعيف.
وقد رام الدارقطني
على إمامته أن يصحح حديث القلّتين فلم يستطع ، واغتصّ بجريعة الرّيق فيها ، فلا تعويل عليه ، حسبما مهدناه في مسائل
الخلاف. كما تعلق علماؤنا أيضا في مذهبهم بحديث أبى سعيد الخدرىّ في بئر بضاعة الذي
رواه النسائي والترمذي ، وأبو داود وغيرهم : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بئر بضاعة وما يطرح
فيها من الجيف والنتن ، وما ينجى الناس ، فقال : الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيّر لونه
أو طعمه أو ريحه.
وهذا أيضا حديث
ضعيف لا قدم له في الصحّة ، فلا تعويل عليه.
وقد فاوضت الطوسي
الأكبر في هذه المسألة مرارا ، فقال : إنّ أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك
، فإنّ الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه ، إذ لا حديث في الباب يعوّل عليه ،
وإنما المعوّل على ظاهر القرآن ، وهو قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ، وهو ماء بصفاته ، فإذا تغيّر عن شيء منها خرج عن الاسم
بخروجه عن الصفة ، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه
في الباب خبرا صحيحا يعوّل عليه قال : «باب إذا تغير وصف الماء» ، وأدخل الحديث
الصحيح : ما من أحد يكلم في
سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك. فأخبر صلى الله
عليه وسلم أنّ الدم بحاله ، وعليه رائحة المسك ، ولم تخرج الرائحة عن صفة الدموية.
ولذلك قال علماؤنا
: إذا تغيّر الماء بريح جيفة على طرفيه وساحله لم يمنع ذلك من
__________________
الوضوء به ، ولو
تغير بها وقد وقعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة ، والأولى مجاورة لا
تعويل عليها.
المسألة الخامسة ـ
ثم نركّب على هذا مسألة بديعة ، وهي الماء إذا تغيّر بقراره كزرنيخ أو جير بجرى
عليه ، أو تغير بطحلب أو بورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز منه ، فاتفق العلماء
على أن ذلك لا يمنع من الوضوء به ، لعدم الاحتراز منه.
وقد روى ابن وهب ،
عن مالك أنّ غيره أولى منه ، يعنى إذا وجده ، فإذا لم يجد سواه استعمله ، لأنّ ما
يغلب عليه المرء في باب التكليف ، ولا يمكنه التوقّى منه ، فإنه ساقط الاعتبار
شرعا.
ولذلك لما كان
العبد لا يستطيع النزوع عن صغائر الذنوب ، ولا يمكن بشرا الاحتراز منها لم تؤثّر
في عدالته ، ولما كانت الكبائر يمكن التوقّى منها والاحتراز عنها قدحت في العدالة
والأمانة ، وكذلك العمل الكثير في الصلاة لما كان الاحتراز منه ممكنا بطلت الصلاة
به ، ولما كان العمل اليسير لا يمكن الاحتراز منه كالالتفات بالرأس وحده ،
والمراوحة بين الأقدام ، وتحريك الأجفان ، وتقليب اليد ، لم يؤثر ذلك في الصلاة.
وهذه قاعدة
الشريعة في باب التكليف كلّه ، فعليه خرج تغيّر الماء بما يغلب عليه عن تغيّره بما
لا يغلب عليه.
المسألة السادسة ـ
لما وصف الله الماء بأنه طهور ، وامتنّ بإنزاله من السماء ليطهّرنا به دلّ على
اختصاصه بذلك ، وكذلك قال لأسماء بنت الصدّيق في دم الحيض يصيب الثوب : حتّيه ثم اقرصيه ، ثم اغسليه بالماء ، فلذلك لم يلحق غير الماء
بالماء لوجهين :
أحدهما ـ ما في
ذلك من إبطال فائدة الامتنان.
والثاني ـ لأن غير
الماء ليس بمطهّر ، بدليل أنه لا يرفع الحدث والجنابة ، فلا يزيل النجس.
وقال بعض علمائنا
، وأهل العراق : إنّ كلّ مائع طاهر يزيل النّجاسة ، وهذا غلط ، لأن ما لا يدفع
النجاسة عن نفسه فكيف يدفعها عن غيره.
__________________
وقد روى ابن نافع
عن مالك أنّ النجاسة القليلة إذا وقعت في الزيت الكثير لم ينجسن إذا لم يتغيّر.
وهذه رواية ضعيفة
لا يلتفت إليها ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح سئل عن فأرة سقطت في سمن ، فقال : إن
كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه.
وفي رواية : وإن كان مائعا فأريقوه.
وقوله : إن كان جامدا فألقوها وما حولها دليل على أنها تفسد المائع ، لأنه عموم سئل عنه ، فخصّ أحد
صنفيه بالجواز ، وبقي الآخر على المنع.
وليس هذا بدليل
الخطاب ، حسبما بيّناه في أصول الفقه.
وهذه نكتة بديعة
تفهموها ، فهي خير لكم من كتاب ، وليست النجاسة معنى محسوسا ، حتى يقال : كلما
أزالها فقد قام به الفرض ، وإنما النجاسة حكم شرعىّ عيّن له صاحب الشريعة الماء ،
فلا يلحق به غيره ، إذ ليس في معناه ، ولأنه لو لحق به لأسقطه ، والفرع إذا عاد
إلحاقه بالأصل بالإسقاط سقط في نفسه. وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى
الدبوسي يسميه فرخ زنا.
المسألة السابعة ـ
توهّم قوم أنّ الماء إذا فضلت للجنب منه فضلة أنه لا يتوضأ بها ، وهذا مذهب باطل ،
فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت : أجنبت
أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، واغتسلت من جفنة ، وفضلت فضلة ، فجاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منها. فقلت : إنى قد اغتسلت منه. فقال : إن الماء
ليس عليه نجاسة ـ أو : إن الماء لا يجنب. وقد روى هذا الحديث من طرق.
المسألة الثامنة ـ
إذا كان الماء طاهرا مطهّرا على أصله فولغ فيه كلب فسد عند جمهور فقهاء الأمصار ،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا ولغ الكلب في
إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفّروه الثامنة بالتراب.
وقد قال مالك :
وقد جاء هذا الحديث ، ولا أدرى ما حقيقته. وقد بينا في مسائل الخلاف حقيقته ، وأن
الإناء يغسل عبادة ، لا لنجاسة بدليلين :
__________________
أحدهما ـ أنّ
الغسل معدود بسبع.
الثاني ـ أنه جعل
للتراب فيها مدخلا ، ولو كان لنجاسة لما كان للتراب فيها مدخل ، كالبول ، عكسه
الوضوء لما كان عبادة دخل التراب مع الماء.
ورأى مالك طرح
الماء تقذّرا لا تنجّسا ، أو حسما لمادة الخلاف ، أو لأنه حيوان يأكل الأقذار ،
ولا يحتاج إليه ، فيكون من الطّوافين أو الطوّافات ، وقد استوفينا القول عليه في
الفقه.
المسألة التاسعة ـ
إذا ولغت السباع في الماء :
كلّ حيوان عند
مالك طاهر العين حتى الخنزير ، كما بيناه في مسائل الخلاف ، ولكن تحرّر من مذهب
مالك أنّ أسآر السباع مكروهة ، لما بيناه في مسألة الكلب ، من أنها تصيب النجاسات
، وليست من الطوّافين ولا من الطوّافات.
وقال أبو حنيفة :
أسآر السباع نجسة. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن حياض تكون بين مكة والمدينة
تردها السباع ـ وفي رواية : والكلاب ـ فقال : لها ما حملت في بطونها
، ولنا ما بقي غير شراب وطهور.
وفي الموطّأ أن
عمر وعمرا وقفا على حوض ، فقال عمرو : يا صاحب الحوض ، هل ترد حوضك السباع؟ فقال
له عمر : يا صاحب الحوض ، لا تخبرنا ، فإنّا نرد على السباع ، وترد علينا. وهذا
لأنّ الماء كان كثيرا ، ولو كان قليلا لكان للمسألة حكم قدّمناه قبل في هذه الآية.
وقد روى عن سهل بن
سعد أنّ امرأة دخلت عليه مع نسوة ، فقال : لو أنى سقيتكنّ من بئر بضاعة لكرهتنّ
ذلك. وقد والله سقيت منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي.
وهذا أيضا لأنّ
ماءها كان كثيرا لا يؤثر فيه محائض النساء ، وعذر الناس ، ولحوم الكلاب.
وقد قال أبو داود
: سمعت قتيبة بن سعيد قال : سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها ، قلت :
__________________
ما أكثر ما يكون
الماء فيها؟ قال : إلى العانة. قلت : فإذا نقص ماؤها؟ قال : إلى العورة .
قال أبو داود :
فقدرتها بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح لي باب
البستان [فأدخلنى إليها] : هل غيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال : لا. قال أبو داود
: ورأيت ماءها متغيّر اللون جدّا.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رضى الله عنه : تغيّر ماؤها ، لأنها في وسط السبخة ، فماؤها يكون قرارها.
وبضاعة دور بنى ساعدة ، ولها يقول أبو أسيد مالك بن ربيعة الساعدي :
نحن حمينا عن
بضاعة كلّها
|
|
ونحن بنينا
معرضا هو مشرف
|
فأصبح معمورا
طويلا قذاله
|
|
وتخرب آطام بها
وتقصّف
|
المسألة العاشرة ـ
من أصول الشريعة في أحكام المياه أنّ ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على
النجاسة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده
في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ؛ فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده.
فمنع من ورود اليد
على الماء وأمر بإيراد الماء عليها ؛ وهذا أصل بديع في الباب ، ولو لا وروده على
النجاسة قليلا كان أو كثيرا لما طهرت.
وقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال في
بول الأعرابى في المسجد : صبّوا عليه ذنوبا من ماء. روى أن
أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، فبايعه وصلّى ركعتين ،
ثم لم يلبث أن قام ففشج ـ يعنى فرج بين رجليه ـ فبال في المسجد ، فعجل الناس إليه
، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه ، ثم دعا به، فقال : ألست برجل مسلم؟ قال : بلى. قال : فما
حملك على أن بلت في مسجدنا؟ قال : والذي بعثك بالحقّ
__________________
ما
ظننت إلا أنه صعيد من الصّعدات ، فبلت فيه ، فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء
فصبّ على بوله.
وروى محمد بن
إسحاق بن خزيمة في صحيحه وغيره أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفر موضع بوله ، وطرحه خارج المسجد.
المسألة الحادية
عشرة ـ رأى جماعة من العلماء أن الدلو يكفى لبول الرجل في إزالة عينه وطهارة موضعه
، وليس لذلك حدّ ، لأن الدّلو غير مقدّر ، وما لم يكن مقدرا لا يتعلق به حكم.
ألا ترى أنّ
الشافعى تعلّق بحديث القلّتين ، وجعله تقديرا ، وخفى عليه أنّ الحديث ليس بصحيح ،
بدليل أنّ الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علق عليه الحكم ، وهو مجهول ساقط ،
إذ لو كان النبىّ صلى الله عليه وسلم علّق عليه الحكم لعلّقه على معلوم ، كما علم
الصاع والوسق ، حتى كان الحكم المعلّق عليه شرعا ، المقدّر به صحيحا. وإنما
المعوّل في إزالة النجاسة على الاجتهاد في صبّ الماء ، حتى يغلب على الظن أنها
زالت.
المسألة الثانية
عشرة ـ لما قال الله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) توقّف جماعة في ماء البحر ، لأنه ليس بمنزّل من السماء ،
حتى رووا عن عبد الله بن عمرو ابن عمرو معا أنه لا يتوضّأ به ، لأنه ماء نار ،
ولأنه طبق جهنم.
ولكن النبي صلى
الله عليه وسلم بيّن حكمه حين قال لمن
سأله عن جواز الوضوء به : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.
وهذا أصحّ مما
ينسب إلى أبى هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : لا يتوضّأ بماء
البحر ، لأن الماء على نار ، والنار على ماء ، والماء على نار. حتى عدّ سبعة أبحر
، وسبعة أنوار. وأبو هريرة هو راوي حديث : «هو
الطهور ماؤه الحل ميتته».
وقد روى عمرو بن
دينار ، عن أبى الطفيل ـ أنّ أبا بكر الصديق قال في البحر : هو الطّهور ماؤه الحل
ميتته.
__________________
وقد روى أنّ ابن
عباس سئل عن الوضوء بماء البحر ، فقال : إنما هما بحران ، فلا يضرك بأيهما بدأت.
وقد روى مالك ، عن
زيد بن أسلم ، عن سعيد الجارمى ، قال : سألت ابن عمر وعبد الله ابن عمرو عن
الحيتان يقتل بعضها بعضا ، وعن ماء البحر ، فلم يريا بذلك بأسا.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
النّسب ، وهو عبارة عن مرج الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع ، فإن كان بمعصية
كان خلقا مطلقا ، ولم يكن نسبا محققا ، ولذلك لم يدخل تحت قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) بنته من الزنا ، لأنها ليست ببنت في أصحّ القولين لعلمائنا
، وأصحّ القولين في الدين قد بيناه في مسائل الخلاف.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَصِهْراً).
أمّا النسب فهو ما
بين الوطأين موجودا ، وأما الصّهر فهو ما بين وشائج الواطئين معا : الرجل والمرأة
، وهم الأحماء والأختان ، والصّهر يجمعهما لفظا واشتقاقا ، وإذا لم يكن نسب شرعا
فلا صهر شرعا ، فلا يحرّم الزنا ببنت أمّا ، ولا بأمّ بنتا ، وما يحرّم من الحلال لا
يحرّم من الحرام ، لأنّ الله امتنّ بالنسب والصّهر على عباده ، ورفع قدرهما ، وعلق
الأحكام في الحلّ والحرمة عليهما ، فلا يلحق بالباطل بهما ، ولا يساويهما.
وقد روى عن مالك
أنّ الزنا يحرم المصاهرة ، وهذا كتابه الموطأ الذي كتبه بخطّه ، وأملاه على طلبته
، وقرأه من صبوته إلى مشيخته لم يغيّر فيه ذلك ، ولا قال فيه قولا آخر. واكتبوا
عنى هكذا. وابن القاسم الذي يحرم المصاهرة بالزنا قرأ ضدّ ذلك عليه في الموطّأ ،
فلا يترك الظاهر للباطن ، ولا القول المروىّ من ألف للمروىّ من واحد ، وآحاد ، وقد
قررنا ذلك في مسائل الخلاف.
__________________
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
التوكّل ، وهو تفعّل من الوكالة ، أى اتخذه وكيلا. وقد بيناه في كتاب الأمد ، وهو
إظهار العجز والاعتماد على الغير.
المسألة الثانية ـ
أصل هذا علم العبد بأنّ المخلوقات كلّها من الله ، لا يقدر أحد على الإيجاد سواه ،
فإن كان له مراد ، وعلم أنه بيد الذي لا يكون إلّا ما أراد ، جعل له أصل التوكل ،
وهذا فرض عين ، وبه يصحّ الإيمان الذي هو شرط التوكل ، قال الله تعالى : (وَعَلَى اللهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
المسألة الثالثة ـ
يتركب على هذا من سكون القلب ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، أحوال تلحق بالتوكّل في
كماله ، ولهذه الأحوال أقسام ، ولكل قسم اسم :
الحالة الأولى ـ أن
يكتفى بما في يده ، لا يطلب الزيادة عليه ، واسمه القناعة.
الحالة الثانية ـ أن
يكتسب زيادة على ما في يده ، ولا ينفى ذلك التوكّل عندنا. قال النبي صلى الله عليه
وسلم : لو توكّلتم على الله
حقّ توكله لرزقكم ، كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا .
فإن قيل : هذا حجة
عليك ، لأن الطير لا تزيد على ما في اليد ولا تدّخر لغد.
قلنا : إنما
الاحتجاج بالغدوّ والرواح والاعتمال في الطلب.
فإن قيل : أراد
بقوله : تغدو في الطاعة ، بدليل قوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى).
قلنا : إنما أراد
بالغدوّ الاغتداء في طلب الرزق ، فأما الإقبال على العبادة ـ وهي الحالة الثالثة ،
وهو أن يقبل على العبادة ويترك طلب العادة ـ فإن الله يفتح له. وعلى هذا كان أهل
الصّفة ، وهذه حالة لا يقدر عليها أكثر الخلق ، وبعد هذا مقامات في التفويض
والاستسلام ، وقد بيناها في كتاب أنوار الفجر ، والله الموفق.
__________________
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ
شُكُوراً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تفسير الخلفة :
وفيها ثلاثة أقوال
:
الأول ـ أنه جعل
أحدهما مخالفا للآخر ، يتضادّان وصفا ، ويتعارضان وضعا ووقتا ، وبذلك نميز.
الثاني ـ أنه إذا
مضى واحد جاء آخر ، ومنه قول أبىّ بن كعب :
بها العيس
والآرام يمشين خلفة
|
|
وأطلاؤها ينهضن
من كلّ مجثم
|
الثالث ـ معنى
خلفة ما فات في هذا خلفه في هذا.
في الحديث الصحيح
: ما من امرئ تكون له
صلاة بليل ، فغلبه عليها نوم ، فيصلى ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب
الله له أجر صلاته ، وكان نومه صدقة عليه.
سمعت ذا الشهيد
الأكبر يقول : إن الله خلق العبد حيّا عالما ، وبذلك كماله ، وسلط عليه آفة النوم
، وضرورة الحدث ، ونقصان الخلقة ، إذ الكمال للأول الخالق ، فما أمكن الرجل من دفع
النوم بقلّة الأكل والسهر في الطاعة فليفعل. ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام
ليلها ، فيذهب النصف من عمره لغوا ، وينام نحو سدس النهار راحة ، فيذهب ثلثاه ،
ويبقى له من العمر عشرون سنة.
ومن الجهالة
والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثى عمره في لذة فانية ، ولا يتلف عمره بسهره في لذة
باقية عند الغنىّ الوفىّ الذي ليس بعديم ولا ظلوم.
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) ، فيعمل ويشكر قدر النعمة في دلالة التضادّ على الذي لا
ضدّ له ، وفي دلالة المعاقبة على الذي يعدم فيعقبه غيره ، وعلى الفسحة في قضاء
الفائت من العمل لتحصيل الموعود من الثواب.
المسألة الثالثة ـ
إن الأشياء لا تتفاضل بأنفسها ، فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة ،
وإنما يقع التفاضل بالصفات.
وقد اختلف أىّ
الوقتين أفضل الليل أم النهار؟ وقد بينا في كتاب أنوار الفجر فضيلة النهار عليه ،
وفي الصوم غنية في الدلالة. والله أعلم.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ
قالُوا سَلاماً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (هَوْناً).
الهون هو الرفق
والسكون ، وذلك يكون بالعلم والحلم والتواضع ، لا بالمرح والكبر ، والرياء والمكر
، وفي معناه قلت :
تواضعت في
العلياء والأصل كابر
|
|
وحزت نصاب
السّبق بالهون في الأمر
|
سكون فلا خبث
السريرة أصله
|
|
وجلّ سكون الناس
من عظم المكر
|
وقد قال صلى الله
عليه وسلم : أيها الناس ، عليكم بالسكينة ، فإن البرّ ليس في الإيضاع .
وكان عمر بن
الخطاب يسرع جبلّة لا تكلّفا. والقصد والتؤدة وحسن الصمت من أخلاق النبوة. وقد
بيناه في قبس الموطأ. وقد قيل : معناه يمشون رفقا من ضعف البدن ، قد براهم الخوف ،
وأنحلتهم الخشية ، حتى صاروا كأنهم الفراخ.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).
اختلف في الجاهلين
على قولين :
أحدهما ـ أنهم
الكفار.
__________________
الثاني ـ أنهم
السفهاء.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (سَلاماً).
فيه وجهان :
أحدهما ـ أنه
بمعنى حسن وسداد.
الثاني ـ أنه قول
سلام عليكم. قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلّموا على المشركين ، ولكنه
على معنى قولهم : [تسلّما منكم ، و] لا خير بيننا ولا شرّ.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : ولا نهوا عن ذلك ، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان من سلف من الأمم في دينهم
التسليم على جميع الأمم.
وفي الإسرائيليات
: إنّ عيسى مرّ به خنزير فقال له : اذهب بسلام حين لم يقل ـ وهو لا يعقل ـ السلام.
فأما الكفار فكانوا يفعلونه وتلين جوانبهم به ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقف على أنديتهم ويحيّيهم ويدانيهم ولا يداهنهم. فيحتمل قوله : (قالُوا سَلاماً) المصدر ، ويحتمل أن يكون المراد به التحية.
وقد بينا ذلك كله
في سورة هود .
وقد اتفق الناس
على أنّ السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك.
وهل وضع السلام في
أحد القولين إلّا على معنى السلامة والتواد؟ كأنه يقول له : سلمت منّى ، فأسلم
منك.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تفسير قوله : (لَمْ يُسْرِفُوا).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ لم ينفقوا
في معصية ، قاله ابن عباس.
الثاني ـ لم
ينفقوا كثيرا ، قاله إبراهيم.
__________________
الثالث ـ لم
يتمتعوا للنعيم ، إذا أكلوا للقوة على الطاعة ، ولبسوا للسترة الواجبة ، وهم أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله يزيد بن أبى حبيب. وقد بيناه في سورة
الأعراف.
وهذه الأقوال
الثلاثة صحاح ، فالنفقة في المعصية حرام ، فالأكل واللبس للّذّة جائز ، وللتّقوى
والستر أفضل ، فمدح الله من أتى الأفضل ، وإن كان ما تحته مباحا. وإذا أكثر ربما
افتقر ، فالتمسك ببعض المال أولى ، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبى لبابة
ولكعب ، كما تقدم بيانه في غير موضع.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَلَمْ يَقْتُرُوا).
فيه قولان :
الأول ـ لم يمنعوا
واجبا.
الثاني ـ لم
يمنعوا عن طاعة.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (قَواماً) ، يعنى عدلا ، وهو أن ينفق الواجب ، ويتسع في الحلال في
غير دوام على استيفاء اللذات في كلّ وقت من كل طريق.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (يَشْهَدُونَ الزُّورَ).
فيه ستة أقوال :
الأول ـ الشرك.
الثاني ـ الكذب.
الثالث ـ أعياد
أهل الذمة.
الرابع ـ الغناء.
__________________
الخامس ـ لعب كان
في الجاهلية يسمى بالزّور ، قاله عكرمة.
السادس ـ أنه
المجلس الذي يشتم به النبىّ صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية ـ
أما القول بأنه مجلس يشتم فيه النبىّ فهو القول الأول أنه الشرك ، لأن شتم النبي
شرك ، والجلوس مع من يشتمه من غير تغيير ولا قتل له ـ شرك.
وأما القول بأنه
الكذب فهو الصحيح ، لأن كلّ ذلك إلى الكذب يرجع.
وأما من قال : إنه
أعياد أهل الذمة ، فإن فصح النصارى وسبت اليهود يذكر فيه الكفر ، فمشاهدته مشاهدة
كفر ، إلّا لما يقتضى ذلك من المعاني الدينية ، أو على جهل من المشاهد له.
وأما القول بأنه
الغناء فليس ينتهى إلى هذا الحدّ ، وقد بينا أمره فيما تقدم ، وقلنا : إنّ منه
مباحا ومنه محظورا.
وأما من قال : إنه
لعب كان في الجاهلية فإنما يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة أو أمر يعود إلى
الكفر.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً).
قد بيّنا اللغو ، وأنه ما لا فائدة فيه من قول أو فعل ، فإن كانت فيه مضرة
في دين أو دنيا فقد تأكّد أمره في التحريم ، وذلك بحسب تلك المضرّة في اعتقاد أو
فعل. ويتركب اللغو على الزّور ، ولكن ينبغي أن يكون له معنى زائد هاهنا ، لأنه قال
: (وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ) ، فهذا محرّم بلا كلام.
ثم قال : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) ، يعنى الذي لا فائدة فيه تكرّموا عنه ، حتى قال قوم من
أهل التفسير : إنه ذكر الرّفث ، ويكون لغوا مجرّدا إذا كان في الحلال ، ويكون زورا
محرّما إذا كان في الحرام ، وإن احتاج أحد إلى ذكر الفرج أو النكاح لأمر يتعلق
بالدين جاز ذلك ، كما روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي اعترف عنده بالزنا : نكتها؟ لا
تكنى ، للحاجة إلى ذلك في تقدير الفعل الذي يتعلّق به الحدّ.
__________________
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : يعنى الذين إذا قرءوا القرآن قرءوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبّت ، ولم
ينثروه نثر الدّقل ، فإنّ المرور عليه بغير فهم ولا تثبّت صمم وعمى عن معاينة
وعيده ووعده ، حتى قال بعضهم : إنّ من سمع رجلا وهو يصلّى يقرأ سجدة فسجد ، وهي: المسألة
الثانية ـ فليسجد معه ، لأنه سمع آيات الله تتلى عليه ، وهذا لا يلزم إلا للقارئ
وحده ، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
ذكرها مالك ، وهو أنّ الرجل إذا تلا القرآن ، وقرأ السجدة ، فإن كان الذي جلس معه
جلس إليه ليسمعه فليسجد معه ، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه. وعلى هذا
يخرج إذا كان في صلاة فقرأ السجدة أنه لا يسجد الذي لا يصلّى معه.
وهذا أبعد منه.
وقيل : معنى الآية
في الذين لا يعتبرون اعتبار الإيمان ، ولا يصدّقون بالقرآن ، والكلّ محتمل أن يراد
به ، إلا أنه تختلف أحوالهم بحسب اختلاف اعتقادهم وأعمالهم. والله أعلم.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (قُرَّةَ أَعْيُنٍ).
معناه أنّ النفوس
تتمنّى ، والعيون تمتدّ إلى ما ترى من الأزواج والذرية ، حتى إذا كانت عنده زوجة
اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفّة ونظر وحوطة ، أو كانت عنده ذريته محافظين على الطاعة ، معاونين له على وظائف الدين والدنيا ، لم يلتفت إلى زوج أحد ،
__________________
ولا إلى ولده ،
فتسكن عينه عن الملاحظة ، وتزول نفسه عن التعلّق بغيرهما ، فذلك حين قرة العين
وسكون النفس.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ، معناه قدوة.
كان ابن عمر يقول
في دعائه : اللهم اجعلنا من أئمة المتّقين.
وقال عمر بن
الخطاب : إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم. وذلك لأنهم اقتدوا بمن قبلهم فاقتدى بهم
من بعدهم.
وكان الأستاذ أبو
القاسم القشيري شيخ الصوفية يقول : الإمامة بالدعاء ، لا بالدعوى ، يعنى بتوفيق
الله سبحانه وتيسيره وهبته ، لا بما يدّعيه كلّ أحد لنفسه ، ويرى فيها ما ليس له
ولاية.
__________________
سورة الشعراء
[وتسمى الخاضعة فيها ست آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
ابن القاسم : قال مالك : خرج مع موسى رجلان من التجار إلى البحر ، فلما أتيا إليه
قالا له : بم أمرك الله؟ قال : أمرنى أن أضرب البحر بعصاي هذه فيجفّ. فقالا له :
افعل ما أمرك به ربّك ، فلن يخلفك. ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له ، فما زال
كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه ، ثم ارتدّ كما كان.
وفي رواية عمرو بن
ميمون أنّ موسى قال للبحر : انفلق. قال : لقد استكبرت يا موسى! ما انفرقت لأحد من
ولد آدم ، فانفلق لك. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق
كالطّود العظيم. فصار لموسى وأصحابه البحر طريقا يابسا. فلما خرج أصحاب موسى
، وتكامل آخر أصحاب فرعون ، انصبّ عليهم البحر ، وغرق فرعون. فقال بعض أصحاب موسى
: ما غرق فرعون. فنبذ على ساحل البحر ، حتى نظروا إليه.
المسألة الثانية ـ
قال مالك : دعا موسى فرعون أربعين سنة إلى الإسلام ، وإن السحرة آمنوا في يوم
واحد.
المسألة الثالثة ـ
في هذا دليل على أن مالكا كان يذكر من أخبار الإسرائيليات ما وافق القرآن ، أو
وافق السنة أو الحكمة ، أو قامت به المصلحة التي لم تختلف فيها الشرائع ، وعلى هذه
النكتة عوّل في جامع الموطأ.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) :
قال مالك : لا بأس
أن يحبّ الرجل أن يثنى عليه صالحا ، ويرى في عمل الصالحين ، إذا قصد به وجه الله
وهو الثناء الصالح ، وقد قال الله : (وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي).
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).
يعنى أن يجعل من
ولده من يقوم بالحق من بعده إلى يوم الدين ، فقبلت الدعوة ولم تزل النبوة فيهم إلى محمد ، ثم إلى يوم
القيامة.
وقيل : إن المطلوب
اتفاق الملل كلها عليه [إلى يوم القيامة] ، فلا أمّة إلا تقول به وتعظّمه ، وتدّعيه ، إلا أنّ الله
تعالى قد قطع ولاية الأمم كلها إلا ولايتنا ، فقال سبحانه : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
المسألة الثالثة ـ
قال المحققون من شيوخ الزهد : في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب
الثناء الحسن. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا
مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم علّمه ، أو
ولد صالح يدعو له.
وفي رواية : إنه
كذلك في الغرس والزّرع ، وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة ـ والخمسة
صحيح أثرها ، ومسألة الرباط حسن سندها.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أنه سليم
من الشرك ، قاله ابن عباس.
الثاني ـ أنه سليم
من رذائل الأخلاق.
__________________
فقد روى عن عروة
أنه قال : يا بنى ، لا تكونوا لعّانين ، فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط. قال الله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
وقال قوم : معناه
لديغ ، أحرقته المخاوف ، ولدغته الخشية.
وقد قال بعض
علمائنا : إنّ معناه إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك ، فأما الذنوب فلا يسلم
أحد منها.
والذي عندي أنه لا
يكون القلب سليما إذا كان حقودا حسودا ، معجبا متكبرا ، وقد شرط النبىّ صلى الله
عليه وسلم في الإيمان أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه. والله الموفق برحمته.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ).
فيها مسألة واحدة
:
في نزولها خبر
عمّن تقدم من الأمم ، ووعظ من الله لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمّهم به ،
وأنكره عليهم ، قال مالك بن أنس : قال نافع : قال ابن عمر في قوله : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ) قال : يعنى به السّوط. وقال غيره بالقتل ، ويؤيد ما قال
مالك قول الله تعالى ذكره عن موسى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ). وذلك أنّ موسى لم يسلّ عليه سيفا ، ولا طعنه برمح ، وإنما
وكزه ، فكانت ميتته في وكزته. والبطش يكون باليد ، وأقله الوكز والدفع ، ويليه السوط والعصا ، ويليه الحديد ،
والكلّ مذموم إلّا بحقّ.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
نزولها :
وذاك
أنها نزلت بسحر على النبي صلى الله عليه وسلم فصعد الصّفا ، ثم نادى : يا صباحاه
__________________
وكانت
دعوة الجاهلية إذا دعاها الرجل اجتمعت إليه عشيرته ، فاجتمعت
إليه قريش عن بكرة أبيها ، فعمّ وخص ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ العدوّ
مصبحكم ، أكنتم مصدّقي؟ قالوا
: ما جرّبنا عليك كذبا. قال : فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
قال كعب بن لؤي :
يا بنى مرة بن لؤي ، يا آل قصى ، يا آل عبد شمس ، يا آل عبد مناف ، يا آل هاشم ،
يا آل عبد المطلب ، يا صفية أم الزبير ، يا فاطمة بنت محمد ، أنقذوا أنفسكم من
النار ، إنّى لا أملك لكم من الله شيئا. يا بنى عبد مناف ، يا بنى عبد المطلب ، يا
صفية ، يا فاطمة ، سلوني من مالي ما شئتم ، واعلموا أنّ أوليائى يوم القيامة
المتّقون ، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذلك ، وإياى لا يأتى الناس
بالأعمال ، وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم ، فأصدّ بوجهي عنكم ، فتقولون :
يا محمد ، فأقول : هكذا ـ وصرف وجهه إلى الشقّ الآخر. غير أنّ لكم رحما سأبلّها
ببلالها .
فقال أبو لهب : ألهذا
جمعتنا! تبّا لك سائر اليوم ، فنزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَ).
وقد روى البخاري
عن عمرو بن العاص أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ آل أبى طالب ليسوا إلىّ بأولياء ،
وإنما وليّى الله وصالح المؤمنين.
قال البخاري :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : وكان في كتاب محمد بن
جعفر بياض ، يعنى بعد قوله «إلىّ» ، وقد بينه أبو داود في جمع الصحيحين عن شعبة
بالسند الصحيح ، فقال : آل أبى طالب ليسوا إلىّ بأولياء ، إنما ولى الله وصالح
المؤمنين. وقد تقدم ذكر ذلك.
المسألة الثانية ـ
روى ابن القاسم عن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في اليوم الذي
مات فيه : لا يتّكل الناس علىّ
بشيء ، لا أحلّ إلا ما أحلّ الله في كتابه ، ولا أحرّم إلّا ما حرّم الله في كتابه
، يا فاطمة بنت رسول الله ، يا صفيه عمة رسول الله ، اعملا لما عند الله ، فإنى لا
أغنى عنكما من الله شيئا.
__________________
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
فيها ثماني مسائل
:
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَالشُّعَراءُ).
الشعر نوع من
الكلام. قال الشافعى : حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيحه ، يعنى أنّ الشعر ليس
يكره لذاته ، وإنما يكره لمتضمناته. وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول
منهم :
وجرح اللسان كجرح
اليد
وقال النبي صلى
الله عليه وسلم في
الشعر الذي كان يردّ به على المشركين : إنه لأسرع فيهم من النبل.
وقد أخبرنا أبو
الحسن المبارك بن عبد الجبار ، أنبأنا البرمكي والقزويني الزاهد ، أنبأنا ابن حيوة
، أنبأنا أبو محمد السكرى ، أنبأنا أبو محمد الدينوري ، حدثني يزيد
بن عمرو الغنوي ، حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا عمر بن زحر بن حصن ، عن جدّه حميد بن منهب ، قال : سمعت جدّى خريم بن أوس بن
حارثة يقول : هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منصرفه من تبوك ،
فسمعت العباس قال : يا رسول الله ، إنى أريد أن أمتدحك. فقال : قل ، لا يفضض الله فاك. فقال
العباس [ممتدحا] :
من
قبلها طبت في الظلال وفي* مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر* أنت ولا
مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد أل* جم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى
رحم* إذا مضى عالم بدا طبق حتى استوى بينك المهيمن من* خندف علياء تحتها النطق وأنت
لما بعثت أشرقت الأر* ض وضاءت بنورك الأفق
__________________
فنحن
في ذلك الضياء وفي النّ* ور وسبل الرشاد نخترق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
لا يفضض الله فاك.
المسألة الثانية ـ
قوله : (يَتَّبِعُهُمُ
الْغاوُونَ) ، يعنى الجاهلون ، من الغىّ ، وقد يكون الجهل في العقيدة ،
فيكون شركا ، ويراد به الكفار والشياطين. وقد يكون فيما دون ذلك ، فيكون سفاهة.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) ، يعنى يمشون بغير قصد ولا تحصيل ، وضرب الأودية في السير مثلا لصنوف الكلام في الشعر ، لجريان تلك سيلا ، وسير
هؤلاء قولا ، وأحسن ما قيل في ذلك قول الشاعر :
فسار مسير الشمس
في كلّ بلدة
|
|
وهبّ هبوب الريح
في البرّ والبحر
|
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ، يعنى ما يذكرونه في شعرهم من الكذب في المدح والتفاخر ،
والغزل والشجاعة ، كقول الشاعر في صفة السيف:
تظلّ تحفر عنه
إن ضربت به
|
|
بعد الذراعين
والساقين والهادي
|
فهذا تجاوز بارد
وتحامق جاهل.
المسألة الخامسة ـ
روى أن عبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وحسان بن ثابت أتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين نزل : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) ، وقالوا : هلكنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ، يعنى ذكروا الله كثيرا في كلامهم ، وانتصروا في ردّ
المشركين عن هجائهم ، كقول حسان في أبى سفيان :
وإنّ سنام المجد
من آل هاشم
|
|
بنو بنت مخزوم
ووالدك العبد
|
وما ولدت أفناء زهرة منكم
|
|
كريما ولا يقرب
عجائزك المجد
|
__________________
ولست كعبّاس ولا
كابن أمّه
|
|
ولكن هجين ليس
يورى له زند
|
وإنّ امرأ كانت
سميّة أمّه
|
|
وسمراء مغلوب
إذا بلغ الجهد
|
وأنت امرؤ قد نيط في آل هاشم
|
|
كما نيط خلف
الراكب القرح الفرد
|
وروى الترمذي
وصححه عن أنس أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء ،
وعبد الله بن رواحة يمشى بين يديه يقول :
خلّوا
بنى الكفّار عن سبيله
|
|
اليوم
نضربكم على تنزيله
|
ضربا
يزيل الهام عن مقيله
|
|
ويذهل
الخليل عن خليله
|
فقال
عمر : يا ابن رواحة ، في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول
الشعر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خلّ عنه يا عمر ، فإنه أسرع فيهم من نضح النّبل ، وفي رواية :
نحن
ضربناكم على تأويله
|
|
كما
ضربناكم على تنزيله
|
المسألة السادسة ـ
من المذموم في الشعر التكلم من الباطل بما لم يفعله المرء ، رغبة في تسلية النفس ،
وتحسين القول. روى أن النعمان بن على بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب ، فقال :
ألا هل أتى
الحسناء أنّ خليلها
|
|
بميسان يسقى في
زجاج وحنتم
|
إذا شئت غنّتنى
دهاقين قرية
|
|
ورقّاصة تجذو على كل منسم
|
فإن كنت ندمانى
فبالأكبر اسقني
|
|
ولا تسقني
بالأصغر المتثلّم
|
لعلّ أمير
المؤمنين يسوءه
|
|
تنادمنا بالجوسق
المتهدّم
|
__________________
فبلغ ذلك عمر ،
فأرسل إليه بالقدوم عليه ، وقال : إنى والله يسوءنى ذلك. فقال له : يا أمير المؤمنين ، ما فعلت
شيئا مما قلت ، وإنما كانت فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).
فقال له عمر :
أمّا عذرك فقد درأ عنك الحدّ ، ولكن لا تعمل لي عملا أبدا.
المسألة السابعة ـ
وقد كشف الخليفة العدل عمر بن عبد العزيز حقيقة أحوال الشعراء ، وكشف سرائرهم ،
وانتحى معايبهم في أشعارهم ، فروى أنه لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله وفدت إليه
الشعراء ، كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله ، فأقاموا ببابه أيّاما لا يأذن لهم
بالدخول ، حتى قدم عدىّ بن أرطاة على عمر بن عبد العزيز ، وكانت له مكانة فتعرّض
له جرير ، فقال :
يا أيها الرجل
المزجى مطيّته
|
|
هذا زمانك ، إنى
قد خلا زمنى
|
أبلغ خليفتنا إن
كنت لاقيه
|
|
أنى لدى الباب
كالمصفود في قرن
|
وحش المكانة من
أهلى ومن ولدي
|
|
نائى المحلّة عن
دارى وعن وطنى
|
فقال : نعم ، أبا
حزرة ونعمى عين.
فلما دخل على عمر
قال : يا أمير المؤمنين ، إن الشعراء ببابك ، وأقوالهم باقية ، وسهامهم مسمومة.
فقال عمر : مالي
وللشعراء! قال : يا أمير المؤمنين ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مدح
وأعطى ، وفيه أسوة لكل مسلم. قال : ومن مدحه؟ قال : عباس بن مرداس السلمى ، فكساه
حلّة قطع بها لسانه. قال : نعم ، فأنشده :
رأيتك يا خير
البريّة كلها
|
|
نشرت كتابا جاء
بالحق معلما
|
__________________
سننت لنا فيه
الهدى بعد جورنا
|
|
عن الحق لمّا
أصبح الحقّ مظلما
|
فمن مبلغ عنّى
النبىّ محمدا
|
|
وكلّ امرئ يجزى
بما قد تكلّما
|
تعالى علوّا فوق
عرش إلهنا
|
|
وكان مكان الله
أعلى وأعظما
|
قال : صدقت ، فمن
بالباب منهم؟ قال : ابن عمك عمر بن أبى ربيعة القرشي. قال : لا قرّب الله قرابته ،
ولا حيّا وجهه ، أليس هو القائل :
ألا ليت أنى يوم
بانوا بميتتى
|
|
شممت الذي ما
بين عينيك والفم
|
وليت طهورى كان
ريقك كلّه
|
|
وليت حنوطي من
مشاشك والدم
|
ويا ليت سلمى في
القبور ضجيعتى
|
|
هنالك أو في
جنّة أو جهنّم
|
فليت عدو الله
تمنّى لقاءها في الدنيا ، ثم يعمل عملا صالحا. والله لا دخل علىّ أبدا.
فمن بالباب غير من
ذكرت؟ قال : جميل بن معمر العذرى. قال : هو الذي يقول :
ألا ليتنا نحيا
جميعا وإن نمت
|
|
يوافى لدى الموتى ضريحي ضريحها
|
فما أنا في طول
الحياة براغب
|
|
إذا قيل : قد
سوّى عليها صفيحها
|
أظلّ نهاري لا
أراها ويلتقى
|
|
مع الليل روحي
في المنام وروحها
|
اعزب به ، فلا
يدخل علىّ أبدا.
فمن غير من ذكرت؟
قال : كثير عزة. قال : هو الذي يقول :
رهبان مدين
والذين عهدتهم
|
|
يبكون من حذر
العذاب قعودا
|
لو يسمعون كما سمعت
كلامها
|
|
خرّوا لعزّة
ركّعا وسجودا
|
اعزب به.
فمن بالباب غير من
ذكرت؟ قال : الأحوص الأنصارى. قال : أبعده الله وأسحقه ،
__________________
أليس هو القائل ـ وقد
أفسد على رجل من أهل المدينة جارية له حتى هربت منه ، قال:
الله بيني وبين
سيّدها
|
|
يفرّ منى بها
وأتّبع
|
أعزب به.
فمن بالباب غير من
ذكرت؟ قال : همام بن غالب الفرزدق. قال : أليس هو القائل يفخر بالزنا :
هما دلّيانى من
ثمانين قامة
|
|
كما انقضّ باز
أقتم الريش كاسره
|
فلما استوت
رجلاي في الأرض قالتا
|
|
أحىّ يرجّى أم
قتيل نحاذره؟
|
فقلت : ارفعوا
الأمراس لا يشعروا بنا
|
|
ووليت في أعقاب
ليل أبادره
|
اعزب به. فو الله
لا يدخل علىّ أبدا.
فمن بالباب غير من
ذكرت؟ قلت : الأخطل التغلبي. قال : هو القائل :
فلست بصائم رمضان عمرى
|
|
ولست بآكل لحم
الأضاحى
|
ولست بزاجر عيسا
ركوبا
|
|
إلى بطحاء مكة
للنجاح
|
ولست بقائم
كالعير يدعو
|
|
قبيل الصبح حىّ
على الفلاح
|
ولكني سأشربها
شمولا
|
|
وأسجد عند منبلج
الصباح
|
اعزب به ، فو الله
لا وطئ بساطي.
فمن بالباب غير من
ذكرت؟ قلت : جرير بن عطية الخطفى. قال : أليس هو القائل:
لو لا مراقبة
العيون أريتنا
|
|
مقل المها
وسوالف الآرام
|
ذمّ المنازل بعد
منزلة اللّوى
|
|
والعيش بعد
أولئك الأيام
|
طرقتك صائدة
القلوب وليس ذا
|
|
حين الزيارة
فارجعى بسلام
|
فإن كان ولا بد
فهذا ، فأذن له.
__________________
فخرجت إليه ، فقلت
: ادخل أبا حزرة ، فدخل وهو يقول :
إنّ الذي بعث
النبىّ محمدا
|
|
جعل الخلافة
للإمام العادل
|
وسع البريّة عدله ووفاؤه
|
|
حتى ارعوى وأقام
ميل المائل
|
إنى لأرجو منك
خيرا عاجلا
|
|
والنفس مولعة
بحبّ العاجل
|
فلما مثل بين يديه
قال له : اتّق الله يا جرير ، ولا تقل إلا حقا ، فأنشأ يقول :
كم باليمامة من
شعثاء أرملة
|
|
ومن يتم ضعيف
الصوت والنّظر
|
ممن يعدّك تكفى
فقد والده
|
|
كالفرخ في العشّ
لم يدرج ولم يطر
|
إنا لنرجو ـ إذا
ما الغيث أخلفنا ـ
|
|
من الخليفة ما
نرجو من المطر
|
أتى الخلافة إذا
كانت له قدرا
|
|
كما أتى ربّه
موسى على قدر
|
هذى الأرامل قد
قضّيت حاجتها
|
|
فمن لحاجة هذا
الأرمل الذّكر
|
فقال : يا جرير ،
لقد وليت هذا الأمر ، وما أملك إلا ثلاثمائة [درهم] ، فمائة أخذها عبد الله ، ومائة أخذتها أم عبد الله ، يا
غلام ، أعطه المائة الثالثة.
فقال : والله يا
أمير المؤمنين ، إنها لأحبّ مال كسبته إلىّ. ثم خرج ، فقال له الشعراء: ما وراءك؟
قال : ما يسوءكم ، خرجت من عند أمير يعطى الفقراء ، ويمنع الشعراء ، وإنى عنه لراض
، ثم أنشأ يقول :
رأيت رقى
الشيطان لا تستفزّه
|
|
وقد كان شيطاني
من الجنّ راقيا
|
ولما ولى ابن
الزبير وفد إليه نابغة بنى جعدة ، فدخل عليه المسجد الحرام ، ثم أنشده :
حكيت لنا
الفاروق لما وليتنا
|
|
وعثمان والصدّيق
فارتاح معدم
|
وسوّبت بين
الناس في الحق فاستووا
|
|
فعاد صباحا حالك
اللّون مظلم
|
__________________
أتاك أبو ليلى
يجوب به الدّجى
|
|
دجى الليل جوّاب
الفلاة عثمثم
|
لتجبر منا جانبا
دعدعت به
|
|
صروف الليالى
والزمان المصمّم
|
فقال له ابن
الزبير : هوّن عليك أبا ليلى ، فالشعر أدنى وسائلك عندنا ، أما صفوة مالنا فلآل
الزبير ، وأما عفوته فإن بنى أسد وتميما شغلاها عنك ، ولكن لك في مال الله سهمان :
سهم برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ، ثم
أخذ بيده ، ودخل دار المغنم فأعطاه قلائص سبعا ، وجملا رحيلا ، وأوقر له الركاب برّا
وتمرا ، فجعل النابغة يستعجل ، ويأكل الحبّ صرفا.
فقال ابن الزبير :
ويح أبى ليلى! لقد بلغ به الجهد! فقال النابغة : أشهد
، لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما وليت قريش فعدلت ، ولا استرحمت
فرحمت ، وحدثت فصدقت ، ووعدت فأنجزت ، فأنا والنبيون فرّاط القاصفين .
قال الزبير بن
بكار : فكأن الفارط الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرّشاء والدّلاء. والقاصف : الذي
يتقدم لشراء الطعام.
المسألة الثامنة ـ
في تحقيق القول فيه :
أما الاستعارات
والتشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحدّ ، وتجاوزت المعتاد ، فبذلك يضرب الملك
الموكّل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي
اليوم متبول
|
|
متيّم إثرها لم
يفد مكبول
|
وما سعاد غداة
البين إذ رحلوا
|
|
إلا أغنّ غضيض
الطّرف مكحول
|
تجلو عوارض ذي
ظلم إذا ابتسمت
|
|
كأنه منهل
بالرّاح معلول
|
فجاء في هذه
القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكلّ بديع. والنبي صلى الله عليه يسمع ولا ينكر
، حتى في تشبيه ريقها بالرّاح.
__________________
وقد كانت حرمت قبل
إنشاده لهذه القصيدة ، ولكن تحريمها لم يمنع عندهم طيبها ، بل تركوها على الرغبة
فيها والاستحسان لها ، فكان ذلك أعظم لأجورهم ، ومن الناس قليل من يتركها استقذارا
لها ، وإنها لأهل لذلك عندي ، وإنى لأعجب من الناس في تلذذهم بها واستطابتهم لها ،
وو الله ما هي إلا قذرة بشعة كريهة من كل وجه ، والله يعصم من المعاصي بعزّته.
وبالجملة ، فلا ينبغي
أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه ، فذلك مذموم شرعا. قال
النبي صلى الله عليه وسلم :
لأن يمتلئ جوف
أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا. والله أعلم لا ربّ غيره ولا
معبود إلا إياه.
__________________
سورة النمل
[ويقال الهدهد. فيها ست عشرة آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قد
بينا فيما سلف أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إنا
معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة. وأنه قال : إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما
، إنما ورثوا علما. والأول أصح.
فإن قيل : فما
معنى قوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ).
قلنا ، وهي :
المسألة الثانية ـ
أراد بالإرث هاهنا نزوله منزلته في النبوة والملك ، وكان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا
وأنثى ، فخصّ سليمان بالذكر ، ولو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ، فخصه بما
كان لداود ، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ القول
في منطق الطير ، وهو صوت تتفاهم به في معانيها على صيغة واحدة ، بخلاف منطقنا ،
فإنه على صيغ مختلفة ، نفهم به معانيها.
قال علماؤنا : وفي
المواضعات غرائب ؛ ألا ترى أنّ صوت البوق تفهم منه أفعال مختلفة من حلّ وتر حال ،
ونزول وانتقال ، وبسط وربط ، وتفريق وجمع ، وإقبال وإدبار ، بحسب المواضعة
والاصطلاح.
__________________
وقد كان صاحبنا
مموس الدريدى يقرأ معنا ببغداد ، وكان من قوم كلامهم حروف الشفتين ، ليس لحروف
الحلق عندهم أصل.
فجعل الله لسليمان
معجزة فهم كلام الطير والبهائم والحشرات ؛ وإنما خصّ الطير لأجل سوق قصّة الهدهد
بعدها. ألا تراه كيف ذكر قصة النمل معها ، وليست من الطير.
ولا خلاف عند
العلماء في أنّ الحيوانات كلها لها أفهام وعقول.
وقد قال الشافعى :
الحمام أعقل الطير. وقد قال علماء الأصوليين : انظروا إلى النملة كيف تقسّم كل
حبّة تدّخرها نصفين لئلا ينبت الحب ، إلّا حبّ الكزبرة فإنها تقسم الحبة منه على
أربع ، لأنها إذا قسمت بنصفين تنبت ، وإذا قسمت بأربعة أنصاف لم تنبت.
وهذه من غوامض
العلوم عندنا ، وأدركتها النمل بخلق الله ذلك لها.
وقال الأستاذ أبو
المظفر شاه نور الإسفراينى : ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم ، وخلق
المخلوقات ، ووحدانية الإله ، ولكنا لا نفهم عنها ، ولا تفهم عنا ، أما أنّا
نطلبها وهي تفرّ منا فبحكم الجنسية.
المسألة الثانية ـ
روى ابن وهب عن مالك أنّ سليمان النبىّ مرّ على قصر بالعراق ، فإذا فيه كتاب :
خرجنا من قرى
إصطخر
|
|
إلى القصر
فقلناه
|
فمن سال عن
القصر
|
|
فمبنيّا وجدناه
|
وعلى القصر نسر ،
فناداه سليمان ، فأقبل إليه ، فقال : مذ كم أنت هاهنا؟ قال : مذ تسعمائة سنة.
ووجدت القصر على هيئته.
قال القاضي : قرأت
بمدينة السلام على أبى بكر النجيب بن الأسعد ، قال : أنبأنا محمد بن فتوح الرصافي
، أنبأنا الخطيب أبو بكر الحافظ ، حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد الرفاعي ،
أنبأنا على بن محمد بن أحمد الفقيه بأصبهان ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد
الله بن أسيد ، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا عبيد الله بن على بن يحيى الإفريقى ،
حدثنا عبد الملك بن حبيب ، عن مالك
__________________
ابن أنس ، وعن
ربيعة بن أبى عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيّب : كان سليمان بن داود يركب الريح من
إصطخر فيتغدّى ببيت المقدس ، ثم يعود فيتعشّى بإصطخر. فقال : إن ابن حبيب أدرك
مالكا ، وما أراه ولا هذا الحديث إلّا مقطوعا. والله أعلم.
وروى مالك وغيره
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [نزل] نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة ، فأمر بجهازه
فأخرج من تحتها ، ثم أمر ببيتها فأحرق ، فأوحى الله إليه فهلّا نملة واحدة .
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَحُشِرَ
لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (يُوزَعُونَ) ؛ يعنى يمنعون ويدفعون ، ويرد أولهم على آخرهم ، وقد يكون
بمعنى يلهمون من قوله : (أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) ؛ أى ألهمنى. ويحتمل أن يرجع إلى الأول ، ويكون معناه
ردّني.
المسألة الثانية ـ
روى أشهب قال : قال مالك بن أنس : قال عثمان : ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن. قال مالك : يعنى
يكفّهم. قال ابن وهب مثله ، وزاد ثم تلا مالك : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ؛ أى يكفّون.
وقد جهل قوم
المراد بهذا الكلام ، فظنوا أنّ المعنى فيه أنّ قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما
تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه ، فإن الله ما وضع
الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة بقوام الحق ، لا زيادة عليها ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن
الظلمة خاسوا بها ، وقصّروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نيّة منها ، ولم
يقصدوا وجه الله في القضاء بها ؛ فلذلك لم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا بالعدل ؛
وأخلصوا
__________________
النية ، لاستقامت
الأمور ، وصلح الجمهور ؛ وقد شاهدتم منّا إقامة العدل والقضاء ـ والحمد لله ـ بالحق
، والكفّ للناس بالقسط ، وانتشرت الأمنة ، وعظمت المنعة ، واتصلت في البيضة الهدنة ، حتى غلب قضاء الله
بفساد الحسدة ، واستيلاء الظلمة.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا
عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ رأيت
بعض البصريين قد قال : إن النملة كان لها جناحان ، فصارت في جملة الطّير
؛ ولذلك فهم منطقها ؛ لأنه لم يعلم إلّا منطق الطير ؛ وهذا نقصان عظيم. وقد بينّا
الحكمة في ذكر الطير ، خصوصا دون سائر البهائم والحشرات ، وما لا يعقل. وقد اتفق
الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ، ويخلق له فيه القول من النبات ؛ فكان
كلّ نبات يقول له : أنا شجرة كذا ، أنفع من كذا ، وأضرّ من كذا ، وفائدتى كذا ،
فما ظنّك بالحيوان!
المسألة الثانية ـ
قوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فانظر إلى فهمها بأنّ جند سليمان لم يكن فيهم من يؤذى
نملة مع القصد إلى ذلك ، والعلم به ، تقية لسليمان ، لأن منهم التقىّ والفاجر ،
والمؤمن والكافر ؛ إذ كان فيهم الشياطين.
وقد أخبر الله عن
حيش محمّد بمثله في قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ). وهذا من فضائل محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بينا ذلك في
كتاب المشكلين ، وفي معجزات النبي من كتاب «أنوار الفجر».
وقد انتهى الجهل
بقوم إلى أن يقولوا : إنّ معناه : والنمل لا يشعرون ، فخرج من خطاب المواجهة إلى
خطاب الغائب لغير ضرورة ولا فائدة إلا إبطال المعجزة لهذا النبي الكريم ، والله
ولىّ التقويم. كما انتهى الإفراط بقوم إلى أن يقولون : إنه كان من كلام النملة له
أن
__________________
قالت : يا نبيّ
الله ؛ أرى لك ملكا عظيما ، فما أعظم جندك؟ قال لها : تسخير الريح. قالت له : إنّ
لله أعلمك أنّ كل ما أنت فيه في الدنيا ريح. وما أحسن الاقتصاد ، وأضبط السداد
للأمور والانتقاد!
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً
مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ القول
في التبسّم : وهو أوّل الضحك ، وآخره بدوّ النواجذ ؛ وذلك يكون مع القهقهة ، وجلّ ضحك
الأنبياء التبسّم.
المسألة الثانية ـ
من الضحك مكروه ، لقوله : (فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
ومن الناس من كان
لا يضحك ؛ اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف ، وإن كان عبدا
طائعا. ومن الناس من يضحك ، وإنما قال الله في الكفار : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا
كَثِيراً) ؛ لما كانوا عليه من النفاق ، يعنى ضحكهم في الدنيا ـ وهو
تهديد لا أمر بالضّحك.
وقالت عائشة : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبىّ صلى
الله عليه وسلم ، وكان رفاعة طلّقها فبتّ طلاقها ، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن
الزبير ، وقالت : يا رسول الله ؛ والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة ـ لهدبة أخذتها
من جلبابها ، وأبو بكر الصديق وخالد جالسان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن
سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة ليؤذن له ، فطفق خالد ينادى : يا أبا بكر ، انظر
ما تجهر به هذه [المرأة] عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم
على التبسم. ثم قال : لعلّك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة ... الحديث.
__________________
واستأذن
عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه
عالية أصواتهن على صوته ؛ فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب ، فأذن له النبىّ صلى
الله عليه وسلم ، فدخل ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم يضحك. فقال : أضحك الله سنّك
يا رسول الله ، بأبى أنت وأمى! فقال : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي ، فلما سمعن
صوتك تبادرن الحجاب ... وذكر الحديث.
وروى عبد الله بن
عمر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما كان بالطائف قال : إنا قافلون غدا إن شاء الله. فقال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم : لا
نبرح حتى نفتحها. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم : فاغدوا على القتال. قال :
فغدوا ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وكثرت الجراحات. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : إنّا قافلون غدا إن شاء الله. [قال] : فسكتوا. قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو هريرة :
أتى رجل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت وأهلكت ، وقعت على أهلى في رمضان. قال : أعتق
رقبة. قال : ليس لي مال. قال : فصم شهرين متتابعين. قال
: لا أستطيع. قال : فأطعم ستين مسكينا. قال : لا أجد. قال : فأتى [رسول الله] بعرق تمر ، والعرق : المكتل. فقال : أين السائل؟ تصدّق
بهذا. قال : أعلى أفقر منّى! والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا. فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت
نواجذه. قال : فأنتم إذا.
ولما سأله الناس
المطر فأمطروا ، ثم سألوه الصحو ضحك .
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : إن قيل : من أى شيء ضحك سليمان؟
قلنا : فيه أقوال
:
أصحّها أنه ضحك من
نعمة الله عليه في تسخير الجيش وعظيم الطاعة ، حتى لا يكون اعتداء.
ولذلك قال : (أَوْزِعْنِي ، أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ). وهو حقيقة الشكر. والله أعلم.
__________________
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب تفقّده قولان :
أحدهما ـ أنّ
الطير كانت تظلّ سليمان من الشمس حتى تصير عليه صافّات ، كالغمامة ، فطار الهدهد
عن موضعه ، فأصابت الشمس سليمان ، فتفقّده حينئذ.
الثاني ـ أنّ
الهدهد كان يرى تحت الأرض الماء ، فكان ينزل بجيشه ، ثم يقول للهدهد : انظر بعد
الماء من قربه ، فيشير له إلى بقعة ، فيأمر الجن فتسلخ الأرض سلخ الأديم ، حتى
تبلغ الماء ، فيستقى ويسقى.
المسألة الثانية ـ
قال سليمان : ما لي لا أرى الهدهد. ولم يقل : ما للهدهد لا أراه!
قال لنا أبو سعيد
محمّد بن طاهر الشهيد : قال لنا جمال الإسلام وشيخ الصوفية أبو القاسم عبد الكريم
بن هوازن : إنما قال : [ما لي لا أرى الهدهد] لأنه اعتبر حال نفسه ؛ إذ علم أنه أوتى الملك العظيم ،
وسخّر له الخلق ، فقد لزمه حقّ الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل. فلما فقد نعمة
الهدهد توقّع أن يكون قصّر في حق الشكر ، فلأجله سلبها ، فجعل يتفقّد نفسه ، فقال
: ما لي!
وكذلك تفعل شيوخ
الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقّدوا أعمالهم. هذا في الآداب ، فكيف بنا اليوم ، ونحن
نقصّر في الفرائض!
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : هذا يدلّ من سليمان على تفقده أحوال الرعية ، والمحافظة عليهم ،
فانظروا إلى الهدهد ، وإلى صغره ؛ فإنه لم يغب عنه حاله ، فكيف بعظائم الملك؟
ويرحم الله عمر ،
فإنه كان على سيرته قال : لو أن سخلة بشاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر ، فما ظنّك بوال
تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعيّة ، وتضيع الرعيان!
__________________
المسألة الرابعة ـ
قال ابن الأزرق لابن عباس ـ وقد سمعه يذكر شأن الهدهد هذا : قف يا وقاف. كيف يرى
الماء تحت الأرض ، ولا يرى الحبّة في الفخ.
فقال له ابن عباس
بديهة : إذا نزل القدر غشى البصر. ولا يقدر على هذا الجواب إلّا عالم القرآن.
وقد أنشدنى محمد
بن عبد الملك التنيسى الواعظ ، عن الشيخ أبى الفضل الجوهري في هذا المعنى :
إذا أراد الله
أمرا بامرىء
|
|
وكان ذا عقل
وسمع وبصر
|
وحيلة يعملها في
دفع ما
|
|
يأتى به مكروه
أسباب القدر
|
غطّى عليه سمعه
وعقله
|
|
وسلّه من ذهنه
سلّ الشعر
|
حتى إذا أنفذ
فيه حكمه
|
|
ردّ عليه عقله
ليعتبر
|
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية دليل على أنّ الطّير كانوا مكلّفين ، إذ لا يعاقب على ترك فعل إلّا من كلّف
ذلك الفعل ، وبهذا يستدلّ على جهل من يقول : إن ذلك إنما كان من سليمان استدلالا
بالأمارات ، وإنه لم يكن للطير عقل ، ولا كان للبهائم علم ، ولا أوتى سليمان علم
منطق الطّير.
وقاتلهم الله ، ما
أجرأهم على الخلق فضلا عن الخالق!
المسألة الثانية ـ
كان الهدهد صغير الجرم ، ووعد بالعذاب الشديد لعظيم الجرم.
قال علماؤنا :
وهذا يدلّ على أن الحدّ على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد ، أما إنه يرفق بالمحدود
في الزمان والصفة على ما بيناه في أحكام استيفاء القصاص.
__________________
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ
فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).
وهذا دليل على أن
الصغير يقول للكبير ، والمتعلم للعالم : عندي ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك وتيقّنه.
وقد بيناه في آداب العلم.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : هي بلقيس بنت شرحبيل ملكة سبأ ، وأمها جنية بنت أربعين ملكا. وهذا أمر تنكره الملحدة ويقولون : إن الجنّ لا يأكلون ولا يلدون ـ وكذبوا لعنهم
الله أجمعين. ذلك صحيح ونكاحهم مع الإنس جائز عقلا. فإن صحّ نقلا فبها ونعمت ،
وإلّا بقينا على أصل الجواز العقلي.
المسألة الثانية ـ
روى الترمذي وغيره عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبأ : هو رجل ولد له عشرة أولاد ، وكان لهم
خبر فسمى البلد باسم القبيلة ، أو ذكر أنه جاء من القبيلة.
ويحتمل أن يكون
سمّى البلد باسم القبيلة.
روى الترمذي وغيره
عن فروة بن مسيك المرادي ، قال : أتيت
النبىّ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ؛ ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن
أقبل منهم. فأذن لي في قتالهم وأمرنى.
فلما
خرجت من عنده سأل عنّى ما فعل القطيفي؟ فأخبر بأنى قد سرت. قال : فأرسل في أثرى
فردّنى ، فأتيته ، وهو في نفر من أصحابه ، فقال : ادع القوم ، فمن أسلم منهم فاقبل
منه ، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث لك.
وأنزل
الله في سبأ ما أنزل. فقال رجل : يا رسول الله ؛ ما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ فقال : ليس
بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيا من منهم ستة ، وتشاءم
__________________
منهم
أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسّان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد ،
والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار. فقال رجل : يا رسول الله ؛ وما
أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة.
وروى في هذا عن
ابن عباس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم حديث آخر.
المسألة الثالثة ـ
روى في الصحيح عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال ـ حين
بلغه أن كسرى لما مات ولّى قومه بنته : لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.
وهذا نصّ في أن
المرأة لا تكون خليفة ، ولا خلاف فيه.
ونقل عن محمد بن
جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ؛ ولم يصح ذلك عنه ؛ ولعله
كما نقل عن أبى حنيفة أنها [إنما] تقضى فيما تشهد فيه ، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ،
ولا بأن يكتب لها منشور بأنّ فلانة مقدمة على الحكم ، إلا في الدماء والنكاح ،
وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة ، بدليل قوله صلى
الله عليه وسلم : لن
يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.
وهذا هو الظنّ
بأبى حنيفة وابن جرير.
وقد روى أن عمر
قدّم امرأة على حسبة السوق ، ولم يصح ؛ فلا تلتفتوا إليه ؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث.
وقد تناظر في هذه
المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعرى مع أبى الفرج ابن طرار شيخ
الشافعية ببغداد في مجلس السلطان الأعظم عضد الدولة ، فما حل ونصر ابن طرار لما
ينسب إلى ابن جرير ، على عادة القوم في التجادل على المذاهب ، وإن لم يقولوا بها
استخراجا للأدلة وتمرّنا في الاستنباط للمعاني ؛ فقال أبو الفرج بن طرار : الدليل
على أن المرأة يجوز أن تحكم أنّ الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها ، وسماع البينة
عليها ، والفصل بين الخصوم فيها ، وذلك يمكن من المرأة ، كإمكانه من الرجل.
فاعترض عليه
القاضي أبو بكر ، ونقض كلامه بالإمامة الكبرى ؛ فإنّ الغرض منها
__________________
حفظ الثغور ،
وتدبير الأمور ، وحماية البيضة ، وقبض الخراج ، وردّه على مستحقيه ؛ وذلك يتأتّى من المرأة كتأتّيه من الرجل.
فقال له أبو الفرج
بن طرار : هذا هو الأصل في الشرع ، إلا أن يقوم دليل على منعه.
فقال له القاضي
أبو بكر : لا نسلّم أنه أصل الشرع.
قال القاضي عبد
الوهاب : هذا تعليل للنقض ، يريد : والنقض لا يعلّل. وقد بينا فساد قول القاضي عبد
الوهاب في أصول الفقه.
قال الفقيه القاضي
أبو بكر رحمه الله : ليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء ، فإن المرأة لا يتأتّى منها أن تبرز إلى المجالس ، ولا
تخالط الرجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير ، لأنها إن كانت فتاة حرم النظر
إليها وكلامها ، وإن كانت متجالّة برزة لم يجمعها والرجال مجلس تزدحم فيه معهم ، وتكون منظرة
لهم ، ولم يفلح قط من تصوّر هذا ، ولا من اعتقده.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ).
لم يعاقبه ، لأنه
اعتذر له ، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله ، ولذلك بعث النبيين مبشّرين ومنذرين.
وكذلك يجب على
الوالي أن يقبل عذر رعيته ، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ،
ولكن له أن يمتحن ذلك إذا تعلّق به حكم من أحكام الشريعة ، كما فعل سليمان ؛ فإنه
لما قال له [الهدهد] : (إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) لم يستفزه الطمع ، ولا استجرّه حبّ الزيادة في الملك إلى
أن يعرض له ، حتى قال : (وَجَدْتُها
وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، حينئذ غاظه ما سمع ، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر ، وتحصيل
علم ما غاب من ذلك ، حتى يغيّره بالحق ، ويردّه إلى الله تعالى.
__________________
ونحو منه ما يروى أن عمر بن الخطاب سأل عن إملاص المرأة ،
وهي التي يضرب بطنها فتلقى جنينها ، فقال : أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم
فيه شيئا؟ قلت : أنا ـ يعنى المغيرة بن شعبة ـ فقال : ما هو؟ قلت : سمعت النبىّ
صلى الله عليه وسلم يقول : فيه غرّة عبد أو أمة. فقال : لا تبرح حتى تجيء بالمخرج
من ذلك.
فخرجت ، فوجدت
محمد بن مسلمة ، فجئت به ، فشهد.
وكان هذا تثبّتا
من عمر احتجّ به لنفسه.
وأما المغيرة
فتوقّف فيما قال لأجل قصة أبى بكرة ، وهذا كلّه مبيّن في أصول الفقه.
المسألة الثانية ـ
لو قال له سليمان : سننظر في أمرك لاجتزأ به ، ولكن الهدهد لما صرح له بفخر العلم
، (فَقالَ : أَحَطْتُ
بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ـ صرّح له سليمان بأنه سينظر ، أصدق أم كذب ـ فكان ذلك
كفؤا لما قاله.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتابِي
هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ
مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (كِتابٌ كَرِيمٌ).
فيه ستة أقوال :
الأول ـ لختمه ،
وكرامة الكتاب ختمه.
الثاني ـ لحسن ما
فيه من بلاغة وإصابة معنى.
الثالث ـ كرامة
صاحبه ؛ لأنه ملك.
الرابع ـ كرامة
رسوله ؛ لأنه طائر ؛ وما عهدت الرسل منها.
الخامس ـ لأنه بدأ
فيه ببسم الله.
السادس ـ لأنه بدأ
فيه بنفسه ، ولا يفعل ذلك إلا الجلّة.
__________________
وفي حديث ابن عمر
أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه : لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ؛ إنى
أقرّ لك بالسمع والطاعة ما استطعت ، وإنّ بنىّ قد أقرّوا [لك] بذلك.
وهذه الوجوه كلّها
صحيحة. وقد روى أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان.
المسألة الثانية ـ
الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وأهل الزّمان يصفون الكتاب بالخطير ، وبالأثير ،
وبالمبرور ، فإن كان لملك قالوا : العزيز ، وأسقطوا الكريم غفلة ، وهو أفضلها
خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد اتصف به القرآن أيضا ، فقال : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).
فهذه عزته ، وليست
لأحد إلّا له ، فاجتنبوها في كتبكم ، واجعلوا بدلها العالي ، توفية لحق الولاية ،
وحياطة للديانة.
المسألة الثالثة ـ
هذه البسملة آية في هذا الموضع بإجماع ، ولذلك إنّ من قال : إن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليست آية من القرآن كفر ، ومن قال : إنها ليست بآية في
أوائل السور لم يكفر ، لأنّ المسألة الأولى متفق عليها ، والمسألة الثانية مختلف
فيها. ولا يكفر إلا بالنص ، أو ما يجمع عليه.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ
أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ).
في هذا دليل على
صحة المشاورة إمّا استعانة بالآراء ، وإما مداراة للأولياء.
ويقال : إنها أول
من جاء أنه شاور ، وقد بينا المشورة في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته ، وقد مدح الله
الفضلاء بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ).
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).
فيها مسألتان :
__________________
المسألة الأولى ـ يروى
أنها قالت : إن كان نبيّا لم يقبل الهديّة ، وإن كان ملكا قبلها.
وفي صفة النبي
محمد أنه يقبل الهديّة ، ولا يقبل الصدقة. وكذلك كان سليمان ، وجميع الأنبياء
يقبلون الهديّة.
وإنما جعلت بلقيس
قبول الهدية أو ردّها علامة على ما في نفسها ، لأنه قال لها في كتابه : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). وهذا لا تقبل فيه فدية ، ولا تؤخذ عنه هدية.
وليس هذا من الباب
الذي تقرر في الشريعة من قبول الهدية بسبيل ، وإنما هي رشوة ، وبيع الحق بالمال هو الرشوة التي لا تحلّ.
وأما الهدية
المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل واحد ، وعلى كل حال.
المسألة الثانية ـ
وهذا ما لم تكن من مشرك ، فإن كانت من مشرك ، ففي الحديث : نهيت عن زبد المشركين.
وفي حديث آخر : لقد همت ألا أقبل هديّة إلا من ثقفىّ أو
دوسىّ.
والصحيح ما ثبت عن
عائشة أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
ومن حديث أبى
هريرة : لو دعيت إلى كراع لأجبت ، ولو أهدى إلىّ ذراع أو كراع لقبلت.
وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه ـ في الصيد : هل
معكم من لحمه شيء؟ قلت : نعم. فناولته العضد.
وقد استسقى في دار
أنس فحلبت له شاة وشيب وشربه.
وأهدى أبو طلحة له
ورك أرنب وفخذيها فقبله.
__________________
وأهدت
أم حفيد إليه أقطا وسمنا وضبّا ، فأكل النبىّ صلى الله
عليه وسلم من الأقط والسمن ، وترك الضبّ.
وقال في حديث
بريرة : هو عليها صدقة ولنا
هديّة ، وكان الناس
يتحرّون بهداياهم يوم عائشة.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (قالَ : يا أَيُّهَا
الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ...).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ ما
الفائدة في طلب عرشها؟
قيل فيه أربع
فوائد :
الفائدة الأولى ـ أحبّ
أن يختبر صدق الهدهد.
الثانية ـ أراد
أخذه قبل أن تسلم ، فيحرم عليه مالها.
الثالثة ـ أراد أن
يختبر عقلها في معرفتها به.
الرابعة ـ أراد أن
يجعله دليلا على نبوّته ، لأخذه من ثقاتها دون جيش ولا حرب.
المسألة الثانية ـ
قد ثبت أن الغنيمة ـ وهي أموال الكفّار ـ لم تحلّ لأحد قبل محمد صلى الله عليه
وسلم ، وإنما قصد بالإرسال إليها إظهار نبوّته ، ويرجع إليها ملكها بعد قيام
الدليل على النبوة به عندها.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ).
في تسميته خمسة
أقوال لا تساوى سماعها ، وليس على الأرض من يعلمه.
ولقد قال ابن وهب
: حدثني مالك في هذه الآية : قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن
يرتدّ إليك طرفك ، قال : كانت باليمن ، وسليمان عليه السلام بالشام،
__________________
أراد مالك أنّ هذه
معجزة ، لأنّ قطع المسافة البعيدة بالعرش في المدّة القصيرة لا يكون إلّا بأحد
الوجهين : إما أن تعدم المسافة بين الشام واليمن. وإما أن يعدم العرش باليمن ،
ويوجد بالشام ، والكلّ لله سبحانه مقدور عليه هيّن ، وهو عندنا غير متعيّن.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (قالُوا تَقاسَمُوا
بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا
مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ لما
صان الله بالقصاص في أهبها الدماء ، وعليها تسلط علم الأعداء ، شرع القسامة بالتهمة حسبما بيّناه في سورة البقرة ، واعتبر فيها التهمة
، وقد حبس النبىّ صلى الله عليه وسلم فيها في الدماء والاعتداء ، ولا يكون ذلك في
حقوق المعاملات.
المسألة الثانية ـ
اعتبر كثير من العلماء قتيل المحلة في القسامة ، وبه قال الشافعى لأجل طلب اليهود
، ولحديث سهل بن أبى حثمة في الصحيح : أن نفرا من قومه أتوا خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم
قتيلا ، فقالوا للذي وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا. قالوا : ما قتلناه ولا علمنا
قاتله.
وقال عمر ـ حين
قدع عبد الله بن عمر اليهود : أنتم عدوّنا وتهمتنا.
وفي سنن أبى داود
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لليهود
ـ وبدأ بهم : أيحلف منكم خمسون رجلا. فأبوا ، فقال للأنصار : أتحلفون؟ قالوا :
نحلف على الغيب يا رسول الله. فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهود ،
لأنه وجد بين أظهرهم. وقد بيناه في مسائل الخلاف.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وقد تقدم بيانه.
__________________
سورة القصص
[فيها ثمان آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (فارِغاً) فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ فارغا من
كلّ شيء ، إلّا من ذكر موسى عليه السلام.
الثاني ـ فارغا من
وحينا ، يعنى بسببه .
الثالث ـ فارغا من
العقل ، قاله مالك : يريد امتلأ ولها ، يروى أنها لما رمته في البحر جاءها الشيطان
فقال لها : لو حبسته فذبح فتولّيت دفنه ، وعرفت موضعه! وأما الآن فقد قتلته أنت.
وسمعت ذلك ، ففرغ فؤادها مما كان فيه من الوحى ، إلّا أنّ الله ربط على قلبها
بالصبر.
المسألة الثانية ـ
قد بينّا أنّ هذه الآية من أعظم آي القرآن فصاحة ، إذ فيها أمران ونهيان وخبران
وبشارتان.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ).
وقد قدمنا القول في اللقيط في سورة يوسف عليه السلام ، وهذه اللام
لام العاقبة ، كما قال الشاعر :
وللمنايا تربّى
كلّ مرضعة
|
|
ودورنا لخراب
الدّهر نبنيها
|
__________________
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (فَاسْتَغاثَهُ)
طلب غوثه ونصرته ،
ولذلك قال في الآية بعدها : (فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) ، وإنما أغاثه لأنّ نصر المظلوم دين في الملل كلها ، وفرض
في جميع الشرائع.
وفي الحديث الصحيح
: من حقوق المسلم على
المسلم نصر المظلوم.
وفيه أيضا : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : انصر
أخاك ظالما أو مظلوما. فنصره ظالما كفّه عن الظلم.
المسألة الثانية ـ
قوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى
فَقَضى عَلَيْهِ).
لم يقصد قتله ،
إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه ، وذلك قتل خطأ ، ولكنه في وقت لا يؤمر فيه بقتل ولا
قتال ، فلذلك عدّه ذنبا. وقد بيناه في كتاب المشكلين في باب الأنبياء منه.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما؟ قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى
يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (ما خَطْبُكُما).
إنما سألهما شفقة
منه عليهما ورقّة ، ولم تكن في ذلك الزمان أو في ذلك الشرع حجبة.
المسألة الثانية ـ
(قالَتا لا نَسْقِي
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ، يعنى لضعفنا لا نسقى إلا ما فضل عن الرّعاء من الماء في
الحوض.
__________________
وقيل : كان الماء
يخرج من البئر ، فإذا كمل سقى الرعاء ردّوا على البئر حجرها ، فإن وجد في الحوض
بقية كان ذلك سقيهما ، وإن لم تكن فيه بقية عطشت غنمهما ، فرقّ لهما موسى ، ورفع
الحجر ، وكان لا يرفعه عشرة ، وسقى لهما ثم ردّه ، فذلك قولهما لأبيهما : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ، وهي :
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ
قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قالَتْ إِحْداهُما يا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
: يا بنية هذه قوّته ، فما أمانته؟ قالت : إنك لما أرسلتنى إليه قال لي : كوني
ورائي لئلا يصفك الثوب من الريح ، وأنا عبراني ، لا أنظر إلى أدبار النساء ،
ودلّينى على الطريق يمينا ويسارا.
المسألة الثانية ـ
قوله : (اسْتَأْجِرْهُ) دليل على أن الإجازة بينهم وعندهم مشروعة معلومة ، وكذلك
كانت في كل ملّة ، وهي من ضرورة الخليقة ، ومصلحة الخلطة بين الناس ، خلافا للأصم
وقد بيناه حيث ورد في مواضعه.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). قال : ذلك بيني وبينك ، أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على.
والله على ما تقول وكيل).
اعلموا ، علّمكم
الله الاجتهاد ، وحفظ سبيل الاعتقاد ـ أن هذه الآية لم يذكرها القاضي أبو إسحاق في
كتاب الأحكام ، مع أن مالك قد ذكرها ، وهذه غفلة لا تليق بمنصبه ، وفيها أحاديث
كثيرة ، وآثار من جنس ما ذكرناه في غيرها ، ونحن نحلب درّها ، وننظم دررها ، ونشد
مئزرها إن شاء الله ، وفيها ثلاثون مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ)
__________________
فيه عرض المولى
وليّته على الزوج ، وهذه سنّة قائمة : عرض صالح مدين ابنته على صالح بنى إسرائيل ،
وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما ، وعرضت
الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما حديث عمر
فرواه عبد الله بن عمر أنّ عمر حين تأيّمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة ، وكان
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد شهد بدرا ، وتوفى بالمدينة ـ قال :
فلقيت عثمان بن عفان ، فعرضت عليه حفصة ، فقلت : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر.
فقال : سأنظر في
أمرى ، فلبثت ليالي ، ثم لقيني ، فقال : قد بدا لي ألّا أتزوّج يومى هذا.
قال عمر : فلقيت
أبا بكر الصديق ، فقلت : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر.
فصمت أبو بكر ،
فلم يرجع إلىّ شيئا ، فكنت عليه أوجد منى على عثمان ، فلبثت ليالي ، ثم خطبها
النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأنكحتها إياه ، فلقيني أبو بكر فقال : لعلك وجدت
علىّ حين عرضت علىّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا! فقلت : نعم. فقال : إنه لم يمنعني أن
أرجع إليك فيما عرضت علىّ حفصة إلا أنى كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
ذكرها ، فلم أكن لأفشى سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو تركها النبي صلى
الله عليه وسلم لقبلتها.
وأما حديث
الموهوبة فروى سهل بن سعد الساعدي ، قال :
إنى لفي القوم عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءت امرأة ، فقالت : يا رسول الله ، جئت أهب لك
نفسي ، فرأيك. فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعّد النظر فيها وصوّبه
، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها
شيئا جلست وقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ، إن لم تكن لك بها حاجة
فزوّجنيها. فقال : هل عندك من شيء؟ فقال : لا والله يا رسول الله. فقال : اذهب إلى
أهلك فانظر لعلك تجد شيئا. فذهب ورجع فقال : لا والله ما وجدت شيئا. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : انظر ولو خاتما من حديد.
__________________
فذهب
ثم رجع فقال : لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد. ولكن هذا إزارى ـ قال سهل
: ما له رداء ـ فلها نصفه.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء ،
وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء.
فجلس
الرجل حتى طال مجلسه ، ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولّيا ، فأمر به
فدعى ، فلما جاء قال : ما معك من القرآن؟ قال : معى سورة كذا وسورة كذا ، لسور
عدّدها. قال : تقرءوهن عن ظهر قلبك؟ قال : نعم. قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من
القرآن.
وفي رواية : زوجتكها. وفي أخرى : أنكحتكها. وفي
رواية : أمكناكها. وفي رواية : ولكن أشقق بردتي هذه ، أعطها النصف وخذ النصف.
فمن الحسن عرض
الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداء بهذا السلف الصالح.
المسألة الثانية ـ
استدل أصحاب الشافعى رضوان الله عليه بقوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ) على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح.
وقال علماؤنا :
ينعقد النكاح بكل لفظ.
وقال أبو حنيفة :
ينعقد بكل لفظ يقتضى التمليك على التأبيد.
ولا حجة للشافعي
في هذه المسألة الآتية من وجهين :
أحدهما ـ أن هذا
شرع من قبلنا ، وهم لا يرونه حجة في شيء ، ونحن وإن كنا نراه حجة فهذه الآية فيها
أنّ النكاح بلفظ الإنكاح وقع ، وامتناعه بغير لفظ النكاح لا يؤخذ من هذه الآية ،
ولا يقتضيه بظاهرها ، ولا ينظر منها ، ولكن النبىّ صلى الله عليه وسلم قد قال في
الحديث المتقدم : قد
ملّكتكها بما معك من القرآن.
وروى أمكنّاكها
بما معك من القرآن ، وكل منهما في البخاري. وهذا نص.
__________________
وقد رام المحققون
من أصحاب الشافعى بأن يجعلوا انعقاد النكاح بلفظه تعبّدا ، كانعقاد الصلاة بلفظ
الله أكبر ، ويأبون ما بين العقود والعبادات. وقد حققنا في مسائل الخلاف الأمر ،
وسنبيّنه في سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ
ابتداؤه بالرجل قبل المرأة في قوله : (أُنْكِحَكَ) ، وذلك لأنه المقدم في العقد ، الملتزم للصّداق والنفقة ،
القيّم على المرأة ، وصاحب الدرجة عليها في حق النكاح. وأبين من هذا قوله في سورة
الأحزاب : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) ، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل زينب ، وهو شرعنا
الذي لا خلاف في وجوب الاقتداء به.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هاتَيْنِ).
هذا يدلّ على أنه
عرض لا عقد ، لأنه لو كان عقدا لعيّن المعقود عليها له ، لأن العلماء ـ وإن كانوا
قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال له : بعتك أحد عبدىّ هذين بثمن كذا فإنهم اتفقوا
على أنّ ذلك لا يجوز في النكاح ، لأنه خيار ، ولا شيء من الخيار يلصق بالنكاح.
وقد روى أنه قال :
أيتهما تريد؟ قال : الصغرى. ثم قال موسى : لا ، حتى تبرئها مما في نفسك ، يريد حين
قالت له : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ، فامتلأت نفس صالح مدين غيره ، وظنّ أنه قد كانت بينهما
مراجعة في القول ومؤانسة ، فقال : من أين علمت ذلك؟ فقالت : أما قوّته فرفعه الحجر
من فم البئر وحده ، وكان لا يرفعه إلا عشرة رجال ، وأما أمانته فحين مشيت قال لي :
كوني ورائي ، كما تقدم ذكره ، فحينئذ سكنت نفسه ، وتمكّن أنسه.
المسألة الخامسة ـ
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ). هل يكون هذا القول إيجابا أم لا؟ وقد اختلف الناس في
الاستدعاء ، هل يكون قبولا؟ كما إذا قال : بعني ثوبك هذا. فقال : بعتك ، هل ينعقد
البيع أم لا؟ حتى يقول الآخر قبلت ، على قولين :
فقال علماؤنا :
ينعقد ، وإن تقدّم القبول على الإيجاب بلفظ الاستدعاء لحصول الغرض من الرضا به ،
على أصلنا ، فإنّ الرضا بالقلب هو الذي يعتبر كما وقع اللفظ ، فكذلك إذا
__________________
قال : أريد أن
تنكحني ، أو أنكحك ، يجب أن يكون هذا إيجابا حاصلا ، فإذا قال ذلك ، وقال الآخر :
نعم ، انعقد البيع والنكاح.
وعليه يدلّ ظاهر
الآية ، لأنه قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ) ، فقال له الآخر: (ذلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ) ، وهذا انعقاد عزم ، وتمام قول ، وحصول مطلوب ، ونفوذ عقد.
وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم : يا
بنى النجار ، ثامنونى بحائطكم ، فقالوا : لا نطلب ثمنه ، إلا إلى الله. فانعقد
العقد ، وحصل المقصود من الملك.
المسألة السادسة ـ
قولهم : إنه زوّج الصغرى. يروى عن أبى ذر ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم : إن سئلت أى الرجلين
قضى موسى ، فقل : خيرهما وأوفاهما. وإن سئلت أى المرأتين تزوّج فقل الصغرى ، وهي
التي جاءت خلفه ، وهي التي قالت : (يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
المسألة السابعة ـ
عادة الناس تزويج الكبرى قبل الصّغرى ، لأنها سبقتها إلى الحاجة إلى الرجال ، ومن
البر تقديمها عليها.
والذي أوجب تقديم
الصغرى في قصة صالح مدين ثلاثة أمور :
الأول ـ أنه لعله
آنس من الكبرى رفقا به ، ولين عريكة في خدمته.
الثاني ـ أنها
سبقت الصغرى إلى خدمته ، فلعلها كانت أحنّ عليه.
الثالث ـ أنه توقع
أن يميل إليها ، لأنه رآها في رسالته ، وما شاها في إقباله إلى أبيها معها ، فلو
عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار ، وهو يضمر غيره ، لكن عرض عليه شرطه
ليبرئها مما يمكن أن يتطرّق الوهم إليه.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ، فذكر له لفظ الإجارة ومعناها.
وقد اختلف علماؤنا
في جعل المنافع صداقا على ثلاثة أقوال ، وكرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم ، وأجازه
غيرهما.
__________________
وقد قال ابن
القاسم : يفسخ قبل البناء ، ويثبت بعده.
وقال أصبغ : إن
نقد معه شيء ففيه اختلاف ، وإن لم ينقد فهو أشدّ ، فإن ترك مضى على كل حال ، بدليل
قصة شعيب ، قاله مالك ، وابن الموّاز ، وأشهب ، وعوّل على هذه الآية جماعة من أئمة
المتأخّرين في هذه النازلة.
قال القاضي : صالح
مدين زوّج ابنته من صالح بنى إسرائيل ، وشرط عليه خدمته في غنمه ، ولا يجوز أن
يكون صداق فلانة خدمة فلان ، ولكن الخدمة لها عوض معلوم عندهم استقرّ في ذمة صالح
مدين لصالح بنى إسرائيل ، وجعله صداقا لابنته. وهذا ظاهر.
المسألة التاسعة ـ
فإن وقع النكاح بجعل فقال ابن القاسم في سماع يحيى : لا يجوز ، ولا كراء له ، ولا
أجرة مثله ، وما ذكر الله في قصة موسى عليه السلام فالإسلام بخلافه.
قال الإمام الحافظ
رضى الله عنه : ليس في قصة موسى عليه السلام جعل ، إنما فيه إجارة ، وليس في
الإسلام خلافه ، بل فيه جوازه في قصة الموهوبة ، وهو يجوّز النكاح بعدد مطلق ، وهو
مجهول ، فكيف لا يجوز على تعليم عشرين سورة. وهذا أقرب إلى التحصيل.
وقد روى أبو داود
في حديث الموهوبة : علّمها عشرين سورة ، وهي امرأتك.
المسألة العاشرة ـ
قال أبو حنيفة : لا يجوز أن تكون منافع الحرّ صداقا. ويجوز ذلك في منافع العبد.
وقال الشافعى :
يجوز ذلك كله. ونزع أبو حنيفة بأنّ منافع الحر ليست بمال ، لأن الملك لا يتطرق
إليها ، بخلاف العبد ، فإنه مال كله.
وهذا باطل ، فإنّ
منافع الحرّ مال ، بدليل جواز بيعها بالمال ، ولو لم تكن مالا ما جاز أخذ العوض
عنه مالا ، لأنه كان يدخل في أكل المال بالباطل بغير عوض. والصداق بالمنافع إنما
جاء في هذه الآية ، وفي الحديث ، فمنافع الأحرار ومنافع العبيد محمولة عليه ، فكيف
يسقط الأصل ، ويحمل الفرع على أصل ساقط؟ وقد مهدناه في مسائل الخلاف.
__________________
المسألة الحادية
عشرة ـ إذا ثبت جواز الصداق إجارة ففي قوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) ذكر للخدمة مطلقا.
وقال مالك : إنه
جائز ، ويحمل على المعروف.
وقال أبو حنيفة
والشافعى : لا يجوز ، لأنه مجهول.
ودليلنا أنه معلوم
، لأنه استحقاق لمنافعه فيما يصرف فيه مثله ، والعرف يشهد لذلك ، ويقضى به ، فيحمل
عليه. ويعضد هذا بظاهر قصة موسى ، فإنه ذكر إجارة مطلقة ، على أنّ أهل التفسير
ذكروا أنه عيّن له رعية الغنم ، ولم يرووا ذلك من طريق صحيحة ، ولكن قالوا : إن
صالح مدين لم يكن له عمل إلّا رعية الغنم ، فكان ما علم من حاله قائما مقام تعيين
الخدمة فيه.
وعلى كلا الوجهين
فإن المسألة لنا ، فإن المخالف يرى أنّ ما علم من الحال لا يكفى في صحّة الإجارة
حتى يسمّى.
وعندنا أنه يكفى
ما علم من الحال ، وما قام من دليل العرف ، فلا يحتاج إلى التسمية في الخدمة ،
والعرف عندنا أصل من أصول الملّة ، ودليل من جملة الأدلة. وقد مهدناه قبل ، وفي
موضعه من الأصول.
المسألة الثانية
عشرة ـ قال علماؤنا : إن كان آجره على رعاية الغنم فالإجارة على رعاية الغنم على
ثلاثة أقسام :
إما أن تكون مطلقة
، أو مسمّاة بعدّة ، أو معيّنة.
فإن كانت مطلقة
جازت عند علمائنا.
وقال أبو حنيفة
والشافعى : إنها لا تجوز لجهالتها.
وعوّل علماؤنا على
العرف ، وأنه يعطى على قدر ما تحتمل قوّته. وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم
المستأجر قدر قوته.
وهذا صحيح ، فإن
صالح مدين قد علم قدر قوة موسى برفع الحجر.
وأما إن كانت
معدودة فإن ذلك جائز اتفاقا.
__________________
وإن كانت معدودة
معيّنة ففيها تفصيل لعلمائنا. قال ابن القاسم : لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت ،
وهي رواية ضعيفة جدا ، قد بينا فسادها في كتب الفقه. وقد استأجر صالح مدين موسى
على غنمه ، وقد رآها ولم يشرط خلفا.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قال بعضهم : هذا الذي [كان] جرى من صالح مدين لم يكن ذكرا لصداق المرأة ، وإنما كان
اشتراطا لنفسه على ما تفعله الأعراب ، فإنها تشترط صداق بناتها ، وتقول : لي كذا
في خاصّة نفسي.
قلنا : هذا الذي
تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر ، وهو حرام لا يليق بالأنبياء. فأما إذا
شرط الولىّ شيئا لنفسه ، فقد اختلف علماؤنا فيما يخرجه الزوج من يده ، ولا يدخل في
يد المرأة على قولين :
أحدهما ـ أنه
جائز.
والآخر ـ لا يجوز.
والذي يصحّ عندي
فيه التقسيم ، فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا ، فإن كانت ثيّبا جاز ،
لأنّ نكاحها بيدها ، وإنما يكون للولىّ مباشرة العقد ، ولا يمتنع العوض عنه ، كما يأخذه الوكيل على عقد البيع.
وإن كانت بكرا كان
العقد بيده ، فكأنه عوض في النكاح لغير الزوجة ، وذلك باطل ، فإن وقع فسخ قبل البناء ، وثبت بعده على
مشهور الرواية. وقد بيّناه في مسائل الفقه.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قال بعض العلماء : لم يكن اشتراط صالح مدين على موسى مهرا ، وإنما كان كلّه
لنفسه ، وترك المهر مفوّضا. ونكاح التفويض جائز.
قلنا : كانت بكرا
، ولا يجوز ذلك بما قدمناه ، ولا يظن بالفضلاء ، فكيف بالأنبياء صلوات الله عليهم!
المسألة الخامسة
عشرة ـ لم ينقل ما كانت أجرة موسى ، ولكن روى يحيى بن سلّام أنّ صالح مدين جعل
لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها ، فأوحى الله إلى موسى: ألق عصاك بينهن
يلدن خلاف شبههنّ كلّهن.
__________________
والذي روى عتبة بن
المنذر السلمى ـ وهو عتبة بن عبيد ـ وكان
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أىّ الأجلين أو في موسى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوفاهما وأبرهما. ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن
تسأل أباها عن نتاج غنمه ما يعيشون به. فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون ذلك
العام.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما وردت الحوض وقف موسى بإزاء الحوض فلم تمرّ به
شاة إلا ضرب جنبها بعصا ، فوضعت قوالب ألوان كلها اثنين وثلاثة ، كل شاة ليس منهن
فشوش ولا ضبوب ولا كمشة ولا ثعول.
الفشوش : التي إذا
مشت سال لبنها. والضّبوب التي ضرعها مثل الموزتين. والكمشة : الصغيرة الضّرع التي
لا يضبطها الحالب . والقالب لون صنف واحد كله.
ولو صحت هذه الرواية
لكان فيها مسألتان :
إحداهما :
المسألة السادسة
عشرة ـ وهي الوحى لموسى عليه السلام قبل الكلام ، وذلك بالإلهام ، أو بأن يكلّمه
الملك كهيئة الرجل ، كما روى أنه هداه في طريقه لمدين حين ضلّ وخاف ، ولكن لا يكون
بذلك نبيا ، فليس كلّ من يكلمه الملك ويخبره بأمر مشكل يكون نبيا ، وقد وردت بذلك
أخبار كثيرة.
الثانية ، وهي :
المسألة السابعة
عشرة ـ الإجارة بالعوض المجهول ، فإن ولادة الغنم غير معلومة ، وإن من البلاد
الخصبة ما يعلم ولادة الغنم فيها قطعا ، وعدتها ، وسلامة سخالها ، منها ديار مصر
وغيرها ، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
الغرر، وربما
__________________
ظنّ بعضهم أن هذا
في بلاد الخصب ليس بغرر ، لاطّراد ذلك في العادة ، فيقال له : ليس كما ظننت ، فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كما نهى
عن الغرر نهى عن المضامين والملاقيح.
والمضامين : ما في
بطون الأمهات. والملاقيح : ما في أصلاب الفحول ، أو على خلاف ذلك كما قال الشاعر :
ملقوحة في بطن ناب
حامل
على أن معمر بن
الأشد أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع.
وقال ابن سيرين
والزهري وعطاء ، وقتادة : ينسج الثوب بنصيب منه. وبه قال أحمد ابن حنبل.
وبيان ذلك في
مسائل الفقه.
وقرأت بباب جيرون
على الشيخ الأجلّ الرئيس أبى محمد عبد الرزاق بن فضيل الدمشقىّ ، أخبرنى أبو عمر
المالكي ، حدثنا محمد بن على بن حماد بن محمد ، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك ،
قال : حدثنا موسى بن إسحاق الأنصارى ، أنبأنا الحسن بن عيسى ، أخبرنا ابن المبارك
، حدثنا سعيد بن يزيد الحضرمي ، عن عيينة بن حصن ، أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : آجر موسى نفسه بشبع
بطنه وعفّة فرجه. فقال له شعيب : لك منها ـ يعنى من نتاج غنمه ـ ما جاءت به قالب
لون واحد غير واحد أو اثنين ، ليس فيها عزور ولا فشوش ، ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول.
العزور : التي
يعسر حلبها.
والثّعول التي لها
زيادة حلمة ، وهو عيب فيها.
وقد كان مع أبى
موسى الأشعرى غلام يخدمه بشبع بطنه.
وجوّز ذلك مالك
وأباه غيره. وقد بيناه في مسائل الخلاف.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قال بعضهم : إنه قال لبنت صالح مدين في الغنم حصة ، فلذلك صحت الإجارة
صداقا لها بما كان لها من الحصة فيها.
__________________
قال القاضي : هذا
احتراز من معنى بوقوع في آخر ، فإن الغنم إذا كانت بين صالح مدين وبين ابنته ،
وأخذها موسى مستأجرا عليها ، ففي ذلك جمع سلعتين في عقد واحد لغير عاقد واحد.
وقد اختلف في ذلك
العلماء ، ومشهور المذهب منعه ، لما فيه من الجهل بالثمن في حصة كلّ واحد من
الشريكين من غير ضرورة إلى جمع السلعتين ، لا سيما ويمكن التوقّى من ذلك بأن يذكر
كلّ واحد منهما قيمة سلعته ، ويقع الثمن مقسوما على القيمة ، فيكون معروفا لا غرر
فيه ، فلا يمنع العقد حينئذ عليهما.
المسألة التاسعة
عشرة ـ في هذا اجتماع إجارة ونكاح.
وقد اختلف علماؤنا
في ذلك على أربعة أقوال :
الأول ـ قال في
ثمانية أبى زيد : يكره ابتداء ، فإن وقع مضى.
الثاني ـ قال مالك
وابن القاسم في المشهور : لا يجوز ، ويفسخ قبل الدخول ، وبعده.
الثالث ـ أجازه
أشهب وأصبغ.
الرابع ـ قال محمد
: قال ابن الماجشون : إن بقي بعد المبيع ، يعنى من القيمة ، ربع دينار يقابل البضع
جاز النكاح ، وإلا لم يجز.
وقد بيّنا توجيهات
هذه الأقوال في كتب المسائل ، والصحيح جوازه ، وعليه تدل الآية.
وقد قال مالك :
النكاح أشبه شيء بالبيوع ، فأىّ فرق بين أن يجمع بين بيع وإجارة ، أو بين بيع
ونكاح ، وهو شبهه إلا من جهة الرجلين يجمعان سلعتهما ، وإذا كانتا لرجل واحد جاز ، والعاقد هنا واحد ، وهو
الولىّ.
المسألة الموفية
عشرين ـ قال علماؤنا : في هذه الآية دليل على أنّ النكاح إلى الولىّ ، لا حظّ
للمرأة فيه ، لأنّ صالح مدين تولّاه. وبه قال فقهاء الأمصار.
وقال أبو حنيفة :
لا يفتقر النكاح إلى ولىّ ، وعجبا له ، متى رأى امرأة قط عقدت نكاح نفسها!
ومن المشهور في
الآثار : لا نكاح إلا بولىّ. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها
فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن مسّها
__________________
فلها
المهر بما استحلّ من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولىّ من لا ولىّ له. وقد بينا ذلك في سورة البقرة ، ومسائل الخلاف.
المسألة الحادية
والعشرون ـ هذا دليل على أنّ الأب يزوّج ابنته البكر من غير استئمار
، قاله مالك. واحتجّ بهذه الآية ، وهو ظاهر قوىّ في الباب.
وقال به الشافعى ،
وكثير من العلماء.
وقال أبو حنيفة :
إذا بلغت الصغيرة فلا يزوّجها أحد إلا برضاها ، لأنها بلغت حدّ التكليف ، فأما إذا
كانت صغيرة فإنه يزوّجها بغير رضاها ، لأنه لا إذن لها ، ولا رضاء ، بغير خلاف.
والحديث الصحيح : الأيّم أحقّ بنفسها من وليها ، والبكر
تستأمر في نفسها ، وإذنها صماتها ـ وفي رواية : الأيّم واليتيمة تستأمر في نفسها.
فقوله : «الثيب أحقّ بنفسها» دليل قوى في الباب ، لأنه جعل العلة في كون
المرأة أحق بنفسها كونها أيّما ، وذلك لاختيارها مقاصد في النكاح. وقد حققنا ذلك
في مسائل الخلاف ، وتكلمنا على هذا الحديث بكل فائدة ولطيفة.
واحتجاج مالك بهذه
الآية يدلّ على أنه كان يعوّل على الإسرائيليات ، وفيها أنهما كانتا بكرين ،
وبيّنّا ذلك في شرح الموطّأ ومسائل الخلاف.
وربما ظنّ بعضهم
أنه بناء على أن الأصل في البنات ترك النكاح ، حتى يثبت أنهن متزوجات. وليس كذلك ،
فإن الظاهر من النساء النكاح ، ومتى اجتمع أصل وظاهر ـ وهي مسألة أصولية ـ وقد بيناها في كتب الأصول. وكذلك
يقال : إن أباها لما قال : إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتىّ هاتين ، فأشار إليهما
كان هذا أكثر من الاستئمار أو مثله ، فإن الكلام مع الإشارة إليها بضمير الحاضر
إسماع لها.
__________________
وإنما يخرج من
الآية مسألة ، وهي الاكتفاء بصمت البكر ، وهو في حديث محمد صلى الله عليه وسلم
ظاهر ، وفي شريعة الإسلام أبين منه في شرع موسى ، وبهذه الاحتمالات يتبين لك وجه
استخراج الأحكام ، وما يعرض على الأدلة من الشّبه ، فيقابل كلّ فن بما يصلح له ،
ويرجح الأظهر ، ويقضى به.
المسألة الثانية
والعشرون ـ قد بينّا في مسائل الفقه أنّ الكفاءة معتبرة في النكاح. واختلف علماؤنا
فيها ، هل هي في الدين والمال والحسب ، أو في بعضها؟ وحقّقنا جواز نكاح الموالي
للعربيات وللقرشيات ، وأنّ المعوّل على قول الله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).
وقد جاء موسى إلى
صالح مدين غريبا طريدا ، وحيدا جائعا عريانا ، فأنكحه ابنته لما تحقّق من دينه ،
ورأى من حاله ، وأعرض عما سوى ذلك.
ولا خلاف في إنكاح
الأب ، وإنما الخلاف في اعتبار الكفاءة في إنكاح غير الأب من الأولياء ، إلا أن
يطرحها الأب في عار يلحق القبيل ، ففيه خلاف ، وتفصيل عريض طويل بينّاه في مسائل
الخلاف والفروع ، فلينظر هنالك.
المسألة الثالثة
والعشرون ـ اختلف الناس ، هل دخل موسى عليه السلام حين عقد؟
أم حين سافر؟
فإن كان دخل حين
عقد فماذا نقد؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار ، قاله ابن
القاسم.
فإن دخل قبل أن
ينقد مضى ، لأنّ المتأخرين من أصحابنا قالوا : تعجيل الصداق أو شيء منه مستحبّ ،
على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة.
وإن كان دخل حين
سافر أو أكمل المدة ، وهي :
المسألة الرابعة
والعشرون ـ وطول الانتظار في النكاح جائز ، وإن كان مدى العمر ، بغير شرط.
__________________
وأما إن كان بشرط
فلا يجوز إلا لغرض صحيح ، مثل التأهّب للبناء ، أو انتظار صلاحية الزوجة للدّخول
إن كانت صغيرة. نصّ عليها علماؤنا.
والظاهر أنه دخل
في الحال ، وما كان صالح مدين يحبسه عن الدخول يوما ، وقد عقد له عليها حالا.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قوله : (ثَمانِيَ حِجَجٍ).
فنصّ على عقد
الإجارة بينه وبين موسى مدة من ثمانية أعوام على رعية الغنم والحيوان ، فتغيّر في
الآماد الطويلة ، ولم ير ابن الموّاز العشرين سنة في العقد طولا ، ولا رأى في
المدونة الخمسة عشر طولا. ومنعها بعضهم في العشر سنين ، وهو أصحّ لسرعة التغير ـ في
الغالب ـ إلى الأبدان في هذه المدة.
وهذه الآية تقتضي
ثماني سنين ، وبلّغها ـ بالطوع الذي لا يلزم ـ عشرا ، وهو العدل.
المسألة السادسة
والعشرون ـ لما ذكر الشرط ، وأعقبه بالتطوع في العشر ، خرج كلّ واحد منهما على
حكمه ، ولم يلحق الآخر بالأول ، ولا اشترك الفرض والتطوّع ، ولذلك يكتب في العقود
الشروط المتفق عليها ، ثم يقال : وتطوّع بكذا ، فيجري الشرط على سبيله ، والتطوّع
على حكمه. وقد أفرط بعضهم بأن قال : يقال في العقد : وتطوّع بعد كمال العقد. وهذا
إفراط يخرج بقائله إلى التفريط ، فإنه قصر نظره على الحقيقة فيه ، وهي أنه إذا قال
: عقد معه كذا ، وشرط كذا ، وتطوّع بكذا ، فقد انفصل الواجب من التطوع ، وتبيّن أن
التطوّع أخرجه عن لوازم العقد ، وقوله بعد ذلك ـ وذلك بعد كمال العقد ـ حشو لا
حاجة إليه ، وتكرار لا معنى له.
المسألة السابعة
والعشرون ـ قوله : (أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ).
المعنى ليس لك إن
وفيت أحد الأجلين أن تتعدّى علىّ بالمطالبة بالزائد عليه. فلو قصّر في العامين لم
يكن عليه شيء ، وإن قصّر في الثماني لكان عليه عدوان ، وهو أن يعدى عليه.
وكيفية العدوان
نبيّنه بأن نقول : اختلف إذا استأجر على عمل حائط مثلا فلا يتمّه فله من الأجرة
بقدر ما عمل ، إلا أن تكون مقاطعة ، فلا شيء له إلا أن يتمّه إلّا أن يكون العرف
بالنقد
__________________
فينقده ، ويلزمه
تمامه. وأكثر بناء الناس على المقاطعة ، إذا سمى له ، مثل أن يقول : استأجرتك على
بنيان هذه الدار شهرا ، أو نصفا ، أو شهرين ، وإن أطلق القول وقال : تبنى هذه
الدار كلّ يوم بدرهم ، فكلما بنى أخذ ، أو تبنى هذا الباب ، أو هذا الحائط ، فهو
مثله.
وكذلك كانت إجارة
موسى مقاطعة ، فلها حكم المقاطعة ، وفي ذلك تفصيل طويل يأتى في كتب المسائل.
تحريره أنّ العمل
في الإجارة إما يتقدّر بالزمان ، أو بصفة العمل الذي يضبط ، فإن كان بالزمان فهو
مقدّر به ، لازم في مدّته. وإن كان بالعمل فإنه يضبط بصفته ، ويلزم الأجير تمام
المدة ، أو تمام الصفة. وليس له ترك ذلك ، ولا يستحقّ شيئا من الأجرة ـ إذا كان
هكذا ـ إلا بتمام العمل.
المسألة الثامنة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى ما
نَقُولُ وَكِيلٌ).
اكتفى الصالحان
بالله في الإشهاد ، ولم يشهدا أحدا من الخلق.
وقد اختلف العلماء
في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين :
أحدهما ـ أن النكاح
لا ينعقد إلّا بشاهدين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعى.
وقال مالك : إنه
ينعقد دون شهود ، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح.
وقد مهدنا هذه
المسألة في كتب الخلاف ، وبيّنا أنه عقد معاوضة ، فلا يشترط لانعقاده الإشهاد
كالبيع ، وإنما شرطنا الإعلان للحديث المشهور الصحيح : فرق ما بين النكاح والسفاح
الدّفّ .
وربما نزع نازع
بأن الإشهاد في البيع لازم واجب ، وقد بينا ذلك في سورة البقرة.
وقد أخبرنا أبو
المعالي ثابت بن بندار ، قال : أخبرنا الرفاء الحافظ ، حدثنا أبو بكر الإسماعيلى ،
حدثنا أبو بكر المروزى ، حدثنا عاصم بن على ، حدثنا الليث ، وأخبرنى موسى بن
العباس ، حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا آدم ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا حفص بن
ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : إنّ
رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار. قال : أتيتنى
بالشهداء أشهدهم! قال : كفى
__________________
بالله
شهيدا. قال : أتيتنى بالكفيل! قال : كفى بالله كفيلا. قال : صدقت. فدفعها إليه إلى
أجل مسمى.
فخرج في البحر ،
فقضى حاجته ، والتمس مركبا يركبه ، لئلا يقدم عليه الأجل الذي أجلّه ، فلم يجد
مركبا ، فأخذ خشبة فنقرها ، وأدخل فيها ألف دينار ، وصحيفة منه إلى صاحبه ، ثم
زجّج موضعها ، ثم جاء بها إلى البحر ، فقال : اللهم إنك تعلم أنى تسلّفت من فلان
ألف دينار ، فسألنى كفيلا ، فقلت له : كفى بالله كفيلا ، وسألنى شهيدا ، فقلت له :
كفى بالله شهيدا. فرضي بذلك ، وإنى جهدت أن أجد مركبا أبعث له بالذي إليه ، فلم
أقدر ، وإنى قد استودعتكها. ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف ، وهو في
ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده.
فخرج الرجل الذي
كان أسلفه ينظر لعلّ مركبا قد جاء بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها
لأهله حطبا ، فلما نشرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الذي كان أسلفه ، وأتى
بالألف دينار ، وقال : والله ما زلت أجهد في طلب مركب لآتيك بمالك ، فما وجدت
مركبا قبل الذي أتيت فيه.
قال : هل كنت بعثت
إلىّ بشيء! قال : نعم ، وأخبرتك ، أنى لم أجد مركبا قبل الذي جئتك فيه. قال : بلى
، والله ، قد أدّى الله عنك الذي بعثت به ، فانصرف بالألف دينار راشدا.
المسألة التاسعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ
مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
دليل على أنّ
للرجل أن يذهب بأهله حيث شاء ، لما له عليها من فضل القوامية ،
__________________
وزيادة الدرجة ،
إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم ، وأحقّ الشروط أن يوفى به ما
استحللتم به الفروج.
المسألة الموفية
ثلاثين ـ قال علماؤنا : لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله ، وحنّ إلى وطنه ،
وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار ، وتركب الأخطار ، وتعلل الخواطر ، ويقول : لما طالت المدة
لعله قد نسيت التهمة ، وبليت القصة.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
المراد بذلك أربعة أقوال :
الأول ـ أنهم قوم
من اليهود أسلموا ، فكان اليهود يلقونهم بالسبّ والشتم ، فيعرضون عنهم ، قاله
مجاهد ..
الثاني ـ قوم من
اليهود أسلموا ، فكانوا إذا سمعوا ما غيّره اليهود من التوراة وبدّلوه من نعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وصفته أعرضوا عنه ، وذكروا الحق.
الثالث ـ أنهم
المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه.
الرابع ـ أنهم
أناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهودا ولا نصارى ، وكانوا على دين الله ، وكانوا
ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعوا به بمكة قصدوه ، فعرض عليهم
القرآن ، فأسلموا ، فكان الكفار من قريش يقولون لهم : أفّ لكم من قوم اتبعتم غلاما
كرهه قومه ، وهم أعلم به منكم.
المسألة الثانية ـ
(وَقالُوا لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ).
يريد لنا حقّنا ،
ولكم باطلكم ، سلام عليكم.
قال علماؤنا : ليس
هذا بسلام المسلمين على المسلمين ، وإنما هو بمنزلة قول الرجل للرجل : اذهب بسلام
، أى تاركني وأتاركك.
__________________
ويحتمل أن يكون
قبل تبيان الحال للتحية بالسلام ، واختصاصها بالمسلمين ، وخروج الكفار عنها ،
حسبما بينّاه من قبل.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَابْتَغِ فِيما
آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ
كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
معنى النّصيب :
وفيه ثلاثة أقوال
:
الأول ـ لا تنس
حظّك من الدنيا ، أى لا تغفل أن تعمل في الدنيا للآخرة ، كما قال ابن عمر : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
الثاني ـ أمسك ما
يبلغك ، فذلك حظّ الدنيا. وأنفق الفضل ، فذلك حظّ الآخرة.
الثالث ـ لا تغفل
شكر ما أنعم الله عليك.
المسألة الثانية ـ
(وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ).
ذكر فيه أقوال
كثيرة ، جماعها استعمل نعم الله في طاعته.
وقال مالك :
معناها تعيش وتأكل وتشرب غير مضيّق عليك في رأى.
قال القاضي : أرى
مالكا أراد الردّ على من يرى من الغالين في العبادة التقشّف والتقصف والبأساء ، فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يأكل الحلوى
، ويشرب العسل ، ويستعمل الشواء ، ويشرب الماء البارد ، ولهذا قال الحسن : أمر أن
يأخذ من ماله قدر عيشه ، ويقدم ما سوى ذلك لآخرته. وأبدع ما فيه عندي قول قتادة :
ولا تنس الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ، ويا ما أحسن هذا!
__________________
سورة العنكبوت
[فيها أربع آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ).
تقدم في سورة سبحان ذكر ذلك.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعالَمِينَ).
وقد تقدم القول
فيها ، ويحقّ أن نعيده لعظمه ، وقد نادى الله عليهم بأنهم أول من اقتحم هذا ، ولقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم فينا من رواية عبد الله بن عمر : وليأتينّ على أمتى ما أتى على بنى
إسرائيل حذو النّعل بالنعل ، حتى لو كان منهم من يأتى أمّه علانية ، كان في أمتى من
يصنع ذلك.
وقد روى ابن وهب
وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال فيه : اقتلوا
الفاعل والمفعول به. ولقد كتب خالد بن الوليد في ذلك إلى أبى بكر الصديق ، فكتب إليه أبو بكر: عليه
الرّجم.
وتابعه على ذلك
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال علىّ بن أبى طالب: إنّ العرب تأنف من العار وشهرته أنفا لا
تأنفه من الحدود التي تمضى في الأحكام ، فأرى أن تحرقه بالنار.
فقال أبو بكر :
صدق أبو الحسن. فكتب إلى خالد أن أحرقه بالنار ، ففعل. فقال ابن وهب : لا أرى
خالدا أحرقه إلّا بعد قتله ؛ لأنّ النار لا يعذّب بها إلا الله تعالى.
قال القاضي : ليس
كما زعم ابن وهب ، كان علىّ يرى الحرق بالنار عقوبة ، ولذلك كان
__________________
ما أخبرنا أبو
المعالي ثابت بن بندار البرقاني الحافظ ، أخبرنا الإسماعيلى ، حدثنا إبراهيم بن
هاشم البغوي ، حدثنا محمد بن عباد ، حدثنا إسماعيل ، قال : رأيت عمرو بن دينار ،
وأيوب ، وعمارا الرهينى ، اجتمعوا فتناكروا الذين حرقهم علىّ ، فحدّث أيوب ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس أنه لما بلغه قال : لو كنت أنا ما أحرقتهم ؛ لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لا
تعذّبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من ترك دينه فاقتلوه. فقال عمار : لم يكن حرقهم ، ولكنه حفر لهم حفائر ، وخرق
بعضها إلى بعض ، ثم دخن عليهم حتى ماتوا. فقال عمار : قال الشاعر :
لترم بي المنايا
حيث شاءت
|
|
إذا لم ترم بي
في الحفرتين
|
إذا ما أجّجوا
حطبا ونارا
|
|
هناك الموت نقدا
غير دين
|
ومن حديث يحيى بن
بكير ما يصدّق ذلك : عن علىّ أنه وجد في ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة كان اسمه الفجاءة ،
فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم علىّ بن أبى طالب ،
وكان يومئذ أشد فيهم قولا ، فقال على : إن
هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم ، إلا أمة واحدة ، صنع الله بها ما علمتم ، أرى أن يحرق بالنار.
فاجتمع رأى أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقهم بالنار ، فأحرقهم بالنار ، ثم
أحرقهم ابن الزبير في زمانه ، ثم أحرقهم هشام بن عبد الملك ، ثم أحرقهم خالد
القسري بالعراق.
وقد روى أنّ عبد
الله بن الزبير أتى بسبعة أخذوا في لواط ، فسأل عنهم ، فوجدوا أربعة قد أحصنوا ، فأمر بهم فخرج بهم من الحرم ، ثم رجموا
بالحجارة ، حتى ماتوا ، وجلد الثلاثة حتى ماتوا بالحد. قال : وعنده ابن عباس ،
وابن عمر ، فلم ينكرا عليه.
وقد ذهب الشافعى
إلى هذا ، والذي صار إليه مالك أحق ، وهو أصح سندا ، وأقوى معتمدا ، حسبما بيناه
قبل هذا.
__________________
وقد روى عن ابن
عباس أنه سئل عن حدّ اللواط ، فقال : يصعد به في الجبل ، ثم يردى منه ، ثم يتبع
بالحجارة.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تَصْنَعُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قولان:
أحدهما ـ ما دام
فيها.
والثاني ـ ما دام
فيها وفيما بعدها.
قال ابن عباس :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من
لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا.
قال القاضي : قال
شيوخ الصوفية : المعنى فيها أيضا أنّ من شأن المصلّى أن ينهى عن الفحشاء والمنكر ،
كما من شأن المؤمن أن يتوكل على الله ، كما قال : (وَعَلَى اللهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وكما لا يخرج المؤمن
بترك التوكل على الله عن الإيمان كذلك لا يخرج المصلّى عن الصلاة بأن صلاته قصرت
عن هذه الصفة.
وقال مشيخة
الصوفية : الصلاة الحقيقية ما كانت ناهية ، فإن لم تنهه فهي صورة صلاة لا معناها ،
ومعنى ذلك أنّ وقوفه بين يدي مولاه ومناجاته له إن لم تدم عليه بركتها ، وتظهر على
جوارحه رهبتها حتى يأتى عليه صلاة أخرى ، وهو في تلك الحالة ، وإلا فهو عن ربه
معرض ، وفي حال مناجاته غافل عنه.
المسألة الثانية ـ
الفحشاء : الدنيا ، فتنهاه الصلاة عنها ، حتى لا يكون لغير الصلاة حظّ في قلبه ،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : وجعلت
قرّة عيني في الصلاة.
وقيل الفحشاء
المعاصي ، وهو أقلّ الدرجات ، فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي
__________________
ولم تتمرن جوارحه
بالركوع والسجود ، حتى يأنس بالصلاة وأفعالها أنسا يبعد به عن اقتراف الخطايا ،
وإلا فهي قاصرة.
المسألة الثالثة ـ
المنكر ، وهو كلّ ما أنكره الشرع وغيره ، ونهى عنه.
المسألة الرابعة ـ
(وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ).
فيها أربعة أقوال
:
الأول ـ ذكر الله
لكم أفضل من ذكركم له ، أضاف المصدر إلى الفاعل.
الثاني ـ ذكر الله
أفضل من كل شيء.
الثالث ـ ذكر الله
في الصلاة أفضل من ذكره في غيرها ، يعنى لأنها عبادتان.
الرابع ـ ذكر الله
في الصلاة أكبر من الصلاة ، وهذه كلّها من إضافة المصدر إلى المفعول. وهذا كلّه
صحيح ، فإن الصلاة بركة عظيمة.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
قتادة : وهي منسوخة بآية القتال ، فإنه رفع الجدال .
المسألة الثانية ـ
قد بينا في القسم الثاني أنها ليست منسوخة ، وإنما هي مخصوصة ، لأن النبىّ عليه
السلام بعث باللسان يقاتل به في الله ، ثم أمره الله بالسيف واللسان ، حتى قامت
الحجة على الخلق الله ، وتبيّن العناد ، وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام متصلة ،
فمن قدر عليه قتل ، ومن امتنع بقي الجدال في حقّه ، ولكن بما يحسن من الأدلة ،
ويجمل من الكلام ، بأن يكون منك للخصم تمكين ، وفي خطابك له لين ، وأن تستعمل من
الأدلة أظهرها ، وأنورها ، وإذا لم يفهم المجادل أعاد عليه الحجة وكررها ، كما فعل
الخليل مع الكافر حين
__________________
قال له إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ). فقال له الكافر : أنا أحيى وأميت ، فحسن الجدال ، ونقل
إلى أبين منه بالاستدلال. وقال : إنّ الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من
المغرب. وهو انتقال من حقّ إلى حقّ أظهر منه ، ومن دليل إلى دليل أبين منه وأنور.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا).
فيها أربعة أقول :
الأول ـ أهل
الحرب.
الثاني ـ مانعو
الجزية.
الثالث ـ من بقي
على المعاندة بعد ظهور الحجّة.
الرابع ـ الذين
ظلموا في جدالهم ، بأن خلطوا في إبطالهم.
وهذه الأقوال كلها
صحيحة مرادة ، وقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم مجادلات مع المشركين ، ومع أهل
الكتاب. وآيات القرآن في ذلك كثيرة ، وهي أثبت في المعنى.
وقد قال لليهود : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ). فما أجابوا جوابا.
وقال لهم : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ؛ أى إن كنتم أبعدتم ولدا بغير أب فخذوا ولدا دون أب ولا
أم.
وقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً).
وقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).
وقال عمران بن
حصين : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى حصين : يا
حصين ؛ كم إلها تعبد اليوم! قال : إنى أعبد سبعة ، واحدا في السماء ، وستّا في
الأرض. قال : فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك! قال : الذي في السماء. قال : يا حصين ،
أما إنك إن أسلمت علمتك. وذكر الحديث.
__________________
سورة الرّوم
[فيها ثلاث آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى الترمذي وغيره
ـ واللفظ له ـ عن أبى سعيد الخدري ، قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس ،
فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت : (الم. غُلِبَتِ
الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...)
إلى قوله : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ). قال : ففرح المؤمنون بظهور الرّوم على فارس.
وذكر عن ابن عباس
قال : غلبت الروم وغلبت ،
كان المشركون يحبّون أن تظهر فارس على الروم ، لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان
المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم وإياهم كانوا أهل الكتاب ، فذكروه
لأبى بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما إنهم سيغلبون.
فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا
، وإن ظهرتم كان لكم كذا. فجعل أجلا خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك للنبىّ عليه
السلام ، فقال : ألا أخفضت ، وفي رواية : ألا
أحبطت. وفي رواية : ألا جعلته إلى دون ، أراه العشرة ،
قال أبو سعيد :
والبضع ما دون العشرة ، ثم ظهرت الروم فذلك قوله تعالى : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى قوله : (يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).
قال سفيان : سمعت
أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.
قال أبو عيسى :
هذا حديث حسن صحيح غريب.
وروى أيضا عن نيار
بن مكرم الأسلمى ، قال : لما نزلت : (الم غُلِبَتِ
الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي
بِضْعِ سِنِينَ) ، وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية ، قاهرين للرّوم ،
__________________
وكان المسلمون
يحبّون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وذلك قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، فكانت قريش تحبّ ظهور فارس ، لأنهم وإياهم ليسوا بأهل
كتاب ، ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في
نواحي مكة : (الم. غُلِبَتِ
الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي
بِضْعِ سِنِينَ). قال ناس من قريش لأبى بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم
صاحبك أنّ الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك! قال : بلى. وذلك
قبل تحريم الرّهان.
فارتهن أبو بكر
والمشركون ، وتواضعوا الرهان ، وقالوا لأبى بكر : كم تجعل البضع؟ ثلاث سنين إلى تسع سنين. فسمّ بيننا وبينكم وسطا .
قال : فسمّوا
بينهم ستّ سنين.
قال : فمضت الستّ
سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبى بكر. فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم
على فارس ، فعاب المشركون على أبى بكر تسمية ست سنين ، لأنّ الله تعالى قال : (فِي بِضْعِ سِنِينَ).
قال : وأسلم عند
ذلك ناس كثير ، فهذه أحاديث صحاح حسان غراب.
المسألة الثانية ـ
في هذا الحديث جواز المراهنة.
وقد نهى النبىّ
صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن الغرر والقمار ، وذلك نوع منه ، ولم يبق للرهان
جواز إلا في الخيل ، حسبما بينّا في كتب الحديث والفقه.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ).
البضع فيه لأهل
اللغة خمسة أقوال :
الأول ـ أنه ما
بين اثنين إلى عشرة ، أو اثنى عشر إلى عشرين ، فيقال : بضع عشرة في جمع المذكر ،
وبضعة عشر في جمع المؤنث.
الثاني ـ البضع
سبعة ، قاله الخليل.
__________________
الثالث ـ البضع من
الثلاث إلى التسع.
الرابع ـ قال أبو
عبيدة : هو ما بين نصف العقدين ، يريد ما بين الواحد إلى الأربعة.
الخامس ـ هو ما
بين خمس إلى سبع ، قاله يعقوب عن أبى زيد.
ويقال بكسر الباء
وفتحها ، قال أكثرهم : ولا يقال بضع ومائة ، وإنما هو إلى التسعين.
والصحيح أنه ما
بين الثلاث إلى العشر ، وبذلك يقضى في الإقرار ، وقد بيناه في فروع الأحكام.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ). وقد تقدم بيانها مع نظرائها من آيات الصلاة.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما
آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ بينّا
الربا ومعناه في سورة البقرة ، وشرحنا حقيقته وحكمه ، وهو هناك محرّم وهنا محلّل ، وثبت بهذا أنه قسمان ، منه حلال ومنه حرام.
المسألة الثانية ـ
في المراد بهذه الآية :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه الرجل
يهب هبة يطلب أفضل منها ، قاله ابن عباس.
الثاني ـ أنه
الرجل في السفر يصحبه رجل يخدمه ويعينه ، فيجعل المخدوم له بعض الربح جزاء خدمته ،
لا لوجه الله ، قاله الشعبي.
الثالث ـ الرجل يصل
قرابته ، يطلب بذلك كونه غنيا ، لا صلة لوجه الله ، قاله إبراهيم.
المسألة الثالثة ـ
أما من يصل قرابته ليكون غنيا فالنية في ذلك متنوعة ، فإن كان
__________________
ليتظاهر به دنيا
فليس لوجه الله تعالى ، وإن كان ذلك لما له من حقّ القرابة وبينهما من وشيجة الرحم
، فإنه لوجه الله تعالى.
وأما من يعين
الرجل بخدمته في سفره بجزء من ماله فإنّه للدنيا لا لوجه الله ، ولكن هذا المربى
ليس ليربو في أموال الناس ، وإنما هو ليربو في مال نفسه ، وصريح الآية فيمن يهب
يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة ، وذلك له.
وقد قال عمر بن
الخطاب : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها.
وقال الشافعى :
الهبة إنما تكون لله أو لجلب المودّة ، كما جاء في الأثر : تهادوا تحابّوا.
وهذا باطل ، فإنّ
العرف جار بأن يهب الرجل الهبة لا يطلب إلا المكافأة عليها ، وتحصل في ذلك المودّة
تبعا للهبة.
وقد روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أثاب على
لقحة ، ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب ، إنما أنكر سخطه
للثواب ، وكان زائدا على القيمة.
وقد اختلف علماؤنا
فيما إذا طلب الواهب في هبته زائدا على مكافأته ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
فإن كانت الهبة قائمة لم تتغيّر ، فيأخذ ما شاء ، أو يردّها عليه.
وقيل : تلزمه
القيمة ، كنكاح التفويض.
وأما إذا كان بعد
فوات الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا.
وقد قال تعالى : (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ) ، أى لا تعط مستكثرا ـ على أحد التأويلات ، ويأتى بيانه إن
شاء الله تعالى.
__________________
سورة لقمان
[فيها خمس آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : هو الغناء وما اتّصل به. فروى الترمذي والطبري وغيرهما
عن أبى أمامة الباهلي أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل بيع المغنيات ، ولا شراؤهنّ ،
ولا التجارة فيهن ، ولا أثمانهن ، وفيهن أنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) الآية.
وروى عبد الله بن
المبارك عن مالك بن أنس ، عن محمد بن المنكدر ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : من
جلس إلى قينة يسمع منها صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة.
وروى ابن وهب ، عن
مالك بن أنس ، عن محمد بن المنكدر ـ أنّ الله يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا
ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم في رياض المسك. ثم يقول للملائكة : أسمعوهم حمدي وشكرى ،
وثنائى عليهم ، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومن رواية مكحول ،
عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات وعنده جارية مغنّية فلا تصلّوا
عليه.
الثاني ـ أنه الباطل.
__________________
الثالث ـ أنه
الطبل ، قاله الطبري.
المسألة الثانية ـ
في سبب نزولها :
وفيه قولان :
أحدهما ـ أنها
نزلت في النّضر بن الحارث ، كان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش : إنّ محمدا قال كذا
وكذا ضحك منه ، وحدّثهم بأحاديث ملوك الفرس ، ويقول : حديثي هذا أحسن من قرآن
محمد.
الثاني ـ أنها
نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية ، فشغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى
الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة ـ
هذه الأحاديث التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال ، لعدم ثقة ناقليها إلى من ذكر
من الأعيان فيها.
وأصحّ ما فيه قول
من قال : إنه الباطل. فأما قول الطبري : إنه الطبل فهو على قسمين : طبل حرب ، وطبل
لهو ، فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ، لأنه يقيم النفوس ، ويرهب على العدو. وأما طبل
الّلهو فهو كالدفّ. وكذلك آلات اللهو المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه ، لما
يحسن من الكلام ، ويسلم من الرّفث.
وأما سماع القينات
فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ، إذ ليس شيء منها عليه حراما ، لا
من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ ولم يجز الدف في العرس
لعينه ، وإنما جاز لأنه يشهره ، فكلّ ما أشهره جاز.
وقد بينا جواز
الزّمر في العرس بما تقدم من قول أبى بكر : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد ، ولكن لا يجوز انكشاف
النساء للرجال ، ولا هتك الأستار ، ولا سماع الرّفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يجوز
منع من أوله ، واجتنب من أصله.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
__________________
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
ذكر لقمان.
وفيه سبعة أقوال :
الأول ـ قال سعيد
بن المسيّب : كان لقمان أسود من سودان مصر ، حكيما ، ذا مشافر ، ولم يكن نبيّا.
الثاني ـ قال
قتادة : خيّره الله بين
النبوّة والحكمة ، فاختار الحكمة ، فأتاه جبريل وهو نائم ، فقذف عليه الحكمة ، فأصبح ينطق بها ، فسئل عن ذلك ، فقال : إنه
لو أرسل إلىّ النبوة عزمة لرجوت الفوز ، وأن أقوم بها ، ولكنه خيّرنى ، فخفت أن
أضعف عن النبوة.
الثالث ـ أنه كان
من النّوبة قصيرا أفطس.
الرابع ـ أنه كان
حبشيّا.
الخامس ـ أنه كان
خيّاطا.
السادس ـ أنه كان
راعيا ، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك ، قال : ألست عبد بنى فلان الذي كنت ترعى
بالأمس؟ قال : بلى. قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : قدر الله ، وأداء الأمانة ،
وصدق الحديث ، وترك ما لا يعنيني.
السابع ـ أنه كان
عبدا نجارا ، قال له سيده : اذبح شاة ، وأتنى بأطيبها بضعتين. فأتاه بالقلب
واللسان. ثم أمره بذبح شاة ، وقال له : ألقى أخبثها بضعتين ، فألقى اللسان ، والقلب ، فقال : أمرتك أن تأتينى بأطيبها
بضعتين فأتيتنى باللسان والقلب ، وأمرتك أن تلقى أخبثها بضعتين ، فألقيت اللسان
والقلب! فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا شيء أخبث منهما إذا خبثا.
المسألة الثانية ـ
روى علماؤنا ، عن مالك ، أنّ لقمان قال لابنه : يا بنىّ ، إنّ الناس قد تطاول
عليهم ما يوعدون ، وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت
، واستقبلت الآخرة ، وإنّ دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها.
__________________
وقال لقمان : يا
بنى ، ليس غنى كصحّة ، ولا نعمة كطيب نفس.
وقال لقمان لابنه
: يا بنى ، لا تجالس الفجّار ، ولا تماشهم ، اتّق أن ينزل عليهم عذاب من السماء ،
فيصيبك معهم.
وقال : يا بنى ،
جالس العلماء ، وماشهم ، عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم.
وقال : يا بنى ،
جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يحيى القلوب الميتة بالعلم ، كما يحيى
الأرض بوابل المطر.
المسألة الثالثة ـ
ذكر المؤرخون أنه كان لقمان بن عاد الأكبر ، وكان لقمان الأصغر ، وليس بلقمان
المذكور في القرآن. وكان لقمان هذا الذي تذكره العرب حكيما.
وفي أخبارها أنّ
أخت لقمان كانت امرأة محمقة ، وكان لقمان حكيما نجيبا ، فقالت أخته لامرأته : هذه
ليلة طهرى فهبى لي ليلتك ، طمعا في أن تعلق من أخيها بنجيب ، ففعلت ، فحملت من
أخيها ، فولدت لقيم بن لقمان ، وفيه يقول النمر بن تولب :
لقيم بن لقمان
من أخته
|
|
فكان ابن أخت
لها وابنما
|
ليالي حمّق
فاستحصنت
|
|
عليه فغرّ بها
مظلما
|
فقرّ به رجل
محكم
|
|
فجاءت به رجلا
محكما
|
المسألة الرابعة ـ
ذكر مالك كلاما كثيرا من الحكمة عن لقمان ، وأدخل من حكمته فصلا في كتاب الجامع من
موطّئه ، لأن الله ذكره في كتابه ، وذكر من حكمته فصلا يعضده الكتاب والسنة ،
لينبّه بذلك على أنّ الحكمة تؤخذ من كل أحد ، وجائز أن يكون نبيا ، وجائز أن يكون عالما ،
أى أوتى الحكمة ، وهي العمل بالعلم.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ) (خَدَّكَ لِلنَّاسِ
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ).
فيها مسألتان :
__________________
المسألة الأولى ـ (لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) ، يعنى لا تمله عنهم تكبّرا ، يريد أقبل عليهم متواضعا ،
مؤنسا مستأنسا ، وإذا حدّثك أحدهم فأصغ إليه ، حتى يكمل حديثه ، وكذلك كان يفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر :
وكنّا إذا
الجبّار صعّر خدّه
|
|
أقمنا له من
ميله فتقوّم
|
يريد : فتقوّم أنت
، أمر ، ثم كسرت للقافية.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً).
قد تقدّم بيان ذلك في سورة سبحان.
وفي الحديث الصحيح
، عن مالك وغيره : بينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه ، فخسف الله به
الأرض ، وهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وعنه ـ صحيحا : الذي يجرّثوبه خيلاء لا
ينظر الله إليه يوم القيامة.
وعنه مثله : لا
ينظر الله إلى من جرّ إزاره بطرا.
وعنه مثله ، عن
أبى سعيد الخدري : أنه سئل عن الإزار ، فقال أبو سعيد : أنا أخبركم بعلم : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إزرة المؤمن إلى إنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين
الكعبين ، وما أسفل من ذلك ففي النار.
قال القاضي : روى
أنّ المختال هو قارون ، وذلك أنّ هذه الأمة معصومة من الخسف. وفي بعض الآثار ، وفي
صحيح الأخبار أنه سيخسف بجيش في البيداء يقصد البيت. وقد بينا ذلك في شرح الحديث ،
أما أنه يتبختر فلم تخسف به الأرض حقيقة خسف به في العمل مجازا ، فلم يرق له
عمل إلى السماء ، وهو أشدّ الخسف.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).
فيها مسألتان :
__________________
المسألة الأولى ـ القصد
في المشي يحتمل أن يريد به وجهين :
أحدهما ـ أن تكون
السرعة ، ويحتمل التؤدة ، وكلاهما صحيح في موضعه.
ويحتمل أن يريد به
المشي بقصد ، لا يكون عادة ، بل يجرى على حكم النية ، ولا يسترسل استرسال البهيمة
، والكلّ صحيح مراد. والله أعلم.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ).
يعنى لا تتكلف رفع
الصوت ، وخذ منه ما تحتاج إليه ، فإنّ الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذى.
وقد قال عمر لمؤذن
تكلّف رفع الأذان بأكثر من طاقته : لقد خشيت أن تنشقّ مريطاؤك.
والمؤذّن هو أبو
محذورة سمرة بن معير . والمريطاء : ما بين السرة إلى العانة.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ، وَفِصالُهُ
فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
يأتى في سورة الأحقاف إن شاء الله.
__________________
سورة السجدة
[فيها ثلاث آيات]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ المضاجع
جمع مضجع ، وهي مواضع النوم. ويحتمل وقت الاضطجاع ، ولكنه مجاز. والحقيقة أولى ،
وذلك كناية عن السهر في طاعة الله تعالى.
المسألة الثانية ـ
إلى أى طاعة الله تتجافى؟
وفيه قولان :
أحدهما ـ ذكر
الله. والآخر الصلاة.
وكلاهما صحيح ،
إلا أن أحدهما عامّ ، والآخر خاص.
فإن قلنا : إن ذلك
في الصلاة ، فأىّ صلاة هي؟
في ذلك أربعة
أقوال ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
الأول : أنها النّفل بين المغرب والعشاء ، قاله قتادة.
الثاني ـ أنها
العتمة ، قاله أنس وعطاء.
الثالث ـ أنها
صلاة العتمة والصبح في جماعة ، قاله أبو الدرداء.
الرابع ـ أنه قيام
الليل ، قاله مجاهد ، والأوزاعى ، ومالك.
قال ابن وهب : هو
قيام الليل بعد النوم ، وذلك أثقله على الناس ، ومتى كان النوم حينئذ أحبّ فالصلاة
حينئذ أحبّ وأولى.
والقول في صلاة
الليل مضى ، وسيأتى في سورة الزمر إن شاء الله تعالى.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).
قال القاضي : هذه
الآية لم يذكرها من طالعت كلامه في جميع الأحكام القرآنية ، وذكرها القرطبي في كتب
الفقه خاصة منتزعا بها لجواز الوكالة من قوله : (الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ) ، وهذا أخذ من لفظه ، لا من معناه ، فإن كلّ فاعل غير الله
إنما يفعل بما خلق الله فيه من الفعل ، لا بما جعل إليه ، حسبما بيناه في أصول
الدين. ولو اطرد ذلك لقلنا في قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أنها نيابة عن الله تعالى ، ووكالة في تبليغ رسالته ،
ولقلنا أيضا في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) أنه وكالة في أنّ الله ضمن الرزق لكلّ دابّة ، وخصّ الأغنياء بالأغذية ،
وأوعز إليهم بأنّ رزق الفقراء عندهم ، وأمرهم بتسليمه إليهم ، مقدّرا معلوما في
وقت معلوم ، ودبّره بعلمه ، وأنفذه من حكمه ، وقدّره بحكمته ، حسبما بيناه في
موضعه.
ولا تتعلّق
الأحكام بالألفاظ ، إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة ، فإن
ظهرت في غير مقصدها لم تعلّق عليها مقاصدها. ألا ترى أنّ البيع والشراء معلوم
اللفظ والمعنى ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...) الآية.
ولا يقال : هذه
الآية دليل على جواز مبايعة السيد لعبده ، لأنّ المقصودين مختلفان.
وهذا غرض شبّ طوق
أصحابنا عنه ، فإذا أرادوا لبسه لم يستطيعوا جوبه ، ولا وجد امرؤ منهم جيبه.
وقد تكلمنا على
هذه الآية في المشكلين ، وأحسن ما قيدنا فيها عن الإسفراينى ، من طريق الشهيد أبى
سعيد المقدسي ، أن الله هو الخالق لكلّ شيء ، الفاعل حقيقة لكل فعل ، في أى محل
كان ، ومتى ترتّب المحال ، وتناسقت الأفعال فالكل إليه راجعون ،
__________________
وعلى قدرته محالون
، ومن فعله محسوب ، وفي كتابه مكتوب ، وقد خلق ملك الموت ، وخلق على يديه قبض
الأرواح ، واستلالها من الأجسام ، وإخراجها منها على كيفية بينّاها في كتب الأصول
، وخلق جندا يكونون معه ، يعملون عمله بأمره مثنى وفرادى. والباري تعالى خالق الكل
، فأخبر عن الأحوال الثلاثة بثلاث عبارات ، فقال : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ...) الآية ، إخبارا عن الفعل الأول ، وهو الحقيقة.
وقال في الآية
الأخرى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ...) الآية خبرا عن المحل الأول الذي نيط به ، وخلق فعله فيه.
وقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ، وما أشبه ذلك من ألفاظ الحديث خبرا عن الحالة الثانية التي تباشر فيها ذلك. فالأولى حقيقة
عقلية إلهية ، والثانية حقيقة عربية شرعية بحكم المباشرة.
وقال : ملك الموت
إن باشر مثلها وإن أمر فهو كقولهم : حدّ الأمير الزّانى وعاقب الجاني. وهذه نهاية
في تحقيق القول.
قال ابن العربي :
أما إنه إذا لم يكن بدّ من التسوّر على المعاني ، ودفع الجهل عنها في غير موضعها ،
والإعراض عن المقاصد في ذلك ، فيقال : إن هذه الآية دليل على أن للقاضي أن يستنيب
من يأخذ الحقّ ممن هو عليه قسرا دون أن يكون له في ذلك فعل أو يرتبط به رضا إذا
وجد ذلك.
وهو التحقيق الحاضر الآن ، وتمامه في الكتاب الكبير.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ فيمن
نزلت ؟
وقد روى أنها نزلت في علىّ بن أبى طالب المؤمن ،
وفي عقبة بن أبى معيط الكافر ،
__________________
فاخر
عقبة عليّا ، فقال : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ سنانا ، وأملأ في الكتيبة منك حشوا.
فقال
له علىّ : ليس كما قلت يا فاسق.
قال قتادة : والله
ما استويا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا في الآخرة.
المسألة الثانية ـ
في هذا القول نفى المساواة بين المؤمن والكافر ، وبهذا منع القصاص بينهما ، إذ من
شروط وجود القصاص المساواة بين القاتل والمقتول ، وبذلك احتجّ علماؤنا على أبى
حنيفة في قتله المسلم بالذمي.
وقال : أراد نفى
المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب ، وفي الدنيا في العدالة ، ونحن حملناه على
عمومه ، وهو أصحّ ، إذ لا دليل يخصّه حسبما قرّرناه في مسائل الخلاف.
__________________
سورة الأحزاب
[فيها أربع وعشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
فيها أربعة أقوال
:
الأول ـ أنها مثل
ضربه الله لزيد بن حارثة وللنبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ليس ابن رجل آخر
ابنك.
الثاني ـ قال
قتادة : كان رجل لا يسمع شيئا إلا وعاه ، فقال الناس : ما يعي هذا إلا لأن له
قلبين ، فسمى ذا القلبين ، فقال الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ
مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، [فكان ما قال] .
الثالث ـ قال
مجاهد : إن رجلا من بنى فهر قال : إنّ في جوفي قلبين ، أعمل بكل واحد منهما عملا
أفضل من عمل محمد.
الرابع ـ قيل لابن
عباس : أرأيت قول الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟
قال : قام نبىّ
الله صلى الله عليه وسلم يصلّى ، فخطر خطرة ، فقال المنافقون الذين يصلّون معه : ألا ترون له قلبين :
قلبا معكم ، وقلبا معهم ، فأنزل الله تعالى الآية.
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله : (مِنْ قَلْبَيْنِ).
القلب : بضعة صغيرة الجرم على هيئة الصنوبرة ، خلقها الله تعالى في
الآدمي وجعلها محلّا للعلم. والروح أيضا ، في قول ، يحصى به العبد من العلوم ما لا
يسع في أسفار ، يكتبه الله له فيه بالخط الإلهى ، ويضبطه فيه بالحفظ الرّبانى حتى يحصيه ولا
ينسى منه شيئا.
وهو بين لمتين :
لمة من الملك ، ولمة من الشيطان ، كما تقدم بيانه في الحديث.
وهو محلّ الخطرات
والوساوس ، ومكان الكفر والإيمان ، وموضع الإصرار والإنابة ، ومجرى الانزعاج
والطمأنينة.
والمعنى في الآية
أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار ،
وهذا نفى لكل ما توهّمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ).
نهى الله سبحانه
أن تكون الزوجة أمّا بقول الرجل : هي علىّ كظهر أمىّ. ولكنه حرّمها عليه ، وجعل
تحريم القول يمتدّ إلى غاية ، وهي الكفّارة ، على ما يأتى بيانه في سورة المجادلة.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ).
كان الرجل يدعو
الرجل ابنا إذا ربّاه ، كأنه تبنّاه ، أى يقيمه مقام الابن ، فردّ الله عليهم
قولهم ، لأنهم تعدّوا به إلى أن قالوا : المسيح ابن الله. وإلى أن يقولوا زيد بن
محمد. فمسخ الله هذه الذّريعة ، وبت حبلها ، وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
فيها خمس مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
: (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ).
روى الأئمة أن ابن
عمر قال : ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمد ، حتى نزلت : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللهِ).
وكان من قصة زيد
بن حارثة أنه قال : كان جبلة في الحي ، فقالوا : أنت أكبر أم زيد؟ فقال : زيد أكبر منى
، وأنا ولدت قبله ، وسأخبركم عن ذلك.
كانت أمنا امرأة
من طيئ ، فمات أبونا ، وبقينا في حجر جدي ، فجاء عمّاى ، فقالا لجدي : نحن أحقّ
بابن أخينا منك ، فقال : ما عندنا خير لهما ، فأبيا. فقال : خذا جبلة ودعا زيدا.
فانطلقا بي ، فجاءت خيل من تهامة ، فأصابت زيدا ، فتراقى به الأمر إلى خديجة ،
فوهبته خديجة للنبي عليه السلام.
وكان النبىّ صلى
الله عليه وسلم إذا لم يغز ـ وغزا زيد ـ أعطاه سلاحه.
وأهدى للنبي صلى
الله عليه وسلم يوما مرجلان ، فأعطاه أحدهما ، وأعطى عليّا الآخر.
وقد روى أن حكيم
بن حزام ابتاعه ، وكان مسبيّا من الشام ، فوهبه لعمته خديجة ، فوهبته للنبي صلى
الله عليه وسلم ، فتبناه النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان أبوه يدور بالشام ويقول :
بكيت على زيد
ولم أدر ما فعل
|
|
أحىّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
|
فو الله ما أدرى
وإنى لسائل
|
|
أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
|
فيا ليت شعري هل
لك الدهر أوبة
|
|
فحسبي من الدنيا
رجوعك لي أمل
|
تذكّرنيه الشمس
عند طلوعها
|
|
وتعرض ذكراه إذا
غربها أفل
|
فإن هبّت
الأرواح هيّجن ذكره
|
|
فيا طول ما حزنى
عليه ويا وجل
|
__________________
سأعمل نصّ العيس
في الأرض جاهدا
|
|
ولا أسأم
التّطواف أو تسأم الإبل
|
حياتي أو تأتى
علىّ منيّتى
|
|
فكلّ امرئ فان
وإن غرّه الأمل
|
فأخبره أنه بمكة ،
فجاء إليه ، فهلك عنده.
وروى أنه جاء إليه
، فخيّره النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فاختار المقام عند النبي صلى الله عليه وسلم
لسعادته ، وتبنّاه وربّاه ، ودعى له على رسم العرب ، فقال الله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ،
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ،
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً. النَّبِيُ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).
فدعاه النبي صلى
الله عليه وسلم لحارثة ، وعرفت كلب نسبه ، فأقرّوا به ، وأثبتوا نسبته.
وهو أقسط عند الله
، أى أعدل عند الله قولا وحكما.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) دليل قوىّ على أنّ من لا أب له من ولد دعى أو لعان لا ينتسب
إلى أمه ، ولكنه يقال أخو معتقه ومولده إن كان حرا ، أو عبده إن كان رقا.
فأما ولد الملاعنة
إن كان حرّا فإنه يدعى إلى أمه ، فيقال : فلان ابن فلانة ، لأن أسبابه في انتسابه
منقطعة ، فرجعت إلى أمه.
المسألة الثالثة ـ
فيه إطلاق اسم الأخوة دون إطلاق اسم الأبوة ، لأن المؤمنين إخوة ، قال الله تعالى
: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
وددت أنى رأيت
إخواننا. قالوا : ألسنا بإخوانك! قال : بل أنتم أصحابى ، وإخواننا الذين لم يأتوا
بعد.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَمَوالِيكُمْ) :
يجوز إطلاق المولى
على المنعم عليه بالعتق ، وعلى المعتق بلفظ واحد ، والمعنى مختلف،
__________________
ويرجع ذلك إلى
الولاية ، وهي القرب ، كما ترجع الأخوة إلى أصل هو مقام الأبوة من الدين والصداقة.
وللمولى ثمانية
معان ، منها ما يجتمع أكثرها في الشيء الواحد ، ومنها ما يكون فيه من معاينة اثنين
بحسب ما يعضده الاشتقاق ، ويقتضيه الحال وتوجبه الأحكام.
المسألة الخامسة ـ
قال جماعة : هذا ناسخ لما كانوا عليه في الجاهلية من التبنّى والتوارث ، ويكون
نسخا للسنة بالقرآن.
وقد بينا في القسم
الثاني أنّ هذا لا يكون نسخا ، لعدم شروط النسخ فيه ، ولأنّ ما جاء من الشريعة لا
يقال إنه نسخ لباطل الخلق ، وما كانوا عليه من المحال والضلال ، وقبيح الأفعال ،
ومسترسل الأعمال ، إلا أن يريد بذلك نسخ الاشتقاق ، بمعنى الرفع المطلق ، والإزالة
المبهمة.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد
غزوة تبوك أمر الناس بالخروج ، فقال قوم :
نستأذن
آباءنا وأمهاتنا ، فأنزل الله تعالى فيهم : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
وفي رواية عكرمة :
وهو أبوهم وأزواجه
أمهاتهم. والحديث في غزوة
تبوك موضوع.
المسألة الثانية ـ
روى الأئمة ـ واللفظ للبخاري ـ عن عبد الرحمن بن أبى عمرة ، عن النبىّ صلى الله
عليه وسلم ، قال : ما
من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك
دينا أو ضياعا فليأتنى ، فأنا مولاه.
__________________
فانقلبت الآن
الحال بالذنوب ، فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه ، وإن تركوا ضياعا
أسلموا إليه ، فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله
عليه وسلم وتعيينه ، ولا عطر بعد عروس.
المسألة الثالثة ـ
(وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) ولسن لهم بأمهات ، ولكن أنزلن منزلتهنّ في الحرمة ، كما
يقال : زيد الشمس ، أى أنزل في حسنه منزلة الشمس ، وحاتم البحر ، أى أنزل في عموم
جوده بمنزلة البحر ، كلّ ذلك تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحفظا لقلبه من
التأذّى بالغيرة.
قال النبي صلى
الله عليه وسلم للأنصار : تعجبون
من غيرة سعد ، لأنا أغير منه ، والله أغير منى. ولهذا قال : (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً). ولم ينزّل في هذه الحرمة أحد منزلة النبي صلى الله عليه
وسلم ، ولا روعيت فيه هذه الخصيصة ، وإن غار وتأذّى ، ولكنه محتمل مع حظ المنزلة
من خفيف الأذى.
المسألة الرابعة ـ
قال بعض المفسرين : حرم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الخلق من بعده ، وإنما
أخذه من قوله : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ، فكلّ من طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتخلّى
عنها في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة بينه وبينهن ، فقيل : هي لمن دخل بها
دون من فارقها قبل الدخول.
وقد همّ عمر برجم
امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكحت بعده ، فقالت له : ولم؟ وما
ضرب علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابا ولا دعيت أمّ المؤمنين. فكفّ عنها.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ).
اختلف الناس ، هل
هنّ أمهات الرجال والنساء ، أم هن أمهات الرجال خاصة ، على قولين :
__________________
فقيل : ذلك عامّ
في الرجال والنساء. وقيل : هو خاص للرجال ، لأنّ المقصود بذلك إنزالهنّ منزلة
أمهاتهم في الحرمة ، حيث يتوقّع الحلّ ، والحلّ غير متوقع بين النساء ، فلا يحجب
بينهن بحرمة.
وقد روى أنّ امرأة
قالت لعائشة : يا أماه. فقالت : لست لك بأم ، إنما أنا أمّ رجالكم ، وهو الصحيح .
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).
وقد قدمنا القول في ذلك في سورة الأنفال.
وثبت عن عروة أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك ، فارتثّ كعب يوم أحد ، فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ، فلو
مات يومئذ كعب عن الضّح والريح لورثه الزبير ، فأنزل الله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
فبيّن الله سبحانه
أنّ القرابة أولى من الحلف ، فتركت الموارثة بالحلف ، وورثوا بالقرابة ، وقوله : (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) يتعلق حرف الجر بأولى ، وما فيه من معنى الفعل ، لا بقوله
: (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ) بإجماع ، لأنّ ذلك كان يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ، ولا
خلاف في عمومها ، وهذا حلّ إشكالها.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً).
__________________
فيها أحكام وسير ،
وقد ذكرها مالك ، وتكلم عليها ، وهي متضمّنة غزوة الخندق ، والأحزاب ، وبنى قريظة
، وكانت حال شدة ، معقبة بنعمة ، ورخاء وغبطة ، وذلك مذكور في تسع عشرة آية ،
ويقتضى مسائل ثلاثا :
المسألة الأولى ـ قال
ابن وهب : سمعت مالكا يقول : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة
، وذلك قوله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ ، وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ). قال : ذلك يوم الخندق ، جاءت قريش من هاهنا ، واليهود من
هاهنا ، والنّجدية من هاهنا ، يريد مالك أن الذين جاءوا من فوقهم بنو قريظة ، ومن
أسفل منهم قريش وغطفان.
قال ابن وهب ،
وابن القاسم : كانت وقعة الخندق سنة أربع ، وهي وبنو قريظة في يوم واحد ، وبين بنى
قريظة والنضير أربع سنين.
وقال ابن إسحاق :
كانت غزوة الخندق سنة خمس.
قال ابن وهب : قال
مالك : بلغني أنّ عبد الله بن أبى بن سلول قال لسعد بن معاذ في بنى
قريظة ـ حين نزلت على حكم سعد ، وجاء ليحكم فيهم ، وهو على أتان ، فمرّ به حتى
لقيه عبد الله بن أبىّ المنافق ـ قال : أنشدتك الله يا سعد في إخوانى وأنصارى ،
ثلاثمائة فارس وستمائة راجل ، فإنهم جناحي ، وهم مواليك وحلفاؤك.
فقال سعد : قد آن
لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فحكم فيهم سعد أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى
ذراريهم.
وقال النبي صلى
الله عليه وسلم : لقد
حكم فيهم سعد بحكم الملك. زاد غيره من فوق سبعة أرقعة .
فأتى ثابت بن قيس
بن شماس إلى ابن باطا ، وكانت له عنده يد ، وقال : قد استوهبتك من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي.
قال : كذلك يفعل
الكريم بالكريم. ثم قال : وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟
__________________
قال : فأتى ثابت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأعطاه أهله وولده. فأتاه
فأعلمه ذلك ، فقال : وكيف يعيش رجل لا مال له! فأتى ثابت النبي صلى الله عليه وسلم
فطلبه ، فأعطاه ماله. فرجع إليه فأخبره ، فقال : ما فعل ابن أبى الحقيق الذي كأنّ
وجهه مرآة صينية؟ قال : قتل. قال : فما فعل المجلسان ـ يعنى بنى كعب بن قريظة ، وبنى
عمرو ابن قريظة؟ قال : قتلوا. قال : فما فعلت القينتان ؟ قال : قتلتا. قال : برئت ذمتك ، ولن أصبّ فيها دلوا أبدا ـ يعنى النخل ـ فألحقنى بهم ، فأبى أن
يقتله وقتله غيره.
واليد التي كانت
لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجزّ ناصيته وأطلقه.
وكذلك قال ابن
القاسم عنه. وقال ابن وهب عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ حين توفى سعد : نخشى أن نغلب عليك ، كما غلبنا على حنظلة. قال :
وكان قد أصيب في أكحله ، فانتقله النبىّ صلى الله عليه وسلم إليه.
وكانت عائشة مع
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وذكرت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يتعاهد ثغرة من الجبل يحافظ عليها ، ثم يزلفه البرد ذلك اليوم ، فيأتى فيضطجع
في حجري ، ثم يقوم ، فسمعت حسّ رجل عليه حديد وقد أسند في الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا؟ فقال : سعد بن أبى وقاص ، جئتك
لتأمرنى بأمرك.
فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت في تلك الثغرة.
قالت عائشة : ونام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري حتى سمعت غطيطه ، وكانت عائشة لا تنساها
لسعد.
قال مالك : وانصرف
النبي صلى الله عليه وسلم من آخر النهار ، فاغتسل ، فأتاه جبريل عليه السلام قال : أوضعت اللأمة أو لم تضعها؟ إن الله يأمرك أن تخرج إلى
بنى قريظة.
قال ابن القاسم
عنه : وقسم قريظة سهمانا ، فأما النضير فقسمها للمهاجرين الأولين ، ولثلاثة نفر من
الأنصار ، وهم سهل بن حنيف ، وأبو دجانة ، والحارث بن الصمة.
__________________
قال مالك : وكانت
النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
قال ابن وهب : قال مالك : وسمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم المسلمين يوم الخندق وهم يرتجزون :
اللهمّ
لا خير إلّا خير الآخره
|
|
فاغفر
للأنصار والمهاجرة
|
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا خير إلا خير الآخرة ، فاغفر للمهاجرة والأنصار.
قال أبو بكر :
أشهد أنك رسول الله. قال الله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ).
وعن ابن القاسم
مثله. وقال مالك : لم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة.
قال القاضي : قال
علماؤنا : استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر : سعد بن معاذ ، وأنس بن أوس بن
عتيك بن عمرو ، وعبد الله بن سهل ـ ثلاثة نفر. ومن بنى جشم ابن الخزرج ثم من بنى
سلمة : الطّفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة رجلان [من بنى سلمه] ، وكعب بن زيد من بنى النجار.
وقتل من الكفار
ثلاثة : منبّه بن عثمان بن عبيد بن السّباق بن عبد الدار ، ونوفل ابن عبد
الله بن المغيرة المخزومي ـ وكان اقتحم الخندق فتورّط فيه ، فقتل. فغلب المسلمون
على جسده ، فروى عن الزهري أنهم
أعطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم ، فقال : لا حاجة لنا
بجسده ولا بثمنه. فخلّى بينهم وبينه.
وعمرو بن عبد ودّ
قتله علىّ في المبارزة ، اقتحم عن فرسه فعقره ، وضرب وجهه ، ثم أقبل على علىّ
فتنازلا ، فغلبه على بن أبى طالب ، وقال على بن أبى طالب في ذلك :
نصر
الحجارة من سفاهة رأيه
|
|
ونصرت
ربّ محمد بصواب
|
__________________
فصددت
حين تركته متجدّلا
|
|
كالجذع بين
دكادك وروابي
|
وعففت عن أثوابه
ولو اننى
|
|
كنت المقطّر بزّنى أثوابى
|
لا تحسبنّ الله
خاذل دينه
|
|
ونبيه يا معشر
الأحزاب
|
قال ابن وهب :
وسمعت مالكا يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة الأنصارى ،
وعباد بن بشير ، وأبا عباس الحارثي ، ورجلين آخرين إلى كعب بن الأشرف اليهودي
ليقتلوه ، فبلغني أنهم قالوا : يا رسول الله ، أتأذن لنا أن ننال منك إذا جئناه.
فأذن لهم.
فخرجوا نحوه ليلا
، فلما جاءوه نادوه ليطلع إليهم ، وكان بين عباد بن بشير وبين ابن الأشرف رضاع ،
فقالت له امرأته : لا تخرج إليهم ، فإنى أخاف عليك. فقال : والله لو كنت نائما ما
أيقظونى.
فخرج إليهم ، فقال
: ما شأنكم؟ فقالوا : جئنا لتسلفنا شطر وسق من تمر ، ووقعوا في النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقال : أما
والله لقد كنت نهيتكم عنه ، ثم قال بعضهم : إنا
لنجد منك ريح عبير.
قال : فأدنى إليهم
رأسه ، وقال : شمّوا ، فذلك حين ابتدروه فقتلوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم تلك الليلة : إنى لأجد ريح دم كافر.
المسألة الثانية ـ
روى أنس بن مالك قال : قال عمى أنس بن النضر : سميت به ، لم يشهد بدرا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فكبر عليه ، فقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله
عليه وسلم غبت عنه ، أما والله لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع. قال ـ وهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل ، فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا
أبا عمرو ، أين؟ قال : واها لريح الجنة ، إنى أجدها من دون أحد ، فقاتل حتى قتل ،
فوجد في جسده بضع وثمانون جراحة بين ضربة وطعنة ورمية.
__________________
قالت عمتي
الرّبيّع بنت النضر : فما عرفت أخى إلا ببنانه ، ونزلت هذه الآية : (رِجالٌ صَدَقُوا ما
عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
وكذلك روى طلحة أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قالوا لأعرابى جاه : سله عمن قضى نحبه منهم ، وكانوا لا يجترءون على مسألته ؛
يوقّرونه ويهابونه ـ فسأله الأعرابى ، فأعرض عنه ، ثم سأله عنه فأعرض عنه ، ثم إنى
اطلعت من باب المسجد ، وعلىّ ثياب خضر ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال :
أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابى : ها أنا ذا يا رسول الله. قال : هذا ممن
قضى نحبه.
النحب : النذر.
المسألة الثالثة ـ
قال ابن وهب : قال مالك : سمعت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان انتقل إليه
سعد بن معاذ يوم الخندق حين أصابته الجراح في خصّ عنده في المسجد ، فكان فيه ،
وكان جرحه ينفجر ، ثم يفيق عنه ، فخرج منه دم كثير حتى سال في المسجد ، فمات منه.
وبلغني أنّ سعد بن
معاذ مرّ بعائشة رضى الله عنها ونساء معها في الأطم الذي يقال له فارع ، وعليه درع
مقلّصة ، مشمّر الكمّين ، وبه أثر صفرة وهو يرتجز :
لبّث قليلا يشهد
الهيجا حمل
|
|
لا بأس بالموت
إذا حان الأجل
|
فقالت عائشة : إنى
لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا من أطرافه ، فأصيب في أكحله .
قال القاضي : فروى
أنّ الذي أصابه عاصم بن قيس بن العرقة ، فلما أصابه قال : خذها منى وأنا ابن
العرقة.
فقال له سعد :
عرّق الله وجهك في النار ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها ، فإنه
لا قوم أحبّ إلىّ أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ،
__________________
اللهم إن كنت وضعت
الحرب بيني وبينهم فاجعله شهادة لي ، ولا تميتني حتى تقرّ عيني من بنى قريظة.
وقد روى أن الذي
أصابه أبو أسامة ـ يعنى الجشمي. قال في ذلك شعرا لعكرمة بن أبى جهل :
أعكرم هلّا
لمتنى إذ تقول لي
|
|
فداك بآطام
المدينة خالد
|
ألست الذي ألزمت
سعدا منيّة
|
|
لها بين أثناء
المرافق عاقد
|
قضى نحبه منها
سعيد فأعولت
|
|
عليه مع الشمط
العذارى النواهد
|
وأنت الّذى
دافعت عنه وقد دعا
|
|
عبيدة جمعا منهم
إذ يكايد
|
على حين ما هو
جائر عن طريقه
|
|
وآخر مدعوّ على
القصد قاصد
|
وقد روى غير ذلك.
وروى ابن وهب ،
وابن القاسم ، عن مالك ، قالت عائشة : ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ ، حاشا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصيب في أكحله ، ثم قال : اللهم إن كان حرب قريظة
لم يبق منها شيء فاقبضنى إليك ، وإن كان قد بقيت منها بقية فأبقنى ، حتى أجاهد مع
رسولك أعداءه.
فلما حكّم في بنى
قريظة توفّى ، ففرح الناس بذلك ، وقالوا : نرجو أن تكون قد استجيبت دعوته.
قال ابن وهب :
وقال مالك ، وقال سعد : اللهم إنك تعلم أنى كنت أحبّ أن يقتلني قوم بعثت فيهم
نبيّك فكذّبوه وأخرجوه ، فإن كنت تعلم أنّ الحرب قد بقيت بيننا وبينهم فأبقنى ،
وإن كنت تعلم أنه لم يبق منها شيء فاقبضنى إليك. فلما توفى سعد تباشر أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقال ابن القاسم :
حدثني يحيى بن سعيد : لقد نزل بموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما نزلوا الأرض
قبلها.
وقال مالك : قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، يعنى في رجوعه من الخندق.
وقال ابن وهب عنه
: كانت وقعة الخندق في برد شديد ، وما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر
والعصر يوم الخندق إلى حين غابت الشمس.
وقال ابن القاسم ـ
عنه : لما انصرف عن الخندق وضع السلاح ولا أدرى اغتسل أم لا ، فأتاه جبريل فقال :
يا محمد ، أتضعون اللأمة قبل أن تخرجوا إلى قريظة ، لا تضعوا السلاح حتى تخرجوا
إلى بنى قريظة. فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا يصلى أحد صلاة العصر إلا
في بنى قريظة.
فصلّى بعض الناس
لفوات الوقت ، ولم يصلّ بعض ، حتى لحقوا بنى قريظة ، اتّباعا لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
فهذه الآيات التسع
عشرة نزلن في شأن الأحزاب بما اندرج فيها من الأحكام مما قد بيناه في موضعه ،
وشرحناه عند وروده ، فلم يكن لتكراره معنى ، وما خرج عن ظاهر القرآن فهو من الحديث
يشرح في موضعه.
وقد بقيت آية
واحدة ، وهي تتمة عشرين آية نزلت في الأحزاب وهي قوله : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ). وقد بيناها هنالك.
والذي أخبر الله
عنه بالاستئذان وقوله : (إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ) ، أوس بن قيظى. والذين عاهدوا الله من قبل لا يولّون
الأدبار هم بنو حارثة ، وبنو سلمة ، على ما جرى عليهم في أحد ، وندموا ، ثم عادوا
في الخندق. وقد أثنى الله عليهم في غزوة أحد بقوله :
(إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، وَاللهُ وَلِيُّهُما).
قال جابر : وما
وددت أنها لم تنزل لقوله : والله وليّهما.
__________________
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).
فيها ثمان عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفيه خمسة أقوال :
الأول ـ أن الله
سبحانه صان خلوة نبيه ، وخيّرهن ألّا يتزوجن بعده ، فلما اخترنه أمسكهن ، قاله
مقاتل بن حيان.
الثاني ـ أن الله
سبحانه خيّر نبيّه بين الدنيا والآخرة ، فجاءه
الملك الموكّل بخزائن الأرض بمفاتحها ، وقال له : إن الله خيّرك بين أن تكون نبيّا
ملكا ، وبين أن تكون عبدا نبيّا. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل
كالمستشير ، فأشار إليه أن تواضع فقلت : بل نبيّا عبدا ، أجوع يوما وأشبع يوما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني في
زمرة المساكين.
فلما
اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير أزواجه ليكنّ على مثاله ، قاله ابن القاسم.
الثالث ـ أن
أزواجه طالبنه بما لا يستطيع ، فكان أولاهنّ أم سلمة ، سألته سترا معلما ، فلم
يقدر عليه. وسألته ميمونة حلّة يمانية. وسألته زينب بنت جحش ثوبا مخطّطا. وسألته
أم حبيبة ثوبا سحوليا . وسألته سودة بنت زمعة قطيفة خيبرية. وكلّ واحدة منهن طلبت
منه شيئا ، إلا عائشة ، فأمر بتخييرهنّ ـ حكاه النقاش ، وهذا بهذا اللفظ باطل.
والصحيح ما في
صحيح مسلم ،
عن جابر بن عبد الله قال : جاء أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد
الناس جلوسا عند بابه لم يأذن لأحد منهم ، قال : فأذن
__________________
لأبى
بكر ، فدخل ، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له بالدخول ، فوجد النبىّ صلى الله عليه
وسلم جالسا وحوله نساؤه ، واجما ساكتا ، قال : فقال [أبو بكر] : لأقولن شيئا يضحك النبىّ صلى الله عليه وسلم. فقال : أرأيت يا رسول الله بنت
خارجة ، سألتنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وقال : هنّ حولي كما ترى يسألننى النفقة.
فقام أبو بكر إلى
عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده.
ثم اعتزلهن شهرا ،
ثم أنزلت عليه آية التخيير : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً).
فقد خرج من هذا
الحديث الصحيح أنّ عائشة طلبته أيضا ، فتبيّن بطلان قول النقاش.
الرابع ـ أن
أزواجه اجتمعن يوما فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلىّ والثياب ، حتى قال بعضهن
: لو كنا عند غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان لنا حلى وثياب وشأن ، فأنزل
الله تعالى تخييرهنّ ؛ قاله النقاش.
الخامس ـ أن
أزواجه اجتمعن في الغيرة عليه ، فخلف ألا يدخل عليهن شهرا ونصّه ما روى عبد الله بن عبيد الله بن أبى ثور ، عن ابن عباس ،
قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم اللتين فيهما قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، فمكثت سنة ما أستطيع أن أسأله هيبة له ، حتى حجّ عمر ، وحججت معه
، فلما كان بمرّ الظهران عدل عمر إلى الأراك ، فقال : أدركنى بإداوة من ماء
، فأتيته بها وعدلت معه ، بالإداوة ، فتبرّز عمر ، ثم أتانى ، فسكبت على يده الماء
فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
اللتان قال الله
__________________
تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) ، فإنى أريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك.
فقال عمر : وا
عجبا لك يا ابن عباس! لا تفعل ، ما ظننت أن عندي فيه علما ، فسلني عنه ، فإن كنت
أعلمه أخبرتك.
قال الزهري : كره
والله ما سأله عنه ، ولم يكتمه.
قال : هما والله
عائشة وحفصة ، ثم أخذ يسوق الحديث. قال : كنا معشر قريش نغلب النساء ، فقدمنا
المدينة ، فوجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم. قال : وكان
منزلي في بنى أمية بن زيد بالعوالي ، فتغيّظت يوما على امرأتى ، وذلك أنى كنت في أمر أريده ، قالت لي : لو
صنعت كذا. فقلت لها : مالك أنت ولهذا وتكلفك في أمر أريده ! فإذا هي تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ، فو الله
إنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن يومها إلى الليل.
فأخذت ردائي ،
وشددت علىّ ثيابي ، فانطلقت ، وذلك قبل أن ينزل الحجاب ، فدخلت على عائشة ، فقلت
لها : يا بنت أبى بكر ، قد بلغ من شأنك أن تؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالت : ما لي ولك
يا ابن الخطاب ، عليك بعيبتك.
فدخلت على حفصة ،
فقلت : قد بلغ من شأنك أن تؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتراجعين رسول الله
صلى الله عليه وسلم!
قالت : نعم. فقلت
: أتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل! فقالت : نعم. قلت : قد خاب من فعل ذلك منكنّ
وخسرت ، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله ، فإذا هي قد هلكت ، لا
تراجعى رسول الله ولا تسأليه شيئا ، واسألينى ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك
هذه التي أعجبها حسنها وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، هي أوسم منك ،
وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ـ يريد عائشة. لقد علمت أنّ رسول الله
__________________
صلى الله عليه
وسلم لا يحبك ، ولو لا أنا لطلّقك ، فبكت أشدّ البكاء.
ودخلت على أم سلمة
لقرابتي منها فكلّمتها ، فقالت لي : وا عجبا لك يا ابن الخطاب! قد دخلت في كل شيء
حتى تبغى أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه ، وإنه كسرنى ذلك
عن بعض ما كنت أجد.
وكان لي جار من
الأنصار ، فكنا نتناوب في النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينزل يوما
وأنزل يوما ، ويأتينى بخبر الوحى ، وآتيه بمثل ذلك ، وكنا نتحدث أن غسان تنعل
الخيل تغزونا ، فنزل صاحبي ، ثم أتانى عشيا ، فضرب بابى ، وناداني ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم. فقلت :
ماذا؟ أجاءت غسان؟ فقال : بل أعظم من ذلك. فقلت : ما تقول! طلّق رسول الله صلى
الله عليه وسلم نساءه؟ فقلت : قد خابت حفصة ، وخسرت ، قد كنت أظنّ هذا يوشك أن
يكون ، حتى إذا صلّيت الصبح شددت علىّ ثيابي ، ثم نزلت ، فدخلت على حفصة ، وهي
تبكى. فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت : لا أدرى ، هو هذا
معتزل في هذه المشربة.
فأتيت غلاما أسود
قاعدا على أسكفّة الباب مدليا رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وينحدر. فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ، ثم خرج ، فقال : قد ذكرتك له فصمت.
فانطلقت ، حتى
أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكى بعضهم ، فجلست قليلا ، ثم غلبني ما أجد ،
فأتيت الغلام ، فقلت : استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلىّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ،
فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام ، فقلت : استأذن لعمر ،
فإنى أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنّ أنى جئت من أجل حفصة ، والله لئن
أمرنى أن أضرب عنقها لأضربنّ عنقها.
قال : ورفعت صوتي
، فدخل ، ثم خرج ، فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فولّيت مدبرا ، فإذا الغلام يدعوني ،
قال : ادخل فقد أذن لك.
__________________
فدخلت ، فسلّمت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متّكئ على رمال حصير ، قد أثّر في جنبه ، ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه
وسادة من أدم ، حشوها ليف. فقلت : يا رسول الله ، أطلّقت نساءك؟ ما يشقّ عليك من
أمر النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإنّ الله معك وملائكته وجبريل ، وأنا وأبا بكر
والمؤمنين.
قال : وقلما تكلمت
وأحمد الله بكلام إلا رجوت أنّ الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية ـ آية
التخيير : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ
...).
فرفع
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلىّ فقال : لا. فقلت : الله أكبر ، لو رأيتنا
يا رسول الله ، وكنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء ، فقدمنا المدينة فوجدنا قوما
تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم فتغضّبت على امرأتى يوما ، فإذا هي
تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني. قالت : ما تنكر أن أراجعك. فو الله إن أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت : قد خاب من فعل
ذلك منهن وخسر ، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فإذا هي قد هلكت.
فتبسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة فقلت : لا
يغرنّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسّم
أخرى ، وإنى لما قصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أم سلمة تبسّم ، ولم
أزل أحدّثه حتى انحسر الغضب عن وجهه وكشر ، وكان من أحسن الناس ثغرا.
فقلت
: أستأنس يا رسول الله عليك! قال : نعم. فجلست فرفعت بصرى في البيت ، فو الله ما
رأيت فيه شيئا يردّ البصر ، إلا أهبا ثلاثة ، وإلا قبضة من شعير نحو الصاع ،
__________________
وقرظ مصبور في ناحية الغرفة ، وإذا أفيق معلّق ، فابتدرت عيناي ، فقال : ما يبكيك يا ابن الخطاب؟
فقلت : ومالي لا أبكى ، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك ، وهذه خزائنك لا أرى فيها
شيئا إلا ما أرى ، وذلك كسرى وقيصر في الأنهار والثمار ، وأنت رسول الله وصفوته ،
وقلت : ادع الله أن يوسّع لأمتك ، فقد وسّع الله على فارس والروم ، وهم لا يعبدون
الله.
فاستوى
جالسا ، وقال : أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب! أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة
الدنيا .
فقلت
: استغفر لي يا رسول الله.
وإن
عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه ،
فأذن له ، فقام عمر على باب المسجد ينادى : لم يطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم
نساءه ، ونزلت هذه الآية : (وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
، فكنت أنا الذي
استنبطت ذلك الأمر ، وأنزل الله تعالى آية التخيير.
وكان أقسم لا يدخل
عليهنّ شهرا ، يعنى من أجل ذلك الحديث ، يعنى قصة شرب العسل في بيت زينب على ما
يأتى بيانه في سورة التحريم.
هذا نصّ البخاري
ومسلم جميعا ، وهو الصحيح الذي يعوّل عليه ، ولا يلتفت إلى سواه.
المسألة الثانية ـ
هذا الحديث بطوله الذي اشتمل عليه كتاب الصحيح يجمع لك جملة الأقوال ، فإنّ فيه
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على أزواجه من أجل سؤالهنّ له ما لا يقدر
عليه ، لحديث جابر ، ولقول عمر لحفصة : لا تسألى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________________
شيئا ، وسليني ما
بدا لك. وسبب غيرتهنّ عليه في أمر شرب العسل في بيت زينب ، لقول ابن عباس لعمر :
من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان تظاهرتا عليه؟ وقوله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ).
وذلك إنما كان في
شرب العسل في بيت زينب ، فهذان قولان وقعا في هذا الحديث نصّا.
وفيه الإشارة لما
فيها بما جاء في حديث جابر من عدم قدرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النفقة ،
حتى تجمعن حوله بما ظهر لعمر من ضيق حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما
لما اطّلع في مشربته من عدم المهاد ، وقلة الوساد. وفيه إبطال ما ذكره النقاش من
أنّ عائشة لم تسأله شيئا ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : هنّ حولي ، كما ترى ، وقيام أبى بكر لعائشة يجأ في عنقها ، ولو لا
سؤالها ما أدّبها.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (قُلْ).
قال الجويني : هو
محمول على الوجوب ، واحتجّ بهذا الحديث الذي سردناه آنفا ، ولا حجّة فيه ، أما أن
قوله : «قل» يحتمل الوجوب والإباحة ، فإن كان الموجب لنزول الآية تخيير الله له
بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، فأمر أن يفعل ذلك بأزواجه ليكنّ معه في منزلته
، وليتخلّقن بأخلاقه الشريفة ، وليصنّ خلواته الكريمة من أنه يدخل عليها غيره ـ فهو
محمول على الوجوب.
وإن كان لسؤالهنّ
الإنفاق فهو لفظ إباحة ، فكأنه قيل له : إن ضاق صدرك بسؤالهنّ لك
ما لا تطيق فإن شئت فخيّرهنّ ، وإن شئت فاصبر معهن ، وهذا بيّن لا يفتقر إلى
إطناب.
المسألة الربعة ـ قوله
: (لِأَزْواجِكَ).
اختلف العلماء في
المراد بالأزواج المذكورات ، فقال الحسن ، وقتادة : كان تحته يومئذ تسع نسوة سوى
الخيبرية ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، وأم سلمة بنت
أبى أمية بن المغيرة ، وسودة بنت زمعة بن قيس. وكانت تحته صفية بنت
__________________
حيى بن أخطب
الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت
الحارث المصطلقية.
قال ابن شهاب :
وامرأة واحدة اختارت نفسها ، فذهبت ، وكانت بدوية.
قال ربيعة : فكانت
البتة ، واسمها عمرة بنت يزيد الكلابية ؛ اختارت الفراق ، فذهبت ، فابتلاها الله
بالجنون.
ويقال : إن أباها
تركها ترعى غنما له ، فصارت في طلب إحداهن ، فلم يعلم ما كان من أمرها إلى اليوم.
وقيل : إنها كندية. وقيل : لم يخيرها ، وإنما استعاذت منه فردّها ، وقال : لقد
استعذت بمعاذ.
هذا منتهى قولهم ،
ونحن نبينه بيانا شافيا ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
فنقول : كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج كثيرة بيناها في شرح الصحيحين ،
والحاضر الآن أنه كان له سبع عشرة زوجة ، عقد على خمس ، وبنى باثنتى عشرة ، ومات
عن تسع ، وذلك مذكور في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم. المخير منهن أربع :
الأولى ـ سودة بنت
زمعة ، تجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لؤي.
الثانية ـ عائشة
بنت أبى بكر ، تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأب الثامن.
الثالثة ـ حفصة
بنت عمر بن الخطاب ، تجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأب التاسع.
الرابعة ـ أمّ
سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، تجتمع مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الأب السابع.
وذكر جماعة [من
المفسرين] أن المخيّرات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تسع ،
وذكر النقاش أن أم حبيبة وزينب ممن سأل النبي صلى الله عليه وسلم النفقة ، ونزل
لأجلهنّ آية التخيير.
__________________
وهذا كلّه خطأ
عظيم ، فإنّ في الصحيح ـ كما قدمنا ـ أنّ عمر قال في الحديث المتقدم : فدخلت على
عائشة قبل أن ينزل الحجاب ، وإنما نزل الحجاب في وليمة زينب ، وكذلك إنما زوج أم
حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم النجاشىّ باليمن ، وهو أصدق عنه ، فأرسل بها
إليه من اليمن ، وذلك سنة ستّ.
وأما الكلابية
المذكورة فلم يبن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال : إن أباها زوّجها منه
، وقال له : إنها لم تمرض قطّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما لهذه قدر عند الله ، فطلّقها ولم يبن
بها ، وقول ابن شهاب :
إنها كانت بدويّة ، فاختارت نفسها ـ لم يصح. وقول ربيعة : إنها كانت البتة لم يثبت
، وإنما بناه من بناه على أنّ مذهب ربيعة في التخيير بتات ، ويأتى بيانه إن شاء
الله عزّ وجلّ.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا).
وهو شرط جوابه (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَ) ، فعلّق التخيير على شرط ، وهذا يدل على أنّ التخيير
والطلاق المعلّقين على شرط صحيحان ، ينفذان ويمضيان ، خلافا
للجهّال المبتدعة ، الذين يزعمون أنّ الرجل إذا قال لزوجته : إن دخلت الدار فأنت
طالق إنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار ، لأنّ الطلاق الشرعي هو المنجز لا غير.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها).
معناه إن كنتنّ
تقصدن الحالة القريبة منكنّ ، فإنّ للإنسان حالتين : حالة هو فيها تسمّى الدنيا ،
وحالة لا بد أن يصير إليها وهي الأخرى ، وتقصدن التمتّع بما فيها ، والتزين
بمحاسنها ، سرّحتكن لطلب ذلك ، كما قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).
ولا بد للمرء من
أن يكون على صفتين :
__________________
إما أن يلتفت إلى
هذه الحالة القريبة ، ويجمع لها ، وينظر فيها [ومنها] . وإما أن يلتفت إلى حالته الأخرى ، فإياها يقصد ، ولها
يسعى ويطلب ، ولذلك اختار الله لرسوله الحالة الأخرى ، فقال له : (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) ، يعنى رزقه في الآخرة ، إذ المرء لا بدّ له أن يأتيه رزقه في الدنيا طلبه أو تركه ، فإنه
طالب له طلب الأجل. وأما رزقه في الآخرة فلا يأتيه إلّا ويطلبه ، فخيّر الله أزواج
نبيه في هذا ليكون لهنّ المنزلة العليا ، كما كانت لزوجهن.
وهذا معنى ما روى
أحمد بن حنبل عن على أنه قال : لم يخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا
بين الدنيا والآخرة ، ولذلك قال الحسن : خيّرهنّ بين الدنيا والآخرة ، وبين الجنة
والنار.
المسألة الثامنة ـ
اختلف العلماء فيمن لو اختارت منهن الدنيا مثلا ، هل كانت تبين بنفس الاختيار أم
لا؟
فمنهم من قال :
إنها تبين ، لمعنيين :
أحدهما ـ أن
اختيار الدنيا سبب الافتراق ، فإن الفراق إذا وقع لا يتعلق باختياره إمضاؤه ، أصله يمين اللّعان.
وقد اختلف العلماء
، هل تقع الفرقة باللعان بنفس اليمين التي هي سبب الفراق ، أم لا بد من حكم الحاكم؟
حسبما بينّاه في مسائل الخلاف.
الثاني ـ أن الرجل
لو قال لزوجته : اختاري نفسك ـ ونوى الفراق ـ واختارت ، وقع الطلاق. والدنيا كناية
عن ذلك ، وهذا أصحّ القولين.
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَ).
هو جواب الشرط ،
وهو فعل جماعة النساء ، من قولك «تعالى» وهو دعاء إلى الإقبال إليه ،
__________________
تقول : تعالى
بمعنى «أقبل» ، وضع لمن له جلالة ورفعة ، ثم صار في الاستعمال موضوعا لكلّ داع إلى
الإقبال.
وأما في هذه
المواضع فهو على أصله ، فإنّ الداعي هو رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أرفع رتبة.
المسألة العاشرة ـ
قوله تعالى : (أُمَتِّعْكُنَ) ، وقد تقدم في سورة البقرة .
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (أُسَرِّحْكُنَ) ، معناه أطلقكن. وقد تقدم القول في السراح في سورة البقرة .
المسألة الثانية
عشرة ـ وهي مقصود الباب وتحقيقه في بيان الكتاب ، وذلك أنّ العلماء
اختلفوا في كيفية تخيير النبىّ صلى الله عليه وسلم لأزواجه على قولين :
الأول ـ كان
النبىّ صلى الله عليه وسلم خيّر أزواجه بإذن الله في البقاء على الزوجية ، أو
الطلاق. فاخترن البقاء معه ، قالته عائشة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وابن شهاب ، وربيعة.
ومنهم من قال :
إنه كان التخيير بين الدنيا فيفارقهنّ ، وبين الآخرة فيمسكهنّ ، ولم يخيرهنّ في
الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة ، ومن الصحابة علىّ.
وقال ابن عبد
الحكم : معنى خيّرهن قرأ عليهن الآية ، ولا يجوز أن يقول ذلك بلفظ التخيير ، فإن
التخيير إذا قبل ثلاث ، والله أمره أن يطلّق النساء لعدّتهن ، وقد قال : (سَراحاً جَمِيلاً) ، والثلاث ليس مما يجمل ، وإنما السراح الجميل واحدة ليس
الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير.
قال القاضي رضى
الله عنه : أمّا عائشة فلم يثبت ذلك عنها قط ، إنما المروىّ عنها أن مسروقا سألها
عن الرجل يخيّر زوجته فتختاره ، أيكون طلاقا؟ فإن الصحابة اختلفوا فيه.
فقالت عائشة :
خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ، أكان ذلك طلاقا؟
__________________
خرّجه الأئمة وروى
، فلم يكن شيئا ، فلما وجدوا لفظ «خير» في حديث عائشة ، وقولها : لما أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بتخيير نسائه بدأ بي ، فقال : إنى ذاكر لك أمرا : إنّ الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ ...) الآية. وليس في هذا تخيير بطلاق كما زعموا ، وإنما يرجع
الأول إلى أحد وجهين : التخيير بين الدنيا ، فيوقع الطلاق ، وبين الآخرة فيكون
الإمساك ، ولهذا يرجع قولهم إلى آية التخيير ، وقولها ، خيّر رسول الله صلى الله
عليه وسلم نساءه ، أو أمر بتخيير نسائه ، فإنما يعود ذلك كلّه إلى هذا التفسير من
التخيير.
والذي يدل عليه
أنه قد سمى ـ كما تقدم ـ آية التخيير : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ).
وليس للتخيير فيها
ذكر لفظىّ ، ولكن لما كان فيها معنى التخيير نسبها إلى المعنى.
الثاني ـ أنّ ابن
عبد الحكم قد قال : إنّ معنى خيّرهن قرأ عليهنّ آية التخيير ، وقوله: إنه لا يجوز
أن يخيرهنّ بلفظ التخيير صحيح.
والدليل عليه نصّ
الآية ، فإن التخيير فيها إنما وقع بين الآخرة ، فيكون التمسك ، وبين الدنيا ، فيكون الفراق ، وهو ظاهر من نصّ الآية ، وليس يدل
عليه ما قال من أنّ التخيير ثلاث ، والله أمره بأن يطلّق النساء لعدّتهن ، فإن كون
قبول الخيار ثلاثا إنما هو مذهبه ، ولا يصحّ لأحد أن يستدلّ على حكم بمذهب بقول يخالف فيه ، فإن أبا حنيفة وأحمد يقولان : إنها واحدة في
تفصيل ، وقوله : إن الله قال : (سَراحاً جَمِيلاً) والثلاث مما لا يجمل خطأ ، بل هي مما يجمل ويحسن ، قال
الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، فسمّى الثلاث تسريحا بإحسان.
فإن قيل : إنما
توصف بالإحسان إذا فرّقت ، فأما إذا وقعت جملة فلا.
قلنا : لا فرق
بينهما ، فإنّ الثلاث فرقة انقطاع ، كما أن التخيير عندك فرقة انقطاع. وإنما
المعنى السراح الجميل ، والسراح الحسن فرقة من غير ضرر ، كانت واحدة أو ثلاثا ،
وليس في شيء مما ظنّه هذا العالم.
__________________
المسألة الثالثة
عشرة ـ قال ابن القاسم ، وابن وهب : قال مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعائشة : ابعثي إلى أبويك.
فقالت : يا رسول الله ، لم؟ فقال : إنّ الله أمرنى أن أخيركنّ. فقالت : إنى أختار
الله ورسوله ، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فقالت له عائشة : يا رسول
الله ، إن لي إليك حاجة ، لا تخيّر من نسائك من تحبّ أن تفارقني ، فخيّرهنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم جميعا ، فكلّهنّ اخترنه.
قالت عائشة :
خيّرنا فاخترناه ، فلم يكن طلاقا.
وفي الصحيح عن
عائشة : لما نزلت : (وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية ـ دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ بي ،
فقال : يا عائشة ، إنى ذاكر لك أمرا فلا عليك ألّا تعجلي حتى تستأمرى أبويك. قالت
: وقد علم والله أن أبوىّ لم يكونا يأمر انى بفراقه ، فقرأ علىّ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها
فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ، وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).
فقلت
: أو في هذا أستأمر أبوىّ! فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
هذه رواية معمر ،
عن عروة ، عن الزهري ، عن عائشة. قال معمر : وقال أيوب : قالت عائشة : يا رسول الله ، لا تخبر
أزواجك أنى اخترتك. قال : إن الله لم يبعثني متعنّتا ، إنما بعثني مبلّغا.
وفي رواية : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقرأ على أزواجه الآية ويقول : قد اختارتنى عائشة ، فاخترنه كلّهن.
المسألة الرابعة
عشرة ـ روى أنس بن مالك ، قال : لما خيّرهنّ اخترنه ، فقصره الله عليهنّ ، ونزلت : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ
مِنْ بَعْدُ ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ).
وسيأتى بيان هذه
الآية في موضعها إن شاء الله.
المسألة الخامسة
عشرة ـ قد بينّا كيف وقع التخيير في هذه الآية ، ومسألة التخيير
__________________
طويلة عريضة ، لا
يستوفيها إلا الإطناب بالتطويل مع استيفاء التفصيل ، وذلك لا يمكن في هذه العجالة
، وبيانه في كتب الفقه ، فنشير منه الآن إلى طرفين :
أحدهما ـ إذا خيّر
الرجل امرأته فاختارته.
الثاني ـ إذا
اختارت نفسها.
أما الطرف الأول
إذا اختارت زوجها ، وقد اختلف العلماء فيه ، فذهب ابن عمر ، وابن مسعود ، وعائشة ،
وابن عباس ، وإحدى روايتي زيد ، وعلىّ ، إلى أنه لا يقع شيء.
وذهب إلى أنها
طلقة رجعية علىّ وزيد في الرواية الأخرى ، والحسن ، وربيعة ، وتعلّقوا بأنّ قوله :
«اختاري» كناية في إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن.
ودليلنا قول عائشة
: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه. أفكان ذلك طلاقا! فإن قيل : قد
قلتم : إنّ تخيير عائشة لم يكن بين الزوجية والفراق ، وإنما كان بين البقاء فيمسك
، وبين الفراق فيستأنف إيقاعه ، وإذا كان هذا هكذا عندكم فلا حجّة فيه علينا منكم.
قلنا : كذلك قلنا
، وكذلك كان. وقولكم : لا حجة فيه ـ ليس كذلك ، بل حجّته ظاهرة ، لأنكم قد قلتم :
إنها كناية ، فكان من حقكم أن تقولوا : إنه يقع الطلاق بهذا أيضا.
فإذا قلتم في هذه
الصورة : إنه لا يقع ، كانت الأخرى مثلها ، لأنهما كنايتان ، فلو لزم الطلاق
بإحداهما لزم بالأخرى ، لأنه لا فرق بينهما.
وبهذا احتجّت
عائشة رضى الله عنها ، لسعة علمها ، وعظيم فقهها.
وقولهم : إنها
إيقاع باطل ، وإنما هو تخيير بينه وبين فراقه ، وهما ضدّان ، وليس اختيار أحدهما
اختيارا للثاني بحال.
وأما الطرف الثاني
ـ وهو إذا اختارت الفراق ـ ففيها ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها ثلاث
من غير نيّة ولا بينونة. فإن كان قبل الدخول فله ما نوى. هذا
مذهب مالك ، وبه
قال الليث ، والحسن البصري ، وزيد بن ثابت.
الثاني ـ روى عن
علىّ أنها واحدة بائنة من
غير نية ولا مبتوتة ، وهو مذهب أبى حنيفة.
الثالث ـ قال
الشافعى : لا يقع الطلاق إلا إذا نوياه جميعا ، ولا يقع منه إلا ما اتفقا عليه
جميعا ، فإن اختلفا وقع الأقلّ ، وبطل الأكثر.
ودليلنا أنّ
المقتضى لقوله : «اختاري» ألّا يكون له عليها سبيل ، ولا يملك منها شيئا ، إذ قد
جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها عنه أو تقيم معه ، فإذا أخرجت البعض لم يعمل
بمقتضى اللفظ ، وكان بمنزلة من خيّر بين شيئين فاختار غيرهما.
واحتجّ أبو حنيفة
بأن الزوج علّق الطلاق بخبر من جهتها ، وذلك لا يفتقر إلى نيتها ، كما لو قال : إن
دخلت الدار فأنت طالق ، فإنه إذا وقع الطلاق لم يقع إلا واحدة كخيار المعتقة.
الجواب ـ إنا نقول
: أمّا اعتبار نيتها فلا بد منه ، لأنها موقعة للطلاق بمنزلة الوكيل ، ولا يصحّ أن
يقال : إنه يتعلّق بفعلها ، ألا ترى أنها لو اختارت زوجها لم يكن شيء ، فثبت أنه
توكيل ونيابة ، وأما خيار المعتقة فلا نسلّمه ، بل هو ثلاث.
واحتجّ الشافعىّ
بأنه لم يقترن به لفظ الثلاث ولا نيتها.
الجواب ـ إنا نقول
: قد اقترن به لفظها كما بيناه.
المسألة السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) اعلموا ـ علمكم الله علمه وأفاض عليكم حكمه ـ أنّ
الموجودات على قسمين : قديم ومحدث ، وخالق ومخلوق ، والمخلوق والمحدث على قسمين :
حيوان وجماد. والحيوان على قسمين : مكلّف ، وغير مكلف. والمكلف حالتان : حالة هو
فيها ، وحالة هو منقول إليها ، كما قدمناه. والحالة المنتقل إليها هي الحبيبة إلى
الله الممدوحة منه ، والحالة التي هو فيها هي المبغّضة إلى الله المذمومة عنده ؛
فإن ركن إليها ، وعمل بمقتضاها من الشهوات واللّذات ، وأهمل الحالة التي ينتقل
إليها ، وهي المحمودة ، هلك. وإن كان مقصده في هذه الحالة القريبة تلك الآخرة ،
__________________
وكان لها يعمل ،
وإياها يطلب ، واعتقد نفسه بمنزلة المسافر إلى مقصد ، فهو في طريقه يعبر ، وعلى
مسافته يرتحل ؛ وقلب الأول معمور بذكر الدنيا ، مغمور بحبها ، وقلب الثاني مغمور بذكر الله ، معمور بحبه ، وجوارحه مستعملة بطاعته ، فقيل
لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : إن كنتنّ تردن الله ورسوله ، وتقصدن الدار
الآخرة وثوابه فيها ، فقد أعدّ الله ثوابكنّ وثواب أمثالكن في أصل القصد لا في
مقداره وكيفيته.
وهذا يدلّ على أنّ
العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما ، وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة
الثواب.
قال قوم : لا
يتصوّر أن يحبّ الله لذاته ولا رسوله لذاته ، وإنما المحبوب الثواب منهما ، العائد
عليه ، وقد بينا ذلك في كتب الأصول ، وحققنا أنّ العبد إنما يحبّ نفسه ، وأن الله
ورسوله لغنيّان عن العالمين في ذلك الغرض المسطور فيها.
المسألة السابعة
عشرة ـ قوله : (لِلْمُحْسِناتِ
مِنْكُنَ).
الإحسان في الفعل
يكون بوجهين :
أحدهما ـ الإتيان
به على أكمل الوجوه.
والثاني ـ التّمادى
عليه من غير رجوع ، فكأنه قال : قل لهنّ من جاء بهذا الفعل المطلوب منكن كما أمر
به ، وتمادى عليه إلى حالة الاخترام بالمنية ، فعندنا له أفضل الجلالة والإكرام.
وذلك بيّن في قوله
: (وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ...) إلى آخر المعنى. فهذا هو المطلوب ، وهو الإحسان.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قوله : (أَجْراً عَظِيماً).
المعنى أعطاهنّ
الله بذلك ثوابا متكاثر الكيفيّة والكمية في الدنيا والآخرة ، وذلك بيّن في قوله :
(نُؤْتِها أَجْرَها
مَرَّتَيْنِ) ، وزيادة رزق كريم معدّ لهن.
__________________
أما ثوابهن في
الآخرة فكونهن مع النبىّ صلى الله عليه وسلم في درجته في الجنة ، ولا غاية بعدها ،
ولا مزيّة فوقها ، وفي ذلك من زيادة النعيم والثواب على غيرهن ، فإنّ الثواب
والنعيم على قدر المنزلة.
وأما في الدنيا
فبثلاثة أوجه :
أحدها ـ أنه
جعلهنّ أمهات المؤمنين ، تعظيما لحقهن ، وتأكيدا لحرمتهن ،
وتشريفا لمنزلتهنّ.
الثاني ـ أنه حظر
عليه طلاقهنّ ، ومنعه من الاستبدال بهن ، فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ).
والحكمة أنهن لما
لم يخترن عليه غيره أمر بمكافأتهن في التمسك بنكاحهن.
فأما منع
الاستبدال بهن فاختلف العلماء ، هل بقي ذلك مستداما أم رفعه الله عنه ، على ما
يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
وهذا يدل على أنّ
الله يثيب العبد في الدنيا بوجوه من رحمته وخيراته ، ولا ينقص ذلك من ثوابه في
الآخرة. وقد يثيبه في الدنيا ، وينقصه بذلك في الآخرة ، على ما تقدم بيانه في
موضعه.
الثالث ـ أنّ من
قذفهن حدّ حدّين ، كما قال مسروق.
والصحيح أنه حدّ
واحد كما تقدم بيانه في سورة النور ، من أن عموم قوله : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) يتناول كل محصنة ، ولا يقتضى شرفهن زيادة في الحد لهن ، لأنّ شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود بزيادة ، ولا نقصها
يؤثر في الحدّ بنقص ، والله أعلم.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).
__________________
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
تقدم القول في الفاحشة وتبيانها بما يغنى عن إعادته ، وأنها تنطبق على الزنا ،
وعلى سائر المعاصي.
المسألة الثانية ـ
أخبر الله تعالى أنّ من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة يضاعف لها
العذاب ضعفين ، لشرف منزلتهن ، وفضل درجتهن ، وتقدّمهن على سائر النساء أجمع ،
وكذلك ثبت في الشريعة أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات ، ولذلك ضوعف
حدّ الحرّ على حد العبد ، والثيب على البكر ، لزيادة الفضل والشرف فيهما على
قرينهما ، وذلك مشروح في سورة براءة .
المسألة الثالثة ـ
قد قال مسروق : إنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحددن حدّين. ويا مسروق ، لقد
كنت في غنى عن هذا ، فإن نساء النبي لا يأتين أبدا بفاحشة توجب حدّا ، ولذلك قال
ابن عباس : ما بغت امرأة نبىّ قط ، وإنما خانت في الإيمان والطاعة ، ولو أمسك
الناس عما لا ينبغي ـ بل عما لا يعنى ـ لكثر الصواب ، وظهر الحق.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً).
بيّن الله تعالى
أنه كما يضاعف ، بهتك الحرمات ، العذاب ، كذلك يضاعف بصيانتها الثواب.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً).
فيها مسائل :
المسألة الأولى :
قوله : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِنَ النِّساءِ) ، يعنى في الفضل والشّرف ، فإنهنّ وإن
__________________
كنّ من الآدميات
فلسن كإحداهن ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان من البشر جبلّة ، فليس
منهم فضيلة ومنزلة ، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات ، فإن من يقتدى به ، وترفع منزلته على المنازل جدير بأن
يرتفع فعله على الأفعال ، ويربو حاله على الأحوال.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى (فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ).
أمرهنّ الله تعالى
أن يكون قولهنّ جزلا ، وكلامهن فصلا ، ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما
يظهر عليه من اللين المطمع للسامع ، وأخذ عليهن أن يكون قولهن معروفا ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
قيل : المعروف هو السر ، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام ، وقيل: المراد بالمعروف
ما يعود إلى الشرع بما أمرن فيه بالتبليغ ، أو بالحاجة التي لا بدّ للبشر منها.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَ).
يعنى اسكنّ فيها
ولا تتحركن ، ولا تبرحن منها ، حتى إنه روى ـ ولم يصح ـ أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما انصرف من حجة الوداع قال لأزواجه هذه ، ثم ظهور الحصر ، إشارة إلى ما
يلزم المرأة من لزوم بيتها ، والانكفاف عن الخروج منه ، إلا لضرورة.
ولقد دخلت نيفا
على ألف قرية من برية ، فما رأيت [نساء] أصون عيالا ، ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رمى فيها
الخليل عليه السلام بالنار ، فإنى أقمت فيها أشهرا ، فما رأيت امرأة في طريق ، نهارا ، إلا يوم الجمعة ،
فإنهنّ يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن ، فإذا قضيت الصلاة ، وانقلبن إلى
منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وسائر القرى ترى نساؤها
متبرجات بزينة وعطلة ، متفرقات في كل فتن وعضلة . وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى
استشهدن فيه.
المسألة الخامسة ـ
تعلق الرافضة ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها ، إذ
قالوا : إنها خالفت أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وخرجت
__________________
تقود الجيوش ،
وتباشر الحروب ، وتقتحم مآزق الحرب والضّرب. فيما لم يفرض عليها ، ولا يجوز لها.
ولقد حصر عثمان ،
فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقرّبت ، لتخرج إلى مكة ، فقال لها مروان بن الحكم :
يا أم المؤمنين ، أقيمى هاهنا ، وردّى هؤلاء الرعاع عن عثمان ، فإن الإصلاح بين
الناس خير من حجّك.
وقال علماؤنا رحمة
الله عليهم : إن عائشة كانت نذرت الحجّ قبل الفتنة ، فلم تر التخلّف عن نذرها. ولو
خرجت عن تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها.
وأما خروجها إلى
حرب الجمل فما خرجت لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صاروا إليه من
عظيم الفتنة ، وتهارج الناس ، ورجوا بركتها في الإصلاح ، وطمعوا في الاستحياء منها
إذا وقفت إلى الخلق وظنّت هي ذلك ، فخرجت مقتدية بالله في قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ
مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ
بَيْنَ النَّاسِ). وبقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما).
والأمر بالإصلاح
مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى ، حر أم عبد ، فلم يرد الله بسابق قضائه ،
ونافذ حكمه ، أن يقع إصلاح ، ولكن جرت مطاعنات وجراحات ، حتى كاد يفنى الفريقان ،
فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه ، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبى بكر عائشة ،
فاحتملها إلى البصرة ، وخرجت في ثلاثين امرأة قرنهنّ علىّ بها ، حتى أوصلوها إلى
المدينة برّة تقية مجتهدة ، مصيبة ثابتة فيما تأوّلت ، مأجورة فيما تأولت وفعلت ، إذ كل مجتهد في
الأحكام مصيب.
وقد بينا في كتب
الأصول تصويب الصحابة في الحروب ، وحمل أفعالهم على أجمل تأويل.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).
__________________
وقد تقدم معنى
التبرج .
وقوله : (الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) : روى أنّ عمر سأل ابن عباس ، فقال : أفرأيت قول الله
تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ
تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)؟ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، هل كانت جاهلية غير
واحدة!
فقال له ابن عباس
: يا أمير المؤمنين ، هل سمعت بأولى إلا لها آخرة!
قال : فأتنا بما
يصدق ذلك في كتاب الله تعالى. فقال ابن عباس : إن الله تعالى يقول : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) ، جاهدوا كما جاهدتم أول مرة.
فقال عمر : فمن
أمر بأن نجاهد؟ قال : مخزوم وعبد شمس.
وعن ابن عباس أيضا
أنها تكون جاهلية أخرى. وقد روى أنّ الجاهلية الأولى ما بين عيسى ابن مريم ومحمد
صلى الله عليهما وسلم.
قال القاضي : الذي
عندي أنها جاهلية واحدة ، وهي قبل الإسلام ، وإنما وصفت بالأولى ، لأنها صفتها
التي ليس لها نعت غيرها ، وهذا كقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ) ، وهذه حقيقته ، لأنه ليس يحكم إلا بالحق.
المسألة السابعة ـ
قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
فيها أربعة أقوال
:
الأول ـ الإثم.
الثاني ـ الشرك.
الثالث ـ الشيطان.
الرابع ـ الأفعال
الخبيثة والأخلاق الذميمة ، فالأفعال الخبيثة كالفواحش ما ظهر منها وما بطن ،
والأخلاق الذميمة كالشح ، والبخل ، والحسد ، وقطع الرّحم.
__________________
المسألة الثامنة ـ
قوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ).
روى عن عمر بن أبى
سلمة أنه قال : لما
نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في بيت أم سلمة دعا النبىّ صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا
وحسينا ، وجعل عليا خلف ظهره ، وجللهم بكساء ، ثم قال : اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيرا.
قالت
أم سلمة : وأنا معهم يا نبىّ الله.
قال
: أنت على مكانك وأنت على خير .
وروى أنس
بن مالك أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول :
الصلاة يأهل البيت ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
خرّج هذين
الحديثين الترمذي وغيره.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ
لَطِيفاً خَبِيراً).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ آيات
الله القرآن.
المسألة الثانية ـ
آيات الله الحكمة. وقد بينا الحكمة فيما تقدم ، وآيات الله حكمته ، وسنة رسوله
حكمته ، والحلال والحرام حكمته ، والشرع كله حكمته.
المسألة الثالثة ـ
أمر الله أزواج رسوله بأن يخبرن بما أنزل الله من القرآن في بيوتهن ، وما يرين من
أفعال النبىّ صلى الله عليه وسلم وأقواله فيهن ، حتى يبلغ ذلك إلى الناس ، فيعملوا
بما فيه ، ويقتدوا به.
وهذا يدل على جواز
قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين.
المسألة الرابعة ـ
في هذا مسألة بديعة ، وهي أنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم
__________________
بتبليغ ما أنزل
عليه من القرآن ، وتعليم ما علّمه من الدين ، فكان إذا قرأه على واحد ، أو ما اتفق
، سقط عنه الفرض ، وعلى من سمعه أن يبلّغه إلى غيره ، وليس يلزمه أن يذكره لجميع
الصحابة ، ولا كان عليه إذا علّم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم : نزل
كذا ، وكان كذا.
وقد بينا ذلك في
الأصول ، وشرح الحديث ، ولو كان الرسول لا يعتدّ بما يعلمه من ذلك أزواجه ما أمرن
بالإعلام بذلك ، ولا فرض عليهن تبليغه ، ولذلك قلنا بجواز قبول خبر بسرة في إيجاب الوضوء من مسّ الذّكر ، لأنها روت ما سمعت ،
وبلّغت ما وعت. ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال ، كما قال أبو حنيفة ، حسبما بيناه في
مسائل الخلاف ، وحققناه في أصول الفقه ، على أنه قد نقل عن سعد بن أبى وقاص وابن
عمر ، وهذا كان هاهنا.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
فيه قولان :
أحدهما ـ أنها
نزلت في شأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، وكانت أول امرأة هاجرت من النساء ،
وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال : قد قبلت ، فزوجها من زيد بن حارثة
فسخطته ـ قاله ابن زيد.
الثاني ـ أنها
نزلت في شأن زينب بنت جحش ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ،
فامتنعت ، وامتنع أخوها عبد الله لنسبها في قريش ، وأنها كانت بنت عمة النبي صلى
الله عليه وسلم ، أمّها أميمة بنت عبد المطلب ، وإنّ زيدا كان عبدا بالأمس إلى أن
__________________
نزلت هذه الآية ،
فقال له أخوها : مرني بما شئت ، فزوّجها من زيد.
والذي روى البخاري
وغيره ، عن أنس ـ أن هذه الآية نزلت في شأن زينب بنت جحش ، مطلقا من غير تفسير ،
زاد بعضهم أنه ساق إليها عشرة دنانير وستين درهما ، وملحفة ، ودرعا ، وخمسين مدّا
من طعام ، وعشرة أمداد من تمر.
المسألة الثانية ـ
في هذا نص على أنه لا تعتبر الكفاءة في الأحساب ، وإنما تعتبر في الأديان ، خلافا
لمالك والشافعى والمغيرة وسحنون ، وسيأتى ذلك في سورة التحريم ، وذلك أن الموالي
تزوجت في قريش ، وتزوج زيد بزينب ، وتزوّج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير ،
وزوج أبو حنيفة سالما من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من
الأنصار.
وفي الصحيح وغيره
، عن أبى هريرة ـ واللفظ للبخاري ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم :
تنكح المرأة لأربع
، لمالها ، ولدينها ، ولحسبها ، وجمالها ، فعليك بذات الدّين تربت يداك .
وفيه قال سهل : مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : ما تقولون في هذا؟ فقالوا : هذا حرى إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع
، وإن قال أن يسمع. قال : ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المساكين ، فقال : ما تقولون
في هذا؟ قالوا : حرى إن خطب ألا ينكح ، وإن قال لا يسمع ، وإن شفع لا يشفع. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً).
__________________
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى المفسرون أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم دخل منزل
زيد بن حارثة ، فأبصر امرأته قائمة ، فأعجبته ، فقال : سبحان مقلّب القلوب! فلما سمعت زينب ذلك
جلست ، وجاء زيد إلى منزله ، فذكرت ذلك له زينب ، فعلم أنها وقعت في نفسه ، فأتى
زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في طلاقها ،
فإنّ بها غيرة وإذاية بلسانها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك أهلك
، وفي قلبه غير ذلك ، فطلّقها زيد.
فلما
انقضت عدّتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : أذكرنى لها ، فانطلق زيد
إلى زينب ، فقال لها : أبشرى ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت :
ما أنا بصانعة شيئا ، حتى أستأمر ربّى ، وقامت إلى مصلّاها ، فنزلت الآية.
المسألة الثانية ـ
قوله : (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِ) ، أى بالإسلام. (وَأَنْعَمْتَ
عَلَيْهِ) ، أى بالعتق ، هو زيد بن حارثة المتقدم ذكره.
وقيل : أنعم الله
عليه بأن ساقه إليك ، وأنعمت عليه بأن تبنّيته ، وكلّ ما كان من الله إليه أو من
محمد إليه فهو نعمة عليه.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) ، يعنى من نكاحك لها ، فقد كان الله أعلمه بأنها تكون من
أزواجه.
وقيل : تخفى في
نفسك ما الله مبديه من ميلك إليها وحبّك لها.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ).
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ تستحي
منهم ، والله أحقّ أن تخشاه ، وتستحي منه. والخشية بمعنى الاستحياء كثيرة في
اللغة.
__________________
الثاني ـ تخشى
الناس أن يعاتبوك ، وعتاب الله أحقّ أن تخشاه.
الثالث ـ وتخشى
الناس أن يتكلّموا فيك.
وقيل : أن يفتتنوا
من أجلك ، وينسبوك إلى ما لا ينبغي. والله أحقّ أن تخشاه ، فإنه مالك القلوب ،
وبيده النواصي والألسنة.
المسألة الخامسة ـ
في تنقيح الأقوال وتصحيح الحال :
قد بينّا في
السالف من كتابنا هذا وفي غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ،
وحقّقنا القول فيما نسب إليهم من ذلك ، وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردّا أنّ
أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيّا إلّا بما ذكره الله ، لا يزيد عليه ، فإن أخبارهم
مرويّة ، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولّاها أحد رجلين : إما غبىّ عن مقدارهم ،
وإما بدعىّ لا رأى له في برّهم ووقارهم ، فيدسّ تحت المقال المطلق الدواهي ، ولا
يراعى الأدلة ولا النواهي ، وكذلك قال الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، أى أصدقه على أحد التأويلات ، وهي كثيرة بيناها في أمالى
أنوار الفجر ، فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قطّ ربّه ، لا في حال الجاهلية
ولا بعدها ، تكرمة من الله وتفضّلا وجلالا ، أجلّه به المجل الجليل الرفيع ، ليصلح
أن يقعد معه على كرسيه للفصل بين الخلق في القضاء يوم الحق.
وما زالت الأسباب
الكريمة ، والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه ، والطرائف النجيبة تشتمل على
جملة ضرائبه ، والقرناء الأفراد يحيون له ، والأصحاب الأمجاد ينتقون له من كل طاهر
الجيب ، سالم عن العيب ، برىء من الرّيب ، يأخذونه عن العزلة ، وينقلونه عن الوحدة
، فلا ينتقل إلّا من كرامة إلى كرامة ، ولا يتنزل إلا منازل السلامة ، حتى فجيء
بالحيىّ نقابا ، أكرم الخلق سليقة وأصحابا ، وكانت عصمته من الله فضلا لا استحقاقا
، إذ لا يستحق عليه شيئا رحمة لا مصلحة ، كما تقوله القدرية للخلق ، بل مجرد كرامة
له ، ورحمة به ، وتفضّل عليه ، واصطفاء له ، فلم يقع قط لا في ذنب صغير ـ حاشا لله
ـ ولا كبير ، ولا وقع في أمر يتعلّق به لأجله نقص ، ولا تعيير. وقد مهدنا ذلك في
كتب الأصول.
__________________
وهذه الروايات
كلها ساقطة الأسانيد ، إنما الصحيح منها ما روى عن عائشة أنها قالت : لو كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم كاتما من الوحى شيئا لكتم هذه الآية : وإذ تقول للذي أنعم
الله عليه ـ يعنى بالإسلام ، وأنعمت عليه ـ يعنى بالعتق ، فأعتقته : أمسك عليك
زوجك ، واتّق الله ، وتخفى في نفسك ما الله مبديه ، وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه
... إلى قوله : وكان أمر الله مفعولا. وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا
تزوّجها قالوا : تزوّج حليلة ابنه ، فأنزل الله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنّاه وهو صغير ،
فلبث حتى صار رجلا ، يقال له زيد بن محمد ، فأنزل الله تعالى : (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ).
فلان مولى فلان ،
وفلان أخو فلان ، هو أقسط عند الله ، يعنى أنه أعدل عند الله.
قال القاضي : وما
وراء هذه الرواية غير معتبر ، فأما قولهم : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رآها
فوقعت في قلبه فباطل ؛ فإنه كان معها في كلّ وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ،
فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها
زوج ، وقد وهبته نفسها ، وكرهت غيره ، فلم تخطر بباله ، فكيف يتجدّد له هوى لم يكن
، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة.
وقد قال الله له : (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في
المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات.
وإنما كان الحديث أنها لما استقرّت عند زيد جاءه جبريل :
إنّ زينب زوجك ، ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرّأ منها ، فقال له : اتّق الله ،
وأمسك عليك زوجك ، فأبى زيد إلا الفراق ، وطلّقها وانقضت عدّتها ، وخطبها رسول الله صلى الله
عليه وسلم على يدي مولاه زوجها ، وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما ، هذه
الآيات التي تلوناها وفسرناها ، فقال :
__________________
واذكر يا محمد إذ
تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك ، واتّق الله في فراقها ،
وتخفى في نفسك ما الله مبديه ، يعنى من نكاحك لها ، وهو الذي أبداه لا سواه.
وقد علم النبىّ
صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى إذ أوحى إليه أنها زوجته لا بدّ من وجود هذا
الخبر وظهوره ؛ لأن الذي يخبر الله عنه أنه كائن لا بدّ أن يكون لوجوب صدقه في
خبره ، هذا يدلّك على براءته من كل ما ذكره متسور من المفسرين ، مقصور على علوم
الدين.
فإن قيل : فلأىّ
معنى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : : أمسك عليك زوجك ، وقد أخبره الله أنها
زوجته لا زوج زيد؟
قلنا : هذا لا
يلزم ؛ ولكن لطيب نفوسكم نفسر ما خطر من الإشكال فيه : إنه أراد أن يختبر منه ما
لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها ، فأبدى له زيد من النّفرة عنها
والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها.
فإن قيل : فكيف
يأمره بالتمسّك بها ، وقد علم أنّ الفراق لا بدّ منه ، وهذا تناقض؟
قلنا : بل هو صحيح
للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة ، ومعرفة العاقبة ؛ ألا ترى أنّ الله يأمر العبد
بالإيمان ، وقد علم أنه لا يؤمن ، فليس في مخالفة متعلّق الأمر لمتعلّق العلم ما
يمنع من الأمر به عقلا وحكما ، وهذا من نفيس العلم ، فتيقّنوه وتقبلوه.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ الوطر
: الأرب ، وهو الحاجة ، وذلك عبارة عن قضاء الشهوة. ومنه الحديث : أيكم يملك أربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يملك أربه ـ على أحد الضبطين ، يعنى شهوته.
المسألة الثانية ـ
قوله : (زَوَّجْناكَها) ، فذكر عقده عليها بلفظ التزويج ، وهذا اللفظ
__________________
يدل عند جماعة على
أنه القول المخصوص به الذي لا يجوز غيره فيه ، وعندنا يدلّ ذلك على أنه لا فضل فيه
، وقد بينا ذلك في سورة القصص.
المسألة الثالثة ـ
روى يحيى بن سلام وغيره
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا زيدا فقال : ائت زينب فاذكرني لها ، كما تقدم.
وقال يحيى :
فأخبرها أنّ الله قد زوّجنيها ، فاستفتح زيد الباب ، فقالت : من؟ قال: زيد. قالت :
ما حاجتك؟ قال : أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : مرحبا برسول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ففتحت له ، فدخل عليها وهي تبكى ، فقال زيد: لا أبكى الله لك
عينا. قد كنت نعمت المرأة تبرّين قسمي ، وتطيعين أمرى ، وتبغين مسرتي ، وقد أبدلك
الله خيرا منى. قالت : من؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرّت ساجدة.
وفي رواية ـ كما تقدم
: قالت : حتى أوامر ربي ، وقامت إلى مصلّاها ، ونزل القرآن ، فدخل عليها النبىّ
صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، فكانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،
فتقول : أما أنتن فزوجكن آباؤكن ، وأما أنا فزوّجنى الله من فوق سبع سموات.
وفي رواية : إن
زيدا لما جاءها برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدها تخمّر عجينها ، قال :
فما استطعت أن أنظر إليها من عظمها في صدري ، فولّيت لها ظهري ، ونكصت على عقبى ،
وقلت : يا زينب ، أبشرى ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك ... الحديث.
وقال الشعبي :
قالت زينب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنى أدل عليك بثلاث ، ما من أزواجك
امرأة تدلّ بهن عليك : جدي وجدّك واحد ، وإنى أنكحنيك الله من السموات ، وإنّ
السفير جبريل.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَراً).
يعنى دخلوا بهنّ ،
وإنما الحرج في أزواج الأبناء من الأصلاب ، أو ما يكون في حكم الأبناء من الأصلاب
بالبعضية ، وهو في الرضاع كما تقدم تحريره.
__________________
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى
اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).
إن الله سبحانه
وتعالى خطط النبي صلى الله عليه وسلم بخططه ، وعدّد له أسماءه ، والشيء إذا عظم
قدره عظمت أسماؤه ، قال بعض الصوفية : لله تعالى ألف اسم ، وللنبي ألف اسم.
فأما أسماء الله
فهذا العدد حقير فيها ، (قُلْ) (لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).
وأما أسماء النبي
صلى الله عليه وسلم فلم أحصها ، إلا من جهة الورود الظاهر لصيغة الأسماء البينة ،
فوعيت منها جملة ، الحاضر الآن منها سبعة وستون اسما :
أولها الرسول ،
المرسل ، النبىّ ، الأمىّ ، الشهيد ، المصدق ، النور ، المسلم ، البشير ، المبشر ،
النذير ، المنذر ، المبين ، [الأمين] ، العبد ، الداعي ، السراج ، المنير ، الإمام ، الذكر ،
المذكّر ، الهادي ، المهاجر ، العامل ، المبارك ، الرحمة ، الآمر ، الناهي ، الطيب
، الكريم ، المحلّل ، المحرّم ، الواضع ، الرافع ، المخبر ، خاتم النبيين ، ثانى
اثنين ، منصور ، أذن خير ، مصطفى ، أمين ، مأمون ، قاسم ، نقيب ، مزّمّل ، مدّثّر
، العلىّ ، الحكيم ، المؤمن ، [المصدق] ، الرءوف ، الرحيم ، الصاحب ، الشفيع ، المشفع ، المتوكل ،
محمد ، أحمد ، الماحي ، الحاشر ، المقفى ، العاقب ، نبي التوبة ، نبي الرحمة ، نبي
الملحمة ، عبد الله ، نبي الحرمين ، فيما ذكر أهل ما وراء النهر.
وله وراء هذه فيما
يليق به من الأسماء ما لا يصيبه إلّا صميان .
فأما الرسول فهو
الذي تتابع خبره عن الله ، وهو المرسل ـ بفتح السين ، ولا يقتضى التتابع.
وهو المرسل ـ بكسر
السين ، لأنه لا يعم بالتبليغ مشافهة ، فلم يك بدّ من الرسل
__________________
ينوبون عنه ،
ويتلقّون منه ، كما بلّغ عن ربه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : تسمعون ، ويسمع منكم ، ويسمع ممن يسمع
منكم.
وأما النبىء صلى
الله عليه وسلم فهو مهموز من النبأ ، وهو الخبر. وغير مهموز من النبوة ، وهو
المرتفع من الأرض ، فهو صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله سبحانه وتعالى ، رفيع
القدر عنده ، فاجتمع له الوصفان ، وتم له الشرفان.
وأما الأمىّ ففيه
أقوال ، أصحها أنه الذي لا يقرأ ولا يكتب ، كما خرج من بطن أمه ، لقوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ، ثم علمهم ما شاء.
وأما الشهيد فهو
لشهادته على الخلق في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
وقد يكون بمعنى
أنه تشهد له المعجزة بالصدق ، والخلق بظهور الحق.
وأما المصدق فهو
بما صدق بجميع الأنبياء قبله ، قال الله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ).
وأما النور ،
فإنما هو نور بما كان فيه الخلق من ظلمات الكفر والجهل ، فنوّر الله الأفئدة
بالإيمان والعلم.
وأما المسلم فهو
خيرهم وأوّلهم ، كما قال : (وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ). وتقدم في ذلك بشرف انقياده بكل وجه ، وبكل حال إلى الله ،
وبسلامة عن الجهل والمعاصي.
وأما البشير فإنه
أخبر الخلق بثوابهم إن أطاعوا ، وبعقابهم إن عصوا ، قال الله تعالى: (يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ). وقال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وكذلك المبشر.
وأما النذير
والمنذر ، فهو المخبر عما يخاف ويحذر ، ويكف عما يؤول إليه ويعمل بما يدفع فيه.
__________________
وأما المبين ففيما
أبان عن ربّه من الوحى والدين ، وأظهر من الآيات والمعجزات.
وأما الأمين فبأنه
حفظ ما أوحى إليه وما وظف إليه ، ومن أجابه إلى أداء ما دعاه.
وأما العبد فإنه
ذلّ لله خلقا وعبادة ، فرفعه الله عزّا وقدرا على جميع الخلق ، فقال : أنا سيد ولد
آدم ولا فخر.
وأما الداعي
فبدعائه الخلق ليرجعوا من الضلال إلى الحق.
وأما السراج
فبمعنى النور ، إذ أبصر به الخلق الرّشد.
وأما المنير فهو
مفعل من النور.
وأما الإمام
فلاقتداء الخلق به ورجوعهم إلى قوله وفعله.
وأما الذكر فإنه
شريف في نفسه ، مشرّف غيره ، مخبر عن ربه ، واجتمعت له وجوه الذكر الثلاثة.
وأما المذكّر فهو
الذي يخلق الله على يديه الذّكر ، وهو العلم الثاني في الحقيقة ، وينطلق على الأول
أيضا ، ولقد اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الربّ ، ثم ذهلوا ، فذكّرهم الله
بأنبيائه ، وختم الذكر بأفضل أصفيائه ، وقال : (فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).
ثم مكنه من
السيطرة ، وآتاه السلطنة ، ومكّن له دينه في الأرض.
وأما الهادي فإنه
بيّن الله تعالى على لسانه النجدين.
وأما المهاجر فهذه
الصفة له حقيقة ، لأنه هجر ما نهى الله عنه ، وهجر أهله ووطنه ، وهجر الخلق ، أنسا
بالله وطاعته ، فخلا عنهم ، واعتزلهم ، واعتزل منهم.
وأما العامل فلأنه
قام بطاعة ربّه ، ووافق فعله واعتقاده.
وأما المبارك فبما
جعل الله في حاله من نماء الثواب ، وفي حال أصحابه من فضائل الأعمال ، وفي أمته من
زيادة العدد على جميع الأمم.
وأما الرحمة فقد
قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ، فرحمهم به
__________________
في الدنيا من
العذاب ، وفي الآخرة بتعجيل الحساب ، وتضعيف الثواب ، قال الله تعالى: (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ).
وأما الآمر
والناهي فذلك الوصف في الحقيقة لله تعالى ، ولكنه لما كان الواسطة أضيف إليه ، إذ
هو الذي يشاهد آمرا ناهيا ، ويعلم بالدليل أنّ ذلك واسطة ، ونقل عن الذي له ذلك
الوصف حقيقة.
وأما الطيب فلا
أطيب منه ، لأنه سلم عن خبث القلب حين رميت منه العلقة السوداء. وسلم عن خبث القول ، فهو
الصادق المصدق. وسلم عن خبث الفعل ، فهو كلّه طاعة.
وأما الكريم فقد
بينا معنى الكرم ، وهو له على التمام والكمال.
وأما المحلّل
والمحرّم فذلك بمعنى مبيّن الحلال والحرام ، وذلك بالحقيقة هو الله تعالى ، كما
تقدّم ، والنبىّ متولّى ذلك بالوساطة والرسالة.
وأما الواضع والرافع
فهو الذي وضع الأشياء ، مواضعها ، ببيانه ، ورفع قوما ، ووضع آخرين ، ولذلك قال
الشاعر ـ يوم حنين حين فضل عليه بالعطاء غيره :
أتجعل نهبي ونهب العبي
|
|
د بين عيينة
والأقرع
|
وما كان بدر ولا
حابس
|
|
يفوقان مرداس في
مجمع
|
وما كنت دون
امرئ منهما
|
|
ومن تضع اليوم
لا يرفع
|
فألحقه النبي صلى
الله عليه وسلم في العطاء بمن فضل عنه.
وأما المخبر فهو
النبىء ـ مهموزا.
وأما خاتم النبيين
فهو آخرهم ، وهي عبارة مليحة شريفة تشريفا في الإخبار بالمجاز عن الآخرية ، إذا
الختم آخر الكتاب ، وذلك بما فضل به ، فشريعته باقية ، وفضيلته دائمة إلى يوم
الدين.
__________________
وأما قوله : ثانى
اثنين فاقترانه في الخبر بالله.
وأما منصور فهو
المعان من قبل الله بالعزّة والظّهور على الأعداء ، وهذا عامّ في الرسل ، وله أكثر
، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ،
وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). وقال له : اغزهم نمدّك ، وقاتلهم نعدّك ، وابعث جيشا نبعث
عشرة أمثاله.
وأما أذن خير ،
فهو بما أعطاه الله من فضيلة الإدراك لقيل الأصوات لا يعي من ذلك إلا خيرا ، ولا يسمع إلا أحسنه.
وأما المصطفى فهو
المخبر عنه بأنه صفوة الخلق ، كما رواه عنه واثلة بن الأسقع أنه قال : إن الله
اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى
كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفاني من بنى هاشم.
وأما الأمين فهو الذي تلقى إليه مقاليد المعاني ثقة بقيامه عليها وحفظا
منه.
وأما المأمون فهو
الذي لا يخاف من جهته شر.
وأما قاسم فبما ميّزه
به من حقوق الخلق في الزكوات والأخماس وسائر الأموال ، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : الله
يعطى ، وإنما أنا قاسم.
وأما نقيب فإنه
فخر بالأنصار على سائر الأصحاب من الصحابة ، بأن قال لها : أنا نقيبكم ، إذ كلّ
طائفة لها نقيب يتولّى أمورها ، ويحفظ أخبارها ، ويجمع نشرها ، والتزم صلى الله
عليه وسلم ذلك لأنصار ، تشريفا لهم.
وأما كونه مرسلا فببعثه الرسل بالشرائع إلى الناس في الآفاق ممن نأى عنه.
وأما العلىّ فبما
رفع الله من مكانه وشرّف من شأنه ، وأوضح على الدعاوى من برهانه.
وأما الحكيم فإنه
عمل بما علم ، وأدّى عن ربه قانون المعرفة والعمل.
وأما المؤمن فهو
المصدّق لربه ، العامل اعتقادا وفعلا بما أوجب الأمن له.
__________________
وأما المصدق فقد
تقدّم بيانه ، فإنه صدق ربه بقوله تعالى ، وصدق قوله بفعله ، فتمّ له
الوصف على ما ينبغي من ذلك.
وأما الرءوف
الرحيم فبما أعطاه الله من الشفقة على الناس. قال صلى الله عليه وسلم : لكل نبىّ دعوة مستجابة ، وإنى اختبأت
دعوتي شفاعة لأمتى يوم القيامة.
وقال كما قال من قبله : اللهم اغفر لقومي
فإنهم لا يعلمون.
وأما الصاحب فبما
كان مع من اتّبعه من حسن المعاملة وعظيم الوفاء ، والمروءة والبرّ والكرامة.
وأما الشفيع
المشفّع فإنه يرغب إلى الله في أمر الخلق بتعجيل الحساب ، وإسقاط العذاب وتخفيفه ،
فيقبل ذلك منه ، ويخصّ به دون الخلق ، ويكرم بسببه غاية الكرامة.
وأما المتوكل فهو
الملقى مقاليد الأمور إلى الله علما ، كما قال : لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما
أثنيت على نفسك ، وعملا ، كما قال : إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدوّ
ملكته أمرى؟
وأما المقفى في التفسير فكالعابد.
ونبىّ التوبة لأنه
تاب الله على أمته بالقول والاعتقاد ، دون تكليف قتل أو إصر.
ونبي الرحمة تقدم
في اسم الرحيم.
ونبي الملحمة لأنه
المبعوث بحرب الأعداء والنصر عليهم ، حتى يعودوا جزرا على إضم ولحما على وضم.
الآية الرابعة عشرة
ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية نصّ في أنه لا عدّة على مطلّقة قبل الدخول ، وهو إجماع الأمّة
__________________
لهذه الآية ، وإذا
دخل بها فعليها العدّة إجماعا ، لقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ولقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ ...) إلى قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ، وهي الرجعة على ما يأتى بيانه في آيته إن شاء الله
تعالى.
المسألة الثانية ـ
الدخول بالمرأة وعدم الدخول بها إنما يعرف مشاهدة بإغلاق الأبواب على خلوة ، أو
بإقرار الزّوجين ، فإن لم يكن دخول وقالت الزوجة : وطأني ، وأنكر الزوج حلف
ولزمتها العدة ، وسقط عنه نصف المهر.
وإن قال الزوج :
وطئتها وجب عليه المهر كلّه ، ولم تكن عليها عدّة. وإن كان دخول فقالت المرأة : لم
يطأنى لم تصدق في العدة ، ولا حقّ لها في المهر.
وقد تقدم القول في
الخلوة ، هل تقرر المهر؟ في سورة البقرة .
فإن قال : وطئتها
، وأنكرت وجبت عليها العدّة ، وأخذ منه الصداق ، ووقف حتى يفيء أو يطول المدى ،
فيردّ إلى صاحبه أو يتصدق به على القولين ، وذلك مستوفى في فروع الفقه بخلافه
وأدلته.
المسألة الثالثة ـ
(وَمَتِّعُوهُنَ) تقدّم في سورة البقرة ذلك باختلافه وأدلته ، وفي مسائل الفقه
بفروعه.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ
عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا
يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
فيها ثمان وعشرون
مسألة :
__________________
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى الترمذي وغيره أن أمّ هانئ بنت أبى طالب قالت : خطبنى رسول الله
صلى الله عليه وسلم واعتذرت إليه ، فعذرنى ، ثم أنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ...) الآية
] قالت : فلم اکن احل له ؛ لأني لم أهاجر ، كنت
من الطلقاء [.
قال أبو عيسى :
هذا حديث لا يعرف إلا من حديث السدى.
قال القاضي : وهو
ضعيف جدا ، ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتجّ في مواضعه بها.
المسألة الثانية ـ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُ) ، قد تقدم تفسيره في هذا الكتاب.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (أَحْلَلْنا لَكَ).
وقد تقدم القول في
تفسير الإحلال والتحريم في سورة النساء وغيرها.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (أَزْواجَكَ).
والنكاح والزوجية
معروفة.
وقد اختلف في معنى
الزوجية في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، هل هنّ كالسرائر عندنا ، أو حكمهنّ حكم
الأزواج المطلقة؟
قال إمام الحرمين
: في ذلك اختلاف. وسنبينه في قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَ). والصحيح أنّ لهن حكم الأزواج في حق غيره ، فإذا ثبت هذا
فهل المراد بذلك كل زوجة أم من تحته منهن؟ وهي :
المسألة الخامسة ـ
في ذلك قولان :
قيل : إن المعنى
أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهنّ ، أى كلّ زوجة آتيتها مهرها ، وعلى هذا تكون
الآية عموما للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته.
__________________
الثاني ـ وهو قول
الجمهور ـ أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك ، وهو الظاهر ، لأن قوله : (آتَيْتَ) خبر عن أمر ماض ، فهو محمول عليه بظاهره ، ولا يكون الفعل
الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط ليست هاهنا ، يطول الكتاب بذكرها ، وليست مما
نحن فيه.
وقد عقد رسول الله
صلى الله عليه وسلم على عدّة من النساء نكاحه ، فذكرنا عدتهنّ في مواضع منها هاهنا وفي غيره ، وهنّ خديجة بنت
خويلد ، وعائشة بنت أبى بكر ، وسودة بنت زمعة ، وحفصة بنت عمر ، وأم سلمة بنت أبى
أمية بن المغيرة ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، فهؤلاء ستّ قرشيات. وزينب بنت خزيمة
العامرية ، وزينب بنت جحش الأسدية أسد خزيمة ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ،
وصفية بنت حيىّ بن أخطب الهارونية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، ومات عن تسع ، وسائرهنّ
في شرح البخاري مذكورات.
المسألة السادسة ـ
أحلّ الله بهذه الآية الأزواج اللاتي كنّ معه قبل نزول هذه الآية ، فأما إحلال
غيرهنّ فلا ، لقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، وهذا لا يصح ، فإن الآية نصّ في إحلال غيرهن من بنات
العم والعمات والخال والخالات ، وقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) يأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
المسألة السابعة ـ
قوله : (اللَّاتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَ) ، يعنى اللواتي تزوّجت بصداق ، وكان أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم على ثلاثة أقسام ، منهنّ من ذكر لها صداقا ، ومنهن من كان ذكر لها
الصداق بعد النكاح ، كزينب بنت جحش في الصحيح من الأقوال ، فإن الله تعالى أنزل
نكاحها من السماء ، وكان فرض الصداق بعد ذلك لها ، ومنهن من وهبت نفسها وحلّت له ،
ويأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) ، يعنى السراري ، وذلك أنّ الله تعالى أحلّ السراري لنبيه
صلى الله عليه وسلم ولأمّته بغير عدد ، وأحلّ الأزواج لنبيه مطلقا ، وأخلهنّ للخلق
بعدد ، وكان ذلك من خصائصه في شريعة الإسلام.
وقد روى عمن كان
قبله في أحاديثهم أنّ داود عليه السلام كانت له مائة امرأة ، كما تقدم.
__________________
وكان لسليمان عليه
السلام ثلاثمائة حرة وسبعمائة سريّة ، والحقّ ما ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله
عليه وسلم قال : إن
سليمان قال : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تلد غلاما يقاتل في سبيل
الله ـ ونسى أن يقول إن شاء الله ـ فلم تلد منهنّ إلا امرأة واحدة. المسألة التاسعة ـ قوله : (مِمَّا أَفاءَ اللهُ
عَلَيْكَ).
والمراد به الفيء
المأخوذ على وجه القهر والغلبة الشرعية ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل
من عمله ، ويطأ من ملك يمينه ، بأشرف وجوه الكسب ، وأعلى أنواع الملك ، وهو القهر
والغلبة ، لا من الصّفق بالأسواق.
وقد قال عليه
السلام : جعل رزقي تحت ظلّ رمحي.
المسألة العاشرة ـ
قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ ،
وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ ، وَبَناتِ خالاتِكَ).
المعنى أحللنا لك
ذلك زائدا إلى ما عندك من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن ، قاله أبىّ ابن كعب.
فأما من عداهنّ من
الصنفين من المسلمات فلا ذكر لإحلالهنّ هاهنا ، بل هذا القول بظاهره يقتضى أنه لا
يحلّ له غير هذا ، وبهذا يتبيّن أنّ معناه أحللنا لك أزواجك اللاتي عندك ، لأنه لو
أراد أحللنا لك كلّ امرأة تزوجت وآتيت أجرها لما قال بعد ذلك : وبنات عمك وبنات
عماتك ، لأن ذلك داخل فيما يتقدم.
فإن قيل : إنما
كرّره لأجل شرط الهجرة ، فإنه قال : اللاتي هاجرن معك.
قلنا : وكذلك أيضا
لا يصحّ هذا مع هذا القول ، لأنّ شرط الهجرة لو كان كما قتلتم لكان شرطا في كل
امرأة تزوّجها ، فأما أن يجعل شرطا في القرابة المذكورة فلا يتزوّج منهن إلّا من
هاجر ولا يكون شرطا في سائر النساء ، فيتزوّج منهن من هاجر ومن لم يهاجر ، فهذا كلام
ركيك من قائله بيّن خطؤه لمتأمّله ، حسبما قدّمنا ذكره ، من أنّ الهجرة لو كانت
شرطا في كل زوجة لما كان لذكر القرابة فائدة بحال.
__________________
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ
مَعَكَ).
وفيه قولان :
أحدهما ـ أنّ
معناه لا يحلّ لك أن تنكح من بنات عمك وبنات عماتك إلّا من أسلم ، لقوله صلى الله
عليه وسلم : المسلم
من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
الثاني ـ أنّ
المعنى لا يحلّ لك منهنّ إلّا من هاجر إلى المدينة ، لأن من لم يهاجر ليس من
أوليائك ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا).
ومن لم يهاجر لم
يكمل ، ومن لم يكمل لم يصلح لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم.
وهذا يدلّ على أنّ
الآية مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليست بعامّة له ولأمته ، كما قال
بعضهم ، لأنّ هذه الشروط تختصّ به.
ولهذا المعنى نزلت
الآية في أم هانئ بأنها لم تكن هاجرت ، فمنع منها لنقصها بالهجرة ، والمراد بقوله
: (هاجَرْنَ) خرجن إلى المدينة ، وهذا أصحّ من الأول ، لأنّ الهجرة عند
الإطلاق هي الخروج من بلد الكفر إلى دار الإيمان ، والأسماء إنما تحمل على عرفها ،
والهجرة في الشريعة أشهر من أن تحتاج إلى بيان ، أو تختصّ بدليل ، وإنما يلزم ذلك لمن ادّعى غيرها.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله : (مَعَكَ) ، والمعيّة هاهنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها ،
فمن هاجر حلّ له ، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن ، يقال : دخل فلان معى ، أى في
صحبتي ، فكنّا معا ، وتقول : دخل فلان معى وخرج معى ، أى كان عمله كعملى ، وإن لم
يقترن فيه عملكما. ولو قلت : خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا : المشاركة في
الفعل ، والاقتران فيه ، فصار قولك : «معى» للمشاركة ، وقولك : «معا» للمشاركة
والاقتران.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ) ، فذكره مفردا. وقال : (وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) ، فذكرهنّ جميعا. وكذلك قال : وبنات خالك فردا وبنات
خالاتك جمعا.
__________________
والحكمة في ذلك
أنّ العمّ والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز ، وليس كذلك في العمة والخالة. وهذا عرف لغوىّ ، فجاء
الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال ، وهذا دقيق فتأملوه.
المسألة الرابعة
عشرة ـ في فائدة الآية ولأجل ما سيقت له ، وفي ذلك أربع روايات :
الأولى ـ نسخ الحكم الذي كان الله قد ألزمه بقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، فأعلمه الله أنه قد أحلّ له أزواجه اللواتي عنده ،
وغيرهن ممّن سماه معهنّ في هذه الآية.
الثانية ـ أنّ
الله تعالى أعلمه أنّ الإباحة ليست مطلقة في جملة النساء ، وإنما هي في المعيّنات
المذكورات من بنات العمّ والعمّات ، وبنات الخال والخالات المسلمات ، والمهاجرات
والمؤمنات.
الثالثة ـ أنه
إنما أباح له نكاح المسلمة ، فأما الكافرة فلا سبيل له إليها على ما يأتى بعد ذلك
إن شاء الله تعالى.
الرابعة ـ أنه لم
يبح له نكاح الإماء أيضا صيانة له ، وتكرمة لقدره ، على ما يأتى بيانه إن شاء الله
تعالى.
ومعنى هذا الكلام
قد روى عن ابن عباس.
المسألة الخامسة
عشرة ـ قوله : (وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) :
وقد بينا سبب نزول
هذه الآية في سورة القصص وغيرها : أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فوقفت عليه ، وقالت : يا رسول الله ، إنى وهبت لك نفسي ... الحديث إلى آخره.
وورد في ذلك
للمفسرين خمسة أقوال :
الأول ـ نزلت في
ميمونة بنت الحارث ، خطبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر ابن أبى طالب ،
فجعلت أمرها إلى العباس عمه.
وقيل : وهبت نفسها
له ، قاله الزهري ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، وقتادة.
__________________
الثاني ـ أنها
نزلت في أم شريك الأزديّة ، وقيل العامريّة ، واسمها غزية ، قاله على ابن الحسين ، وعروة ، والشعبي.
الثالث ـ أنها
زينب بنت خزيمة أم المساكين.
الرابع ـ أنها أم
كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط.
الخامس ـ أنها
خولة بنت حكيم السلمية.
قال القاضي ابن
العربي : أما سبب نزول هذه الآية فلم يرد من طريق صحيح ، وإنما هذه الأقوال واردة
بطرق من غير خطم ولا أزمّة ، بيد أنه روى عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا :
لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة.
وقد بينا الحديث
الصحيح في مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقوفها عليه ، وهبتها نفسها
له من طريق سهل وغيره في الصحاح ، وهو القدر الذي ثبت سنده ، وصحّ نقله.
والذي يتحقق أنها
لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : وهبت نفسي لك ، فسكت عنها ، حتى قام رجل فقال
: زوّجنيها يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة.
ولو كانت هذه
الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يقرّ على الباطل
إذا سمعه ، حسبما قررناه في كتب الأصول.
ويحتمل أن يكون
سكوته لأنّ الآية قد كانت نزلت بالإحلال.
ويحتمل أن يكون
سكت منتظرا بيانا ، فنزلت الآية بالتحليل والتخيير ، فاختار تركها وزوّجها من
غيره.
ويحتمل أن يكون
سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا.
وقد روى مسلم ، عن
عائشة أنها قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم
، وقالت : أما تستحي امرأة أن تهب نفسها ، حتى أنزل الله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ
وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) فقلت : ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك.
__________________
فاقتضى هذا اللفظ
أن من وهبت نفسها للنبي عدّة ، ولكنه لم يثبت عندنا أنه تزوّج منهنّ واحدة أم لا.
المسألة السادسة
عشرة ـ قوله : (وَامْرَأَةً).
المعنى أحللنا لك
امرأة تهب نفسها من غير صداق ، فإنه أحلّ له في الآية قبلها أزواجه اللاتي آتى
أجورهنّ. وهذا معنى يشاركه فيه غيره ، فزاده فضلا على أمته أن أحلّ له الموهوبة ،
ولا تحل لأحد غيره.
المسألة السابعة
عشرة ـ قوله : (مُؤْمِنَةً).
وهذا تقييد من
طريق التخصيص بالتعليل والتشريف ، لا من طريق دليل الخطاب ، حسبما تقدم بيانه في
أصول الفقه ، وفي هذا الكتاب في أمثال هذا الكلام أن الكافرة لا تحلّ له.
قال إمام الحرمين
: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه.
قال ابن العربي :
والصحيح عندي تحريمها عليه ، وبهذا يتميّز علينا ، فإنه ما كان من جانب الفضائل
والكرامة فحظّه فيه أكثر ، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أظهر ، فجوّز لنا نكاح الحرائر من الكتابيات ، وقصر هو
لجلالته على المؤمنات ، وإذا كان لا يحلّ له من لم يهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى
ألا تحلّ له الكتابية الحرة لنقصان الكفر.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قوله : (إِنْ وَهَبَتْ).
قرئت بالفتح في
الألف وكسرها ، وقرأت الجماعة فيها بالكسر ، على معنى الشرط. تقديره وأحللنا لك
امرأة إن وهبت نفسها لك ، لا يجوز تقدير سوى ذلك.
وقد قال بعضهم :
يجوز أن يكون جواب إن محذوفا ، وتقديره إن وهبت نفسها للنبي حلّت له. وهذا فاسد من
طريق المعنى والعربية ، وذلك مبيّن في موضعه.
ويعزى إلى الحسن
أنه قرأها بفتح الهمزة ، وذلك يقتضى أن تكون امرأة واحدة حلّت له ، لأجل أن وهبت
نفسها ، وهذا فاسد من وجهين :
__________________
أحدهما ـ أنها
قراءة شاذة ، وهي لا تجوز تلاوة ، ولا توجب حكما.
الثاني ـ أن توجب
أن يكون إحلالا لأجل هبتها لنفسها ، وهذا باطل ، فإنها حلال له قبل الهبة
بالصداق.
وقد نسب لابن
مسعود أنه كان يسقط في قراءته «أن» ، فإن صح ذلك فإنما كان يريد أن يبين ما ذكرنا
من أن الحكم في الموهوبة ثابت قبل الهبة ، وسقوط الصداق مفهوم من قوله : (خالِصَةً لَكَ) لا من جهة الشرط.
وقد بينا حكم هذا
الشرط وأمثاله في سورة النور.
المسألة التاسعة
عشرة ـ قوله : (وَهَبَتْ نَفْسَها).
وهذا يبين أنّ
النكاح عقد معاوضة ، ولكنه على صفات مخصوصة من جملة المعاوضات وإجارة مباينة
للإجارات ، ولهذا سمّى الصداق أجرة ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة النساء ، فأباح الله لرسوله أن يتزوّج بغير الصداق ، لأنه أولى
بالمؤمنين من أنفسهم. وقد تقدم ذكره.
المسألة الموفية
عشرين ـ قوله : (إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها).
معناه أنها إذا
وهبت المرأة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم
مخيّر بعد ذلك إن شاء نكحها وإن شاء تركها ، وإنما بيّن ذلك ، وجعله قرآنا يتلى ـ والله
أعلم ، لأنّ من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته ، ويرى الأكارم أنّ
ردّها هجنة في العادة ، ووصمة على الواهب ، وإذاية لقلبه ، فبيّن الله سبحانه ذلك
في حق رسوله لرفع الحرج عنه ، وليبطل ظنّ الناس في عادتهم وقولهم.
المسألة الحادية
والعشرون ـ قوله : (خالِصَةً لَكَ).
وقد اختلف العلماء
في ذلك على ثلاثة أقوال :
أحدها ـ خالصة لك
: إذا وهبت لك نفسها أن تنكحها بغير صداق ولا ولىّ ، وليس ذلك لأحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ـ قاله قتادة. وقد أنفذ الله لرسوله نكاح زينب بنت جحش في السماء
بغير ولىّ من الخلق ، ولا بذل صداق من النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بحكم أحكم
الحاكمين ومالك العالمين.
__________________
الثاني ـ نكاحه
بغير صداق ، قاله سعيد بن المسيب.
الثالث ـ أن عقد
نكاحها بلفظ الهبة خالصا لك ، وليس ذلك لغيرك [من المؤمنين] ، قاله الشعبي.
قال القاضي :
القول الأول والثاني راجعان إلى معنى واحد ، إلا أن القول الثاني أصحّ من الأول ،
لأنّ سقوط الصّداق مذكور في الآية ، ولذلك جاءت ـ وهو قوله : إن وهبت نفسها للنبي
، فأما سقوط الولي فليس له فيها ذكر ، وإنما يؤخذ من دليل آخر ، وهو أنّ للولي
النكاح ، وإنما شرع لقلة الثقة بالمرأة في اختيار أعيان الأزواج ، وخوف غلبة
الشهوة في نكاح غير الكفء ، وإلحاق العار بالأولياء ، وهذا معدوم في حق النبي صلى
الله عليه وسلم.
وقد خصص الله
رسوله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض
والتحريم والتحليل ، مزية على الأمة ، وهيبة له ، ومرتبة خصّ بها ، ففرضت عليه ،
وما فرضت على غيره ، وحرمت عليه أشياء وأفعال لم تحرّم عليهم ، وحللت له أشياء لم
تحلل لهم ، منها متفق عليه ، ومنها مختلف فيه ، أفادنيها ذانشمند الأكبر ، عن إمام الحرمين ، وقد استوفينا ذلك في كتاب
النبي صلى الله عليه وسلم ، بيد أنا نشير هاهنا إلى جملة الأمر لمكان الفائدة فيه
، وتعلّق المعنى فيه إشارة موجزة ، تبين للبيب وتبصر المريب ، فنقول :
أما قسم الفريضة
فجملته تسعة :
الأول ـ التهجد
بالليل.
الثاني ـ الضحى.
الثالث ـ الأضحى.
الرابع ـ الوتر ،
وهو يدخل في قسم التهجد.
الخامس ـ السواك.
السادس ـ قضاء دين
من مات معسرا.
__________________
السابع ـ مشاورة
ذوى الأحلام في غير الشرائع.
الثامن ـ تخيير
النساء.
التاسع ـ كان إذا
عمل عملا أثبته.
وأما قسم التحريم
فجملته عشرة :
الأول ـ تحريم
الزكاة عليه وعلى آله.
الثاني ـ صدقة
التطوّع عليه ، وفي آله تفصيل باختلاف.
الثالث ـ خائنة
الأعين ، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر ، أو ينخدع عما يحب.
وقد ذمّ بعض
الكفار عند إذنه ، ثم ألان له القول عند دخوله.
الرابع ـ حرّم
عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها عنه ، أو يحكم بينه وبين محاربه ، ويدخل معه غيره من
الأنبياء في الخير.
الخامس ـ الأكل
متكئا.
السادس ـ أكل
الأطعمة الكريهة الرائحة.
السابع ـ التبدل
بأزواجه.
الثامن ـ نكاح
امرأة تكره صحبته.
التاسع ـ نكاح
الحرة الكتابية.
العاشر ـ نكاح
الأمة ، وفي ذلك تفصيل يأتى بيانه في موضعه.
وأما قسم التحليل
فصفىّ المغنم.
الثاني ـ الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس.
الثالث ـ الوصال.
الرابع ـ الزيادة
على أربع نسوة.
الخامس ـ النكاح
بلفظ الهبة.
السادس ـ النكاح
بغير ولىّ.
__________________
السابع ـ النكاح
بغير صداق.
وقد اختلف العلماء
في نكاحه بغير ولىّ ، وقد قدّمنا أنّ الأصحّ عدم اشتراط الولي في حقه ، وكذلك
اختلفوا في نكاحه بغير مهر ، فالله أعلم.
الثامن ـ نكاحه في
حالة الإحرام ، ففي الصحيح أنه تزوّج ميمونة وهو محرم ، وقد بيناه في مسائل
الخلاف.
التاسع ـ سقوط
القسم بين الأزواج عنه ، على ما يأتى بيانه في قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ
وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ).
العاشر ـ إذا وقع
بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها ، وحلّ له نكاحها.
قال القاضي : هكذا
قال إمام الحرمين ، وقد بينا الأمر في قصة زيد بن حارثة كيف وقع.
الحادي عشر ـ أنه
أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها ، وفي هذا اختلاف بينّاه في كتاب الإنصاف ، ويتعلق
بنكاحه بغير مهر أيضا.
الثاني عشر ـ دخول
مكة بغير إحرام ، وفي حقّنا فيه اختلاف.
الثالث عشر ـ القتال
بمكة ، وقد قال عليه السلام : لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، وأنما
أحلّت لي ساعة من نهار.
الرابع عشر ـ أنه
لا يورث.
قال القاضي : إنما
ذكرته في قسم التحليل ، لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه ، ولم
يبق له إلا الثلث خالصا ، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما
تقدّم في آية الميراث.
الخامس عشر ـ بقاء
زوجيته من بعد الموت.
السادس عشر ـ إذا
طلق امرأة ، هل تبقى حرمته عليها فلا تنكح؟
وهاتان المسألتان
ستأتيان إن شاء الله تعالى.
__________________
وهذه الأحكام في
الأقسام المذكورة على اختلافها مشروحة في تفاريقها ، حيث وقعت مجموعة في شرح
الحديث الموسوم بالنيرين في شرح الصحيحين.
المسألة الثانية
والعشرون ـ تكلم الناس في إعراب قوله : (خالِصَةً لَكَ) ، وغلب عليهم الوهم فيه ، وقد شرحناه في ملجئة المتفقهين.
وحقيقته عندي أنه
حال من ضمير متصل بفعل مضمر دلّ عليه المظهر ، تقديره أحللنا لك أزواجك ، وأحللنا
لك امرأة مؤمنة ، أحللناها خالصة بلفظ الهبة وبغير صداق ، وعليه انبنى معنى الخلوص
هاهنا.
المسألة الثالثة
والعشرون ـ قيل : هو خلوص النكاح له بلفظ الهبة دون غيره ، وعليه انبنى معنى
الخلوص هاهنا.
وهذا ضعيف ، لأنا
إن قلنا : إنّ نكاح النبىّ صلى الله عليه وسلم لا بدّ فيه من الولىّ ـ وعليه يدلّ
قوله لعمرو بن أبى سلمة ربيبة ، حين زوّج أمه : قم يا غلام فزوّج أمك.
ولا يصح أن يكون
المراد بهذه الآية هذا ، لأن قول الموهوبة : وهبت نفسي لك لا ينعقد به النكاح ،
ولا بدّ بعده من عقده مع الولي ، فهل ينعقد بلفظه وصفته أم لا؟ مسألة أخرى لا ذكر
للآية فيها.
الثاني ـ أن المقصود بالآية خلوّ النكاح من الصداق ، وله جاء
البيان ، وإليه يرجع الخلوص المخصوص به.
الثالث أنه قال
بعد ذلك : إن أراد النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يستنكحها ، فذكره في جنبته بلفظ النكاح المخصوص بهذا العقد ، فهذا يدلّ على أنّ
المرأة وهبت نفسها بغير صداق ، فإن أراد النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج
تزوّج ، فيكون النكاح حكما مستأنفا ، لا تعلّق له بلفظ الهبة ، إلا في المقصود من
الهبة ، وهو سقوط العوض وهو الصّداق.
الرابع ـ إنا لا
نقول : إنّ النكاح بلفظ الهبة جائز في حق غيره من هذا اللفظ ، فإن تقدير الكلام
على ما بيناه أحللنا لك أزواجك ، وأحللنا لك المرأة الواهبة نفسها خالصة ،
__________________
فلو جعلنا قوله : (خالِصَةً) حالا من الصفة التي هي ذكر الهبة دون الموصوف الذي هو
المرأة وسقوط الصداق ، لكان إخلالا من القول ، وعدولا عن المقصود في اللفظ ، وذلك
لا يجوز عربيّة ، ولا معنى.
ألا ترى أنك لو
قلت : أحدّثك بالحديث الرباعي خالصا لك دون أصحابك لما كان رجوع الحال إلا إلى
المقصود الموصوف ، وهو الحديث ، هذا على نظام التقدير ، فلو قلت على لفظ أحدثك
بحديث إن وجدته بأربع روايات خالصا ذلك دون أصحابك لرجعت الحال إلى المقصود
الموصوف أيضا ، دون الصفة ، وهذا لا يفهمه إلا المتحققون في العربية ، وما أرى من
عزا إلى الشافعى أنه قال : الضمير في قوله : «خالصة» يرجع إلى النكاح بلفظ الهبة
إلا قد وهم ، لأجل مكانته من العربية.
والنكاح بلفظ
الهبة جائز عند علمائنا ، معروف بدليله في مسائل الخلاف.
المسألة الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ).
فائدته أنّ الكفار
وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول ، لأنّ تصريف الأحكام
إنما تكون بينهم على تقدير الإسلام.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ).
قد تقدّم القول في
بيان علم الله في كتاب المشكلين وكتاب الأصول. وكذلك تقدّم القول فيه.
المسألة السادسة
والعشرون ـ وهي قوله : (فَرَضْنا) ، وبينا معنى الفرض ، والقدر المختصّ بهذه المسألة من ذلك
أنّ الله أخبر أنّ علمه سابق بكل ما حكم به ، وقرر على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في النكاح وأعداده
وصفاته ، وملك اليمين وشروطه ، بخلافه ، فهو حكم سبق به العلم ، وقضاء حقّ به
القول للنبي في تشريعه ، وللمنبأ المرسل إليه بتكليفه.
__________________
المسألة السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (لِكَيْلا يَكُونَ
عَلَيْكَ حَرَجٌ) ، أى ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السّعة ، كما أنه ضيق
عليهم في أمر لا يستطيعون فيه شرط السعة عليهم.
المسألة الثامنة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) ، قد بينّا معنى ذلك في كتاب الأمد الأقصى بيانا شافيا.
والمقدار الذي
ينتظم به الكلام هاهنا أنه لم يؤاخذ الناس بذنوبهم ، بل بقولهم ، ورحمهم وشرّف
رسله الكرام ، فجعلهم فوقهم ، ولم يعط على مقدار ما يستحقون ، إذ لا يستحقون عليه
شيئا ، بل زادهم من فضله ، وعمّهم برفقه ولطفه ، ولو أخذهم بذنوبهم ، وأعطاهم على قدر حقوقهم ـ عند من يرى ذلك من
المبتدعة ـ أو على تقدير ذلك فيهم ، لما وجب للنبي صلى الله عليه وسلم شيء ، ولا
غفر للخلق ذنب ، ولكنه أنعم على الكلّ ، وقدّم منازل الأنبياء صلوات الله عليهم ،
وأعطى كلّا على قدر علمه وحكمه وحكمته ، وذلك كلّه بفضل الله ورحمته.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ
وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ
وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً).
فيما عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها ، وفي ذلك خمسة أقوال :
الأول ـ روى أبو
رزين العقيلي أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم لما أشفقن أن يطلقهنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قلن : يا رسول الله ، اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت ، فكانت
منهن سودة بنت زمعة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة ، غير مقسوم لهن.
وكان ممن آوى عائشة وأم سلمة ، وزينب ، وأم سلمة ، يضمهنّ ، ويقسم لهنّ ـ قاله الضحاك.
__________________
الثاني ـ قال ابن
عباس : أراد من شئت أمسكت ، ومن شئت طلّقت.
الثالث ـ كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوّجها رسول
الله صلى الله عليه وسلم أو يتركها.
والمعنى اترك نكاح
من شئت ، وانكح من شئت ، قاله الحسن.
الرابع ـ تعزل من
شئت ، وتضم من شئت ، قاله قتادة.
الخامس ـ قال أبو
رزين : تعزل من شئت عن القسم ، وتضمّ من شئت إلى القسم.
المسألة الثانية ـ
في تصحيح هذه الأقوال :
أما قول أبى رزين
فلم يرد من طريق صحيحة ، وإنما الصحيح ما روى عن عائشة مطلقا من غير تسمية على ما
يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
وروى في الصحيح أنّ سودة لما كبرت قالت : يا رسول الله
، اجعل يومى منك لعائشة ، فكان يقسم لعائشة يومين : يومها ، ويوم سودة.
وأما قول الحسن
فليس بصحيح ولا حسن من وجهين :
أحدهما ـ أن
امتناع خطبة من يخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له ذكر ولا دليل في شيء
من معاني الآية ولا ألفاظها .
المسألة الثالثة ـ
قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ).
يعنى تؤخّر وتضمّ
، ويقال : أرجأته إذا أخّرته ، وآويت فلانا إذا ضممته وجعلته في ذراك وفي جملتك ، فقيل فيه أقوال ستة :
الأول ـ تطلّق من
شئت ، وتمسك من شئت ، قاله ابن عباس.
الثاني ـ تترك من
شئت ، وتنكح من شئت ، قاله قتادة.
الثالث ـ ما تقدم
من قول أبى رزين العقيلي.
الرابع ـ تقسم لمن
شئت ، وتترك قسم من شئت.
الخامس ـ ما في
الصحيح ، عن عائشة ، قالت : كنت أغار من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله : (تُرْجِي
__________________
مَنْ
تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) قلت : ما أرى ربّك إلّا يسارع في هواك.
السادس ـ ثبت في
الصحيح أيضا ، عن عائشة أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه
الآية : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ
وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا
جُناحَ عَلَيْكَ) ، فقيل لها : ما كنت تقولين؟ قالت : كنت أقول : إن كان الأمر إلىّ
فإنى لا أريد ـ يا رسول الله ـ أن أوثر عليك أحدا.
وبعض هذه الأقوال
يتداخل مع ما قدمناه في سبب نزولها ، وهذا الذي ثبت في الصحيح ، وهو الذي ينبغي أن
يعوّل عليه.
والمعنى المراد هو
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان مخيّرا في أزواجه إن شاء أن يقسم ، وإن شاء أن
يترك القسم ترك ، لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون فرض ذلك عليه ، فإن قول من قال
إنه قيل له : انكح من شئت ، واترك من شئت ، فقد أفاده قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ
اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ
عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ
اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها
لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ). حسبما تقدم ، بيانه من الابتداء في ذلك والانتهاء إلى آخر الآية ،
فهذا القول يحمل على فائدة مجردة ، فأما وجوب القسم فإن النكاح يقتضيه ، ويلزم الزوج ، فخصّ
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بأن جعل الأمر فيه إليه.
فإن قيل : فكيف
يقال : إنّ القسم غير واجب على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ـ عليه السلام ـ كان
يعدل بين أزواجه في القسم ، ويقول : هذه قدرتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك
ولا أملك ـ يعنى قلبه ، لإيثار عائشة دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله.
قلنا : ذلك من
خلال النبي صلى الله عليه وسلم وفضله ، فإنّ الله عز وجل أعطاه سقوطه ، وكان هو صلى الله عليه وسلم يلتزمه تطييبا لنفوسهنّ ، وصونا لهنّ عن أقوال الغيرة التي ربما
ترقّت إلى ما لا ينبغي.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ).
يعنى طلبت ، والابتغاء
في اللغة هو الطّلب ، ولا يكون إلا بعد الإرادة ، قال الله تعالى مخبرا عن موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا
نَبْغِ).
المسألة الخامسة ـ
قوله : (مِمَّنْ عَزَلْتَ) ، يعنى أزلت ، والعزلة الإزالة ، وتقدير الكلام في اللفظين
مفهوم.
والمعنى : ومن
أردت أن تضمّه وتؤويه بعد أن أزلته فقد نلت ذلك عندنا ، ووجدته تحقيقا لقول عائشة : لا أرى ربّك إلا وهو يسارع في هواك ، فإن شاء النبىّ صلى
الله عليه وسلم أن يؤخّر أخّر ، وإن شاء أن يقدّم استقدم ، وإن شاء أن يقلب المؤخر
مقدما والمقدم مؤخّرا فعل ، لا جناح عليه في شيء من ذلك ، ولا حرج فيه ، وهي :
المسألة السادسة ـ
وقد بيّنا الجناح فيما تقدم ، وأوضحنا حقيقته.
المسألة السابعة ـ
قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ).
المعنى أنّ الأمر
إذا كان الإدناء والإقصاء لهنّ ، والتقريب والتبعيد إليك ، تفعل من ذلك ما شئت ـ كان
أقرب إلى قرّة أعينهنّ ، وراحة قلوبهن ، لأن المرء إذا علم أنه لا حقّ له في شيء
كان راضيا بما أوتى منه وإن قلّ ، وإن علم أنّ له حقّا لم يقنعه ما أوتى منه ،
واشتدت غيرته عليه ، وعظم حرصه فيه ، فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه
في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهنّ معه ، واستقرار أعينهنّ على ما يسمح به منه لهن ، دون أن تتعلق قلوبهنّ بأكثر منه ، وذلك قوله في
:
المسألة الثامنة ـ
(وَلا يَحْزَنَّ
وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ).
المعنى : وترضى كلّ
واحدة بما أوتيت من قليل أو كثير ، لعلمها بأنّ ذلك غير حقّ لها ، وإنما هو فضل
تفضّل به عليها ، وقليل رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، واسم زوجته ، والكون
في عصمته ، ومعه في الآخرة في درجته ، فضل من الله كبير.
__________________
المسألة التاسعة ـ
قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي قُلُوبِكُمْ).
وقد بيّنا في غير
موضع ـ وهو بيّن عند الأمة ـ أنّ البارئ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، يعلم السرّ وأخفى ، ويطّلع على الظاهر والباطن.
ووجه تخصيصه
بالذكر هاهنا التنبيه على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل إلى بعض ما عندنا من
النساء دون بعض ، وهو يسمح في ذلك ، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل
إن كان يستطيع أن يصرف فعله ، ولا يؤاخذ البارئ سبحانه بما في القلب من ذلك ،
وإنما يؤاخذ بما يكون من فعل فيه ، وإلى ذلك يعود قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، وهي :
المسألة العاشرة
....
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ رَقِيباً).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أنها نزلت في
أسماء بنت عميس ، لما توفّى زوجها جعفر بن أبى طالب أعجب النبىّ صلى الله عليه
وسلم حسنها ، فأراد أن يتزوجها ، فنزلت الآية. وهذا حديث ضعيف.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) :
اعلموا ـ وفّقكم
الله ـ أنّ كلمة «بعد» ظرف بنى على الضمّ هاهنا ، لما اقترن به من الحذف ، فصار
بهذه الدلالة كأنه بعض كلمة ، فربط على حرف واحد ليتبيّن ذلك.
واختلف العلماء في
تعيين المحذوف على ثلاثة أقوال :
الأول ـ لا يحلّ
لك النساء من بعد من عندك ، منهن اللواتي اخترنك على الدنيا فقصر عليهنّ من أجل
اختيارهن له ، قاله ابن عباس.
__________________
الثاني ـ من بعد
ما أحللنا لك ، وهي الآية المتقدمة ، قاله أبىّ بن كعب.
الثالث ـ لا يحلّ
لك نكاح غير المسلمات ، قاله سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد.
المسألة الثالثة ـ
في التنقيح :
أما قول مجاهد
وغيره بأنّ المعنى لا يحلّ لك نكاح غير المسلمات فداخل تحت قول أبىّ بن كعب ، لأن
الآية لا تحتمل إلا قولين :
أحدهما قول ابن
عباس ، والثاني قول أبىّ بن كعب.
فإذا قلنا بقول
أبىّ ، وحكمنا أنّ المراد بالآية لا يحلّ لك النساء من بعد ما أحللنا لك من أزواجك
اللاتي آتيت أجورهنّ قرابتك المؤمنات المهاجرات ، والواهبة نفسها ـ بقي على
التحريم من عداهنّ.
والآية محتملة
لقول ابن عباس وأبىّ ، ويقوّى في النفس قول ابن عباس ـ والله أعلم ـ كيف وقع
الأمر.
وقد اختلف العلماء
في ذلك ، فقالت عائشة ، وأم سلمة : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ
له النساء ، وبه قال ابن عباس ، والشافعى وجماعة ، وكأن الله لما أحلّ له النساء
حتى الموت قصر عليهن كما قصرن عليه ـ قال ابن عباس في روايته ، وأبو حنيفة ،
وجماعة وجعلوا حديث عائشة سنّة ناسخة ، وهو حديث واه ، ومتعلق ضعيف ، وقد بيناه في
القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ ، فتمّ تمام القول وبيانه.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ لا يحلّ
لك أن تطلّق امرأة من أزواجك ، وتنكح غيرها ، قاله ابن عباس.
الثاني ـ لا يحل
لك أن تبدّل المسلمة التي عندك بمشركة ، قاله مجاهد.
الثالث ـ لا تعطى
زوجك في زوجة أخرى ، كما كانت الجاهلية تفعله ، قاله ابن زيد.
المسألة الخامسة ـ
أصحّ هذه الأقوال قول ابن عباس ، له يشهد النصّ ، وعليه يقوم الدليل.
وأما قول مجاهد
فمبنىّ على ما سبق من قوله في المسألة قبلها ، وهو ضعيف ، لأنّ اللفظ عام ، ولا
يجوز تخصيصه بما يبطل فائدته ، ويسقط عمومه ، ويبطل حكمه ، ويذهب من غير حاجة إلى
ذلك.
وأما قول ابن زيد
فضعيف ، لأنّ النهى عن ذلك لم يختص به رسول صلى الله عليه وسلم ، بل ذلك حكم ثابت
في الشّرع على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى جميع الأمة ، إذ التعاوض في
الزوجات لا يجوز. والدليل عليه أنه قال : (بِهِنَّ مِنْ
أَزْواجٍ) ، وهذا الحكم لا يجوز لا بهنّ ولا بغيرهنّ ، ولو كان
المراد استبدال الجاهلية لقال : أزواجك بأزواج ، ومتى جاء اللفظ خاصّا في حكم لا ينتقل إلى غيره إلا لضرورة .
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ).
المعنى فإنه حلال لك على الإطلاق المعلوم في الشرع من غير تقييد.
وقد اختلف العلماء
في إحلال الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من قال : يحلّ له نكاح الأمة
الكافرة ووطؤها بملك اليمين ، لقوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) ، وهذا عموم. ومنهم من قال : لا يحلّ له نكاحها ، لأن نكاح
الأمة مقيّد بشرط خوف العنت ، وهذا الشرط معدوم في حقّه ، لأنه معصوم ، فأما وطؤها
بملك اليمين فيتردّد فيه.
والذي عندي أنه لا
يحلّ له نكاح الكافرة ، ولا وطؤها بملك اليمين ، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة ،
وقد قال الله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، فكيف به صلّى الله عليه وسلم! وقال : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ، فشرط في الإحلال له الهجرة بعد الإيمان ، فكيف يقال إنّ
الكافرة تحلّ له!
المسألة السابعة ـ
(وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).
وقد تقدم معنى
الرّقيب في أسمائه سبحانه وتعالى ، والمعنى المختص به هاهنا أنّ الله يعلم الأشياء
علما مستمرا ، ويحكم فيها حكما مستقرا ، ويربط بعضها ببعض ربطا ينتظم به
الوجود ، ويصحّ به التكليف.
__________________
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا
طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ
أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).
فيها ثمان عشرة مسألة
:
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها ، وفي ذلك ستة أقوال :
الأول ـ روى عن
أنس في الصحيح وغيره
: كتاب البخاري ، ومسلم ، والترمذي ـ واللفظ له ، قال أنس بن مالك : تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل بأهله ،
فصنعت أم سليم أمى حيسا ، فجعلته في تور ، وقالت لي : يا أنس ، اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقل : بعثت به إليك أمى ، وهي تقرئك السلام ، وتقول لك : إن هذا لك منّا
قليل يا رسول الله.
قال
: فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقلت : إن أمى تقرئك السلام وتقول
لك : إنّ هذا لك منّا قليل يا رسول الله. فقال : ضعه ، ثم قال : اذهب فادع لي
فلانا وفلانا ، ومن لقيت ـ وسمّى رجالا ـ فدعوت من سمّى ، ومن لقيت.
قال
: قلت لأنس : عددكم كانوا؟ قال : زهاء ثلاثمائة. فقال : قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم : يا أنس ، هات التّور. قال : فدخلوا حتى امتلأت الصّفّة والحجرة ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتحلّق عشرة عشرة ، ليأكل كلّ إنسان مما يليه.
قال: فأكلوا حتى شبعوا. قال : فخرجت طائفة ودخلت طائفة ، حتى أكلوا كلهم.
__________________
قال
: قال لي : يا أنس ، ارفع. قال : [فرفعت] ، فما أدرى حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت.
قال
: وجلس منهم طوائف يتحدّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ، فثقلوا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم على نسائه ، ثم رجع.
فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنّوا أنهم قد ثقلوا عليه ، فابتدروا
الباب ، وخرجوا كلّهم ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ، ودخل
، وأنا جالس في الحجرة ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج علىّ ، وأنزل الله هذه الآية
، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الناس : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ...) إلى آخر الآية.
قال أنس : أنا
أحدث الناس عهدا بهذه الآيات ، وحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني ـ روى
مجاهد ، عن عائشة ، قالت : كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيسا ، فمرّ عمر فدعاه ، فأكل ، فأصاب إصبعه إصبعي ، فقال حينئذ
: لو أطاع فيكنّ ما رأتكن عين ، فنزل الحجاب.
الثالث ـ ما روى عروة عن عائشة أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنّ
يخرجن بالليل إلى المناصع وهو صعيد أفيح ، يتبرّزن فيه ، فكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم :
احجب نساءك ، فلم يكن يفعل ، فخرجت سودة ليلة من الليالى ، وكانت امرأة طويلة ،
فناداها عمر : قد عرفناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة : فأنزل
الحجاب.
الرابع ـ روى عن
ابن مسعود : أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب ، فقالت
__________________
زينب بنت جحش : يا
ابن الخطاب ؛ إنك تغار علينا والوحى ينزل علينا ، فأنزل الله تعالى :
(وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).
الخامس ـ روى
قتادة أنّ هذا كان في بيت أم سلمة ، أكلوا وأطالوا الحديث ، فجعل النبىّ صلى الله
عليه وسلم يدخل ويخرج ، ويستحى منهم ، والله لا يستحيى من الحق.
السادس ـ روى أنس
أنّ عمر قال : قلت
: يا رسول الله ؛ إنّ نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر ، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن ؛
فنزلت آية الحجاب.
المسألة الثانية ـ
هذه الروايات ضعيفة إلّا الأولى والسادسة ، وأما رواية ابن مسعود فباطلة ؛ لأن
الحجاب نزل يوم البناء بزينب ، ولا يصحّ ما ذكر فيه.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (بُيُوتَ النَّبِيِ) صلى الله عليه وسلم.
هذا يقتضى أن
البيت بيت الرجل إذ جعله مضافا إليه.
فإن قيل : فقد قال
: (وَاذْكُرْنَ ما
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ).
قلنا : إضافة
البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة ملك ، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة
محل ، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم ، والإذن إنما يكون
للمالك ، وبدليل قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَ) صلى الله عليه وسلم ، وكذلك يؤذى أزواجه ، ولكن لما كان
البيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، والحقّ حقّ النبىّ صلى الله عليه وسلم ـ أضافه
إليه.
وقد اختلف العلماء
في بيوت النبىّ صلى الله عليه وسلم إذ كنّ يسكنّ فيها ، هل هنّ ملك لهن أم لا؟
فقالت طائفة :
كانت ملكا لهنّ بدليل أنهنّ سكنّ فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى
وفاتهنّ ؛ وذلك أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وهب لهنّ ذلك في حياته.
وقالت عائشة : لم
يكن ذلك لهنّ هبة ، وإنما كان إسكانا ، كما يسكن الرجل أهله ، وتمادى سكناهنّ بها
إلى الموت لأحد وجهين : إما لأنّ عدتهن لم تنقض إلا بموتهن ، وإما لأنّ
__________________
النبي صلى الله
عليه وسلم استثنى ذلك لهنّ مدة حياتهنّ ، كما استثنى نفقاتهنّ بقوله : ما تركت بعد
نفقة عيالي ومؤنة عاملي فهو صدقة. فجعلها النبىّ صلى الله عليه وسلم صدقة بعد نفقة
العيال ، والسكنى من جملة النفقات ، فإذا متن رجعت مساكنهنّ إلى أصلها من بيت
المال ، كرجوع نفقاتهنّ.
والدليل القاطع
لذلك أنّ ورثتهنّ لم يرثوا عنهن شيئا من ذلك ، ولو كانت المساكن ملكا لهن لورث ذلك
ورثتهن عنهنّ ، فلما ردّت منازلهنّ بعد موتهن في المسجد الذي تعمّ منفعته جميع
المسلمين دلّ ذلك على أنّ سكناهنّ إنما كانت متاعا لهن إلى الممات ، ثم رجعت إلى
أصلها في منافع المسلمين.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ
لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ).
قد تقدم القول في
الإذن وأحكامه في سورة النور .
المسألة الخامسة ـ
قوله : (إِلى طَعامٍ) ، يعنى به هاهنا طعام الوليمة ، والأطعمة عند العرب عشرة :
المأدبة ، وهي طعام الدعوة كيفما وقعت.
طعام الزائر
التّحفة ، فإن كان بعده غيره فهو النزل.
وطعام الإملاك
الشدخية ، وما رأيته في أثر ، إلّا ما روى أن النجاشىّ لما عقد
نكاح النبىّ صلى الله عليه وسلم مع أم حبيبة عنده قال لهم : لا تفرقوا الأطعمة.
وكذلك كانت الأنبياء تفعل ، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
طعام العرس : الوليمة.
طعام البناء :
الوكيرة.
طعام الولادة :
الخرس .
__________________
طعام سابعها :
العقيقة.
طعام الختان :
الإعذار. ويقال : العذيرة.
طعام القادم من
السفر : النقيعة.
طعام الجنازة :
الوضيمة.
وهناك أسماء تعدّ
هذه أصولها المعلومة. والفائدة في قوله : إلى طعام أمران :
أحدهما ـ أنّ
الكريم إذا دعا إلى منزله أحدا لأمر لم يكن بدّ من أن يقدم إليه ما حضر من طعام
ولو تمرة أو كسرة ، فإذا تناول معه ما حضر كلّمه فيما عرض.
المسألة السادسة ـ
قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ) ، معناه غير منتظرين وقته ، والناظر هو المستنظر ، والإنى
هو الوقت. وقد تقدم بيانه.
المعنى لا تدخلوا
بيوت النبىّ إلّا أن يؤذن لكم في الدخول ، أو يطعمكم طعاما حاضرا ، لا تنتظرون
نضجه ، ولا ترتقبون حضوره ، فيطول لذلك مقامكم ، وتحصلون فيما كره منكم.
المسألة السابعة ـ
قوله : (وَلكِنْ إِذا
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا).
المعنى ادخلوا على
وجه الأدب ، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة.
وتقدير الكلام :
إذا دعيتم فأذن لكم فادخلوا ، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (فَإِذا طَعِمْتُمْ).
هذا يدل على أن
الضيف يأكل على ملك المضيف ، لا على ملك نفسه ، لأنه قال: (فَإِذا طَعِمْتُمْ) فلم يجعل له أكثر من الأكل ، ولا أضاف لهم سواه ، وبقي
الملك على أصله ، وقد بينّا ذلك في مسائل الفروع.
المسألة التاسعة ـ
قوله : (فَانْتَشِرُوا).
المراد : تفرقوا. من
النشر ، وهو الشيء المفترق. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من
الأكل.
__________________
والدليل على ذلك
أنّ الدخول حرام ، وإنما جاز لأجل الأكل ، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح ،
وعاد التحريم إلى أصله.
المسألة العاشرة ـ
قوله : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ).
المعنى : لا
تمكثوا مستأنسين بالحديث ، كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة
زينب ، ولكن الفائدة في عطفه على ما تقدم أنّ استدامة الدخول دخول فعطفه عليه ،
وقد بينا ذلك في مسائل الفقه.
المسألة الحادية عشرة
ـ قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
يُؤْذِي النَّبِيَ).
والإذاية كلّ ما
تكرهه النفس ، وهو محرّم على الناس ، لا سيما إذاية يكرهها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، بل ألزم الخلق أن يفعلوا ما يكرهون ، إرضاء لرسول الله صلى الله عليه
وسلم.
والمعنى : منعناكم
منه لإذاية النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل المنع من الدخول بغير إذن والمقام بعد
كمال المقصود ـ محرما فعله ، لإذاية النبي صلى الله عليه وسلم. والمحرمات في الشرع
على قسمين : منها معلّل ، ومنها غير معلّل ، فهذا من الأحكام المعللة بالعلة ، وهي
إذاية النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله : (فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ ، وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ).
وقد بينّا الحياء
في كتب الأصول ، ومعناه هاهنا فيمسك عن كشف مراده لكم ، فيتأذّى بإقامتكم ، على
معنى التعبير عن الشيء بمقدمته ، وهو أحد وجوه المجاز ، أو بفائدته ـ وهو الوجه
الثاني ، أو على معنى التشبيه ـ وهو الثالث.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله : (وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).
وفي المتاع أربعة
أقوال :
الأول ـ عارية.
الثاني ـ حاجة.
الثالث ـ فتوى.
الرابع ـ صحف
القرآن.
وهذا يدل على أنّ
الله أذن في مساءلتهنّ من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها ، والمرأة
كلّها عورة ، بدنها وصورتها ، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة ، كالشهادة
عليها ، أو داء يكون ببدنها ، أو سؤالها عما يعنّ ويعرض عندها.
المسألة الرابعة ـ
عشرة ـ قوله : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ).
المعنى : أن ذلك
أنفى للريبة ، وأبعد للتهمة ، وأقوى في الحماية.
وهذا يدلّ على أنه
لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحلّ له ، فإن مجانبة ذلك أحسن
لحاله ، وأحصن لنفسه ، وأتمّ لعصمته.
المسألة الخامسة
عشرة ـ قوله : (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ).
وهذا تكرار للعلّة
، وتأكيد لحكمها ، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.
المسألة السادسة
عشرة ـ قوله : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، وهي من خصائصه ، فقد خصص بأحكام ، وشرف بمعالم ومعان لم
يشاركه فيها أحد ، تمييزا لشرفه ، وتنبيها على مرتبته.
وقد روى أنّ سبب
نزول هذه الكلمة أن آية الحجاب لما نزلت قالوا : يمنعنا من بنات عمّنا ، لئن حدث
به الموت لنتزوجنّ نساءه من بعده ، فأنزل الله هذه الكلمة.
وروى أنّ رجلا قال
: لئن مات لأتزوجنّ عائشة ، فأنزل الله هذه الآية ، وصان خلوة نبيه ، وحقّق غيرته
، فقصرهنّ عليه ، وحرّمهنّ بعد موته.
وقد اختلف في
حالهن بعد موته ، وهي :
المسألة السابعة
عشرة ـ هل بقين أزواجا أو زال النكاح بالموت؟
وإذا قلنا : إنّ
حكم النكاح زال بالموت ، فهل عليهنّ عدّة أم لا؟
فقيل : عليهنّ
العدّة ، لأنهن زوجات توفّى عنهن زوجهن ، وهي عبادة.
وقيل : لا عدّة
عليهن ، لأنها مدة تربّص لا ينتظر بها الإباحة.
وببقاء الزوجية
أقول ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما
تركت بعد نفقة عيالي ومؤنة عاملي صدقة.
وقد ورد في بعض
ألفاظ الحديث : ما
تركت بعد نفقة أهلى ، وهذا اسم خاص بالزوجية ، لأنه أبقى عليهن النفقة مدة حياتهنّ ، لكونهنّ نساءه.
وفي بعض الآثار : كلّ سبب ونسب ينقطع إلا سببى ونسبي.
والأول أصحّ ،
وعليه المعوّل. ومعنى إبقاء النكاح بقاء أحكامه من تحريم الزوجية ، ووجود النفقة
والسكنى ، إذ جعل الموت في حقّه عليه السلام بمنزلة المغيب في حقّ غيره ، لكونهنّ
أزواجا له قطعا ، بخلاف سائر الناس ، لأن الميت لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة
، فربما كان أحدهم في الجنّة والآخر في النار ، فبهذا الوجه انقطع السبب في حقّ
الخلق ، وبقي في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ
عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ، يعنى إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو نكاح
أزواجه ، فجعل ذلك من جملة الكبائر ، ولا ذنب أعظم منه ، وقد بينا أحوال عظائم
الذنوب في شرح الحديث والمشكلين في أبواب الكبائر.
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا
شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) : البارئ تعالى عالم ما بدا وما خفى وما ظهر ، وما كان وما
لم يكن ، لا يخفى عليه ماض يمضى ، ولا مستقبل يأتى ، وهذا على العموم تمدّح الله
به ، وهو أصل الحمد والمدح ، والمراد به هاهنا في قول المفسّرين ما أكنّوه من نكاح
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعده ، فحرم ذلك عليهم حين أضمروه في قلوبهم ،
وأكنّوه في أنفسهم ، فصارت هذه الآية منقطعة عما قبلها مبينة لها.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً).
فيها أربع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ روى
أنّ نزول الحجاب لما نزل ، وستره لما انسدل قال الآباء : كيف بنا مع بناتنا؟ فأنزل
الله الآية.
المسألة الثانية ـ
اختلف العلماء في المنفىّ عنه الجناح ، فقيل : معناه لا جناح عليهن في رفع الحجاب
، قاله قتادة.
وقيل : لا جناح
عليهنّ في سدل الحجاب ، قاله مجاهد.
والمعنى المتقدم
أنّ الله أمرهنّ بالسّتر عن الخلق ، وضرب الحجاب بينهن وبين الناس ، ثم أسقط ذلك
بين من ذكر هاهنا من القرابات.
المسألة الثالثة ـ
روى عن الشعبي أنه قال : لم يذكر الله العمّ فيها ولا الخال ، لأنها تحل
لأبنائهما.
وقيل : لم يذكرهما
، لأنهما قائمان مقام الأبوين ، بدليل نزولهما منزلتهما في حرمة النكاح.
فأما من قال
بالقول الأول فقال : إنّ حكم الرجل مع النساء ينقسم على ثلاثة أقسام:
الأول ـ من يجوز له
نكاحها.
والثاني ـ من لا
يحل له نكاحها ، ولا لابنه ، كالأخ والجد والحفيد.
والثالث ـ من لا
يحل له نكاحها ، ويجوز لولده ، كالعمّ والخال ، بحسب منزلتهم منها في الحرمة.
فمن كان يجوز له
نكاحها لم يحل له رؤية شيء منها. ومن لا يحل له نكاحها ويجوز لولده جاز له رؤية
وجهها وكفّيها خاصة ، ولم يحل له رؤية زينتها. ومن لا يحل له ولا لولده جاز الوضع
لجلبابها ورؤية زينتها.
وهذا التقسيم إنما
هو على القول بأنّ رفع الجناح في الآية إنما هو في وضع الجلباب.
فإن قلنا : إنه في
رفع الحجاب لم يصحّ هذا الترتيب في هذه الآية ، وقد بينا حكم وضع الجلباب في سورة
النور ، وحكم العم من الرضاع والنسب بما يغنى بيانه عن إعادته.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَاتَّقِينَ اللهَ) ، فخصّ به النساء ، وعيّنهنّ في هذا الأمر بالتّقوى ، لقلة
تحفظهنّ وكثرة استرسالهن.
__________________
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
ذكر صلاة الله ، قد بيّناه في الأمد الأقصى وغيره من كتبنا ، والأمر خصّ به معنى
صلاة الله على عباده ، وأنه يكون بمعنى دعائهم له ، وذكره الجميل ، وتكون حقيقة وقد تكون بمعنى رحمته له ،
إذ هو فائدة ذلك مجازا على معنى التعبير عن الشيء بفائدته.
المسألة الثانية ـ
في ذكر صلاة الملائكة :
قال العلماء : هو
دعاؤهم ، واستغفارهم ، وتبريكهم عليهم ، كما قال الله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وكما روى أبو هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم : الملائكة تصلّى على أحدكم ما دام في
مصلّاه الذي صلّى فيه ، اللهم صلّ عليه ، اللهم ارحمه.
المسألة الثالثة ـ
في ذكر صلاة الخلق عليه.
وفي ذلك روايات
مختلفة عن جماعة من الصحابة أوردناها في كتاب مختصر النيرين في شرح الصحيحين ، فمن
ذلك ثمان روايات :
الأولى ـ روى مالك
في الموطأ عن
أبى حميد الساعدىّ أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلّى عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : قولوا اللهمّ صلّ على محمد وعلى أزواجه وذرّيته ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على [آل] إبراهيم ، إنك حميد مجيد.
الثانية ـ روى
مالك ، عن أبى مسعود
الأنصارى ، قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة ، فقال بشير بن سعد
: أمرنا الله أن نصلّى عليك يا رسول الله ، فكيف نصلّى عليك؟
قال
: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال : قولوا
__________________
اللهم
صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم [وعلى آل إبراهيم] ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم في
العالمين ، إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم .
الثالثة ـ روى
النسائي ، عن طلحة مثله بإسقاط
قوله : في العالمين ، وقوله : والسلام كما قد علمتم.
الرابعة ـ عن كعب
بن عجرة ، قال عبد الرحمن بن أبى [ليلى] :
تلقّانى كعب بن
عجزة ، فقال : ألا أهدى لك هديّة؟ قلت : بلى. قال : خرج علينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله ، هذا السلام عليك قد علمناه ، فكيف الصلاة عليك؟
قال
: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد
، اللهم بارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
الخامسة ـ عن
بريدة الخزاعي ، قال : قلنا
يا رسول الله ، قد علمنا كيف السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ قال قولوا : اللهم
اجعل صلواتك ورحمتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على [آل] إبراهيم ، إنك حميد مجيد.
السادسة
ـ عن أبى سعيد الخدري ، قال : قلنا : يا رسول الله ، قد علمنا هذا السلام عليك ،
فكيف الصلاة عليك؟
قال
: قولوا : اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك ، كما صليت على إبراهيم ، وبارك على
محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم.
السابعة
ـ روى أبو داود ، عن أبى هريرة ، قال : من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى
علينا أهل البيت فليقل : اللهمّ صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين ،
وذريته وأهل بيته ، كما صليت على [آل] إبراهيم ، إنك حميد مجيد.
الثامنة ـ من طريق
علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد
، اللهم بارك على محمد ، وعلى آل
__________________
محمد
، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم ترحّم على محمد
وعلى آل محمد كما ترحّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم
وتحنّن على محمد وعلى آل محمد كما تحنّنت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد
مجيد ، اللهم سلّم على محمد وعلى آل محمد كما سلّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ،
إنك حميد مجيد.
المسألة الرابعة ـ
من هذه الروايات صحيح ، ومنها سقيم ، وأصحّها ما روى عن مالك فاعتمدوه. ورواية من
روى غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى ، وإنما
على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم ، وهم لا يأخذون في البيع دينارا
معيبا ، وإنما يختارون السالم الطيب ، كذلك في الدّين لا يؤخذ من الروايات عن
النبىّ صلى الله عليه وسلم إلّا ما صحّ سنده لئلا يدخل في خبر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يطلب
الفضل إذا به قد أصاب النقص ، بل ربما أصاب الخسران المبين.
المسألة الخامسة ـ
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في العمر مرة بلا خلاف ، فأما في الصلاة
فقال محمد بن الموّاز والشافعى : إنها فرض ، فمن تركها بطلت صلاته.
وقال سائر العلماء
: هي سنّة في الصلاة.
والصحيح ما قاله
محمد بن الموّاز للحديث الصحيح : إنّ الله أمرنا أن نصلّى عليك فكيف نصلّى عليك؟
فعلم الصلاة ووقتها ، فتعيّنا كيفيّة ووقتا. وقد بينّا ذلك في مسائل الخلاف.
المسألة السادسة ـ
من آل محمد؟
وقد بيناه في شرح
الحديث الصحيح.
وجملته قولان :
أحدهما ـ أنهم
أتباعه المتّقون ، وكذلك قال مالك.
وقال غيره : وهم
الأكثرون ـ هم أهله ، وهو الأصح لقوله في حديث : صلّ
على محمد وعلى آل محمد. وقال في آخر : وصل
على محمد وعلى أزواجه وذريته. فتارة فسّره بالذرية والأزواج ، وتارة أطلقه.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : كما صليت على إبراهيم ، وهي مشكلة جدّا ، لأنّ محمدا أفضل من إبراهيم ،
فكيف يكون أفضل منه ، ثم يطلب له أن يبلغ رتبته؟
وفي ذلك تأويلات
كثيرة أمهاتها عشرة :
الأول ـ أن ذلك
قيل له قبل أن يعرف بمرتبته ، ثم استمر ذلك فيه.
الثاني ـ أنه سأل
ذلك لنفسه وأزواجه ، لتتمّ عليهم النعمة ، كما تمت عليه.
الثالث ـ أنه سأل
ذلك له ولأمته على القول بأنّ آل محمد كل من اتبعه.
الرابع ـ أنه سأل
ذلك مضاعفا له ، حتى يكون لإبراهيم بالأصل ، وله بالمضاعفة.
الخامس ـ أنه سأل
ذلك لتدوم إلى يوم القيامة.
السادس ـ أنه
يحتمل أن يكون أراد ذلك له بدعاء أمته ، تكرمة لهم ونعمة عليهم بأن يكرم رسولهم
على ألسنتهم.
السابع ـ أن ذلك
مشروع لهم ليثابوا عليه.
قال صلى الله عليه
وسلم : من صلى علىّ صلاة
صلّى الله عليه عشرا.
الثامن ـ أنه أراد
أن يبقى له ذلك لسان صدق في الآخرين.
التاسع ـ أن معناه
اللهم ارحمه رحمة في العالمين يبقى بها دينه إلى يوم القيامة.
العاشر ـ أنّ
معناه اللهم صلّ عليه صلاة تتخذه بها خليلا ، كما اتخذت إبراهيم خليلا.
قال القاضي :
وعندي أيضا أنّ معناه أن تكون صلاة الله عليه بصلاته وصلاة أمّته كما غفر لهم بشرط
استغفاره ، فأعلم أنّ الله قد غفر له ، ثم كان يديم الاستغفار ، ليأتى بالشرط الذي
غفر له. وهذا تأكيد لما سبق من الأقوال ، وتحقيق فيها لما يقوى من الاحتمال.
الآية الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
__________________
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
أنّ عمر رضى الله عنه
بينما هو يمشى بسوق المدينة مرّ على امرأة مخترمة بين أعلاج قائمة بسوق بعض السلع
، فجلدها ، فانطلقت حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله
، جلدنى عمر بن الخطاب على غير شيء رآه منى ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقال : ما حملك على جلد ابنة عمك؟ فأخبره خبرها ، فقال : وابنة عمى هي يا
رسول الله ، أنكرتها إذ لم أر عليها جلبابا فظننتها وليدة.
فقال
الناس : الآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. قال عمر : وما نجد
لنسائنا جلابيب ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...) الآية.
المسألة الثانية ـ
اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة ، عمادها أنه الثوب الذي يستر به البدن
، لكنهم نوّعوه هاهنا ، فقد قيل : إنه الرداء. وقيل : إنه القناع.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَ).
قيل : معناه تغطى
به رأسها فوق خمارها. وقيل : تغطّى به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى.
المسألة الرابعة ـ
والذي أوقعهم في تنويعه أنهم رأوا الستر والحجاب مما تقدم بيانه ، واستقرت معرفته
، وجاءت هذه الزيادة عليه ، واقترنت به القرينة التي بعده ، وهي مما تبينه ، وهو
قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).
والظاهر أنّ ذلك
يسلب المعرفة عند كثرة الاستتار ، فدل ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
على أنه أراد تمييزهنّ على الإماء اللاتي يمشين حاسرات ، أو بقناع مفرد ، يعترضهنّ
الرجال فيتكشّفن ، ويكلمنهن ، فإذا تجلببت وتسترت كان ذلك حجابا بينها وبين المعترض
بالكلام ، والاعتماد بالإذاية ، وقد قيل : وهي :
المسألة السادسة ـ
أن المراد بذلك المنافقون.
قال قتادة : كانت
الأمة إذا مرّت تناولها المنافقون بالإذاية ، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء
، لئلا يلحقهن مثل تلك الإذاية.
__________________
وقد روى أنّ عمر
بن الخطاب كان يضرب الإماء على التستّر وكثرة التحجّب ، ويقول : أتتشبّهن بالحرائر؟
وذلك من ترتيب أوضاع الشريعة بيّن.
الآية الثالثة
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
أبو هريرة في الصحيح الثابت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنّ موسى
كان رجلا ستيرا حيّيا ما يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بنى
إسرائيل ، وقالوا : ما يتستر هذا التستر إلّا من عيب بجلده ، إما برص ، وإما آدر ، وإما آفة ، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا ، وإن
موسى خلا يوما وحده ، وخلع ثيابه ، ووضعها على حجر ، ثم اغتسل. فلما فرغ أقبل إلى
ثيابه ليأخذها ، وإنّ الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه ، فطلب الحجر ، فجعل يقول
: ثوبي ، حجر ، ثوبي ، حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بنى إسرائيل ، فرأوه عريانا أحسن
الناس خلقا ، وأبرأهم مما كانوا يقولون له.
قال : وقام إلى
الحجر ، وأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق موسى بالحجر ضربا بعصاه ، فو الله إن بالحجر لندبا
من أثر عصاه ثلاثا أو أربعا أو خمسا ، فذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) ... الآية. فهذه إذاية في بدنه.
وقد روى ابن عباس
، عن على بن أبى طالب في المنثور : أن
موسى وهارون صعدا الجبل فمات هارون ، فقال بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته ، وكان
ألين لنا منك ، وأشدّ حبّا ، فآذوه في ذلك ، فأمر الملائكة فحملته ، فمرّوا به على
مجالس بنى إسرائيل ، فتكلمت الملائكة بموته ، فما عرف موضع قبره إلا الرّخم ، وإن الله خلقه أصمّ أبكم ، وهذه إذاية في العرض.
__________________
المسألة الثانية ـ
في هذا النهى عن التشبّه ببني إسرائيل في إذاية نبيهم موسى. وفيه تحقيق الوعد
بقوله : لتركبنّ سنن من كان قبلكم ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
فوقع النهى ، تكليفا للخلق ، وتعظيما لقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووقع
المنهي عنه تحقيقا للمعجزة ، وتصديقا للنبي صلى الله عليه وسلم ،
وتنفيذا لحكم القضاء والقدر ، وردّا على المبتدعة. وقد بينا معاني الحديث في كتاب
مختصر النيرين.
الآية الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولاً).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
حقيقة العرض ، وقد بيناه في المشكلين.
المسألة الثانية ـ
في ذكر الأمانة ، وفيها اختلاط كثير من القول ، لبابه في عشرة أقوال:
الأول ـ أنها
الأمر والنهى ، قاله أبو العالية.
الثاني ـ أنها
الفرائض ، روى عن ابن عباس وغيره.
الثالث ـ أنها
أمانة الفرج عند المرأة ، قاله أبىّ.
الرابع ـ أن الله
وضع الرحم عند آدم أمانة.
الخامس ـ أنها
الخلافة.
السادس ـ أنها
الجنابة والصلاة والصوم ، قاله زيد بن أسلم.
السابع ـ أنها
أمانة آدم قابيل على أهله وولده ، فقتل قابيل هابيل.
الثامن ـ أنها
ودائع الناس.
التاسع ـ أنها
الطاعة.
العاشر ـ أنها
التوحيد.
فهذه الأقوال
كلّها متقاربة ، ترجع إلى قسمين :
أحدهما ـ التوحيد
، فإنه أمانة عند العبد ، وخفى في القلب ، لا يعلمه إلا الله ، ولذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم : إنى لم أومر أن أنقّب عن قلوب الناس.
ثانيهما ـ قسم
العمل ، وهو في جميع أنواع الشريعة ، وكلّها أمانة تختصّ بتأكيد الاسم فيها.
__________________
والمعنى ما كان
خفيا لا يطّلع عليه الناس ، فأخفاه أحقّه بالحفظ ، وأخفاه ألزمه بالرعاية وأولاه.
المسألة الثالثة ـ
تختصّ بالأحكام من هذه الجملة ثلاثة :
الأول ـ الودائع ،
وقد تقدم بيانها ، وأوضحنا وجه أداء الأمانة فيها ، وهل تقابل بخيانة أم لا؟
الثاني ـ أمانة
المرأة على حيضها وحملها. وقد تقدم بيانه.
الثالث ـ الوضوء
والغسل ، وهما أمانتان عظيمتان لا يعلمهما إلا الله ، وكذلك الصوم ، ولأجل ذلك جعل
لله وحده وهو يجزى به حسبما ورد ، ولذلك قال علماؤنا : إنّ الطهارة لما كانت خفيّة
لا يطلع عليها إلا الله وحده كان الحكم فيها إذا صلى إمام بقوم ، ثم ذكر أنه محدث
، فعليه الإعادة وحده ، ولا إعادة عليهم ، لأنّ حدثه أو طهارته لا تعلم حقيقة ،
وإنما تعلم بظاهر من القول ، واجتهاد في النظر ، ليس بنصّ ولا يقين ، وقد أديت
الصلاة وراءه باجتهاد ، ولا ينقض باجتهاد ، لأنه يجوز أن يكون ذكره للحدث غير صحيح
، وهو أيضا ناس فيه ، إذ هو غير محقّق له حتى بالغوا في ذلك النظر ، واستوفوا فيه
الحقّ ، فقالوا : إن الإمام إذا قال : صلّيت بكم منذ كذا وكذا سنة متعمّدا لترك
الطهارة ما استقبلت فيها قبلة بوضوء ، ولا اغتسلت عن جنابة ، ذنبا ارتكبته ، وسيئة
اجترمتها ، وأنا منها تائب لم يكن على واحد ممن صلّى وراءه إعادة ، والله حسيبه ،
لأن ذلك كله غير متحقق من قوله ، ولعل الأول هو الحق والصدق ، وهذا كذب لعلة أو
حيلة أو لتهوّر ، والله أعلم لا ربّ غيره.
__________________
فهرس السور ف القسم الثالث
١ ـ سورة يونس
|
١٠٤٧
|
|
١٣ ـ سورة الحج
|
١٢٧١
|
٢ ـ سورة هود
|
١٠٥٦
|
|
١٤ ـ سورة
المؤمنون
|
١٣٠٧
|
٣ ـ سورة يوسف
|
١٠٧٣
|
|
١٥ ـ سورة النور
|
١٣٢٤
|
٤ ـ سورة الرعد
|
١١٠٨
|
|
١٦ ـ سورة
الفرقان
|
١٤١٤
|
٥ ـ سورة
ابراهيم
|
١١١٦
|
|
١٧ ـ سورة
الشعراء
|
١٤٢٥
|
٦ ـ سورة الحجر
|
١١٢٦
|
|
١٨ ـ سورة النمل
|
١٤٤٨
|
٧ ـ سورة النحل
|
١١٤٠
|
|
١٩ ـ سورة القصص
|
١٤٦٤
|
٨ ـ سورة
الإسراء
|
١١٩١
|
|
٢٠ ـ سورة
العنكبوت
|
١٤٨٤
|
٩ ـ سورة الكهف
|
١٢٢٨
|
|
٢١ ـ سورة الروم
|
١٤٨٩
|
١٠ ـ سورة مريم
|
١٢٥٠
|
|
١٢ ـ سورة لقمان
|
١٤٩٣
|
١١ ـ سورة طه
|
١٢٥٦
|
|
٢٣ ـ سورة
السجدة
|
١٤٩٩
|
١٢ ـ سورة
الأنبياء
|
١٢٦٤
|
|
٢٤ ـ سورة
الأحزاب
|
١٥٠٣
|
فهرس القسم الثالث
السورة
|
أرقام الآيات
|
الصفحة
|
سورة يونس (٦)
|
١٠ ، ٢٢ ، ٣٢ ،
٥٢ ، ٦٤ ، ٨٧
|
١٠٤٧ ـ ١٠٥٥
|
سورة هود (٨)
|
١٥ ، ٢٥ ـ ٤٨ ،
٦٠ ، ٦٩ ، ٨٧ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٨
|
١٠٥٦ ـ ١٠٧٢
|
سورة يوسف (٢٢)
|
٥ ، ١٦ ـ ١٧ ،
١٨ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٦ ـ ٢٧ ، ٣٣ ، ٣٩ ، ٤٢ ، ٤٣ ، ٥٤ ـ ٥٥ ، ٥٦ ، ٦٧ ، ٧٠
، ٧٢ ، ٧٤ ـ ٧٥ ، ٨١ ، ٨٤ ، ٨٨ ، ١٠٠
|
١٠٧٣ ـ ١١٠٧
|
سورة الرعد (٥)
|
٨ ، ١٥ ، ٢٠ ،
٣٥ ، ٤٣
|
١١٠٨ ـ ١١١٥
|
سورة ابراهيم
(٤)
|
٥ ، ١٣ ، ٢٤ ـ ٢٥
، ٣٧
|
١١١٦ ـ ١١٢٥
|
سورة الحجر (١٠)
|
٢١ ، ٢٤ ، ٥٩ ـ ٦٠
، ٧١ ، ٧٢ ، ٧٥ ، ٨٠ ، ٨٥ ، ٨٧ ، ٩٨
|
١١٢٦ ـ ١١٣٩
|
سورة النحل (٢١)
|
٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ،
١٤ ، ١٦ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٦٨ ، ٧٢ ، ٧٥ ، ٨٠ ، ٨١ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٨ ، ١٠٦ ، ١١٦ ، ١٢٠ ،
١٢٤ ، ١٢٦
|
١١٤٠ ـ ١١٩٠
|
سورة
الإسراء(٢٠)
|
١ ، ١٦ ، ١٨ ـ ١٩
، ٢٣ ـ ٢٤ ، ٢٦ ـ ٢٨ ، ٢٩ ، ٣١ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٧ ـ ٣٩ ، ٤٤ ، ٦٤ ، ٦٦ ، ٧٠ ،
٧٨ ، ٧٩ ، ٨٥ ، ١٠١ ، ١١٠
|
١١٩١ ـ ١٢٢٧
|
سورة الكهف (٢٠)
|
٧ ، ١٩ ، ٢٠ ،
٢٤ ، ٢٥ ، ٣٩ ، ٤٦ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٣ ـ ٧٦ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٢
، ٩٤ ، ١٠٥
|
١٢٢٨ ـ ١٢٤٩
|
سورة مريم (٦)
|
٢ ـ ٣ ، ٤ ، ٥ ،
٢٥ ، ٩٣ ، ٩٦
|
١٢٥٠ ـ ١٢٥٥
|
سورة طه (٦)
|
١٢ ، ١٤ ، ١٧ ـ ١٨
، ٤٣ ـ ٤٥ ، ١١٥ ، ١٣٠
|
١٢٥٦ ـ ١٢٦٣
|
سورة الأنبياء
(٣)
|
٦٣ ، ٧٨ ، ٧٩
|
١٢٦٤ ـ ١٢٧٠
|
سورة الحج (١٦)
|
٥ ، ٢٥ ، ٢٦ ،
٢٧ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣٢ ـ ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٥٢ ـ ٥٤ ، ٧٧ ، ٧٨
|
١٢٧١ ـ ١٣٠٦
|
__________________
السورة
|
أرقام الآيات
|
الصفحة
|
سورة المؤمنون (١٢)
|
٢ ، ٥ ، ٦ ـ ٧ ،
٨ ، ٩ ، ١٨ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٦٠ ، ٦٧ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨
|
١٣٠٧ ـ ١٣٢٣
|
سورة النور (٢٩)
|
١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ،
٦ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٧ ، ١٩ ، ٢٢ ، ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٥ ، ٣٦
، ٤٨ ، ٥٣ ، ٥٥ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣
|
١٣٢٤ ـ ١٤١٣
|
سورة الفرقان (١١)
|
٧ ، ٤٧ ، ٤٨ ،
٥٤ ، ٥٨ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤
|
١٤١٤ ـ ١٤٢٦
|
سورة الشعراء
(٦)
|
٦٣ ، ٨٤ ، ٨٩ ،
١٣٠ ، ٢١٤ ، ٢٢٤
|
١٤٣٥ ـ ١٤٤٧
|
سورة النمل (١٦)
|
١٦ ، ١٧ ، ١٨ ،
١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٧ ، ٢٨ ـ ٣٠ ، ٣٢ ، ٣٥ ، ٣٨ ، ٤٩ ، ٩١
|
١٤٤٨ ـ ١٤٦٣
|
سورة القصص (٨)
|
١٠ ، ٨ ، ١٥ ،
٢٣ ، ٢٥ ، ٢٧ ـ ٢٩ ، ٥٥ ، ٧٧
|
١٤٦٤ ـ ١٤٨٣
|
سورة العنكبوت
(٤)
|
٨ ، ٢٨ ، ٤٥ ،
٤٦
|
١٤٨٤ ـ ١٤٨٨
|
سورة الروم (٣)
|
٥ ، ١٨ ، ٣٩
|
١٤٨٩ ـ ١٤٩٣
|
سورة لقمان (٥)
|
٦ ، ١٢ ، ١٤ ،
١٨ ، ١٩
|
١٤٩٣ ـ ١٤٩٨
|
سورة السجدة (٣)
|
١١ ، ١٦ ، ١٨
|
١٤٩٩ ـ ١٥٠٢
|
سورة الأحزاب
(٢٤)
|
٤ ، ٥ ، ٧ ، ٩ ،
٢٨ ـ ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٤٥ ـ ٤٦ ، ٤٩ ، ٥٠ ـ ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣
، ٥٤ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ٥٩ ، ٦٩ ، ٧٢
|
١٥٠٣ ـ ١٥٨٩
|
تم القسم الثالث بحمد
الله وتوفيقه ،
ويليه القسم الرابع
إن شاء الله ،
وأوله سورة سبأ ، وبه
يمّ الكتاب.
|