بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة

[............... الطبري شيخ الدين ، فجاء فيه بالعجب العجاب ، ونثر فيه ألباب الألباب ، وفتح فيه لكلّ من جاء بعده إلى معارفه الباب ؛ فكلّ أحد غرف منه على قدر إنائه ، وما نقصت قطرة من مائه ، وأعظم من انتقى منه الأحكام بصيرة : القاضي أبو إسحاق ، فاستخرج دررها ، واستحلب دررها ، وإن كان قد غيّر أسانيدها لقد ربط معاقدها ، ولم يأت بعدهما من يلحق بهما. ولما منّ الله سبحانه بالاستبصار في استثارة العلوم من الكتاب العزيز حسب ما مهّدته لنا المشيخة الذين لقينا ، نظرناها من ذلك المطرح ، ثم عرضناها على ما جلبه العلماء ، وسبرناها بعيار الأشياخ ، فما اتفق عليه النظر أثبتناه ، وما تعارض فيه شجرناه (١) ، وشحذناه حتى خلص نضاره وورق عراره ، فنذكر الآية ، ثم نعطف على كلماتها بل حروفها ، فنأخذ بمعرفتها مفردة ، ثم نركبها على أخواتها مضافة ، ونحفظ في ذلك قسم البلاغة ، ونتحرّز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة ، ونحتاط على جانب اللغة ، ونقابلها في القرآن بما جاء في السّنة الصحيحة ، ونتحرّى وجه الجميع ؛ إذ الكلّ من عند الله ، وإنما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبيّن للناس ما نزّل إليهم ، ونعقّب على ذلك بتوابع لا بد من تحصيل العلم بها منها ، حرصا على أن يأتى القول مستقلّا بنفسه ، إلا أن يخرج عن الباب فنحيل عليه في موضوعه مجانبين للتقصير والإكثار ، وبمشيئة الله نستهدي ، فمن يهدى الله فهو المهتدى لا ربّ غيره (٢)].

__________________

(١) شجرناه : نحيناه.

(٢) من م.


سورة الفاتحة فيها

خمس آيات

الآية الأولى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

اتفق الناس على أنها آية من كتاب الله تعالى في سورة النمل (١) ، واختلفوا في كونها في أول كلّ سورة ، فقال مالك وأبو حنيفة : ليست في أوائل السّور بآية ، وإنما هي استفتاح ليعلم بها مبتدؤها.

وقال الشافعى : هي آية في أول الفاتحة ، قولا واحدا ؛ وهل تكون آية في أول كلّ سورة؟ اختلف قوله في ذلك ؛ فأما القدر الذي يتعلّق بالخلاف من قسم التوحيد والنظر في القرآن وطريق إثباته قرآنا ، ووجه اختلف المسلمين في هذه الآية منه ـ فقد استوفيناه في كتب الأصول ، وأشرنا إلى بيانه في مسائل الخلاف ، ووددنا أنّ الشافعى لم يتكلّم في هذه المسألة ، فكلّ مسألة له ففيها إشكال عظيم ، ونرجو أنّ الناظر في كلامنا فيها سيمحى (٢) عن قلبه ما عسى أن يكون قد سدل من إشكال به.

وفائدة الخلاف في ذلك الذي يتعلق بالأحكام أنّ قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة عندنا وعند الشافعى ، خلافا لأبى حنيفة حيث يقول : إنها مستحبّة ، فتدخل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في الوجوب عند من يراه ، أو في الاستحباب ، [كذلك] (٣). ويكفيك أنها ليست (٤) بقرآن للاختلاف فيها ، والقرآن لا يختلف فيه ، فإنّ إنكار القرآن كفر.

__________________

(١) أى في قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.) وفي ص : لا خلاف في أنها ليست بآية تامة في سورة النمل ، وأنها هناك بعض آية ، وأن ابتداء الآية من قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ، ومع ذلك فكونها ليست آية تامة في سورة النمل لا يمنع أن تكون آية في غيرها لوجود مثلها في القرآن.

(٢) في م : سيمسح.

(٣) ليس في م.

(٤) في القرطبي : ليست من القرآن اختلاف الناس فيها.


فإن قيل : ولو لم تكن قرآنا لكان مدخلها في القرآن كافرا.

قلنا : الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية ، ويمنع من تكفير من يعدّها من القرآن ، فإنّ الكفر لا يكون إلّا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد.

فإن قيل : فهل تجب قراءتها في الصلاة؟ قلنا : لا تجب ، فإنّ أنس بن مالك رضى الله عنه روى أنه صلّى خلف رسول الله [٢] صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر ، فلم يكن أحد منهم يقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ؛ ونحوه عن عبد الله بن مغفّل.

فان قيل : الصحيح من حديث انس ؛ فكانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وقد قال الشافعى : معناه انهم كانوا لا يقرؤون شيئا قبل الفاتحة.

قلنا : وهذا يكون تأويلا (١) لا يليق بالشافعي لعظيم فقهه ، وانس وابن مغفل ؛ إنما قالا هذا ردّا على من يرى قراءة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

فإن قيل : فقد روى جماعة قراءتها ، وقد تولى الدّارقطنيّ جميع ذلك في جزء صحّحه.

قلنا : لسنا ننكر الرواية ، لكن مذهبنا يترجّح بأنّ أحاديثنا وإن كانت أقلّ فإنها أصحّ وبوجه عظيم وهو المعقول في مسائل كثيرة من الشريعة ، وذلك أنّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرّت عليه الأزمنة من لدن زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد [قط] (٢) فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، اتّباعا للسنة ؛ بيد أنّ أصحابنا استحبّوا قراءتها في النّفل ، وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها.

المسألة الثانية ـ ثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال الله تعالى : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل. يقول العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله تعالى : حمدنى عبدى. يقول العبد : الرحمن الرحيم. يقول الله تعالى : أثنى علىّ عبدى. يقول العبد : مالك يوم الدّين. يقول تعالى : مجّدنى عبدى (٣). يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين. يقول الله تعالى : فهذه الآية بيني وبين عبدى ولعبدي ما سأل يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب

__________________

(١) في ا : قلنا هذا تأويل.

(٢) ليس في م.

(٣) في ص : فوض إلى عبدى.


عليهم ولا الضالّين. يقول الله : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل.

فقد تولّى سبحانه قسمة القرآن (١) بينه وبين العبد بهذه الصفة ، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.

وهذا دليل قوىّ ، مع أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وثبت عنه أنه قال : من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج (٢) ثلاثا ـ غير تمام (٣).

الآية الثانية ـ قوله تعالى : (٤) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

اعلموا علّمكم الله المشكلات أنّ البارئ تعالى حمد نفسه ، وافتتح بحمده كتابه ، ولم يأذن في ذلك لأحد من خلقه ، بل نهاهم في محكم كتابه ، فقال : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (٥) ، ومنع بعض الناس من أن يسمع مدح بعض له ، أو يركن إليه ، وأمرهم بردّ ذلك ، وقال : احثوا (٦) في وجوه المدّاحين التراب ـ رواه المقداد وغيره.

وكأن في مدح الله لنفسه وحمده لها وجوها منها ثلاث أمهات :

الأول ـ أنه علّمنا كيف نحمده ، وكلّفنا حمده والثناء عليه ؛ إذ لم يكن لنا سبيل إليه إلا به.

الثاني ـ أنه قال بعض الناس معناه : قولوا الحمد لله ، فيكون فائدة ذلك التكليف لنا. وعلى هذا تخرّج قراءة من قرأ بنصب الدال في الشاذ.

الثالث ـ أنّ مدح النفس إنما نهى عنه لما يدخل عليها من العجب بها ، والتكثّر على الخلق من أجلها ، فاقتضى ذلك الاختصاص بمن يلحقه التغيّر ولا يجوز منه التكثر وهو المخلوق ، ووجب ذلك للخالق لأنه أهل الحمد.

وهذا هو الجواب الصحيح والفائدة المقصودة.

الآية الثالثة ـ قوله [٣] تعالى (٧) : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ يقول الله تعالى : فهذه الآية بيني وبين عبدى ، وقد روينا

__________________

(١) في ا : القراءة.

(٢) الخداج : النقصان ، يريد ذات خداج ، وصفها بالمصدر مبالغة ، أو على حذف مضاف ؛ أى ذات خداج.

(٣) ثلاثا : أى كرر قوله : فهي خداج ـ ثلاث مرات.

(٤) الفاتحة : ٢

(٥) النجم : ٣٢

(٦) احثوا : ارموا.

(٧) الفاتحة : ٥


عن النبي صلى الله عليه وسلم واسندنا لكم أنه قال : قال الله تعالى : يا بن آدم ، أنزلت عليك سبعا ، ثلاثا لي ، وثلاثا لك ، وواحدة بيني وبينك ؛ فأما الثلاث التي لي ف (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وأما الثلاث التي (١) لك ف (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). وأما الواحدة التي بيني وبينك ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). يعنى من العبد العبادة ، ومن الله سبحانه العون.

المسألة الثانية ـ قال أصحاب الشافعى : هذا يدلّ على أنّ المأموم يقرؤها ، وإن لم يقرأها فليس له حظّ في الصلاة لظاهر هذا الحديث.

ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال :

الأول ـ يقرؤها إذا أسرّ خاصة ـ قاله ابن القاسم.

الثاني ـ قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمد : لا يقرأ.

الثالث ـ قال محمد بن عبد الحكم : يقرؤها خلف الإمام ، فإن لم يفعل أجزأه ، كأنه رأى ذلك مستحبّا.

والمسألة عظيمة الخطر ، وقد أمضينا القول في مسائل الخلاف في دلائلها بما فيه غنية(٢).

والصحيح عندي وجوب قراءتها فيما يسرّ وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام ، لما عليه من فرض الإنصات له والاستماع لقراءته ، فإن كان عنه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السرّ ؛ لأنّ أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بقراءتها عامّ في كل صلاة وحالة ، وخصّ من ذلك حالة الجهر بوجوب فرض الإنصات ، وبقي العموم في غير ذلك على ظاهره ، وهذه نهاية التحقيق في الباب. والله أعلم.

الآية الرابعة والخامسة ـ قوله تعالى : (٣) (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٤).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ لا خلاف أنّ الفاتحة سبع آيات ، فإذا عددت فيها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

__________________

(١) انظر ما سيأتى في الصفحة التالية ، إذ يقول : والصحيح أن قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) خاتمة آية.

(٢) الغنية : الاستغناء والكفاية.

(٣) الفاتحة : ٦ ، ٧

(٤) يجرى المؤلف على أن يقول : إلى آخر السورة ، أو : إلى آخر الآية ، فآثرنا أن نكمل هذه الآيات ليستقل القارئ بالفهم.


آية اطّرد العدد ، وإذا أسقطتها تبيّن تفصيل العدد فيها.

قلنا : إنما الاختلاف بين أهل العدد في قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ـ هل هو خاتمة آية أو نصف آية؟ ويركب هذا الخلاف في عدّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

والصحيح أنّ قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) خاتمة آية ؛ لأنه كلام تامّ مستوفى.

فإن قيل : فليس بمقفّى على نحو الآيات [قبله] (١).

قلنا : هذا غير لازم في تعداد الآي ، واعتبره بجميع سور القرآن وآياته تجده صحيحا إن شاء الله تعالى ، كما قلنا.

المسألة الثانية ـ ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا قال الإمام : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقولوا : آمين ؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه.

وثبت عنه أنه قال : إذا أمّن الإمام فأمّنوا ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ؛ فترتيب المغفرة للذنب على أربع مقدمات ذكر منها ثلاثا وأمسك عن واحدة ، لأن ما بعدها يدلّ عليها : المقدمة الأولى تأمين الإمام. الثانية تأمين من خلفه. الثالثة تأمين الملائكة. الرابعة موافقة التأمين. فعلى هذه المقدمات الأربع تترتّب المغفرة. وإنما أمسك عن الثالثة (٢) اختصارا لاقتضاء الرابعة لها فصاحة ؛ وذلك يكون في البيان للاسترشاد والإرشاد ، ولا يصحّ ذلك [٤] مع جدل أهل العناد ، وقد بيناه في أصول الفقه.

المسألة الثالثة ـ اختلف في قوله : «آمين» ، فقيل هو على وزن فاعيل كقوله يامين. وقيل فيه أمين على وزن يمين ؛ الأولى ممدودة ، والثانية مقصورة ، وكلاهما لغة ، والقصر أفصح وأخصر ، وعليها من الخلق الأكثر.

المسألة الرابعة ـ في تفسير هذه اللفظة : وفي ذلك ثلاثة أقوال :

قيل : إنها اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يصح نقله ولا ثبت قوله.

الثاني : قيل معناه اللهم استجب ، وضعت موضع الدعاء اختصارا.

الثالث : قيل معناه كذلك يكون ، والأوسط أصحّ وأوسط.

__________________

(١) ليس في م.

(٢) في م : عن الرابعة.


المسألة الخامسة ـ هذه كلمة لم تكن لمن قبلنا ، خصّنا الله سبحانه بها ، في الأثر عن ابن عباس أنه قال : ما حسدكم أهل الكتاب على شيء ما حسدوكم على قولكم : «آمين».

المسألة السادسة ـ في تأمين المصلّى ، ولا يخلو أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا ، فأما المنفرد فإنه يؤمّن (١) اتفاقا. وأما المأموم فإنه يؤمّن في صلاة السرّ (٢) لنفسه إذا أكمل قراءته ، وفي صلاة الجهر إذا أكمل القراءة إمامه يؤمّن. وأما الإمام فقال مالك : لا يؤمّن ، ومعنى قوله عنده إذا أمّن الإمام : إذا بلغ مكان التأمين ، كقولهم : أنجد الرجل إذا بلغ نجدا.

وقال ابن حبيب : يؤمّن. قال ابن بكير : هو بالخيار ، فإذا أمّن الإمام فإنّ الشافعى قال : يؤمّن المأموم جهرا. وأبو حنيفة وابن حبيب يقولان : يؤمّن سرّا.

والصحيح عندي تأمين الإمام جهرا ؛ فإنّ ابن شهاب قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين ، خرّجه البخاري ومسلم (٣) وغيرهما. وفي البخاري : حتى إنّ للمسجد للجّة (٤) من قول الناس آمين.

وفي كتاب الترمذي : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين ، حتى يسمع من الصفّ. وكذلك رواه أبو داود ، وروى عن وائل بن حجر : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قراءة الفاتحة قال : آمين ، يرفع بها صوته.

المسألة السابعة ـ ليس في أمّ القرآن حديث يدلّ على فضلها إلا حديثان :

أحدهما حديث : قسّمت (٥) الصلاة بيني وبين عبدى نصفين ...

الثاني حديث أبىّ بن كعب : لأعلمنك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها.

وليس في القرآن حديث صحيح في فضل سورة إلا قليل سنشير إليه ، وباقيها لا ينبغي لأحد منكم أن يلتفت إليها.

__________________

(١) في م : فليؤمن.

(٢) في م : فإنه يؤمن في صلاة الجهر ... وفي صلاة السر.

(٣) صحيح مسلم : ٣٠٧

(٤) اللجة : الجلبة. يعنى أصوات المصلين.

(٥) صحيح مسلم : ٢٩٦


سورة البقرة

اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّ علماءنا قالوا : إنّ هذه السورة من أعظم سور القرآن ؛ سمعت بعض أشياخى يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهى ، وألف حكم ، وألف خبر. ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثماني سنين في تعلّمها ، وقد أوردنا ذلك عليكم مشروحا في الكتاب الكبير في أعوام ، وليس في فضلها حديث صحيح إلّا من طريق أبى هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، وإنّ البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان. خرّجه الترمذي. وعدم الهدى وضعف القوى وكلب الزمان على الخلق بتعطيلهم وصرفهم عن الحق.

والذي حضر الآن من أحكامها في هذا المجموع تسعون آية :

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى : (يُؤْمِنُونَ). قد بيّنا حقيقة الإيمان في كتب الأصول ومنها تؤخذ.

المسألة الثانية ـ [٥] قوله : (بِالْغَيْبِ). وحقيقته ما غاب عن الحواسّ مما لا يوصل إليه إلّا بالخبر دون النّظر ، فافهموه.

وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال :

الأول ـ ما ذكرناه كوجوب البعث ، ووجود الجنة ونعيمها وعذابها والحساب. الثاني بالقدر. الثالث بالله تعالى. الرابع يؤمنون بقلوبهم الغائبة عن الخلق لا بألسنتهم التي يشاهدها (٢) الناس ؛ معناه ليسوا بمنافقين.

وكلها قويّة إلا الثاني والثالث ؛ فإنه يدرك بصحيح النظر ، فلا يكون غيبا حقيقة ، وهذا الأوسط وإن كان عامّا فإنّ مخرجه على الخصوص.

والأقوى هو الأول ؛ أنه الغيب الذي أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدى إليه

__________________

(١) الآية الثالثة.

(٢) في ا : شاهدها.


المعقول ، والإيمان بالقلوب الغائبة عن الخلق ، ويكون موضع المجرور على هذا رفعا ، وعلى التقدير الأول يكون نصبا ، كقولك : مررت بزيد. ويجوز أن يكون الأول مقدّرا نصبا ، كأنه يقول : جعلت قلبي محلّا للإيمان ، وذلك الإيمان بالغيب عن الخلق.

وكلّ هذه المعاني صحيحة لا يحكم له بالإيمان ولا بحمى الذمار ، ولا يوجب له الاحترام ، إلّا باجتماع هذه الثلاث ؛ فإن أخلّ بشيء منها لم يكن له حرمة ولا يستحقّ عصمة.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قال علماؤنا : في ذكر الصلاة في هذه الآية قولان :

أحدهما أنها مجملة ، وأنّ الصلاة لم تكن معروفة عندهم حتى بيّنها النبىّ صلى الله عليه وسلم.

الثاني أنها عامّة في متناول الصلاة حتى خصّها النبىّ صلى الله عليه وسلم بفعله المعلوم في الشريعة.

وقد استوفينا القول في ذلك عند ذكر أصول الفقه.

والصحيح عندي أنّ كلّ لفظ عربىّ يرد مورد التكليف في كتاب الله عزّ وجلّ مجمل موقوف بيانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلّا أن يكون معناه متحدا (٢) لا يتطرّق إليه اشتراك ؛ فإن تطرّق إليه اشتراك ، واستأثر الله عزّ وجلّ برسوله صلى الله عليه وسلم قبل بيانه ، فإنه يجب طلب ذلك في الشريعة على مجمله ، فلا بدّ أن يوجد ، ولو فرضنا عدمه لارتفع التكليف به ، وذلك تحقّق في موضعه.

وقد قال عمر رضى الله عنه في دون هذا أو مثله : ثلاث وددت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها عهدا تنتهي إليه : الجدّ ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الرّبا.

فتبيّن من هذا أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لما أسرى به ، وفرض عليه الصلاة ، ونزل سحرا جاءه جبريل عليه السّلام عند صلاة الظهر فصلّى به وعلّمه ، ثم وردت الآيات بالأمر

__________________

(١) الآية الثالثة.

(٢) هكذا في ا ، م. ولعله : محدودا.


بها والحثّ عليها ؛ فكانت واردة بمعلوم على معلوم ، وسقط ما ظنّه هؤلاء من الموهوم.

المسألة الثانية ـ (وَيُقِيمُونَ) ؛ فيه قولان :

الأول يديمون فعلها في أوقاتها ، من قولك : شيء قائم ، أى دائم.

والثاني معناه يقيمونها بإتمام أركانها واستيفاء أقوالها وأفعالها ، وإلى هذا المعنى أشار بقوله : من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (١) : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في اشتقاق النفقة ، وهي عبارة عن الإتلاف ، ولتأليف «نفق» في لسان العرب معان ، أصحّها الإتلاف ، وهو المراد هاهنا ، يقال نفق (٢) [٦] الزاد ينفق إذا فنى ، وأنفقه صاحبه : أفناه ، وأنفق القوم : فنى زادهم ، ومنه قوله تعالى (٣) : (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ).

المسألة الثانية ـ في وجه هذا الإتلاف ؛ وذلك يختلف ، إلا أنّه لما اتّصل بالمدح تخصّص (٤) من إجماله جملة. وبعد ذلك التخصيص اختلف العلماء فيه على خمسة أقوال :

الأول أنه الزكاة المفروضة ـ عن ابن عباس.

الثاني أنه نفقة الرجل على أهله ـ قاله ابن مسعود.

الثالث صدقة التطوّع ـ قاله الضحاك.

الرابع أنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة.

الخامس أنّ ذلك منسوخ بالزكاة.

(التوجيه) أما وجه من قال : «إنه الزكاة» فنظر إلى أنّه قرن بالصلاة ، والنفقة المقترنة [في كتاب الله تعالى] (٥) بالصلاة هي الزكاة.

وأما من قال : إنه النفقة على عياله فلأنه أفضل النفقة. روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل : عندي دينار. قال : أنفقه على نفسك. قال : عندي آخر. قال : أنفقه على أهلك ، وذكر الحديث ، فبدأ بالأهل بعد النفس.

__________________

(١) الآية الثالثة.

(٢) الفعل كفرح ونصر.

(٣) سورة الإسراء : ١٠٠

(٤) في م : تخصيص.

(٥) ليس في م.


وفي الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة على القرابة صدقة وصلة.

وأما من قال : إنه صدقة التطوّع فنظر إلى أنّ الزكاة لا تأتى إلا بلفظها المختصّ بها ، وهو الزكاة ، فإذا جاءت بلفظ الصدقة (١) احتملت الفرض والتطوّع ، وإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم يكن إلّا التطوع.

وأما من قال : إنه في الحقوق العارضة في الأموال ما عدا الزكاة فنظر إلى أنّ الله تعالى لمّا قرنه بالصلاة كان فرضا ، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.

وأما من قال : إنه منسوخ فنظر إلى أنه لما كان بهذا الوجه فرضا سوى الزكاة ، وجاءت الزكاة المفروضة فنسخت كلّ صدقة جاءت في القرآن ، كما نسخ صوم رمضان كلّ صوم ، ونسخت الصلاة كلّ صلاة ، ونحو هذا جاء في الأثر.

(لتنقيح) إذا تأمّل اللبيب المنصف هذه التوجيهات تحقّق أن الصحيح المراد (٢) بقوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) كلّ غيب أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كائن. وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) عامّ في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا. وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) عامّ في كلّ نفقة ، وليس في قوّة هذا الكلام القضاء بفرضيّة ذلك كلّه ، وإنما علمنا الفرضيّة في الإيمان والصلاة والنفقة من دليل آخر ، وهذا القول بمطلقه يقتضى مدح ذلك كله خاصة كيفما كانت صفته.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

المراد بهذه الآية وما بعدها المنافقون الذين أظهروا الإيمان ، وأسرّوا الكفر ، واعتقدوا أنهم يخدعون الله تعالى ، وهو منزّه عن ذلك ؛ فإنه لا يخفى عليه شيء. وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه ، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع ، وقد تكلمنا عليه في موضعه.

والحكم المستفاد هاهنا أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بهم وقيام الشهادة عليهم أو على أكثرهم.

واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :

__________________

(١) في القرطبي : فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة

(٢) في ا : أن الصحيح أن المراد

(٣) الآية الثامنة.


الأول (١) ـ أنه لم يقتلهم ، لأنه لم يعلم حالهم سواه ، وقد اتفق العلماء عن (٢) [٧] بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإن اختلفوا في سائر الأحكام هل يحكم بعلمه أم لا؟

الثاني ـ أنه لم يقتلهم لمصلحة وتألّف القلوب عليه (٣) لئلا تنفر عنه. وقد أشار هو صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى ، فقال : أخاف أن يتحدّث الناس أنّ محمدا صلى عليه وسلم يقتل أصحابه.

الثالث ـ قال أصحاب الشافعى : إنما لم يقتلهم لأنّ الزنديق (٤) ـ وهو الذي يسرّ الكفر ويظهر الإيمان ـ يستتاب ولا يقتل.

وهذا وهم من علماء أصحابه ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق غير واجبة (٥). وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم ، مع علمه بهم ، فهذا المتأخّر من أصحاب الشافعى الذي قال : إن استتابة الزنديق جائزة ، قال ما لم يصحّ قولا واحدا.

وأما قول من قال إنه لم يقتلهم لأن الحاكم لا يقضى بعلمه في الحدود ، فقه قتل بالمجذّر ابن زياد ـ بعلمه ـ الحارث بن سويد بن الصامت ، لأن المجذّر قتل أباه سويدا يوم بعاث ، فأسلم الحارث ، وأغفله يوم أحد الحارث فقتله ، فأخبر به جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتله به ؛ لأن قتله كان غيلة (٦) ، وقتل الغيلة حدّ من حدود الله عزّ وجلّ.

والصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم إنما أعرض عنهم تألّفا ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير ، كما سبق من قوله. وهذا كما كان يعطى الصدقة للمؤلّفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألّفا لهم ، أجرى الله سبحانه أحكامه على الفائدة التي سنّها إمضاء لقضاياه (٧) بالسنة التي لا تبديل لها.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٨) : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً).

__________________

(١) في ا : أحدها.

(٢) في م : على.

(٣) في ا : مصلحة ولتأليف القلوب عليه فلا.

(٤) الزنديق : هو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان (ق).

(٥) في القرطبي : أن استتابة الزنديق واجبة

(٦) قتله غيلة : خدعه فقتله. والخبر في الإصابة : ٣ : ٣٤٣ ، والإكمال ٢ : ٢٤٢.

(٧) في م : وإمضاء للقدر بالسنة.

(٨) الآية الثانية والعشرون.


قال أصحاب الشافعى : لو حلف رجل لا يبيت على فراش ، ولا يستسرج سراجا ، فبات على الأرض ، وجلس في الشمس لم يحنث ، لأنّ اللفظ لا يرجع إليهما (١) عرفا (٢).

وأما علماؤنا (٣) فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية ، أو السبب ، أو البساط ، التي (٤) جرت عليه اليمين ، فإن عدم ذلك فالعرف ، وبعد أن لم يكن ذلك (٥) على مطلق اللفظ في اللغة ، وذلك محقّق في مسائل الخلاف.

والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : الأعمال بالنية ، ولكل امرئ ما نوى.

وهذا عامّ في العبادات والمعاملات ، وهذا حديث غريب اجتمعت فيه فائدتان :

إحداهما تأسيس القاعدة.

والثانية عموم اللفظ ، في كلّ حكم (٦) منوىّ. والذي يقول إنه إن حلف ألّا يفترش فراشا وقصد بيمينه الاضطجاع ، أو حلف ألّا يستصبح ، ونوى (٧) ألّا ينضاف إلى نور عينيه نور يعضده ، فإنه يحنث بافتراش الأرض والتنوّر بالشمس ، وهذا حكم جار على الأصل. الآية السادسة ـ قوله تعالى (٨) : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

لم تزل هذه الآية مخبوءة تحت أستار المعرفة حتى هتكها الله عزّ وجلّ بفضله لنا ، وقد تعلّق كثير من الناس بها (٩) في أن أصل الأشياء الإباحة ، إلا ما قام عليه دليل بالحظر (١٠) ، واغترّ به (١١) بعض المحققين وتابعهم عليه.

وقد حققناها في أصول الفقه بما الإشارة إليه أن الناس اختلفوا في هذه الآية على ثلاثة أقوال :

الأول أن الأشياء كلّها على الحظر حتى يأتى دليل الإباحة.

__________________

(١) في ا : إليها.

(٢) في ص : لأن الأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من الأسماء ، وليس في العادة إطلاق هذا الاسم للأرض والشمس.

(٣) في ق : وأما المالكية. وعند ما يقول المؤلف : علماؤنا ، فإنما يريد المالكية.

(٤) في ا : الذي.

(٥) في ا : وبعد أن لم يكن ذلك حمل على مطلق اللفظ.

(٦) في ا : والثانية عموم اللفظ فكل حكم.

(٧) في م : وقصد.

(٨) الآية التاسعة والعشرون.

(٩) في ا : بهذا.

(١٠) في م : بالنظر.

(١١) في م : واعتبر.


الثاني أنها كلّها على الإباحة حتى [٨] يأتى دليل الحظر.

الثالث أن لا حكم لها حتى يأتى الدليل بأى حكم اقتضى فيها (١).

والذي يقول بأن أصلها إباحة أو حظر اختلف منزعه في دليل ذلك ؛ فبعضهم تعلق فيه بدليل العقل ، ومنهم من تعلق بالشرع.

والذي يقول : إن طريق ذلك الشرع قال : الدليل على الحكم بالإباحة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، فهذا سياق (٢) القول في المسألة إلى الآية.

فأما سائر الأقسام المقدمة فقد أوضحناها في أصول الفقه ، وبيّنا أنه لا حكم للعقل ، وأن الحكم للشرع ؛ ولكن ليس لهذه الآية في الإباحة ودليلها مدخل ولا يتعلق بها محصل.

وتحقيق ذلك أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الدلالة ، والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم وجريانها في التقديم والتأخير بحكم الإرادة ، وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بها ، فقال (٣) : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ).

فخلقه سبحانه وتعالى الأرض ، وإرساؤها بالجبال ، ووضع البركة فيها ، وتقدير الأقوات بأنواع الثمرات وأصناف النبات إنما كان لبنى آدم ؛ تقدمة لمصالحهم ، وأهبة لسدّ مفاقرهم ، فكان قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) مقابلة الجملة بالجملة ؛ للتنبيه على القدرة المهيّأة لها للمنفعة والمصلحة ، وأن جميع ما في الأرض إنما هو لحاجة الخلق ؛ والبارئ تعالى غنىّ عنه متفضّل به ، وليس في الإخبار بهذه العبارة (٤) عن هذه الجملة ما يقتضى حكم الإباحة ، ولا جواز التصرّف ؛ فإنه لو أبيح جميعه جميعهم جملة منثورة النظام لادّى ذلك إلى قطع الوصائل والأرحام ، والتهارش في الحطام (٥). وقد بيّن لهم طريق الملك ، وشرح لهم مورد الاختصاص ، وقد اقتتلوا وتهارشوا وتقاطعوا ؛ فكيف لو شملهم التسلّط وعمّهم

__________________

(١) في ا : اقتضاه فيها.

(٢) في ا : بمعونة انسياق.

(٣) سورة فصلت ، آية ٩ ، ١٠

(٤) م : بهذه القدرة.

(٥) التهارش : التقاتل. والحطام ـ كغراب : ما تكسر من اليبس.


الاسترسال ؛ وإنما يجب على الخلق ـ إذا سمعوا هذا النداء ـ أن يخرّوا سجّدا ؛ شكرا لله تعالى لهذه الحرمة لحق ما ذلك من نعمه ، ثم يتوكّفوا (١) بعد ذلك سؤال وجه الاختصاص لكلّ واحد بتلك المنفعة.

ونظير هذا من المتعارف بين الخلق على سبيل التقريب لتفهيم الحقّ ما لو قال حكيم لبنيه : قد أعددت لكم ما عندي من كراع (٢) وسلاح ومتاع وعرض وقرض لما كان ذلك مقتضيا لتسليطهم عليه كيف شاءوا حتى يكون منه بيان كيفية اختصاصهم.

وقد قال الله سبحانه : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ـ يعنى في الجنة. فلا يصل أحد منهم إليه إلّا بتبيان حظّه منه وتعيين اختصاصه به.

الآية السابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

قال علماؤنا : البشارة هي الإخبار عن المحبوب ، والنذارة هي الإخبار بالمكروه ، وذلك في البشارة يقتضى أول مخبر بالمحبوب ، ويقتضى في النّذارة كلّ مخبر.

وترتّب على هذا مسألة من الأحكام ، وذلك قول المكلّف : من بشرنى من عبيدي بكذا فهو حرّ.

فاتفق العلماء على أنّ أول مخبر له به يكون عتيقا دون الثاني.

ولو قال : من أخبرنى من عبيدي بكذا فهو حرّ ، فهل يكون الثاني مثل الأول أم لا؟ اختلف الناس فيه (٤) ؛ فقال أصحاب الشافعىّ : يكون حرّا ؛ لأن كل واحد منهم مخبر [٩]. وعند علمائنا لا يكون به حرّا ؛ لأن الحالف إنما قصد خبرا يكون بشارة ، وذلك يختصّ بالأول ، وهذا معلوم عرفا ، فوجب صرف اللفظ إليه.

فإن قيل : فقد قال الله تعالى (٥) : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، فاستعمل البشارة في المكروه.

فالجواب أنّهم كانوا يعتقدون أنهم يحسنون ، وبحسب ذلك كان نظرهم للبشرى ، فقيل لهم : بشارتكم على مقتضى اعتقادكم عذاب أليم. فخرج اللفظ على ما كانوا يعتقدون أنهم

__________________

(١) التوكف : التوقع والانتظار.

(٢) الكراع : اسم يجمع الخيل.

(٣) الآية الخامسة والعشرون.

(٤) في ا : اختلفوا فيه.

(٥) سورة آل عمران ، آية ٢١


محسنون ، وبحسب ذلك كان نظر له على الحقيقة ، كقوله تعالى (١) : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

الآية الثامنة ـ قوله تعالى (٢) : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

العهد على قسمين :

أحدهما فيه الكفّارة ، والآخر لا كفّارة فيه ، فأما الذي فيه الكفّارة فهو الذي يقصد به اليمين على الامتناع عن الشيء أو الإقدام عليه.

وأما العهد الثاني فهو العقد الذي يرتبط به المتعاقدان على وجه يجوز في الشريعة ويلزم في الحكم ، إما على الخصوص بينهما ، وإما على العموم على الخلق ، فهذا لا يجوز حلّه ، ولا يحلّ نقضه ، ولا تدخله كفّارة ، وهو الذي يحشر ناكثه غادرا (٣) ، ينصب له لواء بقدر غدرته ، يقال : هذه غدرة فلان.

وأما مالك فيقول : العهد باليمين ، لم يجز حلّه لأجل العقد (٤) وهو المراد بقوله تعالى(٥) : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً). وهذا ما لا اختلاف فيه.

الآية التاسعة ـ قوله تعالى (٦) : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).

اتفقت الأمة على أن السجود لآدم لم يكن سجود عبادة ، وإنما كان على أحد وجهين : إما سلام الأعاجم بالتكفّى والانحناء والتعظيم ، وإما وضعه قبلة كالسجود للكعبة وبيت المقدس ، وهو الأقوى ؛ لقوله في الآية الأخرى (٧) : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). ولم يكن على معنى التعظيم ؛ وإنما صدر على وجه الإلزام للعبادة واتخاذه قبلة ، وقد نسخ الله تعالى جميع ذلك في هذه الملة.

الآية العاشرة ـ قوله تعالى (٨) : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) سورة الفرقان ، آية ٢٤

(٢) الآية السابعة والعشرون.

(٣) نكث العهد : نقضه.

(٤) في م : وذلك هذا العهد باليمن لم يجز حده.

(٥) سورة النحل ، آية ٩١

(٦) الآية الرابعة والثلاثون.

(٧) سورة الحجر ، آية ٢٩

(٨) الآية الخامسة والثلاثون.


المسألة الأولى ـ جاء في كتاب التفسير أنّ إبليس حاول آدم على أكلها ، فلم يقدر عليه ، وحاول حوّاء ، فخدعها فأكلت فلم يصبها مكروه ، فجاءت آدم فقالت له : إن الذي تكره من الأكل قد أتيته فما نالني مكروه. فلما عاين ذلك آدم اغترّ فأكل ، فحلّت بهما النقمة والعقوبة ، وذلك لقول الله سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ؛ فجمعهما في النهى ، فلذلك لم تنزل بهما العقوبة حتى وجد المنهىّ عنه منهما جميعا.

واستدلّ بهذا بعض العلماء على أن من قال لزوجتيه أو أمتيه : إن دخلتما علىّ الدار فأنتما طالقتان أو حرّتان ـ أنّ الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما.

وقد اختلف علماؤنا رحمة الله عليهم في ذلك على ثلاثة أقوال :

فقال ابن القاسم : لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدار في الدخول ، حملا على هذا الأصل ، وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ.

وقال مرة أخرى : تعتقان جميعا ، وتطلقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما ؛ لأن بعض الحنث حنث ، كما لو حلف ألّا يأكل هذين الرغيفين ، فإنه يحنث بأكل أحدهما ، بل بأكل لقمة منهما حسبما بيّنّاه [١٠] في أصول المسائل.

وقال أشهب : تعتق وتطلق التي دخلت وحدها ؛ لأنّ دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها.

وقد قال مالك في كتاب محمد بن الموّاز فيمن قال لزوجته : إن وضعت فأنت طالق وهي حامل ، فوضعت ولدا وبقي في بطنها آخر : إنها لا تطلق حتى تضع الآخر.

وقال مرة أخرى : تطلق بوضع الأول.

والصحيح أنّ اليمين إن لم يكن لها نيّة وبساط يقتضى ذلك من الجمع بينهما أو بساط أو نيّة ، فإن القول أشهب ، ويشبه أن يكون هذا من علمائنا اختلاف حال لا اختلاف قول ؛ فأما الحكم بطلاقهما أو عتقهما معا بدخول واحدة منهما فبعيد ؛ لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا ، وأما الحكم بالحنث (١) بأكل بعض الرغيفين فلأنه محلوف عليه ،

__________________

(١) في م : وأما الحنث.


وبعض الحنث حنث حقيقة ؛ لأن الاجتناب الذي عقده لا يوجد منه (١).

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (هذِهِ الشَّجَرَةَ).

اختلف الناس كيف أكل آدم من (٢) الشجرة على خمسة أقوال :

الأول ـ أنه أكلها سكران (٣) ، قاله سعيد بن المسيّب.

الثاني ـ أنه أكل من جنس الشجرة لا من عينها ، كأن إبليس غرّه بالأخذ بالظاهر ، وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول فاجتنبوه ؛ فإنّ في اتباع الظاهر على وجهه هدم الشريعة (٤) حسبما بيّنّاه في غير ما موضع ، وخصوصا في كتاب النواهي عن الدواهي.

الثالث ـ أنه حمل النهى على التنزيه دون التحريم.

الرابع ـ أنه أكل متأوّلا لرغبة الخلد ، ولا يجوز تأويل ما يعود على المتأول بالإسقاط.

الخامس ـ أنه أكل ناسيا.

فأما القول [الأول] (٥) بأنه أكلها سكران فتعلّق به بعض الناس في أن أفعال السكران معتبرة في الأحكام والعقوبات ، وأنه لا يعذر في فعل ؛ بل يلزمه حكم كلّ فعل ، كما يلزم الصاحي ، كما ألزم الله تعالى آدم حكم الخلاف في المعصية مع السّكر.

وقد اختلف علماؤنا في أفعال السّكران على ثلاثة أقوال : أحدهما أنها معتبرة. الثاني أنها لغو. الثالث أنّ العقود غير معتبرة كالنكاح ، وأن الحلّ معتبر كالطلاق. ولذا (٦) إذا أكل من جنسها فدليل على أنه إذا حلف ألّا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث.

وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا : لا حنث عليه. وقال مالك وأصحابه : إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه ، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيّتها الجنس حمل عليه ، وحنث بأكل غيره ، وعليه حملت قصة آدم ؛ فإنه نهى

__________________

(١) في ا : لا يوجد منهما.

(٢) في ا : منها.

(٣) في هامش م هنا : مسألة في أفعال السكران.

(٤) في م : فإن في اتباع الظاهر على وجه هذه الشريعة. ونراه تحريفا.

(٥) من م.

(٦) في م : وأما إذا أكل. وفي هامش م هنا : مسألة فيمن حلف ألا يأكل من شيء فأكل من جنسه.


عن شجرة عيّنت له ، وأريد به جنسها ، فحمل القول على اللفظ دون المعنى كما تقدم.

وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا ، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين :

فقال في الكتاب : إنه يحنث ؛ لأنها هكذا تؤكل. وقال ابن المواز : لا شيء عليه ، لأنه لم يأكل حنطة ، وإنّما أكل خبزا ، فراعى الاسم والصفة.

ولو قال في يمينه : لا آكل من هذه الحنطة حنث بأكل الخبز المعمول منها.

وأما حمل النهى على التنزيه فهي ـ وإن كانت مسألة من أصول الفقه ـ وقد بيّنّاها في موضعها ، فقد سقط ذلك [١١] ها هنا فيها لقوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فقرن (١) النّهى بالوعيد ؛ ولا خلاف مع ذلك فيه. وكيف يصحّ أن يقال له لا تأكلها فتكون من الظالمين ، ويرجو أن يكون من الخالدين.

وأما قوله : إنه أكلها ناسيا فسيأتى في سورة طه إن شاء الله تعالى.

(التنقيح) أما القول بأنّ آدم أكلها سكران ففاسد نقلا وعقلا : أما النقل فلأنّ هذا لم يصح بحال ، وقد نقل عن ابن عباس أنّ الشجرة التي نهى عنها الكرم ، فكيف ينهى عنها ويوقعه الشيطان فيها ، وقد وصف الله خمر الجنة بأنها لا غول (٢) فيها ، فكيف توصف بغير صفتها التي أخبر الله تعالى بها عنها في القرآن.

وأما (٣) العقل فلانّ الأنبياء بعد النبوة منزّهون (٤) عما يؤدّى إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.

وأما سائر التوجيهات فمحتملة ، وأظهرها الثاني ، والله أعلم.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (٥).

روى أنه لما أكل آدم من الشجرة سلخ عن كسوته ، وخلع من ولايته ، وحطّ عن مرتبته ، فلما نظر إلى سوأته منكشفة قطع الورق من الثمار وسترها.

وهذا هو نصّ القرآن ، وفي ذلك مسألتان :

__________________

(١) في م : فتقرر.

(٢) الغول : السكر.

(٣) هنا في الهامش : مسألة في تحسين العقل.

(٤) في ق : معصومون.

(٥) هكذا في ا ، م. وهذه الآية في سورة الأعراف ، آية ٢٢ ، وسورة طه ، آية ١٢١ ، لا في سورة البقرة.


[المسألة الأولى ـ بأى شيء سترها؟] (١)

فقالت طائفة : سترها بعقله حين رأى ذلك من نفسه منكشفا ، منهم القدرية ، وبه قال أقضى القضاة الماوردي.

ومنهم من قال : إنه سترها استمرارا على عادته ومنهم من قال : إنما سترها بأمر الله.

فأما من قال : إنه سترها بعقله فإنه بناها على أن العقل يوجب ويحظر ويحسن ويقبّح ، وهو جهل عظيم بيّنّاه في أصول الفقه ، وقد وهل (٢) أقضى القضاة في ذلك ، إلا أنه يحتمل أنه سترها من ذات نفسه من غير أن يوجب ذلك عليه شيء ، فيرجع ذلك إلى القول الثاني أنه سترها عادة.

وأما من قال : إنه سترها بأمر الله ، فذلك صحيح لا شكّ فيه ؛ لأن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام علّمه الأسماء وعرّفه الأحكام فيها ، وأسجل له بالنبوة ، ومن جملة الأحكام ستر العورة.

المسألة الثانية ـ ممّن سترها؟ ولم يكن معه إلا أهله الذين ينكشف عليهم وينكشفون عليه (٣)؟ وقد قدمنا في مسائل الفقه وشرح الحديث وجوب ستر العورة وأحكامها [ومحلها] (٤) ، ويحتمل أن يكون آدم سترها من زوجه بأمر جازم في شرعه ، أو بأمر ندب ، كما هو عندنا.

ويحتمل أن يكون آدم سترها من زوجه بأمر جازم في شرعه ، أو بأمر ندب ، كما هو عندنا.

ويحتمل أن يكون ما رأى سترها إلا لعدم الحاجة إلى كشفها ، لأنه كان من شرعه أنه لا يكشفها إلّا للحاجة. ويجوز أنه كان مأمورا بسترها في الخلوة ، وقد أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بسترها في الخلوة ، وقال : الله أحقّ أن يستحى منه ، وذلك مبيّن في موضعه.

وبالجملة فإن آدم لم يأت من ذلك شيئا إلا بأمر من الله لا بمجرّد عقل ، إذ قد بيّنّا فساد اقتضاء العقل لحكم شرعي.

الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (٥) : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).

كان من أمر الله سبحانه بالصلاة والزكاة والركوع أمر بمعلوم متحقّق سابق للفعل

__________________

(١) ليس في م.

(٢) وهل في ذلك : غلط فيه ونسيه. وفي م : ذهل.

(٣) هنا في هامش م : مسألة ستر العورة.

(٤) ليس في م.

(٥) الآية الثالثة والأربعون.


بالبيان ، وخصّ الركوع لأنه كان أثقل عليهم من كل فعل.

وقيل : إنه الانحناء لغة ، وذلك يعمّ الركوع والسجود ، وقد كان الركوع أثقل شيء على القوم في [١٢] الجاهلية ، حتى قال بعض من أسلم للنبي صلى الله عليه وسلم : على ألّا أخرّ إلا قائما ، فمن تأوّله (١) : على ألا أركع ، فلما تمكّن الإسلام من قلبه اطمأنّت بذلك نفسه.

ويحتمل أن يكونوا أمروا بالزكاة لأنها معلومة في كل دين من الأديان ، فقد قال الله تعالى مخبرا عن إسماعيل عليه السلام (٢) : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). ثم بيّن لهم مقدار الجزء الذي يلزم بذله من المال.

والزكاة مأخوذة من النماء ، يقال : زكا الزّرع إذا نما ، ومأخوذة من الطهارة ، يقال : زكا الرجل ، إذا تطهّر عن الدناءات.

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ). قال بعض علمائنا : قيل لهم قولوا حطّة (٤) ، فقالوا : سقماثاه أزه هذبا ، معناه حبة مقلوة في شعرة مربوطة ، استخفافا (٥) منهم بالدّين ومعاندة للنبي صلى الله عليه وسلم والحقّ.

وقد قال بعض من تكلّم في القرآن : إن هذا الذمّ يدلّ على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها لا يجوز.

وهذا الإطلاق فيه نظر ؛ وسبيل التحقيق فيه أن نقول : إن الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبّد بلفظها أو يقع التعبّد بمعناها ؛ فإن كان التعبّد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها. وإن وقع التعبّد بمعناها جاز تبديلها بما يؤدّى ذلك المعنى ، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه ، ولكن لا تبديل إلا باجتهاد.

ومن المستقلّ (٦) بالمعنى المستوفى لذلك العالم بأنّ اللفظين الأول والثاني المحمول عليه طبق المعنى ، وبنو إسرائيل قيل لهم قولوا : حطّة ، أى اللهم احطط عنّا ذنوبنا. فقالوا ـ استخفافا : حبة مقلوّة في شعرة [، فبدّلوه بما لا يعطى معناه] (٧)

__________________

(١) في ق : فمن تأويله. والعبارة في م : فمن تأول على ألا أركع قائما يمكن الإسلام من قلبه.

(٢) سورة مريم ، آية ٥٥

(٣) الآية التاسعة والخمسون.

(٤) في ق : قالوا حنطة ، فزادوا حرفا.

(٥) في م : استهزاء

(٦) في م : المستبدل.

(٧) من م.


ولو بدّلوه بما لا يعطى معناه جدّا لم يجز ؛ فهذا أعظم في الباطن وهو الممنوع المذموم منهم. ويتعلّق بهذا المعنى نقل الحديث بغير لفظه إذا أدّى معناه (١). وقد اختلف الناس في ذلك ؛ فالمرويّ عن واثلة بن الأسقع جوازه ؛ قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ننقله إليكم بلفظه ؛ حسبكم المعنى.

وقد بيّناه في أصول الفقه ؛ وأذكر لكم فيه فصلا بديعا ؛ وهو أنّ هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة ومنهم ، وما من سواهم فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى ، وإن استوفى ذلك المعنى ؛ فإنّا لو جوّزناه لكلّ أحد لما كنّا على ثقة من الأخذ بالحديث ؛ إذ كلّ أحد إلى زماننا هذا قد بدّل ما نقل ، وجعل الحرف بدل الحرف فيما رواه ؛ فيكون خروجا من الإخبار بالجملة. والصحابة بخلاف ذلك ؛ فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان :

أحدهما ـ الفصاحة والبلاغة ؛ إذ جبلّتهم عربية ، ولغتهم سليقة (٢).

والثاني ـ أنهم شاهدوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة ، واستيفاء المقصد كله ؛ وليس من أخبر كمن عاين.

ألا تراهم يقولون في كل حديث : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا ، ولا يذكرون لفظه ، وكان ذلك خبرا صحيحا ونقلا لازما ؛ وهذا لا ينبغي أن يستريب فيه منصف لبيانه.

الآية الرابعة عشرة ـ قوله سبحانه (٣) : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)

هذه الآية عظيمة الموقع ، مشكلة في النّظر ؛ لتعلّقها بالأصول ومن الفروع بالكلام في الدم ، وفي كل فصل إشكال ، [١٣] وذلك ينحصر في خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب ذلك : روى عن بنى إسرائيل أنه كان فيها من قتل رجلا غيلة (٤) بسبب مختلف فيه ؛ وطرحه بين قوم ، وكان قريبه ، فادّعى به عليهم ، وترافعوا إلى موسى عليه السّلام ، فقال له القاتل : قتل قريبي هذا هؤلاء القوم ، وقد وجدته بين أظهرهم،

__________________

(١) في م : إذا أدى إلى معناه. وفي هامش م هنا : مسألة في نقل الحديث بالمعنى.

(٢) في م : سلفية. سليقة : طبيعة.

(٣) الآية السابعة والستون.

(٤) قتله غيلة : خدعه فذهب به إلى موضع فقتله.


فانتفوا من ذلك ، وسألوا موسى عليه السّلام أن يحكم بينهم برغبة إلى الله تعالى في تبيين الحقّ لهم ؛ فدعا موسى عليه السّلام ربّه تعالى ؛ فأمرهم بذبح بقرة وأخذ عضو من أعضائها يضرب به الميت فيحيا فيخبرهم بقاتله ؛ فسألوا عن أوصافها وشدّدوا فشدّد الله سبحانه عليهم حتى انتهوا إلى صفتها المذكورة في القرآن ، فطلبوا تلك البقرة فلم يجدوها إلّا عند رجل برّ بأبويه أو بأحدهما ؛ فطلب منهم فيها مسكها (١) مملوءا ذهبا ، فبذلوه فيها ، فاستغنى ذلك الرجل بعد فقره ، وذبحوها فضربوه ببعضها ، فقال : فلان قتلني ، لقاتله.

المسألة الثانية ـ في الحديث (٢) عن بنى إسرائيل.

كثر استرسال العلماء في الحديث عنهم في كلّ طريق ، وقد ثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : حدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج. ومعنى هذا [الخبر] (٣) الحديث عنهم بما يخبرون [به] (٤) عن أنفسهم وقصصهم لا بما يخبرون به عن غيرهم ؛ لأن أخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة والثبوت إلى منتهى الخبر ، وما يخبرون به عن أنفسهم فيكون من باب إقرار المرء على نفسه أو قومه ؛ فهو أعلم (٥) بذلك. وإذا أخبروا عن شرع لم يلزم قوله ؛ ففي رواية مالك عن عمر رضى الله عنه أنه قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمسك مصحفا قد تشرّمت حواشيه ، فقال : ما هذا؟ قلت : جزء من التّوراة ؛ فغضب وقال : والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتّباعى.

المسألة الثالثة ـ أخبرهم (٦) سبحانه في هذه القصة عن حكم جرى في زمن موسى عليه السلام ، هل يلزمنا حكمه أم لا؟ اختلف الناس في ذلك ، والمسألة تلقب بأن شرع من قبلنا من الأنبياء هل هو شرع لنا حتى يثبت نسخه أم لا؟ في ذلك خمسة أقوال :

الأول ـ أنه شرع لنا ولنبينا ؛ لأنه كان متعبّدا بالشريعة معنا ، وبه قال طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء ؛ واختاره الكرخي ، ونصّ عليه ابن بكير القاضي من علمائنا.

وقال القاضي عبد الوهاب : هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه ، وإليه ميل الشافعى رحمه الله.

__________________

(١) المسك : الجلد.

(٢) هنا في هامش م : مسألة في الحديث عن بنى إسرائيل.

(٣ ـ ٤) ليس في م.

(٥) في م : فهو أخبر بذلك.

(٦) في هامش م هنا : مسألة في شرع من قبلنا.


الثاني ـ أن التعبّد وقع بشرع إبراهيم عليه السلام ، واختاره جماعة من أصحاب الشافعى.

الثالث ـ أنا تعبّدنا بشرع موسى عليه السّلام.

الرابع ـ أنا تعبّدنا بشرع عيسى عليه السّلام.

الخامس ـ أنّا لم نتعبّد بشرع أحد ، ولا أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بملّة بشر ، وهذا الذي اختاره القاضي أبو بكر ، وما من قول من هذه الأقوال إلا وقد نزع فيه بآية ، وتلافيها من القرآن حرفا ؛ وقد مهّدنا ذلك في أصول الفقه ، وبيّنّا أن الصحيح القول بلزوم شرع من قبلنا لنا مما أخبرنا به نبيّنا صلى الله عليه وسلم عنهم دون ما وصل إلينا من غيره ، لفساد الطّرق إليهم ؛ وهذا هو صريح مذهب مالك في أصوله (١) كلها ، وستراها مورودة بالتبيين حيث تصفحت المسائل من كتابنا هذا أو غيره.

ونكتة ذلك أنّ الله تعالى أخبرنا عن قصص النبيين (٢) ، فما كان من آيات الازدجار وذكر الاعتبار ففائدته الوعظ ، وما كان من آيات الأحكام فالمراد (٣) به الامتثال له والاقتداء به.

قال ابن عباس رضى الله عنه : قال الله تعالى (٤) : (أُولئِكَ [١٤] الَّذِينَ هَدَى اللهُ ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). فنبينا صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدى بهم ، وبهذا يقع الرد على ابن الجويني حيث قال : إن نبينا لم يسمع قط أنه رجع إلى أحد منهم ولا باحثهم عن حكم ، ولا استفهمهم ؛ فإن ذلك لفساد ما عندهم. أمّا الذي نزل به عليه الملك فهو الحقّ المفيد للوجه الذي ذكرناه ، ولا معنى له غيره.

المسألة الرابعة ـ لما ضرب بنو إسرائيل الميت بتلك القطعة من البقرة قال : دمى عند فلان ؛ فتعيّن قتله ، وقد استدلّ مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على صحة القول بالقسامة (٥) بقول المقتول : دمى عند فلان بهذا ، وقال مالك : هذا مما يبيّن أن قول الميت: دمى عند فلان مقبول ويقسم عليه.

فإن قيل : كان هذا آية ومعجزة على يدي موسى صلى الله عليه وسلم لبنى إسرائيل.

__________________

(١) في م : في مسائله.

(٢) م : قصص الماضين.

(٣) في م : ففائدته والمراد.

(٤) سورة الأنعام : ٩٠

(٥) في هامش م هنا : مسألة في القسامة بقول المقتول.


قلنا : الآية والمعجزة إنما كانت في إحياء الميت ، فلما صار حيّا كان كلامه كسائر كلام الآدميين (١) كلّهم في القبول والردّ ، وهذا فنّ دقيق من العلم لا يتفطّن له إلا مالك. ولقد حققناه في كتاب المقسط في ذكر المعجزات وشروطها. فإن قيل : فإنما قتله (٢) موسى صلى الله عليه وسلم بالآية.

قلنا : ليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلما أمرهم بالقسامة معه ، أو صدقه جبريل فقتله موسى بعلمه ، كما قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد ، بالمجذر بن ذياد بإخبار جبريل عليه السّلام له بذلك حسبما تقدّم ، وهي مسألة خلاف كبرى قد بيناها في موضعها.

وروى مسلم (٣) وفي الموطّأ (٤) وغيره حديث حويصة ومحيّصة قال فيه : فتكلّم محيّصة فقال : يا رسول الله ، وذكره إلى قوله : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيّصة ، وعبد الرحمن (٥) : أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم.

وفي مسلم (٦) : يجلف خمسون رجلا منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمّته (٧).

وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قتل رجلا بالقسامة من بنى نصر بن مالك. وقال الدارقطني : نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة ، وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه ، واستبعد ذلك البخاري والشافعىّ وجماعة من العلماء ، وقالوا : كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم.

وإنما تستحق بالقسامة الدّية ، وقد أحكمنا الجواب والاستدلال في موضعه ، ونشير إليه الآن بوجهين :

أحدهما ـ أنّ السنّة هي التي تمضى وترد لا اعتراض عليها ولا تناقض فيها ، وقد تلونا أحاديثها.

الثاني ـ أنه مع أنّ قوله : لا يقبل في درهم قد قلتم إنّ قتيل المحلة يقسم فيه على الدّية ، وليس هنالك قول لأحد ، وإنما هي حالة محتملة للتأويل والحق والباطل ، إذ يجوز أن يقتله رجل ويجعله عند دار آخر (٨) ؛ بل هذا هو الغالب من أفعالهم ، وباقى النظر في مسائل الخلاف وشرح الحديث مستطر.

__________________

(١) في م : كلام الناس.

(٢) في م : قبله.

(٣) مسلم : ١٢٩٤

(٤) صفحة ٨٧٨ من الموطأ.

(٥) هو عبد الرحمن بن سهل.

(٦ ـ ٧) مسلم : ١٢٩٢ ، برمته : أى جميعه.

(٨) في م : أحد.


المسألة الخامسة (١) ـ في هذه الآية دليل على حصر الحيوان [في المعيّن] (٢) بالصفة خلافا لأبى حنيفة حيث يقول : لا يحصر الحيوان بصفة ولا يتعيّن بحلية.

قال ابن عباس : لو أنّ بنى إسرائيل لمّا قيل لهم : اذبحوا بقرة بادروا إلى أىّ بقرة كانت فذبحوها لأجزأ ذلك عنهم وامتثلوا ما طلب ، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم ، فما زالوا يسألون ويوصف لهم حتى تعيّنت. وهذا كلام صحيح ، ودليل مليح ، والله أعلم.

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ، وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ ذكر الطبري وغيره [١٥] في قصص هذه الآية أنّ سليمان صلى الله عليه وسلم كانت له امرأة يقال لها : الجرادة ، تكرم عليه ويهواها ، فاختصم أهلها مع قوم ، فكان صغو (٤) سليمان عليه السّلام إلى أن يكون الحكم لأهل الجرادة ، فعوقب ، وكان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يخلو بإحدى نسائه أعطاها خاتمه ، ففعل ذلك يوما فألقى الله تعالى صورته على شيطان ، فجاءها فأخذ الخاتم فلبسه ، ودانت الجنّ والإنس له ، وجاء سليمان عليه السلام بعد ذلك يطلبه ، فقالت : ألم تأخذه؟ فعلم أنه ابتلى ، وعلمت الشياطين أن ذلك لا يدوم لها ؛ فاغتنمت الفرصة فوضعت أوضاعا من السحر والكفر وفنونا من النيرجات (٥) وسطّروها في مهارق (٦) ، وقالوا : هذا ما كتب آصف بن برخيا كاتب نبىّ الله سليمان ، فدفنوها

__________________

(١) في هامش م هنا : مسألة السلم في الحيوان.

(٢) من م.

(٣) الآية الثانية بعد المائة.

(٤) صغوه : ميله.

(٥) في ق : والنيرنجيات. وقد اختلفت الأصول في رسم هذه الكلمة ، والذي في القاموس : النيرنج. قال شارح القاموس : «هكذا في سائر النسخ ، والمنقول عن نص كلام الليث : النيرج بإسقاط النون الثانية». وكذا ورد في اللسان. وهو أخذ كالسحر وليس به ، وإنما هو تشبيه وتلبيس.

(٦) المهرق : الصحيفة البيضاء يكتب فيها ، فارسي معرب ، والجمع المهارق.


تحت كرسيّه : وعاد سليمان إلى حاله ، واستأثر الله تعالى به ، فقالت الشياطين للناس : إنما كان سليمان يملككم بأمور أكثرها تحت كرسيّه ، فيها علوم غريبة ؛ فدونكم فاحتفروا عليها ، ففعلوا واستثاروها (١) ، فنفذ عليهم القضاء فصار في أيديهم ، وتناقلته الكفرة والفلاسفة عنهم حتى وصل ذلك إلى يهود الحجاز ، فكانوا يعملونه ويعلّمونه ويصرّفونه في حوائجهم ومعايشهم ؛ وكانوا بين جاهلية جهلاء وأمّة عمياء ؛ فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ ، ونوّر القلوب ، وكشف قناع الألباب (٢) ، لجأت اليهود إلى أن تعلّق ما كان عندها من ذلك لسليمان عليه السلام ، وتزعم أنه مما نزل به جبريل وميكائيل عليهما السلام على سليمان صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك قد حمل قوما قبل البعث على أن يتبرّءوا من سليمان عليه السّلام ، فأنزل الله تعالى الآية.

المسألة الثانية ـ هذا الذي ذكرنا آنفا مما فيه الحرج في ذكره عن بنى إسرائيل لما قدّمناه من أنه إنما أذن لنا أن نتحدّث عنهم في حديث يعود إليهم ، وما كنا لنذكر هذا لو لا أن الدواوين قد شحنت به.

أما قولهم : إن سليمان كان صغوه صحة الحكم لقوم الجرادة فباطل قطعا ؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يجوز ذلك عليهم إجماعا ؛ فإنهم معصومون عن الكبائر باتّفاق.

وأما قولهم بأن شيطانا تصوّر في صورة ملك أو نبىّ ، فأخذ الخاتم ، فباطل قطعا ؛ لأن الشياطين لا تتصور على صور الأنبياء ؛ وقد بينّا ذلك مبسوطا في كتاب النبىّ.

وأما دفنها تحت كرسىّ سليمان عليه السّلام فيمكن ألّا يعلم بذلك وتبقى حتى يفتتن بها الخلق بعده.

وقد روى أن سليمان عليه الصلاة والسلام أخذها ودفنها تحت كرسيّه وذلك (٣) مما لا يجوز عليه وأنه لم يكن سحرا ، أما لو علم أنها سحر فحقّها أن تحرق أو تغرق ولا تبقى عرضة للنقل والعمل (٤).

__________________

(١) في ا : واستأثروها.

(٢) في ا : الألباس.

(٣) في م : وذلك يجوز عليه.

(٤) في ا : عرضة للعمل.


المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا) : قيل : يهود زمان سليمان ، وقيل : يهود زماننا ، واللفظ فيهم عامّ ، ولجميعهم محتمل ، وقد كان الكلّ منهم متبعا لهذا الباطل.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ).

اختلف الناس في حرف (ما) : فمنهم من قال : إنه نفى ، ومنهم من قال : إنه مفعول ، وهو الصحيح. ولا وجه لقول من يقول : إنه نفى ، لا في نظام الكلام ولا في صحّة المعنى ، ولا يتعلق من كونه مفعولا سياق الكلام بمحال عقلا ولا يمتنع شرعا ، وتقريره (١) : واتبع اليهود ما تلته الشياطين من [١٦] السّحر على ملك سليمان ، أى نسبته إليه وأخبرت به عنه ، كقوله تعالى (٢) : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، أى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ما لم يلقه النبىّ ، يحاكيه ويلبّس على السامعين به حسبما بينّاه.

وما كفر سليمان قطّ ولا سحر ، ولكنّ الشياطين كفروا بسحرهم ، وأنهم يعلّمونه الناس ؛ ومعتقد الكفر كافر ، وقائله كافر ، ومعلّمه كافر ، ويعلّمون الناس ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، وما كان الملكان يعلّمان أحدا حتى يقولا : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).

فإن قيل ـ وهي (المسألة الخامسة) : كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر؟

قلنا : كلّ خير أو شر أو طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر منزّل من عند الله تعالى ؛ قال النبىّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح : ماذا فتح الليلة من الخزائن؟ ماذا أنزل الله تعالى من الفتن؟ أيقظوا صواحب الحجر ، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة.

فأخبر عليه السّلام عن نزول الفتن على الخلق.

فإن قيل : وكيف نزل الكفر على الملكين وهم يفعلون ما يؤمرون ، ويسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، فإنّى يصحّ أن يتكلموا بالكفر ويعلموه؟ وهي :

المسألة السادسة :

__________________

(١) في م : وتقديره.

(٢) سورة الحج ، آية ٥٢


قلنا : هذا الذي أشكل على بعضهم حتى روى عن الحسن أنه قرأ الملكين ـ بكسر الام ، وروى أنه كان ببابل علجان (١) ، وقد بلغ التغافل أو الغفلة ببعضهم حتى قال : إنما هما داود وسليمان.

وتأوّل الآية : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ، أى في أيامهما.

وقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) ، يعنى الشياطين.

وقد روى المفسرون عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أطلعت الحمراء؟ قلت : طلعت. قال : لا مرحبا بها ولا أهلا ، وأراه لعنها. قلت : سبحان الله! نجم مسخّر مطيع تلعنه؟ قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة عجّت من معاصى بنى آدم في الأرض ، فقالت : يا رب ، كيف صبرك على بنى آدم في الخطايا والذنوب؟ فأعلمهم الله سبحانه أنهم لو كانوا مكانهم ويحل الشيطان من قلوبهم محلّه من بنى آدم لعملوا بعملهم ، وقد أعطيت بنى آدم عشرا من الشهوات فبها يعصوننى. قالت الملائكة : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ، وابتليتنا ، لحكمنا بالعدل وما عصيناك. فأمرهم سبحانه أن يختاروا منهم ملكين من أفضلهم ، فتعرّض لذلك هاروت وماروت وقالا : نحن ننزل ، وأعطنا الشهوات ، وكلّفنا الحكم بالعدل.

فنزلا ببابل ، فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرّجا إلى مكانهما ، ففتنا بامرأة حاكمت زوجها اسمها بالعربية الزّهرة ، وبالنبطية بيرخت (٢) ، وبالفارسية اقاهيد (٣) ، فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبنى. قال له الآخر : لقد أردت أن أقول لك ذلك ، فهل لك في أن تعرض لها؟ قال له الآخر : كيف بعذاب الله. قال : إنا لنرجو رحمة الله. فطلباها في نفسها ، قالت : لا ، حتى تقضيا لي على زوجي ؛ فقضينا لها وقصداها وأرادا مواقعتها ، فقالت لهما : لا أجيبكما لذلك حتى تعلّمانى كلاما أصعد به إلى السماء ، وأنزل به منها ؛ فأخبراها ، فتكلّمت فصعدت إلى السّماء فمسخها الله تعالى كوكبا ، فلما أرادا [١٧] أن يصعدا لم يطيقا فأيقنا بالهلكة ؛ فخيّرا بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فعلّقا ببابل فجعلا يكلّمان الناس كلامهما ، وهو السحر.

__________________

(١) العلج : الرجل من كفار العجم.

(٢) في القرطبي (١ ـ ٥١) بيدخت ـ بالدال.

(٣) في القرطبي : ناهيل ، أو ناهيد.


ويقال : كانت الملائكة قبل ذلك يستغفرون للذين آمنوا ، فلما وقعا في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض.

قال القاضي : وإنما سقنا هذا الخبر لأنّ العلماء رووه ودوّنوه فخشينا أن يقع لمن يضلّ به. وتحقيق القول فيه أنه لم يصح سنده ، ولكنه جائز كله في العقل لو صحّ في النقل ، وليس بممتنع أن تقع المعصية من الملائكة ، ويوجد منهم خلاف ما كلّفوه ، وتخلق فيهم الشهوات ؛ فإن هذا لا ينكره إلا رجلان : أحدهما جاهل لا يدرى الجائز من المستحيل ، والثاني من شمّ ورد الفلاسفة ، فرآهم يقولون : إن الملائكة روحانيون ، وإنهم لا تركيب فيهم ، وإنما هم بسائط ، وشهوات الطعام والشراب والجماع لا تكون إلا في المركبات من الطبائع الأربع ، وهذا تحكّم في القولين من وجهين :

أحدهما ـ أنهم أخبروا عن الملائكة وكيفيتهم بما لم يعاينوه ، ولا نقل إليهم ، ولا دل دليل العقل عليه.

والثاني ـ أنهم أحالوا على البسيط أن يتركّب ، وذلك عندنا جائز ؛ بل يجوز عندنا بلا خلاف أن يأكل البسيط ويشرب ويطأ ، ولا يوجد من المركب شيء من ذلك. وهذا الذي اطّرد في البسيط من عدم الغذاء ، وفي المركّب من وجود الغذاء عادة إلا أنه غاية القدرة ، وقد مكّنّا القول في ذلك ومهّدناه في الأصول ، وخبر الله تعالى عنهم بأنهم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، ويفعلون ما يؤمرون ، صدق لا خلاف فيه ، لكنه خبّر عن حالهم ، وهي ما يجوز أن تتغيّر (١) فيكون الخبر عنها بذلك أيضا ، وكل حقّ صدق لا خلاف (٢) فيه.

وقد قال علماؤنا : إنه خبر عامّ يجوز أن يدخله التخصيص ، وهذا صحيح أيضا. وقد روى سنيد في تفسيره أنه دخل إليهما في مغارهما وكلّما ، وتعلّم منهما في زمن الإسلام ، وليس التعلّم منهما الإسماع كلامهما ، وهما إذا تكلّما إنما يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر ؛ أى لا تجعل ما تسمع منا سببا للكفر ، كما جعل السامرىّ ما اطّلع عليه من أثر (٣) فرس جبريل [سببا] (٤) لاتّخاذ العجل إلها من دون الله.

__________________

(١) في ا : يتعين.

(٢) في م : فيكون الخبر عنها أيضا حق ، وكل صدق.

(٣) في ا : أمر.

(٤) من م.


وفي هذا من العبرة الخشية من سوء العاقبة والخاتمة ، وعدم الثقة بظاهر الحالة ، والخوف من مكر الله تعالى ، فهذا بلعام في الآدميين كهاروت وماروت في الملائكة المقرّبين ، فأنزلوا كل فنّ في مرتبته (١) ، وتحقّقوا مقداره في درجته حسبما رويناه ، ولا تذهلوا عن بعضه فتجهلوا جميعه.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).

وقد أوردنا في كتاب المشكلين القول في السحر (٢) وحقيقته ومنتهى العمل به على وجه يشفى الغليل ، وبينّا أنّ من أقسامه فعل ما يفرّق به بين المرء وزوجه ، ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه ، ويسمى التولة (٣) ، وكلاهما (٤) كفر ، والكلّ حرام ، كفر. قاله مالك. وقال الشافعى : السحر معصية إن قتل بها الساحر قتل ، وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر.

وهذا باطل من وجهين :

أحدهما ـ أنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام مؤلّف يعظّم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات.

والثاني ـ أن الله سبحانه قد صرّح في كتابه [١٨] بأنه كفر ، لأنه تعالى قال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ـ من السحر ، وما كفر سليمان بقول السحر ، ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه ، وهاروت وماروت يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وهذا تأكيد للبيان.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

يعنى بحكمه وقضائه لا بأمره ؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء ، ويقضى على الخلق بها ، وقد مهدنا ذلك في موضعه.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).

هم يعتقدون أنه نفع لما يتعجّلون به من بلوغ الغرض ، وحقيقته مضرّة ، لما فيه من عظيم

__________________

(١) في م : في منزلته.

(٢) هنا في هامش م : مسألة عمل السحر ، وهل هو كفر أم لا.

(٣) التولة : ضرب من الحرز يوضع للسحر فتحبب بها المرأة إلى زوجها. وقيل هي معاذة تعلق على الإنسان. قال الخليل : التولة ـ بكسر التاء وضمها : شبيهة بالسحر. قال ابن الأثير : التولة ـ بكسر التاء وفتح الواو : ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره.

(٤) في م : وكلها.


سوء العاقبة ؛ وحقيقة الضرر عند أهل السنّة كلّ ألم لا نفع يوازيه ، وحقيقة النفع كل لذة لا يتعقّبها عقاب (١) ، ولا تلحق فيه ندامة. والضرر وعدم المنفعة في السحر متحقّق.

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا).

كانت اليهود تأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فتقول : يا أبا القاسم ، راعنا ، توهم أنها تريد الدعاء ، من (٣) المراعاة ، وهي تقصد به فاعلا من الرعونة.

وروى أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا ، من الرعي (٤) ، فسمعتهم اليهود ، فقالوا : يا راعنا كما تقدم ، فنهى الله تعالى المسلمين عن ذلك ، لئلا يقتدى بهم اليهود في اللفظ ، ويقصدوا المعنى الفاسد منه.

وهذا دليل على تجنّب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والغضّ ، ويخرج منه فهم التعريض بالقذف وغيره.

وقال علماؤنا : بأنه ملزم للحدّ ، خلافا للشافعي وأبى حنيفة حيث قالا : إنه قول محتمل للقذف وغيره ، والحدّ مما يسقط بالشبهة.

ودليلنا أنه قول يفهم منه القذف ، فوجب فيه الحدّ كالتصريح (٥). وقد يكون في بعض المواضع أبلغ من التصريح في الدلالة على المراد ، وإنكار ذلك عناد ، وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف.

الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (٦) : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها ، أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

__________________

(١) في ا : عذاب.

(٢) الآية الرابعة بعد المائة.

(٣) في م : إلى.

(٤) في ق : قال ابن عباس : كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا ـ على جهة الطلب والرغبة ، من المراعاة ـ أى التفت إلينا ، كان هذا بلسان اليهود سبا ، أى اسمع ما لا سمعت. فاغتنموها وقالوا : كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا ، فكانوا يخاطبون بها التي ويضحكون فيها بينهم. فنهوا عنها لئلا تقتدى بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد.

(٥) في م : بالتصريح.

(٦) الآية الرابعة عشرة بعد المائة.


فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ فيمن نزلت؟

فيه أربعة أقوال : الأول ـ أنه بخت نصر. الثاني ـ أنهم مانعو بيت المقدس من النصارى اتخذوه كظامة (١). والثالث ـ أنه المسجد الحرام عام الحديبية. الرابع ـ أنه كلّ مسجد ؛ وهو الصحيح ؛ لأنّ اللفظ عامّ ورد بصيغة الجمع ؛ فتخصيصه ببعض المساجد أو بعض الأزمنة محال ، فإن كان فأمثلها الثالث.

المسألة الثانية ـ فائدة هذه الآية تعظيم أمر الصلاة ؛ فإنها لمّا كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا كان منعها أعظم إثما ، وإخراب المساجد تعطيل لها وقطع بالمسلمين في إظهار شعائرهم وتأليف كلمتهم.

المسألة الثالثة ـ إن قوله تعالى : (مَساجِدَ اللهِ) يقتضى أنها لجميع المسلمين عامة ، الذين يعظّمون الله تعالى ، وذلك حكمها بإجماع الأمة ؛ على أنّ البقعة إذا عيّنت للصلاة خرجت عن جملة الأملاك المختصة بربها (٢) ، فصارت عامة لجميع المسلمين بمنفعتها ومسجديتّها ، فلو بنى الرجل في داره مسجدا وحجزه (٣) عن الناس ، واختصّ به لنفسه لبقي على ملكه ، ولم يخرج إلى حدّ المسجدية ، ولو أباحه للناس [١٩] كلهم لكان حكمه حكم سائر المساجد العامة ، وخرج عن اختصاص الأملاك.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ).

يعنى إذا استولى عليها المسلمون ، وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكّن الكافر حينئذ من دخولها ، يعنى (٤) إن دخلوها فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم منها وأذيّتهم على دخولها ؛ وهذا يدلّ على أنه ليس للكافر دخول المسجد بحال ، وسيأتى ذلك إن شاء الله تعالى.

الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (٥) : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

__________________

(١) الكظامة : هكذا في الأصول. والكظامة : كالقناة.

(٢) بصاحبها.

(٣) في ا : حجره

(٤) في م : بل إن دخلها.

(٥) الآية الخامسة عشرة بعد المائة.


فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : وفي ذلك سبعة أقوال :

الأول ـ أنها نزلت في صلاة النبىّ صلى الله عليه وسلم قبل بيت المقدس ، ثم عاد فصلّى إلى الكعبة ؛ فاعترضت عليه اليهود ، فأنزلها الله تعالى له كرامة وعليهم حجّة ، قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنها نزلت في تخيير النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليصلّوا حيث شاءوا من النواحي ، قاله قتادة.

الثالث ـ أنها نزلت في صلاة التطوّع ، يتوجّه المصلّى في السفر إلى حيث شاء فيها راكبا ، قاله ابن عمر.

الرابع ـ أنها نزلت فيمن صلّى الفريضة إلى غير القبلة في ليلة مظلمة ، قاله عامر بن ربيعة.

الخامس ـ أنها نزلت في النجاشيّ ، آمن بالنبىّ صلى الله عليه وسلم ولم يصل إلى قبلتنا ، قاله قتادة.

السادس ـ أنها نزلت في الدعاء.

السابع ـ أنّ معناها أينما كنتم وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب فلكم قبلة واحدة تستقبلونها.

قال القاضي : هذه الأقوال السبعة لقائليها تحتمل الآية جميعها ؛ فأما قول ابن عباس فيشهد له قوله سبحانه وتعالى (١) : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...).

وأما قول ابن عمر فسند صحيح ، وهو قوىّ في النظر ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحرم في السفر على الراحلة ، مستقبل القبلة ، ثم يصلى حيث توجّهت به بقية الصلاة (٢) ، وهو صحيح (٣).

وأما قول عامر بن ربيعة فقد أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه ، وإن كان المصنّفون قد رووه.

وقد اختلف العلماء في ذلك ؛ فقال أبو حنيفة ومالك : تجزئه ، بيد أن مالكا رأى عليه الإعادة في الوقت استحبابا.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٤٢

(٢) في م : ثم يتوجه حيث توجهت به يصلى بقية الصلاة.

(٣) صحيح مسلم : ٤٨٦


وقال المغيرة (١) والشافعى : لا يجزئه ؛ لأن القبلة شرط من شروط الصلاة ، فلا ينتصب الخطأ عذرا في تركها ، كالماء الطاهر والوقت.

وما قاله مالك أصحّ ، لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسابقة (٢) ، وتبيحها أيضا الرّخصة حالة السفر ، فكانت حالة عذر أشبه بها ؛ لأن الماء الطاهر لا يبيح تركه إلى الماء النجس ضرورة فلا يبيحه خطأ.

المسألة الثانية ـ معنى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).

أى ذلك له ملك وخلق لجواز الصلاة إليه وإضافته إليه تشريفا وتخصيصا.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

قيل : معناه فثمّ الله ، وهذا يدلّ على نفى الجهة والمكان عنه تعالى ، لاستحالة ذلك عليه ، وأنه في كل مكان بعلمه وقدرته.

وقيل : معناه فثمّ قبلة الله ، ويكون الوجه اسما للتوجّه.

وتحقيق القول فيه : أن الله تعالى أمر بالصلاة عباده ، وفرض فيها الخشوع [٢٠] استكمالا للعبادة ، وألزم الجوارح السكون ، واللسان الصّمت إلا عن ذكر الله تعالى ، ونصب البدن إلى جهة واحدة ، ليكون ذلك أنفى للحركات ، وأقعد للخواطر ، وعيّنت له جهة الكعبة تشريفا له.

وقيل له : إن الله سبحانه قبل وجهك ، معناه أنك قصدت التوجّه إلى الله تعالى ، وقد عيّن لك هذا الصّوب (٣) ، فهنالك تجد ثوابك ، وتحمد إيابك.

المسألة الرابعة ـ في تنزيل الآية على الأقوال المتقدمة :

لا يخفى أن عموم الآية يقتضى بمطلقه جواز التوجّه إلى جهتي المشرق والمغرب بكل حال ، لكنّ الله سبحانه خصّ من ذلك جواز التوجّه إلى جهة بيت المقدس في وقت ، وإلى جهة الكعبة في حال الاختيار في الفرض والحضر فيها أيضا ، وبقيت على النافلة في السفر ؛ وقد تقدّم بيان ذلك في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ.

__________________

(١) في ا : المعتزلة.

(٢) المسايفة : المضاربة بالسيف. وفي م : المسابقة.

(٣) الصوب : القصد.


الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

الآية فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ ابتلى معناه اختبر ، وقد تقدم بيانه في كتاب المشكلين ، وبيّنا أنّ معناه أمر ليعلم من الامتثال أو التقصير [مشاهدة] (٢) ما علم غيبا ، وهو عالم الغيب والشهادة ، تختلف الأحوال على المعلومات ، وعلمه لا يختلف ، بل يتعلق بالكلّ تعلقا واحدا.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (بِكَلِماتٍ) هي جمع كلمة ، يرجع تحقيقها (٣) إلى كلام الباري سبحانه ، لكنه تعالى عبّر بها عن الوظائف التي كلّفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سمّيت به ، كما يسمّى عيسى عليه السّلام كلمة ؛ لأنه صدر عن الكلمة (٤) ، وهي كن ، وتسمية الشيء بمقدّمته أحد قسمي المجاز الذي بيّناه في موضعه.

المسألة الثالثة ـ ما تلك الكلمات؟

وقد اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا ، لبابه قولان :

أحدهما ـ أنها شريعة الإسلام ، فأكملها إبراهيم عليه السلام. قال ابن عباس : وما قام أحد بوظائف الدين مثله ، يعنى ـ والله أعلم ـ قبله ؛ فقد قام بها بعده كثير من الأنبياء ، وخصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم وعليهم.

الثاني ـ أنها الفطرة التي أو عز الله تعالى بها إليه ، ورتّبها عليه ، وروت عائشة رضى الله عنها في الصحيح عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : عشر من الفطرة : قصّ الشارب ، وإعفاء اللّحية ، والسّواك ، واستنشاق الماء ، وقصّ الأظفار ، وغسل البراجم (٥) ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وانتقاص الماء (٦) ، ونسبت العاشرة إلا أن تكون المضمضة(٧)

وروى عمّار بن ياسر الحديث ، وقال : [المضمضة] (٨) ، والاستنشاق ، وزاد الختان ، وذكر الانتضاح بدل انتقاص الماء.

__________________

(١) الآية الرابعة والعشرون بعد المائة.

(٢) ليس في م.

(٣) في ق : وترجع حقيقتها.

(٤) في م : صدر عن كلمة.

(٥) البراجم : العقد التي تكون في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ.

(٦) انتقاص الماء : يعنى الاستنجاء.

(٧) صحيح مسلم : ٢٢٣

(٨) من م.


وقد قال بعض علمائنا : إن معنى قوله هنا : «من الفطرة» يعنى من السنّة ، وأنا أقول : إنها من الملّة. وقد روى أن إبراهيم ابتلى بها فرضا ، وهي لنا سنّة ، والذي يصحّ أن إبراهيم عليه السلام ابتلى بها تكليفا غير معيّن من الفرض أو الندب في جميعها أو انقسام الحال فيها.

وقد اتفقت الأمة على أنها من الملّة ، واختلفوا في مراتبها ؛ فأما قصّ الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم ؛ فإنهم يقصّون لحاهم ، ويوفّرون شواربهم ، أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال (١) والنظافة. وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم من الطعام والقلح (٢). وأما قصّ الأظفار فلتنزيه الطعام عما يلتئم من الوسخ فيها والأقذار. وأما غسل البراجم فلما يجتمع من الأوساخ [٢١] في غضونها. وحلق العانة ونتف الإبط تنظيفا عما يتلبّد من الوسخ فيهما على شعرهما ومما يجتمع من الرّحض (٣) فيهما ، والاستنجاء لتنظيف ذلك المحلّ وتطييبه عن الأذى والأدواء. وأما الختان فلنظافة القلفة (٤) عمّا يجتمع من أذى البول فيها ، ولم يختتن أحد قبل إبراهيم عليه السلام ؛ ثبت في الصحيح أنه اختتن بالقدوم وهو ابن مائة (٥) وعشرين سنة.

وقد اختلف العلماء فيه ، فرأى الشافعى (٦) أنه سنّة لما قرن به من إخوته في هذا الحديث ، ورأى مالك (٧) أنه فرض ؛ لأنه تكشف له العورة ولا يباح الحرام (٨) إلا الواجب ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف ، فلما أتم إبراهيم عليه السلام هذه الوظائف أثنى الله سبحانه عليه ، فقال (٩) : وإبراهيم الّذى وفي.

سمعت بعض العلماء يقول : وإبراهيم الذي وفى بماله للضّيفان ، وببدنه للنيران ، وبقلبه للرحمن.

الآية الموفية عشرين ـ قوله تعالى (١٠) : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً).

__________________

(١) في ا : الكمال.

(٢) القلح : صفرة الأسنان.

(٣) الرحض : العرق ، وفي ا : الرمص ، وأصله الوسخ الأبيض يجتمع في الموق.

(٤) القلفة : جلدة الذكر.

(٥) في صحيح مسلم : ١٨٣٩ : وهو ابن ثمانين سنة. والمثبت والموطأ أيضا. والقدوم بالتخفيف : آلة النجار المعروفة. ويروى القدوم مشددا : وهو موضع.

(٦) في م : مالك.

(٧) في م : الشافعى.

(٨) في ا : الحريم ، وهو خطأ مطبعى.

(٩) سورة النجم ، آية ٣٧.

(١٠) الآية الخامسة والعشرون بعد المائة.

(٤ / ١ ـ أحكام)


هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على فضله ، وتعديد (١) لنعمه التي منها أن جعل البيت الحرام ـ للعرب عموما ولقريش خصوصا ـ مثابة للناس ؛ أى معادا في كل عام لا يخلو منهم ، يقال : ثاب إلى كذا ؛ أى رجع وعاد إليه.

فإن قيل : ليس كلّ من جاءه عاد إليه. قلنا : لا يختصّ ذلك بمن ورد عليه ، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة ، ولم يعدم قاصدا من الناس ؛ وكذلك جعله تبارك وتعالى أمنا يلقى الرجل فيه قاتل وليّه فلا يروّعه. وهذا كقوله تعالى (٢) : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، وكذلك (٣) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). وهذا لما كان الله تعالى قد ركّب في قلوبهم من تعظيم البقعة وتفضيل الموضع على غيره من الأرض المشابهة له في الصفة ، بهذه (٤) الخصّيصى المعظمة.

وقد سمعت أنّ الكلب الخارج من الحرم لا يروّع الصيد بها ، وهذا من آيات الله تعالى فيها ؛ وهذا اللفظ وإن كان ورد بالبيت فإنّ المراد به الحرم كلّه ؛ لأن الفائدة فيه كانت وعليه دامت.

وقد اختلف العلماء في تفسير الأمن على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه أمن من عذاب الله تعالى في الآخرة ، والمعنى أنّ من دخله معظّما له ، وقصده محتسبا (٥) فيه لمن تقدّم إليه. ويعضده ما روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (٦) : من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.

الثاني ـ معناه من دخله كان آمنا من التشفّى والانتقام ، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحقّ يكون لها عليه.

الثالث ـ أنه أمن من حدّ يقام عليه ، فلا يقتل به الكافر ، ولا يقتصّ فيه من القاتل ، ولا يقام الحدّ على المحصن والسارق ؛ قاله جماعة من فقهاء الأمصار ، ومنهم أبو حنيفة ، وسيأتى عليه الكلام.

الرابع ـ أنه أمن من القتال ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : إن الله حبس عن مكة الفيل [أو القتل] (٧) وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، لم تحل لأحد قبلي،

__________________

(١) في ا : وتقرير.

(٢) سورة آل عمران ، آية ٩٧.

(٣) سورة العنكبوت ، آية ٦٧

(٤) في ا : فهذه.

(٥) في ا : محسنا.

(٦) صحيح مسلم : ٩٨٣.

(٧) ليست في م.


ولا تحلّ لأحد بعدي ، وإنما أحلّت لي ساعة من نهار.

والصحيح فيه القول الثاني ، وهذا إخبار من الله تعالى عن منّته على عباده ، حيث قرّر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت ، وتأمين من لجأ إليه ؛ إجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، حين أنزل به أهله وولده ، فتوقع عليهم الاستطالة ، [٢٢] فدعا أن يكون أمنا لهم فاستجيب دعاؤه.

وأما من قال : إنه أمن من عذاب الله تعالى ، فإن الله تعالى نبّه يجعله مثابة للناس وأمنا على حجّته على خلقه ، والأمن في الآخرة لا تقام به حجّة.

وأما امتناع الحدّ فيه فقول ساقط ؛ لأن الإسلام الذي هو الأصل ، وبه اعتصم الحرم ، لا يمنع من إقامة الحدود والقصاص ؛ وأمر لا يقتضيه الأصل أخرى ألّا يقتضيه الفرع.

وأما الأمن عن القتل والقتال [فقول لا يصحّ ؛ لأنه قد كان فيه القتل والقتال] (١) بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة ، وإنما أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم عن التحليل للقتال ، فلا جرم لم يكن فيها تحليل قبل ذلك اليوم ، ولا يكون لعدم النبوة إلى يوم القيامة ، وإنما أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم عن امتناع تحليل القتال شرعا لا عن منع وجوده حسّا.

الآية الحادية والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في تحقيق المقام : هو مفعل ـ بفتح العين ، من قام ، كمضرب ـ بفتح العين أيضا ، من ضرب ؛ فمن الناس من حمله على عمومه في مناسك الحج ؛ والتقدير : واتخذوا من مناسك إبراهيم في الحجّ عبادة وقدوة. والأكثر حمله على الخصوص في بعضها.

واختلفوا فيه ، فقال قوم : هو الحجر الذي جعل إبراهيم عليه رجله حين غسلت زوج إسماعيل عليهما السلام رأسه. وقد رأيت بمكة صندوقا فيه حجر ، عليه أثر قدم قد انمحى واخلولق (٣) ، فقالوا كلهم : هذا أثر قدم إبراهيم عليه السلام ، وهو موضوع بإزاء الكعبة.

وقال آخرون : هو الموضع الذي دعا إبراهيم عليه السلام فيه ربه تعالى حين استودع ذرّيته.

__________________

(١) من م.

(٢) من الآية الخامسة والعشرون بعد المائة.

(٣) اخلولق : بلى.


فمن حمله على العموم قال : معناه ـ كما قدّمنا ـ مصلّى : مدعى أى موضعا للدعاء. ومن خصّصه قال : معناه موضعا للصلاة المعهودة ؛ وهو الصحيح ؛ ثبت من كلّ طريق أنّ عمر رضى الله عنه قال : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله ؛ لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ....) (١) فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم طوافه مشى إلى المقام المعروف اليوم ، وقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)) ـ وصلّى فيه ركعتين ، وبيّن بذلك أربعة أمور :

الأول ـ أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية. الثاني ـ أنه بين الصلاة وأنها المتضمنة للركوع والسجود لا مطلق الدعاء. الثالث ـ أنه عرّف وقت الصلاة فيه وهو عقب الطواف ، وغيره من الأوقات مأخوذ من دليل آخر. الرابع ـ أنه أوضح أنّ ركعتي الطواف واجبتان ، فمن تركهما فعليه دم.

الآية الثانية والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)

قال علماؤنا : المراد بذلك اليهود ، عابوا على المسلمين رجوعهم إلى الكعبة عن بيت المقدس ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أولا أن يتوجّه إلى بيت المقدس ، حتى إذا دانى اليهود في قبلتهم كان أقرب إلى إجابتهم ، فإنه عليه السلام كان حريصا على تأليف الكلمة وجمع الناس على الدين ، فقابلت اليهود هذه النعمة بالكفران ، فأعلمهم الله تعالى أنّ الجهات كلّها له ، وأن المقصود وجهه ، وامتثال أمره ، فحيثما أمر بالتوجّه إليه توجه إليه ؛ وصحّ ذلك فيه. وتمام الكلام في القسم الثاني ، وهو قريب من الذي تقدّم من قبل.

الآية الثالثة والعشرون ـ قوله [٢٣] تعالى (٣) : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).

الوسط في اللغة ـ الخيار ، وهو العدل.

وقال بعضهم : هو من وسط الشيء ، وليس للوسط الذي هو بمعنى ملتقى الطرفين هاهنا دخول ؛ لأن هذه الأمة آخر الأمم ؛ وإنما أراد به الخيار العدل ، يدل عليه قوله تعالى بعده : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). فأنبأنا ربّنا تعالى

__________________

(١) الحديث بتمامه في القرطبي : ٢ ـ ١١٢

(٢) الآية الثانية والأربعون بعد المائة.

(٣) الآية الثالثة والأربعون بعد المائة.


بما أنعم به علينا من تفضيله لنا باسم العدالة ، وتوليته خطّة الشهادة على جميع الخليفة ، فجعلنا أولا مكانا وإن كنّا آخرا زمانا ، كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون السابقون. وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول (١) ، ولا ينفذ على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلا ، وذلك فيما يأتى بعد إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلّى إلى بيت المقدس ، واختلفوا في تأويلها ؛ فمنهم من قال : وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجّه إلى القبلة وتصديقكم [٢٥] لنبيكم ، قاله محمد بن إسحاق ، وتابعه عليه معظم المتكلمين (٣) ، والأصوليون.

وقد روى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك ـ أن المراد به صلاتكم ، زاد أشهب ، وابن عبد الحكم : قال مالك : أقام الناس يصلّون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ؛ ثم أمروا بالبيت ، فقال الله سبحانه وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ؛ أى في صلاتكم إلى البيت المقدس.

قال : وإنى لأذكره بهذه الآية قول المرجئة : إن الصلاة ليست من الإيمان.

فإن قيل : فإن كانت الصلاة من الإيمان فلم قال مالك : إنّ تاركها غير كافر. وهذا تناقض ، فحقّقوا وجه التقصي عنه (٤).

فالجواب إنّا وإن قلنا إن الصلاة من الإيمان لم يبعد ذلك تسمية ، وقد جاء ذلك في القرآن ؛ قال الله تعالى (٥) : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ... إلى قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ... إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ).

وكذلك لا يبعد أن يسمّى تاركها كافرا. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : بين (٦) العبد وبين الكفر ترك الصلاة.

وقد قال علماؤنا الأصوليون : في ذلك وجهان :

__________________

(١) في م هنا : مسألة العدالة شرط في الشهادة.

(٢) الآية الثالثة والأربعون بعد المائة. وفي م هنا تقديم وتأخير لعله من الناسخ

(٣) في ا : المسلمين.

(٤) في م : التفضى.

(٥) سورة الأنفال ، آية ٢ ، ٣ ، ٤

(٦) في صحيح مسلم.

(٨٨) : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.


أحدهما ـ أن تكون تسمية الصلاة إيمانا وتركها كفرا مجازا (١).

الثاني ـ أن يرجع ذلك إلى اعتقاد وجوب الصلاة أو اعتقاد نفى وجوبها ؛ وهذا لا يحتاج إليه ؛ بل يقول علماؤنا من الفقهاء : إنها تسمّى إيمانا ، وهي من أركان الإيمان وعهد الإسلام (٢). ولكنّ الفرق بين علماء الأصول والمرجئة أن المرجئة قالت : ليست من الإيمان وتاركها في الجنة ، وهؤلاء قالوا : ليست من الإيمان وتاركها في المشيئة ، وعلماؤنا الفقهاء قالوا : هي من الإيمان وتاركها في المشيئة ، قضت بذلك آي القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى (٣) : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات كتبهنّ الله على عباده في اليوم والليلة ، من جاء بهنّ لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.

فقضت هذه الآية وهذا الحديث ونظائرهما على كل متشابه جاء معارضا في الظاهر لهما ؛ ولم يمتنع أن تسمى الصلاة إيمانا في إطلاق اللفظ ويحكم لتاركها بالمغفرة تخفيفا ورحمة.

ويحمل ما جاء من الألفاظ الكفرة ؛ كقوله عليه السلام : من ترك الصلاة فقد كفر ونحوه على ثلاثة أوجه : الأول على التغليظ. الثاني أنه قد فعل فعل الكافر. الثالث أنه قد أباح دمه ، كما أباحه الكافر ؛ والله أعلم.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (٤) : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

الشّطر في اللغة يقال على النّصف من الشيء ، ويقال على القصد ، وهذا خطاب لجميع المسلمين ، من كان منهم معاينا للبيت ومن كان غائبا عنه.

وذكر الباري سبحانه المسجد الحرام ، والمراد به البيت ، كما ذكر في قوله تعالى (٥) : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) الكعبة ، والمراد به الحرم ، لأنه تعالى خاطبنا

__________________

(١) العبارة في م : أن يكون تسمية الإيمان صلاة والصلاة إيمانا وتركها كفرا مجازا.

(٢) في م : وتاركها من أهل الإسلام.

(٣) سورة النساء ، آية ١١٦

(٤) الآية الرابعة والأربعون بعد المائة.

(٥) سورة البقرة ، آية ١٢٥


بلغة العرب ، وهي تعبّر عن الشيء بما يجاوره أو بما يشتمل عليه ؛ وإنما أراد سبحانه أن يعرّف أن من بعد عن البيت فإنه يقصد (١) الناحية لا عين البيت ، فإنه يعسر [نظره و] (٢) قصده ؛ بل لا يمكن أبدا إلّا للمعاين ، وربما التفت المعاين يمينا أو شمالا فإذا به قد زهق (٣) عنه ، فاستأنف الصلاة ؛ وأضيق ما تكون القبلة عند معاينة القبلة.

وقد (٤) اختلف العلماء : هل فرض الغائب عن الكعبة استقبال العين؟ [أو استقبال الجهة؟ فمنهم من قال : فرضه استقبال العين] (٥) ؛ وهذا ضعيف ؛ لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال الجهة ؛ وهو الصحيح لثلاثة أمور :

أحدها ـ أنه المكن الذي يرتبط به التكليف.

الثاني ـ أنه المأمور به في القرآن ، إذ قال (٦) : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). فلا يلتفت إلى غير ذلك.

الثالث ـ أنّ العلماء احتجّوا بالصفّ الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت ، ويجب أن يعوّل على ما تقدم ؛ فإن الصفّ الطويل إذا بعد عن البيت أو طال وعرض أضعافا مضاعفة لكان ممكنا أن يقابل [جميع] (٧) البيت.

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (٨) : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).

وهي مشكلة لباب الكلام فيها في مسألتين :

المسألة الأولى ـ أنّ الوجهة هي هيئة التوجّه كالقعدة ـ بكسر القاف : هيئة القعود ، والجلسة : هيئة الجلوس ، وفي المراد بها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن المراد بذلك أهل الأديان ؛ المعنى لأهل كل ملّة حالة في التوجه إلى القبلة ؛ روى عن ابن عباس.

الثاني ـ أنّ المعنى لكلّ وجهة في الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي الصلاة إلى الكعبة ؛ قاله قتادة.

__________________

(١) في م : يستقبل.

(٢) من م.

(٣) زهق : ذهب وخرج وبعد عنه.

(٤) هنا في م : مسألة هل الفرض استقبال عين الكعبة أو الجهة.

(٦) سورة البقرة ، آية ١٤٤

(٨) الآية الثامنة والأربعون بعد المائة.


الثالث ـ أن المراد به (١) جميع المسلمين ، أى لأهل كل جهة من الآفاق وجهة ممّن بمكة وممن بعد (٢) ، ليس بعضها مقدّما على البعض في الصواب ؛ لأن الله تعالى هو الذي ولّى جميعها [٢٤] وشرع جملتها ، وهي وإن كانت متعارضة في الظاهر والمعاينة فإنها متفقة في القصد وامتثال الأمر.

وقرئ : هو مولّاها ، يعنى المصلى ؛ التقدير المصلى هو موجّه نحوها ، وكذلك قيل في قراءة من قرأ هو موليها ؛ إن المعنى أيضا أن المصلى هو متوجّه نحوها ؛ والأول أصحّ في النظر ، وأشهر في القراءة والخبر.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

معناه : افعلوا الخيرات ، من السّبق ، وهو المبادرة إلى الأوّلية ، وذلك حثّ على المبادرة والاستعجال إلى الطاعات ، ولا خلاف فيه بين الأمة في الجملة.

وفي التفضيل اختلاف ؛ وأعظم مهمّ اختلفوا في تفضيله الصلاة ؛ فقال الشافعى (٣) : أول الوقت فيها أفضل من غير تفصيل ؛ لظاهر هذه وغيرها ، كقوله تعالى (٤) : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

وقال أبو حنيفة : آخر الوقت أفضل ؛ لأنه عنده وقت الوجوب حسبما مهّدناه في مسائل الخلاف.

وأمّا مالك ففصّل القول ؛ فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل عنده من غير خلاف. وأما الظهر والعصر فلم يختلف قوله : إن أول الوقت أفضل للفذّ (٥) ، وإن الجماعة تؤخّر على ما في حديث عمر رضى الله عنه ؛ والمشهور في العشاء أن تأخيرها أفضل لمن قدر عليه ، ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّرها ليلة حتى رقد الناس واستيقظوا ، ثم قال (٦) : لو لا أن أشقّ على أمتى لأخّرتها هكذا.

وأما الظهر فإنها تأتى الناس على غفلة فيستحبّ تأخيرها قليلا حتى يتأهّبوا ويجتمعوا.

وأما العصر فتقديمها أفضل.

__________________

(١) في ا : المراد به في جميع المسلمين.

(٢) في م : يليه.

(٣) هنا في م : مسألة التفضيل يتعلق بأول وقت الصلاة.

(٤) سورة آل عمران ، آية ١٣٣

(٥) الفذ : الفرد.

(٦) صحيح مسلم : ٤٤٤


ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة لأجل الجماعة أفضل من تقديمها ؛ فإنّ فضل الجماعة مقدّر معلوم ، وفضل أول الوقت مجهول ، وتحصيل المعلوم أولى.

وأما الصبح فتقديمها أفضل ، لحديث عائشة رضى الله عنها في الصبح (١) : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الصبح فينصرف النساء ملتفّات بمروطهنّ ما يعرفن من الغلس(٢).

ولحديث جابر رضى الله عنه [في الصبح أيضا] (٣) : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم في صلاة العشاء قد اجتمعوا عجّل ، وإذا رآهم أبطئوا أخر. والصبح كانوا أو كان (٤) النبي صلى الله عليه وسلم يصلّيها بغلس ؛ معناه كانوا مجتمعين أولم يكونوا مجتمعين كان يغلّس بها (٥).

وأما المغرب فلمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الصلاة عند غروب الشمس اقتدى به في ذلك أو امتثل أمره.

وبالجملة فلا يعادل المبادرة إلى أول الوقت شيء. قال الله تعالى ـ مخبرا عن موسى صلى الله عليه وسلم : (٦) (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى).

وروى الدارقطني عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله. قال : رضوان الله أحبّ إلينا من عفوه ؛ فإن رضوانه للمحسنين ، وعفوه للمقصّرين.

وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى الظهر إذا زالت الشمس. ولعله في السفر إذا اجتمع أصحابه ، إذ قد صحّ عنه أنه قال : أبردوا حتى رأينا فيء (٧) التلول.

الآية السابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٨) : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ).

وفي السورة التي بعدها : (٩) (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً). تعلّق بعضهم في أن الشهيد لا يغسّل ولا يصلّى الله عليه بهذه (١٠) الآية ؛ لأن الميت هو الذي

__________________

(١) في م : الصحيح. والحديث في صحيح مسلم : ٤٤٦

(٢) المرط : كساء من صوف أو خز ، جمعه مروط. والغلس : ظلمة آخر الليل.

(٣) ليس في م. (٤) في م : إذا كان.

(٥) صحيح مسلم ٤٤٧

(٦) سورة طه ، آية ٨٤

(٧) الإبراد : انكسار الوهج والحر (النهاية). والفيء : الظل.

(٨) الآية الرابعة والخمسون بعد المائة.

(٩) سورة آل عمران ، آية ١٦٩

(١٠) هنا في هامش م : مسألة : الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه.


يفعل ذلك به ، والشهيد حىّ ، وبه قال مالك والشافعى.

وقال أبو حنيفة : لا يصلّى الله عليه ، وكما أن الشهيد في حكم الحىّ فلا يغسل ، فكذلك لا يصلّى الله عليه ؛ لأن الغسل تطهير ، وقد طهر بالقتل ، فكذلك الصلاة شفاعة وقد أغنته عنها الشهادة ، يؤكّده أنّ الطهارة [٢٦] إذا سقطت مع القدرة عليها سقطت الصلاة ؛ لأنها شرطها ، وسقوط الشرط دليل على سقوط المشروط ، وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى عليهم لا يصحّ فيه طريق ابن عباس ولا سواه ، وقد استوفيناها في مسائل الخلاف.

الآية الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

فيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى شعبة عن عاصم ، قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة ، فقال : كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما ، فنزلت الآية.

المسألة الثانية ـ قال علماء اللغة : قوله تعالى : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ؛ يعنى من معالم الله في الحجّ ، واحدتها شعيرة ، ومنه إشعار الهدى ؛ أى إعلامه بالجرح وما يصدق عليه (٢) ، والمعنى فيه عندي ما حصل به العلم لإبراهيم عليه السلام وأشعر به إبراهيم ، أى أعلم.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ).

الجناح في اللغة عبارة عن الميل كيفما تصرّف ، ولكنه خصّ بالميل إلى الإثم ، ثم عبّر به عن الإثم في الشريعة ، وقد استعملته العرب في الهمّ والأذى ، وجاء في أشعارها وأمثالها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

وهي معارضة الآية ، وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضى الله عنها : أرأيت قول الله تبارك وتعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله ... الآية ؛ فو الله ما على أحد جناح ألا يطّوّف بهما.

قالت عائشة رضى الله عنها : بئس ما قلت يا بن أختى (٣) ، إنها لو كانت على ما تأوّلتها لكان فلا جناح عليه ألا يطّوف بهما ، إنما كان هذا الحىّ من الأنصار قبل أن يسلموا

__________________

(١) الآية الثامنة والخمسون بعد المائة.

(٢) في م : وما يعلق عليه.

(٣) في م : يا ابن أخى.

والمثبت في صحيح مسلم ٩٢٩ أيضا.


يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلّل (١) ، فكان من أهل لمناة يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : إنّ الصفا والمروة .... الآية ، ثم سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس ينبغي لأحد أن يدع الطواف بينهما.

قال ابن شهاب : فذكرت ذلك لأبى بكر بن عبد الرحمن ، فقال : إنّ هذا العلم ، أى ما سمعت به.

(تحقيق هذا الحديث وتفهيمه) : اعلموا وفّقكم الله تعالى ـ أنّ قول القائل : لا جناح عليك أن تفعل ، إباحة للفعل. وقوله : فلا جناح عليك ألا تفعل إباحة لترك الفعل ؛ فلما سمع عروة رضى الله عنه قول الله سبحانه : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ـ قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ، ثم رأى الشريعة مطبقة (٢) على أنّ الطواف لا رخصة في تركه ، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين ، فقالت له عائشة رضى الله عنها : ليس قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) دليلا على ترك الطّواف ؛ إنما كان يكون الدليل (٣) على تركه لو كان «فلا جناح عليه ألا يطوف» ؛ فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ، ولا فيه دليل عليه ، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرّج منه في الجاهلية ، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه ؛ فأعلمهم الله تعالى أنّ الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا.

فأدت الآية إباحة الطواف بينهما ، وسلّ سخيمة الحرج التي كانت في صدور المسلمين منها قبل الإسلام [٢٧] وبعده ، وقال الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ؛ أى من معالم (٤) الحجّ ومناسكه ومشروعاته ، لا من مواضع الكفر ، وموضوعاته ؛ فمن جاء البيت حاجّا أو معتمرا فلا يجد في نفسه شيئا من الطواف بهما.

(وهم وتفسير) : [قال الفراء] (٥) : معنى قوله (٦) : لا جناح عليه ألّا يطّوف بهما ، معناه

__________________

(١) جبل يهبط تنه إلى قديد من ناحية البحر.

(٢) في ا : منطبقة.

(٣) في ق : إنما يكون دليلا على تركه لو كان «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما» ، فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف.

(٤) في ا : ومعالم.

(٥) من م.

(٦) معاني القرآن للفراء : ١ ـ ٩٥


أن يطوّف ، وحرف «لا» زائد ، وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما ـ أنّا قد بيّنا في مواضع أنه يبعد أن تكون «لا» زائدة.

الثاني ـ أنه لا لغوىّ ولا فقيه يعادل عائشة رضى الله عنها ، وقد قررتها غير زائدة ، وقد بيّنت معناها ، فلا رأى (١) للفراء ولا لغيره.

المسألة الخامسة ـ اختلف (٢) الناس في السعى بين الصفا والمروة ؛ فقال الشافعى : إنه ركن. وقال أبو حنيفة : ليس بركن. ومشهور مذهب مالك أنه ركن ، وفي العتبية : يجزئ تاركه الدم.

ومعوّل من نفى وجوبه وركنيّته أنّ الله تعالى إنما ذكره في رفع الحرج خاصة كما تقدم بيانه. ودليلنا ما روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنّ الله كتب عليكم السعى فاسعوا. صححه الدارقطني. ويعضده المعنى ؛ فإنه شعار لا يخلو عنه الحجّ والعمرة ، فكان ركنا كالطواف ، وما ذكروه من رفع الحرج أو تركه فقد تقدّم القول فيه.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً).

تعلّق به من ينفى ركنيّة السعى كأبى حنيفة وغيره ، قال : إنّ الله تعالى رفع الحرج عن تركه. وقال تعالى بعد ذلك : ومن تطوّع خيرا بفعله فإنّ الله يأجره. والتطوّع هو ما يأتيه المرء من قبل نفسه. وهذا ليس يصحّ ؛ لأنا قد بينا إلى أى معنى يعود رفع الجناح. وقوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) ، إشارة إلى أن السعى واجب ، فمن تطوّع بالزيادة عليه فإن لله تعالى يشكر ذلك له.

الآية التاسعة والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

استدلّ بها علماؤنا على وجوب تبليغ الحقّ وبيان العلم على الجملة.

__________________

(١) في م : فلا رد.

(٢) في هامش م هنا : مسألة السعى ركن من أركان الحج.

(٣) الآية التاسعة والخمسون بعد المائة.


وللآية تحقيق هو أنّ العالم إذا قصد الكتمان عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أن معه غيره.

قال عثمان رضى الله عنه : لأحدثنّكم حديثا لولا آية في كتاب الله عزّ وجلّ ما حدثتكموه :

قال عروة : الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ ...) الآية. قال أبو هريرة : إنّ الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، وو الله لو لا آية في كتاب الله ما حدّثت شيئا ، ثم تلا هذه الآية.

وكان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما لا يحدّثان بكل ما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم إلّا عند الحاجة إليه.

وكان الزبير أقلّهم حديثا مخافة أن يواقع الكذب ؛ ولكنهم رأوا أنّ العلم عمّ جميعهم فسيبلغ واحد إن ترك آخر.

فإن قيل : فالتبليغ فضيلة أو فرض ، فإن كان فرضا فكيف قصّر فيه هؤلاء الجلّة كأبى بكر ، وعمر ، والزبير ، وأمثالهم ، وإن كان فضيلة فلم قعدوا عنها؟

فالجواب أنّ من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية ؛ ولما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار.

وأما من لم يسأل فلا يلزمه التبليغ إلا في القرآن وحده. وقد قال سحنون : إن حديث [٢٨] أبى هريرة وعمرو هذا إنما جاء في الشهادة.

والصحيح عندي ما أشرنا إليه من أنه إن كان هناك من يبلّغ اكتفى به ، وإن تعيّن عليه لزمه ، وسكت الخلفاء عن الإشارة بالتبليغ ؛ لأنهم كانوا في المنصب من يردّ ما يسمع أو يمضيه مع علمهم بعموم التبليغ فيه ؛ حتى إن عمر كره كثرة التبليغ ، وسجن من كان يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد بينا تحقيقه في شرح الحديث الصحيح.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة التبليغ أنه قال : نضّر (١) الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها. والله أعلم.

__________________

(١) يروى بالتخفيف والتشديد : أراد حسن خلفه وقدره.


الآية الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال لي كثير من أشياخى : إنّ الكافر المعيّن لا يجوز لعنه ؛ لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الموافاة على الكفر.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقوام بأعيانهم من الكفّار.

وفي صحيح مسلم (٢) ، عن عائشة رضى الله عنها : دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فكلّماه بشيء فأغضباه فلعنهما ؛ وإنما كان ذلك لعلمه بمآلهما.

والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ، كجواز (٣) قتاله وقتله.

وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : اللهم إن عمرو بن العاص هجانى ، قد علم أنى لست بشاعر فالعنه ، اللهم واهجه عدد ما هجانى ، فلعنه. وقد كان إلى الإسلام والدين والإيمان مآله ، وانتصف بقوله : «عدد ما هجانى». ولم يزد ليعلّم العدل والإنصاف والانتصاف ، وأضاف الهجو إلى الباري سبحانه وتعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف له بذلك ، كما يضاف إليه الاستهزاء والمكر والكيد ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وفي صحيح مسلم : لعن المؤمن كقتله. وكذلك إن كان ذمّيا يجوز إصغاره فكذلك لعنه.

(تركيب) وهي المسألة الثانية ـ فأما العاصي المعيّن ، فلا يجوز لعنه اتفاقا ، لما

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء إليه بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : ما له لعنه الله! ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم ؛ فجعل له حرمة الأخوّة ، وهذا يوجب الشفقة. وهذا حديث صحيح.

وأما لعن العاصي مطلقا ، وهي (المسألة الثالثة) فيجوز إجماعا ، لما روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده. وقد قال

__________________

(١) الآية الواحدة والستون بعد المائة.

(٢) صفحة ٢٠٠٧

(٣) في ق : ولجواز قتله وقتاله.


بعض علمائنا في تأويل هذه الآية : إن معناه عليهم اللعنة يوم القيامة ، كما قال تعالى (١) : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

والذي عندي صحة لعنه في الدنيا لمن وافى كافرا بظاهر الحال ، وما ذكر الله تعالى عن الكفرة من لعنتهم وكفرهم فيما بينهم حالة أخرى ، وبيان لحكم آخر وحالة واقعة تعضد جواز اللعن في الدنيا ؛ وتكون هذه الآية (٢) لجواز اللعن في الدنيا ، فيكون للآيتين معنيان.

فإن قيل : فهل تحكمون بجواز لعنة الله [٢٩] لمن كان على ظاهر الكفر ، وقد علم الله تعالى موافاته مؤمنا؟

قلنا : كذلك نقول ، ولكن لعنة الله له حكمه بجواز لعنه لعباده المؤمنين أخذا بظاهر حاله ، والله أعلم بمآله.

الآية الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها خمس عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (إنما) ، وهي كلمة موضوعة للحصر تتضمّن النفي والإثبات ؛ فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفى ما عداه ؛ وقد بيّنا ذلك في ملجئة المتفقهين ومسائل الخلاف.

وقد حصرت هاهنا المحرّم (٤) لا سيما وقد جاءت عقب المحلل (٥) ؛ فقال تعالى (٦) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). فأدت هذه الآية الإباحة على الإطلاق ، ثم عقبها بالمحرم بكلمة «إنما» الحاصرة ؛ فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين ؛ فلا محرّم يخرج عن هذه الآية ، وهي مدنيّة ، وأكّدتها (٧) الآية الأخرى التي روى أنها نزلت بعرفة (٨) : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) إلى آخرها ، فاستوى البيان أولا وآخرا.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، آية ٢٥

(٢) في ا : وتكون منها الآية بجواز.

(٣) الآية الثالثة والسبعون بعد المائة.

(٤) في م : التحريم.

(٥) في ق : التحليل.

(٦) سورة البقرة ، آية ١٧٢

(٧) في ق : وأكدها بالآية.

(٨) سورة الأنعام ، آية ١٤٥


المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (الْمَيْتَةَ).

وهي الإطلاق عرفا ، والمراد بالآيات حكما ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل (١) بذكاة ، أو مقتولا بغير ذكاة ، كانت الجاهلية تستبيحه فحرّمه الله تعالى ؛ فجادلوا فيه فردّ الله تعالى عليهم على ما يأتى بيانه في الأنعام إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ في شعرها وصوفها وقرنها : ويأتى في سورة النحل إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ في عموم هذه الآية وخصوصها :

روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (٢) : أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فالميتتان السمك (٣) والجراد ، والدّمان الكبد والطحال. ذكره الدّارقطنيّ وغيره.

واختلف العلماء في تخصيص ذلك ؛ فمنهم من خصّصه في الجراد والسمك ، وأجاز اكلهما من غير معالجة ولا ذكاة ، قاله الشافعى (٤) وغيره. ومنهم من منعه في السمك وأجازه في الجراد ، وهو أبو حنيفة ، ومع اختلاف الناس في جواز تخصيص عموم الكتاب بالسنة فقد اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف ، وهذا الحديث يروى عن ابن عمر وغيره مما لا يصحّ سنده. ولكنه ورد في السمك حديث صحيح جدّا : في الصحيحين (٥) ، عن جابر ابن عبد الله ـ أنه خرج مع أبى عبيدة بن الجراح يتلقّى عيرا لقريش ، وزوّدنا جرابا من تمر ، فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابّة تدعى العنبر ، قال أبو عبيدة : ميتة ، ثم قال : بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اضطررتم فكلوا. قال : فأقمنا عليه شهرا حتى سمنّا ، وذكر الحديث. قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، فأكله.

وروى عن مالك عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (٦) : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.

__________________

(١) في م : من غير ذكاة

(٢) ابن كثير صفحة ٢٥٠ أول ، وابن ماجة صفحة ١١٠٢

(٣) في ابن ماجة : فأما الميتتان فالحوت والجراد.

(٤) في م : قاله مالك وغيره.

(٥) صحيح مسلم : ١٥٣٥

(٦) ابن ماجة ، صفحة ١٣٦


فهذا الحديث يخصّص بصحة سنده عموم القرآن في تحريم الميتة على قول من يرى ذلك ، وهو نصّ في المسألة.

ويعضده قول الله تعالى (١) : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) ، فصيده ما صيد وتكلف أخذه ، وطعامه ما طفا عليه ، أو جزر (٢) عنه.

ومنهم من خصّصه في [٣٠] السمك خاصة ، ورأى أكل ميتته ، ومنع من أكل الجراد إلا بذكاة ؛ قاله مالك وغيره ؛ وذلك لأنّ عموم الآية يجرى على حاله حتى يخصّصه الحديث الصحيح ، أو الآية الظاهرة ، وقد وجد كلاهما في السمك ، وليس في الجراد حديث يعوّل عليه في أكل ميتته.

أما أكل الجراد فجائز بالإجماع ، وفيه أخبار منها حديث ابن أبى أوفى (٣) : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد معه.

وروى سلمان أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : هو أكثر جنود الله ، لا آكله ولا أحرّمه (٤). ولم يصحّ. بيد أن الخلفاء أكلته ، وهو من صيد البر فلا بدّ فيه من ذكاة على ما يأتى في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : قد قال كعب : إنه نترة حوت (٥).

قلنا : لا ينبنى على قول كعب حكم ؛ لأنه يحدّث عما يلزمنا تصديقه ، ولا يجوز لنا تكذيبه ، وقد بيناه فيما تقدّم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَالدَّمَ).

اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد عيّنه الله تعالى هاهنا مطلقا ، وعيّنه في سورة الأنعام مقيّدا بالمسفوح ، وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيّد إجماعا.

وروى عن عائشة أنها قالت : لو لا أن الله تعالى قال : أو دما مسفوحا لتتبّع الناس ما في العروق ؛ فلا تلتفتوا في ذلك إلى ما يعزى إلى ابن مسعود في الدّم.

ثم اختلف الناس في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال ؛ فمنهم من قال : إنه

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٩٦

(٢) الجزر ضد المد ، وفعله كضرب.

(٣) صحيح مسلم : ١٥٤٦

(٤) ابن ماجة ، صفحة ١٧٣

(٥) ابن ماجة ، صفحة ١٧٤


لا تخصيص في شيء من ذلك ؛ قاله مالك. ومنهم من قال : هو مخصوص (١) في الكبد والطحال ؛ قاله الشافعى.

والصحيح أنه لم يخصّص ، وأن الكبد والطحال لحم ، يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر إلى برهان.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ).

اتفقت الأمة على أن [لحم] (٢) الخنزير حرام بجميع أجزائه. والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه ، وقد شغفت المبتدعة بأن تقول : فما بال شحمه ، بأى شيء حرّم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحما فقد قال شحما ، ومن قال شحما فلم يقل لحما ؛ إذ كلّ شحم لحم ، وليس كل لحم شحما من جهة اختصاص اللفظ ؛ وهو لحم من جهة حقيقة اللحمية ، كما أن كل حمد شكر ، وليس كل شكر حمدا من جهة ذكر النعم ، وهو حمد من جهة ذكر فضائل المنعم.

ثم اختلفوا في نجاسته ؛ فقال جمهور العلماء : إنه نجس. وقال مالك : إنه طاهر ، وكذلك كلّ حيوان عنده ؛ لأنّ علة الطهارة عنده هي الحياة. وقد قرّرنا ذلك عند مسائل الخلاف بما فيه كفاية ، وبيّنّاه طردا وعكسا ، وحققنا ما فيه من الإحالة [والملاءمة] (٣) والمناسبة على مذهب من يرى ذلك ومن لا يراه بما لا مطعن فيه ، وهذا يشير بك إليه ، فأما شعره فسيأتى ذكره في سورة النحل إن شاء الله تعالى.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ).

وموضعها سورة الأنعام.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ).

وتصريفه (٤) افتعل من الضرر ، كقوله : افتتن من الفتنة ، أى أدركه ضرر ، ووجد به.

وقد تكلّمنا في حقيقة الضّرر والمضطر في كتاب المشكلين بما فيه كفاية.

بيانه أنّ الضرر هو الألم الذي لا نفع فيه يوازيه أو يربى (٥) عليه ، وهو نقيض النّفع ، وهو الذي لا ضرر فيه ؛ ولهذا لم يوصف شرب الأدوية [٣١] الكريهة والعبادات الشاقة

__________________

(١) في م : مخصص.

(٢) من م.

(٣) ليس في م.

(٤) هنا في هامش م : مسألة في المضطر والمكره واشتقاقهما.

(٥) أربى : زاد.


بالضرر ، لما في (١) ذلك من النّفع الموازى له أو المربى عليه ، وحققنا أنّ المضطرّ هو المكلّف بالشيء الملجأ إليه ، المكره عليه ، ولا يتحقّق اسم المكره إلا لمن قدر على الشيء ، ومن خلق الله فيه فعلا لم يكن له عليه قدرة ، كالمرتعش والمحموم ، لا يسمّى مضطرّا ولا ملجأ ، وأشرنا إلى أنه قد يكون عند علمائنا المضطرّ ، وقد يكون [المضطر] (٢) المحتاج ، ولكن الملجأ مضطرّ حقيقة ، والمحتاج مضطر مجازا.

وقال الجبائي وابنه : إنّ المضطر هو الذي فعل فيه غيره فعلا ، وهذا تنازع يرجع إلى اللفظ ، وما ذهبنا إليه هو اللغة ، وهو المعروف عند العرب ، والمراد في كتاب الله تعالى بقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) : أى خاف التلف ، فسماه مضطرّا ، وهو قادر على التناول.

وبرد المضطرّ في اللغة على معنيين : أحدهما مكتسب الضرر (٣) ، والثاني مكتسب دفعه ، كالإعجام يرد بمعنى الإفهام وبمعنى نفيه ، فالسلطان يضطره أى يلجئه للضرر ، والمضطر يبيع منزله ، أى يدفع الضرر الذي يلحقه بامتناعه من بيع ماله.

وكلا المعنيين موجود في مسألتنا ؛ فإنه مضطر بما أدركه من ألم الجوع ، مضطرّ (٤) بدفعه ذلك عن نفسه بتناول الميتة ؛ وهو بالمعنى الأول مشروط ، وبالمعنى الثاني مأمور.

المسألة التاسعة ـ هذا الضرر الذي بيّناه يلحق إمّا بإكراه من ظالم ، أو بجوع في (٥) مخمصة ، أو بفقر لا يجد فيه غيره ؛ فإنّ التحريم يرتفع عن ذلك بحكم الاستثناء ، ويكون مباحا ، فأما الإكراه فيبيح ذلك كله إلى آخر الإكراه.

وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها ، وإن كانت نادرة فاختلف العلماء في ذلك على قولين : أحدهما يأكل حتى يشبع ويتضلّع ، قاله مالك.

وقال غيره : يأكل على قدر (٦) سدّ الرّمق ، وبه قال ابن حبيب وابن الماجشون ؛ لأن الإباحة ضرورة فتتقدّر بقدر الضرورة.

وقد قال مالك في موطّئه الذي ألّفه بيده ، وأملاه على أصحابه ، وأقرأه وقرأه عمره كلّه (٧) :

__________________

(١) في م : لما فيه.

(٢) من م.

(٣ ـ ٤) في م : مكتسب للضرورة.

(٥) مخمصة : جوعة.

(٦) في م : بمقدار ، ويسد الرمق : أى يبقى على الحياة.

(٧) الموطأ : ٤٩٩


يأكل حتى يشبع. ودليله أن الضرورة (١) ترفع التحريم فيعود مباحا ، ومقدار الضرورة إنما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد ، وغير ذلك ضعيف.

المسألة العاشرة ـ من اضطر إلى خمر (٢) ، فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف ، وإن كان لجوع أو عطش فلا يشرب ، وبه قال مالك في العتبية ، وقال : لا تزيده الخمر إلا عطشا ، وحجّته أن الله تعالى حرّم الخمر مطلقا ، وحرّم الميتة بشرط عدم الضرورة ، ومنهم من حمله على الميتة.

وقال أبو بكر الأبهرىّ : إن ردّت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها. وقد قال الله تعالى (٣) في الخنزير : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، ثم أباحه للضرورة ، وقال تعالى أيضا في الخمر (٤) : إنها رجس فتدخل في إباحة ضرورة الخنزير ؛ فالمعنى الجلىّ الذي هو أقوى من القياس ؛ ولا بدّ أن تروى ولو ساعة وتردّ الجوع ولو مدّة.

المسألة الحادية عشرة ـ إذا غصّ بلقمة فهل يجيزها [بخمر] (٥) أم لا؟ قيل : لا يسيغها (٦) بالخمر مخافة أن يدّعى ذلك.

وقال ابن حبيب : يسيغها لأنها حالة ضرورة.

وقد قال العلماء : من اضطرّ إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل دخل النار ، إلا أن يعفو الله تعالى عنه.

والصحيح أنه سبحانه حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير أعيانا مخصوصة في أوقات مطلقة [٣٢] ، ثم دخل التخصيص بالدليل في بعض الأعيان ، وتطرّق التخصيص بالنص إلى بعض الأوقات والأحوال ، فقال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ؛ فرفعت الضرورة التحريم ، ودخل التخصيص أيضا بحال الضرورة إلى حال تحريم الخمر لوجهين :

أحدهما ـ حملا على هذا بالدليل كما تقدّم من أنه محرّم ، فأباحته الضرورة كالميتة.

والثاني ـ أنّ من يقول : إنّ تحريم الخمر لا يحلّ بالضرورة ذكر أنها لا تزيده إلا عطشا

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة في ترخيص المضطر.

(٢) هنا في هامش م : مسألة في المضطر إلى شرب الخمر.

(٣) سورة الأنعام : ١٤٥ ، والآية : فإنه رجس.

(٤) سورة المائدة ٩٠ ، والآية : رجس من عمل الشيطان.

(٥) ليس في م.

(٦) في ق : يسيغها.


ولا تدفع عنه شبعا ؛ فإن صحّ ما ذكره كانت حراما ، وإن لم يصح ـ وهو الظاهر ـ أباحتها الضرورة كسائر المحرمات.

وأما الغاصّ بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى ، وأما فيما بيننا فإن شهدناه فلا يخفى بقرائن الحال صورة الغصّة من غيرها فيصدّق إذا ظهر ذلك ، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ).

فيها أقوال كثيرة نخبتها اثنان (١) :

الأول ـ أنّ الباغي في اللغة هو الطالب لخير كان أو لشرّ ، إلا أنه خصّ هاهنا بطالب الشر ، ومن طالب الشر الخارج على الإمام المفارق للجماعة. وهو المراد بقوله تعالى(٢) : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى). والعادي ، وهو المجاوز ما يجوز إلى ما لا يجوز ، وخصّ هاهنا بقاطع السبيل ، وقد قاله مجاهد وابن جبير.

الثاني ـ أن الباغي آكل الميتة فوق الحاجة ، والعادي آكلها مع وجود غيرها ، قاله جماعة منهم قتادة والحسن وعكرمة.

وتحقيق القول في ذلك أنّ العادي باغ ، فلما أفرد الله تعالى كلّ واحد منهما بالذكر تعيّن له معنى غير معنى الآخر ، لئلا يكون (٣) تكرارا يخرج عن الفصاحة الواجبة للقرآن.

والأصحّ والحالة هذه أنّ معناه غير طالب شرّا ولا متجاوز حدّا ؛ فأما قوله : «غير طالب شرا» فيدخل تحته (٤) كلّ خارج على الإمام وقاطع للطريق وما في معناه. وأما «غير متجاوز حدا» فمعناه غير متجاوز حدّ الضرورة إلى حد الاختيار.

ويحتمل أن تدخل تحته الزيادة على قدر الشبع كما قاله قتادة وغيره ، ولكن مع الندور لا مع التمادي ؛ فإنّ (٥) أبا عبيدة وأصحابه قد أكلوا حتى شبعوا مما اعتقدوا أنه ميتة حتى أخبرهم النبىّ صلى الله عليه وسلم بأنه حلال ؛ لكن وجه الحجّة أنهم لما أخبروه بحالهم جوّز لهم أكلهم شبعا وتضلّعا مع اعتقادهم لضرورتهم.

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة الباغي والعادي.

(٢) سورة الحجرات ، آية ٩

(٣) في م : ولا يكون.

(٤) في م : فيه.

(٥) انظر ما سبق في صفحة ٥٢


المسألة الثالثة عشرة ـ ولأجل ذلك لا يستبيح العاصي بسفره رخص السفر ؛ وقد اختلف العلماء في ذلك ؛ والصحيح أنها لا تباح له بحال ؛ لأن الله تعالى أباح ذلك عونا ، والعاصي لا يحلّ أن يعان ، فإن أراد الأكل فليتب ويأكل ، وعجبا ممن يبيح ذلك له مع التمادي على المعصية ، وما أظنّ أحدا يقوله ؛ فإن قاله أحد فهو مخطئ قطعا.

المسألة الرابعة عشرة ـ إذا وجد المضطر ميتة ودما ولحم خنزير وخمرا وصيدا حرميا أو صيدا وهو محرم ، فهذه صورتان :

الأولى ـ الحلال يجدها ، والثاني الحرام ؛ فإن وجد ميتة وخمرا قال ابن القاسم : يأكل الميتة حلالا بيقين ، والخمر محتملة للنظر ؛ وإن وجد ميتة وبعيرا ضالًّا أكل الميتة ، قاله ابن وهب. فإن وجد ميتة وكنزا أو ما في معناه أكل الكنز ، قاله ابن حبيب. فإن وجد ذلك تحت حرز أكل الميتة. ولو وجد ميتة وخنزيرا ، قال علماؤنا : يأكل الميتة ، فإن وجد لحم بنى آدم والميتة أكل الميتة ؛ فإنها حلال في حال ، والخنزير وابن آدم لا يحلّ بحال ، [٣٣] ولا يأكل ابن آدم ولو مات ، قاله علماؤنا.

وقال الشافعى : يأكل لحم ابن آدم.

الصورة الثانية ـ إذا وجد المحرم صيدا وميتة ؛ قال علماؤنا : يأكل الميتة ولا يأكل الصيد. والضابط لهذه الأحكام أنه إذا وجد ميتة ولحم خنزير قدّم الميتة ، لأنها تحلّ حيّة والخنزير لا يحلّ ، والتحريم المخفّف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل ، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية وطئ الأجنبية ، لأنها تحلّ له بحال ، وإذا وجد ميتة وخمرا فقد تقدّم ، وإذا وجد ميتة ومال الغير ، فإن أمن الضرر في بدنه أكل مال الغير ، ولم يحل له أكل الميتة ، وإن لم يأمن أكل الميتة ، وأمنه إذا كان مال الغير في الثمار أكثر من أمنه إذا كان في الجرين (١) ؛ وقد تقدم القول في الميتة والآدمي.

والصحيح عندي ألّا يأكل الآدمىّ إلّا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وإذا وجد المحرم صيدا وميتة أكل الصيد لأن تحريمه مؤقت ، فهو أخف وتقبل الفدية في حال الاختيار ، ولا فدية لآكل الميتة.

__________________

(١) الجرين : الجرن.


المسألة الخامسة عشرة ـ إذا احتاج إلى التّداوى (١) بالميتة ، فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة (٢) بعينها ، أو يستعملها محرقة ؛ فإن تغيّرت بالإحراق فقد قال ابن حبيب : يجوز التداوى بها والصلاة ، وخفّفه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات.

وفي العتبيّة من رواية مالك في المرتك (٣) يصنع من عظام الميتة إذا جعله في جرحه لا يصلّى به حتى يغسله.

وإن كانت الميتة بعينها فقد قال سحنون : لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير.

والصحيح عندي أنه لا يتداوى بشيء من ذلك ؛ لأن منه عوضا حلالا ، ولا يوجد في المجاعة من هذه الأعيان عوض ، حتى لو وجد منها في المجاعة عوضا لم يأكلها ، كما لا يجوز التداوى بها لوجود العوض ، ولو أحرقت لبقيت نجسة ؛ لأن العين النجسة لا تطهر إلا بالماء الذي جعله الشرع مطهّرا للأعيان النجسة.

وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر أيتداوى بها؟ قال : ليست بدواء ، ولكنها داء (٤).

الآية الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى (٥) : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قد قدّمنا فيما قبل أنه ليس في المال حقّ سوى الزكاة ، وقد كان الشعبىّ فيما يؤثر عنه يقول : في المال حقّ سوى الزكاة ، ويحتجّ بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : في المال حقّ سوى الزكاة. وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي ، ولا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وليس في المال حقّ سوى الزكاة ، وإذا وقع أداء

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة التداوى بالميتة.

(٢) في ق : قائمة العين.

(٣) المرتك : ضرب من الأدوية.

(٤) صحيح مسلم : ١٥٧٣ ، وابن ماجة ١١٥٧

(٥) الآية السابعة والسبعون بعد المائة.


الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنّه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء.

وقد قال مالك : يجب على كافّة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، وكذا إذا منع الوالي الزكاة فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر ، أصحّها عندي وجوب ذلك عليهم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَالْمَساكِينَ) ، يعنى الذي لا يسألون ، والسائلين يعنى الذين كشفوا وجوههم ، وقد صحّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه (١).

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى [٣٤] : (وَفِي الرِّقابِ) ؛ هم عبيد يعتقون قربة ، قاله مالك والشافعى.

وقال أبو حنيفة : والقول الآخر للشافعي : أنهم المكاتبون يعانون في فكّ رقابهم ، وذلك محتمل. والصحيح عندي أنه عام.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَآتَى الزَّكاةَ). قيل : المراد بإيتاء المال في أولها التطوّع أو غيره مما قدرناه ، وبالزكاة هاهنا الزكاة المعروفة. وقيل : المراد بإيتاء الزكاة هاهنا تفسير لقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ؛ فبيّن المال المؤتى ووجه الإيتاء فيه وهو الزكاة.

والصحيح عندي أنهما فائدتان : الإيتاء الأول في وجوهه ، فتارة يكون ندبا وتارة يكون فرضا ؛ والإيتاء الثاني هو الزكاة المفروضة.

الآية الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فيها إحدى عشرة مسألة :

__________________

(١) في ق : قلت : والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ). فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : وآتى المال على حبه ، ليس الزكاة المفروضة فإن ذلك يكون تكرارا. والله أعلم.

(٢) الآية الثامنة والسبعون بعد المائة.


المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : قال الشعبي وقتادة في جماعة من التابعين : إنها نزلت فيمن كان من العرب لا يرضى أن يأخذ بعبد إلا حرّا ، وبوضيع إلا شريفا ، وبامرأة إلا رجلا ذكرا ، ويقولون : القتل أنفى للقتل ، فردّهما الله عزّ وجلّ عن ذلك إلى القصاص ، وهو المساواة مع استيفاء الحق ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى). وقال تعالى(١) : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ). وبين الكلامين في الفصاحة والعدل بون عظيم.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : معنى (كتب) فرض وألزم ، وكيف يكون هذا والقصاص غير واجب! وإنما هو لخيرة الولىّ ؛ ومعنى ذلك كتب وفرض إذا أردتم [استيفاء] (٢) القصاص فقد كتب عليكم ، كما يقال كتب عليك ـ إذا أردت التنفّل ـ الوضوء ؛ وإذا أردت الصيام النيّة.

المسألة الثالثة ـ اختلف الناس في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (٣) ؛ فقيل : هو كلام عامّ مستقلّ بنفسه ؛ وهو قول أبى حنيفة.

وقال سائرهم : لا يتمّ الكلام هاهنا ؛ وإنما ينقضي عند قوله تعالى : (الْأُنْثى بِالْأُنْثى) ، وهو تفسير له ، وتتميم لمعناه ، منهم مالك والشافعى.

(فائدة) : ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة فقيه من عظماء أصحاب أبى حنيفة يعرف بالزوزنى زائرا للخليل صلوات الله عليه ، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهّرها الله معه ، وشهد علماء البلد ، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر ، فقال : يقتل به قصاصا ؛ فطولب بالدليل ، فقال : الدليل عليه قوله تعالى : ([يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]) (٤) (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.) وهذا عام في كلّ قتيل.

فانتدب معه للكلام فقيه الشافعية بها وإمامهم عطاء المقدسي ، وقال : ما استدلّ به الشيخ الإمام لا حجّة له فيه من ثلاثة أوجه :

أحدها ـ أن الله سبحانه قال : كتب عليكم القصاص ، فشرط المساواة في المجازاة ، ولا مساواة بين المسلم والكافر ؛ فإن الكفر حطّ منزلته ووضع مرتبته.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٧٩

(٢) ليس في م.

(٣) هنا في هامش م : مسألة قتل الحر بالعبد.

(٤) ليس في م.


الثاني ـ أنّ الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها ، وجعل بيانها عند تمامها ، فقال : كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، فإذا نقص العبد عن الحرّ بالرّق ، وهو من آثار الكفر ، فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر.

الثالث ـ أنّ الله سبحانه وتعالى قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ]) (١) ؛ ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر ؛ فدلّ على عدم دخوله في هذا القول.

فقال الزوزنى : بل ذلك دليل صحيح ، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء.

أما قولك : إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول. وأما دعواك أن المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص غير معروفة (٢) فغير صحيح ؛ فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفى في القصاص ، وهي حرمة الدّم الثابتة على التأبيد ؛ فإن الذمىّ محقون الدم على التأييد ، والمسلم محقون الدم على التأبيد ، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام ، والذي يحقّق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمىّ ؛ وهذا يدل على أنّ مال الذّمى قد ساوى مال المسلم ؛ فدلّ على مساواته لدمه ؛ إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه.

وأما قولك : إن الله تعالى ربط آخر الآية بأولها فغير مسلّم ؛ فإن أول الآية عامّ وآخرها خاصّ ، وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها ؛ بل يجرى كلّ على حكمه (٣) من عموم أو خصوص.

وأما قولك : إن الحرّ لا يقتل بالعبد ، فلا أسلّم به ؛ بل يقتل به عندي قصاصا ، فتعلّقت بدعوى لا تصحّ لك.

وأما قولك : فمن عفى له من أخيه شيء ، يعنى المسلم ، فكذلك أقول ، ولكن هذا خصوص في العفو ؛ فلا يمنع من عموم ورود القصاص ، فإنهما قضيّتان متباينتان ؛ فعموم إحداهما لا يمنع من خصوص الأخرى ، ولا خصوص هذه يناقض عموم تلك. وجرت في ذلك مناظرة عظيمة حصلنا منها فوائد جمّة أثبتناها في نزهة الناظر ، وهذا المقدار يكفى هنا منها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ). تعلّق أصحابنا على أصحاب أبى حنيفة بهذا التنويع والتقسيم على أنّ الحرّ لا يقتل بالعبد ؛ لأن الله تعالى بيّن نظير الحرّ ومساويه

__________________

(١) من م.

(٢) في م : معدومة.

(٣) في م : كلمة.


وهو الحرّ ، وبيّن نظير العبد ومساويه وهو العبد ، ويعضده ما ناقض فيه أبو حنيفة من أنه لا مساواة بين طرف الحرّ وطرف العبد ، ولا يجرى القصاص منهما في الأطراف ، فكذلك لا يجب أن يجرى في الأنفس ، ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا : يقتل الحرّ بعبد نفسه ، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل عبده قتلناه. وهذا حديث ضعيف (١).

ودليلنا قوله تعالى (٢) : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ). والولىّ ها هنا السيّد ، فكيف يجعل له سلطان على نفسه!

فإن قيل : جعله إلى الإمام.

قيل : إنما يكون للإمام إذا ثبت للمسلمين ميراثا ، فيأخذه الإمام نيابة عنهم ، لأنه وكيلهم ، ونيابته ها هنا عن السيد محال فلا يقاد به.

فإن قيل ـ وهي المسألة الخامسة ـ فقد قال تعالى : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) ، [فلم يقتل الذكر بالأنثى] (٣).

قلنا : ذلك ثابت بالإجماع ، وهو دليل آخر ، ولو تركنا هذا التقسيم لقلنا : لا يقتل الذكر بالأنثى.

فإن قيل : إذا قتل الرجل زوجه لم لم تقولوا : ينتصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج كما انتصب النّسب الذي هو فرعه شبهة في درء القصاص عن النسب ؛ إذ النكاح ضرب من الرقّ ، فكان يجب أن ينتصب شبهة في درء القصاص.

قلنا : النكاح ينعقد لها عليه كما ينعقد له عليها ، بدليل أنه لا يتزوّج أختها ولا أربعا سواها ، ويحلّ لها منه ما يحلّ له منها ، وتطالبه من الوطء بما يطالبها ، ولكن له عليها فضل القوامية التي جعلها الله له عليها بما أنفق من ماله ، أى بما وجب عليه من صداق [٣٦] ونفقة ، فلو أورث شبهة لأورثها من الجانبين.

فإن قيل : فقولوا كما قال عثمان البتّى : إنّ الرجل إذا قتل امرأته فقتله وليّها لم يكن

__________________

(١) ابن كثير صفحة ٢٠٩ أول ، والقرطبي : ٢ ـ ٢٤٩ قال : والحديث صحيح. وبقيته : ومن جدع عبده جدعناه ، ومن خصاه خصيناه.

(٢) سورة الإسراء ، آية ٣٣

(٣) ما بين القوسين ليس في م.

وفي هامشها هنا : مسألة قتل الذكر بالأنثى.


هنالك شيء زائد. ولو قتلت امرأة رجلا قتلت ، وأخذ من مالها نصف العقل (١).

قلنا : هو مسبوق بإجماع الأمة محجوج بالعموميات الواردة في القصاص دون اعتبار شيء من الدّية فيهما.

وقد قال مالك في هذه الآية :

أحسن ما سمعت في هذه الآية : إن الحرّة تقتل بالحرة ، كما يقتل الحر بالحر ، والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد ، والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء الأحرار والعبيد في النفس والطّرف بقوله تعالى (٢) : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). وهذا بيّن ، وسنزيده بيانا إن شاء الله تعالى في سورة المائدة. وهذه هي :

المسألة السادسة ـ لأن الآية بعمومها تقتضي الجملة بالجملة والبعض بالبعض.

وقد قال أبو حنيفة : لا يؤخذ طرف الحرّ بطرف العبد ، وتؤخذ نفسه بنفسه ، فيقول: شخصان لا يجرى بينهما القصاص في الأطراف مع الاستواء في السلامة والخلقة فلا يجرى بينهما في الأنفس.

وقال الليث : يؤخذ طرف العبد بطرف الحرّ ، ولا يؤخذ طرف الحر بطرف العبد ، وهذا ينعكس عليه ، ويلزمه مثله في النفس.

وقال ابن أبى ليلى : القصاص جار بينهما في الطّرف والنّفس ، والتمهيد الذي قدّمناه في صدر الآية يبطله ، وقد حققنا في مسائل الخلاف أن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة في القتلى ، ولا مساواة بين الحر والعبد ؛ لأن الرّقّ الذي هو من آثار الكفر يدخله تحت ذلّ الرق ، ويسلّط عليه أيدى المالكين تسليطا يمنعه من المطاولة ، ويصدّه عن تعاطى المصاولة الموجبة للعداوة الباعثة على الإتلاف ، كدخول الكافر تحت ذلّ العهد وإن كانت فيه الحياة التي هي معنى الآدمية ، فإن مذلّة العبودية ترهقه كمذلّة الكفر المرهقة للذمي.

المسألة السابعة ـ هل يقتل الأب بولده مع عموم آيات القصاص؟

قال مالك : يقتل به إذا تبيّن قصده إلى قتله بأن أضجعه وذبحه ، فإن رماه بالسلاح أدبا وحنقا (٣) لم يقتل به ، ويقتل الأجنبى بمثل هذا.

__________________

(١) العقل : الدية.

(٢) سورة المائدة ، آية ٤٥

(٣) في ا : خنقا.


وخالفه سائر الفقهاء ، وقالوا. لا يقتل به. سمعت شيخنا فخر الإسلام أبا بكر الشاشي يقول في النظر : لا يقتل الأدب بابنه ؛ لأن الأب كان سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه! وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم وكان سبب وجودها ، وتكون هي سبب عدمه ؛ ثم أىّ فقه تحت هذا؟ ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك!

وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقاد والد بولده. وهو حديث باطل. ومتعلّقهم أنّ عمر رضى الله عنه قضى بالدّية مغلّظة في قاتل ابنه ، ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ، فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجّلة ، وقالوا : لا يقتل الوالد بولده ، وأخذها مالك محكمة مفصّلة ، فقال : إنه لو حذفه بسيف ، وهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره (١) ، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد [إلى القتل] (٢) تسقط القود ، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله.

المسألة الثامنة ـ [قتل الجماعة بالواحد] (٣) :

احتجّ علماؤنا رحمة الله عليهم بهذه الآية ، وهي قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) على أحمد بن حنبل [٣٧] في قوله : لا تقتل الجماعة بالواحد ، قال: لأن الله تعالى شرط في القصاص المساواة ، ولا مساواة بين الواحد والجماعة ، لا سيما وقد قال تعالى (٤) : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

الجواب أنّ مراعاة القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ ، ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا واحدا لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم ، وبلغوا الأمل من التشفّى منهم.

جواب آخر : وذلك أن المراد بالقصاص قتل من قتل ، كائنا من كان ، ردّا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ؛ فأمر الله تعالى بالمساواة والعدل ، وذلك بأن يقتل من قتل.

جواب ثالث : أما قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فالمقصود

__________________

(١) في م : وعدمه.

(٢) ليس في م.

(٣) زيادة من م. وفي هامش م هنا : مسألة قتل الجماعة بالواحد.

(٤) سورة المائدة ، آية ٤٥.


هناك بيانا للمقابلة في الاستيفاء أنّ النفس تؤخذ بالنفس ، والأطراف بالأطراف ، ردّا على من تبلغ به الحميّة إلى أن يأخذ نفس جان عن طرف مجنىّ عليه ، والشريعة تبطل الحميّة وتعضد الحماية.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ...) (١) إلى آخرها.

قال القاضي رضى الله عنه : هذا قول مشكل تبلّدت فيه ألباب العلماء ، واختلفوا في مقتضاه ؛ فقال مالك في رواية ابن القاسم : موجب العمد القود خاصة ، ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل ، وبه قال أبو حنيفة. وروى أشهب عنه أنّ الولىّ مخيّر بين أحد أمرين إن شاء قتل ، وإن شاء أخذ الدّية ، وبه قال الشافعى.

وكاختلافهم اختلف من مضى من السلف قبلهم. وروى عن ابن عباس العفو أن تقبل الدية في العمد ، فيتبع بمعروف وتؤدّى إليه بإحسان ، يعنى يحسن في الطلب من غير تضييق ولا تعنيف ، ويحسن في الأداء من غير مطل (٢) ولا تسويف.

ونحوه عن قتادة ومجاهد وعطاء والسّدّى ، زاد قتادة : بلغنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : من زاد أو ازداد بعيرا ، يعنى في إبل الدّية ، فمن أمر الجاهلية ، وكأنه يعنى فاتباع بالمعروف لا يزاد على الدية المعروفة في الشرع.

وقال مالك : تفسيره من أعطى من أخيه شيئا من العقل (٣) فيتبعه بالمعروف ؛ فعلى هذا الخطاب للولىّ. قيل له : إن أعطاك أخوك القاتل الدية المعروفة فاقبل ذلك منه واتبعه.

وقال أصحاب الشافعى : تفسيره إذا أسقط الولىّ القصاص ، وعيّن له من الواجبين له الدية فاتبعه على ذلك أيّها الجاني على هذا المعروف ، وأدّ إليه بإحسان.

وهذا يدور على حرف ، وهو معرفة تفسير العفو ، وله في اللغة خمسة موارد :

الأول ـ العطاء ، يقال : جاد بالمال عفوا صفوا ، أى مبذولا من غير عوض.

الثاني ـ الإسقاط ، ونحوه (٤) : (وَاعْفُ عَنَّا) ، وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق.

الثالث ـ الكثرة ، ومنه قوله تعالى (٥) : (حَتَّى عَفَوْا) ، أى كثروا ، ويقال : عفا الزرع ، أى طال.

الرابع ـ الذهاب ، ومنه قوله : عفت الديار.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٧٨

(٢) المطل والتسويف : التأخير والتأجيل.

(٣) العقل : الدية.

(٤) البقرة : ٢٨٦

(٥) الأعراف : ٩٥


الخامس ـ الطلب ، يقال : عفيته واعتفيته ، ومنه قوله : ما أكلت العافية فهو صدقة ، ومنه قول الشاعر :

تطوف العفاة بأبوابه (١)

وإذا كان مشتركا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ، ومقتضى الأدلة ؛ فالذي يليق بذلك منها العطاء أو الإسقاط ؛ فرجّح الشافعىّ الإسقاط ؛ لأنه ذكر قبله القصاص ، وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر [٣٨].

ورجّح مالك وأصحابه العطاء ؛ لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة «عن» ، كقوله تعالى (٢) : (وَاعْفُ عَنَّا) ، وكقوله : عفوت لكم عن صدقة الخيل. وإذا كانت بمعنى العطاء كانت صلته له ؛ فترجّح (٣) ذلك بهذا ؛ وبوجه ثان ، وهو أن تأويل مالك هو (٤) اختيار خبر القرآن ومن تابعه كما تقدم ؛ وبوجه ثالث ، وهو أن الظاهر في الجزاء أن يعود على ما يعود عليه الشرط ، والجزاء عائد إلى الولىّ ، فليعد إليه الشرط ، ويكون المراد بمن ، من كان (٥) المراد بالأمر بالاتباع.

الرابع ـ أنه تعالى قال : «شيء» ، فنكّر ، ولو كان المراد القصاص لما نكّره ، لأنه معرّف ؛ وإنما يتحقّق التنكير في جانب الدّية وما دونه. وينفصل أصحاب الشافعى عن ترجيح المالكية بأنّ العلّة (٦) تتحقق إذا كان معنى عفا أسقط ؛ لأن تفسيره «ترك» وكلمة «له» تتصل بترك ، كما تتصل بأخذ.

وأما قول ابن عباس فقد اختلف في ذلك ؛ فروى عنه أنه قال بمثل قولنا. وأما الجزاء فقد يعود على من لا يعود عليه الشرط ، فتقول : من دخل من عبيدي الدار فصاحبه حرّ ، وإن دخل عمرو الدار فعبدي حر. وأما فصل النكرة فغير لازم ؛ فإن القصاص قد يكون

__________________

(١) صدر بيت للأعشى ، وتمامه :

كطوف النصارى ببيت الوثن

ديوانه : ٢١ ، واللسان ـ مادة عفا. والعافي : كل من جاءك يطلب فضلا أو رزقا.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٨٦

(٣) في ا : صلة له. وفي م : فرجح ذلك بهذا.

(٤) في ا : هذا.

(٥ ـ ٦) في ا : الصلة.


نكرة وهو إذا عفا أحد الأولياء فتبعّض القصاص فيعود البعض منكرا.

وهذا كما ترون تعارض عظيم ، وإشكال بيّن ، وترجيح من الوجهين ظاهر ، إلا أنّ رواية أشهب أظهر لوجهين : أحدهما الأثر ، والآخر النظر ؛ أما الأثر فقوله عليه السّلام (١) : فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ؛ إما أن يفدى وإما أن يقتل. وقد ذكرنا في شرح الصحيح كيفية الروايات واستيفاء ما يتعلّق بالحديث. ولبابه هاهنا أنّ الحرف الأول فيه روايتان : إحداهما : فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين. والرواية الثانية : فمن قتل فهو مخيّر.

وفي الحرف الثاني ست روايات :

الأولى ـ إما أن يعقل وإما أن يقاد (٢) الثانية ـ أن يعقل أو يقاد (٣).

الثالثة ـ إما أن يفدى وإما أن يقتل.

الرابعة ـ إما أن يعطى الدية أو يقاد أهل القتيل (٤) الخامسة ـ إما أن يعفو أو يقتل.

السادسة ـ إما أن يقتل أو يقاد.

وإذا نزلت الرواية الأخرى على الأولى جاء منها اثنا عشر تنزيلا :

الأول ـ فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ؛ إما أن يعقل أو يقاد ، ويكون معناه إما أن يأخذ الدية وإما أن يتفق مع صاحبه على مفاداة معلومة.

التنزيل الثاني في قوله : يعقل أو يقاد ، ويكون معناه إما أن يأخذ الدية أو يأخذ القود.

التنزيل الثالث في قوله : يفدى أو يقتل مثله.

التنزيل الرابع في قوله : إما أن يعطى الدية أو يقاد أهل القتيل ، يكون معناه إما أن يعطى الدية له أو يقاد : يمكّن من القود ، وكذا أهل القتيل ؛ لأنه الحقيقة ، وما تقدم (٥) من العبارة عنه إنما كان مجازا في الإخبار به عن وليّه.

التنزيل الخامس في قوله : إما أن يعفو أو يقتل ، وهي رواية الترمذي ، وهي صحيحة

__________________

(١) ابن ماجة ، صفحة ٨٧٦

(٢) في ا : يفاد.

(٣) في ا : إما أن يعقل وإما أن يقاد.

(٤) في م : أو يقاد بقتل القتيل.

(٥) في م : كما تقدم.


متقنة مضبوطة مفهومة جلية ، وتكون العبارة عنه بأنه يفعل ذلك إن كان جريحا حقيقة ، أو يعبّر عن وليه به مجازا ؛ لأنه سلطان الأمر. قال الله سبحانه (١) : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).

التنزيل السادس في قوله : يقتل أو يقاد ، تقديره إما أن يقاد به القاتل برضاه أو يقتل ، وكذلك تتنزل التقديرات الستة على الرواية الثانية بإسقاط قوله : له قتيل ، ويكون قوله : من قتل عبارة عن فعله في حال جرحه قبل موته ، أو يعبّر عن وليه به ، فهذا وجه [٣٩] الادكار من الأثر بالنظر.

وأما طريق المعنى والنظر فإن الولىّ أو القاتل إذا وقع العفو منهما بالدية فإنه واجب على القاتل قبوله دون اعتبار رضا القاتل ؛ لأنه عرض عليه بقاء نفسه بثمن مثله ، كما لو عرض عليه بقاء نفسه في المخمصة (٢) بقيمة الطعام للزمه ، يؤكّده أنه يلزمه إبقاء نفسه بمال الغير إذا وجده في المخمصة فأولى أن يلزمه إبقاء نفسه بماله.

المسألة العاشرة ـ قال الطبري : في قوله تعالى : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) دليل على عموم الوجوب ممّن وقع ، يريد أنّ من ذكر الدية وجب قبولها على الآخر من ولىّ أو جان ، ثم رأى أنّ هذا لا يستمر فعقّبه بعده بما يدلّ على أنّ الدية إن عرضها الجاني استحبّ قبولها ، وإن عرضها المجنىّ عليه أو وليّه وجب على الجاني قبولها ، ولما رجع إليه استغنينا عن الاعتناء (٣) به.

وفي الآية فصول وأقوال لم نتفرغ لها.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) :

المعنى أن الله سبحانه عفا عما كان في الجاهلية لمن أسلم الآن ، وقد بيّن له وحدّت (٤) الحدود ، فإن تجاوزها بعد بيانها فله عذاب أليم ، بالقتل في الدنيا وبالعذاب في الآخرة.

الآية الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٥) : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فَمَنْ بَدَّلَهُ

__________________

(١) سورة الإسراء ، آية ٣٣

(٢) المخمصة : الجوع.

(٣) في م : الاغتناء.

(٤) في م : وحدد.

(٥) الآية الثمانون ، والواحدة والثمانون ، والثانية والثمانون بعد المائة.


بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها أربع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، وقد (١) تقدّم ، وبديع الإشارة فيه(٢) ما أشرنا إليه في كتاب المشكلين المحفوظ.

المعنى ثبت عليكم في اللّوح الأول الذي لا يدخله نسخ ولا يلحقه تبديل ؛ وقد بيّنا قبل أنّ الفروض على قسمين : فرض مبتدأ ، وفرض يترتّب على الإرادة ، وقد بينا أنّ هذا فرض مبتدأ.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).

قال علماؤنا : ليس يريد حضور الموت حقيقة ؛ لأن ذلك الوقت لا تقبل له توبة ، ولا له في الدنيا حصّة ، ولا يمكن أن ننظم من كلامها لفظة ، ولو كان الأمر محمولا عليه لكان تكليف محال لا يتصوّر ؛ ولكن يرجع ذلك إلى معنيين : أحدهما إذا قرب حضور الموت ، وأمارة ذلك كبره في السن ؛ أو سفر ؛ فإنه غرر ؛ أو توقّع أمر طارئ غير ذلك ؛ أو تحقّق النفس له بأنها سبيل هو آتيها (٣) لا محالة ؛ [إذ الموت ربما طرأ عليه اتفاقا] (٤).

الثاني ـ أن معناه إذا مرض ؛ فإن المرض سبب الموت ، ومتى حضر السبب كنّت به العرب عن المسبّب ، قال شاعرهم (٥) :

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا

قولا يبرّئكم إنى أنا الموت

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (الْوَصِيَّةُ) (٦) : هي القول المبين لما يستأنف عمله والقيام به ، وهي هاهنا مخصوصة بما بعد الموت ، وكذلك في الإطلاق والعرف.

المسألة الرابعة ـ تأخير الوصية إلى المرض مذموم شرعا ، روى مسلم والأئمة (٧) أن

__________________

(١) صفحة ٦١ من هذا الجزء.

(٢) في م : ويدفع الإشارة ما أشرنا إليه.

(٣) في ا : موانيها.

(٤) ليس في م.

(٥) والقرطبي : ٢ ـ ٢٥٨ ، والبيت الأول في اللسان ـ صوت ـ منسوب إلى رويشد الطائي.

(٦) في القرطبي : هذه آية الوصية ، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية ، وفي النساء : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ). وفي المائدة : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) والتي في البقرة أتمها وأكملها.

(٧) صحيح مسلم : ٢ ـ ٧١٦


النبىّ صلى الله عليه وسلم سئل : أىّ الصدقة أفضل؟ قال : أن تتصدّق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان كذا.

المسألة الخامسة ـ في حكمها.

وقد اختلف الناس في ذلك على قولين : قال بعضهم : إنها واجبة لما رواه مسلم وغيره عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (١) : ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين ـ وفي رواية ثلاث ليال ـ إلا ووصيّته مكتوبة عنده.

وقال آخرون : هي منسوخة ؛ واختلفوا في نسخها ؛ فمنهم من قال : نسخ جميعها. ومنهم من قال : نسخ بعضها ، وهي الوصية للوالدين ؛ والصحيح نسخها وأنها مستحبّة إلا فيما يجب على المكلّف بيانه أو الخروج بأداء (٢) عنه ، وعليه يدلّ اللفظ بظاهره ، وذكر حديث ابن عمر بلفظ الحقّ الذي يقتضى [٤٠] الحثّ ، ويشمل الواجب والندب.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) : يعنى مالا ، وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في تقديره ، وذكر المفسرون والأحكاميون أقوالا كلها دعاوى (٣) لا برهان عليها ، والصحيح أنّ الحكم لم يختلف ولا يختلف بقلّة المال وكثرته ، بل يوصى من القليل قليلا ، ومن الكثير كثيرا ، وحيث ورد ذكر المال في القرآن فهو يسمى بالخير ، وكذلك في الحديث. روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (٤) : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله تعالى عليكم من [بركة] (٥) الدنيا. فقال الرجل : يا رسول الله ، أو يأتى الخير بالشر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يأتى الخير إلا بالخير ، وإنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا (٦) أو يلمّ إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت (٧) وبالت ، ثم عادت فأكلت.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٢٤٩ ، وابن كثير ، صفحة ٢١٢ أول ، وابن ماجة صفحة ٩٠١ ، وفيه : أن يبيت ليلتين وله شيء يوصى فيه إلا ...

(٢) في م : بالأداء.

(٣) في ا : دعاء.

(٤) صحيح مسلم : ٢ ـ ٧٢٩

(٥) ليس في م ، وفي صحيح مسلم : من زهرة الدنيا.

(٦) الخبط : وجع ببطن البعير من كلأ يستوبله أو من كلأ يكثر منه فينتفخ بطنه فلا يخرج منه شيء.

ويلم : يقرب من القتل.

(٧) ثلط : سلح رقيقا.


المسألة السابعة ـ في كيفية الوصية للوالدين والأقربين.

وقد اختلف الناس في ذلك اختلافا كثيرا ، لبابه ما صحّ عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، وجعل للوالدين لكلّ واحد منهما السدس ، وفرض للزوج وللزوجة فرضيهما ؛ وهذا نصّ لا معدل لأحد عنه ، فمن كان من القرابة وارثا دخل مدخل الأبوين ، ومن لم يكن وارثا قيل له : إن قطعك من الميراث الواجب إخراج لك عن الوصية الواجبة ، ويبقى الاستحباب لسائر القرابة.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) ، يعنى بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط ؛ وقد كان ذلك موكولا إلى اجتهاد الميّت ونظر الموصى ، ثم تولّى الله تعالى تقدير ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لسعد (١) بن مالك : الثلث والثلث كثير ؛ فصار ذلك مقدارا شرعيا مبيّنا حكمه بقوله عليه السّلام : إن الله أعطاكم (٢) ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم. وقد أخبرنا ابن يوسف من كتابه عن أبى ذرّ ، أخبرنا أحمد بن الحسن (٣) ابن أحمد بن محمد بن حفص القاضي الحيرى بشاغور قراءة عليه : أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب ابن يوسف ، حدثنا محمد بن عبد الملك ، أخبرنا عبد الله بن يوسف : سمعت طلحة بن عمر المكي ، سمعت عطاء بن أبى رباح ، سمعت أبا هريرة يقول : إنّ الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (حَقًّا) ، يعنى ثابتا ثبوت نظر وتخصيص ، لا ثبوت فرض ووجوب ، وهكذا ورد عن علمائنا حيث جاء في كتاب الله تعالى أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتحقيقه أنّ الحق في اللغة هو الثابت ، وقد ثبت المعنى في الشريعة ندبا ، وقد ثبت فرضا ، وكلاهما صحيح في المعنى.

__________________

(١) في ا : سعد. وفي ق : فقال عليه السّلام. والمثبت من م. وانظر مسلم ، صفحة ١٢٥٠ وما بعدها.

(٢) الرواية في القرطبي : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة. وفي ابن ماجة : إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم (صفحة ٩٠٤).

(٣) في م : الحسين.


المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (عَلَى الْمُتَّقِينَ) : فهذا يدلّ على كونه ندبا ؛ لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين ، فلما خصّ الله تعالى من يتّقى ، أى يخاف تقصيرا ، دلّ على أنه غير لازم ، وقد بيّنا أنه يتصور أن تكون الوصية واجبة على المسلمين إذا كان عليه دين وما يتوقع تلفه إن مات فتلزمه فرضا المبادرة بكتبه ، ولكن ليس من هذه الآية ، وإنما هو من حديث ابن عمر ومما صحّ من النظر ، وأنه إن سكت عنه كان تضييعا له.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) ، يعنى سمعه من الموصى ، أو سمعه ممن ثبت به عنده ، وذلك عدلان.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى [٤١] : (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

المعنى أن الموصى بالوصية خرج عن اللوم وتوجّه (١) على الوارث أو الولىّ.

قال بعض علمائنا : وهذا يدلّ على أن الدّين إذا أوصى به الميت خرج عن ذمته وصار الولىّ مطلوبا به ، له الأجر في قضائه ، وعليه الوزر في تأخيره ؛ وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرّط في أدائه ، وأما إذا قدر عليه وتركه ، ثم وصّى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولىّ فيه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً).

الخطاب بقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ) ، لجميع المسلمين ، قيل لهم : إن خفتم من موص ميلا في الوصية ، وعدولا عن الحقّ ، ووقوعا في إثم ، ولم يخرجها بالمعروف (٢) ، فبادروا إلى السّعى في الإصلاح بينهم ؛ فإذا وقع الصلح سقط الإثم على المصلح ، لأن إصلاح الفساد فرض على الكفاية ، فإذا قام به أحدهم سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا أثم الكلّ.

قال علماؤنا ـ وهي :

المسألة الرابعة عشرة ـ وفي هذا دليل على الحكم بالظنّ ؛ لأنه إذا ظنّ قصد الفساد وجب

__________________

(١) في م : وتوجهت على الوارث والولي.

(٢) في القرطبي : وذلك بأن يوصى بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف بالمال إلى ابنته ، أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى لبعيد وترك القريب : ٢ ـ ٢٧٠


السّعى في الصلاح ، وإذا تحقّق الفساد لم يكن صلح ، إنما يكون حكم بالدفع (١) وإبطال للفساد وحسم له.

الآية الخامسة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فيها ست عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) ، وقد (٣) تقدّم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (الصِّيامُ) ؛ وهو في اللغة [عبارة عن] (٤) الإمساك المطلق لا خلاف فيه ولا معنى له غيره ، ولو كان القول هكذا خاصة لكان فيه كلام في العموم والإجمال ، كما سبق ذكره في الصلاة ، فلما قال تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كان تفسيرا له وتمثيلا به.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

فيه ثلاثة أقوال : قيل هم أهل الكتاب. وقيل هم النصارى. وقيل هم جميع الناس. وهذا القول الأخير ساقط ؛ لأنه قد كان الصوم على من قبلنا بإمساك (٥) اللسان عن الكلام ، ولم يكن في شرعنا ؛ فصار ظاهر القول راجعا إلى النصارى لأمرين : أحدهما أنهم الأدنون(٦) إلينا. الثاني أن الصوم في صدر الإسلام كان إذا نام الرجل لم يفطر ، وهو الأشبه بصومهم.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (كَما كُتِبَ).

وجه التشبيه فيه محتمل لثلاثة أوجه :

الزمان والقدر والوصف ، ومحتمل لجميعها ، ومحتمل لاثنين منها ؛ فإن رجع إلى الزمان فقد روى أن النصارى كانوا يصومون رمضان ، ثم اختلف عليهم الزمان فكان يأتى في الحرّ

__________________

(١) في ا : بالرفع.

(٢) الآية الثالثة والثمانون ، والرابعة والثمانون بعد المائة.

(٣) صفحة ٦١ من هذا الجزء.

(٤) ليس في م.

(٥) في م : إمساك.

(٦) الأدنون : الأقربون.


يوما طويلا وفي البرد يوما قصيرا ؛ فارتأوا برأيهم أن يردّوه في الزمان المعتدل.

وإن رجع إلى العدد ففيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه ثلاثة أيام ، وقد روى أنه كان ذلك في صدر الإسلام.

الثاني ـ أنه يوم عاشوراء ، روى في الصحيح (١) أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد الناس يصومون عاشوراء ، فقال : ما هذا؟ قالوا : هذا يوم أنجى الله فيه موسى عليه السلام ، وأغرق فيه فرعون ؛ فقال : نحن أحقّ بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه ، فكان هو الفريضة ، حتى نزل رمضان ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكم صيامه ، من شاء صامه ومن شاء أفطره.

الثالث ـ أنه ثلاثون يوما ، كما فرض على النصارى في أول الأمر ، ثم غيّروه لأسباب مرويّة. وإن رجع إلى الوصف فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (٢) : من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، وقد كان شرع من قبلنا يصومون عن الكلام كلّه ، وفي شرعنا الأمر بالصيام عن [٤٢] قول الزّور متأكّد على الأمر به في غير الصيام.

والمقطوع به أنه التشبيه في الفرضية خاصة ؛ وسائره محتمل ، والله أعلم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ لعلكم تتّقون ما حرّم عليكم فعله.

الثاني ـ لعلكم تضعفون فتتقون ؛ فإنه كلما قلّ الأكل ضعفت الشهوة ، وكلما ضعفت الشهوة قلّت المعاصي.

الثالث ـ لعلكم تتّقون ما فعل من كان قبلكم روى أن النصارى بدّلته إلى الزمان المعتدل ، وزادت فيه كفّارة (٣) عشرة أيام ؛ وكلها صحيحة ومرادة بالآية ، إلا أن الأول (٤) حقيقة ، والثاني مجاز حسن ، والأول والثاني معصية ، والثالث كفر.

__________________

(١) انظر صحيح مسلم : ٧٩٢ وما بعدها.

(٢) ابن ماجة ، صفحة ٥٣٩ ، وفيه : من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به فلا حاجة ...

(٣) في م : لقائمه.

(٤) في ا : إلا أن الأول والثالث.


وقد حذّر النبىّ صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشكّ على معنى الاحتياط للعبادة (١) ؛ وذلك لأنّ العبادة إنما يحتاط لها إذا وجبت ، وقبل ألّا تجب لا احتياط شرعا ، وإنما تكون بدعة ومكروها. وقد قال صلى الله عليه وسلم منبّها على ذلك (٢) : لا تقدّموا الشهر بيوم ولا بيومين خوفا أن يقول القائل : أتلقّى رمضان بالعبادة. وقد رويت عنه صلى الله عليه وسلم فيه عدم الزيادة فقال : إذا انتصف شعبان فلا يصم أحد حتى يدخل رمضان. وقد شنّع أهل الجهالة بأن يقولوا نشيّع رمضان ؛ ولا تتلقّى العبادة ولا تشيّع ، إنما تحفظ في نفسها وتحرس من زيادة فيها أو نقصان منها.

ولذلك كره علماء الدين أن تصام الأيام الستة التي قال النبىّ صلى الله عليه وسلم فيها (٣) : من صام رمضان وستّا من شوال ، فكأنما صام الدهر كله ـ متصلة برمضان مخافة أن يعتقد أهل الجهالة أنها من رمضان ، ورأوا أن صومها من (٤) ذي القعدة إلى شعبان أفضل ؛ لأن المقصود منها حاصل بتضعيف الحسنة بعشرة أمثالها متى فعلت ؛ بل صومها في الأشهر الحرم وفي شعبان أفضل ، ومن اعتقد أنّ صومها مخصوص بثاني يوم العيد فهو مبتدع سالك سنن أهل الكتاب في الزيادات ، داخل في وعيد الشرع حيث قال : لتركبن (٥) سنن من كان قبلكم ... الحديث.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

وهذا يدلّ على أن المراد به رمضان ، لا يوم عاشوراء ، ومن قال : إنه صوم ثلاثة أيام في كل شهر فقد أبعد ؛ لأنه حديث لا أصل له في الصحة.

المسألة السابعة ـ ظنّ قوم أن هذا بظاهره يقتضى الوصال ، وهذا لا يصح لوجهين :

أحدهما ـ أن فيه تكليف ما لا يطاق.

الثاني ـ أنه لو اقتضى وصالا غير محدود لما تحصّل لأحد تقديره ، لاختلاف أحوالهم فيه.

والصحيح أنه خرّج على العرف ، أى أن تصوموا الأيام وتفطروا منها زمنا مخصوصا ،

__________________

(١) في م : المعتاد.

(٢) صحيح مسلم : ٧٦٢ ، وابن ماجة ، صفحة ٥٤٧ ، وفيه : ثم أتبعه بست من شوال ..

(٣) ورد في ابن ماجة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صام ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صوم الدهر (صفحة ٥٤٥).

(٤) في م : في.

(٥) السنة : الطريقة.


وكان عندهم متعيّنا إما بالعرف المتقدم ، فيكون الخطاب نصّا ، وإما ببيان من النبىّ عليه السلام ، فيكون الخطاب مجملا ، حتى بيّنه الشارع صلى الله عليه وسلم.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) :

للمريض (١) ثلاثة أحوال :

أحدها ـ ألا يطيق الصوم بحال ، فعليه الفطر واجبا.

الثاني ـ أنه يقدر على الصّوم بضرر ومشقّة ؛ فهذا يستحبّ له الفطر ، ولا يصوم إلا جاهل.

وقد أنبأنا أبو الحسن الأزدى ، أنبأنا الشيخ أبو مسلم عمر بن على الليثي الحارثي ، قال : أخبرنا الحيرى ، أخبرنا أبو عبد ربه محمد بن عبد الله الحاكم ، حدثني أبو سعيد النّسوى أحمد بن محمد ، حدثني أبو حسان صهيب بن سليم ، قال : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : اعتللت بنيسابور علّة خفيفة ، وذلك في شهر رمضان ، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه ، فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله! فقلت : نعم. فقال : خشيت أن أضعف عن قبول الرخصة.

قلت : أنبأنا عبدان ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : من أىّ المرض أفطر؟ قال : من أىّ مرض كان ، كما قال الله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ [٤٣] مَرِيضاً).

قال البخاري : ولم يكن هكذا الحديث عند إسحاق ، وهو الثالث.

الثاني (٢) ـ المسافر ، والسفر في اللغة مأخوذ من الانكشاف والخروج من حال إلى حال ؛ وهو في عرف اللغة عبارة عن خروج يتكلّف فيه مؤنة ، ويفصل فيه بعد في المسافة ، ولم يرد فيه من الشارع نصّ ، ولكن ورد فيه تنبيه ، وهو قوله عليه السلام في الصحيح : لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلّا ومعها ذو محرم منها.

وفي تقديره (٣) اختلاف كثير بيناه في المسائل.

والعمدة فيه أنّ العبادة تثبت في الذمّة بيقين ، فلا براءة لها إلا بيقين مسقط ؛ وقدر السفر مشكوك فيه حتى يكون سفرا ظاهرا ، فيسقط الأصل على ما بيّناه في أصول الفقه ، وبحثه فيما

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة في صوم المريض.

(٢) لم يسبق الأول ، وكأنه عدّ قوله : للمريض ثلاثة أحوال ـ الأول.

(٣) في ا : وفي تقريره.


يتعلق بمسألتنا أن الله تعالى لما علّق الحكم بالسفر علمت العرب ذلك بفضل علمها بلسانها ، وجرى عادتها في أعمالها ؛ فلما جاء الأمر اقتصرنا فيه على العربية ، وعلى هذا الأمر مبنى الخلاف ؛ فقال مالك والشافعى : أقل السفر يوم وليلة.

وقال أبو حنيفة : أقلّه ثلاثة أيام ، وثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر [أن تسافر] (١) سفر يوم وليلة. وفي حديث : وسفر ثلاثة أيام ، وفي آخر وذكر تمامه ؛ فرأى أبو حنيفة أنّ السفر يتحقق في ثلاثة أيام : يوم يتحمّل فيه عن أهله ، ويوم ينزل فيه في (٢) مستقرّه ، واليوم الأوسط هو الذي يتحقّق فيه السير المجرّد ، بتحمّل لا عن موضع الإقامة ، ونزول لا في موضع الإقامة.

وقلنا له : إذا كان السفر متحقّقا في اليوم الثاني كما سردت فاليوم الأول مثله ، ولا عبرة بالتحمّل عن الأهل والوطن ، وإنما المعوّل في تحقيق السفر على المبيت في غير المنزل ، ثم التحديد بستة وثلاثين ميلا أو ثمانية وأربعين ميلا مراحل لا تدرك بتحقيق أبدا ، وإنما هي ظنون ؛ فرجل احتاط وزاد ، ورجل ترخّص ، ورجل تقصّر ، والله أعلم.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

قال علماؤنا : هذا القول من لطيف الفصاحة ، لأنّ تقريره (٣) : فأفطر فعدّة من أيام أخر ، كما قال تعالى (٤) : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ). تقديره فحلق ففدية.

وقد عزى إلى قوم : إن سافر في رمضان قضاه ، صامه أو أفطره ، وهذا لا يقول به إلّا ضعفاء الأعاجم ؛ فإن جزالة القول وقوة الفصاحة تقتضي «فأفطر» ؛ وقد ثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم (٥) : الصوم في السفر قولا وفعلا. وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ) (٦) (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يعطى بظاهره قضاء الصوم متفرقا ، وقد روى ذلك عن جماعة من السلف ، منهم أبو هريرة.

__________________

(١) من م.

(٢) في ا : عن.

(٣) في م : تقديره.

(٤) سورة البقرة ، آية ١٩٦

(٥) ابن ماجة ، صفحة ٥٣٣

(٦) في القرطبي : ارتفع عدة على خبر الابتداء ، تقديره : فالحكم أو فالواجب عدة. ويصح : فعليه عدة. وقال الكسائي : ويجوز : فعدة ، أى فليصم عدة من أيام.


وإنما وجب التتابع في الشهر لكونه معيّنا ، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز بكلّ حال.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يقتضى وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ، وذلك لا ينافي التراخي ، فإنّ اللفظ مسترسل على الأزمنة لا يختصّ ببعضها دون بعض.

وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : إن كان ليكون (١) علىّ الصوم من رمضان (٢) فما أستطيع قضاءه إلّا في شعبان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فكانت تصوم بصيامه ؛ إذ كان صومه صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان في شعبان.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ).

وفي هذه الآيات قراءات وتأويلات واختلافات ، وهي بيضة العقر (٣).

قرئ يطيقونه بكسر الطاء وإسكان الياء ، [٤٤] وقرئ بفتح الطاء والياء وتشديدهما (٤) ، وقرئ كذلك بتشديد الياء الثانية ، لكن الأولى مضمومة ، وقرئ يطوقونه (٥) ، والقراءة هي القراءة الأولى ، وما وراءها ـ وإن روى وأسند ـ فهي شواذ ، والقراءة الشاذة لا ينبنى عليها حكم ؛ لأنه لم يثبت لها أصل ، وقد بينا ذلك في القسم الثاني من علوم القرآن بيانا شافيا.

المسألة الرابعة عشرة ـ أن الآية منسوخة كذلك ، روى عن ابن عمر وسلمة ، وثبت ذلك عنهما.

وتحقيق القول أنّ الله تعالى قال : من كان صحيحا مقيما لزمه الصوم ، ومن كان مسافرا أو مريضا فلا صوم عليه ، ومن كان صحيحا مقيما ولزمه الصوم ، وأراد تركه ، فعليه فدية طعام مسكين ، ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله (٦) : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). مطلقا.

__________________

(١) في القرطبي : يكون على الصوم.

(٢) هنا في هامش م : مسألة في قضاء رمضان.

(٣) بيضة العقر : بيضة الديك (القاموس).

(٤) في القرطبي : وروى ابن الأنبارى عن ابن عباس يطيقونه ـ بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين. بمعنى يطيقونه.

(٥) في القرطبي : وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار : يطوقونه ـ بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة ، وهي صواب اللغة.

وليست من القرآن خلافا لمن أثبتها قرآنا ، وإنما هي على التفسير.

(٦) سورة البقرة ، آية ١٨٥


ولهذا المعنى كرّره ، ولو لا تجديد الفرض فيه وتحديده وتأكيده ما كان لتكرار ذلك فائدة مقصودة ، وهذا منتزع عن الناسخ والمنسوخ فلينظر فيه.

المسألة الخامسة عشرة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

فيه قولان : أحدهما من زاد على طعام مسكين. وقيل : من صام ؛ وهذا ضعيف لقوله تعالى بعد ذلك : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) معناه الصوم خير من الفطر في السفر ، وخير من الإطعام.

وتحقيق ذلك أنّ الصوم الفرض خير من الإطعام النّفل ، والصدقة النفل خير من الصوم النفل.

فإن قيل : بل معناه أنّ الصوم الفرض خير من الإطعام الذي هو بدله وهو فرض ، لأنه خيّر بين شيئين.

قلنا قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) مرتبط بما قبله من الأقوال والتأويلات ، فيحتمل أن يكون معناه : وصومكم خير من إطعامكم الفرض وتطوّعه الزائد عليه ، ويحتمل أن يكون معناه : وصومكم خير من إطعامكم البدل له.

ويحتمل أن يكون معناه : وصومكم خير لكم من تطوّعكم الزائد عليه وبدله. ويحتمل أن يكون معناه : وصومكم خير لكم من الزائد عليه ، فربما رغب في تكثير الإطعام ، وترك الصيام ، فأعلم أن الصوم خير له.

فإن قيل : كيف يقال : الفرض خير من التطوع ، ولا يستويان في أصل الوضع ، وحكم التخيير بين الشيئين أن يستويا في أصل التخيير ، ثم يتفاضلا فيه؟

قلنا : الصوم خير من الفطر ، وهو مخيّر بين فعله وتركه ، فصار فيه وصف من النفل ، فكأنه قيل : تقديمه أو فعله خير من الإطعام.

المسألة السادسة عشرة ـ الصوم خير من الفطر في السفر ، قاله مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعى : الفطر أفضل ، ولعلمائنا مثله ، ولهم قول ثالث : إن الفطر في الغزو أفضل ؛ وتعلّق الشافعى بالحديث الصحيح (١) : ليس من البرّ الصوم في السفر. وصحّ أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر في السفر ، قال ابن شهاب : وكانوا يأخذون

__________________

(١) ابن ماجة ، صفحة ٥٣٢


بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعلّق أصحابنا في أنّ الفطر في الغزو أفضل بالحديث الصحيح (١) : إنكم مصبحو عدوّكم ، والفطر أقوى لكم ، فأفطروا.

والصحيح أن الصوم أفضل ، لعموم قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ وأما فطر النبىّ صلى الله عليه وسلم فإنه روى في الصحيح أنه قيل له (٢) : إنّ الناس قد شقّ عليهم الصيام ، وإنما ينتظرون فطرك ، فأفطر. ولا خلاف في أنّ من شقّ عليه الصوم فله الفطر.

وقد روى أبو سعيد الخدري رضى الله عنه أنه قال (٣) : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنّا الصائم ومنّا المفطر ، من وجد قوة فصام فذلك حسن ، ومن وجد ضعفا فأفطر فذلك حسن. فأما عند القرب من العدوّ فلا ينبغي أن يكون في [٤٥] استحباب الفطر اختلاف ، قاله ابن حبيب ، وبه أقول.

الآية السادسة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ) : تفسير لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ).

ثبت في الصحيح (٥) عن طلحة أنّ رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر (٦) الرأس يسمع دوىّ صوته ولا يفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ، فقال: أخبرنى بما فرض الله علي من الصلاة ؛ فقال : خمس صلوات في اليوم والليلة. قال : هل علىّ غيرهنّ؟ قال : لا ، إلا أن تطوّع ، وذكر شهر رمضان قال : هل علىّ غيره؟ قال: لا ، إلّا أن تطوّع ... الحديث.

فجاء هذا تفسيرا للمفروض وبيانا له.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٧٨٩

(٢) صحيح مسلم : ٧٨٦

(٣) صحيح مسلم : ٧٨٧

(٤) الآية الخامسة والثمانون بعد المائة.

(٥) صحيح مسلم : ٤١ ، والبخاري : ٣ ـ ٢٩

(٦) ثائر الرأس : قائم شعره منتصبه.


المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ) ، يعنى هلال رمضان ، وإنما سمّى [الشهر] (١) شهرا لشهرته ، ففرض الله علينا الصوم عند رؤية الهلال. وهذا قول النبىّ صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ (٢) عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين (٣). ففرض علينا عند غمّة الهلال إكمال عدّة شعبان ثلاثين يوما ، وإكمال عدّة رمضان ثلاثين يوما عند غمّة هلال شوّال ، حتى يدخل في العبادة بيقين ، ويخرج عنها بيقين.

وكذلك ثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم مصرّحا به أنه قال (٤) : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه.

وقد روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : احصوا هلال شعبان لرمضان.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

محمول على العادة بمشاهدة الشهر ، وهي رؤية الهلال ، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.

وقد زلّ بعض المتقدمين فقال : يعوّل على الحساب بتقدير المنازل ، حتى يدلّ ما يجتمع حسابه على أنه لو كان صحو لرئى ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (٥) : فإن غم عليكم فاقدروا له. معناه عند المحقّقين فأكملوا المقدار ، ولذلك قال فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوما. وفي رواية : فإن غمّ (٦) عليكم فأكملوا صوم ثلاثين ثم أفطروا ، رواه البخاري ومسلم (٧). وقد زلّ أيضا بعض أصحابنا فحكى عن الشافعى أن قال : يعوّل على الحساب وهي عثرة لا لعا لها (٨).

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ).

فيه قولان :

الأول ـ من شهد منكم الشّهر ، وهو مقيم ، ثم سافر لزمه الصوم في بقيّته (٩) ، قاله ابن عباس ، وعائشة.

__________________

(١) ليس في م.

(٢) غم علينا الهلال : إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه.

(٣) ابن ماجة ، صفحة ٥٣٠

(٤) ابن ماجة ، صفحة ٥٢٩

(٥) مسلم : ٧٥٩ ، والبخاري : ٣ ـ ٣١

(٦) في القرطبي : فإن أغمى. وفي مسلم مرة : فإن أغمى ، ومرة : فإن غم ـ صفحة ٧٥٩

(٧) مسلم : ٧٥٩

(٨) لا لعالها : لا انتعاش منها ولا إقالة.

(٩) في ا : في نفسه.


الثاني ـ من شهد منكم الشهر فليصم منه ما شهد وليفطر ما سافر.

وقد سقط القول الأول بالإجماع من المسلمين كلّهم (١) على الثاني ، وكيف يصحّ أن يقول ربّنا سبحانه : فمن شهد منكم الشهر فليصم منه ما لم يشهد ، وقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم سافر في رمضان فصام حتى بلغ الكديد (٢) ، فأفطر وأفطر المسلمون.

المسألة الخامسة ـ إذا صام في المصر ، ثم سافر في أثناء اليوم لزمه إكمال الصوم ، فلو أفطر قال مالك : لا كفّارة عليه ؛ لأنّ السفر عذر طرأ ، فكان كالمرض يطرأ عليه.

وقال غيره : عليه الكفّارة ، وبه أقول ؛ لأنّ العذر طرأ بعد لزوم العبادة ، ويخالف المرض والحيض ، لأنّ المرض يبيح له الفطر ، والحيض يحرّم عليه الصوم ، والسفر لا يبيح له ذلك ؛ فوجبت عليه الكفّارة لهتك حرمته.

المسألة السادسة ـ لا خلاف أنه يصومه من رآه ، فأما من أخبر به فيلزمه الصوم ؛ لأنّ رؤيته قد تكون لمحة ، فلو وقف صوم كلّ واحد على رؤيته لكان ذلك سببا لإسقاطه ، إذ لا يمكن كلّ أحد أن يراه وقت طلوعه ، وإنّ وقت الصلاة الذي يشترك في دركه كلّ أحد ويمتدّ أمده يعلم بخبر المؤذّن ، فكيف الهلال الذي يخفى أمره ويقصر أمده؟

وقد اختلف العلماء في وجه الخبر عنه ؛ فمنهم من قال : يجزى فيه خبر الواحد كالصلاة ، قاله أبو ثور ؛ ومنهم من أجراه مجرى الشهادة في سائر الحقوق ، قاله مالك ؛ ومنهم من أجرى أوله مجرى الإخبار وأجرى آخره مجرى الشهادة ، وهو الشافعى ؛ وهذا تحكّم ولا عذر له [٤٦] في الاحتياط للعبادة ، فإنه يحتاط لدخولها كما يحتاط لخروجها ، والاحتياط لدخولها ألا تلزم (٣) إلا بيقين.

وأما أبو ثور فاستظهر بما روى عن ابن عباس (٤) ، قال : جاء أعرابىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصرت الهلال الليلة ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا

__________________

(١) في ا : وكلهم.

(٢) موضع بالحجاز. والحديث في معجم البلدان : قال ابن إسحاق : سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في رمضان فصام وصام أصحابه حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر.

(٣) في م : لا تلزم.

(٤) ابن ماجة ، صفحة ٥٢٩


عبده ورسوله؟ قال : نعم قال : يا بلال ؛ أذّن في الناس فليصوموا غدا. خرّجه النسائي والترمذي وأبو داود.

وقال أبو داود : قال ابن عمر رضى الله عنه : أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّى رأيت الهلال ، فصام وأمر الناس بالصيام.

واعترض بعضهم على خبر ابن عباس أنّه روى مرسلا تارة وتارة مسندا ؛ وهذا مما لا يقدح عندنا في الإخبار ، وبه قال النظام ؛ لأنّ الراوي يسنده تارة ويرسله تارة أخرى ، ويسنده رجل ويرسله آخر.

وقيل : يحتمل حديث ابن عمر أن يكون رآه غيره قبله ، وهذا تحكّم وزيادة على السبب ، ولو كان هذا جائز لبطل كلّ خبر بتقدير الزيادة فيه.

فإن قيل : نؤيّده (١) بالأدلة. قلنا : لا دليل ، إنما الصحيح فيه قبول الخبر من العدل ولزوم العمل به.

المسألة السابعة ـ إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد (٢) فلا يخلو أن يقرب أو يبعد ؛ فإن قرب فالحكم واحد ، وإن بعد فقد قال قوم : لأهل كلّ بلد رؤيتهم.

وقيل : يلزمهم ذلك.

وفي الصحيح (٣) عن كريب أن أمّ الفضل بعثته إلى معاوية بن أبى سفيان بالشام ، قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهلّ علىّ هلال رمضان وأنا بالشام ، فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألنى ابن عباس ، ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيته؟ فقلت : ليلة الجمعة ، [فقال : أنت رأيته؟ قلت : نعم ، وو رآه الناس وصاموا وصام معاوية] (٤) ، قال : لكنّا رأيناه ليلة السبت ، فقلت له : أو لا تكتفى برؤية معاوية؟ قال : لا ؛ هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا ، فقيل : ردّه لأنه خبر واحد ، وقيل : ردّه لأنّ الأقطار مختلفة في المطالع ، وهو الصحيح ، لأن كريبا لم يشهد ، وإنما أخبر عن حكم

__________________

(١) في م : نزيده.

(٢) هنا في هامش م : مسألة هل يصوم أهل قطر برؤية غيره.

(٣) صحيح مسلم : ٧٦٥

(٤) من القرطبي : ٢ ـ ٢٩٥ ، وصحيح مسلم.


ثبت بشهادة ؛ ولا خلاف في أنّ الحكم الثابت بالشهادة يجزى فيه خبر الواحد ؛ ونظيره ما لو ثبت أنّه أهلّ ليلة الجمعة بأغمات (١) ، وأهلّ بإشبيلية (٢) ليلة السبت ، فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم ؛ لأنّ سهيلا (٣) يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية ، وهذا يدلّ على اختلاف المطالع.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ).

معناه عدّة الهلال ، كان تسعة وعشرين أو ثلاثين ، قال ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الشهر تسع وعشرون ، فإذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا. أخرجه مسلم (٤).

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ).

قال علماؤنا : معناه تكبّروا إذا رأيتم الهلال (٥) ، ولا يزال التكبير مشروعا حتى تصلّى صلاة العيد ، وقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يكبّر إذا رأى الهلال ، ويكبّر في العيد ، فأما تكبيره إذا رأى الهلال فلم يثبت ، أما إنه روى أبو داود وغيره عن قتادة بلاغا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم حديثين متعارضين :

أحدهما ـ أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال أعرض عنه.

الثاني ـ أنه كان إذا رآه قال : هلال خير ورشد ، آمنت بالذي خلقك ـ ثلاث مرات ، ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا.

قال القاضي : ولقد لكته فما وجدت له طعما.

وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا ابن زوج الحرة ، أنبأنا النجى ، أنبأنا ابن محبوب ، أنبأنا ابن سورة ، أنبأنا محمد بن بشار ، أنبأنا أبو عامر العقدى ، أنبأنا سليمان بن سفيان المدني ، أنبأنا بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله ، عن أبيه ، عن جدّه طلحة

__________________

(١) أغمات : ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش.

(٢) إشبيلية : مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس.

(٣) سهيل : كوكب.

(٤) صحيح مسلم : ٧٦٠

(٥) هنا في هامش م : مسألة تكبير العيدين لرؤية الهلال.


ابن عبيد الله أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا [٤٧] رأى الهلال قال : اللهم أهلّه علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام.

قال ابن سورة : حسن غريب. قال القاضي : وهو أثبت (١) من المتقدم.

وأما تكبيره عليه السلام في العيد فهي مسألة مشكلة ما وجدت فيها شفاء عند أحد ، ومقدار الذي تحصّل بعد البحث أنّ للتكبير ثلاثة أحوال : حال في وقت البروز إلى صلاة العيد ، وحال الصلاة ، وحال بعد الصلاة.

فأما تكبير البروز فأخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الأزدى ، أنبأنا أبو الطيب الطبري ، أنبأنا أبو الحسن على بن عمر ، أخبرنا أبو عبد الله الآملى (٢) ، حدثنا على بن محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبيش ، حدثنا موسى بن محمد ، عن عطاء ، حدثنا الوليد ابن محمد ، حدثنا الزهري ، أخبرنى سالم بن عبد الله ـ أنّ عبد الله بن عمر أخبره : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبّر يوم الفطر (٣) [من] (٤) حين يخرج من بيته حتى يأتى المصلى.

وذكر عن ابن عمر مثله ، وعن على رضى الله عنه أنه كان يكبّر حتى يأتى الجبّانة ، يريد حين يبرز.

وروى عن أبى عبد الرحمن السلمى أنهم كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى.

وأما (٥) تكبيره في صلاة العيد فقد اختلف في ذلك العلماء سلفا وخلفا ، وروينا في ذلك الأحاديث والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارا عن السلف.

فأما الأحاديث فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وابن لهيعة عن أبى الزبير عن جابر ، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ، ومحمد بن مسلم بن شهاب عن عروة ، عن عائشة ، وعمار بن ياسر ، وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ، وعبد الله بن عامر الأسلمى وغيره عن نافع عن ابن عمر ، واللفظ واحد : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبّر في الفطر سبعا في الأولى وخمسا في الثانية (٦).

وأما أخبار السلف فروى عن علىّ رضى الله عنه : يكبّر إحدى عشرة تكبيرة ،

__________________

(١) في ا : أشبه.

(٢) في م : الأثلى.

(٣) في م : يوم العيد.

(٤) من م.

(٥) في ا : وإنما.

(٦) ابن ماجة : صفحة ٤٠٧ ، وفي م : وخمسا في الآخرة.


ستّا في الأولى ، وخمسا في الآخرة ، ويكبّر في الأضحى خمس تكبيرات ، ثلاثا في الأولى وثنتين في الثانية.

وروى أيوب عن نافع عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه كان يكبّر اثنتي عشرة تكبيرة ، سبعا في الأولى ، وخمسا في الثانية ، سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع.

وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ثنتى عشرة تكبيرة مثله ، وروى عن ابن عباس رضى الله عنه ثلاث عشرة تكبيرة ؛ سبعا في الأولى وستّا في الثانية.

وروى عنه : إن شئت سبعا ، أو إحدى عشرة ، أو ثلاث عشرة.

وروى عن ابن مسعود : يكبّر تسعا : خمسا في الأولى ، وأربعا في الثانية ؛ ومثله عن حذيفة وأبى موسى ؛ وروى عنهما : يكبّر في العيدين أربعا كتكبير الجنائز.

وقد أرسل سعيد بن العاصي أمير المدينة إلى أربعة من أصحاب الشجرة ، سألهم (١) عن التكبير في العيدين ، فقالوا : ثماني تكبيرات ، فذكره لابن سيرين ، فقال : صدق ، ولكنه أغفل تكبيرة فاتحة الصلاة.

واختلف رأى الفقهاء ؛ فقال مالك والشافعى والليث وأحمد بن حنبل وأبو ثور : سبعا في الأولى ، وخمسا في الثانية.

إلا أنّ مالكا قال : سبعا في الأولى بتكبيرة الإحرام. وقال الشافعى : سوى تكبيرة الإحرام.

قال أحمد وأبو ثور : سوى تكبيرة القيام. وقال الثّورى وأبو حنيفة : يكبّر خمسا في الأولى ، وأربعا في الثانية ، ستّ فيها زوائد ، وثلاث أصليات بتكبيرة الافتتاح وتكبيرتي الركوع ، لكن يوالى بين القراءتين ، ويقدّم التكبير في الأولى قبل القراءة ، ويقدّم القراءة في الثانية قبل التكبير.

وروى أصحاب أبى حنيفة أنّ عمر رضى الله عنه جمع الصحابة فاتفقوا على مذهبهم.

وظنّ قوم أنّ هذا [٤٨] كأعداد الوضوء وركعات صلاة الليل ، وهو وهم من قائله ليس في الوضوء أعداد ، وقد بيّناها ، ولا في قيام الليل ركعات مقدّرة ؛ وإنما هو اختلاف

__________________

(١) في م : يسألهم.


[روايات] (١) في صلاة جماعات ، فهي كاختلاف الروايات في صلاة الخوف ، وإنما يترجّح فيها عند النظر إليها :

أحدها أن يقال : إنّ المرء مخيّر في كل رواية ، فمن فعل منها شيئا تمّ له المراد منها ؛ لأنّ الفرض نفس (٢) التكبير لا قدره.

وإمّا أن يقال : إنّ رواية أهل المدينة أرجح لأجل أنهم بالدّين أقعد ؛ فإنهم شاهدوها ، فصار نقلهم كالتواتر لها.

ويترجّح قول مالك على قول الشافعى ؛ لأنّ مالكا رأى تكبيرا يتألّف من مجموعه وتر ، والله وتر يحبّ الوتر (٣).

وقد يمكن تلخيص بعض هذه الروايات بأن يقال : إنه يحتمل أن يكون الراوي عدّ الأصول والزوائد مرة وأخبر عنها ، فيأتى من مجموعها ثلاث عشرة ، أو يقتصر على الزوائد في الذّكر ويحذف الأصليات الثلاث فيظهر ها هنا التباين أكثر ، ولكن يفضل الكلّ ما قدّمنا من الرجوع إلى أعمال أهل المدينة ، والله أعلم.

وأما تكبيره من بعد الصلاة فروى أبو الطفيل عن علىّ وعمار أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يكبّر في دبر الصلوات المكتوبة من صلاة الفجر غداة عرفة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق يوم دفعة الناس العظمى.

ومن حديث أبى جعفر عن جابر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى الصبح من غداة عرفة ، وأقبل على أصحابه يقول : على مكانكم ، ويقول : الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وروى عن نافع عن ابن عمر أنهم كانوا يكبّرون في صلاة الظهر ، ولا يكبّرون في صلاة الصبح ، كذلك فعل عثمان رضى الله عنه وهو محصور.

وروى ربيعة بن عثمان ، عن سعيد بن أبى هند ، عن جابر بن عبد الله : سمعته يكبّر في الصلوات أيام التشريق (٤) : الله أكبر ـ ثلاثا.

__________________

(١) ليس في م.

(٢) في م : تعيين.

(٣) في م ـ بعده : وإليه أميل.

(٤) أيام التشريق : هي ثلاثة أيام تلى يوم عيد الأضحى.


واختار الشافعىّ رواية أبى جعفر [عن جابر] (١) ـ أن يجمع بين التهليل والتكبير والتحميد ، وذكرها ابن الجلاب من أصحابنا.

واختار علماؤنا التكبير المطلق ، وهو ظاهر القرآن ، وإليه أميل. والله أعلم.

وكانت الحكمة في ذلك على ما ذكره علماؤنا رحمة الله عليهم الإقبال على التكبير والتهليل ، وذكر الله تعالى عند انقضاء المناسك شكرا على ما أولى من الهداية وأنقذ به من الغواية ، وبدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء ، والتظاهر بالأحساب ، وتعديد المناقب ، على ما يأتى تبيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

الآية السابعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

فيها تسع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

روى الأئمة : البخاري (٣) وغيره ، عن البراء ـ أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حضر الإفطار فنام الرجل منهم قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأنّ قيس بن صرمة الأنصارى كان صائما ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته ، فقال : أعندك طعام؟ قالت : لا ، ولكني أنطلق فأطلب ، وكان يعمل يومه ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قد نام قالت : خيبة لك ؛ فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكرت ذلك للنبىّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية.

وروى الطبري نحوه ، وأنّ عمر (٤) رضى الله عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم

__________________

(١) من م.

(٢) الآية السابعة والثمانون بعد المائة.

(٣) صحيح البخاري : ٣ ـ ٣٤

(٤) في القرطبي : وروى الطبري نحوه أن عمر.


وقد سمر عنده ليلة ، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت : قد نمت ، فقال : ما نمت ، ثم وقع عليها ، وصنع كعب بن مالك مثله. فغدا عمر رضى الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أعتذر إلى الله وإليك ؛ فإنّ نفسي زيّنت لي مواقعة أهلى ، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال له : لم تكن بذلك حقيقا يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره (١) في آية من القرآن.

وقد روى أبو داود في أبواب الأذان قال : جاء عمر رضى الله عنه فأراد أهله ، فقالت [٤٩] : إنى قد نمت ، فظنّ أنها تعتلّ ، فأتاها ، فلما أصبح نزلت هذه الآية.

المسألة الثانية ـ في «الرّفث».

الرّفث يكون الإفحاش في المنطق ، ويكون حديث النساء ، ويكون مباشرتهنّ. والمراد به هاهنا المباشرة.

وقد روى عن ابن عباس أنه قال : المباشرة الجماع ، ولكنّ الله تعالى كريم يكنّى ، وهذا يعضد قول من قال : إنّ معنى قوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أنهم أهل الكتاب ؛ فإنهم كذلك يصومون ، ثم نسخ الله تعالى ذلك بهذه الآية.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ).

المعنى هنّ لكم (٢) بمنزلة الثوب ، ويفضى كلّ واحد منكم إلى صاحبه ، ويستتر به ويسكن إليه.

والفقه فيه أنّ كلّ واحد منكم لا يقدر على الاحتراز من صاحبه لمخالطته إياه اشرته له.

وقيل المعنى أن كلّ واحد منكم متعفّف بصاحبه مستتر به عما لا يحلّ له من التعرّي مع غيره.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وهذا يدلّ على قوة رواية عمر وكعب رضى الله عنهما ؛ فإنه سبحانه أخبر أنه علم الخيانة ،

__________________

(١) في م : معذرة.

(٢) في م : المعنى ستر لكم بمنزلة الثوب.


ولا بدّ من وجود ما علم موجودا. وإن كان على حديث قيس بن صرمة الذي رواه البخاري فتقديره : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فرخّص لكم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ).

قد بيّنا في كتاب الأمر توبة الله تعالى على الخلق (١) ومعنى وصفه بأنه التوّاب. وقد تاب علينا ربنا هاهنا بوجهين :

أحدهما ـ قبوله توبة من اختان نفسه.

والثاني ـ تخفيف ما ثقل ، كما قال تعالى (٢) : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) ؛ أى رجع إلى التخفيف.

قال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفّف لأجله عن الأمة ، فرضي الله عنه وأرضاه.

المسألة السادسة ـ [قوله تعالى] (٣) : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ).

معناه قد أحلّ الله لكم ما حرّم عليكم ، وهذا يدلّ على أن سبب الآية جماع عمر رضى الله عنه لا جوع قيس ؛ لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ ما كتب الله لكم من الحلال.

الثاني ـ ما كتب الله لكم من الولد.

الثالث ـ ليلة القدر. فالقول الأول عامّ يشهد له حديث قيس ، والثاني خاص يشهد له حديث عمر ، والثالث عام في الثواب والأجر.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).

هذا جواب نازلة قيس بن صرمة ، والأول جواب نازلة عمر رضى الله عنه ؛ وبدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدّم.

__________________

(١) في م : على عباده.

(٢) سورة المزمل ، آية ٢٠

(٣) من م.


المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

روى الأئمة بأجمعهم : قال عدىّ بن حاتم : لما نزلت هذه الآية عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض ، فجعلتهما تحت وسادتي ، وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يستبين لي فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك ، فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ، ونزل قوله تعالى : (من الفجر).

وروى الأئمة : قال النبي صلى الله عليه وسلم (١) : لا يمنعنكم أذان بلال من سحوركم ، فإنه يؤذّن بليل ، ليرجع قائمكم ، ويوقظ نائمكم ، وليس أن يقول هكذا ـ وصوّب يده ورفعها ـ حتى يقول : هكذا ـ وضرب بين أصابعه.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ). فشرط ربّنا تعالى إتمام الصوم حتى يتبيّن الليل ، كما جوّز الأكل حتى يتبين النهار ، ولكن إذا تبيّن الليل فالسنّة [٥٠] تعجيل الفطر.

وقد روى الأئمة منهم البخاري (٢) عن عبد الله بن أبى أوفى ، قال : كنّا مع النبىّ صلى الله عليه وسلم في سفر ؛ فصام حتى أمسى ، فقال لرجل : انزل فاجدح لي (٣). قال : لو انتظرت حتى تمسى. قال : انزل فاجدح لي إذا رأيت الليل قد أقبل من هاهنا وأدبر من هاهنا فقد أفطر الصائم.

المسألة الحادية عشرة ـ كما أنّ السنة تعجيل الفطر مخالفة لأهل الكتاب كذلك السنة تقديم الإمساك ـ إذا قرب الفجر ـ عن محظورات الصيام.

ومن العلماء من جوّز الأكل مع الشك في الفجر حتى يتبيّن ؛ منهم ابن عباس والشافعى ، لقوله تعالى : حتى يتبيّن ، ولأن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال (٤) : وكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أمّ مكتوم ، وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادى حتى يقال له : أصبحت أصبحت.

__________________

(١) في ابن ماجة (صفحة ٥٤١) : عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحور ، فإنه يؤذن لينتبه نائمكم ، وليرجع قائمكم ، وليس الفجر أن يقول هكذا ، ولكن هكذا يعترض في أفق السماء.

(٢) صحيح البخاري : ٣ ـ ٤٥

(٣) الجدح : أن يحرك السويق بالماء ويخوض حتى يستوي ، وكذلك اللبن. (النهاية ـ جدح).

(٤) صحيح البخاري : ٣ ـ ٣٥


وتأوّله علماؤنا : قاربت الصباح ، وقاربت تبيّن الخيط ، وهو الأشبه بوضع الشريعة وحرمة العبادة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : يوشك من يرعى حول الحمى أن يقع فيه. وإذا جاء الليل فأكلت لم تخف مواقعة محظور ، وإذا دنا الصباح لم يحلّ لك الأكل لأنه ربما أوقعك في المحظور غالبا.

المسألة الثانية عشرة ـ إذا تبيّن الليل سنّ الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل ؛ فإن ترك الأكل لعذر أو لشغل جاز ، وإن تركه قصدا لموالاة الصيام قربة اختلف العلماء ؛ فممّن رآه جائزا عبد الله بن الزبير ، كان يصوم الأسبوع ويفطر على الصبر ، ورآه الأكثر حراما لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبّه بأهل الكتاب.

والصحيح أنه مكروه ؛ لأن علّة تحريمه معروفة ، وهي ضعف القوى وإنهاك الأبدان.

وروى الأئمة أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأيّكم مثلي؟ إنى أبيت يطعمنى ربي ويسقيني. فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ويوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال : لو تأخّر الهلال لزدتكم ، كالمنكّل لهم حين أبوا أن ينتهوا ؛ وهذا يدلّ على أنّ ذلك لم يكن محرّما ، وإنما كان شفقة عليهم ، فلذلك لم يقبلوه ، ولو كان حراما ما فعلوه.

وروى البخاري (١) عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تواصلوا ؛ فأيّكم أراد الوصال فليواصل ، حتى السّحر. وهذه إباحة لتأخير الفطر ، ومنع من إيصال يوم بيوم.

المسألة الثالثة عشرة ـ لما قال الله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) :

بيّن بذلك محظورات الصيام ؛ وهي الأكل ، والشرب ، والجماع.

فأما ظاهر المباشرة (٢) التي هي اتصال البشرة بالبشرة فاختلف العلماء فيها على أربعة أقوال : الأول أنها حرام. الثاني أنها مباحة. الثالث أنها مكروهة. الرابع أنها منقسمة بين من يخاف على نفسه التعرّض لفساد الصوم وبين من يأمن ذلك على نفسه.

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ ـ ٤٦

(٢) في هامش م هنا : مسألة مباشرة الصائم دون جماعة.


وتحقيق القول فيه أنها سبب وداعية إلى الجماع ، وذريعة داعية إليه ، فيختلف في حكمها كاختلافهم في تحريم الذّرائع التي تدعو إلى المحظورات ؛ فأما علماء المالكية فاعتبروا حال الرجل وخوفه على صومه وأمنه عليه من نفسه ، وقد ثبت (١) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل أزواجه ـ عائشة وغيرها ، وهو صائم ، ويأمر بالإخبار بذلك ؛ لكن النبي كان أملكنا لإربه (٢).

وقد خرّج مسلم أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أفتى عمر بن أبى سلمة بجوازها وهو شاب ، فدلّ أنّ المعوّل فيها ما اعتبر علماؤنا من حال المقبّل ، لكن منهم من تجاوز في التفصيل حدّ الفتيا ، ونحن نضبط بحول الله تعالى ، فنقول : أما إن أفضى التقبيل والمباشرة إلى المذي فلا شيء فيه ؛ لأنّ تأثيره في الطهارة الصغرى ، وأما إن خيف إفضاؤه إلى المنىّ فذلك الممنوع ، والله أعلم [٥١].

المسألة الرابعة عشرة ـ إن قيل : كيف يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى : الخيط الأبيض الفجر ، ويتأخر البيان (٣) مع الحاجة إليه؟ وتأخير البيان عن وقت الحاجة إليه مع بقاء التكليف حتى يقع الخطأ عن المقصود لا يجوز.

فالجواب أنّ البيان كان موجودا فيه ، لكن على وجه لا يدركه جميع الناس ؛ وإنما كان على وجه يختصّ به بعضهم أو أكثرهم ، وليس يلزم أن يكون البيان مكشوفا في درجة يطّلع عليها كلّ أحد ؛ ألا ترى أنه لم يقع فيه إلا عدىّ وحده ، وأيضا فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنّف عديّا ، وأنزل الله تعالى البيان فيه جليّا.

وقد روى في حديث عدىّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له : إنك لعريض القفا ، وضحك ؛ ولا يضحك إلا على جائز ، وليس فيما ذكر له إلا تعريضه للغباوة.

المسألة الخامسة عشرة ـ إذا جوّزنا له الوطء قبل الفجر ففي ذلك دليل على جواز طلوع الفجر عليه ، وهو جنب (٤) ؛ وذلك جائز إجماعا ؛ وقد كان وقع فيه بين الصحابة رضوان الله

__________________

(١) صحيح مسلم : ٧٧٧

(٢) بعضهم يرويه بفتحتين بمعنى الحاجة. وبعضهم يرويه بكسر فسكون ، وهو يحتمل معنى الحاجة والعضو.

(٣) في هامش م هنا : مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة.

(٤) في هامش م هنا : مسألة صوم الجنب.


عليهم أجمعين كلام ، ثم استقرّ الأمر على أنه من أصبح جنبا فإنّ صومه صحيح (١) ، وبهذا احتجّ ابن عباس عليه ، ومن هاهنا أخذه باستنباطه ، وغوصه ، والله أعلم.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

الاعتكاف في اللغة هو اللبث ، وهو (٢) غير مقدّر عند الشافعى وأقلّه لحظة ، ولا حدّ لأكثره. وقال مالك وأبو حنيفة : هو مقدّر بيوم وليلة ، لأنّ الصوم عندهما من شرطه.

قال علماؤنا : لأن الله تعالى خاطب الصائمين ، وهذا لا يلزم في الوجهين. أما اشتراط الصوم فيه بخطابه تعالى لمن صام فلا يلزم بظاهره ولا باطنه ؛ لأنها حال واقعة لا مشترطة.

وأما تقديره بيوم وليلة لأنّ الصوم من شرطه فضعيف ؛ فإنّ العبادة لا تكون مقدّرة بشرطها ؛ ألا ترى أنّ الطهارة شرط في الصلاة ، وتنقضي الصلاة وتبقى الطهارة ، وقد حققنا في مسائل الخلاف دليل وجوب الصّوم فيه ، ويغنى الآن لكم عن ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : اعتكف وصم. وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي إذا دخلنا معه مسجدا بمدينة السلام لإقامة ساعة يقول : انووا الاعتكاف تربحوه. وعوّل مالك على أنّ الاعتكاف اسم لغوىّ شرعي ، فجاء الشرع في حديث عمر رضى الله عنه بتقدير يوم وليلة ، فكان (٣) ذلك أقله ، وجاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم باعتكاف عشرة أيام ، [فكان ذلك المستحب فيه] (٤).

المسألة السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (فِي الْمَساجِدِ).

مذهب مالك الصريح ـ الذي لا مذهب له سواه ـ جواز الاعتكاف في كل مسجد ؛ لأنه تعالى قال : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ، فعمّ المساجد كلّها ؛ لكنه إذا اعتكف في مسجد لا جمعة فيه فخرج (٥) للجمعة ، فمن علمائنا من قال : يبطل اعتكافه ، ولا نقول به ؛ بل يشرف الاعتكاف ويعظم. ولو خرج في (٦) الاعتكاف من مسجد إلى مسجد لجاز له ؛ لأنه يخرج لحاجة الإنسان إجماعا ، فأىّ فرق بين أن يرجع إلى ذلك المسجد أو إلى سواه؟

__________________

(١) ارجع إلى ابن ماجة ، صفحة ٥٤٣

(٢) في هامش م هنا : مسألة في تقدير مدة الاعتكاف.

(٣) في م : وكان.

(٤) ليس في م.

(٥) في هامش م لها : مسألة في خروج المعتكف.

(٦) في م : من.


المسألة الثامنة عشرة ـ وهي بديعة :

فإن قيل : قلتم في قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) : إن المراد به الجماع ، وقلتم في قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) : إنه اللمس والقبلة ، فكيف هذا التناقض؟

قلنا : كذلك نقول في قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) : إنها المباشرة بأسرها صغيرها وكبيرها ؛ ولو لا أنّ السنة قضت على عمومها ما روت (١) عائشة وأم سلمة في جواز القبلة للصائم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وبإذن النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبى سلمة في القبلة وهو صائم فخصصناها [٥٢].

فأما قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) فقد بقيت على عمومها وعضدتها أدلّة سواها ؛ وهي أنّ الاعتكاف مبنيّ على ركنين : أحدهما ترك الأعمال المباحة بإجماع. الثاني ترك سائر العبادات سواه مما يقطعه ويخرج به عن بابه (٢) ، فإذا كانت العبادات تؤثّر فيه ، والمباحات لا تجوز معه فالشهوات أحرى أن تمنع فيه.

المسألة التاسعة عشرة قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

فحرّم الله تعالى المباشرة في المسجد ، وذلك (٣) يحرم خارج المسجد ، لأن معنى الآية : ولا تباشروهنّ وأنتم ملتزمون الاعتكاف في المسجد معتقدون له ، فهو إذا خرج لحاجة الإنسان وهو ملتزم للاعتكاف في المسجد معتقد له رخّص له في حاجة الإنسان للضرورة الداعية إليه ، وبقي سائر أفعال الاعتكاف كلّها على أصل المنع.

الآية الثامنة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ هذه الآية ، من قواعد المعاملات ، وأساس المعاوضات ينبنى (٥) عليها ، وهي أربعة : هذه الآية ، وقوله تعالى (٦) : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ، وأحاديث الغرر ، واعتبار المقاصد والمصالح ، وقد نبّهنا على ذلك في مسائل الفروع.

__________________

(١) في م : بماروت.

(٢) في ا : مما يقطع به ويخرج عن بابه.

(٣) في ا : وكذلك تحرم.

(٤) الآية الثامنة والثمانون بعد المائة.

(٥) في ا : تبنى.

(٦) سورة البقرة ، آية ٢٧٥


المسألة الثانية ـ اعلموا ، علّمكم الله ، أن هذه الآية متعلق كلّ مؤالف ومخالف في كلّ حكم يدّعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز ، فيستدلّ عليه بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

فجوابه أن يقال له : لا نسلّم أنه باطل حتى تبيّنه بالدليل ، وحينئذ يدخل في هذا العموم ؛ فهي دليل على أنّ الباطل في المعاملات لا يجوز ، وليس فيها تعيين الباطل.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ).

المعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، كما قال تعالى (١) : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، وكقوله تعالى (٢) : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) : المعنى لا يقتل بعضكم بعضا. وليسلّم بعضكم على بعض. ووجه هذا الامتزاج أنّ أخا المسلم كنفسه في الحرمة ، والدليل عليه الأثر والنظر ؛ أما الأثر فقوله عليه السلام : مثل المسلمين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمّى والسهر.

وأما النّظر فلأنّ رقّة الجنسية تقتضيه وشفقة الآدمية تستدعيه.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا).

معناه : ولا تأخذوا (٣) ولا تتعاطوا. ولما كان المقصود من أخذ المال المتاع (٤) به في شهوتي البطن والفرج قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا) ، فخصّ شهوة البطن ؛ لأنها الأولى المثيرة لشهوة الفرج.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (بِالْباطِلِ).

يعنى بما لا يحلّ شرعا ولا يفيد مقصودا ؛ لأنّ الشرع نهى عنه ، ومنع منه ، وحرّم تعاطيه ، كالربا والغرر ونحوهما. والباطل ما لا فائدة فيه. ففي المعقول هو عبارة عن المعدوم ، وفي المشروع عبارة عما لا يفيد مقصودا.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ).

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٩

(٢) سورة النور ، آية ٦١

(٣) في ا : معناه لا تأخذوا.

(٤) في م : التمتع.


أى توردون كلامكم فيها ، ضرب (١) للكلام المورود على السامع مثلا بالدّلو المورودة على الماء ، ليأخذ الماء (٢).

وحقيقة اللفظ : وتدلوا كلامكم. أو يكون الكلام ممثّلا بالحبل ، والمال المذكور ممثّلا بالدّلو ؛ لتقطعوا قطعة من أموال غيركم ، وذلك الغير هو المخاصم.

(بالإثم) : أى مقرونة بالإثم. (وأنتم تعلمون) : تحريم ذلك.

المسألة السابعة ـ قال علماؤنا : هذا النهى محمول على التحريم قطعا غير جائز إجماعا ، وقد ثبت عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (٣) : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون الحن بحجّته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع [٥٣] منه ، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار.

المسألة الثامنة ـ إذا ثبت هذا فإنّ مدار حكم الحاكم [هو في الظاهر] (٤) على كلام الخصمين لا حظّ له في الباطن لأنه لا يبلغه علمه ، فلا ينفذ فيه حكمه ؛ وإنما يحكم في الظاهر والباطن الظاهر (٥) الباطن سبحانه ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المصطفى للاطلاع على الغيب يتبرّأ من الباطن ، ويتنصّل من تعدّى حكمه إليه ، فكيف بغيره من الخلق؟ المسألة التاسعة ـ هذا يدلّ على أنّ الحاكم مصيب في حكمه في الظاهر وإن أخطأ الصواب عند الله تعالى في الباطن ، لأنه سبحانه قال : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا) بحكمهم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بطلان ذلك ، والحاكم في عفو الله وثوابه ، والظالم في سخط الله تعالى وعقابه.

الآية التاسعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٦) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

فيها اثنتا عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : وفيه قولان :

أحدهما : أنّ ناسا سألوا عن زيادة الأهلّة ونقصانها فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) في ا : ضربه.

(٢) في م : ليأخذه.

(٣) ابن ماجة ، صفحة ٧٧٧

(٤) ليس في م.

(٥) في م : للظاهر للباطن.

(٦) الآية التاسعة والثمانون بعد المائة.


الثاني ـ روى عن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل لم جعلت الأهلّة؟ فأنزل الله تعالى الآية.

والحكمة فيه أنّ الله تعالى خلق الشمس والقمر آيتين. وفي الأثر أنه وكل بهما ملكين ؛ ورتّب لهما مطلعين ، وصرّفهما بينهما لمصلحتين : إحداهما دنياوية وهي مقرونة بالشمس ، والأخرى دينية وهي مبنية على القمر ؛ ولهذه الحكمة جعل [أهل] (١) تأويل الرؤيا الشمس ملكا (٢) أعجميا والقمر ملكا عربيا.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ).

يعنى في صومهم وإفطارهم وآجالهم في تصرفاتهم ومنافع كثيرة لهم.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَالْحَجِ).

ما فائدة تخصيص الحجّ آخرا مع دخوله في عموم اللّفظ الأول؟ وهي أنّ العرب كانت تحجّ بالعدد وتبدّل الشهور ؛ فأبطل الله تعالى فعلهم وقولهم ، وجعله مقرونا بالرؤية.

المسألة الرابعة ـ إذا ثبت أنه ميقات فعليه يعوّل ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن لم ير فليراجع إلى العدد المرتّب عليه ، وإن جهل أول الشهر عوّل على عدد الهلال قبله ، وإن علم أوله بالرؤية بنى آخره على العدد المرتب على رؤيته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين.

وروى : فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين ، ثم أفطروا.

المسألة الخامسة ـ إذا رأى أحد الهلال كبيرا.

قال علماؤنا : لا يعوّل على كبره ولا على صغره ، وإنما هو من ليلته ، لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : إن الأهلّة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فهو للّيلة المستقبلة.

وقد روى مالك أنّ هلال شوال رئي بعشىّ فلم يفطر عثمان رضى الله عنه حتى أمسى.

وروى عن أبى البختري قال : قدمنا حجّاجا حتى إذا كنا بالصّفاح (٣) رأينا هلال

__________________

(١) ليس في م.

(٢) من هنا أول النسخة التي رمزنا إليها بالحرف (ل) ورقمها في دار الكتب ٢٢

(٣) الصفاح : موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش (معجم ياقوت).


ذي الحجة كأنه ابن خمس ليال ، فلما قدمنا على ابن عبّاس سألناه فقال : جعل الله الأهلة مواقيت يصام لرؤيتها ويفطر لرؤيتها.

المسألة السادسة ـ إذا رئي قبل الزوال فهو لليلة المستقبلة.

وقال ابن حبيب وابن وهب وغيرهما : هو للماضية. وروى في ذلك أثر ضعيف عن عمر رضى الله عنه. والصحيح عن عمر أنّ الأهلّة بعضها أكبر من بعض ، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.

المسألة السابعة ـ قال قوم : إن المناسك من صوم وحج تنبنى على حساب منازل القمر ، وقد تقدّم الردّ عليهم.

المسألة الثامنة ـ عند علمائنا أنه يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحجّ ، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعى : لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج [٥٤].

وتعلّق بعض علمائنا بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) ، فجعل جميعها ميقاتا للحجّ ، وذلك لا يجوز ، لأنّ هذه الآية أفادت بيان حكمة الأهلّة في الجملة ، فأما تخصيص الفوائد بالأهلة وتعيينها فإنما تؤخذ من دليل آخر ؛ ألا ترى أنه لا يصام لجميعها (١) ، فكذلك لا يحجّ لجميعها. وقد بيّن الله تعالى ذلك في آية أخرى ، فقال (٢) : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ؛ فبيّن أنّ أهلّته معلومة مخصوصة من بين جميع الأهلّة. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).

كان سبب نزولها فيما روى الزّهرى أنّ أناسا من الأنصار كانوا إذا أهلّوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك من بيته فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء ؛ فيقتحم الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ، فتخرج إليه من بيته ، حتى بلغنا أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أهلّ بالعمرة زمن الحديبية فدخل حجرته ، فدخل رجل من الأنصار على أثره كان من بنى سلمة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنى أحمسى. قال الزهري :

__________________

(١) في م : بجميعها.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٩٧


وكانت الحمس (١) لا يبالون ذلك. قال الأنصارى : وأنا أحمسىّ ـ يعنى على دينك ـ فأنزل الله تعالى الآية.

المسألة العاشرة ـ في تأويلها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها بيوت المنازل.

الثاني ـ أنها النساء أمرنا بإتيانهنّ من القبل لا من الدّبر.

الثالث ـ أنها مثل ؛ أمر الناس أن يأتوا الأمور من وجوهها.

المسألة الحادية عشرة ـ في تحقيق هذه الأقوال :

أما القول إنّ المراد بها النساء فهو تأويل بعيد لا يصار إليه إلّا بدليل ، فلم يوجد ولا دعت إليه حاجة.

وأما كونه مثلا في إتيان الأمور من وجوهها فذلك جائز في كلّ آية ؛ فإنّ لكل حقيقة مثلا منها ما يقرب ومنها ما يبعد.

وحقيقة هذه الآية البيوت المعروفة ، بدليل ما روى في سبب نزولها من طرق متعددة ذكرنا أوعبها عن الزهري ، فحقّق أنها المراد بالآية ، ثم ركّب من الأمثال ما يحمله اللفظ ويقرب ، ولا يعارضه شيء.

المسألة الثانية عشرة ـ قال علماؤنا : هذا دليل على مسألة من الفقه ، وهي أن الفعل بنيّة العبادة لا يكون إلا في المندوبات خاصة دون المباح ودون المنهي عنه. واقتحام البيوت من ظهورها عند التلبّس بالعمرة لم يكن ندبا فيقصد به وجه القربة ؛ ولذلك لا يتعلّق النذر بمباح ولا منهىّ عنه ، وإنما يتعلّق بكل مندوب ؛ وهذا أصل حسن.

الآية الموفية أربعين ـ قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

فيها خمس مسائل :

__________________

(١) الحمس : جمع الأحمس. والحمس : قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس ، وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس بن عيلان ، وبنو عامر بن صعصعة ، هؤلاء الحمس ، سموا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم وتشددوا (اللسان ـ مادة حمس).

(٢) الآية التسعون بعد المائة.


المسألة الأولى ـ في مقدمة لها :

إنّ الله سبحانه بعث نبيّه صلى الله عليه وسلم بالبيان والحجّة ، وأوعز إلى عباده على لسانه بالمعجزة والتذكرة ، وفسح لهم في المهل ، وأرخى لهم في الطّيل (١) ما شاء من المدة بما اقتضته المقادير التي أنفذها ، واستمرت به الحكمة ، والكفار يقابلونه بالجحود والإنكار ، ويعتمدونه وأصحابه بالعداوة والإذاية ، والباري سبحانه يأمر نبيّه عليه السلام وأصحابه باحتمال الأذى والصّبر على المكروه ، ويأمرهم بالإعراض تارة وبالعفو والصفح أخرى ، حتى يأتى الله بأمره ، إلى أن أذن الله تعالى لهم في القتال.

فقيل : إنه أنزل على رسوله (٢) : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، وهي أول آية نزلت ، وإن لم يكن أحد قاتل ، ولكن معناه أذن للذين يعلمون أنّ الكفّار يعتقدون قتالهم وقتلهم بأن يقاتلوهم [٥٥] على اختلاف القراءتين (٣) ، ثم صار بعد ذلك فرضا ، فقال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

ثم أمر بقتال الكلّ ، فقال (٤) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ..) الآية. وقيل : إن هذه الآية أول آية نزلت.

والصحيح ما رتّبناه ؛ لأن آية الإذن في القتال مكّية ، وهذه الآية مدنية متأخّرة.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سار إلى العمرة زمن الحديبية فصدّه المشركون عنها ، فأمر بقتالهم ، فبايع على ذلك ، ثم أذن له في الصلح إلى أمر ربّك أعلم به.

المسألة الثالثة ـ قال جماعة : إنّ هذه الآية منسوخة بآية براءة ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنه أمر هاهنا بقتال من قاتل ، وكذلك أمر بذا بعده ، فقال تعالى (٥) : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ، بيد أن أشهب روى عن مالك أنّ المراد هاهنا أهل المدينة ، أمروا بقتال من قاتلهم.

وقال غيره : هو خطاب للجميع ، وهو الأصحّ ؛ أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله ، إذ لا يمكن سواه ؛ ألا تراه كيف بيّنها تعالى في سورة براءة بقوله (٦) : (قاتِلُوا الَّذِينَ

__________________

(١) الطيل : حبل تشد به قائمة الدابة ، أو تشد ويمسك طرفه وترسلها ترعى.

(٢) سورة الحج ، آية ٣٩

(٣) في ل : على اختلاف في القولين. وفي القرطبي (١٢ ـ ٦٨) : وقرى أذن بفتح الهمزة ، أى أذن الله. يقاتلون ، بكسر التاء ، أى يقاتلون عدوهم.

(٤) سورة التوبة ، آية ٥

(٥) سورة التوبة ، آية ٣٦

(٦) سورة التوبة ، آية ١٢٣


يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ؛ وذلك لأنّ المقصود أوّلا كان أهل مكة فتعيّنت البداية بهم وبكلّ من عرض دونهم (١) أو عاونهم ؛ فلما فتح الله تعالى مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذى ، حتى تعمّ الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ، ولا يبقى أحد من الكفرة (٢) ، وذلك متماد إلى يوم القيامة ، ممتدّ إلى غاية هي قول النبي صلى الله عليه وسلم (٣) : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والغنيمة. وذلك لبقاء القتال ؛ وذلك لقوله تعالى (٤) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

وقيل غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام. قال صلى الله عليه وسلم (٥) : ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا يكسر الصّليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية. وذلك موافق للحديث قبله ؛ لأن نزول عيسى عليه السلام من أشراط الساعة. وسيقاتل الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، وهو آخر الأمر.

وقال جماعة من الفقهاء : إن الجهاد بعد فتح مكة ليس بفرض إلا أن يستنفر الإمام أحدا منهم ، [قاله] (٦) سفيان الثوري ، ومال إليه سحنون ، وظنه قوم بابن عمر حين رأوه مواظبا على الحجّ تاركا للجهاد ، وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم (٧) : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة ، وإذا استنفرتم فانفروا. ثبت ذلك عنه.

وهذا هو دليلنا ، لأنه أخبر أن الجهاد باق بعد الفتح ، وإنما رفع الفتح الهجرة ، وذلك لقوله تعالى (٨) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؛ يعنى كفرا [ويكون الدين لله] (٩)

ومواظبة ابن عمر رضى الله عنه على الحجّ لأنه اعتقد الحقّ ، وهو أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين.

ويحتمل أن يكون رأى أنه لا يجاهد مع ولاة الجور.

والأول أصحّ ؛ لأنه قد كان في زمانه عدول وجائرون ، وهو في ذلك كلّه مؤثر للحجّ مواظب عليه.

__________________

(١) في ل : من دونهم.

(٢) في ا : الكفر.

(٣) ابن ماجة : ٩٣٢

(٤ ـ ٨) سورة البقرة ، آية ١٩٣

(٥) ابن ماجة : ١٣٦٣

(٦) من ل.

(٧) ابن ماجة : ٩٢٦

(٩) من ل.


المسألة الرابعة ـ لما أقام النبىّ صلى الله عليه وسلم يدعو عشرة أعوام أو ثلاثة عشر عاما أو خمسة عشر عاما على اختلاف الروايات في مدّة مقامه بمكة ، ثم تعيّن القتال بعد ذلك ، سقط فرض الدعوة إلّا على الذين لم تبلغهم ، وبقيت مستحبّة. فأما الآن فقد بلغت الدعوة وعمّت وظهر العناد ، ولكن الاستحباب لا ينقطع.

روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ادعهم إلى ثلاث خصال ، فإن أجابوك إليها فاقبل منهم وكفّ عنهم ، فذكر الدعاء إلى الشهادة ، ثم إلى الهجرة أو إلى الجزية ، وهذا إنما كان بعد نزول آية الجزية ؛ وذلك بعد الفتح.

وصحّ أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أغار على بنى المصطلق من خزاعة وهم غارّون فقتل وسبى ، فعلم صلى الله عليه وسلم [٥٦] الجائز والمستحب.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا). فيها ثلاثة أوجه :

أحدها ـ لا تقتلوا من لم يقاتل ، وعلى هذا تكون الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) ، و (١) (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

الثاني ـ أنّ معنى قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) ؛ أى لا تقاتلوا على غير الدين ، كما قال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ؛ يعنى دينا.

الثالث ـ ألا يقاتل إلّا من قاتل ، وهم الرجال البالغون ؛ فأما النساء والولدان والرهبان [والحشوة] (٢) فلا يقتلون ؛ وبذلك أمر أبو بكر الصديق رضى الله عنه يزيد بن أبى سفيان حين أرسله إلى الشام إلّا أن يكون لهؤلاء إذاية. وفيه (٣) ستّ صور :

الأولى ـ النساء (٤) ، قال علماؤنا : لا تقتلوا النساء إلّا أن يقاتلن ؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهن. خرّجه البخارىّ ومسلم والأئمة ، وهذا ما لم يقاتلن ، فإن قاتلن قتلن. قال سحنون : في حالة المقاتلة.

والصحيح جواز قتلهن ، إذا قاتلن على الإطلاق في حالة المقاتلة وبعدها لعموم قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، وقوله تعالى (٥) : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ،

__________________

(١ ـ ٢) ليس في م.

(٣) في ا : وفهم ست صور ، وهو تحريف.

(٤) في هامش م هنا : مسألة في قتل النساء.

(٥) سورة البقرة ، آية ١٩١


وللمرأة آثار عظيمة في القتال ؛ منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، فقد كنّ يخرجن ناشرات شعورهن ، نادبات ، مثيرات للثأر ، معيّرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن(١).

الثانية ـ الصبيان (٢) ؛ فلا يقتل الصبىّ لنهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية ، خرّجه الأئمة كلهم ، فإن قاتل قتل حالة القتال ، فإذا زال القتال ففي سماع يحيى في العتبية يقتل ، وكذلك المرأة.

والصحيح أنه لا يقتل ، فإنه لا تكليف عليه ، وفي ثمانية أبى زيد : لا تقتل المرأة ولا الصبىّ إذا قاتلا ، وأخذا بعد ذلك أسيرين إلّا أن يكونا قتلا ، وهذا لا يصحّ لأن القتل هاهنا ليس قصاصا ، وإنما هو ابتداء وحدّ. والذي يقوّى عندي قتل المرأة لما فيها من المنّة ، والعفو عن الصّبى لعفو الله سبحانه عنه في مسائل الذنوب.

الثالثة ـ الرهبان (٣).

قال علماؤنا : لا يقتلون ولا يسترقّون ؛ بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبى بكر رضى الله عنه ليزيد بن أبى سفيان (٤) : وستجد أقواما حبسوا أنفسهم فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ، فإن كانوا مع الكفّار في الكنائس قتلوا.

ولو ترهبت المرأة روى أشهب عنه أنها لا تهاج (٥).

وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها.

والصحيح عندي رواية أشهب ؛ لأنها داخلة تحت قوله : فذرهم وما حبسوا أنفسهم له.

الرابعة ـ الزّمنى (٦) : قال سحنون : يقتلون ، وقال ابن حبيب : لا يقتلون.

__________________

(١) في ق : غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.

(٢) في هامش م هنا : مسألة في قتل الصبيان.

(٣) هنا في هامش م : مسألة في قتل الرهبان.

(٤) هو يزيد بن أبى سفيان بن حرب ، أسلم يوم فتح مكة ، وعقد له أبو بكر رضى الله عنه سنة ١٣ ه‍ مع أمراء الجيوش إلى الشام ، وشيعه أبو بكر راجلا.

(٥) لا تهاج : لا تزعج ولا تنفر.

وفي ل : لا تباح.

(٦) في هامش م هنا : مسألة في قتل الزمنى والشيوخ. والزمنى : أصحاب العاهات.


والصحيح عندي أن تعتبر أحوالهم ؛ فإن كان فيهم إذاية قتلوا ، وإلّا تركوا وما هم بسبيله من الزّمانة ، وصاروا مالا على حالهم (١)

الخامسة ـ الشيوخ ؛ قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون ، ورأيى (٢) قتلهم لما روى النسائي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقتلوا الشيوخ المشركين واستحيوا شرخهم (٣). وهذا نصّ ، ويعضده عموم القرآن ووجود المعنى فيهم من المحاربة والقتال ، إلّا أن يدخلهم التشيخ والكبر في حدّ الهرم والفند (٤) ، فتعود زمانة ، ويلحقون بالصورة الرابعة وهي الزّمنى (٥) ، إلّا أن يكون في الكل إذاية بالرأى ونكاية بالتدبير فيقتلون أجمعون ، والله أعلم. السادسة ـ العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون ، وكلّ من هؤلاء حشوة. وقد اختلف فيهم ؛ فقال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون.

وفي وصيّة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ليزيد بن أبى سفيان : لا تقتلنّ عسيفا.

والصحيح عندي قتلهم ؛ لأنهم إن لم يقاتلوا فهم ردء للمقاتلين ، وقد اتفق أكثر العلماء على [٥٧] أن الرّدء يحكم فيه بحكم المقاتل ، وخالفهم أبو حنيفة ؛ وقد مهّدنا الدليل في المسألة ، وأوضحنا وجوب قتله في مسائل الخلاف بما فيه غنية ، والله أعلم.

الآية الحادية والأربعون ـ قوله تعالى (٦) : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ المعنى حيث أخذتموهم (٧) ، وفي هذا دليل ظاهر على قتل الأسير ، وقد روى الترمذي عن علىّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هبط عليه جبريل عليه السلام ، فقال : خيّرهم ـ يعنى أصحابك ـ في أسرى بدر : القتل أو الفداء على أن تقتل منهم قاتلا مثلهم. قالوا :

__________________

(١) في ق ، ل : وصاروا مالا على حالهم وحشوة.

(٢) في ا : ورأى. والمثبت من ل.

(٣) الشرخ : الصغار الذين لم يدركوا. وقيل : أراد بالشرخ الشباب أهل الجلد الذين ينتفع بهم في الخدمة (النهاية).

(٤) الفند : الخرف وإنكار العقل لهرم أو مرض (القاموس).

(٥) في ا : وهي الزمانة.

(٦) الآية الواحدة والتسعون والثانية والتسعون بعد المائة.

(٧) هذا تفسير : ثقفتموهم.


الفداء ، ويقتل منّا. وقد ثبت عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ؛ فقيل له : إن ابن خطل (١) متعلّق بأستار الكعبة ، فقال : اقتلوه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ).

فيه قولان :

أحدهما ـ أنه محكم ، قاله مجاهد وأبو حنيفة.

الثاني ـ أنه منسوخ بقوله تعالى (٢) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وقال قتادة : هو منسوخ بقوله تعالى (٣) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد حضرت في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة أبى عتبة الحنفي والقاضي الريحاني (٤) يلقى علينا الدرس في يوم جمعة ، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهىّ المنظر على ظهره أطمار ، فسلّم سلام العلماء ، وتصدّر في صدر المجلس بمدارع الرّعاء ، فقال له الريحاني : من السيّد؟ فقال له : رجل سلبه الشطّار أمس ، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس ، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا : سلوه ، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم. ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا (٥) التجأ إلى الحرم ، هل يقتل فيه أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل ، فقال : قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ). قرئ : ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم ، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه ؛ لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بيّنا ظاهرا على النهى عن القتل.

فاعترض عليه القاضي الريحاني منتصرا للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها علىّ عامّة في الأماكن ، والآية التي احتججت بها خاصة ، ولا يجوز لأحد أن يقول إن العامّ ينسخ الخاص ، فأبهت القاضي الريحاني. وهذا من بديع الكلام.

__________________

(١) هو هلال ، أو عبد الله بن خطل ، وتعلق بأستار الكعبة يوم الفتح. (القاموس ـ خطل).

(٢) سورة التوبة ، آية ٥

(٣) سورة البقرة ، آية ١٩٣

(٤) في ا : الزنجاني. وفي م : فقال القاضي. وفي ل : فقال القاضي الريحاني.

(٥) هنا في هامش م : مسألة الكافر إذا التجأ الحرم هل يقتل؟


وقد سأل بعض المتأخرين من أصحابنا أهل بلادنا ، فقال لهم : إنّ العامّ عند أبى حنيفة ينسخ الخاصّ ، وهذا البائس ليته سكت عما لا يعلم ، وأمسك عما لا يفهم ، وأقبل على مسائل مجردة (١).

وقد روى الأئمة عن ابن عباس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : إنّ هذا البلد حرّمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي ، وإنما أحلّت لي ساعة من نهار.

فقد ثبت النهى عن القتال فيها قرآنا وسنة ؛ فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه. وأما الزاني والقاتل فلا بدّ من إقامة الحدّ عليه ، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيقتل بنصّ القرآن.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

هذا يبيّن أنّ الكافر إذا قاتل قتل بكل حال ، بخلاف الباغي المسلم فإنّه إذا قاتل يقاتل بنيّة الدّفع ، ولا يتبع مدبر ، ولا يجهز [٥٨] على جريح ؛ وهذا بيّن.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يعنى انتهوا بالإيمان فإنّ الله يغفر لهم جميع ما تقدم ، ويرحم كلّا منهم بالعفو عما اجترم. وهذا ما لم يؤسر ، فإن أسر منعه الإسلام عن القتل وبقي عليه الرقّ ، لما روى مسلم وغيره عن عمران بن حصين أنّ ثقيفا كانت حلفاء لبنى عقيل في الجاهلية ، فأصاب المسلمون رجلا من بنى عقيل ومعه ناقة له ، فأتوا به النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ؛ بم أخذتنى وأخذت سابقة الحاجّ؟ قال : أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ، وقد كانوا أسروا رجلين من المسلمين ، فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يمرّ به وهو محبوس ، فيقول : يا محمد ، إنى مسلم. قال : لو كنت قلت ذلك وأنت تملك أمرك أفلحت كلّ الفلاح ، ففدّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من المسلمين ، وأمسك الناقة لنفسه.

الآية الثانية والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

فيها أربع مسائل :

__________________

(١) في ا : على مسائله المجردة.

(٢) الآية الثالثة والتسعون بعد المائة.


المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

يعنى كفر ، بدليل قوله تعالى (١) : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، يعنى الكفر ، فإذا كفروا في المسجد الحرام ، وعبدوا فيه الأصنام ، وعذّبوا فيه أهل الإسلام ليردّوهم عن دينهم ، فكلّ ذلك فتنة ؛ فإن الفتنة في أصل اللغة الابتلاء والاختبار ، وإنما سمّى الكفر فتنة لأنّ مآل الابتلاء كان إليه ، فلا تنكروا قتلهم وقتالهم ؛ فما فعلوا من الكفر أشدّ مما عابوه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

قال النبي صلى الله عليه وسلم (٢) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله ؛ فإن لم يفعلوا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلّا عليهم.

المسألة الثالثة ـ أن سبب القتل هو الكفر بهذه الآية ؛ لأنه تعالى قال : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؛ فجعل الغاية عدم الكفر نصّا ، وأبان فيها أنّ سبب القتل المبيح للقتال الكفر.

وقد ضلّ أصحاب أبى حنيفة عن هذا ، وزعموا أنّ سبب القتل المبيح للقتال هي الخربة ، وتعلّقوا بقول الله تعالى (٣) : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، وهذه الآية تقضى عليها التي بعدها ؛ لأنه أمر أولا بقتال من قاتل ، ثم بيّن أن سبب قتاله وقتله كفره الباعث له على القتال ، وأمر بقتاله مطلقا من غير تخصيص بابتداء قتال منه.

فإن قيل : لو كان المبيح للقتل هو الكفر لقتل كلّ كافر وأنت تترك منهم النساء والرهبان ومن تقدّم ذكره معهم.

فالجواب أنّا إنما تركناهم مع قيام المبيح بهم لأجل ما عارض الأمر من منفعة أو مصلحة : أما المنفعة فالاسترقاق فيمن يسترقّ ؛ فيكون مالا وخدما ، وهي الغنيمة التي أحلّها الله تعالى لنا من بين الأمم.

وأما المصلحة فإن في استبقاء الرهبان باعثا على تخلّى رجالهم عن القتال فيضعف حربهم ويقلّ حزبهم فينتشر الاستيلاء عليهم.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) إباحة لقتالهم وقتلهم

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٩١

(٢) صحيح مسلم : ٥٢ ، ٥٣

(٣) سورة البقرة ، آية ١٩٠


إلى غاية هي الإيمان ؛ فلذلك قال ابن الماجشون وابن وهب : لا تقبل من مشركي العرب جزية.

وقال سائر علمائنا : تؤخذ الجزية من كلّ كافر ؛ وهو الصحيح.

وسمعت الشيخ الإمام أبا على الرفاء بن عقيل الحنبلي إمامهم ببغداد يقول في قوله تعالى (١) : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ [٥٩] ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) : إنّ قوله تعالى : «قاتلوا» أمر بالقتل. وقوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) سبب للقتال. وقوله تعالى : (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلزام للإيمان بالبعث الثابت بالدليل. وقوله تعالى : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) بيان أنّ فروع الشريعة كأصولها وأحكامها كعقائدها. وقوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أمر بخلع الأديان كلها إلّا دين الإسلام. وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تأكيد للحجة ، ثم بيّن الغاية وبيّن إعطاء الجزية. وثبت أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. خرّجه البخاري وغيره.

وقال المغيرة بن شعبة في قتاله لفارس : إن النبىّ صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، أو تؤدّوا الجزية ـ وقال النبىّ عليه السلام لبريدة (٢) : ادعهم إلى ثلاث خصال ... وذكر الجزية. وذلك كلّه صحيح.

فإن قيل : فهل يكون هذا نسخا أو تخصيصا؟ قلنا : هو تخصيص ؛ لأنه سبحانه أباح قتالهم وأمر به حتى لا يكون كفر. ثم قال تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا) (٣) (الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) ؛ فخصّص من الحالة العامة حالة أخرى خاصة ، وزاد إلى الغاية الأولى غاية أخرى ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله.

وقال في حديث آخر : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ثم ذكر في حديث آخر الصوم والحجّ ، ولم يكن ذلك نسخا ، وإنما كان بيانا وكمالا. وكذلك لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد

__________________

(١) سورة التوبة ، آية ٢٩

(٢) هكذا في ا ، ول : وفي م : يزيد.

(٣) يعطوا : يؤدوا ويقدموا.


إحصان ، أو قتل نفس بغير حق (١) ، ثم بيّن القتل في مواضع لعشرة أسباب سنبينها في موضعها إن شاء الله تعالى.

الآية الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قيل : إنها نزلت سنة سبع حين قضى النبىّ صلى الله عليه وسلم عمرته في ذي القعدة عن التي صدّه عنها كفار قريش سنة ست في الحديبية في ذي القعدة ، فدخل النبىّ صلى الله عليه وسلم مكة ، وقد أخلتها قريش ، وقضى نسكه ، ونزلت هذه الآية.

المعنى شهر بشهر وحرمة بحرمة ، وصار ذلك أصلا في كل مكلّف قطع به عذر أو عدوّ عن عبادة ثم قضاها ، أن الحرمة واحدة والمثوبة سواء.

وقيل : إن المشركين قالوا : أنهيت يا محمد عن القتال في شهر الحرام؟ قال : نعم. فأرادوا قتاله فيه ، فنزلت الآية.

المعنى إن استحلّوا ذلك فيه فقاتلهم عليه ، فإنّ الحرمة بالحرمة قصاص.

قال علماؤنا : وهذا دليل على أن لك أن تبيح دم من أباح دمك ، وتحل مال من استحلّ مالك ، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه بمقدار ما قال فيك ، ولذلك كله تفصيل :

أما من أباح دمك فمباح دمه لك ، لكن بحكم الحاكم لا باستطالتك وأخذ لثأرك بيدك ، ولا خلاف فيه.

وأما من أخذ مالك فخذ ماله إذا تمكنت منه ، إذا كان من جنس (٣) مالك : طعاما بطعام ، وذهبا بذهب ، وقد أمنت من أن تعدّ سارقا.

__________________

(١) في ل : قتل نفس بنفس.

(٢) الآية الرابعة والتسعون بعد المائة.

(٣) هنا في هامش م : مسألة من ظفر بجنس حقه.


وأمّا إن تمكّنت من ماله بما ليس من جنس مالك فاختلف العلماء ؛ فمنهم من قال : لا يؤخذ إلّا بحكم حاكم ، ومنهم من قال : يتحرّى (١) قيمته ويأخذ مقدار ذلك ، وهو الصحيح عندي.

وأما إن أخذ عرضك (٢) فخذ عرضه لا تتعدّاه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه. لكن ليس لك أن تكذب عليه ، وإن كذب عليك ، فإنّ المعصية لا تقابل بالمعصية ؛ فلو قال لك مثلا : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر ؛ وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول : يا كذّاب ، يا شاهد زور. ولو قلت له : يا زان ، كنت كاذبا فأثمت في الكذب ، وأخذت فيما نسب إليك من ذلك ، فلم [٦٠] تربح شيئا ، وربما خسرت. وإن مطلك وهو غنىّ دون عذر قل : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : لىّ الواجد (٣) يحلّ عرضه وعقوبته. أما عرضه فبما فسرناه ، وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدّى.

وعندي أن العقوبة هي أخذ المال كما أخذ ماله ، وأما إن جحدك وديعة وقد استودعك أخرى فاختلف العلماء فيه ؛ فمنهم من قال : اصبر على ظلمه ، وأدّ إليه أمانته ، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم (٤) : أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك.

ومنهم من قال : أجحده ، كما جحدك ؛ لكن هذا لم يصح سنده ، ولو صح فله معنى صحيح ، وهو إذا أودعك مائة وأودعته خمسين فجحد الخمسين فاجحده خمسين مثلها ، فإن جحدت المائة كنت قد خنت من خانك فيما لم يخنك فيه ، وهو المنهىّ عنه. وبهذا الأخير أقول. والله أعلم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

هذه الآية عموم متّفق عليه وعمدة فيما تقدم بيانه وفيما جانسه.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

هذه مسألة بكر. قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما سمّى الفعل الثاني اعتداء ، وهو مفعول بحقّ ، حملا للثاني على الأول على عادة العرب. قالوا : وعلى هذا جاء قوله تعالى(٥): (وَجَزاءُ

__________________

(١) في ا : تحرى. والمثبت من ل.

(٢) هنا في هامش م : مسألة فيمن أخذ عرض رجل هل له أن يأخذ عرضه.

(٣) اللى : المطل. الواجد : القادر على قضاء دينه.

(٤) خرجه الدارقطني وغيره.

(٥) سورة الشورى ، آية ٤٠


سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). والذي أقول فيه : إنّ الثاني كالأول في المعنى واللفظ ؛ لأن معنى الاعتداء في اللغة مجاوزة الحدّ ، وكلا المعنيين موجود في الأول والثاني ؛ وإنما اختلف المتعلّق من الأمر والنهى ؛ فالأول منهىّ عنه ، والثاني مأمور به ، وتعلّق الأمر والنهى لا يغيّر الحقائق ولا يقلب المعاني ؛ بل إنه يكسب ما تعلّق به الأمر وصف الطاعة والحسن ، ويكسب ما تعلق به النهى وصف المعصية والقبح ؛ وكلا الفعلين مجاوزة الحدّ ، وكلا الفعلين يسوء الواقع به ، وأحدهما حقّ والآخر باطل.

المسألة الرابعة ـ تعلّق علماؤنا بهذه الآية في مسألة من مسائل الخلاف ؛ وهي المماثلة في القصاص ، وهو متعلّق صحيح وعموم صريح ؛ وقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه لا قود إلّا بحديدة ؛ قاله أبو حنيفة وغيره ، واحتجّوا بالحديث (١) : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا قود إلّا بحديدة ولا قود إلّا بالسيف.

الثاني ـ أنه يقتصّ منه بكلّ ما قتل إلّا الخمر وآلة اللواط ، قاله الشافعى.

الثالث ـ قال علماؤنا : يقتل بكلّ ما قتل إلّا في وجهين وصفتين : أما الوجه الأول فالمعصية كالخمر واللواط ، وأما الوجه الثاني فالسمّ والنار لا يقتل بهما.

قال علماؤنا : لأنه من المثل ؛ ولست أقوله ؛ وإنما العلّة فيه أنه من العذاب. وقد بلغ ابن عبّاس أنّ عليّا حرق ناسا ارتدّوا عن الإسلام ؛ فقال ابن عباس : لم أكن لأحرقهم بالنار ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تعذّبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من بدّل دينه فاقتلوه. وهو الصحيح. والسمّ نار باطنة نعوذ بالله من النارين ، ونسأل الله تعالى الشهادة في سبيله.

وأما الوصفان فروى ابن نافع عن مالك : إن كانت الضربة بالحجر مجهزة قتل بها ، وإن كانت ضربات فلا.

وقال مالك أيضا : ذلك إلى الولىّ. وروى ابن وهب يضرب بالعصا حتى يموت : ولا يطول عليه. وقاله ابن القاسم.

وقال أشهب : إن رجى أن يموت بالضرب ضرب ، وإلا أقيد منه بالسيف.

__________________

(١) في ا : بهذا الحديث. والمثبت من ل.


وقال عبد الملك : لا يقتل بالنبل ولا بالرّمى بالحجارة ؛ لأنه من التعذيب. واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه قصد التعذيب فعل ذلك به ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة (١) الرّعاء حسبما روى في الصحيح ، وإن كان في مدافعة ومضاربة قتل بالسيف.

والصحيح من أقوال علمائنا أنّ المماثلة واجبة ، إلا أن تدخل في حدّ التعذيب فلتترك إلى السيف.

وإلى هذا يرجع جميع الأقوال.

وأما حديث أبى حنيفة فهو عن الحسن عن أبى بكر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ ولا يصحّ لوجهين بيّناهما في شرح الحديث الصحيح. وكذلك حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه في شبه العمد بالسوط والعصا لا يصحّ أيضا.

والذي يصحّ ما رواه مسلم (٢) وغيره عن علقمة بن وائل ، عن أبيه ، قال : إنى لقاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجل يقود آخر بنسعة (٣). فقال : يا رسول الله ؛ هذا قتل أخى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقتلته؟ فقال : إنه لو لم يعترف لأقمت عليه البيّنة. قال : نعم ، قتلته. قال : كيف قتلته؟ قال : كنت أنا وهو نحتطب (٤) من شجرة فسبّنى فأغضبنى فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. وروى أبو داود : ولم أرد قتله.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من شيء تؤدّى عن نفسك؟ فقال : ما لي مال إلّا كسائي وفأسى. قال : فترى قومك يشترونك؟ قال : أنا أهون على قومي من هذا. قال : فرمى إليه بنسعته ، وقال : دونك صاحبك. فانطلق به الرجل ؛ فلما ولّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قتله فهو مثله. فرجع. فقال : يا رسول الله ، بلغني أنك قلت كذا وأخذته بأمرك. قال : أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ قال : لعلّه. قال : بلى. قال : فإنّ ذاك كذلك. قال : فرمى بنسعته وخلّى سبيله.

والحديث مشكل وقد (٥) بيّناه في شرح الحديث الصحيح ، والذي يتعلّق به من مسألتنا أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أوجب عليه القتل ، وقد قتل بالفأس.

__________________

(١) هم قوم من عرينة بعث بهم رسول الله إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها فقتلوا رعاتها.

(٢) صحيح مسلم : ١٣٠٧

(٣) النسعة : حبل من جلود مضفورة جعلها كالزمام له يقوده بها.

(٤) في مسلم : نختبط : أى نضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فنجمعه علفا.

(٥) في ا : أوقد ، وهو تحريف طبعي.


وروى الأئمة أنّ يهوديّا رضخ رأس جارية على أوضاح (١) لها ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فاعترف فرضّ رأسه بين حجرين اعتمادا للماثلة وحكما بها (٢).

الآية الرابعة والأربعون ـ قوله تعالى (٣) : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى الترمذىّ وصحّحه عن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم أبى (٤) عمران التّجيبى ، قال : كنّا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفّا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله! يلقى بيده إلى التّهلكة! فقام أبو أيوب فقال : يا أيها الناس ، إنكم لتتأوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه.

فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أموالنا قد ضاعت ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى على نبيه يردّ علينا ما قلنا : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وتركنا الغزو ؛ فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.

المسألة الثانية ـ في تفسير النفقة.

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه ندبهم إلى النفقة في سبيل الله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة الثمانية ، أى هلمّ (٥).

__________________

(١) الرضخ : الشدخ والدق والكسر. وفي ق : رض. والأوضاح : نوع من الحلي يعمل من الفضة سميت بها لبياضها ، واحدها وضح (النهاية لابن الأثير).

(٢) في ل : وحكايتها.

(٣) الآية الخامسة والتسعون بعد المائة.

(٤) في ا : مولى. والمثبت في التقريب ، والقرطبي أيضا.

(٥) في ا : أى فل هلم. والمثبت من ل.


الثاني ـ أنها واجبة لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

الثالث ـ أن معناه لا تخرجوا بغير زاد توكّلا واتّكالا.

وحقيقة التوكّل قد بيّناها في موضعها ، والاتكال على أموال الناس لا يجوز.

والقول الأول صحيح ؛ لأنه دائم ، والثاني قد يتصوّر إذا وجب الجهاد. والثالث صحيح [٦١] لأنّ إعداد الزاد فرض.

المسألة الثالثة ـ في تفسير التّهلكة.

فيه ستة أقوال :

الأول ـ لا تتركوا النفقة. الثاني ـ لا تخرجوا بغير زاد ، يشهد له قوله تعالى (١) : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى). الثالث ـ لا تتركوا الجهاد. الرابع ـ لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها. الخامس ـ لا تيأسوا من المغفرة ؛ قاله البراء بن عازب.

قال الطبري : هو عامّ في جميعها لا تناقض فيه ، وقد أصاب إلّا في اقتحام العساكر ؛ فإن العلماء اختلفوا في ذلك ؛ فقال القاسم بن مخيمرة ، والقاسم بن محمد ، وعبد الملك من علمائنا : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنيّة خالصة ؛ فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.

وقيل : إذا طلب الشهادة وخلصت (٢) النية فليحمل ؛ لأنّ مقصده (٣) واحد منهم ، وذلك بيّن في قوله تعالى (٤) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

والصحيح عندي جوازه ؛ لأنّ فيه أربعة أوجه : الأول طلب الشهادة. الثاني وجود النّكاية. الثالث تجرية (٥) المسلمين عليهم. الرابع ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد ، فما ظنّك بالجميع ، والفرض لقاء واحد (٦) اثنين ، وغير ذلك جائز ؛ وسيأتى بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أحسنوا الظنّ بالله ؛ قاله عكرمة.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٩٧.

(٢) في ا : وحصلت.

(٣) في ل : مقصوده.

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٠٧

(٥) في ا : تجزئة ، وهو تحريف.

(٦) في ل : والغرض إذا وجد لشيء.


الثاني ـ في أداء الفرائض ، قاله الضحاك.

الثالث ـ أحسنوا إلى من ليس عنده شيء.

قال القاضي : الإحسان مأخوذ من الحسن ، وهو كلّ ما مدح فاعله. وليس الحسن صفة للشيء ؛ وإنما الحسن خبر من الله تعالى عنه بمدح فاعله. وقد بيّن جبريل عليه السلام أصله للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال له : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الآية الخامسة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

فيها اثنتان وثلاثون مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا) ، فيه سبعة أقوال :

الأول ـ أحرموا بهما من دياركم ؛ قاله عمر ، وعلىّ ، وسفيان.

الثاني ـ أتمّوهما إلى البيت ؛ قاله ابن مسعود (٢).

الثالث ـ بحدودهما وسننهما ؛ قاله مجاهد.

الرابع ـ ألّا يجمع (٣) بينهما ؛ قاله ابن جبير.

الخامس ـ ألّا يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ؛ قاله قتادة.

السادس ـ إتمامهما إذا دخل فيهما ؛ قاله مسروق.

السابع ـ ألا يتّجر معهما.

قال القاضي رضى الله عنه : حقيقة الإتمام للشيء استيفاؤه بجميع أجزائه وشروطه ، وحفظه من مفسداته ومنقصاته.

__________________

(١) الآية السادسة والتسعون بعد المائة.

(٢) ليس في ل.

(٣) في ا : ألا تجتمع.


وكلّ الأقوال محتمل في معنى الآية ؛ إلّا أنّ بعضها مختلف فيه.

أما قوله : أحرم بها من دويرة أهلك ، فإنها مشقّة رفعها الشّرع وهدمتها السنّة بما وقّت النبىّ صلى الله عليه وسلم من المواقيت.

وأما قول ابن مسعود إلى البيت ، فذلك واجب ، وفيه تفصيل ، وله شروط بيانها في موضعها.

وأما قول مجاهد فصحيح. وأما ألّا يجمع بينهما فالسنة الجمع بينهما ، كذلك فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وقد بيّناه في مسائل الخلاف. وأما ألّا يحرم بالعمرة في أشهر الحج فهو التمتّع. وأما إتمامهما إذا دخل فيهما فلا خلاف بين الأمّة فيهما حتى بالغوا فقالوا : يلزمه إتمامهما ، وإن أفسدهما. وأما ألّا يتّجر فيهما فهو مذهب الفقراء ألا تمتزج الدنيا بالآخرة ، وهو أخلص في النية وأعظم للأجر ، وليس ذلك بحرام ؛ والكلّ يبين في موضعه بحول الله وعونه (١).

المسألة الثانية ـ الحجّ ، وهو في اللغة عبارة عن القصد ، وخصّه الشرع بوقت مخصوص وبموضع مخصوص على وجه معيّن على الوجه المشروع ، وقد كان [٦٢] الحجّ معلوما عند العرب ، لكنها غيّرته ، فبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم حقيقته ، وأعاد على ملّة إبراهيم عليه السلام صفته ، وحثّ على تعلّمه ، فقال : خذوا عنى مناسككم.

المسألة الثالثة ـ العمرة ، وهي في اللغة عبارة عن الزّيارة ، وهي في الشريعة عبارة عن زيارة البيت ، خصّصته الشريعة ببعض موارده ، وقصرته على معنى من مطلقه ، على عادتها في ألفاظها على سيرة العرب في لغاتها ، وقد بيّنها النبىّ صلى الله عليه وسلم بيان الحج.

المسألة الرابعة ـ اختلف العلماء في وجوب العمرة ، فقال الشافعى : هي واجبة ، ويؤثر ذلك عن ابن عباس.

وقال جابر بن عبد الله : هي تطوّع ، وإليه مال مالك وأبو حنيفة.

وليس في هذه الآية حجة للوجوب ؛ لأن الله سبحانه إنما قرنها بالحجّ في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه (٢) ابتدأ إيجاب الصلاة والزكاة ، فقال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا

__________________

(١) في ل : إن شاء الله.

(٢) في ل : لأنه.


الزَّكاةَ). وابتدأ بإيجاب الحج فقال تعالى (١) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها ، فلو حجّ عشر حجج أو اعتمر عشر عمر لزمه الإتمام في جميعها ؛ وإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء ، وقد مهّدنا القول فيها في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لِلَّهِ).

الأعمال كلّها لله ، خلق وتقدير ، وعلم وإرادة ، ومصدر ومورد ، وتصريف وتكليف ؛ وفائدة هذا التخصيص أنّ العرب كانت تقصد الحجّ للاجتماع والتظاهر ، والتناضل (٢) والتنافر ، والتفاخر وقضاء الحوائج ، وحضور الأسواق ؛ وليس لله فيه حظّ يقصد ، ولا قربة تعتقد ؛ فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقّه ، ثم سامح في التجارة على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة السادسة ـ قوله : (الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ).

روى عن ابن عباس أنه قرأ «والعمرة» بالرفع للهاء ، وحكى (٣) قوم أنه إنما فرّ من فرض العمرة ؛ وهذا لا يصحّ من وجهين :

أحدهما ـ أنّ القراءة ينبنى عليها المذهب ، ولا يقرأ بحكم المذهب.

الثاني ـ أنّا قد بيّنا أنّ النّصب لا يقتضى ابتداء الفرض ، فلا معنى لقراءة الرفع إلّا على رأى من يقول : يقرأ بكل لغة ، وقد بيّنا ذلك في موضعه من القسم الأول من علوم القرآن.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

هذه آية (٤) مشكلة عضلة من العضل ، فيها قولان :

أحدهما ـ منعتم بأىّ عذر كان ؛ قاله مجاهد ، وقتادة ، وأبو حنيفة.

الثاني ـ [منعتم] (٥) بالعدوّ خاصة ؛ قاله ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، والشافعى ؛ وهو اختيار علمائنا ، ورأى أكثر (٦) أهل اللغة ومحصّليها على أنّ أحصر عرّض للمرض ، وحصر نزل به الحصر (٧). وقد اتفق علماء الإسلام على أنّ الآية نزلت سنة ستّ في عمرة الحديبية

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٩٧

(٢) في ا : والتناصر.

(٣) في ا : وظن.

(٤) في ا : مسألة.

(٥) من ل.

(٦) في ا : كبراء ، وهو تحريف.

(٧) الحصر : المنع والحبس. وفي القرطبي : نزل به العدو.


حين صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة ، وما كانوا حبسوه ولكن حبسوا البيت ومنعوه ، وقد ذكر الله تعالى القصة في سورة الفتح فقال (١) : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

وقد تأتى أفعال يكون فيها فعل وأفعل بمعنى واحد ، والمراد بالآية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ومعناها : فإن منعتم. ويقال : منع الرجل عن كذا ؛ فإنّ (٢) المنع مضاف إليه أو إلى الممنوع عنه.

وحقيقة المنع عندنا العجز الذي يتعذّر معه الفعل ، وقد بيناه في كتب الأصول ، والذي يصحّ أن الآية نزلت في الممنوع بعذر ، وأنّ لفظها في كل ممنوع ، ومعناها يأتى إن شاء الله.

المسألة الثامنة ـ في تحقيق جواب الشرط من قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

وظاهره قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وبهذا (٣) قال أشهب في كتاب محمد عن مالك ، وروى ابن القاسم أنه لا هدى عليه [٦٣] ؛ لأنه لم يكن منه تفريط ؛ وإنما الهدى على ذي التفريط ؛ وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما ـ أنّ الله تعالى قال : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ؛ فهو ترك لظاهر القرآن ، وتعلّق بالمعنى.

الثاني ـ أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أهدى عن نفسه وعن أصحابه البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة. ولهم أن يقولوا : إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حمل الهدى تطوّعا ، وكذلك كان ؛ فأما ظاهر القرآن فلا كلام فيه. وأما المعنى فلا يمتنع أن يجعل الباري تعالى الهدى واجبا ـ مع التفريط ومع عدمه ـ عبادة منه لسبب ولغير سبب في الوجهين جميعا.

ومن علمائنا من قال ـ وهو ابن القاسم : إنّ الذي عليه الهدى من أحصر بمرض فإنه يتحلّل بالعمرة ويهدى.

وقال أبو حنيفة : يتحلّل بالمرض في موضعه. وهذا ضعيف من الوجهين : أحدهما لا معنى للآية إلّا حصر العدوّ ، أو الحصر مطلقا (٤) ، فكيف يرجع الجواب إلى (٥) مقتضى

__________________

(١) سورة الفتح ، آية ٢٥

(٢) في ا : كان المنع مضافا.

(٣) ا : ولهذا.

(٤) في ا : المطلق.

(٥) في ا : على.


الشرط ، أمّا أنه إن رجع إلى بعضه كان جائزا بدليل ، كما تقدّم من أقوال علمائنا.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

قال ابن عمر رضى الله عنهما : خرجنا [معتمرين] (١) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحال كفّار قريش بيننا وبين البيت ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه.

المسألة العاشرة ـ إن قدّم الحلق على النّحر لم يكن مسيئا ، لما روى الأئمة أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال : حلقت قبل أن أنحر. قال : انحر. ولا حرج.

المسألة الحادية عشرة ـ الحلاق (٢) نسك مقصود. وقال الشافعى : هو إلقاء تفث(٣). وما قلناه أصحّ ؛ لأنّ الله تعالى ذكره ورتّبه على نسك. وأيضا فإنه في الصحيح ممدوح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله المحلّقين. قيل : والمقصّرين يا رسول الله؟ قال : يرحم الله المحلّقين. قيل : والمقصّرين يا رسول الله؟ قال : يرحم الله المحلّقين. قيل : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : والمقصّرين.

المسألة الثانية عشرة ـ في تأكيد معنى قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) وتتميمه.

وقد بينا أنّ معنى قوله تعالى : (أُحْصِرْتُمْ) منعتم ؛ فإن كان المنع بعدو ففيه (٤) نزلت الآية كما تقدم ، وهو يحلّ في موضعه ، ويحلق رأسه ، وينحر هديا إن كان معه ، أو يستأنف هديا كما تقدّم. وإن كان المنع بمرض لم يحله عند علمائنا إلّا البيت ، خلافا لأبى حنيفة ، حيث أجرى الآية على عمومها أخذا بمطلق المنع. وزاد أصحابه ـ ومن قال بقوله عن أهل اللغة ـ أنه يقال : حصره العدوّ وأحصره المرض ؛ قاله أبو عبيدة ، والكسائي.

قلنا : قال غيرهما عكسه ، وقد بيناها في ملجئة المتفقهين. وحقيقته هاهنا منع العدوّ ؛ فإنه منعهم ولم يحبسهم ، والمنع كان مضافا إلى البيت ، فلذلك حلّ في موضعه ، وهذا المريض المنع مضاف إليه ، فكان عليه أن يصبر حتى يصير إلى موضع الحلّ. وللقوم أحاديث ضعيفة ، وآثار عن السّلف أكثرها معنعن (٥) ؛ وقد بيّنا ذلك في مسائل الخلاف.

__________________

(١) من ل.

(٢) الحلاق : الحلق.

(٣) التفث في المناسك : الشعث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة ، وغير ذلك.

(٤) في ا : بعذر ففيه ، وهو تحريف طبعي.

(٥) في ل : أكثرها معنا.


المسألة الثالثة عشرة ـ لا خلاف بين علماء الأمصار أنّ الإحصار عامّ في الحج والعمرة.

وقال ابن سيرين : لا إحصار في العمرة ، لأنها غير مؤقّتة.

قلنا : وإن كانت غير مؤقتة ، لكن في الصبر إلى زوال العدوّ ضرر ؛ وفي ذلك نزلت الآية ، وبه جاءت السنّة فلا معدل عنها.

المسألة الرابعة عشرة ـ إذا منعه العدوّ يحلّ في موضعه (١) ، ولا قضاء عليه ؛ وبه قال الشافعىّ.

وقال أبو حنيفة : عليه القضاء ؛ لأن الله سبحانه أوجب عليه ما استيسر من الهدى خاصة ، ولم يذكر قضاء. ومتعلقهم أمران : أحدهما أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قضى عمرة الحديبية في العام الآخر.

قلنا : إنما قضاها ؛ لأن الصلح وقع على ذلك إرغاما للمشركين ، وإتماما للرؤيا ، وتحقيقا للموعد ، وهي في الحقيقة ابتداء عمرة أخرى ؛ وسميت عمرة (٢) القضيّة ، من المقاضاة لا من القضاء. الثاني : المعنى قالوا تحلّل من نسكه قبل تمامه ؛ فلم يكن بدّ من قضائه كالفائت والمفسد. قلنا : الفاسد هو فيه ملوم ، والفائت هو فيه منسوب إلى التقصير ؛ وهذا مغلوب ، ولا فائدة في اتباع المعنى مع ما قلناه من ظاهر الآية.

المسألة الخامسة عشرة ـ لا يخلو أن يكون الحاصر كافرا أو مسلما ؛ فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو (٣) وثق بالظهور ؛ ويتحلّل في موضعه ، ولو سأل الكافر جعلا لم يجز ، لأنّ ذلك وهن (٤) في الإسلام ، وإن (٥) كان الحاصر مسلما لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلّل ، فإن طلب شيئا ويتخلّى عن الطريق جاز دفعه ، ولم يحلّ القتال ؛ لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإن الدّين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما ؛ ولأنّ الحجّ مما ينفق فيه المال ، فيعدّ هذا من النفقة.

المسألة السادسة عشرة ـ إذا حلّ المحصر نحر هديه حيث حلّ ، كما فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، لأن الهدى تابع للمهدي والمهدىّ حلّ بموضعه ، فالهدى أيضا يحلّ معه.

__________________

(١) في ل : بموضعه.

(٢) في ل : وسميت قضاء من المقاضاة.

(٣) في ل : وإن.

(٤) الوهن ـ بالسكون ويحرك : الضعف.

(٥) في ل : ولو كان.


فإن قيل : فقد قال الله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). ومحلّه البيت العتيق. وقال الله تعالى في قصة الحديبية (١) : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

قلنا : كذلك كان صاحب الهدى ، وهو المهدىّ معكوفا (٢) أن يبلغ منسكه ، ولكن حلّ في موضعه ، كذلك هديه يجب أن يحلّ معه (٣).

فإن قيل : فقد روى أنّ ناجية بن جندب صاحب بدن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معى الهدى أنحره في الحرم. قال : فكيف تصنع به؟ قال : أخرجه في أودية لا يقدرون عليه ؛ فانطلق به حتى نحره في الحرم.

قلنا : هذا حديث لم يصحّ.

المسألة السابعة عشرة ـ إذا عقد الإحرام فصدّه (٤) العدوّ ، فلا يخلو أن يعلم أنهم يمنعونه أو لا يعلم ، فإن تحقّق أنه لا يصل إلى البيت فإحرامه ملزم له ألّا يحل إلّا بالبيت أبدا ، وإن لم يعلم حلّ بمنعهم له ، فإن شكّ لم يحل إلا أن يشترط ذلك. وقد أحرم ابن عمر بالحجّ ، ثم قيل له : إنه كائن هذا العام بين الناس قتال ، فقال : إن صددنا عن البيت صنعنا (٥) كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحرم النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم ، فحلّ حين منع ، وأحرم ابن عمر على الشك ، ولكنه لم يمنع.

المسألة الثامنة عشرة ـ إن منع من الطريق خاصّة فليأخذ في أخرى إن كانت آمنة وكان المنع متطاولا ، وإن كان قريبا صبر حتى ينجلي ، وإن كان حاجّا فلا يحلّ حتى يعلم أنّ الحجّ قد فات.

وقال أشهب : يحلّ يوم النحر ، وهذا فيمن كان في المناسك ، وأما اليائس فيحلّ إذا تحقّق يأسه.

المسألة التاسعة عشرة ـ إذا صدّ عن عرفة في الحجّ لزمه أن يصل إلى البيت ويتحلّل بعمرة ، ولو صدّ عن البيت ومكّن من عرفة فإنه يجزئه ، وعليه عمرة وهدى في مشهور القولين.

__________________

(١) سورة الفتح ، آية ٢٥

(٢) في ل : معلوما.

(٣) في ا : مثله.

(٤) في ا : قصده ، والمثبت من ل.

(٥) في ا : إلا صنعنا. وعليه تكون إن نافية. والمثبت من ل.


وقيل الحجّ باطل ، وهذا إذا كانت حجّة الإسلام أو كان الحجّ مضمونا ، فأما إن كان التطوّع فلا شيء عليه في الحالين ، وقد تقدم.

المسألة الموفية عشرين ـ إذا كان الإحضار عن الحجّ ومعه هدى نحره في موضعه حينئذ كما تقدّم.

وقال أبو يوسف ، ومحمد ، وسفيان : لا ينحر إلّا يوم النّحر مراعاة لظاهر قوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ـ بكسر الحاء ، وهو وقت الحل.

ونحن نقول : إنّ وقته وقت حلّ المهدىّ ، وقد حلّ باليأس عن البلوغ. ألا ترى أنه تعالى قال (١) : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ). وأنتم تقولون يوم النحر ، وإذا سقط المنصوص عليه فسقوط الاستقراء أولى.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ).

هذه الآية (٢) نزلت في كعب بن عجرة قال (٣) : مرّ بي النبىّ صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر من رأسى ، فقال : أيؤذيك هوامّك؟ قلت : نعم. فأمره النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يحلق ولم يأمر غيره ، وهم على طمع من دخول مكة ، فأنزل الله سبحانه وتعالى الآية.

فكلّ من كان مريضا واحتاج إلى فعل محظور من محظورات الإحرام (٤) فعله وافتدى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة ؛ وهو حديث صحيح متّفق عليه من أوله إلى آخره : أطعم فرقا (٥) بين ستة مساكين ، أو أهد شاة ، أو صم ثلاثة أيام.

وفي الحديث خلاف وكلام بينّاه في شرح الصحيح.

المسألة الثانية والعشرون ـ قال الحسن وعكرمة : هو صوم عشرة أيام. قالوا : لأنّ الله تعالى ذكر الصيام هاهنا مطلقا ، وقيّده في التمتّع بعشرة أيام ، فيحمل المطلق على المقيد.

قلنا : هذا فاسد من وجهين : أحدهما ـ أنّ المطلق لا يحمل على المقيّد إلّا بدليل في نازلة واحدة حسبما بيّناه في أصول الفقه ؛ وهاتان نازلتان.

__________________

(١) سورة الحج ، آية ٣٣

(٢) في ا : هذه الكلمات.

(٣) صحيح مسلم : ٨٦٠

(٤) في ل : محظورات الحج.

(٥) الفرق : ثلاثة آصع (صحيح مسلم : ٨٦١).


الثاني ـ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن في الحديث الصحيح قدر الصيام ، وذلك ثلاثة أيام.

المسألة الثالثة والعشرون ـ قال علماؤنا : يجزئ [الطعام] (١) في كلّ موضع. وقيل : لا يختصّ منها بمكة إلّا الهدى ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعىّ : الطعام كالهدى ، لأنّ منفعة الهدى لمساكين مكة ؛ فالطعام الذي هو عوضه كذلك.

وإذا قلنا : إنه على الفور فيختصّ بمكة ، وإن قلنا إنه على التّراخى فيأتى بهما حيث شاء ؛ وهو الصحيح.

وأما الهدى فإنما جاء القرآن فيه بلفظ النّسك (٢) ، وهذا يقتضى أن يذبح حيث شاء ؛ فإن لفظ النّسك (٣) عامّ في كل موضع.

وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم في الأثر : من ولد له فأحبّ أن ينسك عنه فليفعل.

وفي الصحيح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة : أو انسك بشاة، فحمل هذا اللفظ هاهنا ـ وهو الهدى ـ على أنه إن شاء أن يجعل هذا النّسك هديا جعله ، وذلك لأنّ الهدى لا يجوز أن يجعل نسكا ، والنّسك يجوز أن يجعل هديا.

المسألة الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ).

قال كثير من علمائنا : هذا يدل على أنّ قوله تعالى في أول الآية : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) إنه إحصار العدوّ ؛ لأنّ الأمن يكون من خوف العدو ، والبرء يكون من المرض ، وإليه مال من احتجّ عن ابن القاسم بأن لا هدى عليه كما تقدم. ولا نقول هكذا ، بل زوال كلّ ألم من مرض ، وهو أمن ، وجاء بلفظ الأمن وهو عامّ ، كما جاء بلفظ «أحصر» وهو عامّ في العدوّ والمرض ؛ ليكون آخر الكلام على نظام أوله.

المسألة الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ).

المعنى أكملوا ما بدأتم به من عبادة ، من حجّ أو عمرة ، إلا أن يمنعكم مانع ؛ فإن

__________________

(١) ليس في ل.

(٢ ـ ٣) في ل : الشك.


كان مانع حللتم حيث حبستم وتركتم ما منعتم منه ، ويجزيكم ما استيسر من الهدى بعد حلق رءوسكم ؛ فإذا أمنتم ـ أى زال المانع ، وقد كنتم حللتم عن عمرة فحججتم ، فعليكم ما استيسر من الهدى. والتمتّع يكون بشروط ثمانية :

الأول ـ أن يجمع بين العمرة والحج. الثاني ـ في سفر واحد. الثالث ـ في عام واحد. الرابع ـ في أشهر الحجّ. الخامس ـ تقديم العمرة. السادس ـ ألّا يجمعهما (١) ؛ بل يكون إحرام الحجّ بعد الفراغ من العمرة. السابع ـ أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد. الثامن ـ أن يكون من غير أهل مكة.

ومن هذه الشروط ما هو بظاهر القرآن ، ومنها مستنبط ؛ وذلك أنّ قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ) ، يعنى من انتفع بضمّ العمرة إلى الحج ؛ وذلك أنّ عليه أن يأتى [٦٤] مكة للحجّ والعمرة مرّتين بقصدين متغايرين ، فإذا انتفع باتحادهما ، وذلك في سفر واحد ؛ وهذه الشروط كلها انتفاع إلّا قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ؛ فإنه نصّ.

المسألة السادسة والعشرون ـ اختلف الناس فيما استيسر من الهدى ؛ فقال قوم : هو بدنة ، منهم عائشة ، وابن عمر ، ومجاهد ، وعروة. ومنهم من قال : هو شاة ، وهو قول أكثر الفقهاء ، ومالك ، والشافعى. ومنهم من قال : هو شاة أو بدنة أو شرك في دم ، وبه قال ابن عباس ، والشافعى.

فأما من قال : إنه بدنة فاحتجّ بأنّ الهدى اسم في اللغة للإبل ، تقول العرب : كم هدى فلان ، أى إبله.

ويقال في وصف السنة : هلك الهدى وجفّ الوادي.

فيقال له : إن كنت تجعل أيسر الهدى بدنة وأكثره ما زاد من العدد عليه من غير حدّ فيلزمك ألّا يجوز هدى بشاة. وقد أهدى النبىّ صلى الله عليه وسلم الغنم وأهدى أصحابه ، ولو كان أيسره بدنة ما جازت شاة.

وما ذكروه عن العرب فإنما سمّت الإبل هديا ؛ لأنّ الهدى يكون منها في الأغلب أو لأنها أعلاه.

__________________

(١) في ل : ألا يمزجهما.


وأما من قال : إنّ أيسر الهدى شرك في دم ، فاحتجّ بأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نحر عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ـ رواه جابر. وروى مسلم عن جابر قال (١) : خرجنا مع النبىّ صلى الله عليه وسلم مهلّين بالحجّ ، فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقرة ، كلّ سبعة منّا في بدنة. وهذا لا غبار عليه ولا مطمع فيه.

المسألة السابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) ، يعنى انتفع ، وقد رويت متعتان : إحداهما (٢) ما كان من فسخ الحجّ في العمرة. والثانية ما كان من الجمع بين الحج والعمرة في إحرام أو في سفر واحد (٣).

فأمّا فسخ الحجّ إلى العمرة فروى الأئمة عن ابن عباس قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، ويقولون : إذا برأ الدّبر (٤) ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر.

فلما قدم النبىّ صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مهلّين بالحج أمرهم أن يجعلوها عمرة ؛ فتعاظم ذلك عندهم ، وقالوا : يا رسول الله ، أىّ الحلّ؟ قال : الحلّ كله.

وهذه المتعة قد انعقد الإجماع على تركها بعد خلاف يسير كان في الصدر الأول ثم زال.

وأما متعة القران فقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان عليها في حجّه وكثير من أصحابه.

وقال أبو حنيفة : هي السنّة. وقال مالك والشافعى : لم يكن النبىّ صلى الله عليه وسلم إلا مفردا ، وهو الأفضل ؛ لأنه لا دم فيه ولا انتفاع بإسقاط عمل ولا سفر.

وتعلّق أصحاب أبى حنيفة بأدلّة منها : أنّ عليّا شاهد عثمان رضى الله عنهما ينهى عن المتعة ، وأن يجمع (٥) بينهما ، فلما رأى ذلك علىّ أهلّ بهما ، وقال : ما كنت أدع سنّة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد.

وقال له علىّ : ما تريد أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رواه الأئمة كلهم (٦).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٩٥٥

(٢) في ل : أحدهما.

(٣) في ل : من إحرام واحد أو في سفر واحد.

(٤) الدبر : الجرح الذي يكون في ظهر البعير.

وقيل : هو أن يقرح خف البعير.

(٥) في ل : أن يجمع بينهما.

(٦) انظر صحيح مسلم : ٨٩٦


وتعلّق مالك والشافعى بحديث جابر وعائشة رضى الله عنهما أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ.

ومعنى (١) ما روى عن علىّ أنّ النبي عليه السلام فعله ، أى أمر بفعله ، وقد حققنا المسألة في كتب شرح الحديث.

وأما المسألة (٢) الثالثة ، وهي الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد فقال أحمد : إنها الأفضل ؛ لقوله عليه السلام (٣) : لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة. رواه الأئمة.

وقال علماؤنا : إنما أشفق النبىّ صلى الله عليه وسلم على ترك الأرفق لا على ترك الأولى ، والأرفق ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يجعلوها [٦٥] عمرة شقّ عليهم خلافهم له في الفعل ، فقال : إنى لبدت رأسى ، وقلّدت هديي ، فلا أحلّ حتى أنحر الهدى ؛ معتذرا إليهم مبيّنا حاله عندهم.

وقال ـ لما رأى من شفقتهم ولما رجاه من امتثالهم واقتدائهم ، وسلّ سخيمة الجاهلية عن أهوائهم : لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة كما أمرتكم به.

والذي يقتضيه لفظ الآية من هذه الأقسام إضافة العمرة إلى الحجّ بقوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) ، ولا يصلح هذا اللفظ لفسخ الحج إلى العمرة ، وإذا امتنع هذا في الآية لم يبق إلّا الجمع بين الحجّ والعمرة ، فالآية بعد محتملة للقرآن ، والجمع بينهما إما في لفظ واحد أو في سفر واحد ؛ لأنهم كانوا معتمرين فصدّهم العدوّ فحلوا ؛ وذلك في أشهر الحجّ التي من اعتمر فيها ، ثم حجّ من عامه في سفره ذلك على ما بيّناه من الشروط ؛ فيكون متمتّعا ؛ فبيّن الله تعالى ذلك له.

وكأنّ المعنى أنتم قد اعتمرتم في أشهر الحج ، فلو حججتم في هذا العام لكنتم متمتعين ، وإن كنتم قد صددتم ؛ لأنّ عمرتكم مع حلّكم قبل البلوغ إلى البيت عمرة صحيحة كاملة تكون إضافة الحج إليها متعة.

__________________

(١) في ا : ومعناه.

(٢) في ا : المتعة.

(٣) صحيح مسلم : ٨٨٨


المسألة الثامنة والعشرون ـ قال علماؤنا : لا يلزم المكّى دم متعة (١) ؛ لأنه لم يترفّه بإسقاط أحد السفرين ، فإن ذلك بلده.

وقال أبو حنيفة : لا يتمتّع ولا يقرن من كان من حاضري المسجد الحرام ، فإن تمتّع أو قرن فهو مخطئ وعليه دم لا يأكل منه.

واحتجّ أصحابه بقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : المعنى أنّ جمع الحجّ والعمرة ليس لأهل المسجد الحرام ، ولو كان المراد به الدم لقال تعالى : ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، وهذا ليس بصحيح لما قدّمناه.

[ومعنى الآية أنّ ذلك الحكم مشروع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام] (٢).

المسألة التاسعة والعشرون ـ قال علماؤنا : يجب على المتمتّع الهدى إذا رمى جمرة العقبة ؛ لأنّ الحجّ حينئذ يتمّ ويصحّ منه وصف التمتّع ، وما لم يتم الحجّ لا يكون متمتّعا ؛ لأنه لا يعلم هل يخلص به أو يقطع دونه قاطع.

وقال أبو حنيفة والشافعى : يجب عليه الهدى إذا أحرم بالحج ؛ لأنّ الهدى (٣) وجب عليه بضمّ الحجّ إلى العمرة ، وإذا أحرم بالحج فأوّل الحجّ كآخره (٤) ، وهذه دعوى لا برهان عليها ، وقد قدّمنا فسادها ، ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعى : يجزيه بناء على ما تقدم ، وقد قال تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، ولا يجوز الحلق قبل يوم النّحر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (٥) : لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة. ولو كان ذبح الهدى جائزا قبل يوم النّحر لذبحه وجعلها حينئذ عمرة. وقال : إنى لبّدت رأسى وقلّدت هديي فلا أحلّ حتى أنحر.

المسألة الموفية ثلاثين ـ إذا لم يجد الهدى فصيام ثلاثة أيام في الحج. قال علماؤنا : وذلك بأن يصوم من إحرامه بالحج إلى يوم عرفة ، هذه حقيقته.

__________________

(١) في ل : لا يلزم للمكى متعة.

(٢) ما بين القوسين ليس في ل.

(٣) في ل : لأن الحج.

(٤) في ل : فالأول من الحج كآخره.

(٥) صحيح مسلم ٨٨٨ ، وفيه : لم أسق الهدى.


وقال أبو حنيفة : يصومه في إحرامه بالعمرة ؛ لأنه أحد إحرامى المتمتع ، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه (١) بالحج.

ودليلنا قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) ، فإذا صامه في العمرة فقد أدّاه قبل وقته فلم يجزه.

قال القاضي : إذا ثبت هذا قال علماؤنا : يصومها قبل يوم عرفة ليكون يوم عرفة مفطرا ، فذلك اتّباع (٢) للسنة وأقوى على العبادة. ولا يخلو المتمتّع أن يجد الهدى أو لا يجده ، فإن لم يجده وعلم استمرار العدم إلى آخر الحجّ صام من أوله ؛ وإن رجاه آخره إلى مقدار ثلاثة أيام قبل [٦٦] عرفة فيصومه حينئذ لتقع الأيام مصومة في الحج ، ويخلو يوم عرفة عن الصوم.

وهذه المسألة تنبنى عندي على أصل ؛ وهو ما المراد بقوله تعالى : (فِي الْحَجِ)؟ فإنه يحتمل أيام الحجّ ، ويحتمل موضع الحجّ ؛ فإن كان المراد به أيام الحجّ فهذا القول صحيح ؛ لأن آخر أيام الحج يوم النّحر. ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرّمى ؛ لأنّ الرّمى من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه.

وإن كان المراد به موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى ، وهو قول عروة ، ويقوى (٣) جدا. وقد روى هشام بن عروة قال : أخبرنى أبى ، قال : كانت عائشة تصوم أيّام منى ، وكان أبى يصومها ، وروى الزهري عن عروة ، عن عائشة ، وعن سالم عن ابن عمر ، قالا : لم يرخّص في أيام التشريق أن يصمن إلّا لمن لم يجد الهدى. خرّجه البخاري.

والمعنى في ذلك ، والله أعلم ، لأنه لم يبق من إقامته إلّا بمقدارها ؛ يؤكده قوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) لو كان المراد به أيام الحجّ لقال : إذا أحللتم أو فرغتم ، فكان معنى قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ) عن موضع الحج بإتمام أفعاله. وبذلك يتحقّق وجوب الصوم لعدم الهدى كما بيّناه من قبل.

فإن قيل : فقد روى في الصحيح (٤) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادى أنّ أيام منى أيام أكل وشرب.

__________________

(١) في ا : كإحرامه الحج.

(٢) في ا : أتبع.

(٣) في ل : ويقوى أيضا جدا.

(٤) حكم الصوم في أيام التشريق في صحيح مسلم ٨٠٠


قلنا : إن ثبت النهى عامّا فقد جاء الخبر الصحيح بالتخصيص للمتمتع كما قدمناه.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ) ، يعنى إلى بلادكم في قول مالك في كتاب محمد ، وبه قال الشافعى.

وقال مالك في الكتاب : إذا رجع من منى.

قال القاضي : وتحقيق المسألة أنّ قوله تعالى : (إِذا رَجَعْتُمْ) ، إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرّفق فيها (١) إلى العزيمة إجماعا ، وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نصّ ولا ظاهر أنه أراد البلاد ، وإنما المراد في الأغلب والأظهر فيه أنه الحجّ.

المسألة الثانية والثلاثون ـ من حاضر و (٢) المسجد الحرام؟ فيه خمسة أقوال :

الأول أهل الحرم. الثاني مكة وما قرب منها كذي طوى. الثالث أهل عرفة ؛ قاله الزهري. الرابع من دون الميقات ، قاله أبو حنيفة. الخامس من هو في مسافة لا تقصر الصلاة فيها ؛ قاله الشافعى.

ولكلّ وجه سردناه في مسائل الخلاف والفروع.

والصحيح فيه من تلزمه الجمعة فهو من حاضري المسجد الحرام. والله أعلم.

الآية السادسة والأربعون ـ قوله تعالى (٣) : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

فيها إحدى عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في تعديد أشهر الحجّ ؛ وفي ذلك أربعة أقوال :

أحدها ـ شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة كلّه ؛ قاله ابن عمر ، وقتادة ، وطاوس ومالك.

الثاني ـ وعشرة أيام من ذي الحجة ؛ قاله مالك أيضا ، وأبو حنيفة.

الثالث ـ وعشر ليال من ذي الحجة ، قاله ابن عباس ، والشافعى.

الرابع ـ إلى آخر أيام التشريق ؛ قاله مالك أيضا.

__________________

(١) في ا : فيهما ، وهو تحريف.

(٢) في ل : من حاضري المسجد.

(٣) الآية السابعة والتسعون بعد المائة.


فمن قال : إنه ذو الحجة كلّه أخذ بظاهر الآية والتعديد (١) للثلاثة.

ومن قال : إنه عشرة أيام قال : إنّ الطواف والرّمى في العقبة ركنان يفعلان في اليوم العاشر.

ومن قال : عشر ليال ، قال إنّ الحجّ يكمل بطلوع الفجر يوم النّحر لصحّة الوقوف بعرفة وهو الحجّ كله.

ومن قال : آخر أيام التشريق رأى أنّ الرّمى من أفعال الحج وشعائره ، وبعض الشهر يسمّى شهرا لغة.

المسألة الثانية ـ فائدة من جعله ذا الحجّة كلّه أنه إذا أخّر طواف الإفاضة إلى آخره لم يكن عليه دم ؛ لأنه جاء به في أيام الحج.

المسألة الثالثة ـ لا خلاف في أنّ أشهر الحجّ شوال [٦٧] وذو القعدة وذو الحجة على التفصيل المتقدم.

والفائدة في ذكر الله تعالى لها وتنصيصه عليها أمران :

أحدهما ـ أنّ الله تعالى وضعها كذلك في ملّة إبراهيم عليه السلام ، واستمرّت عليه الحال إلى أيام الجاهلية ، فبقيت كذلك حتى كانت العرب ترى أنّ العمرة فيها من أفجر الفجور ، ولكنها كانت تغيّرها فتنسئها (٢) وتقدّمها حتى عادت [يوم] (٣) حجة الوداع إلى حدّها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المأثور المنتقى : إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ... الحديث.

الثاني ـ أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر التمتّع ، وهو ضمّ العمرة إلى الحج في أشهر الحج بيّن أنّ أشهر الحج ليست جميع الشهور في العام ، وإنما هي المعلومات من لدن إبراهيم عليه السلام ، وبيّن قوله تعالى (٤) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أنّ جميعها ليس الحجّ تفصيلا لهذه الجملة وتخصيصا لبعضها بذلك ، وهي شوال وذو القعدة وجميع ذي الحجة ، وهو اختيار عمر رضى الله عنه ، وصحيح قول علمائنا ؛ فلا يكون متمتّعا من أحرم بالعمرة في أشهر العام ، وإنما يكون متمتّعا من أتى بالعمرة في هذه الأشهر المخصوصة.

__________________

(١) في ل : والتقدير.

(٢) تنسئها : تؤخرها.

(٣) من م.

(٤) سورة البقرة ، آية ١٨٩


المسألة الرابعة ـ اختلفوا في تقديرها ؛ فقال الشافعى وسواه : تقديرها الحجّ حجّ أشهر معلومات ، وهذا التقدير من الشافعى ؛ لأنه لا يرى الإحرام في غير أشهر الحج كما لا يرى أحد الإحرام قبل وقت الصلاة بها.

[وقال مالك وغيره : أشهر الحجّ أشهر معلومات] (١) ، وقد بينّا ذلك لغة في ملجئة المتفقهين وعيّناه فقها [في مسائل الخلاف أن النية تكفى باطنا في التزامه] (٢).

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ).

المعنى التزمه بالشروع فيه ؛ لأنه فرض عليه بالنية قصدا باطنا ، وبالإحرام فعلا ظاهرا ، وبالتلبية نطقا مسموعا ؛ قاله ابن حبيب ، وأبو حنيفة في التلبية.

وقد بينّا في مسائل الخلاف أنّ النية تكفى باطنا في التزامه عن فعل أو نطق ، وقد قال جماعة كما قدمنا منهم الشافعى : إنّ هذا القول يقتضى اختصاص الإحرام بهذه الأشهر ، فلا يقدّم عليها ، وأباه أبو حنيفة ومالك.

والمسألة مشكلة معضلة ، وقد استوفينا البيان فيها ، وأوضحنا لبابه في كتاب التلخيص ، وأنّ القول فيها دائر من قبل الشافعى على أن الإحرام ركن من الحج مختصّ بزمانه ، ومعوّلنا على أنه شرط فيقدّم (٣) عليه ، وهناك تبيّن الترجيح بين النّظرين ، وظهر أولى التأويلين في الآية من القولين.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ).

الرّفث : كلّ قول يتعلق بذكر النساء ؛ يقال : رفث يرفث ـ بكسر الفاء وضمها. وقد يطلق على الفعل من الجماع والمباشرة ، قال الله تعالى (٤) : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ). وكان ابن عمر وابن عباس يريان أنّ ذلك لا يمتنع إلّا إذا روجع به النساء ، ما إذا ذكره الرجل مفردا عنهنّ لم يدخل في النهى.

وفيه نظر ؛ فإنّ الحجّ منع فيه من التلفظ بالنكاح ، وهي كلمة واحدة ، فكيف بالاسترسال على القول (٥) يذكر كلّه ، وهذه بديعة.

__________________

(١ ـ ٢) ما بين القوسين ليس في ل.

(٣) في ل : فيتقدم.

(٤) سورة البقرة ، آية ١٨٧

(٥) في ا : بذكر ، والمثبت من ل.


المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) : أراد نفيه مشروعا لا موجودا ، فإنّا نجد الرّفث فيه ونشاهده. وخبر الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، فإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا ، كقوله تعالى (١) : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) معناه شرعا لا حسّا ، فإنا نجد المطلقات لا يتربّصن ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعىّ ، لا إلى الوجود الحسىّ.

وهذا كقوله تعالى (٢) : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) إذا قلنا : إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح [٦٨] ، أنّ معناه لا يمسّه أحد منهم بشرع ؛ فإن وجد المسنّ فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا : إنّ الخبر قد يكون بمعنى النهى ، وما وجد ذلك قطّ ، ولا يصح أن يوجد ؛ فإنهما يختلفان حقيقة ويتضادّان وصفا.

المسألة الثامنة ـ إذا وقع الوطء في الحج أفسده ، لأنه محظور كالأكل في الصوم أو الكلام في الصلاة ، فإن وقعت المباشرة لم تفسده ؛ لأنّ تحريمها لكونها داعية إلى الجماع ، كما حرّم الطيّب والنكاح ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ، ولو وجد الطيب والنكاح لم يفسد الحج ، فكذلك بالمباشرة.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلا فُسُوقَ).

فيه أقوال كثيرة ؛ أمهاتها ثلاث :

الأول ـ جميع المعاصي ، قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر.

الثاني ـ أنه قتل الصيد.

الثالث ـ أنه الذبح لغير الله تعالى ، لأنّ الحجّ لا يخلو عن ذبح ، وكان أهل الجاهلية يذبحونه لغير الله فسقا ، فشرعه الله تعالى لوجهه نسكا.

والصحيح أن المراد بالآية جميعها ، قال النبىّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح (٣) : من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.

وقال (٤) : الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. فقال (٥) الفقهاء : الحج المبرور ، هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٨

(٢) سورة الواقعة ، آية ٧٩

(٣ ـ ٤) صحيح مسلم : ٩٨٣

(٥) في ل : قال الفقهاء.


وقال الفراء (١) : الحجّ المبرور هو الذي لم يعص الله بعده. وقد روينا في الحديث المذكور من طريق أبى ذرّ : من حجّ ثم لم يرفث ولم يفسق. بقوله : ثم (٢). والله أعلم.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

أراد لا جدال في وقته ؛ فإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، فعاد بذلك إلى يومه ووقته. وقيل : لا جدال في موضعه ؛ فإن الوقوف بعرفة لكل أحد من الناس كان من الحمس أو من غيرهم (٣). وكلا القولين صحيح. وقد رفع الله تعالى الجدال في الوجهين بين الخلق ، فلا يكون إلى القيامة ؛ ولهذا قرأه العامة وحده بنصب اللام على التبرئة دون الكلمتين اللتين قبله.

وقد بينّا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

أمر الله تعالى بالتزوّد من كان له مال ومن لم يكن له مال ؛ فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق ، أو سائلا فلا خطاب عليه ، وإنما خاطب الله تعالى أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ، ويقولون : نحن المتوكّلون ؛ والتوكل له شروط بيانها في موضعها يخرج من قام بها بغير زاد ولا يدخل في الخطاب ، [ومن لم يكن له مال] (٤) فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصّرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه. والله أعلم.

الآية السابعة والأربعون ـ قوله تعالى (٥) : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ، وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثّموا في الإسلام أن يتّجروا فيها ، فنزلت

__________________

(١) في ا : الفقراء. والصواب من ل.

(٢) في صحيح مسلم : فلم يرفث.

(٣) في ل : أو من عامتهم. والحمس : قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء ، وهي الكعبة ، لأن حجرها أبيض إلى السواد (القاموس : حمس).

(٤) من ل.

(٥) الآية الثامنة والتسعون بعد المائة.


الآية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ؛ يعنى في مواسم الحجّ.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : في هذا دليل على جواز التجارة في الحجّ للحاجّ مع أداء العبادة ، وإنّ القصد إلى ذلك لا يكون شركا ، ولا يخرج به المكلّف عن رسم الإخلاص المفترض (١) عليه ، خلافا للفقراء أن الحج دون تجارة أفضل أجرا.

المسألة الثالثة ـ قوله [٦٩] تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ).

الإفاضة : السرعة بالدّفع ، هذا أصله في اللغة ، لكن المراد به هاهنا دفع ، وهي حقيقة الإفاضة ، والإسراع هيئة في الإفاضة لا حقيقة لها ، ثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم (٢) أنه كان إذا دفع يسير العنق (٣) ، فإذا وجد فجوة نصّ (٤). وروى عنه عليه السلام أنه دفع من عرفة فسمع وراءه زجرا شديدا ، فقال : يا أيها الناس ؛ إنّ البر ليس بالإيضاع ، عليكم بالسكينة.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (مِنْ عَرَفاتٍ) : موضع معلوم الحدود ، مشهور عظيم القدر. وروى الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الحجّ عرفة ثلاثا ، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. ورويا ومعهما أبو داود أنّ عروة بن مضرّس الطائي قال : أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم بالموقف يعنى بجمع (٥) فقلت : جئت يا رسول الله من جبل طيئ ، أكللت مطيّتى ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلّا وقفت عليه ، فهل لي من حجّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تمّ حجّه ، وقضى تفثه.

وهذا صحيح يلزم البخاري ومسلما إخراجه حسبما بيناه في شرح الصحيح ، وسترونه هنالك إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة ـ هذا القول بظاهر القرآن والسنة يقتضى جواز عموم الوقوف بعرفة كلها وإجزاءه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف. ونحرت هاهنا ومنى كلها منحر ؛ ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف. خرّجه مسلم (٦).

__________________

(١) في ا : للمفترض ، وهو تحريف طبعي.

(٢) صحيح مسلم : ٩٣٦

(٣) العنق ـ محركة : سير سريع فسيح واسع للإبل والدواب.

(٤) النص : فوق العنق.

(٥) جمع : هو المزدلفة. وفي معجم ياقوت : سمى جمعا لاجتماع الناس به.

(٦) صحيح مسلم : ٨٩٣


وروى النسائي والترمذي عن علىّ رضى الله عنه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم وقف على قزح (١) ، فقال : هذا قزح ، وهذا الموقف ، وجمع ، كلّها موقف.

وروى مسلم أن قبة النبىّ صلى الله عليه وسلم ضربت له بنمرة (٢) ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس خرج ، فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ... الحديث.

وروى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : عرفة كلّها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة(٣).

المسألة السادسة ـ لم يبيّن الله سبحانه وقت الإفاضة ، وبيّنها النبىّ صلى الله عليه وسلم بفعله ، فإنه وقف حتى غربت الشمس قليلا ، وذهبت الصّفرة ، وغاب القرص. خرّجه الأئمة واللفظ لمسلم (٤) ؛ فكان بيانا لقول الله سبحانه ، فقالت (٥) المالكية : الفرض الوقوف بالليل. وقال الشافعى وأبو حنيفة : الوقوف بالنهار. وقال ابن حنبل : ليلا أو نهارا على حديث عروة. وقد مهدناه في مسائل الخلاف وغيرها.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ).

روى جابر بن عبد الله في الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس ، ثم دفع (٦) فأتى المزدلفة فصلّى فيها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين لم يسبّح بينهما ، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين (٧) تبيّن الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء (٨) حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا (٩) وكبّر وهلّل ووحّد ، فلم يزل واقفا حتى أسفر (١٠) جدّا ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس ـ خرّجه مسلم.

__________________

(١) قزح : جبل بالمزدلفة.

(٢) نمرة : ناحية بعرنة نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ضرب رسول الله في حجة الوداع. صحيح مسلم : (٨٨٩).

(٣) في ا : بعض عرفة ، وهو تحريف. وبطن عرنة : واد بحذاء عرفات.

(٤) صحيح مسلم : ٨٩٠

(٥) قال القرطبي (٢ ـ ٤١٥) : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل ، إلا مالك بن أنس فإنه قال : لا بد أن يأخذ من الليل شيئا. وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأئمة في تمام حجه.

(٦) صحيح مسلم : ٨٩١

(٧) في ا : حتى. والمثبت من صحيح مسلم.

(٨) القصواء : لقب ناقة الرسول.

(٩) في صحيح مسلم : فدعاه وكبره وهلله ووحده.

(١٠) الضمير في «أسفر» يعود على الفجر.


المسألة الثامنة ـ قال قوم : قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ؛ إشارة إلى الصلاة به دون أن تفعل في الطريق ؛ فإنّ الوقت أخذه بعرفة وتمادى عليه الوجوب في الطريق ، فكان من حقه أن يصلّى ، وكذلك قال أسامة : الصلاة يا رسول الله. قال له النبي صلى الله عليه وسلم : الصلاة أمامك ، حتى نزل المزدلفة فجمع بين الصلاتين فيها ، خرجه الأئمة ، حتى قال علماؤنا وأبو حنيفة : إن صلّاها قبل ذلك لم تجز لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الصلاة أمامك ، فجعله لها حدّا.

المسألة التاسعة ـ قال علماؤنا : ليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج. وقال الشعبي والنخعي : هو ركن لقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ؛ وهذا لا يصلح لوجهين :

أحدهما ـ أنه ليس فيه ذكر المبيت ، وإنما فيه مجرد الذكر.

الثاني ـ أن النبي [٧٠] صلى الله عليه وسلم بيّن لعروة بن مضرّس في الحديث المتقدم (١) إجزاء الحج مع الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة.

المسألة العاشرة ـ المشعر الحرام كلّه موقف إلا بطن محسّر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : جمع كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر. رواه مالك بلاغا ، وأسنده جماعة منهم عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن محمد بن المنكدر ، عن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عرفة كلّها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ، ومزدلفة كلّها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسّر ، ومنى كلّها منحر وفجاج مكة كلها منحر.

الآية الثامنة والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

روى الأئمة عن جابر ، قال : فلما كان يوم التّروية (٣) توجّهوا إلى منى ، فأهلّوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبّة من شعر فضربت له بنمرة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تشكّ قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع

__________________

(١) صفحة ١٣٦

(٢) الآية التاسعة والتسعون بعد المائة.

(٣) يوم التروية : هو اليوم الثامن من ذي الحجة ، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده.


في الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ... وذكر الحديث.

المسألة الثانية ـ اختلف الناس في المراد بهذه الإفاضة على قولين :

أحدهما ـ أنّ المراد به من عرفات مخالفة لقريش ؛ قاله الجماعة.

الثاني ـ المراد به من المزدلفة إلى منى ؛ قاله الضحاك. وإنما صار إلى ذلك لأنه رأى الله تعالى ذكر هذه الإفاضة بعد ذكره (١) الوقوف بالمشعر الحرام ، والإفاضة التي بعد الوقوف بالمشعر الحرام هي الإفاضة إلى منى.

وأجاب عن ذلك علماؤنا بأربعة أجوبة : الاول ـ أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، التقدير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات مع الناس فاذكروا الله عند المشعر الحرام. والتقديم والتأخير كثير في القرآن ؛ قاله (٢) الطبري.

الثاني ـ أن «ثمّ» بمعنى الواو ، كما قال تعالى : (٣) : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

الثالث ـ أن معناه : ثم ذكرنا لكم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فيرجع التعقيب إلى ذكر وجود الشيء لا إلى نفس وجوده ، كقوله تعالى (٤) : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ). المعنى ، ثم أخبرناكم آتينا موسى الكتاب ؛ فيكون التعقيب في الإخبار لا في الإيتاء.

الرابع ـ وهو التحقيق ـ أن المعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام : يا معشر من حلّ بالمشعر الحرام أفيضوا من حيث أفاض الناس. وأخّر الله تعالى الخطاب إلى المشعر الحرام ليعمّ من وقف بعرفة ومن لم يقف حتى يمتثله مع من وقف.

الآية التاسعة والأربعون ـ قوله تعالى (٥) : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) في ل : بعد ذكر.

(٢) في ا : قال.

(٣) سورة البلد ، آية ١٧

(٤) سورة الأنعام ، آية ١٥٤

(٥) الآية المتممة للمائتين.


المسألة الأولى ـ قد بيّنا في غير موضع حقيقة القضاء والأداء ، وخصوصا في رسالة نزول الوافد ، وقد يستعمل في الأداء ؛ وهو ما كان من العبادات في وقتها ، وهي حقيقته التي خفيت على الناس.

المسألة الثانية ـ اختلف العلماء في المراد بالمناسك ها هنا على قولين :

أحدهما ـ أنه الذبح. الثاني ـ أنها شعائر الحجّ. والأظهر عندي أنها الرّمى أو جميع معاني الحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عنى مناسككم. والمعنّى بالآية كلها : إذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله تعالى ؛ كالتلبية عند الإحرام ، والتكبير عند الرّمى ، والتسمية عند الذّبح.

الآية الموفية خمسين ـ قوله [٧١] تعالى (١) : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ لا خلاف أنّ المراد بالذّكر هاهنا التكبير. وأما التلبية فاعلموا أنها مشروعة إلى رمى الجمرة بالعقبة ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبّى حتى رمى جمرة العقبة.

المسألة الثانية ـ في تحديد هذه الأيام وتعيينها ، وهي مسألة غريبة :

قال علماؤنا : أيام الرّمى معدودات ، وأيام النّحر معلومات ؛ فاليوم الأول معلوم غير معدود ، واليومان بعد يوم النحر معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود غير معلوم ؛ والذي أصارهم إلى ذلك أنهم قالوا : المراد بقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) بعد قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أنها أيام منى ، وأن المراد بالذكر التكبير عند الرّمى فيها.

وأعلموا أن أيام منى ثلاثة ، روى الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخّر فلا إثم عليه ، فلما قال الله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ، وذلك بعد غروب الشمس من يوم عرفة ، فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، وذلك الغد من يوم النحر ،

__________________

(١) الآية الثالثة بعد المائتين.


كما فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم حسبما تقدّم ، ثم أفيضوا ـ يعنى إلى منى على التقدير المتقدم (١) في المسألة الثانية من الآية قبل هذه الآية ، فصار ذلك اليوم أوله للمشعر الحرام وآخره لمنى ، فلما لم يختصّ بمعنى لم يعدّ فيها ، وصارت أيام منى ثلاثة سوى يوم النحر ؛ لأنه أقلّ الجمع في الأظهر عند الإطلاق حسبما بيّناه في كتاب الأصول ، وبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم ذلك بالعمل الذي يرفع الإشكال ـ قال حينئذ علماؤنا : اليوم الأول غير معدود ، لأنه ليس من الأيام التي تختصّ بمنى في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ، ولا من التي عنى النبىّ صلى الله عليه وسلم بقوله : أيام منى ثلاثة ، وكان معلوما لأنّ الله تعالى قال (٢) : (وَيَذْكُرُوا (٣) اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ). ولا خلاف أنّ المراد به النّحر ، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث ، ولم يكن في الرابع نحر ؛ فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى : (مَعْلُوماتٌ) ؛ لأنه لا ينحر فيه ؛ وقد بيّنا ذلك في موضعه ، وكان مما يرمى فيه ؛ فصار معدودا في ذلك لأجل الرّمى ، غير معلوم لعدم النحر فيه.

والحقيقة أنّ يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح ، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

فإن قيل : فلم لا يكون ـ كما قلتم ـ يوم النّحر مرادا في المعدودات وتكون المعدودات أربعة والمعلومات ثلاثة؟ وكما يعطى ذكر الأيام ثلاثة كذلك يقتضى أربعة.

فالجواب أنّا لا نمنع أن يسمّى بمعدود ولا بمعلوم ؛ لأنّ كلّ معدود معلوم ، وكلّ معلوم معدود ، لكن يمنع أن يكون مرادا بذكر المعدودات ها هنا من وجهين : أحدهما أنّ يوم النحر كما قدمنا قد استحقّ أوله الوقوف بالمشعر الحرام ، ومنه تكون الإفاضة إلى منى ؛ فصار ذلك اليوم يوم الإفاضة ، وبعده قال الله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

الثاني ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه. ولو كان يوم النحر معدودا منها لاقتضى مطلق هذا القول لمن نفر في يوم ثانى النحر أن ذلك جائز ، ولا خلاف أن ذلك ليس (٤) له ، فتبيّن أنه غير معدود فيها لا قرآنا ولا سنة ، وهذا منتهى بديع.

__________________

(١) صفحة ١٣٩

(٢) سورة الحج ، آية ٢٨

(٣) في ا : ليذكروا. وهو خطأ.

(٤) في ل : فيه.


وقال أبو حنيفة [٧٢] والشافعى : الأيام المعلومات أيام العشر ، ورووا ذلك عن ابن عباس ، وظاهر الآية يدفعه ؛ فلا معنى للاشتغال به.

المسألة الثالثة ـ في المراد بهذا الذكر :

لا خلاف أنّ المخاطب به هو الحاجّ ، خوطب بالتكبير عند رمى الجمار ، فأما غير الحاجّ فهل يدخل فيه أم لا؟ وهل هو أيضا خطاب للحاجّ بغير التكبير عند الرمي؟ فنقول: أجمع فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم على أنّ المراد به التكبير لكل أحد ، وخصوصا في أوقات الصلوات ؛ فيكبّر عند انقضاء كلّ صلاة ، كان المصلى في جماعة أو وحده يكبّر تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام. لكن اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه يكبّر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ؛ قاله عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وأبو يوسف ومحمد صاحبه ، [والمزني] (١).

والثاني ـ مثله في الأول ، ويقطع (٢) العصر من يوم النّحر ؛ قاله ابن مسعود ، وأبو حنيفة.

الثالث ـ يكبّر من ظهر يوم النّحر إلى عصر آخر أيام التشريق ؛ قاله زيد بن ثابت.

الرابع ـ يكبّر من صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ؛ قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومالك ، والشافعى.

فأما من قال : إنه يكبّر يوم عرفة ويقطع العصر يوم النحر فقد خرج عن الظاهر ؛ لأن الله تعالى قال : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وأقلّها (٣) ثلاثة ، وقد قال هؤلاء : يكبّر في يومين ؛ فتركوا الظاهر لغير دليل ظاهرة.

وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق فقال : إنه تعالى قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ) ، فذكر عرفات داخل في ذكر الأيام ، وهذا كان يصحّ لو قال يكبّر من المغرب يوم عرفة ، لأنّ وقت الإفاضة حينئذ ، فأما قبل ذلك فلا يقتضيه ظاهر اللفظ.

وأما من قال : يكبّر يوم عرفة من الظهر ، فهو ظاهر في متعلق قوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ، لكن يلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى.

ومن قصره على صلاة الصبح من اليوم الرابع فقد بيّنا مأخذه في مسائل الخلاف.

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) في القرطبي (٣ ـ ٤) : يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم عرفة.

(٣) في القرطبي : وأيامها.


والتحقيق أنّ التحديد بثلاثة أيام ظاهر ، وأن تعيّنها ظاهر أيضا بالرمي ، وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاجّ فيها ، ولو لا الاقتداء بالسلف لضعف متابعة الحاجّ من بين سائر أهل الآفاق إلّا في التكبير عند الذّبح ، والله عزّ وجلّ أعلم.

الآية الحادية والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قال قوم : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بنى زهرة : وفد على النبىّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأظهر الإسلام ، ثم خرج ، وقال : الله يعلم إنى لصادق ، ثم خرج ومرّ بزرع (٢) لقوم وحمر ، فأحرق الزّرع وعقر الحمر ، فنزلت هذه الآية فيه.

وقال آخرون : هي صفة المنافق ، وهو أقوى.

المسألة الثانية ـ في هذه الآية عند علمائنا دليل على أنّ الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس ، وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم ؛ لأنّ الله تعالى بيّن أن من الخلق من يظهر قولا جميلا وهو ينوى قبيحا.

وأنا أقول : إنه يخاطب بذلك كلّ أحد من حاكم وغيره ، وإن المراد بالآية الا يقبل أحد على ظاهر قول أحد حتى يتحقّق بالتجربة حاله ، ويختبر بالمخالطة أمره.

فإن قيل : هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : «لا إله إلا الله». وفي رواية : «إنما أمرت بالظاهر والله يتولّى السرائر».

فالجواب أنّ هذا الحديث إنما هو في حقّ الكفّ عنه وعصمته ، فإنه (٣) يكتفى بالظاهر منه في حالته ، كما قال في آخر الحديث : فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها.

وأما في [حديث] (٤) حق ثبوت المنزلة بإمضاء قوله على الغير فلا يكتفى بظاهره حتى يقع البحث عنه ، ويختبر في تقلّباته وأحواله.

__________________

(١) الآية الرابعة بعد المائتين.

(٢) في القرطبي : بزرع لقوم من المسلمين.

(٣) في ا : بأنه.

(٤) ليس في ل.


جواب [٧٣] آخر : وذلك أنه يحتمل أنّ هذا كان في صدر الإسلام حيث كان إسلامهم سلامتهم ؛ فأما وقد عمّ الناس الفساد فلا.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) : يعنى ذا جدال إذا كلّمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه وباطل ؛ وهذا يدلّ على أنّ الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء. وقد روى البخاري وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم (١).

الآية الثانية والخمسون ـ قوله تعالى (٢) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها أربعة أقوال :

الأول ـ نزلت في الجهاد.

الثاني ـ فيمن يقتحم القتال ؛ أرسل عمر رضى الله عنه جيشا فحاصروا حصنا فتقدّم رجل عليه فقاتل فقتل ، فقال الناس : ألقى بيده للتّهلكة ، فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فقال : كذبوا ؛ أوليس الله تعالى يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)

وحمل هشام بن عامر على الصفّ حتى شقّه ، فقال أبو هريرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

الثالث ـ نزلت في الهجرة وترك المال والديار لأجلها ؛ روى أن صهيبا أخذه أهله وهو قاصد النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فافتدى منهم بماله ، ثم أدركه (٣) آخر فافتدى منه (٤) ببقية ماله ، وغيره عمل عمله فأثنى عليهم.

الرابع ـ أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ قاله عمر ، وقرأ هذه الآية واسترجع ، وقال : قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.

__________________

(١) الخصم : الشديد الخصومة. واللدد : الخصومة الشديدة (النهاية).

(٢) الآية السابعة بعد المائتين.

(٣) في ل : فأدركه.

(٤) في ل : منهم.


ويروى أنّ عمر رضى الله عنه كان إذا صلّى الصبح (١) دخل مربدا له ، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن ، متهم ابن عباس وابن أخى عنبسة فقرءوا القرآن ، فإذا كانت القائلة انصرفوا. قال : فمرّوا بهذه الآية (٢) : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جانبه : اقتتل الرجلان. فسمع عمر رضى الله عنه ما قال ، فقال : أىّ شيء قلت؟ قال : لا شيء. قال : ما ذا قلت؟ قال : فلما رأى ذلك ابن عباس قال : أرى هذا أخذته العزّة بالإثم من أمره بتقوى الله ، فيقول هذا : وأنا أشرى نفسي ابتغاء مرضاة الله فيقاتله ، فاقتتل الرجلان. فقال عمر : لله تلادك (٣) يا بن عبّاس.

المسألة الثانية ـ هذا كلّه من الأقوال ، لا امتناع في أن يكون مرادا بالآية ، داخلا في عمومها ، إلّا أنّ منه متّفقا عليه ، ومنه مختلف فيه ؛ أمّا القول : إنها في الجهاد والهجرة فلا خلاف فيه. وأما اقتحام القتال فمختلف فيه تقدّم أنّ الصحيح جوازه ، وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خاف منه المرء على نفسه سقط فرضه بغير خلاف ، وهل يستحبّ له اقتحام الغرر (٤) فيه وتعريض النّفس للإذاية أو الهلكة؟ مختلف فيه.

وعموم هذه الآية دليل عليه ، وسيأتى بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

الآية الثالثة والخمسون ـ قوله تعالى (٥) : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

فيها قولان :

أحدهما ـ أنها منسوخة بآية الزكاة كما تقدّم في غيرها ؛ فإنّ الزكاة كانت موضوعة أوّلا في الأقربين ، ثم بيّن الله مصرفها في الأصناف الثمانية.

الثاني ـ أنها مبيّنة مصارف صدقة التطوّع ، وهو الأولى ؛ لأنّ النسخ دعوى ، وشروطه معدومة هنا ؛ وصدقة التطوع في الأمرين أفضل منها في غيرهم ، يدلّ عليه ما روى الأئمة

__________________

(١) في ا : السبحة. والسبحة : النافلة.

(٢) الآيتان السادسة والسابعة بعد المائتين.

(٣) تلادى : أول ما أخذته وتعلمته.

(٤) غرر بنفسه : عرضها للهلكة ، والاسم الغرر.

(٥) الآية الخامسة عشرة بعد المائتين.


عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (١) : يا معشر النساء ؛ تصدّقن ولو من حليكن. فقالت زينب ـ امرأة عبد الله لزوجها [٧٤] : أراك خفيف ذات اليد ، فإن أجزأت عنّى فيك صرفتها إليك. فأتت النبىّ صلى الله عليه وسلم فسألته ، فقالت : أتجزئ الصدقة منّى على زوجي وأيتام في حجري؟ فقال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم : لك أجران : أجر الصدقة ، وأجر القرابة. وفي رواية : زوجك وولدك أحقّ من تصدقت عليهم.

وروى النسائي وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : يد المعطى العليا ، أمّك وأباك ، وأختك وأخاك ، وأدناك أدناك.

وروى مسلم عن جابر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : أبدأ بنفسك فتصدّق عليها. ولا شكّ أن الحنوّ على القرابة أبلغ ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح (٢) أوقع في الإخلاص.

وتمام المسألة يأتى بعد هذا إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

اختلف الناس في هذه الآية ؛ فمنهم من قال : إنها نزلت في الصحابة وهم المخاطبون والمكتوب عليهم القتال ؛ قاله عطاء ، والأوزاعى.

الثاني ـ أنه مكتوب على جميع الخلق ، لكن يختلف الحال فيه ، فإن كان الإسلام ظاهرا فهو فرض على الكفاية ، وإن كان العدوّ ظاهرا [على موضع] (٤) كان القتال فرضا على الأعيان ، حتى يكشف الله تعالى ما بهم ؛ وهذا هو الصحيح ـ

روى البخاري وغيره عن مجاشع ، قال : أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم أنا وأخى فقلت : بايعنى على الهجرة. فقال : مضت الهجرة لأهلها. قلت : علام تبايعنا؟ قال : على الإسلام والجهاد.

وروى الأئمة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة ، وإذا استنفرتم فانفروا ، وهذه الآية كانت في الدرجة الثانية من إباحة القتال والإذن فيه ، كما تقدم.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦٩٤

(٢) الكاشح : الذي يضمر عداوته ويطوى عليها كشحه (النهاية).

(٣) الآية السادسة عشرة بعد المائتين.

(٤) من ل.


الآية الخامسة والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ): اختلف الناس في نسخ هذه الآية ؛ فكان عطاء يحلف أنها ثابتة ؛ لأنّ الآيات التي بعدها عامّة في الأزمنة وهذا خاصّ ؛ والعامّ لا ينسخ بالخاص باتفاق.

وقال سائر العلماء : هي منسوخة ؛ واختلفوا في الناسخ ؛ فقال الزهري : نسخها قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

وقال غيره : نسختها (٣) : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ).

وقال غيره : نسخها غزو النبىّ صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس (٤) في الشهر الحرام ؛ وهذه أخبار ضعيفة.

وقال غيره : نسختها بيعة الرّضوان على القتال في ذي القعدة ؛ وهذا لا حجّة فيه ؛ لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ عثمان قتل بمكة ، وأنهم عازمون على حربه ، فبايع على دفعهم لا على الابتداء.

وقال المحققون : نسخها قوله تعالى (٥) : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، يعنى أشهر التسيير ، فلم يجعل حرمة إلّا لزمان التسيير.

والصحيح أنّ هذه الآية ردّ على المشركين حين أعظموا على النبي صلى الله عليه وسلم القتال والحماية في الشهر الحرام ؛ فقال الله تعالى : وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة ـ وهي الكفر ـ في الشهر الحرام أشدّ من القتل ؛ فإذا فعلتم ذلك كلّه في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه.

الآية السادسة والخمسون ـ قوله تعالى (٦) : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

اختلف العلماء رحمة الله عليهم في المرتدّ ، هل يحبط عمله نفس الردّة أم لا يحبط إلّا على الموافاة على الكفر؟

فقال الشافعى : لا يحبط له عمل إلّا بالموافاة كافرا. وقال مالك : يحبط بنفس الردّة.

__________________

(١) الآية السابعة عشرة بعد المائتين.

(٢) سورة التوبة ، آية ٣٦

(٣) سورة التوبة ، آية ٢٩

(٤) أوطاس : واد كانت فيه وقعة حنين.

(٥) سورة التوبة ، آية ٥

(٦) من الآية السابعة عشرة بعد المائتين.


ويظهر الخلاف في المسلم إذا حجّ ثم ارتدّ ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحجّ لأنّ الأوّل قد حبط [٧٥] بالردّة. وقال الشافعى : لا إعادة عليه لأنّ عمله باق.

واستظهر عليه علماؤنا بقول الله تعالى (١) : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). وقالوا : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أمّته لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردّة شرعا.

وقال أصحاب الشافعى : بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة ، وبيان أنّ النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله ، فكيف أنتم؟ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته ، كما قال الله تعالى (٢) : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ؛ وذلك لشرف منزلتهن ، وإلا فلا يتصوّر إتيان فاحشة منهن ، صيانة لصاحبهنّ المكرّم المعظّم.

قال ابن عباس ، حين قرأ : (٣) (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) : والله ما بغت امرأة نبىّ قط ، ولكنهما كفرتا.

وقال علماؤنا : إنما ذكر الموافاة شرطا هاهنا ، لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاء ، فمن وافى كافرا خلّده الله في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى ، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين وحكمين متغايرين ، وما خوطب به النبىّ صلى الله عليه وسلم فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به ، وما ورد في أزواجه صلى الله عليه وسلم فإنما قيل ذلك فيهنّ ليبيّن أنّه لو تصوّر لكان هتكا لحرمة الدين وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكلّ هتك حرمة عقاب ، وينزّل ذلك منزلة من عصى في شهر حرام ، أو في البلد الحرام ، أو في المسجد الحرام ، فإن العذاب يضاعف عليه بعدد ما هتك من الحرمات ، والله الواقي لا ربّ غيره.

الآية السابعة والخمسون ـ قوله تعالى (٤) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٦٥

(٢) سورة الأحزاب ، آية ٣٠

(٣) سورة التحريم ، آية ١٠

(٤) الآية التاسعة عشرة بعد المائتين.


فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها أقوال :

الأول ـ ما رواه الترمذي عن أبى ميسرة عن عمرو بن شرحبيل عن عمر ـ والصحيح مرسل دون ذكر «عن» ، وقال بدلها : إنّ عمر رضى الله عنه قال : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء» (١). فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، فدعى (٢) عمر فقرئت عليه ، فقال : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت الآية التي في النساء (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، فدعى عمر رضى الله عنه فقرئت عليه ، فقال : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت الآية التي في المائدة (٤) : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...) الآية. فدعى عمر رضى الله عنه ، فقرئت عليه ، فقال : انتهينا.

المسألة الثانية ـ في تحقيق اسم الخمر ومعناه :

وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين :

أحدهما ـ أنّ الخمر شراب يعتصر من العنب خاصة ، وما اعتصر من غير العنب كالزبيب والتمر وغيرهما يقال لهما نبيذ ؛ قاله أبو حنيفة ، وأهل الكوفة.

الثاني ـ أن الخمر كلّ شراب ملذّ مطرب ـ قاله أهل المدينة وأهل مكة ؛ وتعلّق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمّة ذكرناها في شرح الحديث ومسائل الخلاف فلا يلتفت إليها.

والصحيح ما روى الأئمة أنّ أنسا قال : حرّمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلّا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر. خرّجه البخاري ، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ؛ وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ ، فكسروا دنانهم (٥) ، وبادروا الامتثال لاعتقادهم أنّ ذلك كلّه خمر.

__________________

(١) في ابن كثير : بيانا شافيا.

(٢) في ا : فدنا ، وهو تحريف طبعي ، وفي ل : فدعا ، والمثبت من ابن كثير.

(٣) سورة النساء ، آية ٤٣

(٤) سورة المائدة ، آية ٩١

(٥) الدنان : جمع دن.


وصح عن عمر رضى الله عنه أنه قال على المنبر : إنّ تحريم الخمر نزل ، وهي من خمسة [٧٦] : العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير.

والخمر ما خامر العقل ، وقد استوفينا القول في المسألة في مسائل الخلاف اشتقاقا وأصولا وقرآنا وأخبارا.

المسألة الثالثة (١) ـ الميسر : ما كنّا نشتغل به بعد أن حرّمه الله تعالى ، فما حرّم الله فعله وجهلناه حمدنا الله تعالى عليه وشكرناه.

المسألة الرابعة ـ هل حرمت الخمر بهذه الآية أم لا؟

قال الحسن : حرّمت الخمر بهذه الآية. وقالت الجماعة : حرّمت بآية المائدة. والصحيح أنّ آية المائدة حرّمتها.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ).

وقد احتجّ بعض علمائنا بهذه الآية على تحريم الخمر ؛ لأنّ الله تعالى قال : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ). وقال في سورة الأعراف (٢) : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ). فلما تناول التحريم الإثم ، وكان الإثم من صفات الخمر وجب تحريمها.

وهذا إنما كان يصحّ التعلّق به لو كان نزول قوله تعالى (٣) : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ). فلا يقضى عليه من ذلك بتحريم.

المسألة السادسة ـ ما هذا الإثم؟

فيه قولان :

أحدهما ـ أنّ الإثم ما بعد التحريم ، والمنفعة قبل التحريم.

الثاني ـ أنّ إثمها كانوا إذا شربوا سكروا فسبّوا وجرحوا وقتلوا.

والصحيح أنها إثم في الوجهين ، وتمامها فيما بعد إن شاء الله.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ).

في ذلك ثلاثة مذاهب : الأول أنها ربح التجارة. والثاني السرور واللذة. والثالث

__________________

(١) في ا : المسألة الثانية ، وهو تصحيف.

(٢ ـ ٣) سورة الأعراف ، آية ٣٣


قال قوم من المبتدعة : ما فيها من منفعة البدن ؛ لحفظ الصحة القائمة أو جلب الصحة الفانية بما تفعله من تقوية المعدة وسريانها في الأعصاب (١) والعروق ، وتوصّلها إلى الأعضاء الباطنة الرئيسية ، وتجفيف الرطوبة ، وهضم الأطعمة الثّقال وتلطيفها.

والصحيح أنّ المنفعة هي الربح ؛ لأنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح كثير.

وأما اللذة فهي مضرّة عند العقلاء ؛ لأنّ ما تجلبه من اللذة لا يفي بما تذهبه من التحصيل والعقل ، حتى إنّ العبيد الأدنياء وأهل النقص كانوا يتنزّهون عن شربها لما فيها من إذهاب شريف العقل ، وإعدامها فائدة التحصيل والتمييز.

وأما منفعة إصلاح البدن فقد بالغ فيها الأطبّاء حتى إنى تكلّمت يوما مع بعضهم في ذلك ، فقال لي : لو جمع سبعون عقارا ما وفى بالخمر في منافعها ، ولا قام في إصلاح البدن مقامها.

وهذا مما لا نشتغل به لوجهين :

أحدهما ـ أنّ الذين نزل تحريم الخمر عليهم لم يكونوا يقصدون به التداوى حتى نعتذر عن ذلك لهم.

الثاني ـ أنّ البلاد التي نزل أصل تحريم الخمر فيها كانت بلاد جفوف وحرّ ؛ وضرر الخمر فيها أكثر من منفعتها ؛ وإنما يصلح الخمر عند الأطباء للأرياف والبطاح والمواضع الرطبة ، وإن كانت فيها منفعة من طريق البدن ففيها مضرّة من طريق الدّين ، والباري تعالى قد حرّمها مع علمه بها فقدرها كيف شئت ، فإنّ خالقها ومصرفها قد حرّمها.

وقد روى مسلم (٢) عن طارق بن سويد الجعفىّ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه وكره أن يصنعها. قال : إنما أصنعها للدواء. قال : ليس بدواء ، ولكنه داء.

وروى (٣) أيضا عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر : أتتّخذ خلّا؟ قال : لا. وروى ذلك عن جماعة.

فإن قيل : وكيف يجوز أن يرد الشرع بتحريم ما لا غنى عنه ولا عوض منه؟ هذا مناقض للحكمة.

فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) في ل : في الأعضاء.

(٢ ـ ٣) صحيح مسلم : ١٥٧٣


أحدها ـ أنّا لا نقول إنه لا غنى عنها ولا عوض منها ؛ بل للمريض عنها ألف غنى ، وللصحيح والمريض منها عوض من الخلّ ونحوه.

الثاني ـ أن نقول : لو [٧٧] كانت لا غنى عنها ولا عوض منها لما امتنع تحريمها ، ولا استحال أن يمنع الباري تعالى الخلق منها لثلاثة أدلّة (١) :

الأول ـ أنّ للباري تعالى أن يمنع المرافق كلّها أو بعضها ، وأن يبيحها ، وقد آلم الحيوان وأمرض الإنسان.

الثاني ـ أنّ التطبّب غير واجب بإجماع من الأمّة ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال : يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا من غير حساب ، وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون (٢) ولا يتطيّرون ، وعلى ربّهم يتوكّلون.

الثالث ـ أنه لو كان فيها صلاح بدن لكانت فيها ضراوة وذريعة إلى فساد العقل ، فتقابل الأمران ، فغلب المنع لما لنا في ذلك من المصلحة المنبّه (٣) عليها في سورة المائدة.

المسألة الثامنة ـ اختلف العلماء فيما لو استهلكت في الأطعمة والأدوية ؛ هل يجوز استعمال ذلك الطعام أو ذلك الدواء أم لا؟ فأجازه ابن شهاب ، ومنعه غيره ، وتردّد علماؤنا في ذلك.

والصحيح أنه لا يجوز ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إنها ليست بدواء ، ولكنها داء.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

وفي تأويل ذلك قولان :

أحدهما ـ أنّ الإثم بعد التحريم أكبر من المنفعة قبل التحريم ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنّ الإثم فيما يكون عنها من فساد العمل عند ذهاب العقل أكثر من منفعة اللذّة والربح ؛ قاله سعيد بن جبير ، وزاد بأنّ ذلك لما نزل تورّع عنها قوم من المسلمين

__________________

(١) في ل : لثلاثة أوجه.

(٢) يسترقون : يستعملون الرقية : العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات ، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها وفي بعضها النهى عنها (النهاية).

(٣) في ا : المبنية عليها ، صوابه من ل.


وشربها آخرون للمنفعة ، يعنى لأجل المنفعة المذكورة فيها لا لمنفعة البدن كما قدمنا ، حتى نزلت (١) : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى).

فإن قيل : كيف شربت بعد قول الله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، وبعد قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)؟ وكيف تعاطى مسلم ما فيه مأثم؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما ـ أنّ الله تعالى إنما أراد بالإثم في هذه الآية ما يؤول إليه شربها لا نفس شربها.

فمن فعل حينئذ ذلك الذي يؤول إليه فقد أثم بما فعل من ذلك لا بنفس الشرب ، وإن لم يفعل ذلك الذي يؤول إليه لما كان عليه حينئذ إثم ؛ فكان هذا مقصد القول على وجه الورع لا على وجه التحريم ؛ فقبله قوم فتورّعوا ، وأقدم آخرون على الشرب حتى حقّق الله تعالى التحريم ، فامتنع الكلّ ، ولو أراد ربّك التحريم لقال لعمر أولا ما قال له آخرا حتى قال : انتهينا.

الثاني ـ أن الله سبحانه لما ذكر ما فيها من الإثم الموجب للامتناع وقرنه بما فيها من المنفعة المقتضية للإقدام فهم قوم من ذلك التخيير بين الحالين ، ولو تدبّروا قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لغلب الورع ؛ فأقدم وتورّع من تورّع ، حتى نزلت آية التحريم الباحثة الكاشفة لتحقيقه ، ففهمها الناس ، وقال عمر رضى الله عنه : انتهينا ، وأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى بتحريم الخمر.

الآية الثامنة والخمسون ـ على اختلاف في التعداد ـ قوله تعالى (٢) : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

اختلف العلماء فيها على ستة أقوال :

الأول ـ أنه ما فضل عن الأهل ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ الوسط من غير تبذير ولا إسراف ؛ قاله الحسن.

الثالث ـ ما سمحت به النفس ؛ قاله ابن عباس أيضا.

الرابع ـ الصدقة عن ظهر غنى (٣) ؛ قاله مجاهد.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٤٣

(٢) الآية التاسعة عشرة بعد المائتين.

(٣) عن ظهر غنى : ما فضل عن قوت العيال وكفايتهم (النهاية).


الخامس ـ صدقة الفرض ؛ قاله مجاهد أيضا.

السادس ـ أنها منسوخة بآية الزكاة ؛ قاله ابن عباس أيضا.

(التنقيح) قد (١) بيّنا أقسام العفو في مورد اللغة عند ما فسرنا قوله تعالى (٢) : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ، فلينظر هنالك. وأسعد هذه الأقوال [بالتحقيق] (٣) وبالصحة ما عضدته اللغة ، وأقواها عندي الفضل ، للأثر المتقدم.

[وللنظر] (٤) ، وهو أن الرجل إذا تصدّق بالكثير ندم واحتاج ، فكلاهما مكروه شرعا ، فإعطاء اليسير حالة بعد حالة أوقع في الدّين وأنفع في المال ؛ وقد جاء أبو لبابة إلى النبي صلى الله عليه [٧٨] وسلم بجميع ماله ، وكذلك كعب ، فقال لهما : الثلث.

الآية التاسعة والخمسون ـ على اختلاف التعداد ـ قوله تعالى (٥) :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى أنه لما نزلت (٦) : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ...) الآية تحرّج الناس عن مخالطتهم في الأموال واعتزلوهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٧) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ، يعنى قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم فكان إذنا في ذلك مع صحّة القصد في أن يكون المقصد رفق اليتيم لا أن يقصد رفق نفسه.

المسألة الثانية ـ في البحث عن اليتيم : هو في اللغة عبارة عن المنفرد من أبيه ، وقد يطلق فيها على المنفرد من أمه ؛ والأول أظهر لغة ، وعليه وردت الأخبار والآثار ، ولأن الذي فقد أباه عدم النّصرة ، والذي فقد أمّه عدم الحضانة ، وقد تنصر الأمّ لكن نصرة الأب أكثر ، وقد يحضن الأب لكن الأم أرفق حضانة.

المسألة الثالثة ـ إذا بلغ اليتيم زال عنه اسم اليتم لغة ، وبقي على حكم اليتم في عدم الاستبداد بالتصرف حتى يؤنس منه الرّشد ؛ ويأتى بيانه في سورة النساء.

__________________

(١) صفحة ٦٦

(٢) سورة البقرة ، آية ١٧٨

(٣) من ل.

(٤) ليس في ل.

(٥) الآية العشرون بعد المائتين.

(٦) سورة النساء ، آية ١٠


المسألة الرابعة ـ لما أذن الله تعالى للناس في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر لهم وفيهم ـ كان ذلك دليلا على جواز التصرّف للأيتام كما يتصرّف للأبناء ، وفي الأثر : ما كنت تؤدّب منه ولدك فأدّب منه يتيمك ، ولأجل ذلك قال بعض علمائنا : إنه يجوز للحاضن أن يتصرف في مال اليتيم تصرّف الوصىّ في البيع والقسمة وغير ذلك ، وقد بيناه في مسائل الفروع ، وبه أقول وأحكم ، فينفذ بنفوذ فعله له في القليل والكثير على الإطلاق لهذه الآية. والله أعلم.

المسألة الخامسة ـ إذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره ، جاز عليه فعله ، كما قدمناه ، وإن لم يقدمه وال عليه ؛ لأن الآية مطلقة ، ولأن الكفالة ولاية عامة.

واعلموا أنه لم يؤثر على أحد من الخلفاء أنّه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم ؛ وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.

وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال في اللقيط : هو حرّ ، لك ولاؤه ، وعلينا نفقته ـ يعنى بالولاء الولاية ، ليس الميراث ، كما توهمه قوم.

المسألة السادسة ـ فإن قيل : فإذا جعلتم للولىّ أن يتصرف في مال اليتيم تصرفه في مال ابنه بولاية الكفالة كما قدمتم بيانه (١) إن كان بتقديم وال عليه ، فهل ينكح نفسه من يتيمته أو يشترى من مال يتيمته؟

قلنا : إن مالكا جعل ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة ، حتى قال في الأعراب الذين يسلّمون أولادهم في أعوام المجاعة إلى الكفلة : إنهم ينكحونهم إنكاحهم.

فأما إنكاح الكافل من (٢) نفسه فسيأتى في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

وأما الشراء منه فقال مالك وأبو حنيفة : يشترى في مشهور الأقوال إذا كان نظرا له ، وهو صحيح ؛ لأنه من باب الإصلاح المنصوص عليه في الآية.

وقال الشافعى : لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع ؛ وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.

فأما ما نزعه الشافعى من منع النكاح فله فيها طرق بيانها في موضعها هنالك ؛ وأما الشراء فطريقه فيها ضعيف جدّا إلّا أن يدخل معنا في مراعاة الذرائع والتهم فينقض أصله في تركها.

فإن قيل : فلم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع ، وجوّز له ذلك من نفسه مع يتيمته؟

__________________

(١) في ل : أو.

(٢) في القرطبي (٣ ـ ٦٤) : لنفسه.


قلنا : إنما نقول يكون ذريعة لما يؤدّى من الأفعال المباحة إلى محظور منصوص عليه ، وأما ها هنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة ، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ، وكلّ أمر مخوف وكل الله تعالى فيه المكلّف إلى أمانته لا يقال فيه إنه يتذرع إلى محظور فيمنع منه (١) ، كما جعل الله سبحانه النساء مؤتمنات على فروجهن ، مع عظم ما يتركب على قولهن في ذلك من الأحكام ، ويرتبط به من الحلّ والحرمة [٧٩] والأنساب ، وإن جاز أن يكذبن. وهذا فنّ بديع فتأمّلوه واتخذوه دستورا في الأحكام وأملوه (٢) ، والله الموفق للصواب برحمته.

الآية الموفية ستين ـ قوله تعالى (٣) : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ، وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ لا يجوز العقد بنكاح على مشركة كانت كتابيّة أو غير كتابية ؛ قاله عمر في إحدى روايتيه ، وهو اختيار مالك والشافعى إذا كانت أمة.

الثاني ـ أنّ المراد به وطء من لا كتاب له من المجوس والعرب ؛ قاله قتادة.

الثالث ـ أنه منسوخ بقوله تعالى (٤) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

قال القاضي : ودرسنا (٥) الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسن (٦) الشاشي بمدينة السلام ، قال : احتجّ أبو حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابيّة بقوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ؛ ووجه الدليل من الآية أنّ الله تعالى خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة ، فلو لا أنّ نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما ؛ لأنّ المخايرة

__________________

(١) في ل : به.

(٢) في ا : فأصلوه ، والمثبت من ل.

(٣) الآية الحادية والعشرون بعد المائتين.

(٤) سورة المائدة ، آية ٥

(٥) هكذا في الأصول ، والقرطبي : ٣ ـ ٧٠

(٦) في ل : الحسين.


إنما هي بين الجائزين ، لا بين الجائز والممتنع ، ولا بين المتضادّين ؛ ألا ترى أنك لا تقول : العسل أحلى من الخلّ. والجواب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول ـ أنه تجوز المخايرة بين المتضادّين لغة وقرآنا ؛ لأنّ الله تعالى قال (١) : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً). ولا خير عند أهل النار.

وقال عمر رضى الله عنه في رسالته إلى أبى موسى : الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل.

الثاني ـ أنه تعالى قال : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) ، ثم لما لم يجز نكاح العبد المشرك للمؤمنة كذلك لا يجوز نكاح المسلم للمشركة ؛ إذ لو دلّ أحد القسمين على المراد لدلّ الآخر على مثله ؛ لأنهما إنما سيقتا في البيان مساقا واحدا.

الثالث ـ قوله تعالى : (ولأمة) لم يرد به الرقيق المملوك ؛ وإنما أراد به الآدمية والآدميات ، والآدميّون بأجمعهم عبيد الله وإماؤه ؛ قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجانى رحمه الله.

(التنقيح) : كلّ كافر بالحقيقة مشرك ؛ ولذلك يروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية ، وقال : أىّ شرك أعظم ممن يقول : عيسى هو الله أو ولده ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ؛ فإن حملنا اللفظ على الحقيقة فهو عامّ خصصته آية سورة النساء ولم تنسخه ؛ وإن حملناه على العرف فالعرف إنما ينطلق فيه لفظ المشرك على من ليس له كتاب من المجوس والوثنيين من العرب ، وقد قال الله تعالى (٢) : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). وقال (٣) : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ). فلفظ الكفر يجمعهم ، ويخصهم ذلك التقسيم.

فإن قيل : إن كان اللفظ خاصّا كما قلتم فالعلّة تجمعهم ، وهي معنى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ؛ وهذا عامّ في الكتابىّ والوثنىّ والمجوسي.

قلنا : لا نمنع في الشّرع أن تكون العلة عامّة والحكم خاصا أو أزيد من العلّة ؛ لأنها دليل في الشرع وأمارات ، وليست بموجبات.

__________________

(١) سورة الفرقان ، آية ٢٤

(٢) سورة البقرة ، آية ١٠٥

(٣) سورة البينة ، آية ١


ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) يرجع إلى الرجال في قوله تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) لا إلى النساء ؛ لأن المرأة المسلمة لو تزوّجت كافرا حكم عليها حكم الزوج على الزوجة ، وتمكّن منها ودعاها إلى الكفر ، ولا حكم للمرأة على الزّوج ؛ فلا يدخل هذا فيها ، والله أعلم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) : قال بعضهم : معناه وإن أعجبكم ، وإنما أوقعه في ذلك علمه بأنّ «لو» تفتقر إلى جواب ، ونسى أنّ «إن» أيضا تفتقر إلى جزاء.

وتأويل الكلام : لا تنكحوا المشركات ابتداء ولو أعجبكم حسنهنّ ، كما تقول : لا تكلم [٨٠] زيدا وإن أعجبك منطقه.

المسألة الثانية ـ قال محمد بن على بن حسين : النكاح بولىّ في كتاب الله تعالى ؛ ثم قرأ : ولا تنكحوا المشركين ـ بضم التاء ، وهي مسألة بديعة ودلالة صحيحة.

الآية الحادية والستون ـ قوله تعالى (١) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

فيها اثنتان وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ سبب السؤال ، وقد اختلف العلماء فيه على قولين : فروى أنس بن مالك : كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً).

فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهن ويشاربوهنّ ، وأن يكونوا في البيوت معهنّ ، وأن يفعلوا كلّ شيء ما خلا النكاح.

فقالت اليهود : ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه ، فجاء أسيد (٢) بن الحضير ، وعباد بن بشر ، فقالا : يا رسول الله ؛ ألا نخالف اليهود فنطأ النساء في المحيض؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أنه قد وجد (٣) عليهما. قال : فقاما فخرجا عنه فاستقبلتهما

__________________

(١) الآية الثانية والعشرون بعد المائتين

(٢) يقال لأبيه حضير الكتائب.

(٣) وجد عليهما : غضب.


هديّة من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث في آثارهما فسقاهما ، فعلما أنه لم يجد عليهما. وهذا حديث صحيح متفق عليه من الأئمة.

المسألة الثانية ـ كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهما لأحد أمرين ؛ إما كراهية من كثرة الأسئلة ، ولذلك كان عليه السلام يقول : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. وإما أن يكون كره الأطماع المتعلقة بالرذائل ، وإن كانت مقترنة باللذات ؛ والوطء في حالة الحيض رذيلة يستدعى عزوف النفس وعلوّ الهمة الانكفاف عنه لو كان مباحا ، كيف وقد وقع النهى عنه لا سيما ممن تحقّق في الدين علمه ، وثبت في المروءة قدمه كأسيد وعبّاد.

وقد روى عن مجاهد قال : كانوا يأتون النساء في أدبارهنّ في المحيض فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى الآية. وهذا ضعيف يأتى القول فيه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ في تفسير المحيض. وهو مفعل ، من حاض يحيض إذا سال حيضا ، تقول العرب : حاضت الشجرة والسمرة : إذا سالت رطوبتها ، وحاض السيل : إذا سال ، قال الشاعر (١) :

وحيّضت ... عليهنّ حيضات السّيول الطّواحم

وهو عبارة عن الدم الذي يرخيه الرّحم فيفيض ، ولها ثمانية أسماء :

الأول ـ حائض. الثاني ـ عارك. الثالث ـ فارك. الرابع ـ طامس. الخامس ـ دارس. السادس ـ كابر. السابع ـ ضاحك. الثامن ـ طامث.

قال مجاهد في قوله تعالى (٢) : (فَضَحِكَتْ) ، يعنى حاضت. وقال الشاعر :

ويهجرها يوما إذا هي ضاحك

وقال أهل التفسير (٣) : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) ؛ يعنى حضن ، وأنشدوا في ذلك : يأتى (٤) النساء على أطهارهنّ ولا يأتى (٥) النساء إذا أكبرن إكبارا

__________________

(١) البيت :

أجالت حصاهن الذوارى وحيضت

عليهن حيضات السيول الطواحم

وهو لعمارة بن عقيل (اللسان ـ حيض ، طحم).

(٢) سورة هود ، آية ٧١

(٣) سورة يوسف ، آية ٣١

(٤) في اللسان ـ كبر : نأتى.


المسألة الرابعة ـ المحيض ، مفعل ، من حاض ، فعن أى شيء يكون عبارة عن الزمان أم عن المكان أم عن المصدر حقيقة أم مجاز؟

وقد قيل : إنه عبارة عن زمان الحيض وعن مكانه ، وعن الحيض نفسه (١).

وتحقيقه عند مشيخة الصنعة قالوا : إن الاسم المبنىّ من فعل يفعل للموضع مفعل بكسر العين كالمبيت والمقيل ، والاسم المبنىّ منه على مفعل بفتح العين يعبّر به عن المصدر كالمضرب ، تقول : إنّ في ألف درهم لمضربا ، أى ضربا ، ومنه قوله تعالى (٢) : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ؛ أى عيشا. وقد يأتى المفعل ـ بكسر العين ـ للزمان ، كقولنا : مضرب الناقة ؛ أى زمان ضرابها.

وقد يبنى المصدر أيضا [٨١] عليه ، إلّا أنّ الأصل ما تقدم. وذلك كقوله تعالى (٣) : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ، أى رجوعكم ، وكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، أى عن الحيض.

وإذا علمت هذا من قولهم ، فالصحيح عندي أنّ كل (ف ع ل) لا بد لكل متعلق من متعلّقاته من بناء يختصّ به قصدا للتمييز بين المعاني بالألفاظ المختصة بها ، وهي سبعة : الفاعل ، والمفعول ، والزمان ، والمكان ، وأحوال الفعل الثلاثة من ماض ، ومستقبل ، وحال ، و (٤) يتداخلان ، ثم يتفرّع إلى عشرة وإلى أكثر منها بحسب تزايد المتعلقات. وكلّ واحد من هذه الأبنية يتميز بخصيصته اللفظية عن غيره تميّزه بمعناه ، وقد يتميز ببنائه في حركاته وتردّداته المتصلة وتردّداته المنفصلة ، كقولك : معه ، وله ، وبه ، وغير ذلك. فإذا وضع العربىّ أحدهما موضع الآخر جاز ، وهذا على جهة الاستعارة ، وهذا بيّن للمنصف (٥) استقصيناه من كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين ؛ فإذا ثبت هذا وقلت معنى قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) زمان الحيض صحّ ، ويكون حينئذ مجازا على تقدير محذوف دلّ عليه السبب الذي كان السؤال بسببه ، تقديره : ويسألونك عن الوطء في زمان الحيض.

وإن قلت : إنّ معناه موضع الحيض كان مجازا في مجاز على تقدير محذوفين تقديره :

__________________

(١) في ا : لنفسه ، وهو تحريف.

(٢) سورة عم ، آية ١١

(٣) سورة المائدة ، آية ٤٨.

(٤) في ل : ثم يتداخلان.

(٥) في ا : للمصنف اقتضيناه ، وهو تحريف ، والمثبت من ل.


(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، أى عن الوطء في موضع الحيض حالة الحيض ، لأنّ أصل اسم الموضع يبقى عليه وإن زال الذي لأجله سمّى به ؛ فلا بد من تقدير تحقيق في هذا الاحتمال ، لظهور المجاز فيه.

وإن قلت معناه : ويسألونك عن الحيض ، كان مجازا على تقدير محذوف واحد ، تقديره : ويسألونك عن منع الحيض ؛ وهذا كلّه متصوّر متقرّر على رواية مجاهد وثابت. ابن الدّحداح ، وحديث أنس متقدّر عليها كلّها تقديرا صحيحا ؛ فيتبين عند التنزيل فلا يحتاج إلى بسطه بتطويل.

المسألة الخامسة ـ في اعتباره شرعا الدماء التي ترخيها الرحم دم عادة ، وهو المعتبر ، ودم علّة يعتبر غالبا عند علمائنا ، وفيه خلاف ؛ وكلاهما معروف ؛ والأرحام التي ترخيها ثنتان : حامل ، وحائل ؛ [والحائل] (١) تنقسم إلى أربعة : مبتدأة ، ومعتادة ، ومختلطة ، ومستحاضة ، ثم تتفرّع بالأحوال والزمان إلى ثلاثين قسما ، بيانها في كتب المسائل ، ولكلّ حال منها حكم.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً).

فيه أربعة أقوال : الأول ـ قذر ؛ قاله قتادة ، والسدّى.

الثاني ـ دم ؛ قاله مجاهد.

الثالث ـ نجس. الرابع ـ مكروه يتأذّى بريحه وضرره أو نجاسته.

والصحيح هذا الرابع ، بدليلين : أحدهما ـ أنه يعمّها. الثاني ـ قوله تعالى (٢) : (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ).

ويصح رجوعه إلى الاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، وتقديره : يسألونك عن موضع الحيض ، قل : هو أذى ؛ فيكون رجوعه إلى حقيقة المحيض مجازا ، ويكون رجوعه إلى مجازه حقيقة ، وهذا من بديع التقدير.

__________________

(١) من م ، ل.

(٢) سورة النساء ، آية ١٠٢


المسألة السابعة ـ اختلف علماؤنا في دم الحيض ؛ فقال بعضهم : هو كسائر الدماء يعفى عن قليله. ومنهم من قال : قليله وكثيره سواء في التحريم ، رواه أبو ثابت عن ابن القاسم وابن وهب وابن سيرين (١) عن مالك ـ وجه الأول عموم قوله تعالى (٢) : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) ، وهذا يتناول الكثير دون القليل.

ووجه الثاني قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً). وهذا يعمّ القليل والكثير ، ويترجّح هذا العموم على الآخر بأنه عموم في خصوص عيّن. وذلك الأول هو عموم في خصوص حال ، وحال المعين أرجح من حال الحال ، وهذا من غريب فنون الترجيح ، وقد بيناه في أصول الفقه ، وهو مما لم نسبق إليه ولم نزاحم عليه.

المسألة الثامنة ـ جملة ما يمنع منه الحيض ويترتّب عليه من أحكام الشرع [٨٢] : وجملة ذلك خمسة :

الأول ـ أنه يمنع من كل فعل يشترط لجوازه الطهارة. الثاني ـ دخول المسجد. الثالث ـ الصوم. الرابع ـ الوطء. الخامس ـ إيقاع الطلاق.

وينتهى بالتفصيل إلى ستة عشر حكما تفسيرها في كتب الفروع.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، معناه افعلوا العزل أى اكتسبوه ، وهو الفصل بين المجتمعين عارضا لا أصلا.

المسألة العاشرة ـ اختلف العلماء في مورد العزل ومتعلقه على أربعة أقوال :

الأول ـ جميع بدنها. فلا يباشره بشيء من بدنه ؛ قاله ابن عباس ، وعائشة في قول ، وعبيدة السّلمانى.

الثالث ـ الفرج ؛ قالته حفصة ، وعكرمة ، وقتادة ، والشعبي ، والثوري ، وأصبغ.

الرابع ـ الدّبر ؛ قاله مجاهد ، وروى عن عائشة معناه.

فأما من قال : إنه جميع بدنها فتعلّق بظاهر قوله تعالى : (النساء) ؛ وهذا عام فيهن في جميع أبدانهن ، والمروىّ في الصحيح عن عائشة رضى الله عنها قالت (٣) : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معى وأنا حائض وبيني وبينه ثوب. وقالت أيضا (٤) : كانت إحدانا إذا

__________________

(١) في ل : ابن أشرس.

(٢) سورة الأنعام ، آية ١٤٥

(٣) صحيح مسلم : ٢٤٣

(٤) صحيح مسلم : ٢٤٢


كانت حائضا : أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتزر في فور (١) حيضتها ثم يباشرها. قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ وهذا يقتضى خصوص النبىّ صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة. وقد روى عن بدرة مولاة ابن عباس قالت : بعثتني ميمونة بنت الحارث وحفصة بنت عمر إلى امرأة ابن عباس رضى الله عنهم ، وكانت بينهما قرابة من جهة النساء. فوجدت فراشه معتزلا فراشها ، فظننت أن ذلك عن الهجران ، فسألتها فقالت : إذا طمثت اعتزل فراشي ؛ فرجعت فأخبرتها بذلك فردّتنى إلى ابن عباس وقالت : تقول لك أمّك : أرغبت عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها حائض ، وما بينها وبينه إلّا ثوب ما يجاوز الركبتين.

وهذا إن صحّ عن ابن عباس فإنما كان ذلك على معنى الراحة من مضاجعة المرأة في هذه الحالة.

وأما من قال : ما بين السرّة إلى الركبة فهو الصحيح ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عما يحلّ من الحائض. فقال : لتشدّ عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها.

وأما من قال : إنه الفرج خاصة فقوله في الصحيح : افعلوا كلّ شيء إلا النكاح. وأيضا فإنه حمل الآية على حماية الذرائع (٢) ، وخصّ الحكم ـ وهو التحريم ـ بموضع العلّة وهو الفرج ؛ ليكون الحكم طبقا للعلّة يتقرّر العلة إذا أوجبته خاصة ، فإذا أثارت العلة نطقا تعلّق الحكم بالنطق وسقط اعتبار العلة ، كما بينا في السعى من قبل ؛ فإنه كان الرمل (٣) فيه لعلة إظهار الجلد للمشركين ؛ ثم زالت ، ولكن شرعه النبي صلى الله عليه وسلم دائبا يثبت بالقول والفعل مستمرا ، ولذلك أمثلة في الفروع وأدلة في الأصول.

وأما من قال : الدبر ، فروى المقصّرون الغافلون عن عائشة رضى الله عنها : إذا حاضت المرأة حرم حجراها ، وهذا باطل ذكرناه لنبيّن حاله.

__________________

(١) أى في وقت كثرتها.

(٢) في ل : الذريعة.

(٣) الرمل ـ محركة : الهرولة.

والطائف بالبيت يرمل رملانا اقتداء بالنبي الله عليه وسلم وبأصحابه ، وذلك بأنهم رملوا ليعلم أهل مكة أن بهم قوة. والرمل في السعى : أن يسرع في المشي (اللسان ـ رمل).


وأما من قال : افعلوا كلّ شيء إلا النكاح ، فمعناه الإذن في الجماع ؛ ولم يبين محلّه ، وقوله : شأنك بأعلاها ، بيان لمحلّه.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (النِّساءَ) فذكرهنّ بالألف واللام المحتملة للجنس والعهد ، وقد بيّنا حكمها في أصول الفقه ، فإن حملتها على العهد صحّ ؛ لأن السؤال وقع عن معهود من الأزواج ، فعاد الجواب [٨٣] عليه طبقا ، وإن حملتها على الجنس جاز ويكون الجواب أعمّ من السؤال ، فيكون قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) عامّا في كل امرأة زوجا أو غير زوج ، خاصا في حال الحيض ، وتكون الزوجة محرّمة في حال الحيض بالحيض ، وتكون الأجنبيات محرمات في حال الحيض بالأجنبية وبالحيض جميعا ، ويتعلق التحريم بالعلتين ، وقد بيّنا في أصول الفقه ومسائل الخلاف جواز تعلق الحكم الشرعىّ بعلّتين.

المسألة الثانية عشرة : (فِي الْمَحِيضِ) ، وهو مرتّب على الأول في جميع وجوهه ، فاعتبره بما فيه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ).

سمعت فخر الإسلام أبا بكر محمد بن أحمد الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل لا تقرب ـ بفتح الراء ـ كان معناه لا تلبّس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه.

وأما مورده فهو مورد (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) ، وهو محمول عليه في جميع وجوهه ، لكن بإضمار بعد إضمار ، كقولك مثلا : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، أى في مكان الحيض ، ولا تقربوهن فيه ، وركّبوا عليها باقيها.

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ).

حتى بمعنى الغاية ، وهو انتهاء الشيء وتمامه ، وفرق بينهما وبين القاطع للشيء قبل تمامه كثير ، مثاله أنّ الليل ينتهى بإقباله الصوم ، وبالسلام تنتهي الصلاة ، وبوطء الزوج الثاني ينتهى تحريم النكاح على الزوج الأول كما تقدم بيانه في سورة البقرة ، وتحقيقه في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة عشرة ـ في حكم الغاية ، وهو أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها ، وقد تردد في ذلك علماؤنا ، والمسألة مشكلة جدّا ، وقد بيناها في موضعها من أصول الفقه ، والله أعلم.


المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ).

المسألة (١) السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ).

وهما ملتزمتان ، وقد اختلف الناس فيه اختلافا متباينا نطيل النفس فيه قليلا ؛ وفيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن معنى قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) : حتى ينقطع دمهن ؛ قاله أبو حنيفة ، ولكنه ناقض (٢) في موضعين ؛ قال : إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حينئذ تحلّ ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتى يمضى وقت صلاة كامل.

الثاني ـ لا يطؤها حتى تغتسل بالماء غسل الجنابة ؛ قاله الزهري وربيعة والليث ومالك وإسحاق وأحمد وأبو ثور.

الثالث ـ تتوضأ للصلاة ؛ قاله طاوس ومجاهد.

فأما أبو حنيفة فينقض قوله بما ناقض فيه ؛ فإنه تعلق بأن الدم إذا انقطع لأقلّ الحيض لم يؤمن عودته.

قلنا : ولا تؤمن عودته إذا مضى وقت صلاة ، فبطل ما قلته.

والتعلّق بالآية يدفع من وجهين :

أحدهما ـ أن الله تعالى قال : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ـ مخففا. وقرئ حتى يطّهّرن مشددا. والتخفيف وإن كان ظاهرا في استعمال الماء فإن التشديد فيه أظهر ، كقوله تعالى (٣) : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ؛ فجعل ذلك شرطا في الإباحة وغاية للتحريم.

فإن قيل : المراد بقوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) حتى ينقطع عنهن الدم ؛ وقد يستعمل التشديد موضع التخفيف ، فيقال : تطهر بمعنى طهر ، كما يقال : قطّع وقطع ، ويكون هذا أولى ، لأنه لا يفتقر إلى إضمار ، ومذهبكم يفتقر إلى إضمار قولك بالماء.

قلنا : لا يقال اطّهرت المرأة بمعنى انقطع دمها ، ولا يقال قطع ـ مشددا بمعنى قطع مخففا ، وإنما التشديد [بمعنى] (٤) تكثير التخفيف.

__________________

(١) في ا : المسألة السابعة عشرة.

(٢) في ا : قاله أبو حنيفة والشافعى في موضعين.

(٣) سورة المائدة ، آية ٦

(٤) من ل.


جواب آخر ـ وهو أنه قد ذكر بعده ما يدلّ على المراد ، فقال : فإذا تطهّرن ، والمراد بالماء.

والظاهر أن ما بعد الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها ، فيكون قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) مخففا ، وهو معنى قوله يطّهرن ـ مشددا ـ بعينه ، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية ، كما قال تعالى (١) : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). وقال الكميت :

وما كانت [٨٤] الأبصار فيها أذلة

ولا غيّبا فيها إذا الناس غيّب (٢)

وقيل : إن قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ابتداء كلام لا إعادة لما تقدم ، ولو كان إعادة لاقتصر على الأول فقال : حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله خاصة ، فلما زاد عليه دل على أنه استئناف حكم آخر.

فالجواب أن هذا خلاف الظاهر ؛ فإنّ المعاد في الشرط هو المذكور في الغاية ، بدليل ذكره بالفاء ، ولو كان غيره لذكره بالواو. وأما الزيادة عليه فلا تخرجه عن أن يكون بعينه ؛ ألا ترى أنه لو قال : لا تعط هذا الثوب زيدا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فأعطه الثوب ومائة درهم ، لكان هو بعينه ، ولو أراد غيره لقال : لا تعطه حتى يدخل الدار ، فإذا دخل وجلس فافعل كذا وكذا ؛ هذا طريق النظم في اللسان (٣).

جواب آخر ـ وذلك أن قولهم : إنّا لا نفتقر في تأويلنا إلى إضمار ؛ وأنتم تفتقرون إلى إضمار.

قلنا : لا يقع بمثل هذا ترجيح ؛ فإن هذا الإضمار من ضرورة الكلام ، فهذا كالمنطوق به.

جواب ثالث ـ وهو المتعلق (٤) الثاني من الآية : إنا نقول : نسلم أن قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أن معناه حتى ينقطع دمهنّ ، لكنه لمّا قال بعد ذلك : فإذا تطهرن ، معناه فإذا اغتسلن بالماء تعلق الحكم على شرطين :

أحدهما ـ انقطاع الدم. الثاني ـ الاغتسال بالماء ، فوقف الحكم وهو جواز الوطء على الشرطين ، وصار ذلك كقوله تعالى (٥) : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ، فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين:

__________________

(١) سورة التوبة ، آية ١٠٨

(٢) غيب : غائبون.

(٣) يريد اللغة.

(٤) في ا : التعلق.

(٥) سورة النساء ، آية ٦


أحدهما ـ بلوغ النكاح. والثاني ـ إيناس الرّشد ؛ فوقف عليهما ولم يصح ثبوته بأحدهما ، وكذلك قوله تعالى في المطلقة ثلاثا (١) : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). ثم جاءت السنّة باشتراط الوطء ؛ فوقف التحليل على الأمرين جميعا ، وهما انعقاد النكاح ، ووقوع الوطء ، وعلى هذا عوّل الجويني.

فإن قيل : هذا حجة عليكم ؛ فإنه مدّ التحريم إلى غاية ، وهي انقطاع الدم ، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، فوجب أن يحصل الجواز بعد انقطاع الدم لسبب حكم الغاية.

قلنا : إنما يكون حكم الغاية مخالفا لما قبلها إذا كانت مطلقة ، فأمّا إذا انضمّ إليها شرط آخر فإنما يرتبط الحكم بما وقع القول عليه من الشرط ، كقوله تعالى (٢) : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ؛ وكقوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وكما بيناه.

فإن قيل : ليس هذا تجديد شرط زائد ، وإنما هو إعادة للكلام ، كما تقول : لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فأعطه ؛ وحمله على هذا أولى من وجهين : أحدهما ـ أنه يحفظ حكم الغاية ويقرّها على أصلها. والثاني ـ أنّ الظاهر من لفظ الشرط أنه المذكور في الغاية.

فالجواب عنه من تسعة أوجه :

أحدها ـ أنا نقول : روى عطية عن ابن عباس أنه قال : فإذا تطهّرن بالماء ، وهو قول مجاهد وعكرمة.

الثاني ـ أنّ تطهّر لا يستعمل إلّا فيما يكتسبه الإنسان وهو الاغتسال بالماء ، فأما انقطاع الدم فليس بمكتسب.

فإن قيل : بل يستعمل تفعّل في غير الاكتساب ، كما يقال : تقطّع الحبل ، وكما يقال في صفات الله سبحانه : تجبّر وتكبّر ، وليس في ذلك اكتساب ولا تكلّف. فالجواب عنه من أوجه : أحدها ـ أنّ الظاهر من اللغة ما قلناه ، وقوله : تقطّع الحبل نادر ، فلا يقاس عليه حكم.

جواب آخر : هبكم سلّمنا لكم أنه مستعمل ، ففي مسألتنا لا يستعمل ، فلا يقال

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٠

(٢) سورة النساء ، آية ٦


تطهّرت المرأة بمعنى انقطع دمها. وإذا لم يجز استعماله في مسألتنا لم يقع استعماله في غيرها ، وهذه نكتة بديعة من المجاز ؛ وذلك أنه إنما يحمل اللّفظ [٨٥] على الشيء إذا كان مستعملا على سبيل المجاز. وأما (١) مجاز استعمل في موضع آخر فلا يجوز أن يجعل طريقا إلى تأويل اللفظ فيما لم يستعمل فيه ؛ وفي ذلك الموضع إنما حملناه على ذلك للضرورة ، وهو أنّ الجمادات (٢) لا توصف بالاكتساب للأفعال وتكلّفها ، ولذلك (٣) يستحيل في صفات الله تعالى وفي أفعاله التكلّف ، فحمل اللفظ على ما وضع له من أجل الضرورة ، وهذا لا يوجب خروجه عن مقتضاه لغير ضرورة. وهذا جواب القاضي أبى الطيب الطبري.

جواب ثالث ـ قال تعالى في آخر الآية : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، فمدحهنّ وأثنى عليهن ، فلو كان المراد به انقطاع الدم ما كان فيه مدح ؛ لأنه من غير عملهنّ ، والباري ـ سبحانه ـ قد ذمّ على مثل هذا فقال (٤) : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا).

فإن قيل : هذا ابتداء كلام ، وليس براجع إلى ما تقدّم ، بدليل قوله تعالى : (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ، ولم يجر للتوبة ذكر.

قلنا : سيأتى الجواب عنه إن شاء الله.

جواب رابع عن أصل السؤال ـ وهو قولهم : إنما حملنا الآية على هذا كما قد حفظنا موجب الغاية ومقتضاها ، فهذا لو اقتصر على الغاية ، فأما إذا قرن بها الشرط فذلك لا يلزم كما تقدّم.

جواب خامس ـ وهو أنّا نقول : إن كنّا نحن قد تركنا موجب الغاية فقد حملتم أنتم اللفظ على التكرار ، فتركتم فائدة عوده ، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجدّدة لم يحمل على التكرار في كلام الناس ، فكيف كلام العليم الحكيم؟

جواب سادس ـ ليس حملكم قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) على قوله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بأولى من حملنا قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على قوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ؛ فوجب أن يقرن كل لفظ منه على مقتضاه ؛ هذا جواب أبى إسحاق الشيرازي.

__________________

(١) في ا : فأما.

(٢) في ا : الجماعات.

(٣) في ل : وذلك.

(٤) سورة آل عمران ، آية ١٨٨


جواب سابع ـ وذلك أنّا إذا حملنا اللفظ على الطهارة بالماء كنّا قد حفظنا الآية من التخصيص والأدلة من التناقض ؛ وإذا حملنا (تَطَهَّرْنَ) على انقطاع الدم كنّا قد خصصنا الآية وتحكمنا على معنى لفظها بما لا يقتضيه ولا يشهد له فرق فيه (١) ، وتناقضنا في الأدلة ؛ والذي قلناه أولى. هذا جواب الإمام أبى بكر بن العربي.

وجواب ثامن ـ وهو أنّ المفسّرين اتفقوا على أن المراد بالآية التطهّر بالماء ؛ فالمعوّل عليه هنا جواب الطوسي وهو أضعفها ؛ وقد كانت المسألة عنده ضعيفة عند لقائنا له ، وقد حصلنا فيها القوة والنصرة بحمد الله تعالى من كلّ إمام وفي كل طريق.

جواب تاسع ـ قولهم : إنّ الظاهر من اللفظ المعاد في الشرط أن يكون بمعنى الغاية إنما ذلك إذا كان معادا بلفظ الأول ؛ أما إذا كان معادا بغير لفظه فلا ، وهو قد قال هاهنا : حتى يطهرن ـ مخففا ، ثم قال في الذي بعده : إذا تطهّرن ـ مشدّدا ، وعلى هذه القراءة كان كلامنا ، فوجب أن يكون غيره كما في آية التيمّم.

فإن قيل ـ وهو آخر أسئلة القوم وأعمدها : القراءتان كالآيتين ، فيجب أن يعمل بهما ، ونحن نحمل كلّ واحدة منهما على معنى فتحمل المشدّدة على ما إذا انقطع دمها للأقل (٢) ، فإنا لا نجوّز وطأها حتى تغتسل ، وتحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر (٣) ، فنجوّز وطأها وإن لم تغتسل.

قلنا : قد جعلنا القراءتين حجّة لنا ، وبيّنا وجه الدليل من كل واحدة منهما ؛ فإن قراءة التشديد تقتضي التطهّر بالماء ، وقراءة التخفيف أيضا موجبة لذلك كما بيناه.

جواب ثان ـ وذلك أنّ إحدى القراءتين أوجبت انقطاع الدم ، والأخرى أوجبت الاغتسال بالماء ، كما أنّ القرآن اقتضى تحليل المطلقة ثلاثا للزوج الأول بالنكاح ، واقتضت السنة [٨٦] التحليل بالوطء ، فجمعنا بينهما.

فإن قيل : إذا اعتبرتم القرائتين هكذا كنتم قد حملتموها على فائدة واحدة ، وإذا اعتبرناها نحن كما قلنا حملناها على فائدتين متجدّدتين ، وهي اعتبار انقطاع الدم في قوله تعالى :

__________________

(١) في ل : ولا يشهد للفرق فيه.

(٢) في ل : الأقل.

(٣) في ل : الأكثر.


تطهّرن (١) في أكثر الحيض ، واعتبار قوله : يطهر في الأقل.

قلنا : نحن وإن كنا قد حملناهما على معنى واحد فقد وجدنا لذلك مثالا في القرآن والسنة ، وحفظنا نطق الآية ولم نخصه (٢) ، وحفظنا الأدلة فلم ننقضها ؛ فكان تأويلنا يترتّب على هذه الأصول الثلاثة ؛ فهو أولى من تأويل آخر يخرج عنها.

جواب آخر ـ وذلك أنّ ما ذكرتموه من الجمع يقتضى إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر ، وما قلنا يقتضى الحظر ؛ وإذا تعارض باعث الحظر وباعث الحظر وباعث الإباحة غلّب باعث الحظر ، كما قال عثمان وعلىّ رضى الله عنهما في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، والتحريم أولى.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، ثم قال : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، وهو زمان الحيض ، ومتى انقطع الدّم لدون أكثر الحيض فالزمان باق ، فبقى النهى ، وهذا اعتراض أبى الحسن القدورى.

أجاب القاضي أبو الطيب الطبري فقال : [المحيض] (٣) هو الحيض بعينه ، بدليل أنه يقال : حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ، فلا يكون لهم فيه حجّة.

وأجاب عنه أبو إسحاق الشيرازي بأن قال : أراد بقوله : المحيض نفس الحيض ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً).

فإن قيل : بهذا نحتجّ ؛ فإنه إذا زال الدم زال الأذى ؛ فجاز الوطء ؛ فإنّ الحكم إذا ثبت لعلّة زال بزوالها.

قلنا : هذا ينتقض بما إذا انقطع الدم لأقلّ الحيض ؛ فإنه زالت العلة ولم يزل الحكم ؛ وذلك لفقه ؛ وهو أن الله تعالى بيّن علّة التحريم ، وهو وجود الأذى ، ثم لم يربط زوال الحكم بزوال العلة حتى ضمّ إليه شرطا آخر ، وهو الغسل بالماء ؛ وذلك في الشرع كثير.

وأما طاوس ومجاهد فالكلام معهما سهل ؛ لأنه (٤) خلاف لظاهر القرآن على القولين جميعا ، وهما تفسير الطهر بالانقطاع أو الاغتسال ؛ ولذلك حملنا قوله تعالى (٥) : (فَاطَّهَّرُوا)

__________________

(١) في ا : حتى يطهرن ، والمثبت من ل.

(٢) في ل : ولم نخصص به.

(٣) ليس في ل.

(٤) في ل : ولا خلاف لظاهر القرآن.

(٥) سورة المائدة ، آية ٦


على الاغتسال في الجملة ؛ فأىّ فرق بين اللفظين أو المسألتين؟

ويدلّ عليهما من طريق المعنى أن نقول : الحيض معنى يمنع الصوم ؛ فكان الطهر الوارد فيه محمولا على جميع الجسد أصله الجنابة.

وأما داود فإنا لم نراع خلافه ؛ لأنه إن كان يقول بخلق القرآن ويضلّل أصحاب محمد في استعمالهم القياس كفّرناه ؛ فإن راعينا إشكال سؤاله قلنا : هذا الكلام هو عكس الظاهر ؛ لأن الله تعالى قال : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) وهذا ضمير النساء ؛ فكيف يصحّ أن يسمع الله تعالى يقول (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فيقول : إنّ وطأها جائز ، مع أنّ الطهارة عليها واجبة ؛ فيبيح الوطء قبل وجود غايته التي علّق جواز الوطء عليها. واعتبر ذلك بعطف قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) ؛ على قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) تجده صحيحا ؛ فإن كان المراد اعتزلوا جملة المرأة كان قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) عامّا فيها ، فيكون قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) راجعا إلى جملتها ، وإن كان المراد بقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا) أسفلها من السرّة إلى الركبة وجب عليه أن يقول : حتى يطهر ذلك الموضع كلّه ؛ ولا يصح له ؛ لأنه كان نظام الكلام لو أراد ذلك حتى يطهّرنه ، وكذلك لو كان المراد فاعتزلوا الفرج سواء بسواء.

فإن قيل : قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً) ، فإذا زال الأذى جاز الوطء.

قلنا : عنه جوابان :

أحدهما ـ أنه لو كان الاعتبار بزوال الأذى ما وجب غسل الفرج عندك ، لأنّ الأذى قد زال بالجفوف أو القصّة البيضاء (١) ، فغسل الفرج إذ ذاك يكون وقد زالت العلّة [٨٧] ولم يبق له أثر ، فلا فائدة فيه ، فدلّ أنّ الاعتبار بحكم الحيض لا بوجوده.

الثاني ـ أنه علّل بكونه أذى ، ثم منع القربان حتى تكون الطهارة من الأذى ، وهذا بيّن.

المسألة الثامنة عشرة ـ قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَ).

معناه فجيئوهن ، أو يكون ذلك كناية عن الوطء ، كما كنّى عنه بالملامسة في قول ابن عباس : إنّ الله حيىّ كريم يعفو ويكنى ، كنّى باللمس عن الجماع.

__________________

(١) القصة البيضاء : أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها الحائض كأنها قصة لا يخالطها صفرة. وقيل : القصة : شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله (النهاية).


وأما مورده فقد كان يتركّب على قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا) لو لا قوله : من حيث أمركم الله ، فإنه خصّصه وهي :

المسألة التاسعة عشرة ـ وفيها ستة أقوال :

الأول ـ من حيث نهوا عنهنّ. الثاني ـ القبل ؛ قاله ابن عباس ومجاهد في أحد قوليه.

الثالث ـ من جميع بدنها ؛ قاله ابن عباس أيضا. الرابع ـ من قبل طهرهن ؛ قاله عكرمة وقتادة. الخامس ـ من قبل النكاح ؛ قاله ابن الحنفية. السادس ـ من حيث أحلّ الله تعالى لكم الإتيان ، لا صائمات (١) ولا محرمات ولا معتكفات ؛ قاله الأصم.

أما الأول ـ فهو قول مجمل ؛ لأنّ النهى عنه مختلف فيه ، فكيفما كان النهى جاءت الإباحة عليه ؛ فبقى تحقيق مورد النّهى.

وأما قوله : القبل ، فهو مذهب أصبغ وغيره ؛ ويشهد له قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً). وقد تقدّم بيانه.

وأما الثالث ـ وهو جميع بدنها فالشاهد له قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) ؛ وقد تقدم.

وأما الرابع ـ وهو قوله : من قبل طهرهنّ ، فيعنى به إذا طهرن ؛ وهو قول من قال بالفرج ؛ لأنّ اشتراط الطهارة لا يكون إلّا بالفرج على ما تقدّم من صحيح الأقوال ، وإن شئت فركّبه على الأقوال كلها يتركب ؛ فما صحّ فيها صحّ فيه.

وأما الخامس ـ وهو النكاح فضعيف لما قدمناه من أن قوله تعالى : (النِّساءَ) إنما يريد به الأزواج اللواتي يختصّ التحريم فيهن بحالة الحيض.

وأما السادس ـ فصحيح في الجملة ، لأنّ كلّ من ذكر نهى الله تعالى عن وطئه ، ولكن علم ذلك من غير هذه الآية بأدلتها ؛ وإنما اختصت الآية بحال الطّهر ، كما اختص قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) يعنى في حالة الصوم والاعتكاف ، ولا يقال : إن هذا كله يخرج من هذه الآية ، وإنها مرادة به ، وإن كان محتملا له ؛ فليس كلّ محتمل في اللفظ مرادا به فيه ، وهذا من نفيس علم الأصول ، فافهمه.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (يُحِبُ) :

__________________

(١) في ا : ولا صائمات.


محبة الله هي إرادته ثواب العبد ، وقد تقدم في كتب الأصول بيانه.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله تعالى : (التَّوَّابِينَ).

التوبة : هي رجوع العبد عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ؛ وقد بيناها في كتب الأصول بشروطها.

المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (الْمُتَطَهِّرِينَ).

وفيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ المتطهّرين بالماء للصلاة. الثاني ـ الذين لا يأتون النساء في أدبارهن ؛ قاله مجاهد.

الثالث ـ الذين لا ينقضون التوبة ، طهّروا أنفسهم عن العود إلى ما رجعوا عنه من الباطل الذي كانوا فيه ؛ قاله مجاهد.

واللفظ وإن كان يحتمل جميع ما ذكر فالأول به أخصّ ، وهو فيه أظهر ، وعليه حمله أهل التأويل ، وهو المنعطف على سابق الآية المنتظم معها ، والله أعلم.

الآية الثانية والستون ـ قوله تعالى (١) : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها ، وفي ذلك روايات :

قال جابر : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول ، فنزلت الآية. وهذا حديث صحيح خرّجه (٢) الأئمة.

الثانية ـ قالت أمّ سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) قال : يأتيها مقبلة ومدبرة إذا كانت في صمام واحد. أخرجه [٨٨] مسلم (٣) وغيره.

الثالثة ـ روى الترمذي أنّ عمر رضى الله عنه جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال له : هلكت. قال : وما أهلكك؟ قال : حوّلت رحلي البارحة. فلم يردّ عليه النبىّ صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ، فقال : أقبل وأدبر ، واتق الدّبر.

المسألة الثانية ـ اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها ؛ فجوّزه طائفة كثيرة ، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن وأسند جوازه إلى زمرة

__________________

(١) الآية الثالثة والعشرون بعد المائتين.

(٢) صحيح مسلم ١٠٥٨

(٣) صحيح مسلم ١٠٥٩


كريمة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة ، وقد ذكر البخاري عن ابن عون عن نافع ، قال : كان ابن عمر رضى الله عنه إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه ، فأخذت (١) عليه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال : أتدرى فيم نزلت؟ قلت: لا. قال : أنزلت في كذا وكذا ، ثم مضى ، ثم أتبعه بحديث أيوب عن نافع عن ابن عمر : فأتوا حرثكم أنى شئتم. قال : يأتيها في ... ولم يذكر بعده شيئا.

ويروى عن الزهري أنه قال : وهل (٢) العبد فيما روى عن ابن عمر في ذلك.

وقال النسائي عن أبى النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر : قد أكثر عليك القول ، إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى بأن يأتوا النساء في أدبارهن. قال نافع : لقد كذبوا علىّ ، ولكن سأخبرك كيف كان الأمر ؛ إنّ ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ). قال : يا نافع ، هل تعلم ما أمر هذه الآية؟ قلت : لا قال لنا : كنا معشر قريش نجيء النساء ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا وإذا (٣) هنّ قد كرهن ذلك وأعظمنه ، وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

قال القاضي : وسألت الإمام القاضي الطوسي عن المسألة فقال : لا يجوز وطء المرأة في دبرها بحال ؛ لأنّ الله تعالى حرّم الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة ، فأولى أن يحرم الدبر بالنجاسة اللازمة.

الآية الثالثة والستون ـ قوله تعالى (٤) : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأول ـ في شرح العرضة :

اعلموا وفّقكم الله تعالى أن (ع ر ض) في كلام العرب يتصرّف على معان ، مرجعها إلى المنع ، لأنّ كلّ شيء اعترض فقد منع ، ويقال لما عرض في السماء من السحاب عارض ،

__________________

(١) هكذا في كل الأصول ، وفي ابن كثير صفحة ٢٦١ أول.

(٢) وهل : ذهب وهمه إليه.

(٣) في ابن كثير : فآذاهن فكرهن ذلك.

(٤) الآية الرابعة والعشرون بعد المائتين.


لأنه منع من رؤيتها ، ومن رؤية البدرين (١) والكواكب. وقد يقال هذا عرضة لك ؛ أى عدّة تبتذله في كل ما يعنّ لك. قال عبد الله بن الزبير : فهذي لأيام الحروب ، وهذه للهوى ، وهذه عرضة لارتحالنا.

المسألة الثانية ـ في المعنى ، قال علماؤنا : في ذلك ثلاثة أجوبة :

الأول ـ لا تجعلوا الحلف بالله علّة يعتلّ بها الحالف في بر أو حنث. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (٢) : لأن يلجّ (٣) أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله تعالى من أن يعطى عنها كفّارة. قال ذلك قتادة وسعيد بن جبير وطاوس.

الثاني ـ لا يمتنع من فعل خير بأن يقول : علىّ يمين أن لا يكون.

الثالث ـ لا تكثروا من ذكر الله تعالى في كل عرض يعرض ؛ قال تعالى (٤) : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) ، فذمّ كثرة الحلف.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا).

وقال بعضهم : لا تجعلوا اليمين مانعا من البر ، وهو معنى الحديث : لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله تعالى من أن يعطى كفارة عنها.

وتحقيق المعنى أنه إن حلف أوّلا كان المعنى أن تبرّوا باليمين ، وإن لم يحلف كان المعنى أن تصلحوا وتتقوا ، ويدخل أحد المعنيين على الآخر فيجتمعان ، وبيان ذلك يأتى [٨٩] في سورة النور عند قوله تعالى (٥) : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) إن شاء الله.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (٦) : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه.

وعلى الوجه الثالث يكون المعنى أن تبرّوا ، أى إن الله ينهاكم عن كثرة الحلف بالله لما في ذلك من البرّ والتقوى.

الآية الرابعة والستون ـ قوله تعالى (٧) : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ). فيها ثلاث مسائل :

__________________

(١) كأنه يريد الشمس والقمر ، كما يقال : القمرين. وفي ل : البدر.

(٢) صحيح مسلم : ١٢٧٦

(٣) يلج : يصر.

(٤) سورة القلم ، آية ١٠

(٥) سورة النور ، آية ٢٢

(٦) صحيح مسلم : ١٢٧٣ ، وفيه : فليأت الذي هو خير وليترك يمينه.

(٧) الآية الخامسة والعشرون بعد المائتين.


المسألة الأولى ـ اللّغو في كلام العرب مخصوص بكلّ كلام لا يفيد ، وقد ينطلق على ما لا يضرّ.

المسألة الثانية ـ في المراد بذلك ؛ وفيه سبعة أقوال : الأول ـ ما يجرى على اللسان من غير قصد ، كقوله : لا والله ، وبلى والله ؛ قالته عائشة ، والشافعىّ.

الثاني ـ ما يحلف فيه على الظنّ ، فيكون بخلافه ، قاله مالك. الثالث ـ يمين الغضب. الرابع ـ يمين المعصية. الخامس ـ دعاء الإنسان على نفسه ، كقوله : إن لم أفعل كذا فيلحق بي كذا ونحوه. والسادس ـ اليمين المكفر. السابع ـ يمين الناسي.

المسألة الثالثة ـ في تنقيح هذه الأقوال :

اعلموا أنّ جميع هذه السبعة الأقوال لا تخلو من قسمي اللّغو الّذين بيّناهما ، وحمل الآية على جميعها ممتنع ، لأنّ الدليل قد قام على المؤاخذة ببعضها ، وفي ذلك آيات وأخبار وآثار لو تتبّعناها لخرجنا عن مقصود الاختصار بما لا فائدة فيه من الإكثار ، والذي يقطع به اللبيب أنه لا يصحّ أن يكون تقدير الآية : لا يؤاخذكم الله بما لا مضرّة فيه عليكم ، إذ قد قصد هو الإضرار بنفسه ، وقد بيّن المؤاخذة بالقصد ، وهو كسب (١) القلب ، فدلّ على أنّ اللغو ما لا فائدة فيه ، وخرج من اللفظ يمين الغضب ويمين المعصية ، وانتظمت الآية قسمين: قسم كسبه القلب ، فهو المؤاخذ به ، وقسم لا يكسبه القلب ، فهو الذي لا يؤاخذ به ، وخرج من قسم الكسب يمين الحالف ناسيا ، فأمّا الحانث ناسيا فهو باب آخر يأتى في موضعه إن شاء الله ، كما خرج من قسم الكسب أيضا اليمين على شيء يظنّه ، فخرج بخلافه ، لأنه مما لم يقصده (٢) ، وفي ذلك نظر طويل بيانه في المسائل.

الآية الخامسة والستون ـ قوله تعالى (٣) : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها ست عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

وهي آية عظيمة الموقع جدّا يترتّب عليها حكم كبير اختلف فيه الصحابة والتابعون

__________________

(١) في ل : وهو كسبه.

(٢) هكذا في كل الأصول.

(٣) الآية السادسة والعشرون بعد المائتين.


وفقهاء الأمصار ، ودقّت مداركها حسبما ترونها من جملتها إن شاء الله.

قال عبد الله بن عباس (١) : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك ، فوقّت لهم أربعة أشهر ؛ فمن آلى أقلّ من أربعة أشهر فليس بإيلاء حكمى.

المسألة الثانية ـ الإيلاء في لسان العرب هو الحلف ، والفيء هو الرجوع ، والعزم هو تجريد القلب عن الخواطر المتعارضة فيه إلى واحد منها.

المسألة الثالثة ـ نظم الآية : للذين يعتزلون من نسائهم بالأليّة ، فكان من عظيم الفصاحة أن اختصر ، وحمل آل معنى اعتزل النساء بالألية حتى ساغ لغة أن يتصل آلى بقولك من (٢) ، ونظمه في الإطلاق أن يتّصل بآلى قولك على ، تقول العرب : اعتزلت من كذا وعن كذا ، وآليت وحلفت على كذا ، وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال ، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم : إنّ حروف الجرّ يبدل بعضها من بعض ، ويحمل بعضها [٩٠] معاني البعض ، فخفى عليهم وضع فعل مكان فعل ، وهو أوسع وأقيس ، ولجّوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام (٣) والاحتمال.

المسألة الرابعة ـ فيما يقع به الإيلاء :

قال قوم : لا يقع الإيلاء إلّا باليمين بالله وحده ، وبه يقول الشافعىّ في أحد قوليه.

الثاني ـ أنّ الإيلاء يقع بكل يمين عقد الحالف بها قوله ، وذلك بالتزام ما لم يكن لازما قبل ذلك.

وأصحاب القول الأول بنوه على الحديث (٤) : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. وقد بينّا في مسائل الفقه أنّ الحديث إنما جاء لبيان الأولى ، لا لإسقاط سواه من الأيمان ؛ بل في (٥) هذا الحديث من نص كلامنا ما يوجب أنها كلّها أيمان ؛ لقوله عليه السلام : من كان حالفا. ثم إذا كان حالفا وجب أن تنعقد يمينه.

وأما أصحاب القول الثاني ، وهو الصحيح ، فيقولون : كلّ يمين ألزمها نفسه مما لم تكن

__________________

(١) أسباب النزول : ٤٣

(٢) في ل : بقولك في.

(٣) في ل : التي تضيق فيها نطاق الاحتمال.

(٤) صحيح مسلم : ١٢٦٧

(٥) في ل : بل هو هذا الحديث.


قبل ذلك لازمة له على فعل أو ترك ، فهو بها مول ؛ لأنه حالف ، وذلك لازم صحيح شريعة ولغة.

المسألة الخامسة ـ فيما يقع عليه الإيلاء ، وذلك هو ترك الوطء ، سواء كان في حال الرضا أو الغضب عند الجمهور.

وقال الليث والشعبي : لا يكون إلّا عند الغضب ؛ والقرآن عامّ في كل حال ، فتخصيصه دون دليل لا يجوز.

وهذا الخلاف انبنى على أصل ، وهو أنّ مفهوم الآية قصد المضارّة بالزوجة وإسقاط حقّها من الوطء ، فلذلك قال علماؤنا : إذا امتنع من الوطء قصدا للإضرار من غير عذر : مرض أو رضاع وإن لم يحلف ـ كان حكمه حكم المولى ، وترفعه إلى الحاكم إن شاءت ، ويضرب له الأجل من يوم رفعه (١) ، لوجود معنى الإيلاء في ذلك ؛ فإنّ الإيلاء لم يرد لعينه ، وإنما ورد لمعناه ؛ وهو المضارّة وترك الوطء ، حتى قال علىّ وابن عباس : لو حلف ألا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا ؛ لأنه قصد صحيح لا إضرار فيه.

المسألة السادسة ـ إذا حلف على منع الكلام أو الإنفاق ، اختلف العلماء فيه. والصحيح أنه مول ؛ لوجود المعنى السابق بيانه من المضارّة ، وقد قال تعالى (٢) : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

المسألة السابعة ـ إذا حلف بالله ألّا يطأها إن شاء الله.

قال ابن القاسم : يكون موليا. وقال عبد الملك بن الماجشون : ليس بمول.

وهذا الخلاف ينبنى على أصل ، وهو معرفة فائدة الاستثناء ؛ فرأى ابن القاسم أنّ الاستثناء لا يحلّ اليمين ، وإنما هو بدل من الكفّارة ، ورأى ابن الماجشون أنه يحلّها ، وهو مذهب فقهاء الأمصار ، وهو الصحيح ؛ لأنه يتبيّن به أنه غير عازم على الفعل ، ولهذه النكتة قال مالك : إنه إذا أراد بقوله : «إن شاء الله» معنى قوله : (٣) (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، ومورد (٤) الأشياء كلّها إلى مشيئة الله تعالى فلا ثنيا له ، لأنّ الحال

__________________

(١) في ا : ترفعه.

(٢) سورة النساء ، آية ١٩

(٣) سورة الكهف ، آية ٢٣ ، ٢٤

(٤) في ل : وهو رد.


في الحقيقة كذلك ، وإن أراد وقصد بهذا القول حلّ اليمين فإنها تنحلّ عنه (١).

المسألة الثامنة ـ في مدّة الإيلاء :

اختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما ـ قال الأكثر : الأربعة الأشهر فسحة للزوج ، لا حرج عليه فيها ولا كلام معه لأجلها ؛ فإن زاد عليها حينئذ يكون عليه الحكم ، ويوقّت له الأمد ، وتعتبر حاله عند انقضائه.

وقال آخرون : يمين أربعة أشهر موجب الحكم.

وظاهر الآية يقتضى أنّها لمن آلى أكثر من أربعة أشهر ؛ لأنها لا تخلو من ثلاثة تقديرات :

الأول ـ للذين يؤلون من نسائهم أكثر من أربعة أشهر ؛ تربّص أربعة أشهر [٩١].

الثاني ـ للذين يؤلون من نسائهم أربعة أشهر تربّص أربعة أشهر.

الثالث ـ للذين يؤلون من نسائهم أقلّ من أربعة أشهر تربّص أربعة أشهر.

فالثالث باطل قطعا ، والأول مراد قطعا ، والثاني محتمل للمراد احتمالا بعيدا ؛ والأصل عدم الحكم فيه ؛ فلا يقضى به بغير دليل يدلّ عليه ، وللزوج أن يقول : حلفت على مدة هي لي ، فلا كلام معى ، وليس عن هذا جواب.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ).

والمعنى إن رجعوا ، والرجوع لا يكون إلّا عن مرجوع عنه ، وقد كان تقدّم منه يمين واعتقاد ؛ فأما اليمين فيكون الرجوع عنها بالكفّارة ، لأنها تحلّها ، وأما الاعتقاد فيكون الرجوع عنه بالفعل ؛ لأن اعتقاده مستتر لا يظهر إلا بما يكشف عنه من فعل يتبيّن به ؛ كحلّ اليمين بالكفارة أو إتيان ما امتنع منه ؛ فأما مجرّد قوله : رجعت فلا يعدّ فيئا ؛ وإذا ثبت هذا التحقيق فلا معنى بعده لقول إبراهيم وأبى قلابة : إنّ الفيء قوله رجعت ، أمّا أنه تبقى هنا نكتة وهي أن يحلف فيقول : والله لقد رجعت فهل تنحلّ اليمين التي قبلها أم لا؟ قلنا : لا يكون فيئا ، لأنّ هذه اليمين توجب كفّارة أخرى في الذمة ، وتجتمع مع اليمين الأول ، ولا يرفع الشيء إلا بما يضادّه. وهذا تحقيق بالغ.

__________________

(١) في ل : فإنها تنحل بيمينه عنه.


المسألة العاشرة ـ إذا كان ذا عذر من مرض أو مغيب فقوله : رجعت ـ فيء ؛ قاله الحسن وعكرمة.

وقال مالك : يقال له كفّر أو أوقع ما حلفت عليه ؛ فإن فعل ، وإلّا طلّقت عليه.

وعن ابن القاسم أنه يكفى في اليمين بالله قوله : رجعت ، ثم إذا أمكنه الوطء فلم يطأ طلّق عليه ، ولو كفّر ثمّ أمكنه الوطء لزوال العذر لم تطلق عليه.

وقال أبو حنيفة : تستأنف له المدة إذا انقضت ، وهو مغيب أو مريض ثم زال عذره.

قلنا لأبى حنيفة : لا تستأنف له مدّة ؛ لأنّ هذا العذر لا يمنعه عن الكفارة ؛ فإن كان فعلا لا يقدر عليه إلا بالخروج فيفعله عند خروجه. وقد بيناها في كتاب المسائل مستوفاة الحجج.

المسألة الحادية عشرة ـ إذا ترك الوطء مضارّا بغير يمين فلا تظهر فيئته عندنا إلا بالفعل ، لأنّ اعتقاد الكراهة قد ظهر بالامتناع ، فلا يظهر اعتقاده للإرادة إلّا بالإقدام ؛ وهذا تحقيق بالغ.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ).

اختلف الصحابة والتابعون في وقوع الطلاق بمضىّ المدة ، هذا وهم القدوة الفصحاء اللسن البلغاء من العرب العرب ، فإذا أشكلت عليهم فمن ذا الذي تتّضح له منا (١) بالأفهام المختلفة واللغة المعتلّة ، ولكن إن ألقينا الدّلو في الدّلاء لم نعدم بعون الله الدواء ، ولم نحرم الاهتداء في الاقتداء.

قال علماؤنا : قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) دليل على أنّ مضىّ المدة لا يوقع فرقة ؛ إذ لا بدّ من مراعاة قصده واعتبار عزمه (٢).

وقال المخالف ـ وهو أبو حنيفة وأصحابه : إنّ عزيمة الطلاق تعلم منه بترك الفيئة مدى التربّص.

أجاب علماؤنا بأنّ العزم على الماضي محال ، وحكم الله تعالى الواقع بمضىّ المدة لا يصح أن يتعلّق به عزيمة منا.

__________________

(١) في ا : منها.

(٢) في ا : عدمه ، وهو تحريف.


وتحقيق الأمر أنّ تقرير الآية عندنا : للذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر ، فإن فاءوا بعد انقضائها فإنّ الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم.

وتقريرها عندهم : للذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر ، فإن فاءوا فيها فإنّ الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها فإنّ الله سميع عليم.

وهذا احتمال متساو ، ولأجل تساويه توقّفت الصحابة فيه ، فوجب والحالة هذه اعتبار المسألة من غيره ، وهو بحر متلاطم الأمواج ، ولقد كنت أقمت [٩٢] بالمدرسة التاجية مدة لكشف هذه المسألة بالمناظرة ، ثم تردّدت في المدرسة النظامية آخرا لأجلها.

فالذي انتهى إليه النظر بين الأئمة أنّ أصحاب أبى حنيفة قالوا : كان الإيلاء طلاقا في الجاهلية ، فزاد فيه الشرع المدة والمهلة ، فأقرّه طلاقا بعد انقضائها.

قلنا : هذه دعوى. قالوا : وتغييرها (١) دعوى.

قلنا : أمّا شرع من قبلنا فربما قلنا إنه شرع لنا معكم أو وحدنا وأما أحكام الجاهلية فليست بمعتبرة ، وهذا موقف مشكل جدا ، وعليه اعتراض عظيم بيانه في كتب المسائل : الاعتراض حديث عائشة : كان النكاح على أربعة أنحاء ، فأقرّ الإسلام واحدا.

وأما علماؤنا فرأوا أنّ اليمين على ترك الوطء ضرر حادث بالزوجة ، فضربت له في رفعه مدة ، فإن رفع الضّرر وإلّا رفعه الشرع عنها ؛ وذلك يكون بالطلاق كما يحكم في كل ضرر يتعلّق بالوطء كالجبّ والعنّة (٢) وغيرهما ، وهذا غاية ما وقف عليه البيان ها هنا ؛ واستيفاؤه في المسائل ، والله أعلم.

المسألة الثالثة عشرة ـ قال أصحاب الشافعى : هذه الآية بعمومها دليل على صحّة إيلاء الكافر.

قلنا : نحن نقول بأنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشرع بلا خلاف فيه عند المالكية ، ولكن لا عبرة به عندنا بفعل الكافر حتى يقدّم على فعله شرط اعتبار الأفعال ، وهو الإيمان ، كما لا ينظر في صلاته حتى يقدّم شرطها ؛ لأن زوجته إن قدّرت مسلمة لم يصح بحال ، وإن قدرت كافرة فما لنا ولهم؟ وكيف ننظر في أنكحتهم؟ ولعل المولى فيها هي الخامسة أو بنت

__________________

(١) في ا : وتعتبرها.

(٢) العنين : من لا يأتى النساء عجزا ، أو لا يريدهن.


أخيه أو أخته ؛ فهذا لغو من قول الشافعى ولا يلتفت إليه.

المسألة الرابعة عشرة ـ قال علماؤنا : إذا كفّر المولى سقط عنه الإيلاء ، وفي ذلك دليل على تقديم الكفّارة على الحنث في المذهب ، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء ، ودليل على أبى حنيفة في غير مسألة الإيلاء ؛ إذ لا يرى جواز تقديم الكفّارة على الحنث.

المسألة الخامسة عشرة ـ ثبت في الصحيح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا ، وصار في مشربة له ، فلما أكمل تسعا وعشرين نزل على أزواجه صبيحة تسع وعشرين ، فقالت له عائشة رضى الله عنها : إنك آليت شهرا. فقال : إنّ الشّهر تسع وعشرون.

أخبرنى محمد بن قاسم العثماني غير مرة : وصلت الفسطاط مرة ، فجئت مجلس الشيخ أبى الفضل الجوهري ، وحضرت كلامه على الناس ، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه : إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم طلّق وظاهر وآلى ، فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة ، فجلس معنا في الدّهليز ، وعرّفهم أمرى ؛ فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه ، فلما انفضّ عنه أكثرهم قال لي : أراك غريبا ، هل لك من كلام؟ قلت : نعم. قال لجلسائه : أفرجوا له عن كلامه. فقاموا وبقيت وحدي معه. فقلت له : حضرت المجلس اليوم متبرّكا بك ، وسمعتك تقول : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت ، وطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت. وقلت : وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لم يكن ، ولا يصح أن يكون ؛ لأنّ الظهار منكر من القول وزور ؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. فضمّنى إلى نفسه وقبّل رأسى ، وقال لي : أنا تائب من ذلك ، جزاك الله عنّى من معلّم خيرا.

ثم انقلبت عنه ، وبكّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني ، فألفيته قد سبقني إلى الجامع ، وجلس على المنبر ، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته : مرحبا بمعلمى ؛ افسحوا لمعلمى ، فتطاولت [٩٣] الأعناق إلىّ ، وحدّقت الأبصار نحوي ، وتعرفني : يا أبا بكر (١) ـ يشير إلى عظيم حيائه ، فإنه كان إذا سلّم عليه أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه ، واحمرّ حتى كأن وجهه طلى بجلّنار ـ قال : وتبادر الناس إلىّ يرفعوننى على الأيدى ويتدافعونى حتى بلغت

__________________

(١) في ا : بأبا بكر ، وهو تحريف.


المنبر ، وأنا لعظم الجياء لا اعرف في أى بقعة أنا من الأرض ، والجامع غاصّ بأهله ، وأسال الحياء بدني عرفا ، وأقبل الشيخ على الخلق ، فقال لهم : أنا معلّمكم ، وهذا معلّمى ؛ لمّا كان بالأمس قلت لكم : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلّق ، وظاهر ؛ فما كان أحد منكم فقه عنى ولا ردّ علىّ ، فاتّبعنى إلى منزلي ، وقال لي كذا وكذا ؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه ، وأنا تائب عن قولي بالأمس ، وراجع عنه إلى الحقّ ؛ فمن سمعه ممّن حضر فلا يعوّل عليه ، ومن غاب فليبلّغه من حضر ؛ فجزاه الله خيرا ؛ وجعل يحفل في الدعاء ، والخلق يؤمّنون.

فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدّين المتين ، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأ من رجل ظهرت رئاسته ، واشتهرت نفاسته ، لغريب مجهول العين لا يعرف من ولا من أين ، فاقتدوا به ترشدوا.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : يقتضى أنه قد تقدم ذنب ، وهو الإضرار بالمرأة في المنع من الوطء ، ولأجل هذا قلنا : إنّ المضارّة دون يمين توجب من الحكم ما يوجب اليمين إلّا في أحكام المرأة. والله أعلم.

الآية السادسة والستون ـ قوله تعالى (١) : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

هذه الآية من أشكل آية في كتاب الله تعالى من الأحكام ، تردّد فيها علماء الإسلام ، واختلف فيها الصحابة قديما وحديثا ، ولو شاء ربّك لبيّن طريقها وأوضح تحقيقها ، ولكنه وكل درك البيان إلى اجتهاد العلماء ليظهر فضل المعرفة في الدرجات الموعود بالرّفع فيها ؛ وقد أطال الخلق فيها النفس ، فما استضاءوا بقبس ، ولا حلّوا عقدة الجلس (٢) ؛ والضابط لأطرافها ينحصر في إحدى عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ ينظمها ثلاثة فصول :

__________________

(١) الآية الثامنة والعشرون بعد المائتين.

(٢) الجلس : المجلس. وفي ا : الحلس ، والحلس : مسح تجلل به الدابة.


الفصل الأول : كلمة القرء كلمة محتملة للطهر والحيض احتمالا واحدا ، وبه تشاغل الناس قديما وحديثا من فقهاء ولغويين في تقديم أحدهما على الآخر ؛ وأوصيكم ألّا تشتغلوا (١) الآن بذلك لوجوه ؛ أقربها أنّ أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء الوقت ، يكفيك هذافيصلا بين المتشعبين (٢) وحسما لداء المختلفين ؛ فإذا أرحت نفسك من هذا وقلت : المعنى : والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة أوقات ، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود ، فوجب طلب بيان المعدود من غيرها ، وقد اختلفنا فيها ؛ ولنا أدلّة ولهم أدلة استوفيناها في تلخيص الطريقتين على وجه بديع ، وخلصنا بالسّبك منها في تخليص التلخيص ما يغنى عن جمعه اللبيب ؛ وأقربها الآن إلى الغرض أن تعرض عن المعاني لأنها بحار تتقامس (٣) أمواجها ، وتقبل على الأخبار ؛ فإنها أول وأولى ، ولهم خبر ولنا خبر.

فأما خبرهم فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح المشهور : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض. والمطلوب من الحرّة في استبراء الرحم هو المطلوب من الأمة بعينه ؛ فنصّ الشارع صلى الله عليه وسلم على أن براءة الرحم الحيض ، وبه يقع الاستبراء بالواحد في الأمة ، فكذلك فليكن بالثلاثة في الحرّة.

وأما خبرنا فالصحيح الثابت في كلّ أمر أنّ [٩٤] ابن عمر رضى الله عنهما طلّق امرأته وهي حائض ، فأمره النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تحيض وتطهر ، ثم تحيض وتطهر ، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلّق ، فتلك العدّة التي أمر الله تعالى بها أن يطلّق لها النساء ، وهذا يدلّ على أنّ ابتداء العدة طهر فمجموعها أطهار.

[والتنقيح و] (٤) الترجيح : خبرنا أولى من خبرهم ؛ لأنّ خبرنا ظاهر قوىّ في أنّ الطّهر قبل العدّة واحد أعدادها لا غبار عليه ، فأما إشكال خبرهم فيرفعه أنّ المراد هنالك أيضا هو الطّهر ، لكن الطهر لا يظهر إلّا بالحيض ؛ ولذلك قال علماؤنا : إنها تحلّ بالدم من الحيضة الثالثة.

الفصل الثاني : من علمائنا من زاحم على الآية بعدد ، واستند فيها إلى ركن ، وتعلّق منها بسبب متين ؛ قالوا : يصحّ التعلق بهذه الآية من أربعة أوجه :

__________________

(١) في ا : تشغلوا.

(٢) في ا : فضلا بين المستفتين.

(٣) تتقامس : تضطرب.

(٤) من ل.


الأول ـ أنّ القرء اسم يقع على الحيض والطهر جميعا ، والمراد أحدهما ، فيجب إذا قعدت ثلاثة قروء ينطلق عليها هذا الاسم أن يصحّ لها قضاء التربّص.

الثاني ـ أنّ الحكم يتعلّق بأوائل الأسماء ـ كما قلنا في الشفقين واللمسين والأبوين : إنّ الحكم يتعلّق بالشفق الأوّل ، والوضوء يجب باللّمس الأوّل قبل الوطء ، وإنّ الحجب يكون للأب الأول دون الثاني وهو الجدّ ؛ وهم مخالفون في ذلك كله ، وقد دللنا عليه أجمعه في موضعه.

الثالث ـ أنه تعالى قال : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، فذكّره وأثبت الهاء في العدد ، فدلّ على أنه أراد الطهر المذكّر ، ولو أراد الحيضة المؤنثة لأسقط الهاء ، وقال : ثلاث قروء ؛ فإنّ الهاء تثبت في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة وتسقط في عدد المؤنث.

الرابع ـ أنّ مطلق الأمر عندنا وعند أصحاب أبى حنيفة محمول على الفور ، ولا يكون ذلك إلّا على رأينا في أنّ القرء الطهر ؛ لأنه إنما يطلق في الطهر لا في الحيض ، فلو طلّق في الطهر ولم تعتدّ إلا بالحيض الآتي بعده لكان ذلك تراخيا عن الامتثال للأمر ؛ وهذه الوجوه وإن كانت قوية فإنها تفتح من الأسئلة أبوابا ربما عسر إغلاقها ، فأولى لكم التمسك بما تقدم.

الفصل الثالث : قالوا : إذا جعلتم الأقراء الأطهار فقد تركتم نصّ الآية في جعلها ثلاثة ، لأنه لو طلّق في طهر لم يمسّها فيه قبل الحيض بليلة لكان عندكم قرءا معتدّا به وليس بعدد.

قلنا له : أما إذا بلغنا لهذا المنتهى فالمسألة لنا ، ومأخذ القول في المسألة سهل ؛ لأن البعض في لسان العرب يطلق على الكلّ في إطلاق العدد ، وغيره لغة مشهورة عند العرب ، وقرآنا : قال الله تعالى (١) : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ، وهي عندنا وعندهم شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة ، فالمخالف إن راعى ظاهر العدد فمراعاة ظاهر حديث ابن عمر أولى.

المسألة الثانية ـ هذه الآية عامة في كل مطلّقة ، لكن القرآن خصّ منها الآيسة والصغيرة في سورة الطلاق بالأشهر (٢) ، وخصّ منها التي لم يدخل بها ؛ لقوله تعالى (٣) : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها).

وعرضت ها هنا مسألة رابعة وهي الأمة ، فإنّ عدتها حيضتان ، خرجت بالإجماع.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٩٧

(٢) يشير إلى الآية الرابعة من سورة الطلاق : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن ...

(٣) سورة الأحزاب ، آية ٤٩


المسألة الثالثة ـ قال جماعة : قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) : خبر معناه الأمر ، وهذا باطل ؛ بل هو خبر عن حكم الشرع ؛ فإن وجدت مطلقة لا تتربّص فليس من الشّرع ، فلا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى خلاف مخبره ، وقد بينّاه بيانا شافيا.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ).

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ الحيض. الثاني ـ الحمل. الثالث ـ مجموعهما. وهو الصحيح ؛ [٩٥] لأنّ الله تعالى جعلها أمينة على رحمها ، فقولها فيه مقبول ؛ إذ لا سبيل إلى علمه إلّا بخبرها ، وقد شكّ في ذلك بعض الناس لقصور فهمه ، ولا خلاف بين الأمة أنّ العمل على قولها في دعوى الشغل للرّحم أو البراءة ، ما لم يظهر كذبها ، وقد اختلفوا فيمن قال لامرأته : إذا حضت أو حملت فأنت طالق ؛ فقالت : حضت أو حملت ، هل يعتبر قولها في ذلك أم لا؟ فمن قال من علمائنا بوقوف الطلاق عليه اختلف قوله (١) : هل يعتبر قولها في ذلك أم لا؟ والعدّة لا خلاف فيها ، وهو المراد هاهنا.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان وإيجاب أداء الأمانة في الإخبار عن الرّحم بحقيقة ما فيه ، وخرج مخرج قوله تعالى (٢) : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ؛ وقد بيّنا ذلك في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره في شرح الحديث.

وفائدة تأكيد الوعيد هاهنا أمران : أحدهما ـ حقّ الزوج في الرجعة بوجوب ذلك له في العدة أو سقوطه عند انقضائها. ومراعاة (٣) حقّ الفراش بصيانة الأنساب عن اختلاط المياه.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ).

فيه ثلاث فوائد : الفائدة الأولى ـ أن قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ) عامّ في كل مطلّقة فيها رجعة أو لا رجعة فيها.

__________________

(١) في ل : اختلف قولهم.

(٢) سورة النور ، آية ٢

(٣) هذا هو ثانى الأمرين.


الثانية ـ أن قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَ) يقتضى أنهنّ أزواج بعد الطلاق. وقوله تعالى : (بِرَدِّهِنَ) يقتضى زوال الزوجية ، والجمع بينهما عسير ، إلا أنّ علماءنا قالوا : إنّ الرجعية محرّمة للوطء ، فيكون (١) الردّ عائدا إلى الحل.

وأما الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن يقول بقولهما في أن الرجعية محلّلة الوطء ، فيرون أنّ وقوع الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له ، وهو الثلاثة خاصة ، وأن أحكام الزوجية لم ينحلّ منها شيء ولا اختلّ ، فيعسر عليه بيان فائدة الرد ؛ لكونهم قالوا : إن أحكام الزوجية وإن كانت باقية فإن المرأة ما دامت في العدّة سائرة في سبيل الرد (٢) ، ولكن بانقضاء العدة فالرجعة ردّ عن هذه السبيل التي أخذت في سلوكها وهو ردّ مجازى ، والردّ الذي حكمنا به ردّ حقيقى ؛ إذ لا بدّ أن يكون هناك زوال منجز يقع الردّ عنه حقيقة.

الفائدة الثالثة ـ قوله تعالى : (فِي ذلِكَ) : يعنى في وقت التربّص ، وهو أمد العدّة.

المسألة السابعة ـ يتركّب عليه إذا قالت المرأة : انقضت عدّتى قبل قولها في مدة تنقضي في مثلها العدّة عادة من غير خلاف. فإن أخبرت بانقضائها في مدّة تقع نادرا فقولان : قال في المدونة : إذا قالت : حضت ثلاث حيض في شهر صدّقت إذا صدّقها النساء. وقال في كتاب محمد : لا تصدّق في شهر ولا في شهر ونصف ، وكذلك إن طوّلت ؛ فقال في كتاب محمد ، في المطلقة تقيم سنة فتقول لم أحض إلّا حيضة : لم تصدّق وإن لم تكن ذكرت ذلك وكانت غير مرضع. قال ابن مزين : إذا ادّعت تأخّر حيضها بعد الفطام سنة حلفت بالله ما حاضت ، وهذا إذا لم تعلم لها عادة. قال القاضي : وعادة النساء عندنا مرة واحدة في الشهر ، وقد قلّت الأديان في الذّكران فكيف بالنّسوان؟ فلا أرى أن تمكّن المطلقة من الزواج إلّا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق ، ولا يسأل عن الطلاق كان في أول الطّهر أو آخره [٩٦].

المسألة الثامنة ـ إذا قال : أخبرتنى بانقضاء عدّتها فكذّبته (٣) حلفت وبقيت العدّة ، فإن قال : راجعتها فقالت : قد انقضت عدّتى لم يقبل ذلك منها بعد القول. وقيل قبل ذلك ، وهذا تفسير علمائنا.

__________________

(١) في ل : فيلزم.

(٢) في ا : في سبيل الزوال بانقضاء العدة.

(٣) في ل : وكذبته.


المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً).

المعنى إن قصد بالرّجعة إصلاح حاله معها ، وإزالة الوحشة بينهما ، لا على وجه الإضرار والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح ، فذلك له حلال ، وإلا لم تحلّ له. ولما كان هذا أمرا باطنا جعل الله تعالى الثلاث علما عليه ، ولو تحققنا نحن ذلك المقصد منه لطلّقنا عليه.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

يعنى من قصد الإصلاح ومعاشرة النكاح.

المعنى أنّ بعولتهنّ لما كان لهم عليهن حقّ الردّ كان لهن عليهم إجمال الصحبة ، كما قال تعالى بعد ذلك في الآية الأخرى (١) : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، فذلك تفسير لهذا المجمل.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

هذا نصّ في أنه مفضّل عليها مقدّم في حقوق النكاح فوقها ، لكنّ الدرجة هاهنا مجملة غير مبيّن ما المراد بها منها ، وإنما أخذت من أدلّة أخرى سوى هذه الآية ، وأعلم الله تعالى النساء هاهنا أنّ الرجال فوقهنّ ، ثم بيّن على لسان رسوله ذلك.

وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الدرجة على أقوال كثيرة ؛ فقيل : هو الميراث. وقيل: هو الجهاد. وقيل : هو اللحية ، فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم ، وخصوصا في كتاب الله العظيم. ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء ، ولو لم يكن إلا أنّ المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها. لكن الآية لم تأت لبيان درجة مطلقة حتى يتصرّف فيها بتعديد فضائل الرجال على النساء ؛ فتعيّن أن يطلب ذلك بالحقّ في تقدمهن في النكاح ؛ فوجدناها على سبعة أوجه :

الأول ـ وجوب الطاعة ، وهو حقّ عام.

الثاني ـ حقّ الخدمة ، وهو حقّ خاص ، وله تفصيل ، بيانه في مسائل الفروع.

الثالث ـ حجر التصرف إلّا بإذنه.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٩


الرابع ـ أن تقدّم طاعته على طاعة الله تعالى في النوافل ، فلا تصوم إلا بإذنه ، ولا تحج إلّا معه.

الخامس ـ بذل الصداق.

السادس ـ إدرار الإنفاق.

السابع ـ جواز الأدب له فيها. وهذا مبيّن في قوله تعالى (١) : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) إن شاء الله تعالى.

الآية السابعة والستون ـ قوله تعالى (٢) : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ، وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ، تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

فيها ثماني عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سببها :

ثبت أنّ أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد ، وكانت عندهم العدّة معلومة مقدّرة ، فروى عروة قال : كان الرجل يطلّق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدّتها ، فغضب رجل من الأنصار على امرأته ، فقال : لا أقربك ولا تحلّين منى. قالت له : كيف؟ قال : أطلقك حتى إذا جاء أجلك (٣) راجعتك ، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

المسألة الثانية ـ في مقصود الآية : قال البخاري : باب جواز الثلاث ، لقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) إشارة إلى إنّ هذا التعديد إنما هو فسحة لهم ، فمن ضيّق على نفسه لزمه.

المسألة الثالثة ـ قال بعضهم : جاءت هذه الآية لبيان عدد الطلاق. وقيل : جاءت لبيان سنّة الطلاق. والقولان صحيحان ؛ فإنّ بيان العدد بيان السنّة في الردّ ، وبيان سنّة الوقوع بيان العدد.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٣٤

(٢) الآية التاسعة والعشرون بعد المائتين.

(٣) في القرطبي (٣ ـ ١٢٦) : فإذا دنا مضى عدتك راجعتك.


وتحقيق هذا القول أنّ الطلاق كان في الجاهلية فعلا مهملا كسائر أفعالها ، فشرع الله تعالى أمده ، وبيّن حدّه ، وأوضح في كتابه حكمه ، وعلى لسان رسوله تمامه وشرحه ، فقال (١) علماؤنا [رحمة الله عليهم] (٢) : طلاق السنّة ما اجتمعت فيه ثمانية شروط ، بيانها في كتب الفروع : أحدها ـ تفريق الإيقاع ومنع الاجتماع ، تولّى الله سبحانه بيانه في هذه الآية ، وهذا يقتضى أن تكون طلقتين متفرقتين ؛ لأنهما إن كانتا مجتمعتين لم يكن مرتين.

ورأى الشافعى أنّ جمع الثلاث مباح ، وذلك يدلّ عليه قوله تعالى (٣) : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

وكذلك يقتضى حديث ابن عمر المتقدم سياقه أمرين : أحدهما ـ تفريق الإيقاع.

والثاني ـ كيفية الاستدراك بالارتجاع ، وهي أيضا تفسير المراد بالكتاب لقوله : فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلّق لها النساء.

المسألة الرابعة ـ إن هذه الآية عرّف فيها الطلاق بالألف واللام ؛ واختلف الناس في تأويل التعريف على أربعة أقوال :

الأول : معناه الطلاق المشروع [مرّتان] (٤) ، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع ؛ يروى عن الحجاج بن أرطاة والرافضة قالوا : لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان الشرع ، فما جاء على غيره فليس بمشروع.

الثاني ـ معناه الطلاق الذي فيه الرجعة مرّتان ؛ وذلك لأنّ الجاهلية كانت تطلّق وتردّ أبدا ، فبيّن الله سبحانه أنّ الردّ إنما يكون في طلقتين ، بدليل قوله تعالى (٥) : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

الثالث ـ أنّ معناه الطلاق المسنون مرّتان ؛ قاله مالك.

الرابع ـ معناه الطلاق الجائز مرّتان ؛ قاله أبو حنيفة.

فأما من قال : إنّ معناه الطلاق المشروع فصحيح ؛ لكن الشرع يتضمّن الفرض والسنّة والجائز والحرام ، فيكون المعنّى بكونه مشروعا أحد أقسام المشروع الثلاثة المتقدمة ، وهو

__________________

(١) في ل : قال.

(٢) ليس في ل.

(٣) سورة الطلاق ، آية ١

(٤) ليس في ل.

(٥) سورة البقرة ، آية ٢٢٩


المسنون ؛ وقد كنا نقول بأنّ غيره ليس بمشروع ، لو لا تظاهر الأخبار والآثار وانعقاد الإجماع من الأمّة بأن من طلّق طلقتين أو ثلاثا أنّ ذلك لازم له ، ولا احتفال بالحجّاج وإخوانه من الرافضة ، فالحقّ كائن قبلهم. فأمّا مذهب أبى حنيفة في أنه حرام فلا معنى للاشتغال به هاهنا ؛ فإنه متفق معنا على لزومه إذا وقع. وقد حققنا (١) ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة ـ في تحقيق القول في قوله : «مرّة» ؛ وهي عبارة في اللغة عن الفعلة الواحدة في الأصل ، لكن غلب عليها الاستعمال ، فصارت ظرفا ، وقد بيّنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

قيل : الإمساك بالمعروف الرجعة الثانية بعد الطلقة الثانية ، والتسريح الطلقة الثالثة وقيل : التسريح بإحسان الإمساك حتى تنقضي العدة ، وكلاهما ممكن مراد ، قال الله تعالى (٢) : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ؛ يعنى إذا قاربن انقضاء العدة فراجعوهنّ أو فارقوهنّ.

وقد يكون الفراق بإيقاع الطلاق الذي قاله حينئذ. وقد يكون إذا راجعها وقال بعد ذلك ، وقد يكون بالسكوت عن الرجعة حتى تنقضي العدّة ؛ فليس في ذلك تناقض.

وقد قال قوم : إنّ التسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة ، وورد في ذلك حديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : التسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة. ولم يصحّ.

المسألة السابعة ـ هذه الآية عامة في أنّ الطلاق ثلاث في كل زوجين ، إلا أنّ الزوجين إن كانا مملوكين فذلك من هذه الآية مخصوص ، ولا خلاف في أنّ طلاق الرقيق طلقتان ؛ فالأولى في حقه مرة ، والثانية تسريح بإحسان ، لكن قال مالك والشافعى : يعتبر عدده برقّ الزوج. وقال أبو حنيفة : يعتبر عدده برقّ الزوجة.

وقد قال الدارقطني : ثبت أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : الطلاق بالرجال والعدّة بالنساء. والتقدير : الطلاق معتبر بالرجال ، ولا يجوز أن يكون معناه الطلاق موجود بالرجال ، لأنّ ذلك مشاهد ، لا يجوز أن يعتمده النبىّ صلى الله عليه وسلم بالبيان.

__________________

(١) في ا : تحققنا.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٢


فإن قيل : فقد روى الترمذي وأبو داود أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : طلاق الأمة طلقتان ، وعدتها حيضتان.

قلنا : يرويه مظاهر بن أسلم ، وهو ضعيف ؛ ألا ترى أنه جعل فيه اعتبار العدّة والطلاق بالنساء جميعا ، ولا يقول السّلف بهذا ؛ فقد روى النسائي وأبو داود عن ابن عباس أنه سأل عن مملوك كانت تحته مملوكة فطلّقها طلقتين ثم أعتقا : أيصلح له أن يتزوّجها؟ قال : نعم ، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأنّ كل ملك إنما يعتبر بحال المالك لا بحال المملوك. وبيانه في مسائل الخلاف.

المسألة الثامنة ـ قال الشافعى : يؤخذ من هذه الآية أنّ السراح من صريح ألفاظ الطلاق الذي لا يفتقر إلى نيّة ، وليس مأخوذا من هذه الآية ، وإنما يؤخذ من الآية التي بعدها. ويأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

ولا يمتنع أن يكون المراد بقوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) الطّلقة الثالثة كما بيّنا ، ويكون قوله تعالى بعد ذلك : (فَإِنْ طَلَّقَها) بيانا لحكم الحرة الواقع (١) عليها ، وهو الشرط الأول بعينه ـ كما قال الله تعالى ـ في تفسيرنا وتفسير الشافعى من أنّ الأول هو الثاني.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) :

ظنّ جهلة من الناس أنّ الفاء هنا للتعقيب ، وفسّر أنّ الذي يعقب الطلاق من الإمساك الرّجعة ؛ وهذا جهل بالمعنى واللسان :

أما جهل المعنى فليست الرجعة عقيب (٢) الطّلقتين ، وإنما هي عقيب الواحدة كما هي عقيب الثانية ، ولو لزمت حكم التعقيب في الآية لاختصّت بالطلقتين.

وأما الإعراب فليست الفاء للتعقيب هنا ، ولكن ذكر أهل الصناعة فيها معاني ، أمّهاتها ثلاثة : أحدها ـ أنها للتعقيب ، وذلك في العطف ، تقول : خرج زيد فعمرو. الثاني ـ السبب (٣) ، وذلك في الجزاء ، تقول : إن تفعل خيرا فالله يجزيك ؛ فهو بعده ؛ لكن ليس معقبا عليه. الثالثة ـ زائدة ، كقولك : زيد فمنطلق ، كما قال الشاعر :

__________________

(١) في ل : بيانا بالحكم الواقع عليها.

(٢) في ا : عقب.

(٣) في ا : التسبب.


وقائلة خولان فانكح فتاتهم (١)

وهذا لم يصحّحه سيبويه.

والذي قاله صحيح من أنّ الفاء هاهنا ليست بزائدة ، وإنما هي في معنى الجواب للجملة ، كأنه قال : هذه خولان فانكح فتاتهم.

كما تقول : هذا زيد فقم إليه ، ويرجع عندي إلى معنى التسبّب ، فيكون معنيين.

المسألة العاشرة ـ قال علماؤنا : إذا وطئ بنيّة الرجعة جاز ، وكان من الإمساك بالمعروف ؛ لأنه إذا قال : قد راجعتك كان معروفا جائزا ، فالوطء أجوز.

فإن قيل : هي محرّمة بالطلاق ، فكيف يباح له الوطء؟

قلنا : الإباحة تحصل بنيّة الرّجعة ، كما تحصل بقولها.

فإن قيل : فقد قال الله تعالى (٢) : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ؛ والإشهاد يتصوّر على القول ولا يتصوّر على الوطء.

قلنا : يتصوّر الإشهاد على الإقرار بالوطء.

فإن قيل : إنما يشهد على الإقرار بفعله بعد فعله. وظاهر الآية أن الوطء لا يحلّ إلا بعد الإشهاد.

قلنا : ليس في الآية إيقاف الحلّ على الإشهاد ، إنما فيه إلزام الإشهاد ، وذلك يتبيّن عند ذكر الآية إن شاء الله تعالى.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً).

قال قوم : يعنى من الصّداق ؛ وعندي أنه من كلّ شيء أعطاها ؛ فإن الصّداق وإن كان نحلة (٣) شرطية فما نحلها بعده مثله ؛ لكونه نحلة عن نيّة ، عام في كل حالة من نكاح

__________________

(١) عجزه :

وأكرومة الحيين خلو كما هيا

وارجع إلى خزانة الأدب ١ : ٤١٠ في هذا الشاهد ، وقال في الخزانة : البيت من أبيات سيبويه التي لم يعرف لها ناظم.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٢

(٣) نحل المرأة مهرها نحلة : أعطاها عن طيب نفس من غير مطالبة. وقيل : من غير أن يأخذ عوضا.


أو طلاق ، عام في كل وجه من ابتداء أخذ الزوج له أو إعطائها هي إياه له على الخلاص من نكاحه.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

وفي ذلك تأويلات كلّها أباطيل ، وإنما المراد به أن يظنّ كلّ واحد منهما بنفسه ألا يقيم حقّ النكاح لصاحبه حسبما يجب عليه فيه لكراهية يعتقدها ، فلا حرج على المرأة أن تفتدى ولا على الزوج أن يأخذ.

وقد أكّد الله تعالى المنع حالة الفراق بقوله تعالى (١) : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ؛ وذلك لأنها حالة تشره النفوس فيها إلى أن يأخذ الزوج ما نحله الزوجة في حالة النكاح ؛ إذ يخطر له أنّك إنما كنت أعطيت على النكاح ، وقد فارقت فأنت معذور في أخذك ؛ فمنع الله تعالى ذلك بقوله (٢) : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) ، وجوّزه عند مسامحة المرأة به فقال تعالى (٣) : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ) ، وحلّل أخذ النصف بوقوع الفراق قبل الدخول بقوله تعالى (٤) : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، وطيبه عند عفوها أو عفو صاحب العقدة عن جميعه ، فقال تعالى (٥) : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) على ما يأتى بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة عشرة ـ تعلّق من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق بقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ؛ فشرط ذلك ، ولا حجّة لهم فيه ؛ لأنّ الله تعالى لم يذكره على جهة الشّرط ؛ وإنما ذكره لأنه الغالب من أحوال الخلع ؛ فخرج القول على الغالب ولحق النادر به ، كالعدّة وضعت لبراءة الرحم ، ثم لحق بها البريّة الرحم وهي الصغيرة واليائسة ، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ؛ فإذا أعطتك مالها برضاها من صداق وغيره فخذه.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٠

(٢) سورة النساء ، آية ١٩

(٣) سورة النساء ، آية ٤

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٣٧


المسألة الرابعة عشرة ـ هذا يدلّ على أنّ الخلع طلاق ، خلافا لقول الشافعى في القديم إنه فسخ.

وفائدة الخلاف أنه إن كان فسخا لم يعدّ طلقة. قال الشافعى : لأنّ الله تعالى ذكر الطلاق مرتين ، وذكر الخلع بعده ، وذكر الثالث بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). وهذا غير صحيح ، لأنه لو كان كلّ مذكور في معرض هذه الآيات لا يعدّ طلاقا لوقوع الزيادة على الثلاث لما كان قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) طلاقا ، لأنه يزيد به على الثّلاث ، ولا يفهم هذا إلّا غبىّ أو متغاب ؛ لأنّ الله تعالى قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، فإن وقع شيء من هذا الطلاق بعوض كان ذلك راجعا إلى الأولى والثانية دون الثالثة التي هي (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، حسبما تقدّم ؛ فلا جناح عليه فيه ، فإن طلّقها ثالثة فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجا غيره كان بفدية أو بغير فدية ، وقد بينا فساد قولهم : إنّ الخلع فسخ ـ في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة عشرة ـ قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها).

فيه قولان :

الأول ـ قيل : هي في النكاح خاصّة ، وهو قول الأكثر.

الثاني ـ أنها الطاعة ، يروى عن ابن عباس وغيره. وهو الأصح ، لأنه إذا كان أحد الزوجين لا يطيع الله تعالى ولا يطيع صاحبه في الله فلا خير لهما في الاجتماع ، وبه أقول.

المسألة السادسة عشرة ـ قال مالك : المبارئة (١) المخالعة بما لها قبل الدخول ، والمخالعة إذا فعلت ذلك بعد الدخول ، والمفتدية المخالعة ببعض مالها ، وهذا اصطلاح يدخل بعضه على بعض. وقد اختلف الناس في ذلك ؛ فالأكثر أنه يجوز الخلع بالبعض من مالها ، وبالكلّ بأن تزيده على مالها عليه من مالها المختصّ بها ما شاءت إذا كان الضرر من جهتها.

وقال قوم : لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، منهم الشعبي وابن المسيّب ، ويروى عن علىّ مثله ، ونصّ الحديث في قصة ثابت بن قيس يدلّ على جواز الخلع بجميع ما أعطاها ، وعموم القرآن يدلّ على جوازه بأكثر من ذلك لقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما

__________________

(١) في ل : المفادية.


فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ؛ فكلّ ما كان فداء فجائز على الإطلاق.

المسألة السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (فَلا تَعْتَدُوها).

بيّن تعالى أحكام النكاح والفراق ، ثم قال تعالى : تلك حدودي التي أمرت بامتثالها فلا تعتدوها ، كما بيّن تحريمات الصيام في الآية الأخرى ، ثم قال : تلك حدودي فلا تقربوها ، فقسّم الحدود قسمين : منها حدود الأمر بالامتثال ، وحدود النهى بالاجتناب.

المسألة الثامنة عشرة ـ احتجّ مشيخة خراسان من الحنفية على أنّ المختلعة يلحقها الطلاق بقوله تعالى (١) : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). قالوا : فشرع الله سبحانه وتعالى صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق ؛ وإنما قلنا بعدها لأنّ الفاء حرف تعقيب. قلنا : معناه فإن طلقها ولم تعتدّ ، لأنه شرع قبل الابتداء بطلاقين فيكون الابتداء (٢) ثالثة ، ولا طلاق بعدها ليكون مرتّبا عليها ، ويكون معقّبا به ، فالصريح (٣) المذكور على سبيل المعاقبة معناه إن لم يكن فداء ولكن كان صريحا ، ودليله أن الله تعالى شرع طلقتين صريحتين ، ثم ذكر بعدهما إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان ، إما بالترك لتبين ، وإما بالطلقة الثالثة ، فيكون تمليكا للثالثة ؛ فإن افتدت فلا جناح عليها (٤) فيه ، وإن لم تفتد وطلّقها كان كذا ، كما أخبر به ، فيكون بيانا لكيفية التصرف فيما بقي من ملك الثالثة.

فإن قيل : حرف الفاء يقتضى الترتيب وقد رتّب الصريح على الفداء فلا يعدل عنه ، وذلك أنه تعالى قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، ثم قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أى فيما فدت به نفسها من نكاحها بمالها ، ولا بدّ في ذلك من طلاق فتكون المفاداة طلاقا بمال ، وذلك هو المذكور في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) حتى لا يلزمنا ترك القول بالترتيب الذي يقتضيه حرف الفاء ، وعليه يدل مساق الآية ، لأنها سيقت لبيان عدد الطلاق وأحكام الواقع منه ؛ فبيّن تعالى أنّ العدد ثلاث ، وأنّ الصريح لا يمنع وقوع آخر ؛ لقوله تعالى : (مَرَّتانِ) ، وبيّن أنه لا يقطع الرجعة بقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) ولا إيقاع

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٠

(٢) في ل : الافتداء.

(٣) في ا : فالصريح ثم المذكور ، والمثبت من ل.

(٤) في ا : عليهما.


الثالثة ، لقوله تعالى بعده : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) لو لم يذكر الوقوع ببدل ولا حكم ما بعده ، فتبيّن بقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أنّ الافتداء بالمال عن النكاح جائز ، وطلاق في الجملة ، وأنه لا رجعة بعده ، فإنه (١) لم يذكر بعده رجعة ؛ فالآية سيقت لبيان جملة ، فيكون التّرك بيانا.

ثم قال تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) ، فبيّن أنّ الصريح يقع بعد الطلاق بمال.

قلنا : هذا تطويل ليس وراءه تحصيل ، إنما قال الله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) بما قد تردّد في كلامنا ، جملته أنّ الطلاق محصور في ثلاث ، وأنّ للزوج فيما دون الثلاث الرجعة ، وأن الثالثة تحرمها إلى غاية ، وتبيّن مع ذلك كلّه تحريم أخذ الصداق إلّا بعد رضا المرأة لما قد استوفى منها واستحلّ من فرجها ، وأحكم أنه لا حجّة له في أن يقول : تأخذ بمقدار متعتى ، وآخذ بما بقي لي. وأوضح أنّ للمرأة أن تفكّ نفسها من رقّ النكاح بمالها منه ومن غيره ، وسواء أخذه في الأولى أو الثانية ؛ أو الثالثة ، لقوله تعالى بعد ذكر أعداد الطلاق الثلاث والمرتين (٢) والتسريح : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) كيفما كان الفداء ؛ فكان بيانا لجواز الفداء في الجملة كلّها لا في محلّ مخصوص منها بأولى أو ثانية أو ثالثة.

جواب آخر : وأمّا تحريم الرجعة في طلاق الخلع فليس من هذه الآية ، إنما اقتضت الآية تحريمها بالثالثة ، أو بالثلاث ، فأمّا سقوط الرجعة في المفاداة فمأخوذ من دليل آخر ، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ثابت بن قيس فمعناه (٣) وفرقه.

جواب ثالث : أما قولهم : إن الصريح يقع بعد الطلاق ، فنقول : نعم ، ولكن في محلّه ؛ ألا ترى أنّ العدّة لو انقضت لم يقع طلاق ثان ، ولا يقع إذا خالعها في الأولى ولا في الثانية.

جواب رابع : قد بينّا قبل هذا تقدير الآية ونظم مساقها بما يقتضيه لفظها ، لا بما لا يقتضيه ولا يدلّ عليه كما فعلوا ؛ فقارنوا بين الأمرين تجدوا البون بيّنا إن شاء الله تعالى.

الآية الثامنة والستون ـ قوله تعالى (٤) : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ

__________________

(١) في ل : وأنه.

(٢) في ل : الثلاث ـ المرتين.

(٣) في ل : بمعناه.

(٤) الآية الثلاثون بعد المائتين.


زَوْجاً غَيْرَهُ ، فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

وفيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ).

قال سعيد بن المسيّب : تحلّ المطلّقة ثلاثا للأول بمجرد العقد من الثاني وإن لم يطأها الثاني ؛ لظاهر قوله تعالى : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، والنكاح العقد.

قال : وهذا لا يصحّ من وجهين : أحدهما أن يقال له : بل هو الوطء ، ولفظ النكاح قد ورد بهما في كتاب الله تعالى جميعا ، فما باله خصّصه هاهنا بالعقد.

فإن قيل : فأنتم لا تقولون به ؛ لأنه شرط الإنزال وأنتم لا تشترطونه.

إنما شرط ذوق العسيلة ، وذلك يكون بالتقاء الختانين ، هذا لباب كلام علمائنا.

قال القاضي : ما مرّ بي في الفقه مسألة أعسر منها ، وذلك أنّ من أصول الفقه أنّ الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟ وقد بينا ذلك في أصول الفقه ، وفي بعض ما تقدم.

فإنا قلنا : إنّ الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا مذهب سعيد بن المسيب. وإن قلنا : إنّ الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال ، لأنه آخر ذوق العسيلة ، ولأجل ذلك لا يجوز له أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها ؛ فصارت المسألة في هذا الحد من الإشكال ، وأصحابنا يهملون ذلك ويمحون القول عليه ، وقد حققناها في مسائل الخلاف.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

دليل على أنّ المرأة تزوّج نفسها ؛ لأنه أضاف العقد إليها ، ولنا لو كان سعيد بن المسيّب يرى هذا مع قوله : إنّ النكاح العقد لجاز له ؛ وأمّا نحن وأنتم الذين نرى أنّ النكاح هاهنا هو الوطء فلا يصحّ الاستدلال لكم معنا بهذه الآية.

فإن قيل : القرآن اقتضى تحريمها إلى العقد ، والسنّة لم تبدّل لفظ النكاح ولا نقلته عن العقد إلى الوطء ، إنما زادت شرطا آخر وهو الوطء.

قلنا : إذا احتمل اللفظ في القرآن معنيين فأثبتت السنة أنّ المراد أحدهما فلا يقال إنّ


القرآن اقتضى أحدهما وزادت السنة الثاني ؛ إنما (١) يقال : إنّ السنة أثبتت المراد منهما ، والعدول عن هذا جهل بالدليل أو مراغمة (٢) وعناد في التأويل.

الآية التاسعة والستون ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً).

فيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (فَبَلَغْنَ) : معناه قاربن البلوغ ؛ لأنّ من بلغ أجله بانت منه امرأته وانقطعت رجعته ، فلهذه الضرورة جعل لفظ بلغ بمعنى قارب ، كما يقال : إذا بلغت مكة فاغتسل.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : هو الرّجعة مع المعروف محافظة على حدود الله تبارك وتعالى في القيام بحقوق النكاح.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : يعنى طلّقوهنّ.

قال الشافعى : هذا من ألفاظ التصريح في الطلاق ، وهي ثلاثة : طلاق ، وسراح ، وفراق. وفائدتها عنده أنها لا تفتقر إلى النية ؛ بل يقع الطلاق بذكرها مجردة عن النية.

وعندنا أنّ صريح الطلاق الذي لا يفتقر إلى النية نيّف (٤) على عشرة ألفاظ ، ولم يذكر الله تعالى هذه الألفاظ ليبيّن بها عدد الصريح ؛ وإنما دخلت لبيان أحكام علقت على الطلاق ، فلا تستفاد منه ، ما لم يذكر لأجله ولا في موضعه.

وقد بيّنا ذلك في المسائل ، ولا يصح أن يجعل قوله هاهنا : (أَوْ سَرِّحُوهُنَ) صريحا في الطلاق قطعا ؛ لأنّ الله تعالى إنما أراد بقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أى أرجعوهن قولا أو فعلا على ما يأتى بيانه في سورة الطلاق ، إن شاء الله تعالى.

ومعنى (أَوْ سَرِّحُوهُنَ) ؛ أى اتركوا الارتجاع ، فستسرح عند انقضاء العدّة بالطلاق الأول ، وليس إحداث طلاق بحال ، وقد يكون الطلاق الذي كانت عنه (٥) العدة مكانه ،

__________________

(١) في ا : ما يقال ، وهو تحريف. صوابه من ل.

(٢) المراغمة : الخروج. وأصله المغاضبة والمنابذة.

(٣) الآية الواحدة والثلاثون بعد المائتين.

(٤) نيف : زاد.

(٥) في ل : عنده.


فلا يكون لقوله تعالى : (سَرِّحُوهُنَ) معنى.

المسألة الرابعة ـ حكم الإمساك بالمعروف أنّ للزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلّقها ؛ فإن لم يفعل خرج عن حدّ المعروف ، فيطلقها عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها.

فإن قيل : فإذا كان هذا العاجز عن النفقة لا يمسك بالمعروف ، فكيف تكلّفونه أنتم غير المعروف ، وهو الإنفاق ، ولا يجوز تكليف ما لا يطاق؟

قلنا : إذا لم يطق الإنفاق (١) بالمعروف أطاق الإحسان بالطلاق ، وإلّا فالإمساك مع عدم الإنفاق ضرار. وفي الحديث الصحيح للبخاري : تقول لك زوجك : أنفق علىّ وإلّا طلّقنى. ويقول لك عبدك : أنفق علىّ وإلّا بعني. ويقول لك ابنك : أنفق علىّ ، إلى من تكلني!

المسألة الخامسة ـ هذا يدلّ على أنّ الرجعة لا تكون إلا بقصد الرغبة ، فإن قصد أن يمنعها النكاح ويقطع بها في أملها من غير رغبة اعتداء عليها فهو ظالم لنفسه ، فلو عرفنا ذلك نقضنا رجعته ، وإذا لم نعرف نفذت ، والله حسيبه.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً).

قال علماؤنا : معناه لا تأخذوا أحكام الله في طريق الهزء ، فإنها جدّ كلها ، فمن هزأ بها لزمته.

وهذا اللفظ لا يستعمل إلّا بطريق القصد إلى اتخاذها هزوا ؛ فأما لزومها عند اتخاذها هزوا فليست من قوة اللفظ ؛ وإنما هو مأخوذ من جهة المعنى على ما بيّناه في مسائل الخلاف.

ومن اتخاذ آيات الله هزوا ما روى عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لامرأته : أنت طالق مائة. فقال : يكفيك منها ثلاث ، والسبعة والتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا. فمن اتخاذها هزوا على هذا مخالفة حدودها فيعاقب بإلزامها ، وعلى هذا يتركب طلاق الهازل ؛ ولست أعلم خلافا في المذهب في لزومه ؛ وإنما اختلف قول مالك في نكاح الهازل ؛ فقال عنه على بن زياد : لا يلزم ، ومن أراد أن يخرّج على هذا طلاق الهازل فهو ضعيف النظر ؛ لأنّ إبطال نكاح الهازل يوجب إلزام طلاقه ؛ لأنّ فيه تغليب التحريم في

__________________

(١) في ا : الانفاق ، وهو تحريف.


البضع على التحليل في الوجهين جميعا ، وهو مقدم على الإباحة فيه إذا عارضته.

الآية الموفية سبعين ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، والبلوغ هاهنا حقيقة لا مجاز فيها ؛ لأنه لو كان معناه قاربن البلوغ كما في الآية قبلها لما خرجت به الزوجة عن حكم الزوج في الرجعة ، فلما قال تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) تبيّن أنّ البلوغ قد وقع في انقضاء العدة ، وأنّ الزوج قد سقط حقّه من الرجعة.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) ؛ العضل يتصرف على وجوه مرجعها إلى المنع ، وهو المراد هاهنا ؛ فنهى الله تعالى أولياء المرأة من منعها عن نكاح من ترضاه. وهذا دليل قاطع على أنّ المرأة لا حقّ لها في مباشرة النكاح ، وإنما هو حقّ الولىّ ، خلافا لأبى حنيفة ، ولو لا ذلك لما نهاه الله عن منعها.

وقد صحّ أنّ معقل بن يسار كانت له أخت فطلقها زوجها ، فلما انقضت عدّتها خطبها ، فأبى معقل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ولو لم يكن له حقّ لقال الله تعالى لنبيه عليه السلام : لا كلام لمعقل في ذلك.

وفي الآية أسئلة كثيرة يقطعها هذا الحديث الصحيح ، خرّجه البخاري.

فإن قيل : السبب الذي رويتم يبطل نظم الآية ؛ لأن الولىّ إذا كان هو المنكح فكيف يقال له : لا تمتنع من فعل نفسك ، وهذا محال.

قلنا : ليس كما ذكرتم ، للمرأة حقّ الطلب للنكاح ، وللولىّ حقّ المباشرة للعقد ؛ فإذا أرادت من يرضى حاله ، وأبى الولىّ من العقد فقد منعها مرادها ، وهذا بيّن.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : يعنى إذا كان لها كفؤا ، لأن الصداق في الثيب المالكة أمر نفسها لا حقّ للولىّ فيه ، والآية نزلت في ثيّب مالكة أمر نفسها ، فدلّ على أنّ المعروف المراد بالآية هو الكفاءة ، وفيها حقّ عظيم للأولياء ،

__________________

(١) الآية الثانية والثلاثون بعد المائتين.


لما في تركها من إدخال العار عليهم ؛ وذلك إجماع من الأمة.

الآية الحادية والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ، وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ، فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

هذه الآية عضلة ولا يتخلص منها إلا بجريعة الذّقن (٢) مع الغصص بها برهة من الدهر ؛ وفيها خمس عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : أقلّ الحمل ستة أشهر ؛ لأن الله تعالى قال (٣) : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). ثم قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فإذا أسقطت حولين من ثلاثين شهرا بقيت منه ستة أشهر ؛ وهي مدّة الحمل ؛ وهذا من بديع الاستنباط.

المسألة الثانية ـ قال الله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ).

واختلف الناس في فائدة هذا التقدير على قولين ؛ فمنهم من قال : معناه إذا ولدت لستة أشهر أرضعت حولين ، وإن ولدت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا ، وهكذا تتداخل مدّة الحمل ومدّة الرضاع ، ويأخذ الواحد من الآخر.

ومنهم من قال : إذا اختلف الأبوان في مدة الرضاع فالفصل في فصاله من الحاكم حولان.

والصحيح أنه لا حدّ لأقلّه ، وأكثره محدود بحولين مع التراضي بنصّ القرآن.

المسألة الثالثة ـ إذا زادت المرأة في رضاعها على مدة الحولين ؛ وقع الرضاع موقعه إلى أن يستقلّ الولد.

وقال الشافعىّ وغيره : لو زادت لحظة ما اعتبر ذلك في حكم ، ولو كان هذا حدّا

__________________

(١) الآية الثالثة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) جريعة الذقن : يقال : أفلت بجريعة الذقن : أى أفلت بعد ما أشرف على الهلاك.

(٣) سورة الأحقاف ، آية ١٥


مؤقتا لا تجوز الزيادة عليه ، ولا تعتبر إن وجدت لما أوقفه الله تعالى على الإرادة كسائر الأعداد (١) المؤقتة في الشريعة.

وقال أبو حنيفة : يريد ستة أشهر. وقال زفر : ثلاث سنين ؛ وهذا كلّه تحكّم.

والصحيح أنّ ما قرب من أمد الفطام عرفا لحق به وما بعد منه خرج عنه من غير تقدير ؛ وفي مسائل الفروع تتمّة ذلك.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) : دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لعجزه وضعفه ؛ فجعل الله تعالى ذلك على يدي أبيه لقرابته منه وشفقته عليه ؛ وسمّى الله تعالى الأمّ لأنّ الغذاء يصل إليه بوساطتها في الرضاعة ، كما قال تعالى (٢) : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) ؛ لأنّ الغذاء لا يصل إلى الحمل إلّا بوساطتهن في الرضاعة ؛ وهذا باب من أصول الفقه ، وهو أنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب مثله.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ).

يعنى على قدر حال الأب من السّعة والضيق ، كما قال تعالى في سورة الطلاق (٣) : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ؛ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ). ومن هذه النكتة أخذ علماؤنا جواز إجارة الظئر بالنفقة والكسوة ، وبه قال أبو حنيفة ، وأنكره صاحباه ، لأنها إجارة مجهولة فلم تجز ، كما لو كانت الإجارة به على عمل الآخر ، وذلك عند أبى حنيفة استحسان ، وهو عند مالك والشافعى أصل في الارتضاع ، وفي كل عمل ، وحمل على العرف والعادة في مثل ذلك العمل. ولو لا أنه معروف ما أدخله الله تعالى في المعروف.

فإن قيل : الذي يدلّ على أنه مخصوص أنه قدّر بحال الأب من عسر ويسر ، ولو كان على رسم الأجرة لم يختلف كبدل سائر الأعواض.

قلنا : قدّروه بالمعروف أصلا في الإجارات (٤) ، ونوعه باليسار والإقتار رفقا ؛ فانتظم الحكمان ، واطّردت الحكمتان.

__________________

(١) في ا : إذا الموقتة ، وهو تحريف.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٦

(٣) الآية السابعة.

(٤) في ا : الإجازات.


وفي مسائل الخلاف ترى تمام ذلك إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة ـ في قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ).

اختلف الناس هل هو حقّ لها أم هو حقّ عليها؟

واللفظ محتمل ؛ لأنه لو أراد التصريح بقوله «عليها» لقال : وعلى الوالدات إرضاع أولادهنّ حولين كاملين. كما قال تعالى (١) : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) ، لكن هو عليها في حال الزوجيّة ، وهو عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا عدم الأب لاختصاصها به.

وقد قدّمنا (٢) أنّ في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : تقول لك المرأة : أنفق علىّ وإلّا طلّقنى ، ويقول لك العبد : أطعمنى واستعملني ، ويقول لك ابنك : أنفق علىّ ؛ إلى من تكلني.

ولمالك في الشريفة رأى خصص به الآية فقال : إنها لا ترضع إذا كانت شريفة. وهذا من باب المصلحة التي مهّدناها في أصول الفقه.

المسألة السابعة ـ قال علماؤنا : الحضانة ـ بدليل هذه الآية ـ للأمّ والنصرة للأب ، لأنّ الحضانة مع الرضاع ، ومسائل الباب تأتى في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).

المعنى لا تأبى الأمّ أن ترضعه إضرارا بأبيه ، ولا يحلّ للأب أن يمنع الأمّ من ذلك ؛ وذلك كلّه عند الطلاق ؛ لوجهين :

أحدهما ـ أن ذكر ذلك جاء عند ذكر الطلاق ، فكان بيانا لبعض أحكامه المتعلقة به.

الثاني ـ أنّ النكاح إذا كان باقيا ثابتا فالنفقة واجبة لأجله ، ولا تستوجب الأمّ زيادة عليها لأجل رضاعه.

المسألة التاسعة ـ إذا أراد الأب أن يرضع الابن غير الأمّ وهي في العصمة لتتفرّغ له جاز ذلك ، ولم يجز لها أن تختصّ به إذا كان يقبل غيرها ، لما في ذلك من الإضرار بالأب ؛ بل لما في ذلك من غيال (٣) الابن ، فاجتماع الفائدتين يوجب على الأمّ إسلام الولد إلى غيرها ، ولما في الآية من الاحتمال في أنه حقّ لها أو عليها.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٣

(٢) صفحة ٢٠٠ من هذا الجزء.

(٣) الغيل : أن ترضع المرأة ولدها على حبل.


المسألة العاشرة ـ قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) :

قال ابن القاسم ـ عن مالك : هي منسوخة ، وهذا كلام تشمئزّ منه قلوب الغافلين ، وتحار فيه ألباب الشادين ، والأمر فيه قريب ؛ لأنا نقول : لو ثبتت ما نسخها إلّا ما كان في مرتبتها ، ولكن وجهه أنّ علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمّون التخصيص نسخا ؛ لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة ، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم ؛ وهذا يظهر عند من ارتاض بكلام المتقدمين كثيرا.

وتحقيق القول فيه أنّ قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ؛ فمن الناس من ردّه إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار ، منهم أبو حنيفة من الفقهاء ، ومن السلف قتادة والحسن ، ويسند إلى عمر رضى الله عنه ، فأوجبوا على قرابة المولود الذين يرثونه نفقته إذا عدم أبوه في تفصيل طويل لا معنى له.

وقالت طائفة من العلماء : إن قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) لا يرجع إلى جميع ما تقدّم كلّه ؛ وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار. المعنى : وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأمّ ما على الأب.

وهذا هو الأصل ؛ فمن ادّعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل ؛ وهو يدّعى على اللغة العربية ما ليس منها ، ولا يوجد له نظير فيها.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما).

المعنى أنّ الله تعالى لمّا جعل مدّة الرضاع حولين بيّن أنّ فطامها هو الفطام ، وفصالها هو الفصال ، ليس لأحد عنه منزع ، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارّة بالولد ؛ فذلك جائز بهذا البيان.

المسألة الثانية عشرة ـ هذا يدلّ على جواز الاجتهاد في أحكام الشريعة ؛ لأنّ الله تعالى جعل للوالدين التشاور والتراضي في الفطام فيعملان على موجب اجتهادهما فيه ، وتترتّب الأحكام عليه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ).

هذا عند خيفة الضّيعة على الولد عند الأم والتقصير أو الإضرار بالولد في اشتغال الأمّ


عن حقه بولدها ، أو الإضرار بالولد في الاغتيال (١) ونحوه ؛ فإن اختلفوا نظر للصبي ، فإن أوجب النظر أن يسترضع له استرضع ، إذا أعطى المرضع حقّه من أم أو ظئر.

المسألة الرابعة عشرة ـ قال علماؤنا : إذا كانت الحضانة للأمّ في الولد تمادت إلى البلوغ في الغلام وإلى النكاح في الجارية ؛ وذلك حقّ لها ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعى : إذا عقل ميّز وخيّر بين أبويه ، لما روى النسائي وغيره عن أبى هريرة أنّ امرأة جاءت إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالت له : زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد نفعني وسقاني من بئر أبى عنبة. فجاء زوجها فقال : من يحاقّنى في ابني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا غلام ؛ هذا أبوك ، وهذه أمك ؛ فخذ بيد أيهما شئت. فأخذ بيد أمه.

وعند أبى داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : استهما عليه. فلما قال زوجها : من يحاقّنى عليه؟ خيّره النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ فاختار أمّه.

وروى أبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قالت له المرأة : إنّ ابني كان ثديى له سقاء ، وحجري له حواء ؛ وإنّ أباه طلّقنى ، وأراد أن ينتزعه منى. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أنت أحقّ به ما لم تنكحى.

وقد ثبت أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير ، والأمّ أحقّ به منها. والمعنى يعضده ؛ فإن الابن قد أنس بها فنقله عنها إضرار به. والله أعلم.

المسألة الخامسة عشرة ـ معضلة ، قال مالك : كلّ أمّ يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها ، إلا أنّ مالكا ـ دون فقهاء الأمصار ـ استثنى الحسيبة (٢) ، فقال : لا يلزمها إرضاعه ، فأخرجها من الآية ، وخصّها فيها بأصل من أصول الفقه ، وهو العمل بالمصلحة ، وهذا فنّ لم يتفطّن له مالكى.

وقد حققناه (٣) في أصول الفقه. والأصل البديع فيه هو أنّ هذا أمر كان في الجاهلية في ذوى الحسب ، وجاء الإسلام عليه فلم يغيّره ؛ وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه ، فقال به ، وإلى زماننا ؛ فحقّقناه شرعا.

__________________

(١) الاغتيال : الغيل : أن ترضع المرأة ولدها على حبل.

(٢) في ا : الحسبية.

(٣) في ا : وقد حققنا.


الآية الثانية والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

فيها اثنتا عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في نسخها قولان :

أحدهما ـ أنها ناسخة لقوله تعالى (٢) : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) ، وكانت عدّة الوفاة في صدر الإسلام حولا ، كما كانت في الجاهلية ، ثم نسخ الله تعالى ذلك بأربعة أشهر وعشر ؛ قاله الأكثر.

الثاني ـ أنها منسوخة بقوله تعالى (٣) : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ؛ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) ، تعتدّ حيث شاءت ؛ روى عن ابن عباس وعطاء.

والأصحّ هو القول الأول كما حققناه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ على وجه نكتته على ما روى الأئمة في الصحيح أنّ ابن الزبير قال لعثمان رضى الله عنه : قوله تعالى(٤) : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها؟ قال : يا ابن أخى ؛ لا أغيّر منه شيئا عن مكانه ، وقد قال الأئمة إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان حين قتل زوجها : امكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله.

فتقرّر من هذا أنّ المتوفّى عنها زوجها كانت بالخيار بين أن تخرج من بيتها وبين أن تبقى بآية الإخراج ، ثم نسخها الله تعالى بالآية التي فيها التربّص ، ثم أكّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره للفريعة بالمكث في بيتها ؛ فكان ذلك بيانا للسكنى (٥) للمتوفّى عنها زوجها قرآنا وسنة.

المسألة الثانية ـ هذا لفظه لفظ الخبر ، ومعناه أيضا معنى الخبر كما تقدم. المعنى :

__________________

(١) الآية الرابعة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٤٠

(٣) في ا : السكنى. وفي ل : فكان ذلك بيان للسكنى.


والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ، يعنى شرعا ؛ فما وجد من متوفّى عنها زوجها لم تتربّص فليس ذلك من الشرع ، فجرى الخبر على لفظه ، وثبت كلام الله سبحانه على صدقه ، كما تقدم في التربّص بالقرء. والله أعلم.

المسألة الثالثة ـ التربّص : هو الانتظار ، ومتعلّقه ثلاثة أشياء : النكاح ، والطيب والتنظّف (١) ، والتصرف والخروج.

أما النكاح ، فإذا وضعت المتوفّى عنها زوجها ولو بعد وفاته بلحظة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال : الأول أنها قد حلّت. الثاني : أنها لا تحل إلّا بانقضاء الأشهر ؛ قاله ابن عباس. الثالث : أنها لا تحلّ إلّا بعد الطّهر من النفاس ؛ قاله الحسن وحماد بن أبى سليمان والأوزاعى.

وقد كان قول ابن عباس ظاهرا لو لا حديث سبيعة الأسلمية أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال ، فقال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم : قد حللت ، فانكحى من شئت.

صحّت رواية الأئمة له.

والذي عندي أنّ هذا الحديث لو لم يكن لما صحّ رأى ابن عباس في آخر الأجلين ؛ لأنّ الحمل إذا وضع فقد سقط الأجل بقوله تعالى (٢) : (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، وسقط المعنى الموضوع لأجله الأجل ، وهو مخافة شغل الرّحم ؛ فأيّ فائدة في الأشهر؟ وإذا تمت الأشهر وبقي الحمل فليس يقول أحد : إنها تحلّ ؛ وهذا يدلك على أنّ حديث سبيعة جلاء لكلّ غمة ، وعلا على كل رأى وهمة.

وأما قول الأوزاعى فيردّه قوله تعالى (٣) : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ولم يشترط الطهارة.

فإن قيل : المراد بقوله تعالى (٤) : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) المطلقات ؛ لأنه فيهنّ ورد ، وعلى ذكرهنّ انعطف.

قلنا : عطفه على المطلّقة لا يسقط عمومه ، ويشهد له ما بينّاه من الحكمة في إيجاب العدّة من براءة الرحم ، وأنها قد وجدت قطعا.

المسألة الرابعة ـ قد يزدحم على الرّحم وطئان فتكون العدّة فيهما أقصى الأجلين في مسائل :

__________________

(١) في ا : والشظف ، وهو تحريف.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٤


منها المنعىّ لها يقدم (١) ثم يموت وهي حامل من الثاني ؛ فلا بدّ من أقصى الأجلين ، وكذلك لو قدم وهي حامل فطلّقها الأول فلا يبرئها الوضع ، ولتأتنف ثلاث حيض بعده ، وهو أمر بيّن.

المسألة الخامسة ـ أما الطّيب والزينة فقد روى عن الحسن أنه جوّز ذلك لها احتجاجا بما روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس حين مات جعفر : أمسكى ثلاثا ، ثم افعلي ما بدا لك. وهذا حديث باطل. روى (٢) الأئمة بأجمعهم عن زينب بنت أبى سلمة عن أمّ سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أنّ امرأة جاءت إليه فقالت له : إن ابنتي توفّى عنها زوجها ، وقد اشتكت عينيها أفتكحلهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر. وقد كانت إحداكنّ ترمى بالبعرة على رأس الحول. قالت زينب : وكانت المرأة إذا توفّى عنها زوجها لبست شرّ ثيابها ، ودخلت حفشا (٣) فلم تمسّ طيبا حتى تمرّ بها سنة ، ثم تؤتى بدابّة ، حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به ، فقلّ ما تفتضّ بشيء إلّا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره.

ولو صحّ حديث أسماء (٤) فقد قال علماؤنا : إنّ التسلّب هو لباس الحزن ، وهو معنى غير الإحداد.

وأما الخروج فعلى ثلاثة أوجه :

الأول ـ خروج انتقال ، ولا سبيل إليه عند عامّة العلماء إلّا ما روى عن ابن عباس وعطاء وسفيان الثورىّ ؛ لاعتقادهم أنّ آية الإخراج لم تنسخ ، وقد تقدّم بيان ذلك.

الثاني ـ خروج العبادة ، كالحجّ والعمرة ، قال ابن عباس وعطاء : يحججن لأداء

__________________

(١) في ا : بعدم ، وهو تحريف.

(٢) ابن ماجة : ٦٧٣

(٣) الحفش : البيت الصغير الذليل القريب السمك.

(٤) وهو أنه قال لأسماء بنت عميس بعد مقتل جعفر : تسلبى ثلاثا ، ثم اصنعي ما شئت. أى البسى ثوب الحداد ، وهو السلاب. وتسلبته المرأة : إذا لبسته. وقيل : هو ثوب أسود تغطى به المحد رأسها. ومنه حديث بنت أم سلمة أنها بكت على حمزة ثلاثة أيام وتسلبت.


الفرض عليهن ، وقد قال عمر وابن عمر : لا يحججن ؛ وقد كان عمر رضى الله عنه يردّ المعتدّات من البيداء يمنعهنّ الحجّ ؛ فرأى عمر في الخلفاء ورأى مالك في العلماء وغيرهم أنّ عموم فرض التربّص في زمن العدّة مقدّم على عموم زمان فرض الحج ، لا سيما إن قلنا إنّه على التراخي. وإن قلنا على الفور فحقّ التربّص آكد من حق الحج ؛ لأنّ حقّ العدة لله تعالى ثم للآدمي في صيانة مائه وتحرير نسبه ؛ وحقّ الحج خاصّ لله سبحانه.

الثالث ـ خروجها بالنهار للتصرف ورجوعها بالليل ؛ قاله ابن عمر وغيره ، ويكون خروجها في السحر ورجوعها عند النوم ، فراعوا المبيت الذي هو عمدة السكنى ومقصوده ، وإليه ترجع حقيقة المأوى.

فإن قيل ، وهي :

المسألة السادسة ـ لم ير أحد مبيت ليلة أو ثلاث (١) سكنى للبائت حيث بات ، ولا خروجا عن السكنى ، فما بالهم في العدّة قالوا : خروج ليله خروج؟

قلنا : المعنى فيه ـ والله أعلم ـ أنّ حقّ الخروج متعلّق المبيت فاحتيط له* والحي يحمى* شوله (٢) معقولا* فلم يعتبر ذلك فيه.

المسألة السابعة ـ الآية عامة في كل متزوّجة ، مدخول بها أو غير مدخول بها ، صغيرة أو كبيرة ، أمة أو حرّة ، حامل أو غير حامل كما تقدم. وهي خاصّة في المدة ؛ فإن كانت أمة فتعتدّ نصف عدّة الحرة إجماعا ، إلا ما يحكى عن الأصم ، فإنه سوّى فيه بين الحرّة والأمة ، وقد سبقه الإجماع ، لكن لصممه لم يسمع به ، وإذا انتصف فمن العلماء من قال : إنها شهران وخمس ليال ، وهو مالك ، ورأيت لغيره ما لم أرض أن أحكيه.

المسألة الثامنة ـ إذا مات الزوج ولم تعلم المرأة بذلك إلّا بعد مضىّ مدة العدة فمذهب الجماعة أنّ العدّة قد انقضت ، ويروى عن علىّ أنّ العدّة من يوم علمت ، وبه قال الحسن. وقال نحوا منه عمر بن عبد العزيز والشعبي إن ثبت الموت ببيّنة.

ووجهه أن العدّة عبادة بترك الزينة ، وذلك لا يصح إلا بقصد ، والقصد لا يكون إلّا

__________________

(١) في ل : وثلاثا.

(٢) الشائلة من الإبل : التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر ، فجف لبنها ، والجمع شول.


بعد العلم ، يؤكّده أنها لو علمت بموته فتركت الإحداد لانقضت العدّة ؛ فإذا تركت الإحداد مع عدم العلم فهو أهون ؛ ألا ترى أنّ الصغيرة تنقضي عدّتها ولا إحداد عليها.

المسألة التاسعة ـ إن لم تحض في الأربعة الأشهر فلا عدّة لها عندنا في أشهر الأقوال.

وقال أبو حنيفة والشافعى وغيرهما : لا تفتقر إلى الحيض.

ودليلنا أنّ تأخير الحيض ريبة توجب أن تستظهر له ، إلا أنّ علماءنا قالوا : إذا لم يكن لها عادة بتأخير الحيض ولم تخش ريبة بقيت تسعة أشهر من يوم وفاته.

وكيفية الاستظهار عندنا تكون بحيضة واحدة على ما بيناه في مسائل الفروع.

المسألة العاشرة ـ إن كانت الزوجة كتابيّة فلمالك فيها قولان :

أحدهما ـ أنها كالمسلمة. الثاني ـ أنها تعتدّ بثلاث حيض ؛ إذ بها يبرأ الرحم ؛ وهذا منه فاسد جدا ؛ لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة ؛ وهي منها ، وأدخلها في عموم آية الطلاق ، وليست منها.

المسألة الحادية عشرة ـ في تنزيل هذه الأحكام :

اعلموا وفّقكم الله أنّ المقصود بهذه العدّة براءة الرحم من ماء الزوج ؛ فامتناع النكاح إنما هو لأجل الماء الواجب صيانته أولا.

وامتناع عقد النكاح إنما هو لاستحالة وجوده شرعا على محلّ لا يفيد مقصوده فيه وهو الحلّ.

وامتناع الطيب والزينة لأنه من دواعيه ، فقطعت الذريعة إليه بمنع ما يحرص عليه. وامتناع الخطبة لأنّ القول في ذلك والتصريح به أقوى ذريعة وأشدّ داعية من الطيب والزينة ، فحرّم من طريق الأولى.

وامتناع الخروج لبقاء الرقبة الموجب غاية (١) الحفيظة والعصمة. وحقّ أمر السكنى لكونه في الدرجة الخامسة من الحرمة ، فأسقط وجوبه أحبار من الأمّة ، ثم رخّص الله تعالى في التعريض على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ).

__________________

(١) في ل : عامة.


يعنى انقضت العدّة فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن.

هذا خطاب للأولياء ، وبيان أنّ الحقّ في التزويج لهنّ فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ؛ أى من جائز شرعا ، يريد من اختيار أعيان الأزواج ، وتقدير الصداق دون مباشرة العقد ، لأنّه حقّ للأولياء ، كما تقدم دون وضع نفسها في غير كفء ، لأنه ليس من المعروف ، وفيه الضرر وإدخال العار.

الآية الثالثة والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ، وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ حرّم الله تعالى النكاح في العدّة ، وأوجب التربّص على الزوجة ، وقد علم سبحانه أنّ الخلق لا يستطيعون الصّبر عن ذكر النكاح والتكلم فيه ، فاذن في التصريح بذلك مع جميع الخلق ، وأذن في ذكر ذلك بالتعريض مع العاقد له ، وهو المرأة أو الولىّ ؛ وهو في المرأة آكد.

والتعريض هو القول المفهم لمقصود الشيء ، وليس بنصّ فيه. والتصريح هو التنصيص عليه والإفصاح بذكره ، مأخوذ من عرض الشيء وهو ناحيته ، كأنه يحوم على النكاح ولا يسف (٢) عليه ويمشى حوله ولا ينزل به.

المسألة الثانية ـ في تفسير التعريض :

وقد روى عن السلف فيه كثير ، جماعه عندي يرجع إلى قسمين :

الأول ـ أن يذكرها للولىّ ؛ يقول لا تسبقني بها.

الثاني ـ أن يشير بذلك إليها دون واسطة. فإن ذكر ذلك لها بنفسه ففيه سبعة ألفاظ: الأول ـ أن يقول لها : إنى أريد التزويج.

الثاني ـ أن يقول لها : لا تسبقيني بنفسك ؛ قاله ابن عباس.

__________________

(١) الآية الخامسة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) في ا : ولا يشف. والمثبت من ل.


الثالث ـ أن يقول لها : إنك لجميلة ، وإنّ حاجتي في النساء ، وإن الله لسائق إليك خيرا.

الرابع ـ أن يقول لها : إنك لنافقة (١) ؛ قاله ابن القاسم.

الخامس ـ إنّ لي حاجة ، وأبشرى فإنّك نافقة ، وتقول هي : قد اسمع ما تقول ؛ ولا تزيد شيئا ؛ قاله عطاء.

السادس ـ أن يهدى لها. قال إبراهيم : إذا كان من شأنه. وقال الشعبي مثله في :

السابع ـ ولا يأخذ ميثاقها.

قالت سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة : دخل علىّ أبو جعفر وأنا في عدّتى فقال : يا بنت حنظلة ، قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدّى علىّ. فقلت : غفر الله لك أبا جعفر ، تخطبنى في عدّتى وأنت يؤخذ عنك؟

فقال : أوقد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي.

وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة ـ وكانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفّى عنها ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله ، وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله ، فما كانت تلك خطبة.

فانتخل من هذا فصلان : أحدهما أن يذكرها لنفسها. الثاني أن يذكرها لوليّها أو يفعل فعلا يقوم مقام الذكر كأن يهدى لها.

والذي مال إليه مالك أن يقول : إنى بك لمعجب ، ولك محبّ ، وفيك راغب. وهذا عندي أقوى التعريض ، وأقرب إلى التصريح.

والذي أراه أن يقول لها : إنّ الله تعالى سائق إليك خيرا ، وأبشرى وأنت نافقة. فإن قال لها أكثر فهو إلى التصريح أقرب.

ألا ترى إلى ما قال أبو جعفر الباقر ، وإلى ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما إذا ذكرها لأجنبىّ فلا حرج عليه ولا حرج على الأجنبىّ في أن يقول : إنّ فلانا يريد أن يتزوّجك إذا لم يكن ذلك بواسطة.

وهذا التعريض ونحوه من الذرائع المباحة ؛ إذ ليس كل ذريعة محظورا ، وإنما يختص

__________________

(١) من النفاق ، وهو الرواج.


بالحظر الذريعة في باب الرّبا ، لقول عمر رضى الله عنه : فدعوا الرّبا والريبة وكلّ ذريعة ريبة ؛ وذلك لعظيم حرمة الرّبا وشدة الوعيد فيه من الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح قال علماء الشافعية : هذا دليل على أنّ التعريض بالقذف لا يوجب الحدّ ؛ لأنّ الله تعالى لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح ؛ فأولى ألّا يكون هاهنا ؛ لأنّ الحدّ يسقط بالشبهة. وهذا ساقط ؛ فإنّ الله تعالى لم يأذن في التصريح في النكاح بالخطبة ، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح ؛ فهذا دليل على أن التعريض به يفهم منه القذف ، والأعراض يجب صيانتها كما تجب صيانة الأموال والدماء ، وذلك يوجب حدّ المعرّض ، لئلا يتطرّق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).

يعنى سترتم وأخفيتم في قلوبكم من ذكرهنّ ، والعزيمة على نكاحهن ؛ فرفع الله تعالى الحرج في ذلك ؛ لعلمه بأنه لا بدّ منه تفضّلا منه حين علم أنه لا بدّ من ذكرهن ، ثم قال تعالى وهي :

المسألة الخامسة ـ (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا).

المعنى قد منعتم التصريح بالنكاح وعقده ، وأذن لكم في التعريض ؛ فإياكم أن يقع بينكم مواعدة في النكاح ، حين منعتم العقد فيه.

وقد اختلف العلماء في السرّ المراد هاهنا على ثلاثة أقوال :

الأول : أنه الزنا. الثاني : الجماع. الثالث : التصريح. واختار الطبري أنه الزنا ؛ لقول الأعشى (١) :

فلا تقربنّ جارة إنّ سرّها

عليك حرام فانكحن أو تأبّدا

والسرّ في اللغة يتصرّف على معان :

أحدها ـ ما تكلّم به في سرّه وأخفى منه ما أضمر.

الثاني ـ سرّ الوادي ؛ أى شطّه.

الثالث ـ سرّ الشيء : خياره.

__________________

(١) ديوانه : ١٣٧ ، والتأبد : التعزب والبعد عن النساء.


الرابع ـ أنه الزنا.

الخامس ـ أنه الجماع.

السادس ـ أنه فرج المرأة.

السابع ـ سرر (١) الشهر : ما استسر الهلال فيه من لياليه.

وهذه الإطلاقات يدخل بعضها على بعض ، ويرجع المعنى إلى الخفاء ، فيعمّ به تارة ويخصّ أخرى ، وترى سرّ الشيء خياره إنما هو لأنه يخفى ويضنّ به ، وترى أنّ سرّ الوادي شطّه ؛ لأنه أشرفه ؛ لأنّ حسن الوادي إنما يكون بالجلوس عليه لا فيه ، ومنه سميت السرّية لأنها تتّخذ للوطء ، إذ الخدم يتخذون للتصرف والوطء ، فسميت المتّخذة للوطء سريّة من السرور ، ومنه سمى فرج المرأة سرّا لأنه موضعه.

فالمعنى هاهنا : لا تواعدوهنّ نكاحا ولا وطئا ، فهو الذي حرّم عليكم في العدّة ، لأنه حرم عليهن النكاح في العدة إلى وقت محرّم عليهن ضرب الوعد فيه ؛ وهذا بيّن لمن تأمّله.

المسألة السادسة ـ قال علماؤنا : إذا حرّم الوعد في العدّة بالنكاح لأنه لا يجوز كان ذلك دليلا على تحريم الوعد في التقابض في الصّرف في وقت لا يجوز إلى وقت يجوز فيه التقابض.

ومنه قول عمر رضى الله عنه : وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره ؛ وهذا بيّن ، فإن الربا مثل الفرج في التحريم ، وهذا بيّن عند التأمل.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، وهو التعريض الجائز.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

فهذه عامة (٢) للبيان ؛ أى لا تواعدوا نكاحا ، ولا تعقدوه ، حتى تنقضي العدّة.

المسألة التاسعة ـ لو واعد في العدّة ونكح بعدها استحبّ له مالك الفراق بطلقة تورّعا ، ثم يستأنف خطبتها ، وأوجب عليه أشهب الفراق ؛ وهو الأصحّ.

المسألة العاشرة ـ إذا نكح في العدّة وبنى فسخ ولم ينكحها أبدا ، [قاله مالك وأحمد والشعبي] (٣) ، وبه قضى عمر ؛ لأنه استحلّ ما لا يحلّ له فحرمه ، كالقاتل في حرمان الميراث.

وقد استوفيناها في مسائل الخلاف دليلا ، وفي كتب الفروع تفريعا.

__________________

(١) السرر : الليلة التي يستسر فيها القمر.

(٢) في ا : علية. والمثبت من ل.

(٣) ليس في ل.


الآية الرابعة والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

فيها مسألة واحدة :

اختلف الناس في تقديرها ؛ فمنهم من قال : معناها لا جناح عليكم إن طلقتم النساء المفروض لهنّ الصداق من قبل الدخول ما لم تمسوهنّ ، وغير المفروض لهنّ قبل الفرض ؛ قاله الطبري واختاره.

ومنهم من قال : معناها إن طلّقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة. وتكون أو بمعنى الواو.

الثالث ـ أن يكون في الكلام حذف ، تقديره لا جناح عليكم إن طلقتم النساء فرضتم أو لم تفرضوا.

وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين : أحدهما أن تكون أو بمعنى الواو. الثاني أن يكون في الكلام حذف تقدّر (٢) به الآية ، وتبقى أو على بابها ، وتكون بمعنى التفصيل والتقسيم والبيان ، ولا ترجع إلى معنى الواو ، كقوله تعالى (٣) : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً). فإنها للتفصيل.

واحتجّ من قال إنها بمعنى الواو بأنه عطف عليها بعد ذلك المفروض لهن. فقال تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لهنّ قبل المسيس لما كرّره ، وهذا ظاهر. وقد بينّا في كتاب ملجئة المتفقهين ذلك.

ولا فرق في قانون العربية بين تقدير حذف ، أو تكون أو بمعنى الواو ؛ لأنّ المعاني تتميّز بذلك ، والأحكام تتفصّل ؛ فإن المطلّقة التي لم تمس ولم يفرض لها لا تخلو من أربعة أقسام :

__________________

(١) الآية السادسة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) في ا : تقرر.

(٣) سورة الإنسان ، آية ٢٤


الأوّل ـ مطلقة قبل المسّ وبعد الفرض.

الثاني ـ مطلّقة بعد المسيس والفرض.

الثالث ـ مطلّقة قبل المسيس وبعد الفرض.

الرابع ـ مطلقة بعد المس ، وقبل الفرض.

وقد اختلف الناس في المتعة على أربعة أقوال دائرة مع الأربعة الأقسام.

والصحيح أنّ الله تعالى لم يذكر في هذا الحكم إلّا قسمين : مطلّقة قبل المسّ وقبل الفرض ، ومطلّقة قبل المسّ وبعد الفرض ؛ فجعل للأولى المتعة ، وجعل للثانية نصف الصداق ، وآلت الحال إلى أنّ المتعة لم يبيّن الله سبحانه وتعالى وجوبها إلا لمطلّقة قبل المسيس والفرض. وأما من طلّقت وقد فرض لها فلها قبل المسيس نصف الفرض ، ولها بعد المسيس جميع الفرض أو مهر مثلها.

والحكمة في ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قابل المسيس بالمهر الواجب ونصفه بالطلاق قبل المسيس ، لما لحق الزوجة من رحض العقد ، ووصم الحلّ الحاصل للزوج بالعقد (١) ، فإذا طلقها قبل المسيس والفرض ألزمه الله المتعة كفؤا لهذا المعنى ؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب المتعة ؛ فمنهم من رآها واجبة لظاهر الأمر بها ، وللمعنى الذي أبرزناه من الحكمة فيها.

وقال علماؤنا : ليست بواجبة لوجهين : أحدهما أنّ الله تعالى لم يقدرها ، وإنما وكلها إلى اجتهاد المقدّر ، وهذا ضعيف ؛ فإن الله تعالى قد وكل التقدير في النفقة إلى الاجتهاد ، وهي واجبة ، فقال : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).

الثاني ـ أنّ الله تعالى قال فيها : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) : حقّا على المتقين ، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين ؛ فتعليقها بالإحسان وليس بواجب ، وبالتّقوى ـ وهو معنى خفىّ ـ دلّ على أنها استحباب ، يؤكده أنه قال تعالى في العفو عن الصداق (٢) : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، فأضافه إلى التّقوى وليس بواجب ؛ وذلك أنّ للتقوى أقساما بيّناها في كتب الفقراء ؛ ومنها واجب ، و [منها] (٣) ما ليس بواجب ؛ فلينظر هنالك.

__________________

(١) في ا : بالعقدة.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٣٧

(٣) الزيادة من ل.


فإن قيل : فقد قال تعالى (١) : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ، فذكرها لكلّ مطلقة؟

قلنا : عنه جوابان : أحدهما أنّ المتاع هو كلّ ما ينتفع به ؛ فمن كان لها مهر فمتاعها مهرها ، ومن لم يكن لها مهر فمتاعها ما تقدم.

الثاني أنّ إحدى الآيتين حقيقة دون الأخرى ، وذلك بيّن في مسائل الخلاف ، فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى.

الآية الخامسة والسبعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

فيها ثماني مسائل :

المسألة الأولى ـ هذا القسم هو أحد الأقسام المتقدمة ، وهو مطلّقة قبل المسيس وبعد الفرض ، فلها نصف المفروض واجبا ، كما أنّ للمتقدمة المتعة مستحبّة.

المسألة الثانية ـ إنّ المطلقة قبل المسيس لها نصف المهر ، وإن خلا بها ، ولا تضرّ الخلوة بالمهر ، إلّا أن يقترن بها مسيس في مشهور المذهب ؛ وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : يتقرّر المهر بالخلوة ؛ وظاهر القرآن يدلّ على ما قلناه.

فإن قيل : الآية حجّة عليكم ؛ لأنه لو خلا وقبّل ولمس قلتم لا يتقرّر المهر.

قلنا : المسيس هاهنا كناية عن الوطء بإجماع ؛ لأنّ عندكم أنه لو خلا ولم يلمس ولا قبّل يتقرر المهر ، ولم يوجد هنا مسّ ولا وطء ؛ وهذا خلاف الآية ومراغمة الظاهر.

المسألة الثالثة ـ لما قسم الله تعالى حال المطلقة إلى قسمين ؛ مطلّقة سمّى لها فرض ، ومطلّقة لم يسمّ لها فرض دلّ على أنّ نكاح التفويض جائز ، وهو كلّ نكاح عقد من غير ذكر الصداق ؛ ولا خلاف فيه ، ويفرض بعد ذلك الصداق. فإن فرض التحق بالعقد وجاز ، وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا ، وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة : لا يتنصف بالطلاق ؛ لأنه لم يجب بالعقد ، وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٤١

(٢) الآية السابعة والثلاثون بعد المائتين.


لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وخلاف القياس أيضا ؛ فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد ؛ فوجب أن يتنصف بالطلاق أصله الفرض (١) المقترن بالعقد.

المسألة الرابعة ـ فإن وقع الموت قبل الفرض فقال مالك : لها الميراث دون الصداق. وخالف في ذلك الشافعىّ وأبو حنيفة ، فقالوا : يجب لها الصّداق والميراث ، واحتجّوا بما روى جماعة منهم النسائي وأبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها ـ بالمهر والميراث والعدّة. والحديث ضعيف ؛ لأن راويه مجهول ؛ ودليلنا أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق أصله الطلاق ، وقد خرّج الحديث المتقدم (٢) أبو عيسى ، وقال : حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح ، وقد روى عنه من غير وجه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

الواجب لهنّ من الصداق أذن (٣) الله تعالى لهنّ في إسقاطه بعد وجوبه ؛ إذ جعله خالص حقّهنّ يتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن إذا ملكن أمر أنفسهن في الأموال ورشدن (٤).

المسألة السادسة ـ (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

وهي معضلة اختلف العلماء فيها ؛ فقيل : هو الزوج ؛ قاله علىّ وشريح وسعيد بن المسيّب وجبير بن مطعم ومجاهد والثوري ؛ واختاره أبو حنيفة والشافعى في أصحّ قوليه.

ومنهم من قال : إنه الولىّ ؛ قاله ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، وعلقمة ، ومحمد بن كعب ، وابن شهاب ، والأسود ابن يزيد ، وشريح الكندي ، والشعبي ، وقتادة.

واحتجّ من قال إنه الزوج بوجوه كثيرة ، لبابها ثلاثة :

الأول ـ أن الله تعالى ذكر الصداق في هذه الآية ذكرا مجملا من الزوجين ، فحمل على

__________________

(١) في ل : والمقترن.

(٢) في ا : المتفرع. والمثبت من ل. وأبو عيسى : هو الترمذي.

(٣) في ا : بإذن.

(٤) الفعل كقعد وطرب.


المفسّر في غيرها (١) ، وقد قال الله تعالى (٢) : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ؛ فأذن الله تعالى للزوج في قبول الصداق إذا طابت نفس المرأة بتركه.

وقال أيضا (٣) : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ ......) إلى آخرها.

فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ مما آتى المرأة إن أراد طلاقها.

الثاني ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ).

يعنى النساء ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح : يعنى الزوج ، معناه يبذل جميع الصداق. يقال : عفا بمعنى بذل ، كما يقال : عفا بمعنى أسقط.

ومعنى ذلك وحكمته أنّ المرأة إذا أسقطت ما وجب لها من نصف الصداق تقول هي: لم ينل منى شيئا ولا أدرك ما بذل فيه هذا المال بإسقاطه (٤) ، وقد وجب إبقاء للمروءة واتقاء في الديانة. ويقول الزوج : أنا أترك المال لها لأنى قد نلت الحلّ وابتذلتها بالطلاق فتركه أقرب للتقوى وأخلص من الأئمة.

الثالث ـ أنه تعالى قال : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

وليس لأحد في هبة مال لآخر (٥) فضل ؛ وإنما ذلك فيما يهبه المفضل من مال نفسه ، وليس للولىّ حقّ في الصداق.

واحتجّ من قال : إنه الولىّ بوجوه كثيرة ؛ نخبتها أربعة :

الأول ـ قالوا : الذي بيده عقدة النكاح الولىّ ، لأن الزوج قد طلّق ؛ فليس بيده عقدة ، ومنه قوله تعالى (٦) : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، وهذا يستمرّ مع الشافعى دون أبى حنيفة الذي لا يرى عقدة النكاح للولىّ.

الثاني ـ أنه لو أراد الأزواج لقال : إلّا أن تعفوا أو تعفون ، فلما عدل من مخاطبة الحاضر المبدوء به في أول الكلام إلى لفظ الغائب دلّ على أن المراد به غيره.

__________________

(١) في ل : في غيرهما.

(٢) سورة النساء ، آية ٤

(٣) سورة النساء ، آية ١٩

(٤) في ل : وإسقاطه.

(٥) في ا : آخر.

(٦) سورة البقرة ، آية ٢٣٥


الثالث ـ أنه تعالى قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) : يعنى يسقطن. وقوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) لا يتصوّر الإسقاط فيه إلّا من الولىّ ؛ فيكون معنى اللفظ الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه ، وذلك أنظم للكلام.

الرابع ـ أنه تعالى قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ، يعنى يسقطن ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ، يعنى يسقط ؛ فيرجع القول إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة ، فأما النصف الذي لم يجب فلم يجر له ذكر.

المسألة السابعة ـ في المختار :

والذي تحقّق عندي بعد البحث والسّبر أن الأظهر هو الولىّ لثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنّ الله تعالى قال في أول الآية : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ...) إلى قوله تعالى : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ، ثم قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) فذكر النسوان ... (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فهذا ثالث ؛ فلا يردّ إلى الزوج المتقدّم إلّا لو لم يكن لغيره وجود ، وقد وجد وهو الولىّ ، فلا يجوز بعد هذا إسقاط التقدير بجعل الثلاث اثنين من غير ضرورة.

الثاني ـ أنّ الله تعالى قال : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، ولا إشكال في أنّ الزوج بيده عقدة النكاح لنفسه ، والولىّ بيده عقدة النكاح لوليته ، على القول بأنّ الذي يباشر العقد الولىّ ؛ فهذه المسألة هي أصول العفو مع أبى حنيفة ، وقد بينّاها قبل ، وشرحناها في مسائل الخلاف.

فقد ثبت بهذا أنّ الولىّ بيده عقدة النكاح ، فهو المراد ؛ لأنّ الزوجين يتراضيان فلا ينعقد لهما أمر إلّا بالولىّ ، بخلاف سائر العقود ، فإنّ المتعاقدين يستقلان بعقدهما.

الثالث ـ إنّ ما قلناه أنظم في الكلام ، وأقرب إلى المرام ، لأن الله تعالى قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ). ومعلوم أنه ليس كلّ امرأة تعفو ، فإنّ الصغيرة أو المحجورة لا عفو لها ، فبيّن الله تعالى القسمين ، وقال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إن كنّ لذلك أهلا ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ؛ لأنّ الأمر فيه إليه.


وكذلك روى ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر ، والسيّد في أمته ؛ لأن هذين هما اللذان يتصرّفان في المال وينفذ لهما القول.

فإن قيل : إنما يتصرّف الولىّ في المال بما يكون حظّا لابنته ، فأما الإسقاط فليس بحظّ ولا نظر.

قلنا : إذا رآه كان ؛ فإنا أجمعنا على أنه لو عقد نكاحها بأقلّ من مهرها نفذ ؛ وهذا إسقاط محض ، لكنه لما كان نظرا مضى.

فإن قيل : فهو عامّ في كل ولىّ ، فلم خصصتموه بهذين؟

قلنا : كما هو عامّ في كل زوجة وخصّ (١) في الصغيرة والمحجورة.

وأما متعلّق من قال : إنه الزوج فضعيف ، أمّا قولهم : إنّ الله سبحانه ذكر الأزواج في الآيتين اللتين استشهدوا بهما فقد ذكر الولىّ في هذه الآية ، فجاءت الأحكام كلّها مبينة والفوائد الثلاثة معتبرة ، وعلى قولهم يسقط بعض البيان.

وأما قولهم الثاني فلا حجّة فيه ، لأنّ مجيء العفو بمعنى واحد من الجهتين أبلغ في الفصاحة وأوفى في المعنى من مجيئه بمعنيين ، لأنّ فيه إسقاط أحد العافيين ، وهو الولىّ المستفاد إذا كان العفو بمعنى الإسقاط. وأما ندب الزوج إلى إعطاء الصّداق كله في الآيتين اللتين ذكروا فذلك معلوم من دليل آخر.

وأما الثالث فلا حجة لهم فيه ؛ لأنّ الله تعالى أراد أن يميّز الولىّ عن الزوج والزوجة بمعنى يخصّه ، فكنى عنه بقوله تعالى : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) بكناية مستحسنة ، فكان ذلك أبلغ في الفصاحة ، وأتم في المعنى ، وأجمع للفوائد.

وأما الرابع وهو قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وتعلّقهم بأنّ الإفضال لا يكون بمال أحد ، وإنما الإفضال يكون بأحد وجهين : أحدهما يكون ببذل ما تملكه يده.

والثاني بإسقاط ما يملك إسقاطه ، كما يتفضل عليه بأن يزوّجه بأقلّ من مهر المثل.

المسألة الثامنة ـ هذه الآية حجّة على صحّة هبة المشاع ، لأنّ الله تعالى أوجب للمرأة بالطلاق نصف الصداق ، فعفوها للرجل عن جميعه كعفو الرجل ، ولم يفصل بين مشاع ومقسوم.

__________________

(١) في ا : خص.


وقال أبو حنيفة : لا تصحّ هبة المشاع إلّا بعد القسمة ، والذي انفصل به المهر عن عموم الآية أنّ الله سبحانه (١) إنما بيّن تكميلا ثبت بنفس العفو دون شرط قبض ذلك في عفو المرأة (٢) ؛ والمهر دين ؛ أو في عفو الرجل ، والمهر مقبوض دين على المرأة. فأما المعيّن (٣) فلا يكمل العفو فيه إلّا بقبض متصل به ، أو قبض قائم ينوب عن قبض الهبة ، ولئن حملت الآية على عفو بشرط (٤) زيادة القبض ، فنحن لا نشترط إلّا تمامه ، وتمامه بالقسمة ، فآل الاختلاف إلى كيفية القبض.

قال القاضي ابن العربي : هذا الانفصال إنما يستمرّ بظاهره على أصحاب الشافعى الذين يشترطون في الهبة القبض. فأما نحن فلا نرى ذلك ؛ فلا يصحّ لهم هذا الانفصال معنا ، فإنّ نفس العفو ممن عفا يخلص ملكا لمن عفى له.

وأما أصحاب الشافعى فلا يصحّ لهم هذا معهم من طريق أخرى ، وهي أنّ الآية بمطلقها تفيد صحّة هبة المشاع ، مع كونه مشاعا ، وافتقار الهبة إلى القبض نظر (٥) يؤخذ من دليل يخصّ تلك النازلة ؛ فمشترط القسمة مفتقر إلى دليل ، ولما يجدوه إلا من طريق المعنى ينبنى (٦) على اشتراط القبض ؛ ونحن لا نسلّمه ، وليس التمييز من القبض أصلا في ورد ولا صدر ، فصحّ تعلقنا بالآية وعمومها وسلمت من تشغيبهم.

الآية السادسة والسبعون ـ قوله تعالى (٧) : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) :

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (حافِظُوا).

المحافظة : هي المداومة على الشيء والمواظبة ، وذلك بالتمادى على فعلها ، والاحتراس من تضييعها ، أو تضييع بعضها.

وحفظ الشيء في نفسه مراعاة أجزائه وصفاته ، ومنه كتاب عمر : من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ؛ فيجب أولا حفظها ثم المحافظة عليها ؛ بذلك يتمّ الدين.

__________________

(١) العبارة في ا : وذكر أهل ما وراء النهر في الانفصال عن عموم الآية بأن الله تعالى. والمثبت من ل.

(٢) في ل : في غير المرأة.

(٣) في ا : فأما العين.

(٤) في ا : على عقد شرط زيادة القبض.

والمثبت من ل.

(٥) في ا : نظر غير يؤخذ.

(٦) في ا : مبنى.

(٧) الآية الثامنة والثلاثون بعد المائتين.


المسألة الثانية ـ لا شكّ في انتظام قوله تعالى : الصلوات للصلاة الوسطى ، لكنه خصّصها بعد ذلك بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها ومقدارها في أخواتها. كما قال الله تعالى (١) : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) تنبيها على شرف الملكين ، وكما قال تعالى (٢) : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ؛ تنبيها على وجه الزيادة في مقدارهما بين الفاكهة.

المسألة الثالثة ـ في معنى تسميتها وسطى :

وفي ذلك احتمالات :

الأول ـ أنها وسطى من الوسط ، وهو العدل والخيار والفضل ، كما قال تعالى (٣) : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). وقوله تعالى (٤). (قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) ، يعنى الأفضل في الآيتين.

الثاني ـ أنها وسط في العدد ؛ لأنها خمس صلوات تكتنفها اثنتان من كل جهة.

الثالث ـ أنها وسط من الوقت. قال ابن القاسم : قال مالك : الصبح هي الوسطى لأنّ الظهر والعصر في النهار ، والمغرب والعشاء في الليل ، والصبح فيما بين ذلك ، وهي أقلّ الصلوات قدرا.

والظهر والعصر تجمعان ، والمغرب والعشاء تجمعان ، ولا تجمع الصبح مع شيء من الصلوات ، وهي كثيرا ما تفوت الناس وينامون عنها. وقال نحوه زيد بن أسلم في توسط الوقت.

وروى عن ابن عباس أنها الوسطى ؛ لأنها تصلّى في سواد من الليل وبياض من النهار ، وكثيرا ما تفوت الناس. قال ابن عباس أيضا ـ وقد قنت في الصّبح : هذه هي الصلاة الوسطى ؛ قال الله تعالى (٥) : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

المسألة الرابعة ـ في تحقيقها : يبعد في الشريعة أن تسمّى وسطى (٦) بعدد أو وقت وما

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٩٨

(٢) سورة الرحمن ، آية ٦٨

(٣) سورة البقرة ، آية ١٤٣

(٤) سورة القلم ، آية ٢٨

(٥) سورة البقرة ، آية ٢٣٨

(٦) هذه العبارة غير واضحة ، وهي في ا : يبعد في الشريعة أن تسمى وسطى بعد ذا ووقته من الصبح والزمان من الخط في الوسط والتخصيص عليه. والمثبت من ل.


العدد والزمان من الحظّ في الوسط والتخصيص عليه ، وقد كان اللبيب يمكنه أن يبدئ في ذلك ويعيد ، إلا أنه تكلّف ، والحقّ أحقّ أن يتّبع. قال الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) ، معناه لفضلهنّ ، وخصّوا الفضلى منهن بزيادة محافظة ؛ أى الزائدة الفضل ، وتعيينها متعذّر.

وقد اختلف العلماء فيها على سبعة أقوال :

الأول ـ أنها الظّهر ؛ قاله زيد بن ثابت.

الثاني ـ أنها العصر ؛ قاله علىّ في إحدى روايتيه.

الثالث ـ المغرب ؛ قاله البراء.

الرابع ـ أنها العشاء الآخرة.

الخامس ـ أنها الصبح ؛ قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو أمامة ، والرواية الصحيحة عن علىّ.

السادس ـ أنها الجمعة.

السابع ـ أنها غير معيّنة.

وكل قول من هذه الأقوال مستند إلى ما لا يستقلّ (١) بالدليل :

أمّا من قال : إنها الظهر ، فلأنها أول صلاة فرضت.

وأما من قال : إنها العصر ، فتعلّق بحديث علىّ رضى الله عنه : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا.

وأما من قال : إنها المغرب ، فلأنها وتر بين أشفاع.

وأما من قال : العشاء ، فلأنها وسطى صلاة الليل بين المغرب والصبح.

وأما من قال : إنها الصبح ؛ فلأنها في وقت متوسط بين الليل والنهار ؛ قاله مالك وابن عباس.

وقال غيرهما : هي مشهودة ، والعصر وإن كانت مثلها فتزيد الصبح عليها بوجهين : أحدهما ـ أنها أثقل الصلوات على المنافقين. والثاني ـ أنّ في الموطّأ عن عائشة (٢) : حافظوا

__________________

(١) في و : ما يستقل بالدليل.

(٢) الموطأ ، صفحة ١٣٩


على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ، وقوموا لله قانتين. وهذا يدلّ على أنّ الصلاة الوسطى غير صلاة العصر ، ويعارض حديث على رضى الله عنه ويبيّن أنّ المراد به أنها كانت وسطى بين ما فات وبقي.

وأما من قال : الجمعة ، فلأنها تختصّ بشروط زائدة ؛ وهذا يدلّ على شرفها وفضلها.

وأما من قال : إنها غير معينة ، فلتعارض الأدلّة وعدم الترجيح ؛ وهذا هو الصحيح ؛ فإنّ الله خبأها في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان ، وخبأ الساعة في يوم الجمعة ، وخبأ الكبائر في السيئات ؛ ليحافظ الخلق على الصلوات ، ويقوموا جميع شهر رمضان ، ويلزموا الذّكر في يوم الجمعة كلّه ، ويجتنبوا جميع الكبائر والسيئات.

المسألة الخامسة ـ قال بعض علمائنا : في هذه الآية فائدة ؛ وهي الردّ على أبى حنيفة في قوله : إن الوتر واجب ؛ لأنّ الوسط إنما يعدّ في عدد وتر ؛ ليكون الوسط شفعا يحيط به من جانبيه ؛ وإذا عدّت الصلوات الواجبات ستّا لم تكن الواحدة وسطا ؛ لأنها بين صلاتين من جهة ، وبين ثلاث صلوات من أخرى ؛ وهذا مبنيّ على أنّ الوسط معتبر بالعدد أو بالوقت ؛ وقد بينّا أنّ ذلك محتمل لا يدلّ على تعيينه دليل.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

اعلموا وفّقكم الله تعالى أنّ القنوت يرد على معان ، أمّهاتها أربع :

الأول ـ الطاعة ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ القيام ؛ قاله ابن عمر ، وقرأ (١) : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفضل الصلاة طول القنوت.

الثالث ـ إنه السكوت ، قاله مجاهد. وفي الصحيح قال زيد : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (٢) : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، فأمرنا بالسكوت.

الرابع ـ أنّ القنوت الخشوع.

وهذه المعاني كلها يصحّ أن يكون جميعها مرادا ؛ لأنّه لا تنافر فيه إلا القيام ، فإنه يبعد أن يكون معنى الآية : وقوموا لله قائمين ، إلّا على تكلّف. وقد صلّى ابن عباس الصبح

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٩

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٣٨


وقنت فيها ، فلما فرغ منها قال : هذه هي الصلاة الوسطى ، وقرأ الآية إلى قوله تعالى : (قانِتِينَ).

والصحيح رواية زيد بن أرقم لأنها نصّ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يلتفت إلى محتمل سواها.

المسألة السابعة ـ إذا ثبت أنّ المراد بالقنوت هاهنا السكوت ، فإذا تكلّم المصلّى فلا يخلو أن يتكلّمها ساهيا أو عامدا ؛ فإن تكلّم ساهيا لم يخرج عن الصلاة ولا زال عن امتثال الأمر (١) ، لأنّ السهو لا يدخل تحت التكليف ؛ وهذا قوىّ جدا.

وقد عارضه بعض العلماء بأنّ الفطر المنهىّ عنه في الصوم إذا وقع سهوا أبطله ، فينتقض هذا الأصل. فأجابوا عنه بأنّ الفطر ضدّ الصوم ، وإذا وجد ضد العبادة أبطلها ، كان سهوا أو عمدا كالحدث في الصلاة ، بخلاف مسألتنا ؛ فإنّ الكلام في الصلاة محظور غير مضادّ ، فكان ذلك معلّقا (٢) بالقصد ، وقد حققنا ذلك في كتاب تلخيص مسائل الخلاف.

وأما إن تكلم عامدا ، فإن كان عابثا أبطل الصلاة ، وإن كان لإصلاحها ـ كتنبيه الإمام ـ جاز عند علمائنا.

وقال الشافعى : لا يجوز.

ودليلنا حديث ذي اليدين المشهور الصحيح (٣) : تكلموا فيه لإصلاح الصلاة فلم تبطل صلاتهم. وقد حققناه في مسائل الخلاف وكتب الحديث ، فلينظر هنالك ففيه الشفاء إن شاء الله.

الآية السابعة والسبعون ـ قوله تعالى (٤) : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

أمر الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحّة ومرض ، وحضر وسفر ، وقدرة وعجز ، وخوف وأمن ، لا تسقط عن المكلف بحال ، ولا يتطرّق إلى فرضيتها اختلال.

وقد قال صلى الله عليه وسلم : صلّ قائما ؛ فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب.

__________________

(١) أى لم يخالف الأمر.

(٢) في ا : مطلقا.

(٣) الحديث في الموطإ ، صفحة ٩٤

(٤) الآية التاسعة والثلاثون بعد المائتين.


وقال في الصحيح من رواية ابن عمر في حال الخوف (١) : فإن كان خوف أكثر من ذلك صلّوا قياما وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.

وقد صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الخوف مرارا متعددة بصفات مختلفة ، وقد مهّدناها في كتب الحديث.

والمقصود من ذلك أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين للزم فعلها ؛ كذلك إذا لم يقدر على حركة سائر الجوارح ، وبهذا المعنى تميّزت عن سائر العبادات ؛ فإنّ العبادات كلّها تسقط بالأعذار ، ويترخّص فيها بالرخص الضعيفة ؛ ولذلك قال علماؤنا ، وهي مسألة عظمى : إنّ تارك الصلاة يقتل ؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال. وقالوا فيها : إحدى دعائم الإسلام ، لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال ، يقتل (٢) تاركها ، وأصله الشهادتان.

وقد قال أبو حنيفة : إنّ القتال يفسد الصلاة ؛ وقد قدمنا من طريق ابن عمر الردّ عليه ، وظاهر الآية أقوى دليل عليه.

الآية الثامنة والسبعون ـ قوله تعالى (٣) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

فيه قولان :

أحدهما ـ أنّ بنى إسرائيل لما سلّط عليهم رجز الطاعون ، ومات منهم عدد كثير ، خرجوا هاربين من الموت ، فأماتهم الله تعالى مدة ، عقوبة لهم ، ثم أحياهم آية ؛ وميتة العقوبة بعدها حياة ، وميتة الأجل لا حياة بعدها.

الثاني ـ روى أنه كتب عليهم القتال فتركوه وخرجوا فارّين منه.

المسألة الثانية ـ الأصحّ والأشهر أنّ خروجهم إنما كان فرارا من الطاعون ، وهذا حكم باق في ملّتنا لم يتغيّر.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥٧٤

(٢) في ل : فيقتل.

(٣) الآية الثالثة والأربعون بعد المائتين.


قال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه (١).

واختلف العلماء في وجه الحكم في ذلك : أما الدخول ففيه الخلاف على أربعة أقوال:

الأول ـ ما فيه من التعرّض للبلاء ؛ وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى ، فإنّ صيانة النفس عن كل مكروه مخوف واجب.

الثاني ـ إنما نهى عن دخوله لئلا يشتغل عن مهمّات دينه بما يكون فيه من الكرب والخوف ، بما يرى من عموم الآلام وشمول الأسقام.

الثالث ـ ما يخاف من السخط عند نزول البلاء ، به وذهاب الصبر على ما ينزل من القضاء.

الرابع ـ ما يخاف عليه من سوء الاعتقاد ، كأن يقول : لو لا دخولي في هذا البلد لما نزل بي مكروه.

وأما الخروج فإنما نهى عنه لما فيه من ترك المرضى مهملين مع ما ينتظم به مما تقدم. والله أعلم.

الآية التاسعة والسبعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

قال قوم من علمائنا : هذه الآية مجملة وهو خطأ ؛ بل هي عامة. قال مالك : سبل الله كثيرة.

قال القاضي : ما من سبيل من سبل الله تعالى إلّا يقاتل عليها وفيها وأولها وأعظمها دين الإسلام ، قال الله سبحانه (٣) : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) ؛ وزاد صلّى الله عليه وسلّم تماما فقال (٤) : من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو في سبيل الله.

وبعد هذا فليس شيء من الشريعة إلّا يجوز القتال عليه وعنه ، فقد صحّ العموم وظهر تأكيد التخصيص.

فإن قيل : فمن قاتل دون ماله؟

قلنا : هو في سبيل الله ، لقوله صلّى الله عليه وسلّم : من قتل دون ماله فهو شهيد.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٧٣٧

(٢) الآية الرابعة والأربعون بعد المائتين.

(٣) سورة يوسف ، آية ١٠٨.

(٤) مسلم : ١٥١٢


الآية الموفية ثمانين ـ قوله تعالى (١) : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ، وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ القرض في اللغة : القطع ، والمعنى من يقطع الله جزءا من ماله فيضاعف له ثوابه أضعافا كثيرة ، إلّا أنه في الشرع مخصوص بالسلف على عادة الشّرع في أن يجرى على أسلوب اللغة في تخصيص الاسم ببعض محتملاته ، كما أنّ القراض (٢) مخصوص بالمضاربة ؛ كأنّ هذا سلف ماله ، وهذا سلف عمله ؛ فصارا متسالفين ، فسمى قراضا. وقيل متقارضان.

المسألة الثانية ـ جاء هذا الكلام في معرض الندب والتحضيض على إنفاق المال في ذات الله تعالى على الفقراء المحتاجين ، وفي سبيل الله بنصرة الدين ، وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العليّة المنزّهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة ، كما كنى عن المريض والجائع والعاطش بنفسه المقدّسة عن النقائص والآلام ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يقول الله تعالى : عبدى مرضت فلم تعدني ، يقول (٣) : وكيف تمرض وأنت ربّ العالمين؟ فيقول: مرض عبدى فلان ولو عدته لوجدتني عنده ، ويقول : جاع عبدى فلان ولو أطعمته لوجدتني عنده ؛ ويقول : عطش عبدى فلان ولو سقيته لوجدتني عنده.

وهذا كلّه خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به.

المسألة الثالثة ـ قال قوم : المراد بالآية الإنفاق في سبيل الله تعالى ؛ لأنه قال قبلها (٤): (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ؛ فهذا الجهاد بالبدن ، ثم قال بعده : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ؛ فهذا الجهاد بالمال.

وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم (٥) : من جهّز غازيا فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا.

والصحيح عندي ما قاله الحسن من أنه في أبواب البرّ كلّها ولا يردّ عمومه ما تقدّمه من ذكر الجهاد.

__________________

(١) الآية الخامسة والأربعون بعد المائتين.

(٢) القراض : المضاربة في لغة أهل الحجاز.

(٣) في ا : بقوله.

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٤٤

(٥) مسلم : ١٥٠٧


المسألة الرابعة ـ انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وإرادته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما وتفرّقوا فرقا ثلاثة :

الفرقة الأولى ـ الرذلى ؛ قالوا : إنّ ربّ محمد فقير محتاج إلينا ، ونحن أغنياء ؛ وهذه جهالة لا تخفى على ذي لبّ ؛ وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله (١) : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ، سَنَكْتُبُ ما قالُوا) ؛ والعجب من معاندتهم مع خذلانهم ؛ وفي التوراة نظير هذه الألفاظ.

الفرقة الثانية ـ لمّا سمعت هذا القول آثرت الشحّ والبخل ، وقدمت الرغبة في المال ؛ فما أنفقت في سبيل الله ، ولا فكّت أسيرا ، ولا أغاثت أحدا ؛ تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار.

الفرقة الثالثة ـ لما سمعت بادرت إلى امتثاله ، وآثر المجيب منهم بسرعة بماله ، أوّلهم أبو الدّحداح لما سمع هذا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : يا نبىّ الله ؛ ألا أرى ربّنا يستقرض مما أعطانا لأنفسنا ، ولي أرضان : أرض بالعالية وأرض بالسافلة ، وقد جعلت خيرهما صدقة. فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : كم عذق (٢) مذلّل لأبى الدحداح في الجنة.

فانظروا إلى حسن فهمه في قوله : يستقرض مما أعطانا لأنفسنا ، وجوده بخير ماله وأفضله ؛ فطوبى له! ثم طوبى له! ثم طوبى له! ثم طوبى له!

المسألة الخامسة ـ القرض يكون من المال ويكون من العرض ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في مشهور الآثار : أيعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم ، كان إذا خرج من بيته قال : اللهم إنى قد تصدقت بعرضي على عبادك.

وروى عن ابن عمر : أقرض من عرضك ليوم فقرك ، يعنى من سبّك فلا تأخذ منه حقّا ، ولا تقم عليه حدّا ، حتى تأتى (٣) يوم القيامة موفّر الأجر.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز التصدّق بالعرض ؛ لأنه حقّ لله تعالى ، وهذا فاسد ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح : إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ١٨١

(٢) العذق ـ بالفتح : النخلة ، وبالكسر : العرجون بما فيه من الشماريخ ، ويجمع على عذاق (النهاية).

(٣) في ا : يأتى.


كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.

وهذا يقتضى أنّ هذه المحرمات الثلاث تجرى مجرى واحدا في كونها باحترامها حقّا للآدمي ؛ وقد بينّا ذلك في مسائل الخلاف ، فلينظر هنالك.

الآية الحادية والثمانون ـ قوله تعالى (١) : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ إنّ الماء طعام بقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) ، وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات البدن به ؛ فوجب أن يجرى فيه الربا ، وهو الصحيح من المذهب ؛ ولم لا يجرى فيه الربا وهو أجلّ الأقوات ، وإنما هان لعموم وجوده ، وإنما عمّم الله تعالى وجوده بفضله ؛ لعظيم الحاجة إليه. ومن شرفه على سائر الأطعمة أنه مهيّأ مخلوق على صفة لا صنعة لأحد فيها لا أولا ولا آخرا.

المسألة الثانية ـ قال أبو حنيفة : من قال : إن شرب عبدى من الفرات فهو حرّ ؛ فلا يعتق إلّا أن يكرع فيه ؛ فإن شرب بيده أو اغترف بإناء منه لم يعتق ؛ لأنّ الله تعالى فرّق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد.

وهذا فاسد ؛ فإذا أجرينا الأيمان على الألفاظ ، وقلنا به معهم ؛ لأن شرب الماء ينطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا ، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث فاعله.

وأما هذه الآية فلا حجّة فيها ؛ فإنّ الله تعالى جعل ما لزمهم من هذه القصة معيارا لعزائمهم وإظهار صبرهم في اللقاء ؛ فكان من كسر شهوته عن الماء ، وغلب نفسه على الإمعان فيه إلّا غرفة واحدة يطفئ بها سورته ، ويسكن غليله ، موثوقا به في الثبات عند اللقاء في الحرب وكسر النفس عن الفرار عن القتال ، وبالعكس من كرع في النهر واستوفى الشّرب منه.

وهذا منزع معلوم ليس من اليمين في ورد ولا صدر.

الآية الثانية والثمانون ـ قوله تعالى (٢) : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

__________________

(١) الآية التاسعة والأربعون بعد المائتين.

(٢) الآية السادسة والخمسون بعد المائتين.


فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قيل : إنها منسوخة بآية القتال ؛ وهو قول ابن زيد.

الثاني (١) ـ أنها مخصوصة في أهل الكتاب الذين يقرّون على الجزية ؛ وعلى هذا فكلّ من رأى قبول الجزية من جنس تحمل الآية عليه.

الثالث ـ أنها نزلت في الأنصار ؛ كانت المرأة منهم إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش أن تهوّده ترجو به طول عمره ، فلما أجلى الله تعالى بنى النّضير قالوا : كيف نصنع بأبنائنا؟ فأنزل الله تعالى الآية : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (لا إِكْراهَ) : عموم في نفى إكراه الباطل ؛ فأما الإكراه بالحقّ فإنه من الدين ؛ وهل يقتل الكافر إلا على الدين ؛ قال صلّى الله عليه وسلّم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله. وهو مأخوذ من قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

وبهذا يستدلّ على ضعف قول من قال : إنها منسوخة.

فإن قيل : فكيف جاز الإكراه بالدين على الحق. والظاهر من حال المكره أنه لا يعتقد ما أظهر.

الجواب : أنّ الله سبحانه بعث رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم يدعو الخلق إليه ، ويوضّح لهم السبيل ، ويبصّرهم الدليل ، ويحتمل الإذاية والهوان في طريق الدعوة والتبيين ، حتى قامت حجّة الله ، واصطفى الله أولياءه ، وشرح صدورهم لقبول الحق ؛ فالتفّت كتيبة الإسلام ، وائتلفت قلوب أهل الإيمان ، ثم نقله من حال الإذاية إلى العصمة ، وعن الهوان إلى العزّة ، وجعل له أنصارا بالقوة ، وأمره بالدعاء بالسيف ؛ إذ مضى من المدة ما تقوم به الحجة ، وكان من الإنذار ما حصل به الإعذار.

جواب ثان : وذلك أنهم يؤخذون أوّلا كرها ، فإذا ظهر الدين وحصل في جملة المسلمين ، وعمّت الدعوة في العالمين حصلت لهم بمثافنتهم (٢) وإقامة الطاعة معهم النية ؛ فقوى اعتقاده ،

__________________

(١) هكذا في الأصول ، ولم يتقدم «الأول» ، وكأنه اعتبر ما سبق رأيا أول.

(٢) المثافنة : الملازمة والمصاحبة.


وصحّ في الدين وداده ، إن سبق لهم من الله تعالى توفيق ، وإلّا أخذنا بظاهره وحسابه. على الله.

المسألة الثالثة ـ إذا كان الإكراه بغير حقّ لم يثبت حكما ، وكان وجوده كعدمه ، وفي ذلك تفريع كثير قد بينّاه في كتاب الإكراه من المسائل (١) ، وستأتى منها مسألة إكراه الطلاق والكفر في قوله تعالى (٢) : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) إن شاء الله تعالى.

الآية (٣) الثالثة والثمانون ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ، وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٥) :

لا خلاف بين أهل التفسير أنها نزلت فيما روى أبو داود وغيره أنّ الرجل كان يأتى بالقنو (٦) من الحشف فيعلّقه في المسجد يأكل منه الفقراء ، فنزلت : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) المسألة الثانية ـ في المراد بالنفقة ، وفيه قولان :

أحدهما ـ أنها صدقة الفرض ؛ قاله عبيدة السلماني وغيره.

الثاني ـ أنها عامّة في كل صدقة ؛ فمن قال : إنها في الفرض تعلّق بأنها مأمور بها ، والأمر على الوجوب ، وبأنه نهى عن الرديء ، وذلك مخصوص بالفرض.

والصحيح أنها عامّة في الفرض والنّفل ؛ والدليل عليه أنّ سبب نزول الآية كان في التطوع.

__________________

(١) في ل : في كتاب «المسائل».

(٢) سورة النحل ، آية ١٠٦

(٣) في هامش ا : ترك المؤلف هنا رحمه الله آيات كان ينبغي له الكلام عليها ، لا سيما مسألة إبطال الصدقة بالمن والأذى.

(٤) الآية السابعة والستون بعد المائتين.

(٥) أسباب النزول : ٤٨

(٦) القنو : العذق بما فيه الرطب. وفي الحديث : أنه خرج فرأى أقناء معلقة قنو منها حشف (اللسان ـ قنا ، وحشف). والحشف : اليابس الفاسد من التمر ، أو الضعيف الذي لا نوى له ، أو أردأ التمر.


الثاني ـ أن لفظ أفعل صالح للندب صلاحيته للفرض ، والرديء منهىّ عنه في النفل ، كما هو منهىّ عنه في الفرض ، إلا أنه في التطوّع ندب في «أفعل» مكروه في «لا تفعل» (١) وفي الفرض واجب في «أفعل» حرام في «لا تفعل» (٢).

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).

قال بعض علمائنا : هذا دليل على أنّ الآية في الفرض ؛ لأنّ قوله تعالى : (بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا) لفظ يختصّ بالدّيون التي لا يتسامح في اقتضاء الرديء فيها عن الجيّد ، ولا في أخذ المعيب عن السليم ، إلّا بإغماض ، وهذه غفلة ؛ فإنها لو كانت نازلة في الفرض لما قال : ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه ، لأنّ الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال ، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه ، وإنما يؤخذ بإغماض في النفل.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) قال علماؤنا : قوله تعالى : (ما كَسَبْتُمْ) يعنى التجارة ، (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعنى النبات.

وتحقيق هذا أنّ الاكتساب على قسمين : منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلّها ، ومنها ما يكون من المحاولة على الأرض كالتجارة والنتاج والمغاورة في بلاد العدو ، والاصطياد ؛ فأمر الله تعالى الأغنياء من عباده بأن يؤتوا الفقراء مما آتاهم على الوجه الذي فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة الخامسة ـ قال أصحاب أبى حنيفة : هذا يدلّ على وجوب الزكاة في كل نبات من غير تقدير نصاب ولا تخصيص بقوت ، وعضدوه بقوله صلّى الله عليه وسلّم (٣) : فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر.

وهذا لا متعلّق فيه من الآية ؛ لأنها إنما جاءت لبيان محلّ الزكاة لا لبيان نصابها ، أو مقدارها ، وقد بيّن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم النّصب بقوله (٤) : ليس فيما دون خمس ذود

__________________

(١) المراد صيغة الأمر والنهى.

(٢) ابن ماجة : صفحة ٥٨١

(٣) ابن ماجة ، صفحة ٥٧١ ، ومسلم : ٦٧٥


صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة.

وقد حققنا ذلك في موضعه من مسائل الخلاف ، وتقصّينا القول على الحديث.

المسألة السادسة ـ في هذه الآية فائدة ؛ وهي معرفة معنى الخبيث ، فإنّ جماعة قالوا : إنّ الخبيث هو الحرام ، وزلّ فيه صاحب العين فقال : الخبيث كلّ شيء فاسد ، وأخذه ـ والله أعلم ـ من تسمية الرّجيع خبيثا.

وقال يعقوب : الخبيث : الحرام ، وهذا تفسير منه للغة بالشرع ، وهو جهل عظيم.

والصحيح أنّ الخبيث ينطلق على معنيين :

أحدهما ـ ما لا منفعة فيه ، كقوله صلّى الله عليه وسلّم : كما ينفى الكير خبث الحديد.

الثاني ـ ما تنكره النفس ، كقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

الآية الرابعة والثمانون ـ قوله تعالى (١) : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس في الآية على قولين :

أحدهما ـ أنها صدقة الفرض. الثاني ـ أنها صدقة التطوّع.

قال ابن عباس في الآية : جعل الله تعالى صدقة السرّ في التطوع تفضل صدقة العلانية بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة العلانية في الفرض تفضل صدقة السر بخمسة وعشرين ضعفا.

المسألة الثانية ـ أمّا صدقة الفرض فلا خلاف أنّ إظهارها أفضل ؛ كصلاة الفرض وسائر فرائض الشريعة ؛ لأن المرء يحرز بها إسلامه ، ويعصم ماله.

وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر ولا في تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح يعوّل عليه ، ولكنه الإجماع الثابت.

__________________

(١) الآية الواحدة والسبعون بعد المائتين.


فأما صدقة النّفل فالقرآن صرّح بأنها في السر أفضل منها في الجهر ؛ بيد أنّ علماءنا قالوا : إنّ هذا على الغالب مخرجه.

والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطى لها ، والمعطى إياها ، والناس الشاهدين لها.

أما المعطى فله فائدة إظهار السنة وثواب القدوة ، وآفتها الرياء والمنّ والأذى.

وأما المعطى إياها فإنّ السرّ أسلم له من احتقار الناس له أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفّف.

وأما حال الناس فالسرّ عنهم أفضل من العلانية لهم ، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطى لها بالرياء ، وعلى الآخذ لها بالاستغناء ؛ ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة ، لكن هذا اليوم قليل.

الآية الخامسة والثمانون ـ قوله تعالى (١) : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : وفي ذلك قولان :

أحدهما ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ).

الثاني ـ قال ابن عباس : كانوا لا يرضخون (٢) لقراباتهم من المشركين ، فنزلت الآية.

وهذا هو الصحيح لوجهين : أحدهما أنّ الأول حديث باطل.

الثاني أنّ أسماء سألت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، قالت : يا رسول الله ، إنّ أمّى قدمت علىّ راغبة وهي مشركة ، أفأصلها؟ قال : صلى أمّك ؛ فإنما شكّوا في جواز الموالاة لهم والصدقة عليهم ، فسألوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ؛ فأذن لهم.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا تصرف إليهم صدقة الفرض ؛ وإنما

__________________

(١) الآية الثانية والسبعون بعد المائتين.

(٢) يرضخون : يعطون.


ذلك في التطوع ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها على فقرائكم.

وقال أبو حنيفة : تصرف إليهم صدقة الفطر ، لحديث يروى عن ابن مسعود أنه كان يعطى الرهبان من صدقة الفطر ؛ وهذا حديث ضعيف لا أصل له.

ودليلنا أنها صدقة طهر (١) واجبة ، فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أغنوهم عن سؤال هذا اليوم ـ يعنى يوم الفطر.

المسألة الثالثة ـ إذا كان مسلما عاصيا فلا خلاف أنّ صدقة الفرض تصرف إليه ، إلا أنه إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تصرف إليه الصدقة حتى يتوب ، وسائر المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبها لدخولهم في اسم المسلمين.

وفي الحديث الصحيح : أنّ رجلا خرج بصدقته فدفعها ، فقيل تصدّق على سارق ، فقال : على سارق؟ فأوحى الله تعالى : لعله يستعفّ عن سرقته ... الحديث.

الآية السادسة والثمانون ـ قوله تعالى (٢) : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) : سيأتى تحقيق الفقر في آية الصدقة.

المسألة الثانية ـ من هم؟

قيل : هم فقراء المهاجرين. والصحيح أنهم فقراء المسلمين.

المسألة الثالثة ـ لا خلاف في هذه الآية وغيرها أنّ الصدقة على فقراء المسلمين أفضل من غيرهم. ويحكى عن جابر بن زيد أنّ الصدقة لا تعطى لكافر ، ومعناه صدقة الفرض.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ) قيل : هو الخشوع.

وقيل : الخصاصة ؛ وهو الصحيح ؛ لأنّ الخشوع قد يكون على الغنى ؛ قال تعالى(٣): (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ؛ فعمّ الفقير والغنى.

__________________

(١) في ا : طهرة.

(٢) الآية الثالثة والسبعون بعد المائتين.

(٣) سورة الفتح : ٢٩


المسألة الخامسة ـ (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) : ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (١) : ليس المسكين الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدّق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس.

المسألة السادسة ـ الواجب على معطى الصدقة كان إماما أو مالكا أن يراعى أحوال الناس ، فمن علم فيه صبرا على الخصاصة وتحلّيا بالقناعة آثر عليه من لا يستطيع الصبر ، فربما وقع في التسخّط ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح : إنى لأعطى الرجل وغيره أحبّ إلىّ منه مخافة أن يكبّه الله في النار على وجهه.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (إِلْحافاً).

معناه الشمول بالمسألة إمّا للناس وإمّا في الأموال ؛ فيسأل من الناس جماعة ، ويسأل من المال أكثر مما يحتاج إليه وبناء (ل ح ف) للشمول ، ومنه اللحاف ؛ وهو الثوب الذي يشتمل به ، ونحوه الإلحاح ؛ يقال : ألحف في المسألة إذا شمل رجالا أو مالا ، وألحّ فيها إذا كرّرها.

وروى المفسّرون عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إن الله يحبّ الحليم الحيىّ الغنىّ النفس المتعفّف ، ويبغض الغنىّ الفاحش البذىّ السائل الملحف.

ولم يصح لهذا الحديث أصل ، ولا عرف له سند ، لكن روى مسلم عن معاوية قال(٢): قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا تلحفوا في المسألة فو الله لا يسألنى أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته منى شيئا وأنا كاره فيبارك الله له فيما أعطيته.

وروى مالك عن الأسدى أنه قال : نزلت أنا وأهلى ببقيع الغرقد (٣) ، فقال لي أهلى: اذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسله لنا شيئا نأكله ، وجعلوا يذكرون من حاجتهم. فذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدت عنده رجلا يسأله ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : لا أجد ما أعطيك. فولّى الرجل عنه وهو مغضب ، وهو يقول : لعمرك إنّك لتعطى من شئت.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٧١٩

(٢) صحيح مسلم : ٧١٨

(٣) بقيع الغرقد : مقبرة النبي ؛ لأن منبتها كان الغرقد ، وهو شجر عظام أو شجر العوسج (القاموس ـ غرقد).


فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنه ليغضب علىّ ألّا أجد ما أعطيه! من سأل منكم وله أوقية أو عدلها (١) فقد سأل إلحافا. فقال الأسدى : للقحة (٢) لنا خير من أوقية.

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : من سأل وله أوقية فهو ملحف.

فتبيّن بهذا أن الملحف هو الذي يسأل الرجل بعد ما ردّه عن نفسه ، أو يسأل وعنده ما يغنيه عن السؤال ، إلا أن يسأل زائدا على ما عنده ، ويغنيه وهو محتاج إليه ؛ فذلك جائز.

وسمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلا يقول : هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم ، وليس له ثياب يقيم بها سنّة الجمعة ، فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا جددا ، فقيل لي : كساه إياها فلان لأخذ الثناء بها.

ويكرر المسألة إذا ردّه المسئول والسائل يعلم أنه قادر على ما سأله إياه أو جاهل بحاله ، فيعيد عليه السؤال إعذارا أو إنذارا ثلاثا لا يزيد عليه ، وذلك جائز ، والأفضل تركه. والله أعلم.

الآية السابعة والثمانون ـ قوله تعالى (٣) : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا).

هذه الآية من أركان الدين ، وفيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : ذكر من فسر أن الله تعالى لما حرّم الربا قالت ثقيف : وكيف ننتهي عن الربا ، وهو مثل البيع ، فنزلت فيهم الآية.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) : كناية عن استجابة في البيع وقبضه باليد ؛ لأن ذلك إنما يفعله المربى قصدا لما يأكله ، فعبّر بالأكل عنه ، وهو مجاز من باب التعبير عن الشيء بفائدته وثمرته ، وهو أحد قسمي المجاز كما بيّنّاه في غير موضع.

__________________

(١) العدل : المثل.

(٢) اللقحة ـ بالكسر والفتح : الناقة القريبة العهد بالنتاج ، والجمع لقح.

وناقة لقوح : إذا كانت غزيرة اللبن. وناقة لاقح : إذا كانت حاملا. واللقاح : ذوات الألبان ، الواحد لقوح.

وفي ل : للقحتنا خير من أوقية.

(٣) الآية الخامسة والسبعون بعد المائتين.


المسألة الثالثة ـ قال علماؤنا : الربا في اللغة هو الزيادة ، ولا بدّ في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به ؛ فلأجل ذلك اختلفوا هل هي عامّة في تحريم كلّ ربا ، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟

والصحيح أنها عامّة ؛ لأنهم كانوا يتبايعون ويربون ، وكان الربا عندهم معروفا ، يبايع الرجل الرجل إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل قال : أتقضى أم تربى؟ يعنى أم تزيدني على مالي عليك وأصبر أجلا آخر. فحرّم الله تعالى الربا ، وهو الزيادة ؛ ولكن لما كان كما قلنا لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه ، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة ، وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضا إلا بإظهار الشرع ، ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر ، معلومة لمن أيّده الله تعالى بالنّور الأظهر.

وقد فاوضت فيها علماء ، وباحثت رفعاء ، فكلّ منهم أعطى ما عنده حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا.

إنّ من زعم أنّ هذه الآية مجملة فلم يفهم مقاطع الشريعة ؛ فإنّ الله تعالى أرسل رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوم هو منهم بلغتهم ، وأنزل عليهم كتابه ـ تيسيرا منه ـ بلسانه ولسانهم ؛ وقد كانت التجارة والبيع عندهم من المعاني المعلومة ، فأنزل عليهم مبيّنا لهم ما يلزمهم فيهما ويعقدونهما عليه ، فقال تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).

والباطل ، كما بيناه في كتب الأصول ، هو الذي لا يفيد وقع التعبير به عن تناول المال بغير عوض في صورة (٢) العوض.

والتجارة هي مقابلة الأموال بعضها ببعض. وهو البيع ؛ وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة ، أو ما في معنى المال كالمنافع ، وهي ثلاثة أنواع : عين بعين ، وهو بيع النقد ؛ أو بدين مؤجّل وهو السّلم ، أو حالّ وهو يكون في التمر (٣) أو على رسم الاستصناع. أو بيع عين بمنفعة وهو الإجارة.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٩

(٢) في ل : في صفة العوض.

(٣) في ا : الثمن.


والربا في اللغة هو الزيادة ، والمراد به في الآية كلّ زيادة لم يقابلها عوض ؛ فإنّ الزيادة ليست بحرام لعينها ، بدليل جواز العقد عليها على وجهه ؛ ولو كانت حراما ما صحّ أن يقابلها عوض ، ولا يرد عليها عقد كالخمر والميتة وغيرها.

وتبيّن أنّ معنى الآية : وأحلّ الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحّة القصد والعمل ، وحرّم منه ما وقع على وجه الباطل.

وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم ، فتزيد زيادة لم يقابلها عوض ، وكانت تقول : إنما البيع مثل الرّبا ؛ أى إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا مثل أصل الثمن في أول العقد ؛ فردّ الله تعالى عليهم قولهم ، وحرّم ما اعتقدوه حلالا عليهم ، وأوضح أنّ الأجل إذا حلّ ولم يكن عنده ما يؤدى أنظر إلى الميسرة تخفيفا ، يحققه أنّ الزيادة إنما تظهر بعد تقدير العوضين فيه ، وذلك على قسمين :

أحدهما ـ تولّى الشرع تقدير العوض فيه ، وهو الأموال الرّبوية ، فلا تحلّ الزيادة فيه.

وأما الذي وكله إلى المتعاقدين فالزيادة فيه على قدر مالية العوضين عند التقابل على قسمين : أحدهما ـ ما يتغابن الناس بمثله فهو حلال بإجماع. ومنه ما يخرج عن العادة ؛ واختلف علماؤنا فيه ، فأمضاه المتقدّمون وعدّوه من فنّ التجارة ، وردّه المتأخرون ببغداد ونظرائها وحدّوا المردود بالثلث.

والذي أراه أنه إذا وقع عن علم المتعاقدين فإنه حلال ماض ؛ لأنهما يفتقران إلى ذلك في الأوقات ، وهو داخل تحت قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ). وإن وقع عن جهل من أحدهما فإنّ الآخر بالخيار.

وفي مثله ورد الحديث أنّ رجلا كان يخدع في البيوع فذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم : فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا بايعت فقل (١) : لا خلابة. زاد الدارقطني وغيره : ولك الخيار ثلاثا ، وقد مهّدناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف ؛ فهذا أصل علم هذا الباب.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١١٦٥ ، والخلابة : الخديعة ؛ أى لا تحل لك خديعتى ، أو لا يلزمني خديعتك.


فإن قيل : أنكرتم الإجمال في الآية ، وما أوردتموه من البيان والشروط هو بيان ما لم يكن في الآية مبيّنا ، ولا يوجد عنها من القول ظاهرا.

قلنا : هذا سؤال من لم يحضر ما مضى من القول ، ولا ألقى إليه السمع وهو شهيد ، وقد توضّح في مسائل الكلام أنّ جميع ما أحلّ الله لهم أو حرّم عليهم كان معلوما عندهم ؛ لأن الخطاب جاء فيه بلسانهم ، فقد أطلق لهم حلّ ما كانوا يفعلونه من بيع وتجارة ويعلمونه ، وحرّم عليهم الربا وكانوا يفعلونه ، وحرّم عليهم أكل المال بالباطل وقد كانوا يفعلونه ويعلمونه ويتسامحون فيه ؛ ثم إنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلقى إليهم زيادة فيما كان عندهم من عقد أو عوض لم يكن عندهم جائزا ، فألقى إليهم وجوه الرّبا المحرمة في كل مقتات ، وثمن الأشياء مع الجنس متفاضلا ، وألحق به بيع الرطب بالتمر ، والعنب بالزبيب ، والبيع والسلف ، وبيّن وجوه أكل المال بالباطل في بيع الغرر كله أو ما لا قيمة له شرعا فيما كانوا يعتقدونه متقوّما كالخمر والميتة والدم وبيع الغشّ ، ولم يبق في الشريعة بعد هاتين الآيتين بيان يفتقر إليه في الباب ، وبقي ما وراءهما على الجواز ؛ إلّا أنه صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : ما لا يصحّ ستة وخمسون معنى نهى عنها.

الأول والثاني ثمن الأشياء جنسا بجنس ، والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع بيع المقتات أو ثمن الأشياء جنسا بجنس متفاضلا ، أو جنسا بغير جنسه نسيئة ، أو بيع الرطب بالتمر ، أو العنب بالزبيب ، أو بيع المزابنة على أحد القولين ، أو عن بيع وسلف ؛ وهذا كلّه داخل في بيع الربا ، وهو مما تولّى الشرع تقدير العوض فيه ، فلا تجوز الزيادة عليه. الثامن بيعتان في بيعة. التاسع بيع الغرز (١) ، وردّ بيع الملامسة والمنابذة والحصاة (٢) ، وبيع الثّنيا ، وبيع العربان وما ليس عندك ، والمضامين ، والملاقيح ، وحبل حبلة (٣) ؛ ويتركّب عليهما من وجه بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وبيع السنبل حتى يشتدّ ، والعنب حتى يسودّ ، وهو مما قبله ، وبيع المحاقلة والمعاومة والمخابرة والمحاصرة ، وبيع ما لم يقبض ، وربح

__________________

(١) في ل : بيع الغربة. وهو تحريف. وبيع الغرر : ما كان له ظاهر لغير المشترى وباطن مجهول.

(٢) بيع الحصاة : هو أن يقول أحد العاقدين : إذا نبذت لك الحصاة فقد وجب البيع.

(٣) الحبل ـ محركة : مصدر ، سمى به المحمول كما سمى بالحمل ، وإنما دخلت التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فالحبل يراد به ما في بطون النوق من الحمل. والثاني حبل الذي في بطون النوق. (النهاية).


ما لم يضمن ، وبيع الطعام قبل أن يستوفى من بعض ما تقدم ، والخمر والميتة وشحومها ، وثمن الدم ، وبيع الأصنام ، وعسب الفحل ، والكلب والسّنّور ، وكسب الحجّام ، ومهر البغىّ ، وحلوان الكاهن ، وبيع المضطر ، وبيع الولاء ، وبيع الولد أو الأم فردين ، أو الأخ والأخ فردين ، وكراء الأرض والماء والكلأ والنّجش ، وبيع الرجل على بيع أخيه ، وخطبته على خطبة أخيه ، وحاضر لباد ، وتلقى السلع والقينات.

فهذه (١) ستة وخمسون معنى حضرت الخاطر ممّا نهى عنه أوردناها حسب نسقها في الذكر. وهي ترجع في التقسيم الصحيح الذي أوردناه في المسائل إلى سبعة أقسام :

ما يرجع إلى صفة العقد ، وما يرجع إلى صفة المتعاقدين ، وما يرجع إلى العوضين ، وإلى حال العقد ، والسابع (٢) وقت العقد كالبيع وقت نداء يوم الجمعة ، أو في آخر جزء من الوقت المعيّن للصلاة.

ولا تخرج عن ثلاثة أقسام ؛ وهي الربا ، والباطل ، والغرر.

ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون قسمين على الآيتين ، وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى.

ومنها أيضا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرا ، ومنها ما يخرج عنها ظاهرا ؛ ومنها ما يدخل فيها باحتمال ، ومنها ما ينهى عنها مصلحة للخلق وتألّفا بينهم لما في التدابر من المفسدة.

المسألة الرابعة ـ قد بينّا أنّ الربا على قسمين : زيادة في الأموال المقتاتة والأثمان (٣) ، والزيادة في سائرها ؛ وذكرنا حدودها ؛ وبينّا أن الرّبا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين جائز بعلمهما ؛ ولا خلاف فيه ، وكذلك (٤) يجوز الربا في هبة الثواب.

وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته ، حتى يرضى منها ؛ فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم ، وقد انتهى القول في هذا الغرض ها هنا وشرحه في تفسير الحديث ومسائل الخلاف ، ومنه ما تيسّر على آيات القرآن في هذا القسم من الأحكام.

__________________

(١) ارجع إلى أول الجزء الثاني من ابن ماجة ، وأول الجزء الثالث من صحيح مسلم.

(٢) هكذا في الأصول.

(٣) في ل : والأثمار وزيادة.

(٤) في ل : ولذلك.


المسألة الخامسة ـ من معنى هذه الآية ، وهي في التي بعدها قوله تعالى (١) : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ).

ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أنّ المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ، ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحلّ ، ولم يطب ؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال ، والذي بقي هو الحرام ، وهو غلوّ في الدين ؛ فإن كلّ ما لم يتميز فالمقصود منه ماليّته لا عينه ، ولو تلف لقام المثل مقامه ، والاختلاط إتلاف لتميزه ، كما أنّ الإهلاك إتلاف لعينه ، والمثل قائم مقام الذاهب ، وهذا بيّن حسّا بيّن معنى ، والله أعلم.

الآية الثامنة والثمانون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

قد تقدم أنها نزلت في الرّبا عند ذكر الآية قبلها.

المسألة الثانية ـ في المعنى المقصود بها :

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ المقصود بها ربا الدّين خاصة ، وفيه يكون الإنظار ؛ قاله ابن عباس وشريح القاضي والنخعي.

الثاني ـ أنه عامّ في كل دين ، وهو قول العامة.

الثالث ـ قال متأخّر وعلمائنا : هو نصّ في دين الرّبا ، وغيره من الديون مقيس عليه.

المسألة الثالثة ـ في التنقيح :

أما من قال إنه في دين الربا فضعيف ، ولا يصحّ ذلك عن ابن عباس ؛ فإنّ الآية وإن كان أولها خاصا ، فإنّ آخرها عام ، وخصوص أولها لا يمنع من عموم آخرها ، لا سيما إذا كان العامّ مستقلّا بنفسه.

ومن قال : إنه نصّ في الربا ، وغيره مقيس عليه فهو ضعيف ؛ لأنّ العموم قد يتناول الكل فلا مدخل للقياس فيه.

__________________

(١) من الآية التاسعة والسبعين بعد المائتين.

(٢) الآية الثمانون بعد المائتين.

(٣) أسباب النزول : ٥١


فإن قيل : فقد قال في غيره من الديون (١) : (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً).

قلنا : سنتكلم على الآية في موضعها إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : وبم تعلم العسرة؟

قلنا : بأن لا نجد له مالا ؛ فإن قال الطالب : خبأ مالا. قلنا للمطلوب : أثبت عدمك ظاهرا ويحلف باطنا ، والله يتولى السرائر.

المسألة الرابعة ـ ما الميسرة التي يؤدّى بها (٢) الدين؟

وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا بيناه في مسائل الفقه. تحرير قول علمائنا : أنه يترك له ما يعيش به الأيام وكسوة لباسه ورقاده ، ولا تباع ثياب جمعته ، ويباع خاتمه. وتفصيل الفروع في المسائل.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

قال علماؤنا : الصدقة على المعسر قربة ؛ وذلك أفضل عند الله من إنظاره إلى الميسرة ، بدليل ما روى حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : تلقّت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، قالوا : عملت من الخير شيئا؟ قال : كنت آمر فتيانى أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله عزّ وجلّ : تجاوزوا عنه.

وقد روى عن أبى اليسر كعب بن عمرو أنه قال : من أنظر معسرا أو وضع عنه ، أظلّه الله في ظلّه ؛ وهذا مما لا خلاف فيه.

الآية التاسعة والثمانون ـ قوله تعالى (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ، وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ ، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ، أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٧٥

(٢) في ل : إليها.

(٣) الآية الثانية والثمانون بعد المائتين.


وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ، وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ، ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ، وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هي آية عظمى في الأحكام ، مبيّنة جملا من الحلال والحرام ، وهي أصل في مسائل البيوع ، وكثير من الفروع ، جماعها على اختصار مع استيفاء الغرض دون الإكثار في اثنتين وخمسين مسألة :

المسألة الأولى ـ في حقيقة الدّين :

هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمّة نسيئة ، فإنّ العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدّين ما كان غائبا ، قال الشاعر :

وعدتنا بدرهمينا طلاء

وشواء معجّلا غير دين

والمداينة مفاعلة منه ، لأنّ أحدهما يرضاه والآخر يلتزمه ، وقد بيّنه الله تعالى بقوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

المسألة الثانية ـ قال أصحاب أبى حنيفة : عموم قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يدخل تحته المهر إلى أجل ، والصّلح عن دم العمد ، ويجوز فيه شهادة النساء ؛ وهذا وهم ، فإن هذه الشهادة إنما هي على النكاح المشتمل على المهر وعلى الدم المفضى إلى الصّلح ، والمهر في النكاح والمال في الدم بيع ؛ وإنما جاءت الآية لبيان حكم حال دين مجرد ومال مفرد ؛ فعليه يحمل عموم الشهادة وإليه يرجع.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ).

يريد يكون صكّا ليستذكر به عند أجله ، لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل ، والنسيان (١) موكل بالإنسان ، والشيطان ربما حمل على الإنكار ، والعوارض من موت وغيره تطرأ ؛ فشرع الكتاب والإشهاد ، وكان ذلك في الزمان الأول.

__________________

(١) في ل : فالنسيان.


وروى أحمد بن حنبل وغيره عن ابن عباس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أول من جحد آدم ـ قالها ثلاث مرات : إن الله تعالى لما خلقه مسح ظهره ، فأخرج ذريّته فعرضهم عليه ، فرأى فيهم رجلا يزهر (١) ، فقال : أى رب من هذا؟ قال : هذا ابنك داود. قال : كم عمره؟ قال : ستون سنة. قال : ربّ زد في عمره. قال : لا ، إلّا أن تزيده أنت من عمرك ، فزاده أربعين من عمره ، فكتب الله تعالى عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة ، فلما أراد أن يقبض روحه قال : بقي من أجلى أربعون سنة. فقيل له : إنك قد جعلتها لابنك داود. قال : فجحد آدم. قال : فأخرج إليه الكتاب ، فأقام عليه البينة ، وأتمّ لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة.

المسألة الرابعة ـ في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفاته المبيّنة له المعربة عنه المعرّفة للحاكم بما يحكم عند ارتفاعهما إليه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ).

فيه وجهان :

أحدهما ـ أنّ الناس لمّا كانوا يتعاملون حتى لا يشذّ أحد منهم عن المعاملة ، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب ، أمر سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل.

الثاني ـ أنه لما كان الذي له الدّين يتّهم في الكتابة للذي عليه ، وكذلك بالعكس ، شرع الله سبحانه كاتبا يكتب بالعدل ، لا يكون في قلبه ولا في قلمه هوادة لأحدهما على الآخر.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) :

فيها أربعة أقوال :

الأول ـ أنه فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز ؛ قاله الشعبي.

الثاني ـ أنه فرض على الكاتب في حال فراغه ؛ قاله بعض أهل الكوفة.

الثالث ـ أنه ندب ؛ قاله مجاهد وعطاء.

الرابع ـ أنه منسوخ ؛ قاله الضحاك.

والصحيح أنه أمر إرشاد ؛ فلا يكتب حتى يأخذ حقّه.

__________________

(١) زهر السراج والقمر والوجه كمنع : تلألأ. وأزهر النبات : نور.


المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً).

قال علماؤنا : إنما أملى الذي عليه الحقّ ؛ لأنه المقرّ به الملتزم له ، فلو قال الذي له الحق : لي كذا وكذا لم ينفع حتى يقرّ له الذي عليه الحق ، فلأجل ذلك كانت البداءة به ؛ لأنّ القول قوله ، وإلى هذه النكتة وقعت الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم : البينة على من ادّعى (١) واليمين على من أنكر ، على نحو ما تقدم في قوله تعالى (٢) : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ). وفي هذه الآية أيضا نحو منه ، وهو قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) لما كان القول قولهنّ في الذي تشتمل عليه أرحامهنّ ، وقول الشاهد أيضا فيما وعاه قلبه من علم ما عنده مما بينهما من التنازع.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) :

أما السفيه ففيه أربعة أقوال :

الأول ـ أنه الجاهل ؛ قاله مجاهد. الثاني ـ أنه الصبى. الثالث ـ أنه المرأة والصبىّ ؛ قاله الحسن. الرابع ـ المبذّر لماله المفسد لدينه ؛ قاله الشافعى.

وأما الضعيف فقيل : هو الأحمق. وقيل : هو الأخرس أو الغبىّ ، واختاره الطبري.

وأما الذي لا يستطيع أن يملّ ، ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ أنه الغبىّ ؛ قاله ابن عباس. الثاني ـ أنه الممنوع بحبسة أو عىّ. الثالث ـ أنه المجنون.

وهذا فيه نظر طويل نخبته أنّ الله سبحانه جعل الذي عليه الحق أربعة أصناف : مستقل بنفسه يملّ ، وثلاثة أصناف لا يملّون ، ولا يصح أن تكون هذه الأصناف الثلاثة صنفا واحدا أو صنفين ؛ لأن تعديد الباري سبحانه كأنه يخلو عن الفائدة ، ويكون من فن المثبّج (٣) من القول الركيك من الكلام ، ولا ينبغي هذا في كلام حكيم ، فكيف في كلام أحكم الحاكمين.

__________________

(١) في ا : على المدعى. والمثبت من ل.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٢٨

(٣) التثبيج : التخليط ، وكتاب مثبج. وثبج الكتاب تثبيجا : لم يبينه. والثبج : اضطراب الكلام وتفننه.


فتعيّن والحالة هذه أن يكون لكل صنف من هذه الأصناف الثلاثة معنى ليس لصاحبه حتى تتمّ البلاغه ، وتكمل الفائدة ، ويرتفع التداخل الموجب للتقصير ؛ وذلك بأن يكون السفيه والضعيف والذي لا يستطيع ، قريبا بعضه من بعض في المعنى ؛ فإن العرب تطلق السفيه على ضعيف العقل تارة وعلى ضعيف البدن أخرى ، وأنشدوا :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت (١)

أعاليها مرّ الرياح النواسم

أى استضعفتها واستلانتها فحركتها.

وكذلك يطلق الضعيف على ضعيف العقل ، وعلى ضعيف البدن.

وقد قالوا : الضعف ـ بضم الضاد في البدن ، وفتحها في الرأى ، وقيل هما لغتان ، وكلّ ضعيف لا يستطيع ما يستطيعه القوىّ ؛ فثبت التداخل في معنى هذه الألفاظ.

وتحريرها الذي يستقيم به الكلام ويصحّ معه النظام أنّ السفيه هو المتناهي في ضعف العقل وفساده كالمجنون والمحجور عليه ، نظيره الشاهد له قوله تعالى (٢) : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) على ما سيأتى في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

وأما الضعيف فهو الذي يغلبه قلّة النظر لنفسه كالطفل نظيره ، ويشهد له قوله تعالى(٣) : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ).

وأما الذي لا يستطيع أن يملّ فهو الغبىّ الذي يفهم منفعته لكن لا يلفق العبارة عنها.

والأخرس الذي لا يتبين منطقه عن غرضه ؛ ويشهد لذلك أنه لم ينف عنه أنه لا يستطيع أن يملّ خاصة.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

اختلف الناس على ما يعود ضمير وليّه على قولين :

الأول ـ قيل يعود على الحق ؛ التقدير فليملل ولىّ الحق.

الثاني ـ أنه يعود على الذي عليه الحق ؛ التقدير فليملل ولىّ الذي عليه الحق الممنوع من الإملاء بالسفه والضعف والعجز.

__________________

(١) في ا : فسفهت. والمثبت من اللسان (سفه) ، ل.

(٢) سورة النساء ، آية ٥

(٣) سورة النساء ، آية ٩


والظاهر أنه يعود على الذي عليه الحق ؛ لأنه صاحب الولىّ في الإطلاق ، يقال : ولىّ السفيه وولىّ الضعيف ، ولا يقال ولىّ الحق ، إنما يقال صاحب الحق.

وهذا يدلّ على أن إقرار الوصىّ جائز على يتيمه ؛ لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه.

المسألة العاشرة ـ إذا ثبت هذا فإن تصرّف السفيه المحجور دون ولىّ فإنّ التصرف فاسد إجماعا مفسوخ أبدا ، لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. وإن تصرّف سفيه لا حجر عليه فاختلف علماؤنا فيه ؛ فابن القاسم يجوّز فعله ، وعامة أصحابنا يسقطونه.

والذي أراه من ذلك أنه إن تصرّف بسداد نفذ ، وإن تصرّف بغير سداد بطل.

وأما الضعيف فربما بخس في البيع وخدع ، ولكنه تحت النظر كائن ، وعلى الاعتبار موقوف.

وأما الذي لا يستطيع أن يملّ فلا خلاف في جواز تصرفه.

وظاهر الآية يقتضى أنّ من احتاج منهم إلى المعاملة عامل ، فمن كان من أهل الإملاء أملى عن نفسه ، ومن لم يكن أملى عنه وليّه ؛ وذلك كله بيّن في مسائل الفروع.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا) :

اختلف الناس هل هو فرض أو ندب؟ والصحيح أنه ندب كما يأتى إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (شَهِيدَيْنِ).

رتّب الله تعالى الشهادات بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود ، فجعلها في كل فنّ شهيدين ، إلا في الزّنا فإنه قرن ثبوتها بأربعة شهداء ؛ تأكيدا في الستر ، على ما يأتى بيانه في سورة النور إن شاء الله.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ).

قال مجاهد : أراد من الأحرار. واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه.

وقيل : المراد به من المسلمين ؛ لأنّ قوله تعالى : (مِنَ الرِّجالِ) كان يغنى عنه ، فلا بدّ لهذه الإضافة من خصيصة ، وهي إما أحراركم وإما مؤمنوكم ؛ والمؤمنون به أخصّ من الأحرار ؛ لأنّ هذه الإضافة هي إضافة الجماعة ، وإلا فمن هو الذي يجمع الشتات وينظم الشمل النظم الذي يصحّ منه الإضافة.


والصحيح عندي أنّ المراد به البالغون من ذكوركم المسلمون ؛ لأنّ الطفل لا يقال له رجل ، وكذا المرأة لا يقال لها رجل أيضا. وقد بيّن الله تعالى بعد ذلك شهادة المرأة ، وعيّن بالإضافة في قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) المسلم ؛ ولأن الكافر لا قول له ؛ وعنى الكبير أيضا ، لأنّ الصغير لا محصول له.

وإنما أمر الله تعالى بإشهاد البالغ ؛ لأنه الذي يصحّ أن يؤدّى الآن الشهادة ؛ فأما الصغير فيحفظ الشهادة ؛ فإذا أدّاها وهو رجل جازت ؛ ولا خلاف فيه.

وليس للآية أثر في شهادة العبد يرد ، وسيأتى القول فيها في تفسير قوله تعالى (١) : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) إن شاء الله.

المسألة الرابعة عشرة ـ عموم قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) يقتضى جواز شهادة الأعمى على ما يتحققه ويعلمه ؛ فإنّ السمع في الأصوات طريق للعلم كالبصر للألوان ، فما علمه أداه ، كما يطأ زوجته باللمس والشم ، ويأكل بالذّوق ؛ فلم لا يشهد على طعام اختلف فيه قد ذاقه.

المسألة الخامسة عشرة ـ قال علماؤنا : أخذ بعض الناس من عموم هذه الآية في قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) جواز شهادة البدوىّ على القروىّ. وقد منعها أحمد بن حنبل ومالك في مشهور قوله.

وقد بيّنا الوجوه التي منعها أشياخنا من أجلها في كتب الخلاف ؛ والصحيح جوازها مع العدالة كشهادة القروىّ على القروىّ. وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد عنده أعرابىّ على هلال رمضان ؛ فأمر بالصيام.

المسألة السادسة عشرة ـ قال علمانا قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) من ألفاظ الإبدال ، فكان ظاهره يقتضى ألّا تجوز شهادة النساء إلّا عند عدم شهادة الرجال ، كحكم سائر إبدال الشريعة مع مبدلاتها ؛ وهذا ليس كما زعمه ، ولو أراد ربنا ذلك لقال : فإن لم يوجد رجلان فرجل : فأما وقد قال : فإن لم يكونا فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم. والله أعلم.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ١٣٥


المسألة السابعة عشرة ـ قال أصحابنا : لما جعل الله تعالى شهادة امرأتين بدل شهادة الرجل وجب أن يكون حكمها حكمه ، فكما يحلف مع الشاهد واليمين عندنا وعند الشافعى ، كذلك يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.

المسألة الثامنة عشرة ـ قال أصحاب أبى حنيفة : لما قال الله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فقسم الله تعالى أنواع الشهادة وعددها ، ولم يذكر الشاهد واليمين فلا يجوز القضاء به ، لأنه يكون قسما ثالثا فيما قد قسمه الله تعالى قسمين.

وسلك علماؤنا في الردّ عليهم مسلكين :

أحدهما ـ أنّ هذا ليس من قسم الشهادة ، وإنما الحكم هنالك باليمين ، وحطّ الشاهد ترجيح جنبة المدعى ، وهو الذي اختاره أهل خراسان.

وقال آخرون ـ وهو الذي عوّل عليه مالك ـ إن القوم قد قالوا يقضى بالنكول ، وهو قسم ثالث ليس له في القرآن ذكر ، كذلك يحكم بالشهادة واليمين وإن لم يجر له ذكر لقيام الدليل.

والمسلك الأول أسلوب الشرع. والمسلك الثاني يتعلق بمناقضة الخصم ، والمسلك الأول أقوى وأولى.

المسألة التاسعة عشرة ـ فضّل الله تعالى الذّكر على الأنثى من ستة أوجه :

الأول ـ أنها جعل أصلها وجعلت فرعه ، لأنها خلقت منه ، كما ذكر الله تعالى في كتابه.

الثاني ـ أنها خلقت من ضلعه العوجاء ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج ، وقال : وكسرها طلاقها.

الثالث ـ أنه نقص دينها.

الرابع ـ أنه نقص عقلها. وفي الحديث : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم منكنّ. قلن : يا رسول الله ؛ وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال : أليس تمكث إحداكنّ الليالى لا تصوم ولا تصلّى ، وشهادة إحداكنّ على نصف شهادة الرجل؟


الخامس ـ أنه نقص حظّها في الميراث. قال الله تعالى (١) : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

السادس ـ أنها نقصت قوّتها ؛ فلا تقاتل ولا يسهم لها ، وهذه كلها معان حكمية.

فإن قيل : كيف نسب النقص إليهنّ وليس من فعلهنّ؟

قلنا : هذا من عدل الله يحطّ ما شاء ويرفع ما شاء ، ويقضى ما أراد ، ويمدح ويلوم ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؛ وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل ، ورتّبها مراتب ؛ فبين ذلك لنا فعلمنا وآمنّا به وسلّمناه.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

هذا تقييد من الله سبحانه على الاسترسال على كل شاهد ، وقصر الشهادة على الرضا خاصة ؛ لأنها ولاية عظيمة ؛ إذ هي تنفيذ قول الغير على الغير ؛ فمن حكمه أن يكون له شمائل ينفرد بها ، وفضائل يتحلّى بها حتى يكون له مزيّة على غيره توجب له تلك المزية رتبة (٢) الاختصاص بقبول قوله على غيره ، ويقضى له بحسن الظن ، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بالحق بشهادته عليه ، ويغلب قول الطالب على قوله بتصديقه له في دعواه.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) : دليل على تفويض القبول في الشهادة إلى الحاكم ؛ لأنّ الرضا معنى يكون في النفس بما يظهر إليها من الأمارات عليه ، ويقوم من الدلائل المبينة له ، ولا يكون غير هذا ؛ فإنّا لو جعلناه لغيره لما وصل إليه إلا بالاجتهاد ؛ واجتهاده أولى من اجتهاد غيره.

المسألة الثانية والعشرون ـ قال علماؤنا : هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفى من المعاني والأحكام.

المسألة الثالثة والعشرون ـ هذا دليل على أنه لا يكتفى بظاهر الإسلام في الشهادة حتى يقع البحث عن العدالة ؛ وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود ؛ وهذه مناقضة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه ، فيقول : حق من الحقوق ، فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود ، وقد مهّدت المسألة في مسائل الخلاف.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ١٠

(٢) في ا : توجب له تلك المرتبة الاختصاص. والمثبت من ل.


المسألة الرابعة والعشرون ـ هذا القول يقتضى ألّا تقبل شهادة ولد لأبيه ، ولا أب لولده. قال مالك : ولا كل ذي نسب أو سبب يفضى إلى وصلة تقع بها التهمة ، كالصداقة والملاطفة والقرابة الثابتة.

وفي كلّ ذلك بين العلماء تفصيل واختلاف ، بيانه في إيضاح دلائل مسائل الخلاف ، بيانه في إلزام وصف الرضا المشاهد في هذه الآية الذي أكّده بالعدالة في الآية الأخرى ، فقال تعالى (١) : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ولا يجتمع الوصفان حتى تنتفى التهمة. والله أعلم.

المسألة الخامسة والعشرون ـ إذا شرط الرضا والعدالة في المداينة فاشتراطها في النكاح أولى ، خلافا لأبى حنيفة حيث قال : إنّ النكاح ينعقد بشهادة فاسقين ، فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح ، وهو أولى لما يتعلّق به من الحلّ والحرم والحدّ والنّسب.

المسألة السادسة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

فيه تأويلان وقراءتان : إحداهما ـ أن تجعلها ذكرا ، وهذه قراءة التخفيف.

الثاني ـ أن تنبهها إذا غفلت وهي قراءة التثقيل ؛ وهو التأويل الصحيح ، لأنه يعضده قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما). والذي يصحّ أن يعقب الضلال والغفلة الذكر ، ويدخل التأويل الثاني في معناه.

فإن قيل : فهلّا كانت امرأة واحدة مع رجل فيذكّرها الرجل الذي معها إذا نسيت ؛ فما الحكمة فيه؟

فالجواب فيه أن الله سبحانه شرع ما أراد ، وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة ، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام ، وقد أشار علماؤنا أنه لو ذكّرها إذا نسيت لكانت شهادة واحدة ، فإذا كانت امرأتين وذكّرت إحداهما الأخرى كانت شهادتهما شهادة رجل واحد ، كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكّر.

المسألة السابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فكرّر قوله : إحداهما ، وكانت الحكمة فيه أنه لو قال : أن تضلّ إحداهما

__________________

(١) سورة الطلاق ، آية ٢


فتذكّر الأخرى ، لكانت شهادة واحدة ، وكذلك لو قال : فتذكّرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة لتذكرة الذاكرة الناسية ، فلما كرّر إحداهما أفاد تذكرة الذاكرة للغافلة وتذكرة الغافلة للذاكرة أيضا لو انقلبت الحال فيهما بأن تذكر الغافلة وتغفل الذاكرة ؛ وذلك غاية في البيان.

المسألة الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال :

أحدها ـ لا يأب الشهداء عن تحمّل الشهادة إذا تحملوا.

الثاني ـ لا يأب الشهداء عن الأداء.

الثالث ـ لا يأب الشهداء عنهما جميعا ، لا يأب الشهداء عن التحمل إذا حمّلوا ولا يأبوا عن الأداء إذا تحمّلوا. وكذلك اختلفوا في حكم هذا النهى على ثلاثة أقوال : أحدها ـ أنّ فعل ذلك ندب. الثاني ـ أنّ ذلك فرض على الكفاية. الثالث ـ أنها فرض على الأعيان مطلقا ؛ قاله الشافعى.

والصحيح عندي أنّ المراد ها هنا حالة التحمل للشهادة ؛ لأن حالة الأداء مبيّنة بقوله تعالى (١) : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وإذا كانت حالة التحمّل فهي فرض على الكفاية إذا قال به البعض سقط عن البعض ، لأن إباية الناس كلّهم عنها إضاعة للحقوق ، وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال ؛ فصارت كذلك فرضا على الكفاية ؛ ولهذا المعنى جعلها أهل تلك الديار ولاية فيقيمون للناس شهودا يعيّنهم الخليفة ونائبه ، ويقيمهم للناس ويبرزهم لهم ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم. فلا يكون لهم شغر إلا تحمّل حقوق الناس حفظا ، وإحياؤها لهم أداء.

فإن قيل : فهذه شهادة بالأجرة.

قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وقد بيّناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف.

المسألة التاسعة والعشرون ـ قال علماؤنا : قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) دليل على أنّ الشاهد هو الذي يمشى إلى الحاكم ، وهذا أمر انبنى عليه الشرع ، وعمل

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٨٣


به في كل زمن ، وفهمته كلّ أمة. ومن أمثال العرب : في بيته يؤتى الحكم.

المسألة الموفية ثلاثين ـ كيفما ترددت الحال بالأقوال فهذا دليل على خروج العبد من جملة الشهداء ؛ لأنه لا يمكنه أن يجيب ، ولا يصحّ له أن يأبى ؛ لأنه لا استقلال له بنفسه ؛ وإنما يتصرّف بإذن غيره ، فانحطّ عن منصب الشهادة كما انحطّ عن منصب الولاية ، نعم وكما انحط عنه فرض الجمعة ، وقد بيّناه في مسائل الخلاف.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قال علماؤنا : هذا في حالة الدعاء إلى الشهادة ، فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلم بها مستحقّها الذي ينتفع بها فقال قوم : أداؤها ندب ؛ لقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، ففرض الله تعالى عليه الأداء عند الدعاء ، وإذا لم يدع كان ندبا ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم (١) : خير الشهود الذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها.

والصحيح عندي أنّ أداءها فرض ، لما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقد تعيّن نصره بأداء الشهادة التي هي عنده ؛ إحياء لحقّه الذي أماته الإنكار.

المسألة الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ).

هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدّين ، تنبيها لمن كسل ، فقال : هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه ، لأنّ أمر الله تعالى فيه والتخصيص عليه واحد ، والقليل والكثير في ذلك سواء.

قال علماؤنا : إلّا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوّف النفوس إليه إقرارا أو إنكارا.

المسألة الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ).

يريد أعدل ، يعنى أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه بالعدل عموم ذلك فيه.

المسألة الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ).

__________________

(١) مسلم : ١٣٤٤ ، وابن ماجة : ٧٩٢


يعنى أدعى إلى ثبوتها ؛ لأنه إذا أشهد ولم يكتب ربما نسى الشاهد.

المسألة الخامسة والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) بالشاهد إذا نسى أو قال خلاف ما عند المتداينين.

المسألة السادسة والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) دليل على أنّ الشاهد إذا رأى الكتاب فلم يذكر الشهادة لا يؤدّيها ؛ لما دخل عليه من الريبة فيها ولا يؤدّى إلّا ما يعلم ، لكنه يقول هذا خطّى ، ولا أذكر الآن ما كتبت فيه.

وقد اختلف فيه علماؤنا على ثلاثة أقوال.

الأول ـ قال في المدوّنة : يؤديها ولا ينفع ذلك (١) في الدين والطلاق.

الثاني ـ قال في كتاب محمد : لا يؤديها. الثالث ـ قال مطرف : يؤدّيها وينفع إذا لم يشك في كتاب ، وهو الذي عليه الناس ؛ وهو اختيار ابن الماجشون والمغيرة.

وقد قرّرناه في كتب المسائل ، وبيّنا تعلّق من قال : إنه لا يجوز ؛ لأنّ خطّه فرع عن علمه ، فإذا ذهب علمه ذهب نفع خطّه ، وأجبنا بأنّ خطه بدل الذكرى ، فإن حصلت وإلّا قام مقامها.

المسألة السابعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ).

قال الشعبي : البيوع ثلاثة : بيع بكتاب وشهود. وبيع برهان. وبيع بأمانة ؛ وقرأ هذه الآية ؛ وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد ، وكان كأبيه وقّافا عند كتاب الله تعالى مقتديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة الثامنة والثلاثون ـ ظنّ من رأى الإشهاد في الدّين واجبا أنّ سقوطه في بيع النقد رفع للمشقّة لكثرة تردده.

والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبا ، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثق والمصلحة ، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية ؛ توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغيّر القلوب ، فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا ، وبانّ

__________________

(١) في ا : يؤديها ولا ينفع وذلك. والمثبت من ل.


كلّ واحد منهما من صاحبه فيقلّ في العادة خوف التنازع إلّا بأسباب عارضة ، ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد.

المسألة التاسعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) يدلّ على سقوط الإشهاد في النقد ، وأنّ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أمر إرشاد ، ويدلّ على أن عليه جناحا في ترك الإشهاد في الدّين من دليل الخطاب.

ونحن لا نقول به في هذا النوع ، وقد بينّاه في أصول الفقه ومسائل الخلاف.

والجناح هاهنا ليس الإثم ، إنما هو الضرر الطارئ بترك الإشهاد من التنازع.

المسألة الموفية أربعين ـ اختلف الناس في لفظ أفعل في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) على قولين :

أحدهما ـ أنه فرض ؛ قاله الضحاك.

الثاني ـ أنه ندب ؛ قاله الكافّة ؛ وهو الصحيح ؛ فقد باع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وكتب ونسخة كتابه (١) :

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة (٢) ، بيع المسلم للمسلم.

وقد باع ولم يشهد ، واشترى ورهن (٣) ، درعه عند يهودي ولم يشهد ، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرّهن لخوف المنازعة.

المسألة الحادية والأربعون ـ قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن يكتب الكاتب ما لم يملّ عليه ، ويشهد الشاهد بما لم يشهد عليه ؛ قاله قتادة والحسن وطاوس.

الثاني ـ يمتنع الكاتب أن يكتب ، والشاهد أن يشهد ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء.

__________________

(١) ابن ماجة : ٧٥٦

(٢) أراد بالخبثة الحرام ، أى أنه عبد رقيق لا أنه من قوم لا يحل سبيهم (النهاية). والغائلة : سكوت البائع عما يعلم في المبيع من مكروه.

(٣) ابن ماجة : ٨١٥


الثالث ـ أن يدعى الكاتب والشهيد وهما مشغولان معذوران ؛ قاله عكرمة وجماعة. وتحقيقه أنّ يضار تفاعل من الضرر. قوله تعالى : (يُضَارَّ) يحتمل أن يكون تفاعل بكسر العين ، ويحتمل أن يكون بفتحها ، فإن كان بكسر العين فالكاتب والشاهد فاعلان ، فيكون المراد نهيهما عن الضرر بما يكتبان به أو بما يشهدان عليه ، وإن كان بفتح العين فالكاتب والشاهد مفعول بهما ، فيرجع النهى إلى المتعاملين ألّا يضرّا بكاتب ولا شهيد في دعائه في وقت شغل ولا بأدائه وكتابته ما سمع ؛ فكثير من الكتّاب الشهداء يفسقون بتحويل الكتابة والشهادة أو كتمها ، وإما متعامل يطلب من الكاتب والشاهد أن يدع شغله لحاجته أو يبدّل له كتابته أو شهادته ؛ قال الله سبحانه : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).

المسألة الثانية والأربعون ـ قوله تعالى : (١) : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

اختلف الناس في هذه الآية على قولين :

فمنهم من حملها على ظاهرها ولم يجوّز الرهن إلّا في السفر ؛ قاله مجاهد.

وكافّة العلماء على ردّ ذلك ؛ لأن هذا الكلام ؛ وإن كان خرج مخرج الشرط ، فالمراد به غالب الأحوال. والدليل عليه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاع في الحضر ورهن ولم يكتب.

وهذا الفقه صحيح ، وذلك لأنّ الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا ، فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال.

المسألة الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) دليل على أنّ الرهن لا يحكم (٢) له في الوثيقة إلّا بعد القبض ، فلو رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك له حكما. قال الشافعى : لم يجعل الله الحكم إلّا لرهن موصوف بالقبض ، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم.

__________________

(١) هذه الآية هي الثالثة والثمانون بعد المائة من سورة البقرة.

(٢) في ل : لا حكم.


وهذا ظاهر جدا ، لكن عندنا إذا رهنه قولا وأبى عن الإقباض أجبر عليه ، وقد بينّا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة الرابعة والأربعون ـ قوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) يقتضى بظاهره ومطلقه أنّ الرهن إذا خرج عن يد صاحبه فإنه مقبوض صحيح يوجب الحكم ويختصّ بما ارتهن به دون الغرماء عند (١) كافة العلماء.

وقال عطاء وغيره : لا يكون مقبوضا إلا إن كان عند المرتهن ، وإذا صار عند العدل فهو مقبوض لغة مقبوض حقيقة ؛ لأنّ العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل له. وهذا ظاهر.

المسألة الخامسة والأربعون ـ قوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) : يقتضى بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع ، خلافا لأبى حنيفة ؛ لأنه لو لم يصح رهنه لم يصح بيعه ؛ لأنّ البيع يفتقر إلى القبض افتقار الرهن بل أشدّ منه ، وهذا بيّن ، والله أعلم.

المسألة السادسة والأربعون ـ إذا قبض الرهن لم يجز انتزاعه من يده خلافا لبعض أصحاب الشافعىّ ؛ لأنه إذا انتزعه من يده فقد خرج عن الصفة التي وجبت له من القبض ، وترتّب عليها الحكم ، وهذا بيّن ظاهر.

المسألة السابعة والأربعون ـ كما يجوز رهن العين كذلك يجوز رهن الدّين ، وذلك عندنا إذا تعامل رجلان لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي له عليه ، وكان قبضه قبضا. وقال غيرنا من العلماء : لا يكون قبضا.

وكذلك إذا وهبت المرأة كالئها (٢) لزوجها جاز ، ويكون قبوله قبضا. وخالفنا فيه أيضا غيرنا من العلماء ؛ وما قلناه أصحّ ؛ لأنّ الذي في الذمّة آكد قبضا من المعيّن ؛ وهذا لا يخفى.

المسألة الثامنة والأربعون ـ إن الله سبحانه قال : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فجعل الله تعالى الرهن قائما مقام الشاهد ؛ فقال علماؤنا : إذا اختلف الراهن والمرتهن فالقول قول المرتهن ما بينه وبين قيمة الرهن.

__________________

(١) في ا : عن.

(٢) الكالئ : النسيئة.


وخالفنا أبو حنيفة والشافعىّ وقالا : القول قول الراهن.

وما قلناه يشهد له ظاهر القرآن كما قدمناه.

وعادة الناس في ارتهانهم ما يكون قدر الدين في معاملتهم. فإذا قال المرتهن : ديني مائة ، وقال الراهن : خمسون ، صار الرهن شاهدا يحلف المدعى معه كما يحلف مع الشاهد. وإن قال المرتهن : ديني مائة وخمسون صار مدّعيا في الخمسين.

ولو هلك الرّهن فقد قال أصحاب الشافعى : لا يسقط الدين ، لأنّ الرهن وثيقة ، وظنّوا بنا أنّ الدّين يسقط بهلاك الرهن ، ونحن نقول : إنما نستوفى به إذا هلك ، وكان مما يعاب عليه ، وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة التاسعة والأربعون ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

معناه إن أسقط الكتاب والإشهاد والرهن ، وعوّل على أمانة المعامل ، فليؤدّ الذي ائتمن الأمانة وليتّق الله ربّه.

وقد اختلف العلماء في ذلك كما بيناه ، ولو كان الإشهاد واجبا لما جاز إسقاطه ، وبهذا يتبيّن أنه وثيقة ، وكذلك هو عندنا في النكاح.

وقال المخالفون : هو واجب في النكاح ، وسيأتى في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى.

وقد قال بعض الناس : إنّ هذا ناسخ للأمر بالإشهاد ، وتابعهم جماعة ؛ ولا منازعة عندنا في ذلك ؛ بل هو جائز ، وحبذا الموافقة في المذهب ، ولا نبالى من الاختلاف في الدليل.

وجملة الأمر أن الإشهاد حزم ، والائتمان وثيقة بالله من المداين ، ومروءة من المدين ، وفي الحديث الثابت الصحيح عن أبى هريرة (١) قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : ذكر أنّ رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بالشهداء أشهدهم ، فقال : كفى بالله شهيدا. قال : فأتنى بالكفيل. قال : كفى بالله كفيلا. قال : صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج الرجل في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجّله فلم يجد مركبا ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٣٣٤


ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ، ثم زجّج (١) موضعها ، ثم أتى بها إلى البحر ، فقال : اللهم إنك تعلم أنى تسلفت فلانا ألف دينار ، فسألنى كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا. فرضي بذلك. وسألنى شهيدا فقلت : كفى بالله شهيدا ، فرضي بذلك ، وإنى جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر. وإنى استودعتكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف ، [وهو] (٢) في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده.

فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعلّ مركبا قد جاء بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبا ، فلما نشرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار ، وقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك ، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال : هل كنت بعثت إلىّ شيئا؟ قال : أخبرك أنّى لم أجد مركبا قبل الذي جئت به. قال : فإنّ الله قد أدّى عنك الذي بعثت في الخشبة ، فانصرف بالألف دينار راشدا.

وقد روى عن سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية ، فقال : هذا نسخ لكلّ ما تقدم ؛ يعنى من الأمر بالكتاب والإشهاد والرهن.

المسألة الموفية خمسين ـ قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ).

هذا تفسير لقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) بكسر العين (٣) ؛ نهيه الشاهد عن أن يضرّ بكتمان الشهادة ، فإنّ ذلك إثم بالقلب كما لو حوّلها وبدّلها لكن كذبا ، وهو إثم باللسان.

المسألة الحادية والخمسون ـ إذا كان على الحق شهود تعيّن عليهم أداؤها على الكفاية ، فإن أدّاها اثنان واجتزأ بهما الحاكم سقط الفرض عن الباقين ، وإن لم يجتزئ بهما تعيّن المشي إليه حتى يقع الإثبات ، وهذا يعلم بدعاء صاحبها ، فإذا قال له : أحي حقي بأداء ما عندك لي من شهادة تعيّن ذلك عليه.

__________________

(١) زجج موضعها : أى سوى موضع النقر وأصلحه. وأصله مأخوذ من تزجيج الحواجب ، وهو حذف زوائد الشعر. ويحتمل أن يكون مأخوذا من الزج : النصل ، وهو أن يكون النقر في طرف الخشبة فترك فيه زجا ليمسكه ويحفظ ما في جوفه (النهاية).

(٢) زيادة من ل.

(٣) في يضار.


المسألة الثانية والخمسون ـ قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لما أمر الله سبحانه بالتوثيق بالشهادة على الحقوق كان ذلك دليلا على المحافظة في مراعاة المال وحفظه ، ويعتضد بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم (١) : نهى عن قيل وقال وكثرة السؤال (٢) وإضاعة المال.

الآية الموفية تسعين ـ قوله تعالى (٣) : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) (٤) (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

هذا أصل عظيم في الدين ، وركن من أركان شريعة المسلمين شرّفنا الله سبحانه على الأمم بها ، فلم يحملنا إصرا (٥) ولا كلفنا في مشقّة أمرا ، وقد كان من سلف من بنى إسرائيل إذا أصاب البول ثوب أحدهم قرضه بالمقراض ، فخفّف الله تعالى ذلك إلى وظائف على الأمم حملوها ، ورفعها الله تعالى عن هذه الأمّة ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

ذكر علماؤنا هذه الآية في أنّ القود واجب على شريك الأب ، خلافا لأبى حنيفة ، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبى حنيفة ، لأنّ كلّ واحد منهما قد اكتسب القتل ؛ وقالوا : إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

تعلّق بذلك جماعة من العلماء في أنّ الفعل الواقع خطأ أو نسيانا ـ لغو في الأحكام،

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٤١

(٢) في ا : النوال. والمثبت من ل ، ومسلم.

(٣) الآية السادسة والثمانون بعد المائتين.

(٤) الإصر : الذنب والثقل.


كما جعله الله تعالى لغوا في الآثام ، وبيّن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك عندهم بقوله (١) : رفع عن أمتى الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه.

وهذا لا حجّة فيه ؛ لأنّ الحديث لم يصحّ ، والآية إنما جاءت لرفع الإثم الثابت في قوله تعالى (٢) : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). فأما أحكام العباد وحقوق الناس فثابتة حسب ما يبيّن في سورة النساء إن شاء الله تعالى. والله أعلم.

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٣٤٢

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٨٤


سورة آل عمران

فيها ست وعشرون آية

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

قال بعض علمائنا : هذه الآية دليل على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وإن أدّى إلى قتل الآمر به.

وقد بيّنا في كتاب المشكلين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وآياته وأخباره وشروطه وفائدته. وسنشير إلى بعضه ها هنا فنقول :

المسلم البالغ القادر يلزمه تغيير المنكر ؛ والآيات في ذلك كثيرة ، والأخبار متظاهرة ، وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة ، وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة.

وليس من شرطه أن يكون عدلا عند أهل السنة. وقالت المبتدعة : لا يغيّر المنكر إلّا عدل ، وهذا ساقط ؛ فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق والنهى عن المنكر عامّ في جميع الناس.

فإن استدلّوا بقوله تعالى (٢) : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ). وقوله تعالى (٣) : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) ونحوه.

قلنا : إنما وقع الذمّ هاهنا على ارتكاب ما نهى عنه ، لا عن نهيه عن المنكر.

وكذلك ما روى في الحديث من أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقيل له : هم الذين ينهون عن المنكر ويأتونه ، إنما عوقبوا على إتيانهم.

ولا شكّ في أن النهى عنه ممّن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه عند فاعله فيبعد قبوله منه.

وأما القدرة فهي أصل ، وتكون منه في النفس وتكون في البدن إن احتاج إلى النهى عنه بيده ، فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل ، فإن رجا زواله جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر ، وإن لم يرج زواله فأىّ فائدة فيه؟

__________________

(١) من الآية الواحدة والعشرين.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٤٤

(٣) سورة الصف ، آية : ٣


والذي عنده : أنّ النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالى.

فإن قيل : هذا إلقاء بيده إلى التّهلكة.

قلنا : قد بينا معنى الآية في موضعها ، وتمامها في شرح المشكلين ، والله أعلم.

فإن قيل : فهل يستوي في ذلك المنكر الذي يتعلّق به حقّ الله تعالى مع الذي يتعلّق به حقّ الآدمي؟

قلنا : لم نر لعلمائنا في ذلك نصّا. وعندي أنّ تخليص الآدمي أوجب من تخليص حقّ الله تعالى ؛ وذلك ممهّد في موضعه.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ).

قال علماؤنا : في هذا دليل على وجوب ارتفاع المدعوّ إلى الحاكم ؛ لأنه دعى إلى كتاب الله ، فإن لم يفعل كان مخالفا يتعيّن عليه الزّجر بالأدب على قدر المخالف والمخالف.

ومثله قوله تعالى (٢) : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٣) : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

هذا عموم في أنّ المؤمن لا يتخذ الكافر وليّا في نصره على عدوّه ولا في أمانة ولا بطانة. من دونكم : يعنى من غيركم وسواكم ، كما قال تعالى (٤) : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً).

وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعرى عن ذمّيّ كان استكتبه باليمن وأمره بعزله ، وقد قال جماعة من العلماء يقاتل المشرك في معسكر المسلمين معهم لعدوهم ، واختلف في ذلك علماؤنا المالكية.

__________________

(١) الآية الثالثة والعشرون.

(٢) سورة النور ، آية : ٤٨

(٣) الآية الثامنة والعشرون.

(٤) سورة الإسراء ، آية : ٢


والصحيح منعه لقوله عليه السلام : إنا لا نستعين بمشرك. وأقول : إن كانت في ذلك فائدة محقّقة فلا بأس به.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (١) : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً).

فيه قولان :

أحدهما ـ إلا أن تخافوا منهم ، فإن خفتم منهم فساعدوهم ووالوهم وقولوا ما يصرف عنكم من شرهم وأذاهم بظاهر منكم لا باعتقاد ؛ يبيّن ذلك قوله تعالى (٢) : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

الثاني ـ أنّ المراد به إلا أن يكون بينكم وبينه قرابة فصلوها بالعطية ، كما روى أنّ أسماء قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم (٣) : إنّ أمى قدمت علىّ وهي مشركة وهي راغبة أفأصلها؟ قال : نعم. صلى أمّك.

وهذا وإن كان جائزا في الدين فليس بقوىّ في معنى الآية وإنما فائدتها ما تقدّم في القول الأول. والله أعلم.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٤) : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ : رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي ، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ في حقيقة النّذر ، وهو التزام الفعل بالقول مما يكون طاعة لله عزّ وجلّ ، من (٥) الأعمال قربة.

ولا يلزم نذر المباح. والدليل عليه ما روى في الصحيح (٦) أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى أبا إسرائيل قائما : فسأل عنه فقالوا : نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ويصوم(٧) ، فقال

__________________

(١) من الآية السابقة.

(٢) سورة النحل ، آية : ١٠٦

(٣) مسلم : ٦٩٦

(٤) الآية الخامسة والثلاثون.

(٥) في ا : ومن الأعمال.

(٦) البخاري : ٨ ـ ١٧٨

(٧) في البخاري : نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم.

فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه.


النبي صلّى الله عليه وسلّم : مروه فليصم وليقعد وليستظل ؛ فأخبره بإتمام العبادة ونهاه عن فعل المباح.

وأما المعصية فهي ساقطة إجماعا ؛ ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (١) : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه.

المسألة الثانية ـ في تعليق النّذر بالحمل :

اعلموا ـ علمكم الله ـ أنّ الحمل في حيّز العدم ؛ لأنّ القضاء بوجوده غير معلوم لاحتمال أن يكون نفخ في البطن لعلّة وحركة خلط يضطرب ، وريح ينبعث ، ويحتمل أن يكون لولد ؛ وقد يغلب على البطن كلّ واحد منهما في حالة ، وقد يشكل الحال ؛ فإن فرضنا غلبة الظنّ في كونه حملا فقد اتفق العلماء على أنّ العقود التي ترد عليه وتتعلّق به على ضربين :

أحدهما ـ عقد معاوضة. والثاني ـ عقد مطلق لا عوضية فيه.

فأما الأول ـ وهو عقد المعاوضة ـ فإنه ساقط فيه إجماعا ، بدليل ما روى (٢) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة (٣).

والحكمة فيه أنّ العقد إذا تضمّن العوض وجب تنزيهه عن الجهالة والغرر في حصول الفائدة التي بذل المرء فيها ماله ، فإذا لم يتحقّق حصول تلك الفائدة كان من أكل المال بالباطل.

وأما الثاني ـ وهو العقد المطلق المجرّد من العوض كالوصية والهبة والنذر فإنه يرد على الحمل ؛ لأنّ الغرر فيه منتف إذ هو تبرّع مجرّد ؛ فإن اتفق فيها ونعمت ، وإن تعذّر لم يستضر أحد.

المسألة الثالثة ـ في معنى الآية :

قال علماؤنا : كان لعمران بن ماثان ابنتان : إحداهما حنّة والأخرى يلمشقع ، وبنو ماثان من ملوك بنى إسرائيل من نسل داود عليه السلام ، وكان في ذلك الزمان لا يحرّر إلا الغلمان ، فلما نذرت قال لها زوجها عمران : أرأيتك إن كان ما في بطنك أنثى كيف نفعل؟ فاهتمّت لذلك فقالت : إنى نذرت لك ما في بطني محرّرا ، فتقبل منى إنك أنت السميع

__________________

(١) ابن ماجة : ٦٨٧ ، والبخاري : ٨ ـ ١٧٧

(٢) مسلم : ١١٥٣

(٣) في النهاية : وقيل أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة فهو أجل مجهول ، ولا يصح.


العليم. وذلك لأنها كانت لا ولد لها ، فلما حملت نذرت إن الله أكمل لها الحمل ووضعته فإنه حبس على بيت المقدس (١).

المسألة الرابعة ـ قال أشهب عن مالك : جعلته نذرا تفي به. قالوا : فلما وضعتها ربّتها حتى ترعرعت ، وحينئذ أرسلتها.

وقيل : لفّتها في خرقها وقالت : ربّ إنى وضعتها أنثى ، وليس الذكر كالأنثى ، وقد سميتها مريم ، وإنى أعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم ، وأرسلتها إلى المسجد وفاء بنذرها ، كما أشار إليه مالك ، وتبرّيا منها حين حررتها لله ، أى خلصتها.

والمحرر والحرّ : هو الخالص من كل شيء.

المسألة الخامسة ـ لا خلاف أنّ امرأة عمران لا يتطرّق إلى حملها نذر لكونها حرّة ، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أنّ المرء لا يصحّ له نذر ولده كيف ما تصرفت حاله ؛ فإنه إن كان الناذر عبدا لم يتقرر له قول في ذلك ، وإن كان الناذر حرّا فولده لا يصحّ أن يكون مملوكا له ؛ وكذلك المرأة مثله ؛ وأى وجه للنذر فيه؟

وإنما معناه ـ والله أعلم ـ أنّ المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستبصار والتسلّى والمؤازرة ؛ فطلبت المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه ، فلما منّ الله تعالى عليها به نذرت أنّ حظّها من الأنس به متروك فيه ؛ وهو على خدمة الله تعالى موقوف. وهذا نذر الأحرار من الأبرار ، وأرادت به محرّرا من جهتي ، محررا من رقّ الدنيا وأشغالها. فتقبّله منّى.

وقد قال رجل من الصوفية لأمّه : يا أمّاه ؛ ذريني لله أتعبّد له وأتعلّم العلم. فقالت : نعم ، فسار حتى تبصّر ثم عاد إليها فدقّ الباب ، فقالت : من؟ قال : ابنك فلان. قالت : قد تركناك لله ولا نعود فيك.

المسألة السادسة ـ قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).

يحتمل أن تريد به في كونها تحيض ولا تصلح في تلك الأيام للمسجد. ويحتمل أن تريد بها أنها امرأة فلا تصلح لمخالطة الرجال ؛ وعلى كلّ تقدير فقد تبرّأت منها ، ولعلّ الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام.

__________________

(١) في ابن كثير (١ ـ ٣٥٩) : امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام ، وهي حنة بنت فاقوذ.


وفي صحيح الحديث : أنّ امرأة سوداء كانت تقمّ (١) المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفيه اختلاف في الرواية كثير.

المسألة السابعة ـ رواية أشهب عن مالك تدلّ على أنّ مذهبه التعلّق بشرائع الماضين في الأحكام والآداب ؛ وقد بيّناه في أصول الفقه.

المسألة الثامنة ـ لو صح أنها أسلمتها في خرقها إلى المسجد فكفلها زكريّا لكان ذلك في أنّ الحضانة حقّ للأم أصلا.

وقد اختلفت فيه رواية علمائنا على ثلاثة أقوال : أحدها ـ أنّ الحضانة حقّ لله سبحانه. الثاني ـ أنها حقّ للأم. الثالث ـ أنها حقّ للولد. وقد بيناه في مسائل الفروع بواضح الدليل.

المسألة التاسعة ـ على أىّ حال كان القول والتأويل فإنّ الآية دليل على جواز النذر في الحمل ، وكل عقد لا يتعلق به عوض بدليل إجماعهم على نفوذ العتق فيه ، والنذر مثله.

المسألة العاشرة ـ قال بعض الشافعية : الدليل على أنّ المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفّارة عليهم قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).

قال القاضي ابن العربي : وعجبا لغفلته وغفلة القاضي عبد الوهاب عنه حين تكلم عليه وحاجّه فيه ، وهذا خبر عن شرع من قبلنا ؛ ولا خلاف بين الشافعية عن بكرة أبيهم أنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ، فاسكت واصمت. ثم نقول لأنفسنا : نحن نعلم من أصول الفقه الفرق بين الأقوال التي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد العموم ، والتي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد الخصوص. وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له بينة حالها ومقطع كلامها ؛ فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها ، ورأته أنثى لا تصلح أن تكون برزة ، وإنما هي عورة ؛ فاعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها ، وقد بينّا في أصول الفقه العموم المقصود به العموم وغيره ، وساعدنا عليه ابن الجويني ، وحققناه ؛ فلينظر هنالك.

المسألة الحادية عشرة ـ قالت : إنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فكانت المعاذة وابنها عيسى ، فبهما وقع القبول من جملة الذرية ، وهذا يدلّ على أن الذرية قد تقع

__________________

(١) تقم : تكنس.


على الولد خاصة ، وقد بينّا ذلك في مسألة العقب من الأحكام. وفي سورة الأنعام. والله أعلم.

الآية السادسة ـ قوله تعالى (١) (وَسَيِّداً وَحَصُوراً).

اختلف العلماء في ذلك على قولين :

أحدهما ـ أنّ الحصور هو العنّين وهم الأكثر ، ومنهم ابن عباس.

ومنهم من قال : هو الذي يكفّ عن النساء ولا يأتيهنّ مع القدرة ، منهم سعيد بن المسيّب ؛ وهو الأصح لوجهين :

أحدهما ـ أنه مدح وثناء عليه ، والمدح والثناء إنما يكون على الفضل المكتسب دون الجبلّة في الغالب.

الثاني ـ أن حصورا فعولا ؛ وبناء فعول في اللغة من صيغ الفاعلين.

قال علماؤنا : الحصور : البخيل ، والهيوب الذي يحجم عن الشيء ؛ والكاتم السر ؛ وهذا بناء فاعل. والحصور عندهم : الناقة التي لا يخرج لبنها من ضيق إحليلها (٢).

وهذا فيه نظر ، وقد جاء فعول بمعنى مفعل ، تقول : رسول بمعنى مرسل ، ولكن الغالب ما تقدم.

وإذا ثبت هذا فيحيى كان كافّا عن النساء عن قدرة في شرعه ، فأما شرعنا فالنكاح. روى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عثمان بن مظعون عن التبتّل ، قال الراوي : ولو أذن له لاختصينا ، ولهذا بالغ قوم فقالوا : النكاح واجب ، وقصّر آخرون فقالوا مباح ، وتوسّط علماؤنا فقالوا : مندوب.

والصحيح أنه يختلف باختلاف حال النكاح والزمان ، وقد بينا ذلك في سورة النساء ، وسترونه إن شاء الله.

الآية السابعة ـ قوله تعالى (٣) : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في كيفية فعلهم :

__________________

(١) الآية التاسعة والثلاثون.

(٢) في القرطبي : وناقة حصور : ضيقة الإحليل.

(٣) الآية الرابعة والأربعون.


واختلف فيه نقل المفسرين على روايتين :

الأولى ـ روى أن زكريا قال : أنا أحقّ بها ، خالتها (١) عندي. وقال بنو إسرائيل : نحن أحقّ بها ، بنت عالمنا ، فاقترعوا عليها بالأقلام ، وجاء كلّ واحد بقلمه ، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري ، فمن وقف قلمه ولم يجر في الماء فهو صاحبها (٢)

قال النبي عليه السلام : فجرت الأقلام وعال (٣) قلم زكريا ؛ كانت آية ، لأنه نبي تجرى الآيات على يده.

الثاني ـ أنّ زكريا كان يكفلها حتى كان عام مجاعة فعجز وأراد منهم أن يقترعوا ، فاقترعوا ، فوقعت القرعة عليهم (٤) لما أراد الله من تخصيصه بها.

ويحتمل أن تكون أنها لما نذرتها لله تخلّت عنها حين بلغت السعى ، واستقلّت بنفسها ، فلم يكن لها بدّ من قيّم ، إذ لا يمكن انفرادها بنفسها ، فاختلفوا فيه فكان ما كان.

المسألة الثانية ـ القرعة أصل في شريعتنا ؛ ثبت أن النبي عليه السلام كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها ، وهذا مما لم يره مالك شرعا.

والصحيح أنه دين ومنهاج لا يتعدى ، وثبت عنه أيضا صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا أعتق عبيدا له ستة في مرضه لا مال له غيرهم. فأقرع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة.

وهذا مما رآه مالك والشافعى ؛ وأباه أبو حنيفة ؛ واحتج بأنّ القرعة في شأن زكريا وأزواج النبىّ عليه السلام كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز.

وأما حديث الأعبد فلا يصحّ التراضي في الحرية ولا الرضا ؛ لأن العبودية والرق إنما ثبتت بالحكم دون قرعة فجازت ، ولا طريق للتراضى فيها ، وهذا ضعيف ؛ فإنّ القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفى عند التشاحّ (٥) فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ، ولا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ القرعة تجرى في موضع التراضي ، وإنها لا تكون أبدا مع

__________________

(١) ابن كثير (١ ـ ٣٦٣).

(٢) في القرطبي : فهو حاضنها.

(٣) عال : ارتفع.

(٤) هكذا بالأصل.

(٥) تشاح الخصمان : أراد كل منهما أن يكون هو الغالب.


التراضي فكيف يستحيل اجتماعها مع التراضي؟ ثم يقال : إنها لا تجرى إلّا على حكمه ولا تكون إلّا في محلّه ؛ وهذا بعيد.

المسألة الثالثة ـ قد روى أنّ مريم كانت بنت أخت زوج زكريا ، ويروى أنها كانت بنت عمه ، وقيل من قرابته ؛ فأما القرابة فمقطوع بها ، وتعيينها مما لم يصح.

وهذا جرى في الشريعة التي قبلنا ، فأما إذا وقع في شريعتنا فالخالة أحقّ بالحضانة بعد الجدة من سائر القرابة والناس ؛ لما روى أن النبي عليه السلام قضى بها للخالة ، ونص الحديث ـ خرجه أبو داود ـ قال : خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة ـ قال ابن العربي : واسمها (١) أمة الله ، وأمها سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس ـ فقال جعفر : أنا أحق بها ؛ ابنة عمى ، وعندي خالتها ، وإنما الخالة أمّ. وقال علىّ : أنا أحقّ بها وعندي ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ فأنا أحقّ بها. وقال زيد : أنا أحقّ بها ، خرجت إليها وسافرت وقدمت بها ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر شيئا (٢) ، وقال : أمّا الجارية فأقضى بها لجعفر تكون مع خالتها ، وإنما الخالة بمنزلة الأم.

المسألة الرابعة ـ هذا إذا كانت الخالة أيّما ، فأما إن تزوّجت ، وكان زوجها أجنبيا فلا حضانة لها ؛ لأنّ الأمّ تسقط حضانتها بالزوج الأجنبى ؛ فكيف بأختها وبأمها والبدل عنها.

فإن كان وليّا لم تسقط حضانتها كما لم تسقط حضانة زوج جعفر ؛ لكون جعفر وليّا لابنة حمزة وهي بنوّة العم.

وذكر ابن أبى خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصىّ حمزة فتكون الخالة على هذا أحقّ من الوصىّ ، ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع للخالة في الحضانة وإن لم يكن محرّما لها.

وقد بينا في شرح الحديث اسم الكل ووصف قرابته.

الآية الثامنة ـ قوله تعالى (٣) : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ (٤) مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

__________________

(١) أى ابنة حمزة.

(٢) في القرطبي : حديثا.

(٣) سورة آل عمران ، الآية الواحدة والستون.

(٤) فيه : في عيسى (ابن كثير : ١ ـ ٣٦٨).


فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى المفسّرون أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ناظر أهل نجران (١) حتى ظهر عليهم بالدليل والحجّة ، فأبوا الانقياد والإسلام ؛ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، فدعا حينئذ فاطمة والحسن والحسين ، ثم دعا النصارى إلى المباهلة.

المسألة الثانية ـ هذا يدلّ على أنّ الحسن والحسين ابناه ، وقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في الحسن : إنّ ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

فتعلّق بهذا من قال : إن الابن من البنت يدخل في الوصية والحبس (٢) ، ويأتى ذلك في موضعه إن شاء الله.

وليس فيها حجة ، فإنه يقال : إنّ هذا الإطلاق مجاز ، وبيانه هنالك.

الآية التاسعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

فيها إحدى عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قيل : نزلت في نصارى نجران. وقال ابن جريج : نزلت في قوم من اليهود تابعهم جماعة من العرب ، فلما أسلموا قال لهم اليهود : تركتم دينكم ، فليس لكم عندنا حقّ.

المسألة الثانية ـ الدينار أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط ثلاث حبات من شعير ، والقنطار أربعة أرباع ، والربع ثلاثون رطلا ، والرطل اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية ستة عشر درهما ، والدرهم ست وثلاثون حبّة من شعير ، وقد بينا ذلك مشروحا في مسائل الفقه.

المسألة الثالثة ـ فائدتها النّهى عن ائتمانهم على مال. وقال شيخنا أبو عبد الله العربي: فائدتها ألّا يؤتمنوا على دين ؛ يدلّ عليه ما بعده من قوله (٤) : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ

__________________

(١) قصة وفد نجران وردت مطولة في ابن كثير (١ ـ ٣٦٩)

(٢) الحبس : الوقف.

(٣) الآية الخامسة والسبعون.

(٤) من آية ٧٨ من السورة نفسها.


أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) : فأراد ألّا يؤتمنوا على نقل شيء من التوراة والإنجيل.

قال القاضي : والصحيح عندي أنها في المال نصّ ، وفي الدين سنّة ؛ فأفادت المعنيين بهذين الوجهين.

المسألة الرابعة ـ في قوله تعالى : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ).

هذا يدلّ على أن أداء الأمانة في الدينار بالنص أو بالسنة أو بالقياس ، وقد بيناه في أصول الفقه.

والصحيح أنه قياس جلىّ ، وهو أعلى مراتبه ، وهناك تجدونه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً).

تعلّق به أبو حنيفة في ملازمة الغريم للمفلس ؛ وأباه سائر العلماء ؛ ولا حجّة لأبى حنيفة فيه ؛ لأن ملازمة الغريم المحكوم بعدمه لا فائدة فيها ؛ إذ لا يرجى ما عنده. وقد بيناه في مسائل الخلاف هناك.

وقد قال جماعة من الناس : إن معنى (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أى حافظا بالشهادة ، فلينظر هنالك.

المسألة السادسة ـ أقسام هذه الحال ثلاثة :

قسم يؤدّى ، وقسم لا يؤدّى إلا ما دمت عليه قائما ، وقسم لا يؤدّى وإن دمت عليه قائما ، إلا أنّ الله سبحانه ذكر القسمين ، لأنه الغالب المعتاد ، والثالث نادر ؛ فخرج الكلام على الغالب.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).

المعنى فعلوا ذلك لاعتقادهم أنّ ظلمهم لأهل الإسلام جائز ، تقدير كلامهم ليس علينا في ظلم الأمّيين سبيل ؛ أى إثم. وقولهم هذا كذب صادر عن اعتقاد باطل مركب على كفر ، فإنهم أخبروا عن التوراة بما ليس فيها ، وذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

المسألة الثامنة ـ الأمانة عظيمة القدر في الدين ، ومن عظيم قدرها أنها تقف على جنبتي


الصراط ، ولا يمكّن من الجواز إلّا من حفظها ، وقد بيناه في شرح الحديث وكتاب شرح المشكلين ؛ ولهذا وجب عليك أن تؤدّيها إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ؛ فتقابل معصية فيك بمعصية فيه ، على اختلاف بيناه في مسائل الخلاف.

ولذلك لم يجز لك أن تغدر بمن غدر بك. قال البخاري : باب إثم الغادر البرّ والفاجر. فإن قيل : فقد قال الشعبي : من حلّ بك فاحلل به. قال إبراهيم النخعي : يعنى أن المحرم لا يقتل ، ولكن من غرض لك فاقتله وحلّ أنت به أيضا ، من خانك فخنه.

قلنا : تحريم المحرم كان بشرط ألا يعرض له في أصل العقد ، والأمانة يلزم الوفاء بها من غير شرط.

المسألة التاسعة ـ قال رجل لابن عباس : إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول : ليس علينا بذلك بأس.

فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : ليس علينا في الأمّيين سبيل ؛ إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلّا عن طيب أنفسهم.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

هذه الآية ردّ على الكفرة الذين يحلّلون ويحرّمون من غير تحليل الله وتحريمه ، ويجعلون ذلك من الشرع ، ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل ، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله.

الآية العاشرة ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قال قوم : نزلت في اليهود ؛ كتبوا كتابا وحلفوا أنه من عند الله.

وقيل : نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة لتنفق (٢) سلعته في البيع ؛ قاله مجاهد وغيره.

والذي يصحّ أنّ عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (٣) :

__________________

(١) الآية السابعة والسبعون.

(٢) تنفق : تروج.

(٣) صحيح مسلم : ١٢٢


من حلف على يمين صبر (١) ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ؛ فأنزل الله تعالى تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ...) الآية. قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : فىّ نزلت ، كان لي بئر في أرض ابن عمر ، وفي رواية : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني. قال النبي عليه السلام : بيّنتك أو يمينه. فقلت : إذا يحلف يا رسول الله. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ... وذكر الحديث. وذلك يحتمل ما صحّ في الحديث وما روى عن اليهود.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : هذا دليل على أنّ حكم الحاكم لا يحلّ المال في الباطن بقضاء الظاهر ، إذا علم المحكوم له بطلانه.

وقد روت أمّ سلمة في الصحيح أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال (٢) : إنما أنا بشر ، وأنتم تختصمون إلىّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون الحن بحجّته من بعض ، فأقضى له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار.

وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا ، فقال : إنّ حكم الحاكم المبنىّ على الشهادة الباطلة يحلّ الفرج لمن كان محرّما عليه ، وسيأتى بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ، وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٤) :

قيل : إنها نزلت في نصارى نجران ، وكذلك روى أنّ السورة كلها إلى قوله : (وَإِذْ

__________________

(١) يمين صبر : أى ألزم بها وحبس عليها ، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم (النهاية).

وفي ابن كثير ١ ـ ٣٧٥ : على يمين كاذبة.

(٢) صحيح مسلم : ١٣٣٧

(٣) الآية التاسعة والسبعون ، والآية الثمانون.

(٤) ابن كثير : ١ ـ ٣٧٧


غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) كان سبب نزولها نصارى نجران ، ولكن مزج معهم اليهود ؛ لأنهم فعلوا من الجحد والعناد مثل فعلهم.

المسألة الثانية ـ في قوله تعالى : (رَبَّانِيِّينَ).

وهو منسوب إلى الرب ، وقد بيّنا تفاصيل معنى اسم الرب في الأمد الأقصى ، وهو هاهنا عبارة عن الذي يربّى الناس بصغار العلم قبل كباره ، وكأنه يقتدى بالرب سبحانه وتعالى في تيسير الأمور المجملة في العبد على مقدار بدنه من غذاء وبلاء.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).

المعنى : وإنّ علمهم بالكتاب ، ودرسهم له يوجب ذلك عليهم ؛ لأنّ هذا من المعاني التي شرحت فيه لهم.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً).

المعنى : ولا آمر الخلق أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا يعبدونهم ؛ لأنّ الله سبحانه لا يأمر بالكفر من أسلم فعلا ، ولا يأمر بالكفر ابتداء ؛ لأنه محال عقلا ، فلما لم يتقدر ولا تصوّر لم يتعلق به أمر.

المسألة الخامسة ـ حرّم الله تعالى على الأنبياء أن يتخذوا الناس عبادا يتألّهون لهم ، ولكن ألزم الخلق طاعتهم.

وقد ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (١) : لا يقولنّ أحدكم عبدى وأمتى ، وليقل فتاي وفتأتي ، ولا يقل أحدكم ربّى وليقل سيّدى.

وقد قال الله تعالى ـ مخبرا عن يوسف (٢) : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). وقال (٣) : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم (٤) : «من أعتق شركا له في عبد ......» فتعارضت.

فلو تحققنا التاريخ لكان الآخر رافعا للأول أو مبيّنا له على اختلاف الناس في النسخ.

وإذا جهلنا التاريخ وجب النظر في دلالة الترجيح.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٧٦٤

(٢) سورة يوسف ، آية : ٤٢

(٣) سورة النور ، آية : ٣٢

(٤) صحيح مسلم : ١٢٨٦


وقد مهّدنا ذلك في شرح الحديث بما الكافي منه الآن لكم ترجيح الجواز ؛ لأنّ النهى إنما كان لتخليص الاعتقاد من أن يعتقد لغير الله عبودية أو في سواه ربوبية ، فلما حصلت العقائد كان الجواز.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ).

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بضم التاء ، وكأنّ معناه لا تتخذوهم عبادا بحقّ تعليمكم ، فإنه فرض عليكم أو إشراك في نيّتكم ، أو استعجال لأجركم ، أو تبديل لأمر الآخرة بأمر الدنيا ؛ واختاره الطبري على قراءة فتح التاء.

قال شيخنا أبو عبد الله العربي : كذلك يقتضى صفة العلم وقراءته ؛ لأنّ العلم إنما هو للتعليم لتحريم كتمان العلم ، والأمر في ذلك قريب ؛ وليس هذا موضع تحريره.

الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (١) : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ).

معناه تصيبوا ، يقال : نالني خير ينولنى ، وأنالنى خيرا ؛ ويقال : نلته أنوله معروفا ونولنه ، قال الله تعالى (٢) : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) ؛ أى لا يصل إلى الله شيء من ذلك لتقديسه عن الاتصال والانفصال.

المسألة الثانية ـ (الْبِرَّ) قد بيناه في كتاب الأمد الأقصى وشفينا النفس من إشكاله.

قيل : إنه ثواب الله ، وقيل : إنه الجنة ؛ وذلك يصل البرّ إليه لكونه على الصفات المأمور بها.

المسألة الثالثة ـ (حَتَّى تُنْفِقُوا).

المعنى حتى تهلكوا ، يقال : نفق إذا هلك (٣). المعنى حتى تقدّموا من أموالكم في سبيل الله ما تتعلّق به قلوبكم.

المسألة الرابعة ـ في تفسير هذه النفقة :

__________________

(١) الآية الثانية والتسعون.

(٢) سورة الحج ، آية ٣٧

(٣) في المصباح : نفق الشيء : فنى ، وأنفقته : أفنيته.


قال ابن عمر : وهي صدقة الفرض والتطوّع. وقيل : هي سبل الخير كلها ، وهو الصحيح لعموم الآية.

وقد روى الأئمة كلهم أنّ أبا طلحة قال : يا رسول الله ، إنى أسمع الله تعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإنّ أحبّ أموالى إلىّ بيرحاء (١) ، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : بخ ، بخ. ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح. وقد سمعت ما قلت فيها ، وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين ؛ فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه (٢).

وروى الطبري أنّ زيد بن حارثة جاء بفرس له يقال له سبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقال : تصدّق بهذا يا رسول الله ، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة ابن زيد بن حارثة ، فقال : يا رسول الله ؛ إنما أردت أن أتصدق به. فقال : رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : قد قبلت صدقتك.

المسألة الخامسة ـ قال العلماء : إنما تصدّق به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على قرابة المصدق لوجهين :

أحدهما ـ أن الصدقة في القرابة أفضل ؛ لأنها كما قال في غير هذا الحديث صدقة وصلة.

الثاني ـ أنّ نفس المتصدّق تكون بذلك أطيب وأسلم عن تطرّق الندم إليها.

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ سبب نزولها ، وفيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ روى (٤) أنّ اليهود أنكروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحليل لحوم الإبل ، فأخبر الله بتحليلها لهم حتى حرّمها إسرائيل على نفسه.

المعنى إنى لم أحرّمها عليكم ، وإنما كان إسرائيل هو الذي حرّمها على نفسه.

__________________

(١) أرض لأبى طلحة (ياقوت).

(٢) ابن كثير : ١ ـ ٣٨١

(٣) الآية الثالثة والتسعون.

(٤) أسباب النزول : ٦٥


الثاني ـ أنّ (١) عصابة من اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فقالوا له : يا أبا القاسم ؛ أخبرنا أىّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبّ الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم. قال : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الله سبحانه أنزل تحريم ذلك فيها. رواه الطبري.

الثالث ـ أنها نزلت في نفر من اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل وامرأة زنيا ، فرجمهما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على ما يأتى بيانه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

فأما نزولها في رجم اليهود فيأباه ظاهر اللفظ ، وأما سائرها فمحتمل ، والله أعلم.

المسألة الثانية ـ اختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه ؛ فقيل : كان بإذن الله تعالى.

وقيل : كان باجتهاد ، وذلك مبنيّ على جواز اجتهاد الأنبياء ؛ وقد بيّناه في موضعه.

واختلف في تحريم اليهود ذلك ؛ فقيل : إنّ إسرائيل حرّمها على نفسه وعليهم.

وقيل : اقتدوا به في تحريم ذلك ، فحرّم الله تعالى عليهم بغيهم ، ونزلت به التوراة ، وذلك في قوله تعالى (٢) : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

والصحيح أنّ للنبي أن يجتهد ؛ وإذا أدّاه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزم اتّباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك ، وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه ، كذلك يؤذن له ويجتهد ، ويتعيّن موجب اجتهاده إذا قدر عليه.

والظاهر من الآية ـ مع أنّ الله سبحانه أضاف التحريم إليه بقوله إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ـ أنّ الله سبحانه أذن له في تحريم ما شاء ، ولو لا تقدّم الإذن له ما تسوّر (٣) على التحليل والتحريم ، وتقدم ما يقتضى ذلك على القول بجواز الاجتهاد فحرّمه مجتهدا فأقرّه الله سبحانه عليه.

وقد حرّم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم العسل على الرواية الصحيحة أو جاريته مارية فلم يقر الله تحريمه ، ونزل قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). وكان ذلك

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٣٨١

(٢) سورة النساء ، آية : ١٦٠

(٣) تسور : هجم.

(٤) سورة التحريم ، آية : ١


من النبي صلّى الله عليه وسلّم اجتهادا أو بأمر على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ حقيقة التحريم المنع ؛ فكلّ من امتنع من شيء مع اعتقاده الامتناع منه فقد حرّمه ، وذلك يكون بأسباب ؛ إما بنذر كما فعل يعقوب في تحريم الإبل وألبانها ؛ وإما بيمين كما فعل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في العسل ، أو في جاريته ؛ فإن كان بنذر فإنّه غير منعقد في شرعنا.

ولسنا نتحقّق كيفية تحريم يعقوب ؛ هل كان بنذر أو بيمين ؛ فإن كان بيمين فقد احلّ الله لنا اليمين بالكفارة أو بالاستثناء المتصل رخصة منه لنا ، ولم يكن ذلك لغيرنا من الأمم.

فلو قال رجل : حرّمت الخبز على نفسي أو اللحم لم يحرم ولم ينعقد يمينا ؛ فإن قال : حرمت أهلى فقد اختلف العلماء فيه اختلافا كثيرا يأتى بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

والصحيح أنه يلزمه تحريم الأهل إذا ابتدأ بتحريمها كما يحرمها بالطلاق ، ولا يلزمه تحريم فيما عدا ذلك ؛ لقوله سبحانه (١) : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا).

الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قبل له (٣) : أىّ المسجدين وضع في الأرض أول؟ المسجد الحرام أو المسجد الأقصى؟ قال : المسجد الحرام. وذكر أنه كان بينهما أربعون عاما ؛ وهذا ردّ على من يقول : كان في الأرض بيت قبله تحجّه الملائكة.

المسألة الثانية ـ في بركته.

قيل : ثواب الأعمال. وقيل : ثواب القاصد إليه. وقيل : أمن الوحش فيه. وقيل : عزوف النفس عن الدنايا عند رؤيته.

والصحيح أنه مبارك من كلّ وجه من وجوه الدنيا والآخرة ، وذلك بجميعه موجود فيه.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٩٠

(٢) الآية السادسة والتسعون والسابعة والتسعون.

(٣) ابن كثير : ٣٨٣


المسألة الثالثة ـ فأما قوله : ببكّة ، ففيها ثلاثة أقوال :

الأول : بكّة : مكّة. الثاني ـ بكّة : المسجد ، ومكة سائر الحرم.

وإنما سمّيت بكّة لأنها تبكّ (١) أعناق الجبابرة ، أى تقطعها. وقال أبو جعفر وقتادة : إنّ الله سبحانه بكّ بها الناس ؛ فتصلّى النساء بين يدي الرجال ، ولا يكون في بلد غيرها ، وصورة هذا أنّ الناس يستديرون بالبيت فيكون وجوه البعض إلى البعض فلا بدّ من استقبال النساء من حيث صلّوا (٢).

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (مَقامِ إِبْراهِيمَ).

فيه قولان :

أحدهما ـ أنه الحجر المعهود ، وإنما جعل آية للناس ؛ لأنه جماد صلد وقف عليه إبراهيم ، فأظهر الله فيه أثر قدمه آية باقية إلى يوم القيامة.

الثاني ـ قال ابن عباس : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) هو الحجّ كلّه ؛ وهذا بيّن ، فإنّ إبراهيم قام بأمر الله سبحانه ، ونادى بالحجّ عباد الله ، فجمع الله العباد على قصده ، وكانت شرعة من عهده ، وحجّة على العرب الذين اقتدوا به من بعده.

وفيه من الآيات أنّ من دخله خائفا عاد آمنا ؛ فإنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته ، وصرف الأيدى عن إذايته ، وجمعها على تعظيم الله تعالى وحرمته.

وهذا خبر عمّا كان ، وليس فيه إثبات حكم ، وإنما هو تنبيه على آيات ، وتقرير نعم متعدّدات ، مقصودها وفائدتها وتمام النعمة فيه بعثه محمدا صلّى الله عليه وسلّم ؛ فمن لم يشهد هذه الآيات ويرى ما فيها من شرف المقدّمات لحرمة (٣) من ظهر من تلك البقعة فهو من الأموات.

المسألة الخامسة ـ قال أبو حنيفة : إنّ من اقترف ذنبا واستوجب به حدّا ، ثم لجأ إلى الحرم عصمه ؛ لقوله تعالى (٤) : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله ، وروى ذلك عن جماعة من السلف ، منهم ابن عباس وغيره من الناس.

__________________

(١) في ابن كثير : بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها.

(٢) لم يذكر القول الثالث.

وفي ابن كثير أقوال أخرى منها : بكة : البيت والمسجد. أو البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة. (١ ـ ٣٨٣).

(٣) هكذا في كل الأصول.

(٤) الآية السابعة والتسعون.


وكلّ من قال هذا فقد وهم من وجهين :

أحدهما ـ أنه لم يفهم معنى الآية أنه خبر عما مضى ، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل.

الثاني ـ أنه لم يعلم أنّ ذلك الأمن قد ذهب ، وأنّ القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها ، وخبر الله سبحانه لا يقع بخلاف مخبره ؛ فدلّ على أنه في الماضي.

هذا ، وقد ناقض أبو حنيفة فقال : إنه لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلّم حتى يخرج ، فاضطراره إلى الخروج ليس يصحّ معه أمن.

وروى عنه أنه قال : يقع القصاص في الأطراف في الحرم ، ولا أمن أيضا مع هذا ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.

المسألة السادسة ـ قال بعضهم : من دخله كان آمنا من النار ؛ ولا يصحّ هذا على عمومه ، ولكنه من حجّ فلم يرفث (١) ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، والحج المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة. قال ذلك كلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ فيكون تفسيرا للمقصود ، وبيانا لخصوص العموم ، إن كان هذا القصد صحيحا.

هذا ، والصحيح ما قدمناه من أنه قصد به تعديد النعم على من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب ، كما قال تعالى (٢) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ).

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

فيها إحدى عشرة المسألة :

المسألة الأولى ـ قال علماؤنا : هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب ، إذا قال العربي : لفلان علىّ كذا فقد وكّده وأوجبه.

قال علماؤنا : فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب ؛ تأكيدا لحقّه ، وتعظيما لحرمته ، وتقوية لفرضه.

__________________

(١) الرفث : الفحش من القول.

(٢) سورة العنكبوت ، آية : ٦٧

(٣) من الآية السابعة والتسعين.


المسألة الثانية ـ كان الحجّ معلوما عند العرب مشروعا لديهم ، فخوطبوا بما علموا وألزموا ما عرفوا ، وقد حجّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم معهم قبل فرض الحج ؛ فوقف بعرفة ولم يغيّر من شرع إبراهيم ما غيّروا حيث كانت قريش تقف بالمزدلفة ، ويقولون : نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ونحن الحمس.

المسألة الثالثة ـ هذا يدلّ على أنّ ركن الحج القصد إلى البيت. وللحج ركنان :

أحدهما ـ الطواف بالبيت. والثاني ـ الوقوف بعرفة ، لا خلاف في (١) [٩٦] ذلك ، وكل ما وراءه نازل عنه مختلف فيه.

فإن قيل : فأين الإحرام ، وهو متّفق عليه؟

قلنا : هو النية التي تلزم كلّ عبادة ، وتتعيّن في كل طاعة ، وكل عمل خلافها لم يكن به اعتداد ؛ فهي شرط لا ركن.

المسألة الرابعة ـ قال علماؤنا : إذا توجّه الخطاب على المكلفين بفرض ، هل يكفى فيه فعله مرة واحدة ، أو يحمل على التكرار؟

وقد بيناه في أصول الفقه دليلا ومذهبا.

والمختار أنه يقتضى فعله مرة واحدة ، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له أصحابه : يا رسول الله ؛ أحجّنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال : لا ، بل لأبد الأبد (٢). رواه جماعة منهم علىّ ؛ قال : لما نزلت : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ـ قالوا : يا رسول الله ؛ أو في كل عام؟ قال : لا ـ ولو قلت : نعم ، لوجبت.

وروى محمد بن زياد عن أبى هريرة (٣) : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله سبحانه كتب عليكم الحجّ. فقال محصن الأسدى : أفي كلّ عام يا رسول الله؟ قال : أما إنى لو قلت نعم لوجبت ، ثم لو تركتم لضللتم؟ اسكتوا عنى ما سكتّ عنكم ، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ؛ فأنزل الله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

__________________

(١) من أول المسألة الثامنة التي سبقت في صفحة ١٨٧ إلى هنا ساقط في م ، مع أن أرقام الصفحات متتالية فيها.

(٢) الأبد : الدهر ، أى هي لآخر الدهر (النهاية).

(٣) صحيح مسلم : ٩٧٥ ، والقرطبي : ٥ ـ ١٤٣

(٤) سورة المائدة ، آية : ١٠١


المسألة الخامسة ـ إذا ثبت أنه لا يتعيّن لامتثال الخطاب إلا فعلة واحدة من الفعل المأمور به فقد اختلف العلماء ؛ هل هي على الفور أم هي مسترسلة على الزمان إلى خوف الفوت؟ ذهب جمهور البغداديين إلى حملها على الفور. ويضعف عندي.

واضطربت الروايات عن مالك في مطلقات ذلك.

والصحيح عندي من مذهبه أنه لا يحكم فيه بفور ولا تراخ كما تراه ؛ وهو الحقّ ، وقد بيناه في أصول الفقه.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (عَلَى النَّاسِ) عامّ في جميعهم ، مسترسل على جميعهم من غير خلاف بين الأمّة في هذه الآية ، وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات ، بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم ، خلا الصغير ؛ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف ، فلا يقال فيه : إنّ الآية مخصوصة فيه ، وكذا العبد لم يدخل فيها ؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم الأول قوله سبحانه في تمام الآية : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، والعبد غير مستطيع ؛ لأنّ السيد يمنعه بشغله بحقوقه عن هذه العبادة ؛ وقد قدّم الله سبحانه حقّ السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم.

ولا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة ، ولا نهرف (١) بما لا نعرف ، ولا دليل عليه إلا الإجماع.

(توجيه وتعليم) ـ تساهل بعض علمائنا فقال : إنما لم يثبت الحجّ على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافرا في الأصل ، ولم يكن حجّ الكافر معتدّا به ، فلما ضرب عليه الرقّ ضربا مؤبّدا لم يخاطب بالحج ، وهذا فاسد ـ فاعلموه ـ من ثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنّ الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا خلاف فيه في قول مالك وإن خفى ذلك على الأصحاب.

الثاني ـ أنّ الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه.

الثالث ـ أنّ سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا ، ولو فعلها في حال

__________________

(١) الهرف : شبه الهذيان.


الكفر لم يعتدّ بها ، فوجب أن يكون الحجّ مثله ؛ فتبين أنّ المعتمد ما ذكرنا من تقدم حقوق السيد.

المسألة السابعة ـ قال جماعة من فقهاء الأمصار ، منهم أبو حنيفة والشافعى وعبد العزيز ابن أبى سلمة : السبيل : الزاد والراحلة ، ورفعوا في ذلك حديثا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ، لا يصح إسناده [٩٧] ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.

وهو أيضا يبعد معنى ؛ فإنه لو قال : الاستطاعة الزاد والراحلة لكان أولى في النفس ، فإن السبيل في اللغة هي الطريق ، والاستطاعة ما يكسب سلوكها ، وهي صحة البدن ووجود القوت لمن يقدر على المشي ، ومن لم يقدر على المشي فالركوب زيادة على صحة البدن ووجود القوت.

وقد روى ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال : الناس في ذلك على طاقتهم ويسرهم وجلدهم.

قال أشهب : أهو الزاد والراحلة؟ قال : لا والله ، وما ذلك إلا قدر طاقة الناس ، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير ، وآخر يقدر أن يمشى على رجليه ، ولا صفة في ذلك أبين مما أنزل الله ، وهذا بالغ في البيان منه.

وقال علماؤنا : لو صحّ حديث الخوزي ؛ الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس ، والغالب منهم في الأقطار البعيدة ، وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة ، وفي كلام العرب وأشعارها.

المسألة الثامنة ـ إذا وجدت الاستطاعة توجّه فرض الحج بلا خلاف إلا أن تعرض له آفة ، والآفات أنواع :

منها الغريم يمنعه من الخروج حتى يؤدّى الدّين ، ولا خلاف فيه.

ومن كان له أبوان ، أو من كان لها من النساء زوج ، فاختلف العلماء فيهم. واختلف قول مالك كاختلافهم.

والصحيح في الزوج أنه يمنعها لا سيما إذا قلنا : إن الحج لا يلزم على الفور ، وإن قلنا


إنه على الفور فحقّ (١) الزوج مقدّم ، وأما الأبوان فإن كانا منعاه (٢) لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه ، وإن كان خوف الضيعة وعدم العوض (٣) في التلطف فلا سبيل له إلى الحج ؛ وذلك مبيّن في مسائل الفقه.

المسألة التاسعة ـ إن كان مريضا أو مغصوبا (٤) لم يتوجّه عليه المسير إلى الحج بإجماع من الأمة ؛ فإن الحجّ إنما فرضه الله على المستطيع إجماعا ؛ والمريض والمغصوب لا استطاعة لهما ؛ فإن رووا أنّ الصحيح (٥) قد تضمّن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ امرأة قالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجّ عنه؟ قال : نعم ، حجّى عنه. وقال (٦) النبي صلّى الله عليه وسلّم : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت : نعم. قال : فدين الله أحقّ أن يقضى.

وقد قال بهذا الحديث جماعة من المتقدمين ، واختاره الشافعى من المتأخرين ، وأبى ذلك الحنفية والمالكية ، وهم فيه أعدل قضية ؛ فإنّ مقصود الحديث الحثّ على برّ الوالدين والنظر في مصالحهم دينا ودنيا ، وجلب المنفعة إليهما جبلّة وشرعا ؛ فإنه رأى من المرأة انفعالا بيّنا ، وطواعية ظاهرة ، ورغبة صادقة في برّ أبيها ، وتأسفت أن تفوته بركة الحج ، ويكون عن ثواب هذه العبادة بمعزل ، وطاعت بأن تحج عنه ؛ فأذن لها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه.

وكأن في هذا الحديث جواز حجّ الغير عن الغير ؛ لأنها عبادة بدنيّة مالية ، والبدن وإن كان لا يحتمل النيابة فإن المال يحتملها ؛ فروعى في هذه العبادة جهة المال ، وجازت فيه النيابة.

وقد صرّح النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بجواز النيابة في غير هذا الموضع ، وضرب المثل بأنه لو كان على أبيها دين عبد لسعت في قضائه ، فدين الله أحقّ بالقضاء ، وإن كان

__________________

(١) في ا : حق ، وهو تحريف طبعي.

(٢) في ا : فإن كان منعاه. وهو تحريف. وفي ل : فإن منعاه.

(٣) في ا : العرض. وهو تحريف ، صوابه من ل ، والقرطبي : ٣ ـ ١٤٧.

(٤) في القرطبي : معضوبا. والعضب : القطع.

(٥) صحيح مسلم : ٩٧٣

(٦) في ا : فقال.


لا يلزمها تخليصه من مأثم الدين وعار الاقتضاء ، فدين الله أحق بالقضاء ؛ وهذه الكلمة أقوى [٩٨] ما في الحديث ، فإنه جعله دينا ، ولكن لم يرد به هذا الشخص المخصوص ، فإنما أراد به دين الله إذا وجب فهو أحقّ بالقضاء ، والتطوع به أولى من الابتداء.

والدليل على أنّ الحجّ في هذا الحديث ليس بفرض ما صرّحت به المرأة في قولها : إنّ فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة ، ولا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنّا. يحققه أنّ دين الله أحق أن يقضى ليس على ظاهره بإجماع ؛ فإنّ دين العبد أولى بالقضاء ، وبه يبدأ إجماعا لفقر الآدمي واستغناء الله تعالى ، فيتعيّن الغرض الذي أشرنا إليه ، وهو تأكيد ما ثبت في النفس من البر حياة وموتا وقدرة وعجزا ، والله أعلم.

المسألة العاشرة ـ إذا لم يكن للمكلّف قوت يتزوّده في الطريق لم يلزمه الحجّ إجماعا ، وإن وهب له أجنبى ما لا يحجّ به لم يلزمه قبوله إجماعا ، ولو كان رجل وهب أباه مالا قال الشافعى : يلزمه قبوله ؛ لأنّ ابن الرجل من كسبه ولا منّة عليه في ذلك منه ، لأنّ الولد يجازى الوالد عن نعمه لا يبتدئه بعطية.

قال مالك وأبو حنيفة : لا يلزمه قبوله ؛ لأنّ هبة الولد لو كانت جزاء لقضى بها عليه قبل أن يتطوّع بها ، ثم إن لم تكن فيه منّة ففيه سقوط الحرمة ، وحق الأبوة ؛ لأنه نوع منه ؛ لأنه لا يقال قد جزاه وقد وفاه.

المسألة الحادية عشرة ـ لا يسقط فرض الحج عن الأعمى لإمكان وصوله إلى البيت محمولا ؛ فيحصل له وصف الاستطاعة ، كما يحصل له فرض الجمعة بوجود قائد إليها ، ويلزم السعى لقضائها.

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) :

فيها أربع مسائل :

__________________

(١) الآية الثالثة بعد المائة.


المسألة الأولى ـ الحبل : لفظ لغوى ينطلق على معان كثيرة ؛ أعظمها السبب الواصل بين شيئين.

وهو هاهنا مما اختلف العلماء فيه ؛ فمنهم من قال : هو عهد الله ، وقيل : كتابه ، وقيل : دينه ؛ وقد روى الأئمة في الصحيح أنّ رجلا جاء إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر له حديث (١) رؤيا الظلّة التي تنطف عسلا وسمنا ، وفيه قال : ورأيت شيئا واصلا من السماء إلى الأرض ... الحديث إلى آخره ، وعبّر الصدّيق بحضرته عليه السلام ، فقال : وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحقّ الذي أنت عليه ، فضرب الله تعالى على يدي ملك الرؤيا مثلا للحقّ الذي بعث به الأنبياء بالحبل الواصل بين السماء والأرض ، وهذا لأنهما جميعا ينيران بمشكاة واحدة.

المسألة الثانية ـ إذا ثبت هذا فالأظهر أنه كتاب الله ، فإنه يتضمّن عهده ودينه.

المسألة الثالثة ـ التفرق المنهي عنه يحتمل ثلاثة أوجه :

الأول ـ التفرق في العقائد ، لقوله تعالى (٢) : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

الثاني ـ قوله عليه السلام (٣) : لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ويعضده قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).

الثالث ـ ترك التخطئة في الفروع والتبرّى فيها ، وليمض كلّ أحد على اجتهاده ؛ فإنّ الكلّ بحبل الله معتصم ، وبدليله عامل ؛ وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : لا يصلينّ أحد منكم العصر إلّا في بنى قريظة ؛ فمنهم من حضرت العصر فأخّرها حتى بلغ بنى قريظة أخذا بظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومنهم من قال [٩٩] : لم يرد هذا منّا ، يعنى وإنما أراد الاستعجال فلم يعنف النبىّ عليه السلام أحدا منهم.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٧٧٧

(٢) سورة الشورى ، آية ١٣

(٣) صحيح مسلم : ١٩٨٣


والحكمة في ذلك أنّ الاختلاف والتفرق المنهىّ عنه إنما هو المؤدّى إلى الفتنة والتعصّب وتشتيت الجماعة ؛ فأما الاختلاف في الفروع فهو من محاسن الشريعة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (١) : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد. وروى أنّ له إن أصاب عشرة أجور.

المسألة الرابعة ـ قال بعض علمائنا قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) دليل على أنه لا يصلّى المفترض خلف المتنفّل ؛ لأنّ نيتهم قد تفرقت ، ولو كان هذا متعلقا تفرقا (٢) لما جازت صلاة المتنفّل خلف المفترض ؛ لأنّ النية أيضا قد تفرقت ؛ وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أنّ منزع الآية ما قدمناه لا ما تعلّق به هذا العالم.

الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (أُمَّةً) ، كلمة ذكر لها علماء اللسان خمسة عشر معنى ، وقد رأيت من بلّغها إلى أربعين ، منها أنّ الأمة بمعنى الجماعة ، ومنها أنّ الأمّة الرجل الواحد الداعي إلى الحقّ.

المسألة الثانية ـ في هذه الآية وفي التي بعدها وهي قوله (٤) : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية ، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر نصرة الدين بإقامة الحجّة على المخالفين ، وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال ، أو عرف ذلك منه.

المسألة الثالثة ـ في مطلق قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض يقوم به المسلم ، وإن لم يكن عدلا ، خلافا للمبتدعة الذين يشترطون في الأمر بالمعروف والمنهي عن المنكر العدالة.

وقد بيّنا في كتب الأصول أنّ شروط الطاعات لا تثبت إلا بالأدلّة ، وكلّ أحد عليه

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٤٢

(٢) هكذا في ا. وفي ل : ولو كان هذا متعلقا لما.

(٣) الآية الرابعة بعد المائة.

(٤) الآية العاشرة بعد المائة.


فرض في نفسه أن يطيع ، وعليه فرض في دينه أن ينبّه غيره على ما يجهله من طاعة أو معصية ، وينهاه عما يكون عليه من ذنب. وقد بيناه في الآية الأولى قبلها.

المسألة الرابعة ـ في ترتيب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر :

ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (١) : من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ؛ فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان. وفي هذا الحديث من غريب الفقه أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بدأ في البيان بالأخير في الفعل ، وهو تغيير المنكر باليد ، وإنما يبدأ باللسان والبيان ، فإن لم يكن فباليد.

يعنى أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه عنه وبجذبه منه ، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه ، وذلك إنما هو إلى السلطان ؛ لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة ، وآئلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، إلا أن يقوى المنكر ؛ مثل أن يرى عدوّا يقتل عدوّا فينزعه عنه ولا يستطيع الّا يدفعه ، ويتحقّق أنه لو تركه قتله ، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال ، وليخرج السلاح.

وقد بيناه في موضعه.

ويعنى بقوله : «وذلك أضعف الإيمان» أنه ليس وراءه في التغيير درجة.

المسألة الخامسة ـ في هذه الآية دليل على مسألة اختلف [١٠٠] فيها العلماء ؛ وهي إذا رأى مسلم فحلا يصول على مسلم فإنه يلزمه أن يدفعه عنه ، وإن أدّى إلى قتله ، ولا ضمان على قاتله حينئذ ؛ سواء كان القاتل له هو الذي صال عليه الفحل ، أو معينا له من الخلق ؛ وذلك أنه إذا دفعه عنه فقد قام بفرض يلزم جميع المسلمين ؛ فناب عنهم فيه ؛ ومن جملتهم مالك الفحل ؛ فكيف يكون نائبا عنه في قتل الصائل ويلزمه ضمانه؟

وقال أبو حنيفة : يلزمه الضمان ؛ وقد بيناها في مسائل الخلاف.

المسألة السادسة ـ في هذه الآية دليل على تعظيم هذه الأمة ؛ وكذلك في قوله سبحانه (٢) : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، وإشارة لتقديمها على سائر الأمم.

وفي الأثر ينمى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إنكم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦٩

(٢) آل عمران : ١١٠


الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) :

أورد العلماء فيه خمسة أقوال :

الأول ـ أنهم المنافقون ؛ قاله الحسن.

الثاني ـ أنهم المرتدّون ؛ قاله مجاهد.

الثالث ـ أهل الكتاب ؛ قاله الزجاج.

الرابع ـ أنهم جميع الكفار ؛ أقرّوا بالتوحيد في صلب آدم ثم كفروا بعد ذلك ؛ قاله أبىّ بن كعب.

الخامس ـ رواه ابن القاسم عن مالك أنهم أهل الأهواء. قال مالك : وأى كلام أبين من هذا؟

وهذا الذي قاله ممكن في معنى الآية ، لكن لا يتعيّن واحد منها إلا بدليل.

والصحيح أنه عامّ في الجميع ؛ وعلى هذا فإنّ المبتدعة وأهل الأهواء كفّار ، وقد اختلف العلماء في تكفيرهم.

والصحيح عندي ترتيبهم ، فأما القدرية فلا شكّ في كفرهم ، وأما من عداهم فنستقرئ فيهم الأدلة ، ونحكم بما تقتضيه ، وقد مهّدنا ذلك في كتب الأصول ، ففيهم نظر طويل ؛ وإذا حكمنا بكفرهم فقد قال مالك : لا يصلّى على موتاهم ، ولا تعاد مرضاهم. قال سحنون : أدبا لهم.

قال بعض الناس : وهذه إشارة من سحنون إلى أنه لا يكفرهم ، وليس كما زعم ؛ فإنّ الكافر من أهل الأهواء يجب قتله ؛ فإذا لم تستطع قتله وجب عليك هجرته ، فلا تسلّم عليه ، ولا تعده في مرضه ، ولا تصلّ عليه إذا مات حتى تلجئه إلى اعتقاد الحق ، ويتأدّب بذلك غيره من الخلق ؛ فكأنّ سحنون قال : إذا لم تقدر على قتله فأدّبه.

وقد سئل مالك : هل تزوّج القدرية؟ فقال : قد قال الله تعالى (٢) : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ).

__________________

(١) من الآية السادسة بعد المائة.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٢١


الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

قال ابن وهب : قال مالك : يعنى قائمة بالحق ، يريد قولا وفعلا ؛ فيعود الكلام إلى الآية المتقدمة : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ).

وقد اتّفق المفسّرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب ، وعليه يدلّ ظاهر القرآن ؛ ومفتتح الكلام نفى المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر ، إلّا أنه روى عن ابن مسعود أنّ معناه نفى المساواة بين أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.

وقد روى عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أهل الكتاب.

وقوله : (لَيْسُوا سَواءً) تمام كلام ، ثم ابتدأ الكلام بوصف المؤمنين بالإيمان والقرآن والصلاة ؛ وهذه الخصال هي من شعائر الإسلام ، لا سيما الصلاة وخاصة في الليل وقت الراحة.

وقيل : إنها الصلاة مطلقا. وقيل : إنها صلاة المغرب والعشاء الآخرة.

قال ابن مسعود : خرج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة وقد أخّر الصلاة فمنّا المضطجع [١٠١] ومنا المصلى ؛ فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : إنه لا يصلى أحد من أهل الأرض هذه الصلاة غيركم.

والصحيح أنه في الصلاة مطلقا. وعن أبى موسى عنه عليه السلام : ما من أحد من الناس يصلّى هذه الساعة غيركم. وهذه في العتمة تأكيد للتخصيص وتبيين للتفضيل.

الآية الموفية عشرين ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

قد تقدم بيانها في قوله تعالى (٣) : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) الآية الثالثة عشرة بعد المائة.

(٢) الآية الثامنة عشرة بعد المائة.

(٣) سورة آل عمران ، آية ٢٨ ، صفحة ٢٦٧ من هذا الكتاب.


فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ لا خلاف بين علمائنا أنّ المراد به النهى عن مصاحبة الكفار من أهل الكتاب ، حتى نهى عن التشبّه بهم.

قال أنس : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا (١).

فلم ندر ما قال حتى جاء الحسن فقال : لا تستضيئوا : لا تشاوروهم في شيء من أموركم. ومعنى لا تنقشوا عربيا : لا تنقشوا : محمد رسول الله.

قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ...) الآية.

وقد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النهى عن التشبه بالأعاجم.

المسألة الثانية ـ حسنة ، وهي أنّ شهادة العدوّ على عدوّه لا تجوز ، لقوله تعالى (٢): (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز.

وقال أبو حنيفة : تجوز شهادة العدوّ على عدوه ، والاعتراضات والانفصالات قد مهّدناها في مسائل الخلاف.

الآية الحادية والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قيل نزلت يوم أحد ، وقيل يوم بدر ، والصحيح يوم بدر ، وعليه يدل ظاهر الآية.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : أول أمر الصّوف يوم بدر (٤) قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تسوموا فإن الملائكة قد تسومت (٥) ، وكان على الزبير ذلك اليوم عمامة صفراء ، فنزلت

__________________

(١) في ابن كثير (١ ـ ٣٩٨) : أى بخط عربي لئلا يتشابه نقش خاتم النبي ، فإنه كان نقشه محمد رسول الله ؛ قال : وأما الاستضاءة بنار المشركين فمعناه لا تقاربوهم في المنازل.

(٢) سورة آل عمران ، آية : ١١٨

(٣) الآية الخامسة والعشرون بعد المائة.

(٤) كانت بدر في اليوم الرابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهرا من الهجرة. وبدر : ماء.

(٥) في القرطبي : روى عن ابن عباس : تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها.


الملائكة ذلك اليوم على صفته ؛ نزلوا عليهم عمائم صفر ، وقد طرحوها بين أكتافهم.

وقال ابن عباس : نزلت الملائكة مسوّمين بالصوف ؛ فأمر محمد صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فسوّموا أنفسهم وخيلهم بالصوف.

وقال مجاهد : جاءت الملائكة مجزوزة أذناب خيلهم ونواصيها.

المسألة الثالثة ـ الاشتهار بالعلامة في الحرب سنّة ماضية ، وهي هيئة باهية قصد بها الهيبة على العدوّ ، والإغلاظ على الكفار ، والتحريض للمؤمنين. والأعمال بالنيات. وهذا من باب الجليات لا يفتقر إلى برهان.

المسألة الرابعة ـ هذا يدلّ على لباس الثوب الأصفر وحسنه ، ولو لا ذلك لما نزلت الملائكة به.

وقد قال ابن عباس : من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته. ولم يصح عندي فأنظر فيه ، غير أنّ المفسرين قالوا : إنّ الله قضى حاجة بنى إسرائيل على بقرة صفراء.

المسألة الخامسة ـ أمّا قول مجاهد في جزّ النواصي والأذناب فضعيف لم يصحّ ؛ كيف

وقد قال النبىّ عليه السلام في الخبر الصحيح (١) : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم. وهذا إن صح تعضده المشاهدة فيها. والله أعلم.

الآية الثانية والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ إن المشاورة هي الاجتماع على الأمر ليستشير كلّ واحد منهم صاحبه ويستخرج ما عنده ، من قولهم : شرت الدابة أشورها إذا [١٠٢] رضتها لتستخرج أخلافها (٣).

المسألة الثانية ـ في ما ذا تقع الإشارة؟

قال علماؤنا : المراد به الاستشارة في الحرب ، ولا شكّ في ذلك ؛ لأنّ الأحكام لم يكن لهم فيها رأى بقول ، وإنما هي بوحي مطلق من الله عز وجل ، أو باجتهاد من النبي صلّى الله عليه وسلّم على من يجوز له الاجتهاد.

__________________

(١) في ا : الخير معقود في نواصي الخيل. انظر مسلم : ١٤٩٢

(٢) من الآية التاسعة والخمسين بعد المائة.

(٣) العبارة في القرطبي : شرت الدابة وشورتها : إذا علمت خبرها بجرى أو غيره.


وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في حديث الإفك حين خطب (١) : أشيروا علىّ في أناس أبنوا أهلى ، والله ما علمت على أهلى إلّا خيرا ، يعنى بقوله «أبنوهم»(٢) عيّروهم.

ولم يكن هذا من النبي صلّى الله عليه وسلّم سؤالا لهم عن الواجب ، وإنما أراد أن يستخرج ما عندهم من التعصّب لهم وإسلامهم إلى الحق الواجب عليهم ؛ فقال له رجل من الأنصار ، من الأوس : يا رسول الله ؛ أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فيه بأمرك.

فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحميّة ، فقال لذلك الأوسى : كذبت ، لعمر الله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم الأوسى المتكلم أولا ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلنّه ، فإنك رجل منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر ؛ فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا.

وكانت هذه فائدة لمن بعده ليستنّ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في المشاورة.

وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسارى ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فذكر في الحديث قصة طويلة ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا يفلتنى أحد منهم إلّا بفداء أو ضرب عنق. قال عبد الله بن مسعود : فقلت : يا رسول الله ، إلّا سهيل بن بيضاء فإنى قد سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ قال : فما رأيتنى في يوم أخوف أن يقع علىّ حجارة من السماء منّى في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إلا سهيل بن بيضاء. قال : ونزل القرآن بقول عمر (٣) : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ...) الآية.

قال القاضي : وهذا حديث صحيح ، وهو على النحو الأول أراد أن يختبر ما عندهم في قرابتهم وحال أنفسهم فيما يفعل بهم.

__________________

(١) مسلم : ٢١٣٤ ، وابن كثير : ١ ـ ٤٢٠

(٢) في ابن كثير : أبنوا أهلى ورموهم.

(٣) سورة الأنفال ، آية ٦٧


المسألة الثالثة ـ المراد بقوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) جميع أصحابه ؛ ورأيت بعضهم قال : المراد به أبو بكر وعمر.

ولعمر الله إنهم أهل لذلك وأحقّ به ، ولكن لا يقصر ذلك عليهم ، فقصره عليهم دعوى.

وقد ثبت في السير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه : أشيروا علىّ في المنزل. فقال الحباب بن المنذر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه الله؟ فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخره أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : بل هو الرأى والحرب والمكيدة. قال : فإنّ هذا ليس بمنزل ؛ انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم ... إلى آخره.

الآية الثالثة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

فيها ثماني مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : وفيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ روى أن قوما من المنافقين اتهموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء من المغانم ، وروى أنّ قطيفة حمراء فقدت ، فقال قوم : لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها ، وأكثروا في ذلك ، فأنزل الله سبحانه الآية.

الثاني ـ أنّ قوما (٢) غلّوا من المغنم أو همّوا [١٠٣] ، فأنزل الله الآية فيما همّوا ونهاهم عن ذلك ، رواه الترمذي.

الثالث ـ نهى الله أن يكتم شيئا من الوحى. والصحيح هو القول الثاني.

المسألة الثانية ـ في حقيقة الغلول :

اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّ غلّ ينصرف في اللغة على ثلاثة معان :

الأول ـ خيانة مطلقة. الثاني ـ في الحقد ، يقال في الأول تغل بضم الغين ، وفي الثاني بغل ـ بكسر الغين.

__________________

(١) الآية الواحدة والستون بعد المائة.

(٢) ابن كثير : ١ ـ ٤٢١


الثالث ـ أنه خيانة الغنيمة ؛ وسمى بذلك لوجهين : أحدهما لأنه جرى على خفاء. الثاني قال ابن قتيبة : كان أصله من خان فيه إذا أدخله في متاعه فستره فيه.

ومنه الحديث : لا إغلال (١) ولا إسلال. وفيه تفسيران :

أحدهما ـ أنّ الإغلال خيانة المغنم ، والإسلال : السرقة مطلقة.

الثاني ـ أنّ الإغلال والإسلال السرقة.

والصحيح عندي أن الإغلال خيانة المغنم ، والإسلال سرقة الخطف من حيث لا تشعر ، كما يفعل سودان مكّة اليوم.

المسألة الثالثة ـ في القراءات :

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يغل بضم الغين ، وفتحها الباقون ، وهما صحيحتان قراءة ومعنى.

المسألة الرابعة ـ في معنى الآية :

فأما من قرأها بضم الغين فمعناه : ما كان لنبىّ أن يخون في مغنم ؛ فإنه ليس بمتّهم. ولا في وحى ، فإنه ليس بظنين ولا ضنين ، أى ليس بمتهم عليه ولا بخيل فيه ، فإنه إذا كان أمينا حريصا على المؤمنين فكيف يخون وهو يأخذ ما أحبّ من رأس الغنيمة ويكون له فيه سهم الصفىّ (٢) ؛ إذا كان له أن يصطفى من رأس الغنيمة ما أراد ، ثم يأخذ الخمس وتكون القسمة بعد ذلك؟ فما كان ليفعل ذلك كرامة أخلاق وطهارة أعراق ، فكيف مع مرتبة النبوة وعصمة الرسالة.

ومن قرأ يغل ـ بنصب الغين فله أربعة معان :

الأول ـ يوجد غالّا ، كما تقول : أحمدت فلانا.

الثاني ـ ما كان لنبي أن يخونه أحد ، وقد روى أنّ هذا تلى على ابن عباس ، وفسر بهذا علىّ وابن مسعود. فقال : نعم ويقتل.

وهذا لا يصحّ عندنا ؛ فإن باعه في العلم والتفسير لا يبوعه (٣) أحد من الخلق ، فإنه ليس المعنى بقوله : وما كان لنبىّ أن يغل ـ بفتح الغين ، أن يخونه أحد وجودا ، إنما المراد

__________________

(١) في ا : لا إقلال.

(٢) الصفي من الغنيمة : ما اختاره الرئيس لنفسه قبل القسمة.

(٣) لا يبوعه : يريد لا يجاريه.


به أن يخونه أحد شرعا ، نعم يكون ذلك فيهم فجورا وتعدّيا ، وخص النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذكر تعظيما لقدره ، وإن كان غيره أيضا لا يجوز أن يخون ، ولكن هو أعظم حرمة.

الثالث ـ ما كان لنبىّ أن يتهم فإنه مبرّأ من ذلك ، وهذا يدل على بطلان قول من قال : إنّ شيطانا لبّس على النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحى وجاءه في صورة ملك ، وهذا باطل قطعا.

وقد بيناه في المشكلين ، وخصصناه برسالة سميناها بكتاب تنبيه النبىّ على مقدار النبي ، وسنذكرها في سورة الحج إن شاء الله تعالى.

الرابع ـ ما كان لنبي أن يغل ـ بفتح الغين ، ولا يعلم ، وإنما يتصوّر ذلك في غير النبي صلّى الله عليه وسلّم ؛ أما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا خانه أحد أطلعه الله سبحانه عليه.

وهذا أقوى وجوه هذه الآية فقد ثبت في الصحيح أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان على ثقله رجل يقال له كركرة فمات ، فقال النبىّ عليه السلام : هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوه قد غلّ عباءة.

وقد روى أبو داود وغيره ، وفي الموطأ أنّ رجلا أصيب يوم خيبر فذكروه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : صلّوا على صاحبكم ، فتغيّرت وجوه القوم. فقال صلّى الله عليه وسلّم : والذي نفسي بيده إنّ الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا.

وفي رواية فقال : إن صاحبكم قد غلّ في [١٠٤] سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوى درهمين.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

روى البخاري وغيره عن أبى هريرة قال (١) : قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا فذكر الغلول وعظّمه ، وقال : لا ألفينّ أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، وعلى رقبته فرس لها حمحمة يقول : يا رسول الله ، أغثنى. فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلّغت ... الحديث.

المسألة السادسة ـ إذا غلّ الرجل في المغنم فوجدناه أخذناه منه وأدّبناه خلافا للأوزاعى وأحمد وإسحاق من الفقهاء ، وللحسين من التابعين ، حيث قالوا : يحرق رحله إلا الحيوان والسلاح.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٤٦١ ، وابن كثير : ١ ـ ٤٢١ ، وقال : لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.


قال الأوزاعى : إلا السرج ، والإكاف (١) ؛ لحديث أبى داود عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ؛ قال : إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه. رواه أبو داود عن عبد العزيز بن محمد بن أبى زائدة عن سالم عن أبيه عن عمر. ورواه ابن الجارود والدارقطني نحوه. قال ابن الجارود ، عن الذهلي ، عن على بن بحر القطان ، عن الوليد بن مسلم ، عن زهير ابن محمد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده فذكره. وذكر البخاري حديث كركرة المتقدم عن عبد الله بن عمر قال : ولم يذكر عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أحرق متاعه.

وهذا أصحّ. ويحتمل أن يكون النبىّ إنما لم يحرق رحل كركرة ؛ لأنّ كركرة قد فات بالموت ؛ والتحريق إنما هو زجر وردع ، ولا يردع من مات.

والجواب أنه يردع به من بقي ، ويحتمل أنه كان ثم ترك ، ويعضده أنه لا عقوبة في الأموال ، ولكنه يؤدّب بجنايته لخيانته بالإجماع.

المسألة السابعة ـ قال علماؤنا : تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة ، فلا يحلّ لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر لثلاثة أوجه :

أحدها ـ كان للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم سهم الصّفى.

الثاني ـ أنّ الوالي يجوز له أن يأخذ من المغنم ما شاء ، وهذا ركن عظيم وأمر مشكل ، بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله.

الثالث ـ في الصحيح ، واللفظ لمسلم ، عن عبد الله بن مغفل قال : أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته ، وقلت : والله لا أعطى اليوم أحدا شيئا من هذا ، فالتفّت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبسم. قال علماؤنا : تبسّم النبي صلّى الله عليه وسلّم دليل على أنه رأى حقّا من أخذ الجراب وحقا من الاستبداد به دون الناس ، ولو كان ذلك لا يجوز لم يتبسم منه ولا أقرّه عليه ، لأنه لا يقرّ على الباطل إجماعا كما قرّرناه في الأصول.

المسألة الثامنة ـ إذا ثبت الاشتراك في الغنيمة ، فمن غصب منها شيئا أدّب ، فإن وطئ جارية أو سرق نصابا فاختلف العلماء في إقامة الحدّ عليه ، فرأى جماعة أنه لا قطع عليه ، منهم عبد الملك من أصحابنا ، لأنّ له فيه حقا وكان سهمه كالمشترك المعين.

__________________

(١) الإكاف : البرذعة.


قلنا : الفرق بين المطلق والمعين ظاهر ، والدليل عليه بيت المال ، وقد منع بيت المال ، وقال : لا يقطع من سرق منه ، وقد قال يقطع ، وفرق بينهما ، فقال : إنّ حظّه في المغنم يورث عنه وحظّه في بيت المال لا يورث عنه ، وهي مشكلة بيناها في الإنصاف.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس في المراد بهذه الآية على قولين :

أحدهما ـ أنهم مانعو الزكاة. الثاني : أنهم أهل الكتاب ، بخلوا [١٠٥] بما عندهم من خبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته ؛ يروى عن ابن عباس.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : البخل منع الواجب ، والشحّ منع المستحبّ.

والدليل عليه الكتاب والسنة ؛ أما الكتاب فقوله تعالى (٢) : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). والإيثار مستحبّ ، وسمّى منعه شحّا.

وأما السنّة فثبت برواية الأئمة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (٣) : مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد ؛ فإذا أراد المتصدق أن يتصدّق سبغت ووفرت حتى تجنّ بنانه (٤) وتعفى أثره ، وإذا أراد البخيل أن يتصدّق تقلّصت ولزمت كلّ حلقة مكانها ، فهو يوسع ولا توسع. وهذا من الأمثال البديعة ، بيانه في شرح الحديث.

المسألة الثالثة ـ في المختار الصحيح : أنّ هذه الآية دليل على وجوب الزكاة ؛ لأنّ هذا وعيد لمانعها ، والوعيد المقترن بالفعل المأمور به والمنهي عنه على حسب اقتضاء الوجوب أو التحريم ؛ وهذا الوعيد بالعقاب مفسّر في الحديث الصحيح عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ؛ روى الأئمة عنه أنه قال (٥) : ما من مال لا يؤدّى زكاته إلا جاء يوم القيامة شجاعا أقرع

__________________

(١) الآية الثمانون بعد المائة.

(٢) سورة الحشر ، آية ٩

(٣) صحيح مسلم : ٧٠٨

(٤) في ا : بيانه ، وهو تحريف.

(٥) صحيح مسلم : ٦٨٤ ، وابن كثير : ١ ـ ٤٣٣


له زبيبتان يأخذه بشدقيه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ... إلى آخرها.

وهذا نصّ لا يعدل عنه إلى غيره. أما أنّ القول الثاني يدخل في الآية بطريق الأولى ؛ لأنه إذا منع واجبا مما أخبر به صاحب الشريعة فاستحقّ العقاب فمنعه وقطعه لموجب الشريعة ومبلّغها ، وشارحها أولى بوجوب العقاب وتضعيفه.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ فيها أربعة أقوال :

الأول ـ الذين يذكرون الله في الصلاة المشتملة على قيام وقعود ومضطجعين على جنوبهم.

الثاني ـ أنها في المريض الذي تختلف أحواله بحسب استطاعته ؛ قاله ابن مسعود.

الثالث ـ أنه الذّكر المطلق.

الرابع ـ قاله ابن فورك : المعنى قياما بحقّ الذّكر وقعودا عن الدعوى فيه.

المسألة الثانية ـ في الأحاديث المناسبة لهذا المعنى ، وهي خمسة :

الأول ـ روى الأئمة عن ابن عباس قال : بتّ عند خالتي ميمونة ... وذكر الحديث إلى قوله : فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعل يمسح النوم عن وجهه ، ويقرأ (٢): (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) العشر الآيات.

الثاني ـ روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين أنه كان به باسور ، فسأل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم (٣) فقال : صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب.

الثالث ـ روى الأئمة منهم مسلم أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يذكر الله على كلّ أحيانه

__________________

(١) الآية الواحدة والتسعون بعد المائة.

(٢) الآية التي قبلها ، وهي الآية التسعون بعد المائة.

(٣) ابن كثير : ١ ـ ٤٣٨


الرابع ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة.

الخامس ـ روى أبو داود (١) أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما أسنّ وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلّاه يعتمد عليه.

المسألة الثالثة ـ الصحيح أنّ الآية عامة في كل ذكر ، وقد روى [١٠٦] عن مالك : من قدر صلّى قائما ، فإن لم يقدر صلّى معتمدا على عصا ، فإن لم يقدر صلّى جالسا ، فإن لم يقدر صلّى نائما على جنبه الأيمن ، فإن لم يقدر صلّى على جنبه الأيسر ـ وروى على ظهره.

والصحيح الجنب ، واختلف قول مالك فيه ، وما وافق الحديث فيه أولى ، وهو مبيّن في المسائل.

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في شرح ألفاظها :

الصبر : عبارة عن حبس النفس عن شهواتها ، والمصابرة : إدامة مخالفتها في ذلك ؛ فهي تدعو وهو ينزع. والمرابطة : العقد على الشيء حتى لا يبخل فيعود إلى ما كان صبر عنه.

المسألة الثانية ـ في الأقوال :

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ اصبروا على دينكم ، وصابروا وعدى لكم ، ورابطوا أعداءكم.

الثاني ـ اصبروا على الجهاد ، وصابروا العدوّ ، ورابطوا الخيل.

الثالث ـ مثله إلا قوله : رابطوا ؛ فإنه أراد بذلك رابطوا الصلوات.

المسألة الثالثة ـ في حقيقة ذلك ، وهو أنّ الصبر : حبس النفس عن مكروهها المختصّ بها. والمصابرة : حمل مكروه يكون بها وبغيرها ؛ الأول كالمرض ، والثاني كالجهاد.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥١٤

(٢) الآية المكملة للمائتين ، وللسورة.


والرباط : حمل النفس على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة ، ومن أعظمه ارتباط الخيل في سبيل الله ، وارتباط النفس على الصلوات ، على ما جاء في الحديث الصحيح ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (١) : الخيل ثلاثة : لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات. ولو أنها مرّت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات فهي له أجر. وذكر الحديث.

وقال عليه السلام (٢) : ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ـ ثلاثا.

فبيّن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ أولاه وأفضله في نوعي الطاعة المتعدى بالمنفعة إلى الغير وهو الأفضل ، وإلزام المختصّ بالفاعل وهو دونه ، وبعد ذلك تتفاضل العقائد والأعمال بحسب متعلّقاتها ، وليس ذلك من الأحكام فنفيض فيه.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦٨١

(٢) ابن ماجة : ١٤٨ ، ٢٥٥


سورة النّساء

فيها إحدى وستون آية

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ).

المعنى اتقوا الله أن تعصوه ، واتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

ومن قرأ والأرحام فقد أكّدها حتى قرنها بنفسه.

وقد اتفقت الملة أنّ صلة ذوى الأرحام واجبة وأنّ قطيعتها محرّمة ، وثبت أنّ أسماء بنت أبى بكر قالت : إنّ أمى قدمت علىّ راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال : نعم ، صلى أمّك.

فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الرحم الكافرة ، فانتهى الحال بأبى حنيفة وأصحابه إلى أن يقولوا : إنّ ذوى الأرحام يتوارثون ، ويعتقون على من اشتراهم من ذوى رحمهم ، لحرمة الرحم وتأكيدا للبعضية ، وعضد ذلك [١٠٧] بما رواه أبو هريرة وغيره أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال (٢) : من ملك ذا رحم محرّم فهو حرّ.

قال علماؤنا : وما بينهم من تعصبة وما يجب للرحم عليهم من صلة معلوم عقلا مؤكّد شرعا ، لكن قضاء الميراث قد أحكمته السنّة والشريعة ، وبيّنت أعيان الوارثين ، ولو كان لهم في الميراث حظّ لفصّل لهم ، أما الحكم بالعتق فقد نقضوه ، فإنهم لم يعلقوه بالرحم المطلقة حسبما قضى ظاهر القرآن ، وإنما أناطوه برحم المحرمية ؛ وذلك خروج عن ظاهر القرآن وتعلّق بإشارة الحديث.

وقد تكلمنا على ذلك في مسائل الخلاف بما نكتته أنه عموم خصّصناه في الآباء والأولاد والإخوة على أحد القولين ، بدليل المعنى المقرر هنالك.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً).

__________________

(١) من الآية الأولى من السورة.

(٢) ابن ماجة : ٢٥٢٤ ، ٢٥٢٥

(٣) الآية الثانية.


فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَآتُوا) معناه وأعطوا ، أى مكّنوهم منها ، واجعلوها في أيديهم ، وذلك لوجهين :

أحدهما ـ إجراء الطعام والكسوة ؛ إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحقّ الأخذ الكلّى والاستبداد.

الثاني ـ رفع اليد عنها بالكلية ، وذلك عند الابتلاء والإرشاد.

المسألة الثانية ـ قوله : (الْيَتامى).

وهو عند العرب اسم لكلّ من لا أب له من الآدميين حتى يبلغ الحلم ، فإذا بلغه خرج عن هذا الاسم ، وصار في جملة الرجال.

وحقيقة اليتم الانفراد ؛ فإن رشد عند البلوغ واستقلّ بنفسه في النظر لها ، والمعرفة بمصالحها ، والنظر بوجوه الأخذ والإعطاء منها زال عنه اسم اليتم ومعناه من الحجر ، وإن بلغ الحلم وهو مستمرّ في غرارته وسفهه متماد على جهالته زال عنه اسم اليتم حقيقة ، وبقي عليه حكم الحجر ، وتمادى عليه الاسم مجازا لبقاء الحكم عليه.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ).

كانوا في الجاهلية لعدم الدّين لا يتحرّجون عن أموال اليتامى ، فيأخذون أموال اليتامى ويبدّلونها بأموالهم ، ويقولون : اسم باسم ورأس برأس ، مثل أن يكون لليتيم مائة شاة جياد فيبدلونها بمائة شاة هزلى لهم ، ويقولون : مائة بمائة ؛ فنهاهم الله عنها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) :

قال علماؤنا : معنى تأكلوا تجمعوا وتضمّوا أموالهم إلى أموالكم ، ولأجل ذلك قال بعض الناس : معناه مع أموالكم.

والمعنى الذي يسلم معه اللفظ ما قلنا : نهوا أن يعتقدوا أنّ أموال اليتامى كأموالهم ويتسلّطون عليها بالأكل والانتفاع.

المسألة الخامسة ـ روى أنّ هذه الآية لما نزلت اعتزل كلّ ولىّ يتيمه ، وأزال ملكه عن ملكه حتى آلت الحال أن يصنع لليتيم معاشه فيأكله ، فإن بقي له شيء فسد ولم يقربه


أحد ، فعاد (١) ذلك بالضرر عليهم ، فأرخص الله سبحانه في المخالطة قصدا للإصلاح ، ونزلت هذه (٢) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ).

المسألة السادسة ـ إن كان المعنى بالآية الإنفاق فذلك يكون ما دامت الولاية ، ويكون اسم اليتم حقيقة كما قدمناه. وإن كان الإيتاء هو التمكين وإسلام المال إليه فذلك عند الرشد ، ويكون تسميته يتيما مجازا ؛ المعنى الذي كان يتيما.

وقال أبو حنيفة : إذا بلغ اليتيم خمسا وعشرين سنة أعطى ماله على أى حال كان.

وهذا باطل ؛ فإنّ الآية المطلقة مردودة إلى المقيدة [١٠٨] عندنا.

والمعنى الجامع بينهما أنّ العلة التي لأجلها منع اليتيم من ماله هي خوف التلف عليه بغرارته وسفهه ؛ فما دامت العلّة مستمرة لا يرتفع الحكم ، وإذا زالت العلّة زال الحكم ؛ وهذا هو المعنى بقوله سبحانه (٣) : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ).

وقد بينّا وجوب حمل المطلق على المقيّد ، وتحقيقه في أصول الفقه والمسائل ، وهبكم أنّا لا نحمل المطلق على المقيد فالحكم بخمس وعشرين سنة لا وجه له ، لا سيما وأبو حنيفة يرى المقدّرات لا تثبت قياسا ، وإنما تؤخذ من جهة النص ، وليس في هذه المسألة نصّ ولا قول من جميع وجوهه ، ولا يشهد له المعنى.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٤) : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

فيها اثنتا عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

ثبت في الصحيح أنّ عروة (٥) سأل عائشة عن هذه الآية ، فقالت : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، ويريد أن يتزوّجها ، ولا يقسط

__________________

(١) في ا : عاد ، وهو تحريف.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٢٠

(٣) سورة النساء ، آية ٦

(٤) الآية الثالثة من السورة.

(٥) ابن كثير : ١ ـ ٤٤٩


لها في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهن حتى يقسطوا لهنّ ، ويعطوهن أعلى سنتهن في الصّداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ.

قال عروة : قالت عائشة : وإنّ الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية ، فأنزل الله تبارك وتعالى (١) : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ).

قالت عائشة رضى الله عنها : وقول الله سبحانه في آية أخرى (٢) : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) هي رغبة أحدهم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إن كنّ قليلات المال والجمال ، وهذا نص كتابي البخاري والترمذي ، وفي ذلك من الحشو روايات لا فائدة في ذكرها هاهنا ، يرجع معناها إلى قول عائشة رضى الله عنها.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ).

قال جماعة من المفسرين : معناه أيقنتم وعلمتم ؛ والخوف وإن كان في اللغة بمعنى الظن الذي يترجّح وجوده على عدمه فإنه قد يأتى بمعنى اليقين والعلم.

والصحيح عندي أنه على بابه من الظن لا من اليقين ؛ التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها.

المسألة الثالثة ـ دليل الخطاب ، وإن اختلف العلماء في القول به ؛ فإنّ دليل خطاب هذه الآية ساقط بالإجماع ، فإنّ كلّ من علم أنه يقسط لليتيمة جاز له أن يتزوّج سواها ، كما يجوز ذلك له إذا خاف ألّا يقسط.

المسألة الرابعة ـ تعلّق أبو حنيفة بقوله (فِي الْيَتامى) في تجويز نكاح اليتيمة قبل البلوغ.

وقال مالك والشافعى : لا يجوز ذلك حتى تبلغ وتستأمر ويصحّ إذنها.

وفي بعض رواياتنا إذا افتقرت أو عدمت الصيانة جاز إنكاحها قبل البلوغ.

والمختار لأبى حنيفة أنها إنما تكون يتيمة قبل البلوغ ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة.

قلنا : المراد به يتيمة بالغة ، بدليل قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) ، وهو اسم إنما ينطلق

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٢٧

(٢) هي الآية السابقة نفسها من سورة النساء ، آية : ١٢٧


على الكبار ، وكذلك قال (١) : (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) ، فراعى لفظ النساء ، ويحمل اليتم على الاستصحاب للاسم.

فإن قيل : لو أراد البالغة لما نهى عن حطّها عن صداق مثلها ؛ لأنها تختار [١٠٩] ذلك ، فيجوز إجماعا.

قلنا : إنما هو محمول على وجهين :

أحدهما ـ أن تكون ذات وصىّ. والثاني ـ أن يكون محمولا على استظهار الولىّ عليها بالرجولية والولاية ، فيستضعفها لأجل ذلك ، ويتزوجها بما شاء ، ولا يمكّنها خلافه ؛ فنهوا عن ذلك إلا بالحق الوافر.

وقد وفرنا الكلام في هذه المسألة في التخليص ، وروينا في ذلك حديث الموطأ (٢) : الثيّب أحقّ بنفسها من وليها.

وقد روى عن مالك رضى الله عنه : واليتيمة تستأمر في نفسها ولا إذن لمن لم يبلغ.

وروى الدارقطنىّ وغيره ، وقال : زوّج قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون ، فجاء المغيرة إلى أمّها فرغّبها في المال فرغبت ، فقال قدامة : أنا عمّها ووصىّ أبيها ، زوّجتها ممن أعرف فضله. فترافعوا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، فقال : إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها.

قال أصحاب أبى حنيفة : تحمل هذه الألفاظ على البالغة بدليل قوله : إلّا بإذنها ، وليس للصغيرة إذن.

وقد أطنبنا في الجواب في مسائل الخلاف ، أقواه (٣) أنه لو كان كما قالوا لم يكن لذكر اليتم معنى ؛ لأنّ البالغة لا يزوّجها أحد إلّا بإذنها.

المسألة الخامسة ـ قال علماؤنا :

في هذه الآية دليل على أنّ مهر المثل واجب في النكاح لا يسقط إلّا بإسقاط الزوجة أو من يملك ذلك منها من أب ؛ فأمّا الوصىّ فمن دونه فلا يزوّجها إلا بمهر مثلها وسنّتها.

وسئل مالك رضى الله عنه عن رجل زوّج ابنته غنية من ابن أخ له فقير ؛ فاعترضت أمّها ؛

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٢٧

(٢) ابن ماجة : ٦٠٢

(٣) يريد أقوى جواب.


فقال : إنى لأرى لها في ذلك متكلّما ، فسوّغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو في نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه.

وروى : ما أرى لها في ذلك متكلّما ، بزيادة الألف على النفي ، والأول أصح.

المسألة السادسة ـ قال علماؤنا : إذا بلغت اليتيمة وأقسط الولىّ في الصداق جاز له أن يتزوّجها ويكون هو الناكح والمنكح ؛ وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعىّ : لا يجوز له أن يتولّى طرفي العقد بنفسه ، فيكون ناكحا منكحا حتى يقدم الولىّ من ينكحها.

ومال الشافعى إلى أن تعديد الناكح والمنكح والولىّ تعبّد ، فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين في الحديث حين قال (١) : لا نكاح إلّا بولىّ وشاهدي عدل ... الحديث.

الجواب : إنّا لا نقول : إن للتعبد مدخلا في هذا ، وإنما أعلم الله عزّ وجل الخلق ارتباط العقد بالولىّ ، فأما التعدّد والتعبد فلا مدخل له ، ولا دليل عليه ، ولا نظر له ؛ وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

اختلف الناس فيه ؛ فمنهم من ردّه إلى العقد ، ومنهم من ردّه إلى المعقود عليه ؛ والصحيح رجوعه إلى المعقود عليه. التقدير : انكحوا من حلّ لكم من النساء ، وهذا يدفع قول من قال : إنه يرجع إلى العقد ، ويكون التقدير : انكحوا نكاحا طيبا.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ).

قد توهّم قوم من الجهّال أنّ هذه الآية تبيح للرجل تسع نسوة ، ولم يعلموا أنّ مثنى عند العرب عبارة عن اثنين مرتين ، وثلاث عبارة عن ثلاث مرتين ، ورباع عبارة عن أربع مرتين ، فيخرج من ظاهره على مقتضى اللغة إباحة [١١٠] ثماني عشرة امرأة : لأن مجموع اثنين وثلاثة وأربعة تسعة ، وعضدوا جهالتهم بأنّ النبي عليه السلام كان تحته تسع نسوة ، وقد كان تحت النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من تسع ، وإنما مات عن تسع ، وله في النكاح وفي غيره خصائص ليست لأحد ، بيانها في سورة الأحزاب.

__________________

(١) ابن ماجة : ١٨٨٠


ولو قال ربنا تبارك وتعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين وثلاثا وأربعا لما خرج من ذلك جواز نكاح التسع ؛ لأنّ مقصود الكلام ونظام المعنى فيه : فلكم نكاح أربع ، فإن لم تعدلوا فثلاثة ، فإن لم تعدلوا فاثنتين ؛ فإن لم تعدلوا فواحدة ؛ فنقل العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته ، وهي الواحدة من ابتداء الحلّ ، وهي الأربع ، ولو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام : فانكحوا تسع نسوة ، فإن لم تعدلوا فواحدة ، وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق بالقرآن ، لا سيما وقد ثبت (١) من رواية أبى داود والدارقطني وغيرهما أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال لغيلان الثقفي حين أسلم ، وتحته عشر نسوة : اختر منهنّ أربعا وفارق سائرهنّ.

المسألة التاسعة ـ من البيّن على من رزقه الله تعالى فهما في كتاب الله أنّ العبد لا مدخل له في هذه الآية في نكاح أربع ؛ لأنها خطاب لمن ولى وملك وتولّى وتوصّى ، وليس للعبد شيء من ذلك ، لأنّ هذه صفات الأحرار المالكين الذين يلون الأيتام تحت نظرهم ؛ ينكح إذا رأى ، ويتوقّف إذا أراد. ثم قال الشافعى : لا ينكح إلا اثنتين ، وبه قال مالك في إحدى روايتيه ، وفي مشهور قوليه إنه يتزوّج أربعا من دليل آخر ، وذلك مبيّن في مسائل الخلاف. المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا).

قال علماؤنا : معناه في القسم بين الزوجات والتسوية في حقوق النكاح ، وهو فرض ، وقد كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يعتمده ويقدر عليه ويقول : إذا فعل الظاهر من ذلك في الأفعال ووجد قلبه الكريم السليم يميل إلى عائشة : اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعنى قلبه ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يكلّف أحدا صرف قلبه عن ذلك ، لما فيه من المشقة ، وربما فات القدرة ؛ وأخذ الخلق باعتداد الظاهر لتيسّره على العاقل ، فإذا قدر الرجل من ماله ومن بنيته على نكاح أربع فليفعل ، وإذا لم يحتمل ماله ولا بنيته في الباءة ذلك فليقتصر على ما يقدر عليه ، ومعلوم أنّ كلّ من كانت عنده واحدة أنه إن نالها فحسن وإن قعد عنها هان ذلك عليها ، بخلاف أن تكون عنده أخرى فإنه إذا أمسك عنها اعتقدت أنه يتوفّر للأخرى ، فيقع النزاع وتذهب الألفة.

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٤٥٠


المسألة الحادية عشرة ـ قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

قال علماؤنا : هذا دليل على أنّ ملك اليمين لا حقّ للوطء فيه ولا للقسم ؛ لأنّ المعنى فإن خفتم إلّا تعدلوا في القسم فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، فجعل ملك اليمين كله بمنزلة الواحدة ؛ فانتفى بذلك أن يكون لملكه حقّ في الوطء أو في القسم ، وحقّ ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكية والرفق بالرقيق.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

اختلف الناس في تأويله على ثلاثة أقوال :

الأول ـ ألّا يكثر عيالكم ؛ قاله الشافعى.

الثاني ـ ألّا تضلّوا ؛ قاله مجاهد.

الثالث ـ ألّا تميلوا ؛ قاله ابن عباس والناس.

وقد تكلمنا عليه في رسالة [١١١] ملجئة المتفقهين بشيء لم نر أن نختصره هاهنا :

قلنا : أعجب أصحاب الشافعى بكلامه هذا ، وقالوا : هو حجّة لمنزلة الشافعى في اللغة ، وشهرته في العربية ، والاعتراف له بالفصاحة حتى لقد قال الجويني : هو أفصح من نطق بالضاد ، مع غوصه على المعاني ، ومعرفته بالأصول ؛ واعتقدوا أنّ معنى الآية : فانكحوا واحدة إن خفتم أن يكثر عيالكم ، فذلك أقرب إلى أن تنتفى عنكم كثرة العيال.

قال الشافعى : وهذا يدلّ على أنّ نفقة المرأة على الزوج. وقال أصحابه : لو كان المراد بالعول هاهنا الميل لم تكن فيه فائدة ؛ لأنّ الميل لا يختلف بكثرة عدد النساء وقلتهنّ ، وإنما يختلف بالقيام بحقوق النساء ؛ فإنهنّ إذا كثرن تكاثرت الحقوق.

قال ابن العربي : كلّ ما قال الشافعى أو قيل عنه أو وصف به فهو كلّه جزء من مالك ، ونغبة (١) من بحره ؛ ومالك أوعى سمعا ، وأثقب فهما ، وأفصح لسانا ، وأبرع بيانا ، وأبدع وصفا ، ويدلّك على ذلك مقابلة قول بقول في كل مسألة وفصل.

والذي يكشف لك ذلك في هذه المسألة البحث عن معاني قولك «عال» لغة حتى إذا عرفته ركبت عليه معنى الآية ، وحكمت بما يصحّ به لفظا ومعنى.

__________________

(١) نغبة : جرعة ، وهي بفتح النون وضمها.


وقد قال علماؤنا فيه سبعة معان : الأول الميل ؛ قال يعقوب : عال الرجل إذا مال ، قال الله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

وفي العين : العول : الميل في الحكم إلى الجور ، وعال السهم عن الهدف : مال عنه ، وقال ابن عمر : إنه لعائل الكيل والوزن ، وينشد لأبى طالب (١) :

بميزان قسط لا يغلّ (٢) شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل

الثاني ـ عال : زاد. الثالث ـ عال : جار في الحكم. قالت الخنساء (٣) :

ويكفى العشيرة ما عالها

الرابع ـ عال : افتقر. قال الله تعالى (٤) : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

الخامس ـ عال : أثقل ؛ قاله ابن دريد ، وربما كان ذلك معنى بيت الخنساء ، وكان به أقعد.

السادس ـ قام بمئونة العائل ، ومنه قوله عليه السلام : ابدأ بمن تعول.

السابع ـ عال : غلب ، ومنه عيل صبره ، أى غلب.

هذه معانيه السبعة ليس لها ثامن ، ويقال : أعال الرجل كثر عياله ، وبناء عال يتعدى ويلزم ، ويدخل بعضه على بعض ، وقد بينّا تفصيل ذلك في ملجئة المتفقهين ، كما قدّمنا في مسألة مثنى وثلاث ورباع مفصّلا بجميع وجوهه.

فإذا ثبت هذا فقد شهد لك اللفظ والمعنى بما قاله مالك ؛ أما اللفظ فلأنّ قوله تعالى: (تَعُولُوا) فعل ثلاثي يستعمل في الميل الذي ترجع إليه معاني «ع ول» كلها ، والفعل في كثرة العيال رباعي لا مدخل له في الآية ، فقد ذهبت الفصاحة ولم تنفع الضاد المنطوق بها على الاختصاص.

وأما المعنى فلأنّ الله تعالى قال : ذلك أدنى ، أقرب إلى أن ينتفى العول ـ يعنى الميل ، فإنه إذا كانت واحدة عدم الميل ، وإذا كانت ثلاثا فالميل أقل ، وهكذا في اثنتين ؛ فأرشد الله الخلق إذا خافوا عدم القسط والعدل بالوقوع في الميل مع اليتامى أن يأخذوا من الأجانب أربعا إلى واحدة ؛ فذلك أقرب إلى أن يقلّ الميل في اليتامى وفي الأعداد المأذون فيها ،

__________________

(١) اللسان ـ مادة عيل.

(٢) في ا : لا يعيل ، والمثبت من اللسان.

(٣) الديوان : ٧٦ ، والرواية فيه :

وليس بأولى ولكنه

سيكفى العشيرة ما غالها

(٤) سورة التوبة ، آية : ٢٨


أو ينتفى ؛ وذلك هو المراد ، فأما كثرة العيال فلا يصح أن يقال : ذلك أقرب إلى ألّا يكثر عيالكم.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (١) : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ من المخاطب بالإيتاء؟

وقد اختلف الناس [١١٢] في ذلك على قولين :

أحدهما ـ أنّ المراد بذلك الأزواج. الثاني ـ أنّ المراد به الأولياء ؛ قاله أبو صالح.

واتفق الناس على الأول ؛ وهو الصحيح ؛ لأنّ الضمائر واحدة ؛ إذ هي معطوفة بعضها على بعض في نسق واحد ، وهي فيما تقدّم بجملته الأزواج ؛ فهم المراد هاهنا ؛ لأنه تعالى قال (٢) : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) ...

فوجب تناسق الضمائر ، وأن يكون الأول هو الآخر فيها أو منها.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (نِحْلَةً).

وهي في اللغة عبارة عن العطيّة الخالية عن العوض ، واختلف في المراد بها هاهنا على ثلاثة أقوال :

الأول ـ معناه : طيبوا نفسا بالصداق ، كما تطيبون بسائر النّحل والهبات.

الثاني ـ معناه نحلة من الله تعالى للنساء ؛ فإن الأولياء كانوا يأخذونها في الجاهلية ، فانتزعها الله سبحانه منهم ونحلها النساء.

الثالث ـ أنّ معناه عطية من الله ؛ فإنّ الناس كانوا يتناكحون في الجاهلية بالشّغار (٣) ويخلون النكاح من الصداق ؛ ففرضه الله تعالى للنساء ونحله إياهنّ.

المسألة الثالثة ـ قال أصحاب الشافعى : النكاح عقد معاوضة انعقد بين الزوجين ، فكلّ

__________________

(١) الآية الرابعة من السورة.

(٢) الآية السابقة : ٣

(٣) الشغار : نكاح كان في الجاهلية ، وهو أن يقول الرجل لآخر : زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختى ، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى. وفي الحديث : لا شغار في الإسلام.


واحد منهما بدل عن صاحبه ، ومنفعة كلّ واحد منهما لصاحبه عوض عن منفعة الآخر ، والصّداق زيادة فرضه الله تعالى على الزواج لما جعل له في النكاح من الدرجة ، ولأجل خروجه عن رسم العوضية جاز إخلاء النكاح عنه ، والسكوت عن ذكره ، ثم يفرض بعد ذلك بالقول ، أو يجب بالوطء.

وكذلك أيضا قالوا : لو فسد الصداق لما تعدّى فساده إلى النكاح ، ولا يفسخ النكاح بفسخه لمّا كان معنى زائدا على عقده وصلة في حقه ، فإن طابت المرأة نفسا بعد وجوبه بهبته للزوج وحطّه فهو حلال له ، وإن أبت فهي على حقها فيه ، كانت بكرا أو ثيّبا حسبما اقتضاه عموم القرآن في ذلك.

وقال علماؤنا : إنّ الله سبحانه جعل الصّداق عوضا ، وأجراه مجرى سائر أعواض المعاملات المتقابلات ، بدليل قوله تعالى : (١) (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ؛ فسماه أجرا ، فوجب أن يخرج به عن حكم النّحل إلى حكم المعاوضات.

وأما تعلّقهم بأنّ كلّ واحد من الزوجين يتمتّع بصاحبه ويقابله في عقد النكاح ، وأنّ الصداق زيادة فيه فليس كذلك ؛ بل وجب الصداق على الزوج ليملك به السلطنة على المرأة ، وينزل معها منزلة المالك مع المملوك فيما بذل من العوض فيه ، فتكون منفعتها بذلك له فلا تصوم إلّا بإذنه ، ولا تحجّ إلا بإذنه ، ولا تفارق منزلها إلّا بإذنه ، ويتعلق حكمه بمالها كلّه حتى لا يكون لها منه إلّا ثلثه ، فما ظنّك ببدنها.

وقد روى عن مالك أنه قال : يفسد النكاح لفساده ، فيفسخ قبل وبعد.

والمشهور أنه يفسخ قبل الدخول ، ويثبت بعده ، لما فات من الانتفاع ومضى من الاستمتاع.

وروى أنه لا يفسخ لا قبله ولا بعده ، على ما تقرّر في المسائل الخلافية.

وأما طيب نفس المرأة به إن كانت مالكة فصحيح داخل تحت العموم.

وأما البكر فلم تدخل تحت العموم ؛ لأنها لا تملك مالها ، كما لم تدخل فيه الصغيرة عندهم والمجنونة والأمة. وإن كنّ من الأزواج ، [١١٣] ولكن راعى قيام الرّشد ، ودليل التملك للمال

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٢٤


دون ظاهر العموم في الزوجات ، كذلك فعلنا نحن في البكر ؛ وقد بينّا أدلّة قصورها عن النظر لنفسها في المسائل الخلافية ، وهذه مسألة عظيمة الموقع ، وفي الذي أشرنا إليه من النكت كفاية للبيب المنصف.

المسألة الرابعة ـ اتفق العلماء على أنّ المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها ولا رجوع لها فيه ، إلا أنّ شريحا رأى الرجوع لها فيه ، واحتج بقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) ؛ وإذا قامت طالبة له لم تطب به نفسا ، وهذا باطل ؛ لأنها قد طابت وقد أكل ، فلا كلام لها ؛ إذ ليس المراد صورة الأكل ، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال ؛ وهذا بيّن.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (١) : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في السّفه ، وقد تقدم بيانه في آية الدّين في سورة البقرة (٢) ، والمراد به ها هنا الصغيرة والمرأة التي لم تجرّب.

وقد قال بعض الناس : إنّ السفه صفة ذمّ ، والصغيرة والمرأة لا تستحقان ذمّا.

وهذا ضعيف ؛ فإنّ النبىّ عليه السلام قد وصف المرأة بنقصان الدين والعقل ، وكذلك الصغير موصوف بالغرارة والنّقص ، وإن كانا لم يفعلا ذلك بأنفسهما ، لكنهما لا يلامان على ذلك ، فنهى الله سبحانه عن إيتاء المال إليهم ، وتمكينهم منه ، وجعله في أيديهم ؛ ويجوز هبة ذلك لهم ، فيكون للسفهاء ملكا ولكن لا يكون لهم عليه يد.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (أَمْوالَكُمُ).

اختلف في هذه الإضافة على قولين :

أحدهما ـ أنها حقيقة ، والمراد نهى الرجل أو المكلّف أن يؤتى ماله سفهاء أولاده ؛ فيضيّعونه ويرجعون عيالا عليه.

والثاني ـ أنّ المراد به نهى الأولياء عن إيتاء السفهاء من أموالهم وإضافتها إلى الأولياء؛

__________________

(١) الآية الخامسة من السورة.

(٢) صفحة ٢٦٤ من هذا الكتاب.


لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق ، تنتقل من يد إلى يد ، وتخرج عن ملك إلى ملك ، وهذا كقوله تعالى (١) : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : معناه لا يقتل بعضكم بعضا ؛ فيقتل القاتل فيكون قد قتل نفسه ، وكذلك إذا أعطى المال سفيها فأفسده رجع النقصان إلى الكل.

والصحيح أنّ المراد به الجميع ، لقوله تعالى : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) ، وهذا عامّ في كل حال.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ).

لا يخلو أن يكون المراد بذلك ولىّ اليتيم ؛ فهو مخاطب بالتقدير المتقدّم من اشتراك الخلق في الأموال ، وإن كان المخاطب به الآباء ، فهذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

المعنى ـ لا تجمعوا بين الحرمان وجفاء القول لهم ، ولكن حسّنوا لهم الكلام ؛ مثل أن يقول الرجل لوليه : أنا أنظر إليك ، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك. ويقول الأب لابنه : مالي إليك مصيره ، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكتم رشدكم وعرفتم تصرّفكم.

الآية السادسة ـ قوله تعالى (٢) : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

فيها خمس عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ الابتلاء هنا الاختبار ، لتحصل معرفة ما غاب من علم العاقبة أو الباطن عن الطالب لذلك.

المسألة الثانية ـ قوله [١١٤] تعالى : (الْيَتامى) قد تقدم (٣) بيانه.

المسألة الثالثة ـ في وجه تخصيص اليتامى :

وهو أنّ الضعيف العاجز عن النظر لنفسه ومصلحته لا يخلو أن يكون له أب يحوطه،

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٩

(٢) الآية السادسة.

(٣) صفحة ١٥٤ من هذا الجزء.


أو لا أب له ؛ فإن كان له أب فما عنده من غلبة الحنوّ وعظيم الشفقة يغنى عن الوصية به والاهتبال (١) بأمره.

فأما الذي لا أب له فخصّ بالتنبيه على أمره لذلك والوصية به ، وإلّا فكذلك يفعل الأب بولده الصغار أو الضعفاء فإنه يبتليهم ويختبر أحوالهم.

المسألة الرابعة ـ في كيفية الابتلاء ، وهو بوجهين :

أحدهما ـ يتأمّل أخلاق يتيمه ، ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل له العلم بنجابته ، والمعرفة بالسعي في مصالحه ، وضبط ماله ، أو الإهمال لذلك ؛ فإذا توسّم الخير قال علماؤنا : لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله ، وهو الثاني ، ويكون يسيرا ، ويبيح له التصرف فيه ؛ فإن نمّاه وأحسن (٢) النظر فيه فقد وقع الاختيار ، فليسلّم إليه ماله جميعه ، وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ).

يعنى القدرة على الوطء ، وذلك في الذكور بالاحتلام ، فإن عدم فالسنّ ، وذلك خمس عشرة سنة في رواية ، وثماني عشرة في أخرى.

وقد ثبت في الصحيح (٣) أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ردّ ابن عمر في أحد ابن أربع عشرة سنة ، وجوّزه في الخندق ابن خمس عشرة سنة ، وقضى بذلك عمر بن عبد العزيز ، واختاره الشافعى وغيره.

قال علماؤنا : إنما كان ذلك نظرا إلى إطاقة القتال لا إلى الاحتلام ، فإن لم يكن هذا دليلا فكلّ عدد من السنين يذكر فإنه دعوى ، والسنّ التي اعتبرها النبىّ عليه السلام أولى من سنّ لم يعتبرها ، ولا قام في الشرع دليل عليها.

وكذلك اعتبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الإنبات في بنى قريظة ؛ فمن عذيري ممّن يترك أمرين اعتبرهما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفظا ، ولا جعل له في الشريعة نظرا.

__________________

(١) الاهتبال : الاحتيال.

(٢) في ا : وحسن.

(٣) صحيح مسلم : ١٤٩٠


وأما الإناث فلا بدّ في شرط اختيارهنّ من وجود نفس الوطء عند علمائنا ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : وجه اختيار الرشد في الذكور والإناث واحد ، وهو البلوغ إلى القدرة على النكاح ؛ والحكمة في الفرق بينهما حسبما رآه مالك قد قررناها في مسائل الخلاف ؛ نكتته أنّ الذّكر بتصرّفه وملاقاته للناس من أول نشأته إلى بلوغه يحصل به الاختبار ، ويكمل عقله بالبلوغ فيحصل له الغرض.

وأما المرأة فبكونها محجوبة لا تعانى الأمور ، ولا تخالط ، ولا تبرز لأجل حياء البكارة وقف فيها على وجود النكاح ، فيه تفهم المقاصد كلها.

قال مالك : إذا احتلم الغلام ذهب حيث شاء إلا أن يخاف عليه فيقصر حتى يؤمن أمره ، ولأبيه تجديد الحجر عليه إن رأى خللا منه.

وأما الأنثى فلا بدّ ـ بعد دخول زوجها ـ من مضىّ مدة من الزمان عليها تمارس فيها الأحوال ، وليس في تحديد المدة دليل.

وذكر علماؤنا في تحديده أقوالا عديدة ؛ منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات (١) الأب ، وجعلوه في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصىّ عليها عاما واحدا بعد الدخول ، وجعلوه في المولى عليها مؤبّدا حتى يثبت رشدها.

وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير ، وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة ، وأما تمادى الحجر في المولى عليها حتى يتبيّن [١١٥] رشدها فيخرجها الوصىّ منه أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن ، وأما سكوت الأب عن ابنته فدليل على إمضائه لفعلها ، فتخرج دون حكم بمرور مدة من الزمان يحصل فيه الاختبار ؛ وتقديره موكول إلى اجتهاد الولىّ ، وفي ذلك تفصيل طويل ، واختلاف كثير موضعه كتب المسائل.

والمقصود منه أنّ ذلك كلّه دخل تحت قوله سبحانه : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) ، فتعيّن

__________________

(١) أى في التي لها أب.


اعتبار إيناس الرشد ؛ ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد فاعرفه ، وركبه عليه ، واجتنب التحكّم الذي لا دليل عليه.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (فَادْفَعُوا).

دفع المال إلى اليتيم يكون بوجهين :

أحدهما ـ إيناس الرشد. والثاني بلوغ الحلم ؛ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليه ، كذلك نص الآية ؛ وهي رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية أنه إذا احتلم الغلام أو حاضت الجارية ولم يؤنس منه الرشد فإنه لا يدفع إليه ماله ، ولا يجوز له فيه بيع ولا شراء ولا هبة ولا عتق حتى يؤنس منه الرشد ، ولو فعل شيئا من ذلك قبل أن يدفع إليه ماله ثم دفع إليه ماله لم ينفذ عليه شيء منه.

المسألة السابعة ـ حقيقة الرشد : فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ صلاح الدين والدنيا ، والطاعة لله ، وضبط المال ؛ وبه قال الحسن والشافعى.

الثاني ـ إصلاح الدنيا والمعرفة بوجوه أخذ المال والإعطاء والحفظ له عن التبذير ؛ قاله مالك.

الثالث ـ بلوغ خمس وعشرين سنة ؛ قاله أبو حنيفة.

وعوّل الشافعى على أنه لا يوثق على دينه فكيف يؤتمن على ماله ، كما أنّ الفاسق لما لم يوثق على صدق مقالته لم تجز شهادته.

قلنا له : العيان يردّ هذا ، فإنا نشاهد المتهتّك في المعاصي حافظا لماله ، فإنّ غرض الحفظين مختلف ؛ أمّا غرض الدّين فخوف الله سبحانه ، وأما غرض الدنيا فخوف فوات الحوائج والمقاصد وحرمان اللذات التي تنال به ؛ ويخالف هذا الفاسق ، فإنّ قبول الشهادة مرتبة والفاسق محطوط المنزلة شرعا.

وعوّل أبو حنيفة على أن من بلغ خمسا وعشرين سنة صلح أن يكون جدّا فيقبح أن يحجر عليه في ماله.

قلنا : هذا ضعيف لأنه إذا كان جدّا ولم يكن ذا جدّ (١) فما ذا ينفعه جد النسب وجدّ

__________________

(١) الجد هنا : الحظ والبخت.


البخت فائت؟ وقد قال ابن عباس : إنّ الرجل ليبلغ خمسا وعشرين سنة لتنبت لحيته ليشيب وهو ضعيف الأخذ لنفسه ضعيف الإعطاء (١).

وقد قال الشافعى : رأيت جدّة لها إحدى وعشرون سنة ، ولعل ذلك في النساء أقرب منه في الرجال.

المسألة الثامنة ـ إذا سلّم المال إليه بوجه الرشد ، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد عليه الحجر.

وقال أبو حنيفة : لا يعود ؛ لأنه بالغ عاقل بدليل جواز إقراره في الحدّ والقصاص.

ودليلنا قوله تعالى (٢) : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً).

وقال (٣) : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) ، ولم يفرّق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق.

ويعضد هذا ما روى أن عبد الله بن جعفر اشترى ضيعة (٤) بستين ألفا ، فقال عثمان: ما يسرني أنها لي بنعلي ، وقال لعلىّ : ألا تأخذ على ابن أخيك وتحجر عليه فعل كذا. فجاء علىّ إلى عثمان ليحجر عليه ، فقال الزبير : أنا شريكه ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ، رواه الدارقطنىّ.

فهذان خليفتان قد نظرا في هذا وعزما على فعله لو لا ظهور السداد بعد ذلك فيه.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا).

إسرافا : يعنى مجاوزة من أموالكم التي تنبغي لكم إلى ما لا يحلّ لكم من أموالهم. والإسراف : مجاوزة الحد المباح إلى المحظور.

وبدارا : يعنى مبادرة أن يكبروا ، واستباقا لمعرفتهم لمصالحهم ، واستئثارا عليهم بأموالهم.

المسألة العاشرة ـ قال علماؤنا : لما لم يكن لهم عمل في أموالهم وقبضت عنها أيديهم لم يكن لهم فيها قول ، ولا نفذ لهم فيها عقد ولا عهد ، فلا يجوز فيها بيعهم ولا نذرهم ؛

__________________

(١) في صحيح مسلم : سئل عن مسائل منها : ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ فأجاب بقوله لهم : إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها ، وإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس ذهب عنه اليتم.

(٢) سورة النساء ، آية ٤

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٨٢

(٤) من هنا إلى صفحة ٣٣٧ : وهذا كله ليتبين ... ساقط في م.


لأنّ العلّة التي لأجلها قبضت أيديهم عنها الصيانة لها عن تبذيرهم والحفظ لها إلى وقت معرفتهم وتبصّرهم ؛ فلو جاز لهم فيها بيع أو هبة أو عهد لبطلت فائدة المنع لهم عنها ، وسقط مقصود حفظها عليهم.

فأما ما كان في أيديهم من زوجة أو أم ولد تمكّنوا منهما فكلامهم نافذ فيهما ، وينفذ طلاق الزوجة وعتق أم الولد عليهم ؛ لأنهم تمكّنوا من ذلك فعلا فينفذ القول فيهما شرعا ، وهذه نكتة بديعة في الحجة لإنفاذ الطلاق والعتق.

المسألة الحادية عشرة ـ إذا كان الاختبار إلى بلوغ النكاح في الحرة ، وقلنا : إنه في ذات الأب ستة أو سبعة ، وفي اليتيمة ستة فما عملنا في أثناء الستة أو السبعة محمول على الردّ وما كان من العمل بعده محمول على الجواز.

وقال بعض علمائنا : ما عملت في الستة والسبعة محمول على الردّ ، إلّا أن يتبين فيه السداد ، وما عملت بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه.

ولقد وقعت هذه المسألة في زماننا في محجورة أرادت نحلة ابنتها بمال لا تنكح إلّا به ، فقال بعضهم : لا يجوز فعل المحجور ، وقلنا نحن : يجوز ؛ لأنّ إيناس الرشد إنما يكون بمثل هذا ؛ ومن نظر لولده واهتبل به فهو في غاية السداد والرشد له ولنفسه ، فوفق الله متولّى الحكم يومئذ وأمضى النّحلة على ما أفتيناه.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ).

اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه لا يأكل من مال اليتيم شيئا بحال ، وهذه الرخصة في قوله سبحانه : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) منسوخة بقوله تعالى (١) : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً). واختاره زيد بن أسلم ، واحتجّ به.

الثاني ـ أنّ المراد به اليتيم ، وإذا كان فقيرا أنفق عليه وإليه بقدر فقره من مال اليتيم ، وإن كان غنيا أنفق عليه بقدر غناه ، ولم يكن للولىّ فيه شيء.

الثالث ـ أنّ المراد به الولىّ إن كان غنيا عفّ ، وإن كان فقيرا أكل بالمعروف.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٩


الرابع ـ أنّ المعروف شربه اللبن وركوبه الظهر غير مضرّ بنسل ولا ناهك في جلب.

قال ابن العربي : أما من قال : إنه منسوخ فهو بعيد ، لا أرضاه ؛ لأن الله تعالى يقول : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ، وهو الجائز الحسن ؛ وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) فكيف ينسخ الظلم المعروف؟ بل هو تأكيد له في التجويز ؛ لأنه خارج عنه مغاير له ؛ وإذا كان المباح غير المحظور لم يصحّ دعوى نسخ فيه. وهذا أبين من الإطناب.

وأما من قال : إن المراد به اليتيم فلا يصحّ لوجهين :

أحدهما ـ أنّ الخطاب لا يصلح أن يكون له ؛ لأنه غير مكلف ولا مأمور بشيء من ذلك.

الثاني ـ أنه إن كان غنيا أو فقيرا إنما يأكل بالمعروف ؛ فسقط هذا.

وأما من قال : إنّ الولي إن كان غنيا عفّ وإن كان فقيرا أكل فهو قول عمر ؛ روى عنه أنه قال : إنما أنا في بيت المال كولىّ اليتيم إن استغنيت تركت ، وإن احتجت أكلت ؛ وبه أقول.

وأما استثناء اللبن ، ومثله التمر ، فهو على قول مالك ؛ لقول ابن عباس : اشرب غير مضرّ بنسل ولا ناهك للحلب ؛ ولأنّ شرب اللبن من الضرع ؛ وأكل التمر من الجذوع أمر متعارف بين الخلق متسامح فيه.

فإن أكل هل يقضى؟ اختلف الناس فيه ؛ فروى عن عمر أنه قال : إن أكلت قضيت. واختلف في ذلك قول عكرمة ؛ وهو قول عبيدة السلماني وأبى العالية ، وهو أحد قولي ابن عباس.

فأمّا من نفى القضاء فاحتجّ بأنّ الأكل له ، كما أنّ النظر عليه ؛ فجرى مجرى الأجرة.

وأما من يرى القضاء فاحتجّ بقوله سبحانه : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) فمنع منه ، فإن فعل قضى. ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، أى بقدر الحاجة ، ويقضى كما يقضى المضطر إلى المال في المخمصة.

قال عبيدة السلماني ـ في قول الله سبحانه : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) : ذلك دليل على وجوب القضاء على من أكل.


المعنى : فإذا رددتم ما أكلتم (١) فأشهدوا إذا غرمتم ، وسيأتى الكلام على هذا إن شاء الله.

والصحيح أنه لا يقضى ؛ لأنّ النظر له ؛ فيتعيّن به الأكل بالمعروف ، والمعروف هو حقّ النظر ؛ وقد قال أبو حنيفة : يقارض في مال اليتيم ويأكل حظّه من الربح ، فكذلك يأخذ من صميم المال بمقدار النّظر ؛ هذا إذا كان فقيرا ؛ أما إذا كان غنيا فلا يأخذ شيئا ؛ لأنّ الله سبحانه أمره بالعفّة والكفّ عنه.

فإن قيل : فقول عمر : «أنا كوليّ اليتيم إن استغنيت تركت» أليس يجوز للغنىّ الأكل من بيت المال؟ كذلك يجوز للوصىّ إن كان غنيا الأكل من مال اليتيم؟ قلنا عنه جوابان :

أحدهما ـ أنّ قول عمر : «أنا كولىّ اليتيم إن استغنيت ...» دليل على أنّ الخليفة ليس كالوصىّ ، ولكنّ عمر بورعه جعل نفسه كالوصىّ.

الثاني ـ أنّ الذي يأكله الخلفاء والولاة والفقهاء ليس بأجرة ، وإنما هو حقّ جعله الله لهم لنازلهم ومنتابهم ؛ وإلا فالذي يفعلونه فرض عليهم ؛ فكيف تجب الأجرة لهم ؛ وهو فرض عليهم ، والفرضية تنفى الأجرة ، لا سيما إذا كان عملا غير معيّن. كعمل الخلفاء والقضاة والمفتين والسعاة والمعلّمين ، والله أعلم.

المسألة الثالثة عشرة ـ من هو المخاطب بهذا كله؟

قال علماؤنا : كان الأيتام في ذلك الزمان على قسمين : يتيم معهود به ، كقول سعد: هو ابن أخى عهد إلىّ فيه.

الثاني ـ (٢) مكفول بقرابة أو جوار.

وعند المالكية أنّ الكافل له ناظر كما لو وصى إليه الأب ، إلا أنّ الكافل ناظر في حفظ الموجود ، والمعهود إليه قائم مقام الأب في التصرف المطلق ؛ فإن كان اليتيم عريّا عن كافل ووصىّ فالمخاطب ولىّ الأولياء ، وهو السلطان ؛ فهو ولىّ من لا ولىّ له ، وهو ولىّ على الأولياء ، فصار تقدير الآية : يا من إليه يتيم بكفالة أو عهد أو ولاية عامة ، افعل كذا.

المسألة الرابعة عشرة ـ قال علماؤنا : في قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) دليل على أنّ للوصىّ والكافل أن يحفظ الصبىّ في بدنه وماله ؛ إذ لا يصحّ الابتلاء إلا بذلك ، فالمال يحفظه بضبطه والبدن يحفظه بأدبه.

__________________

(١) في ا : فإذا اقترضتم فأكلتم.

(٢) عد قوله : يتيم معهود به ـ أول القسمين.


وروى أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ في حجري يتيما أآكل من ماله؟

قال : نعم ، غير متأثّل (١) مالا ولا واق مالك بماله. قال : يا رسول الله ، أفأضربه؟ قال : ما كنت ضاربا منه ولدك.

وهذا وإن لم يثبت مسندا فليس يجد عنه أحد ملتحدا ؛ لأنّ المقصود الإصلاح ، وإصلاح البدن أوكد من إصلاح المال ؛ والدليل عليه أنه يعلّمه الصلاة ، ويضربه عليها ، ويكفّه عن الحرام بالكهر (٢) والقهر.

المسألة الخامسة عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ).

قال علماؤنا : أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وإرشادا إلى نكتة بديعة ؛ وهي أنّ كلّ مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه ؛ لقوله تعالى : (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) ، وهو عنده أمانة ، فلو ضاع قبل قوله ، فإذا قال دفعت لم يقبل إلا بالإشهاد ؛ لأنّ الضياع لا يمكنه إقامة البينة عليه وقت ضياعه ، فلا يكلّف ما لا سبيل إليه ؛ والبينة يقدر أن يقيمها حال الدفع فتفريطه فيها موجب عليه الضمان.

وقال علماؤنا في الوديعة مثله ، وهي عندنا محمولة ونظيرة له.

وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعى وقالا : إنها أمانة ؛ فكان القول قوله.

قلنا : لو رضى أمانته بالردّ ما كتب عليه الشهادة بالعقد.

الآية السابعة ـ قوله تعالى (٣) : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قال قتادة : كان أهل الجاهلية يمنعون النساء الميراث ويخصّون به الرجال ، حتى كان الرجل منهم إذا مات وترك ذريّة ضعافا وقرابة كبارا استبدّ بالمال القرابة الكبار.

وقد روى أن (٤) أن رجلا من الأنصار مات وترك ولدا أصاغر وأخا كبيرا ، فاستبدّ بماله ،

__________________

(١) أى غير جامع ، كما في النهاية.

(٢) الكهر : الانتهار.

(٣) الآية السابعة من السورة.

(٤) في أسباب النزول ٨٢ : أن أوس بن ثابت توفى وترك امرأة وثلاث بنات له منها ، فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه ...


فرفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له العم : يا رسول الله ، إنّ الولد صغير لا يركب ولا يكسب ، فنزلت الآية.

وكان هذا من الجاهلية تصرفا بجهل عظيم ؛ فإن الورثة الصغار الضعاف كانوا أحقّ بالمال من القوى ، فعكسوا الحكم وأبطلوا الحكمة ؛ فضلّوا بأهوائهم وأخطئوا في آرائهم.

المسألة الثانية ـ في هذه الآية ثلاث فوائد :

إحداها ـ بيان علّة الميراث ، وهي القرابة. الثاني ـ عموم القرابة كيفما تصرّفت من قرب أو بعد.

الثالث ـ إجمال النصيب المفروض ؛ فبيّن الله سبحانه وتعالى في آية المواريث خصوص القرابة ومقدار النصيب ، وكان نزول هذه الآية توطئة للحكم وإبطالا لذلك الرأى الفاسد ، حتى وقع البيان الشافي بعد ذلك على سيرة الله وسنته في إبطال آرائهم وسنّتهم.

المسألة الثالثة ـ قوله سبحانه وتعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً).

كان أشياخنا قد اختلفوا عن مالك في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله كالحمام وبدء (١) الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإبراز أقلّ السهام منها ، فكان ابن كنانة يرى ذلك ؛ لقوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) ؛ وكان ابن القاسم يروى عنه أنّ ذلك لا يجوز ؛ لما فيه من المضارّة ؛ وقد نفى الله سبحانه وتعالى المضارة بقوله سبحانه (٢) : (غَيْرَ مُضَارٍّ). وأكّد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك بقوله : لا ضرر ولا ضرار.

وهذا بعيد ؛ فإنه ليس في الآية تعرّض للقسمة ؛ وإنما اقتضت الآية وجوب الحظّ والنصيب في التركة قليلا كان أو كثيرا ؛ فقال سبحانه وتعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، وهذا ظاهر جدّا ؛ فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر ؛ وذلك أنّ الوارث يقول : قد وجب لي نصيب بقول الله سبحانه فمكّنونى منه. فيقول له شريكه : أمّا تمكينك على الاختصاص فلا يمكن ؛ لأنه يؤدّى إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال وتغيير الهيئة وتنقيص القيمة ، فيقع الترجيح.

والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص القيمة.

__________________

(١) في ا : بد.

(٢) سورة النساء ، آية ١٢


الآية الثامنة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

في هذه الآية ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها منسوخة ؛ قاله سعيد وقتادة ، وهو أحد قولي ابن عباس.

الثاني ـ أنها محكمة ، والمعنى فيها الإرضاخ (٢) للقرابة الذين لا يرثون إذا كان المال وافرا ، والاعتذار إليهم إن كان المال قليلا ، ويكون هذا على هذا الترتيب بيانا لتخصيص قوله تعالى (٣) : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) ؛ وأنه في بعض الورثة غير معيّن ؛ فيكون تخصيصا غير معيّن ، ثم يتعيّن في آية المواريث.

وهذا ترتيب بديع ؛ لأنه عموم ثم تخصيص ثم تعيين.

الثالث ـ أنها نازلة في الوصية ، يوصى الميت لهؤلاء على اختلاف في نقل الوصية لا معنى له (٤).

وأكثر أقوال المفسرين أضغاث وآثار ضعاف.

والصحيح أنها مبيّنة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له منهم بأن يسهم لهم من التركة ويذكرهم لهم من القول ما يؤنسهم وتطيب به نفوسهم.

وهذا محمول على الندب من وجهين :

أحدهما ـ أنه لو كان فرضا لكان ذلك استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول ؛ وذلك مناقض للحكمة وإفساد لوجه التكليف.

الثاني ـ أنّ المقصود من ذلك الصلة ، ولو كان فرضا يستحقونه لتنازعوا منازعة القطيعة (٥).

الآية التاسعة ـ قوله تعالى (٦) : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

اختلف علماؤنا فيها على أربعة أقوال :

__________________

(١) الآية الثامنة من السورة.

(٢) رضخ له : أعطاه عطاء غير كثير.

(٣) من الآية السابقة.

(٤) في ل : لا معين له.

(٥) في ل : مسارعة للقطيعة.

(٦) الآية التاسعة من السورة.


الأول ـ أنه نهى لمن حضر عند الموت عن الترغيب له بالوصية حتى يخرج إلى الإسراف المضرّ بالورثة.

الثاني ـ أنه نهى للميت عن الإعطاء في الوصية (١) للمساكين والضعفاء.

الثالث ـ أنه نهى لمن حضر عند الميت عن ترغيبه في الزيادة على الثلث.

الرابع ـ أنّ الآية راجعة إلى ما سبق من ذكر اليتامى وأموالهم وأوليائهم ، فذكروا بالنظر في مصلحتهم والعمل بما كان يرضيهم أن يعمل مع ذرياتهم الضعفاء وورثتهم.

والصحيح أنّ الآية عامّة في كل ضرر يعود عليهم بأى وجه كان على ذريّة المتكلم ، فلا يقول إلا ما يريد أن يقال فيه وله.

الآية العاشرة ـ قوله تعالى (٢) : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ، آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

اعلموا ـ علّمكم الله ـ أنّ هذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأمّ من أمهات الآيات ؛ فإنّ الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : العلم ثلاث ؛ آية محكمة ، أو سنّة قائمة ، أو فريضة عادلة.

وكان جلّ علماء الصحابة وعظم مناظرتهم ، ولكنّ الخلق ضيّعوه ، وانتقلوا منه إلى الإجارات والسلم والبيوع الفاسدة والتدليس ، إمّا لدين ناقص ، أو علم قاصر ، أو غرض في طلب الدنيا ظاهر ، وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون. ولو لم يكن من فضل الفرائض والكلام عليها إلا أنها تبهت (٣) منكري القياس وتخزى مبطلى النظر في إلحاق النظير

__________________

(١) في ا : الإعطاء للوصية.

(٢) الآية الحادية عشرة.

(٣) البهت : الأخذ بغتة والانقطاع والحيرة.


بالنظير ، فإنّ عامّة مسائلها إنما هي مبنية على ذلك ؛ إذ النصوص لم تستوف فيها ، ولا أحاطت بنوازلها ، وسترى ذلك فيها إن شاء الله.

وقد روى مطرّف عن مالك قال : قال عبد الله بن مسعود : من لم يتعلّم الفرائض والحجّ والطلاق فبم يفضل أهل البادية؟

وقال وهب ، عن مالك : كنت أسمع ربيعة يقول : من تعلّم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها. قال مالك : وصدق. وقد أطلنا فيها النفس في مسائل الخلاف ، فأما الآن فإنا نشير إلى نكت تتعلّق بألفاظ الكتاب ، وفيها ست عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في المخاطب بها ، وعلى من يعود الضمير؟

وبيانه أنّ الخطاب عامّ في الموتى الموروثين ؛ والخلفاء الحاكمين ، وجميع المسلمين ؛ أما تناولها للموتى فليعلموا المستحقّين لميراثهم بعدهم فلا يخالفوه بعقد ولا عهد ؛ وفي ذلك آثار كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهاتها ثلاثة أحاديث :

الحديث الأول ـ حديث سعد في الصحيح (١) : عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام حجّة الوداع في مرض اشتدّ بي ، فقلت : يا رسول الله ؛ أنا ذو مال ولا يرثني إلّا ابنة لي ؛ أفأتصدّق بمالي كله؟ قال : لا. قلت : فالثلثان؟ قال : لا. قلت : فالشطر؟ قال : لا. الثلث ، والثلث كثير ؛ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس.

الثاني ـ ما ثبت في الصحيح ، قال أبو هريرة : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(٢) ـ وقد سئل : أىّ الصدقة أفضل؟ قال : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان كذا.

الثالث ـ ما روى مالك عن عائشة أنّ أبا بكر الصديق قال لها في مرض موته : إنى كنت نحلتك جادّ (٣) عشرين وسقا من تمر ، فلو كنت حددته (٤) لكان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٢٥٠

(٢) صحيح مسلم : ٧١٦

(٣) الجاد بمعنى المجدود : أى نخل يجد منه ما يبلغ عشرين وسقا (النهاية).

(٤) في ل : حزتيه.


فبيّن الله سبحانه أنّ المرء أحقّ بماله في حياته ، فإذا وجد أحد سببى زواله ـ وهو المرض ـ قبل وجود الثاني ، وهو الموت ـ منع من ثلثى ماله ، وحجر عليه تفويته لتعلّق حقّ الوارث به ، فعهد الله سبحانه بذلك إليه ، ووصّى به ليعلّمه فيعمل به ؛ ووجوب الحكم المعلّق على سببين بأحد سببيه ثابت معلوم في الفقه ؛ لجواز إخراج الكفّارة بعد اليمين ، وقبل الحنث ، وبعد الخروج ، وقبل الموت في القتل ، وكذلك صحّ سقوط الشفعة بوجود الاشتراك في المال قبل البيع.

وأما تناوله للخلفاء الحاكمين فليقضوا به على من نازع في ذلك من المتخاصمين.

وأما تناوله لكافّة المسلمين فليكونوا به عالمين ، ولمن جهله مبيّنين ، وعلى من خالفه منكرين ؛ وهذا فرض يعمّ الخلق أجمعين ، وهو فنّ غريب من تناول الخطاب للمخاطبين ، فافهموه واعملوا به وحافظوا عليه واحفظوه ، والله المستعان.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها ، وفي ذلك ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ أهل الجاهلية كانوا لا يورّثون الضعفاء من الغلمان ولا الجواري ، فأنزل الله تعالى ذلك ، وبيّن حكمه وردّ قولهم.

الثاني ـ قال ابن عباس : كان الميراث للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ؛ فردّ الله ذلك وبيّن المواريث ، رواه في الصحيح.

الثالث ـ أنّ عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو مقارب الحديث عندهم ، روى عن جابر ابن عبد الله قال : خرجنا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق ، وهي جدة خارجة بن زيد بن ثابت ، فزرناها ذلك اليوم ، فعرشت لنا صورا فقعدنا تحته ، وذبحت لنا شاة وعلّقت لنا قربة ، فبينا نحن نتحدّث إذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة ، فطلع علينا أبو بكر الصديق فتحدثنا ، ثم قال لنا : الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة ، فطلع علينا عمر بن الخطاب فتحدثنا ، فقال: الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة. قال : فرأيته يطأطئ رأسه من سعف الصور يقول : اللهم إن شئت جعلته علىّ بن أبى طالب ، فجاء حتى دخل علينا ، فهنيئا لهم بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم ، فجاءت المرأة بطعامها فتغذينا ، ثم أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم


لصلاة الظهر ، فقمنا معه ما توضّأ ولا أحد منا ، غير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ بكفّه جرعا من الماء فتمضمض بهنّ من غمر (١) الطعام ؛ فجاءت المرأة بابنتين (٢) لها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت : يا رسول الله ؛ هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل معك يوم أحد ، وقد استفاء (٣) عمّهما مالهما وميراثهما كلّه ، فلم يدع لهما مالا إلّا أخذه ؛ فما ترى يا رسول الله؟ فو الله لا تنكحان أبدا إلّا ولهما مال.

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضى الله في ذلك ، فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...) الآية ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ادع لي المرأة وصاحبها ، فقال لعمهما : أعطهما الثلثين ، وأعط أمّهما الثمن ، ولك الباقي. فقال محمد بن عبد الله بن محمد بن عطاء مقارب الحديث ، قال الإمام أبو بكر : هو مقبول لهذا الإسناد.

الثالث ـ ما روى البخاري عن جابر قلت : (٤) يا رسول الله ؛ ما ترى أن أصنع في مالي؟ فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ـ ردّ لكلّ عمل من تلك الأعمال وإبطال لجميع الأقوال المتقدمة ، إلا أنّ في حديث جابر الأول فائدة ؛ وهو أنّ ما كانت الجاهلية تفعل في صدر الإسلام لم يكن شرعا مسكوتا عنه (٥) ؛ مقرّا عليه ؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي عليه السلام على عمّ الصبيتين بردّ ما أخذ من مالهما ؛ لأنّ الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما تؤثّر في المستقبل ، ولا ينقض به ما تقدّم ، وإنما كانت ظلامة وقعت ، أمّا أنّ الذي وقعت (٦) الوصية به للوالدين والأقربين فأخرجت عنها أهل المواريث.

المسألة الثالثة ـ قوله : (فِي أَوْلادِكُمْ).

يتناول كلّ ولد كان موجودا من صلب الرجل دنيا أو بعيدا ؛ قال الله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ).

وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : أنا سيد ولد آدم. وقال تعالى (٧) : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) ؛ فدخل فيه كلّ من كان لصلب الميت دنيا أو بعيدا.

ويقال بنو تميم ؛ فيعم الجميع ؛ فمن علمائنا من قال : ذلك حقيقة (٨) في الأدنين مجاز في

__________________

(١) الغمر ـ بالتحريك : الدسم والزهومة من اللحم.

(٢) أسباب النزول : ٨٣

(٣) أى استرجع حقها من الميراث وجعله فيئا له ، وهو استفعل من الفيء (النهاية).

(٤) أسباب النزول : ٨٣

(٥) في ل : عليه.

(٦) في ل : رفعت.

(٧) سورة النساء ، آية ١٢

(٨) خبر ذلك.


الأبعدين. ومنهم من قال : هو حقيقة في الجميع ؛ لأنه من التولد ، فإن كان الصحيح أن ذلك حقيقة في الجميع فقد غلب مجاز الاستعمال في إطلاقه على الأعيان في الأدنين على تلك الحقيقة.

والصحيح عندي أنه مجاز في البعداء بدليل أنه ينفى عنه ؛ فيقال ليس بولد ، ولو كان حقيقة لما ساغ نفيه ، ألا ترى أنه يسمى ولد الولد ولدا ، ولا يسمى به ولد الأعيان ، وكيفما دارت الحال فقد اجتمعت الأمة ها هنا على أنه ينطلق على الجميع.

وقد قال مالك : لو حبس (١) رجل على ولده لانتقل إلى أبنائهم ، ولو قال صدقة فاختلف قول علمائنا ؛ هل تنقل إلى أولاد الأولاد على قولين ، وكذلك في الوصية.

واتفقوا على أنه لو حلف لا ولد له وله حفدة لم يحنث. وإنما اختلف ذلك في أقوال المخلوقين في هذه المسائل لوجهين :

أحدهما ـ أنّ الناس اختلفوا في عموم كلام المخلوقين هل يحمل على العموم كما يحمل كلام الباري؟ فإذا قلنا بذلك فيه (٢) على قولين : أحدهما أنه لا يحمل كلام الناس على العموم بحال ، وإن حمل كلام الله سبحانه عليه.

الثاني ـ أن كلام الناس يرتبط بالأغراض والمقاصد ، والمقصود من الحبس التعقيب ، فدخل فيه ولد الولد ، والمقصود من الصدقة التمليك ؛ فدخل فيه الأدنى خاصة ولم يدخل فيه من بعد إلّا بدليل.

والذي يحقّق ذلك أنه قال بعده : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ، فدخل فيه آباء الآباء ، وكذلك (٣) يدخل فيه أولاد الأولاد.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

هذا القول يفيد أنّ الذكر إذا اجتمع مع الأنثى أخذ مثلي ما تأخذه الأنثى ، وأخذت هي نصف ما يأخذ الذكر ؛ وليس هذا بنصّ على الإحاطة بجميع المال ، ولكنه تنبيه قوىّ ؛ لأنه لو لا أنهم يحيطون بجميع المال إذا انفردوا لما كان بيانا لسهم واحد منهم ، فاقتضى الاضطرار إلى بيان سهامهم الإحاطة بجميع المال إذا انفردوا ؛ فإذا انضاف إليهم غيرهم

__________________

(١) يريد وقف.

(٢) هكذا في كل الأصول.

(٣) في ا : فكذلك.


من ذوى السهام فأخذ سهمه كان الباقي أيضا معلوما ؛ فيتعيّن سهم كل واحد منهم فيه ، ووجب حمل هذا القول على العموم ، إلا أنه خصّ منه الأبوين بالسدس لكلّ واحد منهما ، والزوجين بالربع والثمن لهما على تفصيلهما ، وبقي العموم والبيان بعد ذلك على أصله.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (فِي أَوْلادِكُمْ) عامّ في الأعلى منهم والأسفل ، فإن استووا في الرتبة أخذوه بهذه القسمة ، وإن تفاوتوا فكان بعضهم أعلى من بعض حجب الأعلى الأسفل ؛ لأن الأعلى يقول : أنا ابن الميت ، والأسفل يقول : أنا ابن ابن الميت ، فلما استفلت (١) درجته انقطعت حجّته ؛ لأن الذي يدلى به يقطع به ، فإن كان الولد الأعلى ذكرا سقط الأسفل ، وإن كان الولد الأعلى أنثى أخذت الأنثى حقّها ، وبقي الباقي لولد الولد إن كان ذكرا ، وإن كان ولد الولد أنثى أعطيت العليا النصف ، وأعطيت السفلى السدس تكملة الثلثين ؛ لأنّا نقدرهما بنتين متفاوتتين في الرتبة ، فاشتركتا في الثلث بحكم البنتية ، وتفاوتتا في القسمة بتفاوت الدرجة ؛ وبهذه الحكمة جاءت السنّة. وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين ، فإن كان الولد الأسفل أنثى لم يكن لها شيء إلّا أن يكون بإزائها أو أسفل منها ذكر فإنها تأخذ معه ما بقي للذكر مثل حظّ الأنثيين بإجماع الصحابة ، إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال : إن كان الذكر من ولد الولد بإزائها ردّ عليها ، وإن كان أسفل منها لم يردّ عليها شيئا ، مراعيا في ذلك ظاهر قوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ، فلم يجعل للبنات وإن كثرن شيئا إلا الثلثين ، وهذا ساقط ، فإنّ الموضع الذي قضينا فيه باشتراك بنت الابن مع ابن أخيها واشتراك ابن الابن مع عمته ليس حكما بالسهم الذي اقتضاه قوله تعالى : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ، وإنما هو قضاء بالتعصيب.

والدليل عليه اشتراكهما معه إذا كانتا بإزائه ، وإن كان ذلك زيادة على الثلثين ، وهذا قاطع جدا.

ولو قال قائل : إنه لو وازاها ما ردّ عليها ، ولا شاركته مراعاة لهذا الظاهر لقيل له : لا حجّة لك في هذا الظاهر ؛ لأنّ هذا حقّ أخذ بالسهم ، وهذا حقّ أخذ بالتعصيب ؛ وما يؤخذ بالتعصيب يجوز أن يزيد على الثلثين بخلاف السهم المفروض المعين ؛ ألا ترى أنّ

__________________

(١) في ا : انسفلت.


رجلا لو ترك عشر بنات وابنا واحدا ، لأخذت البنات أكثر من الثلثين ، ولكن ذلك لما كان بالتعصيب لم يقدح في الذي يجب بالسهم ؛ وفي ذلك تفصيل طويل بيانه في الفرائض.

المسألة السادسة قوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ).

وهي معضلة عظيمة ؛ فإنه تعالى لو قال : فإن كنّ اثنتين فما فوقهما فلهن ثلثا ما ترك لانقطع النزاع ، فلما جاء القول هكذا مشكلا وبين حكم الواحدة بالنصف وحكم ما زاد على الاثنتين بالثلثين ، وسكت عن حكم البنتين أشكلت الحال ، فروى عن ابن عباس أنه قال : تعطى البنات النصف ، كما تعطى الواحدة ؛ إلحاقا للبنتين بالواحدة من طريق النظر ؛ لأنّ الأصل عدم الزيادة على النصف ، وأن ذلك لما زاد على البنتين فتختص الزيادة بتلك الحال.

الجواب أنّ الله سبحانه وتعالى لو كان مبيّنا حال البنتين بيانه لحال الواحدة وما فوق البنتين لكان ذلك قاطعا ، ولكنه ساق الأمر مساق الإشكال ؛ لتتبيّن درجة العالمين ، وترتفع منزلة المجتهدين في أى المرتبتين [في] (١) إلحاق البنتين أحق؟

وإلحاقهما بما فوق الاثنتين أولى من ستة أوجه :

الأول ـ أنّ الله سبحانه وتعالى لما قال : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) نبّه على أنه إذا وجب لها مع أخيها الثلث فأولى وأحرى أن يجب لها ذلك مع أختها.

الثاني ـ أنه روى عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح : أنه قضى في بنت وبنت ابن وأخت بالسدس لبنت الابن ، والنصف للبنت تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فإذا كان لبنت الابن مع البنت الثلثان فأحرى وأولى أن يكون لها ذلك مع أختها.

الثالث ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قضى بالثلثين لابنتي سعد بن الربيع كما قدمنا(٢) ، وهو نصّ.

الرابع ـ أنّ المعنى فيه : فإن كنّ نساء اثنتين فما فوقهما ، كما قال تعالى (٣) : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) ؛ أى اضربوا الأعناق فما فوقها.

الخامس ـ أنّ النصف سهم لم يجعل فيه اشتراك ؛ بل شرع مخلصا للواحدة ، بخلاف

__________________

(١) ليس في م.

(٢) صفحة ٣٣٣

(٣) سورة الأنفال ، آية ١٢


الثلثين فإنه سهم الاشتراك بدليل دخول الثلاث فيه فما فوقهنّ ؛ فدخلت فيه الاثنتان مع الثلث دخول الثلاث مع ما فوقهنّ.

السادس ـ أنّ الله سبحانه قال في الأخوات (١) : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ). وقال (٢) : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) ، فلحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين ، وحملتا عليهما ، ولحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين وحملتا عليهنّ.

قال بعض علمائنا : كما حملنا الابن في الإحاطة بالمال (٣) بطريق التعصيب على الأخ ، بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ). [١١٦] وهذا (٤) كلّه ليتبيّن به العلماء أنّ القياس مشروع ، والنصّ قليل.

وهذه الأوجه الستة بيّنة المعنى ، وإن كان بعضها أجلى من بعض ؛ لكن مجموعها يبيّن المقصود.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ).

هذا قول لم يدخل فيه من علا من الآباء دخول من سفل من الأبناء في قوله : (أَوْلادِكُمْ) لثلاثة أوجه :

الأول ـ أنّ القول ها هنا مثنى ، والمثنّى لا يحتمل العموم والجمع.

الثاني ـ أنه قال : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثلث ، والأمّ العليا هي الجدّة ، ولا يفرض لها الثلث بإجماع ؛ فخروج الجدّة من هذا اللفظ مقطوع به ، وتناوله للأب مختلف فيه.

الثالث ـ أنه إنما قصد في قوله : (أولادكم) بيان العموم ، وقصدها هنا بيان النوعين من الآباء وهما الذّكر والأنثى ، وتفصيل فرضهما دون العموم ؛ فأما الجدّ فقد اختلف فيه الصحابة ؛ فروى عن أبى بكر الصديق أنه جعله أبا ، وحجب به الإخوة أخذا بقوله تعالى (٥) : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ، وبقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ) ، وقد بيّنا أنّ هذا

__________________

(١) سورة النساء ، آية ١٧٦

(٢) في ا : في الإحاطة في المال.

(٣) إلى هنا ساقط في م ، وانظر هامش رقم ٤ صفحة ٣٢٣

(٤) سورة الحج ، آية ٧٨


اللفظ مساقه بيان التنويع لا بيان العموم ، ومقاصد الألفاظ أصل يرجع إليه.

والذي نحقّقه من طريق النظر والمعنى أنّ الأخ أقوى سببا من الجدّ ؛ فإن الأخ يقول : أنا ابن أبى الميت ، والجدّ يقول : أنا أبو أبى الميت ، وسبب البنوّة أقوى من سبب الأبوّة ؛ فكيف يسقط الأضعف الأقوى ؛ وهذا بعيد ، والمسألة مشهورة طيولية في مسائل الخلاف ، والغرض من هذا البيان إيضاح أنّ المسألة قياسية لا مدخل لها في هذه الألفاظ ؛ فأما الجدّة فقد صحّ أن الجدّة ـ أم الأمّ ـ جاءت أبا بكر الصديق فقال لها : لا أجد لك في كتاب الله شيئا ، وما أنا بزائد في الفرائض شيئا ؛ فإن وجد الأب والأم لم يكن للجد والجدة شيء ؛ لأنّ الأدنى يحجب الأبعد كما تقدم في الأولاد ، وإن عدما ينزّل الأبعد منزلة من كان قبله.

المسألة الثامنة ـ قال بعض الناس : معناه إن كان له ولد ذكر ، وأما إن كان الولد أنثى أخذت النصف ، وأخذت الأمّ السدس ، وأخذ الأب الثلث ؛ وهذا ضعيف ، بل يأخذ الأب السدس سهما والسدس الآخر تعصيبا ، وهو معنى آخر لم يقع عليه نصّ في الآية ، إنما هو تنبيه ظاهر ، على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) إلى قوله سبحانه وتعالى : (الثُّلُثُ).

قال علماؤنا : سوّى الله سبحانه وتعالى بين الأبوين مع وجود الولد ، وفاضل بينهما مع عدمه في أن جعل سهميهما للذكر مثل حظّ الأنثيين ، والمعنى فيه أنهما يدليان بقرابة واحدة وهي الأبوة ، فاستويا مع وجود الولد ؛ فإن عدم الولد فضل الأب الأمّ بالذكورة والنصرة ووجوب المؤنة عليه ، وثبتت الأمّ على سهم لأجل القرابة.

المسألة العاشرة ـ إذا اجتمع الآباء والأولاد قدّم الله الأولاد ؛ لأنّ الأب كان يقدم ولده على نفسه ، ويودّ أنه يراه فوقه ويكتسب له ؛ فقيل له : حال حفيدك مع ولدك كحالك مع ولدك.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ).

يقتضى أنه لا وارث له ، مع عدم الأولاد إلا الأبوان ؛ فكان ظاهر الكلام أن يقول :


فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمّه الثلث ، ولكنه أراد زيادة الواو ليبيّن أنه أمر مستقر خبّر (١) عن ثبوته واستقراره ؛ لأنّ الأولاد أسقطوا الإخوة ، وشاركهم الأب ، وأخذ حظّه من أيديهم ؛ فوجب أن يسقط من أسقطوا ، بل أولى ، وأيضا فإنّ الأخ بالأب يدلى فيقول : أنا ابن أبيه ، فلما كان واسطته [١١٧] وسببه الذي يريد أن يأخذ به هو الأب كان سببه أولى منه ومانعا له ؛ فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الوالدين للذّكر مثل حظّ الأنثيين كما تقدم بيانه ، ويجتمع بذلك للأب فرضان : السهم ، والتعصيب ، وهذا عدل في الحكم ظاهر في الحكمة.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

المعنى إن وجد له إخوة فلأمه السدس ، وإن لم يكن لهم شيء من الميراث فهم يحجبون ولا يرثون بظاهر هذا اللفظ ، بخلاف الابن الكافر ، على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى ، وكان دليل ذلك ، وعاضده ، وبسطه أنّ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) معطوف على ما سبق ، فصار تقدير الكلام : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثلث ، والباقي للأب ، وإن كان له إخوة فلأمه السدس ، والباقي للأب ، وهكذا يزدوج الكلام ويضحّ الاشتراك الذي يقتضيه العطف.

فإن قيل : إنما تقدير الكلام فإن كان له إخوة ولا أب له فلأمه السدس.

قلنا : هذا ساقط من أربعة أوجه :

أحدها ـ أنه تبطل فائدة العطف.

الثاني ـ أنه إبطال لفائدة الكلام من البيان ، فإنّا كنا نعطى بذلك الأمّ السدس ، وما ندري ما نصنع بباقي المال؟

فإن قيل : يعطى للإخوة. قلنا : وهم من؟ أو كيف يعطى لهم؟ فيكون القول مشكلا غير مبيّن ولا مبين ، وهذا لا يجوز.

الثالث ـ أنه كان يبقى قسم من الأقسام غير مبيّن ، وهو إن كان له إخوة وله أب وأمّ فاعتباره بالبيان أولى ، وما صوّروه من أم وإخوة قد بيّن في قوله (٢) : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ

__________________

(١) في ل : فخبر.

(٢) سورة النساء ، آية ١٢


يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) ، وهذا من نفيس الكلام ، فتأمّلوه.

الرابع ـ أنه تبيّن هاهنا فائدتان : إحداهما ـ حجب الأم بالإسقاط (١) لهم. الثاني ـ حجب النقصان للأم.

المسألة الثالثة عشرة : ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

هذا قول يقتضى بظاهره أنه إذا كان له ثلاثة إخوة أنهم يحجبونها حجب نقصان بلا خلاف ، وإن كانا أخوين فروى عن ابن عباس أنهما لا يحجبانها ؛ وغرضه ظاهر ؛ فإنّ الجمع خلاف التثنية لفظا وصيغة ، وهذه صيغة الجمع فلا مدخل لها في التثنية.

ومن يعجب فعجب أن يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن ودليل التأويل عبد الله ابن عباس مسألتان :

إحداهما هذه المسألة ، والأخرى مسألة العول ؛ وعضد هذا الظاهر بأنّ قال : إنّ الأمّ أخذت الثلث بالنص ، فكيف يسقط النص بمحتمل. وهذا المنحى مائل عن سنن الصواب.

ولعلمائنا في ذلك سبيل مسلوكة نذكرها ونبيّن الحقّ فيها إن شاء الله ، وذلك من ثلاثة أوجه :

الأول ـ أنه ينطلق لفظ الإخوة على الأخوين ؛ بل قد ينطلق لفظ الجماعة على الواحد ، تقول العرب : نحن فعلنا ، وتريد القائل لنفسه خاصة. وقد قال تعالى (٢) : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). وقال (٣) : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ، ثم قال (٤) : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ). وقال (٥) : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). وقال (٦) : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ). وقال (٧) : (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) ، والرسول واحد. وقال تعالى (٨) : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) يعنى عائشة ، وقيل عائشة وصفوان. وقال (٩) : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ، وكانا اثنين كما نقل في التفسير. وقال (١٠) : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) ، وهما طرفان. وقال (١١) : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ). وقال (١٢) : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ). وقال (١٣) : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) ، وكان واحدا.

__________________

(١) في ل : والإسقاط. (٦) سورة الأنبياء ، آية ٧٨

(٢) سورة الحج ، آية ١٩ (٧) سورة النمل ، آية ٣٥

(٣) سورة ص ، آية ٢١ (٨) سورة النور ، آية ٢٦

(٤) سورة ص ، آية ٢٢ (٩) سورة الأعراف ، آية ١٤٩

(٥) سورة التحريم ، آية ٤ (١٠) سورة طه ، آية ١٣٠

(١١) سورة الشعراء ، آية ١٥ (١٢) سورة السجدة ، آية ١٨

(١٣) سورة آل عمران ، آية ١٧٣


وهذا كلّه صحيح في اللغة سائغ ، لكن إذا قام عليه دليل ؛ فأين الدليل؟

الثاني ـ أنّ الله تعالى قال في ميراث الأخوات (١) : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) ، فحمل العلماء البنتين [١١٨] على الأختين في الاشتراك في الثلثين ، وحملوا الأخوات على البنات في الاشتراك في الثلثين ، وكان هذا نظرا دقيقا وأصلا عظيما في الاعتبار ، وعليه المعوّل ، وأراد الباري بذلك أن يبيّن لنا دخول القياس في الأحكام.

الثالث ـ أنّ الكلام في ذلك لما وقع بين عثمان وابن عباس ؛ قال له عثمان : إنّ قومك حجبوها ، يعنى بذلك قريشا ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وهم المخاطبون ، والقائمون لذلك ؛ والعاملون به ؛ فإذا ثبت هذا فلا يبقى لنظر ابن عباس وجه ؛ لأنه إن عوّل على اللغة فغيره من نظائره ومن فوقه من الصحابة أعرف بها ، وإن عوّل على المعنى فهو لنا ؛ لأنّ الأختين كالبنتين كما بيّنا ، وليس في الحكم بمذهبنا خروج عن ظاهر الكلام ؛ لأنّا بينّا أنّ في اللغة واردا لفظ الاثنين على الجميع.

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).

قال علماؤنا : هذا فصل عظيم من فصول الفرائض ، وأصل عظيم من أصول الشريعة ؛ وذلك أنّ الله سبحانه جعل المال قواما للخلق ؛ ويسّر لهم السبب إلى جمعه بوجوه متعبة ، ومعان عسيرة ، وركّب في جبلّاتهم الإكثار منه والزيادة على القوت الكافي المبلّغ إلى المقصود ، وهو تاركه بالموت يقينا ، ومخلّفه لغيره ، فمن رفق الخالق بالخلق صرفه عند فراق الدنيا ؛ إبقاء على العبد وتخفيفا من حسرته على أربعة أوجه :

الأول ـ ما يحتاج إليه من كفنه وجهازه إلى قبره.

الثاني ـ ما تبرأ به ذمّته من دينه.

الثالث ـ ما يتقرّب به إلى الله من خير ليستدرك به ما فات في أيام مهلته.

الرابع ـ ما يصير إلى ذوى قرابته الدانية وأنسابه المشتبكة المشتركة.

فأما الأول فإنما قدّم ؛ لأنه أولى بماله من غيره ، ولأنّ حاجته الماسّة في الحال متقدمة دينه ، وقد كان في حياته لا سبيل لقرابته إلى قوته ولباسه ، وكذلك في كفنه.

__________________

(١) سورة النساء آية ١٧٦


وأما تقديم الدّين فلأنّ ذمّته مرتهنة بدينه ، وفرض الدّين أولى من فعل الخير الذي يتقرّب به.

فأما تقديم الصدقة على الميراث في بعض المال ففيه مصلحة شرعية وإيالة دينية ؛ لأنه لو منع جميعه لفاته باب من البرّ عظيم ، ولو سلّط عليه لما أبقى لورثته بالصدقة منه شيئا لأكثر الوارثين أو بعضهم ؛ فقسّم الله سبحانه بحكمته المال وأعطى الخلق ثلث أموالهم في آخر أعمارهم ، وأبقى سائر المال للورثة ، كما قال عليه السلام (١) : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس. مع (٢) أنه كلالة منه بعيد عنه.

وأراد بقوله : «خير» هاهنا وجوها معظمها أنّ ذلك سبب إلى ذكره بالجميل ، وإحياء ذكره هو إحدى الحياتين ، ومعنى مقصود عند العقلاء ، وقد أثنى الله سبحانه على الأنبياء في طريقه فقال (٣) : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ، وأخبر عن رغبته فيه فقال (٤) : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).

وإذا كان ورثته أغنياء عظم قدرهم ، وشرف ذكرهم في الطاعة وذكره.

وقد ذكر الله تعالى الأوجه الثلاثة وترك الأوّل ؛ لأنه ليس بمتروك ، وإنما يكون متروكا ما فضل عن حاجته ومصلحته ؛ ولما جعل الله في القسم الثالث الوصية مشروعة مسوّغة له ، وكلها إلى نظره لنفسه في أعيان الموصى لهم ، وبمقدار ما يصلح لهم.

وقد كانت قبل ذلك مفروضة للوالدين والأقربين غير مقدّرة ثم نسخ ذلك ، فروى أبو داود والترمذي أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إنّ الله أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه ؛ لا وصية لوارث.

وقد روى [١١٩] البخاري عن خبّاب قال : هاجرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وذكر الحديث ، ثم قال : ومنهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد ، فلم نجد له ما نكفّنه فيه إلّا نمرة (٥) كنّا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطّينا بها رجليه بدا رأسه. فقال النبي صلّى

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٢٥٠

(٢) في ا : من.

(٣) سورة الصافات ، آية ٧٨

(٤) سورة الشعراء ، آية ٨٤

(٥) النمرة : الشملة فيها خطوط بيض وسود ، أو بردة من صوف يلبسها الأعراب (القاموس).


الله عليه وسلّم : غطّوا بها رأسه واجعلوا عليه من الإذخر (١) ؛ فبدأ بالكفن على كل شيء.

وروى الأئمة عن جابر أنّ أباه استشهد يوم أحد ، وترك ستّ بنات ، وترك دينا ، فلما حضر جداد النخل أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت : يا رسول الله ؛ قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد ، وترك عليه دينا ، وإنى أحب أن يراك الغرماء. قال : اذهب فبيدر (٢) كلّ تمرة على حدة ، ففعلت : فلما دعوته وحضر عندي ونظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة ، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا فجلس عليه ، وقال : ادع أصحابك ؛ فما زال يكيل لهم حتى أدّى الله أمانة والدي. فقدّم الدّين على الميراث.

وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع قال : كنّا جلوسا عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أتى بجنازة فقالوا : صلّ عليها ، فقال : هل عليه دين؟ قالوا : لا ، فصلّى الله عليه ، ثم أتى بجنازة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، صلّ عليها. فقال : هل عليه دين؟ قالوا : نعم. قال : فهل ترك شيئا؟ قالوا : ثلاثة دنانير. فصلّى الله عليه. ثم أتى بالثالثة فقالوا : صلّ عليها. فقال : هل ترك شيئا؟ قالوا : لا ، قال : أعليه دين؟ قالوا : ثلاثة دنانير. قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة : صلّ عليه يا رسول الله وعلىّ دينه ، فصلّى الله عليه ، فجعل الوفاء بمقابلة الدّين. ولهذه الآثار والمعاني السالفة قال على بن أبى طالب ـ رواه الترمذي وغيره : إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدّين قبل الوصية ، وأنتم تقدّمون الوصية قبل الدّين.

فإن قيل : فما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدّين ، والدّين مقدّم عليها؟

قلنا ؛ في ذلك خمسة أوجه :

الأول ـ أن «أو» لا توجب ترتيبا ، إنما توجب تفصيلا ، فكأنه قال : من بعد أحدهما أو من بعدهما ، ولو ذكرهما بحرف الواو لأوهم الجمع والتشريك ؛ فكان ذكرهما بحرف «أو» المقتضى التفصيل أولى.

الثاني ـ أنه قدّم الوصية ؛ لأن تسبّبها من قبل نفسه ، والدّين ثابت مؤدّى ذكره أم لم يذكره.

__________________

(١) الإذخر : الحشيش الأخضر ، وحشيش طيب الريح (القاموس).

(٢) بيدر الطعام : كومة ، والبيدر : موضعه الذي يداس فيه (القاموس).


الثالث ـ أنّ وجود الوصية أكثر من وجود الدّين ؛ فقدّم في الذكر ما يقع غالبا في الوجود.

الرابع ـ أنه ذكر الوصية ، لأنه أمر مشكل ، هل يقصد ذلك ويلزم امتثاله أم لا؟ لأنّ الدّين كان ابتداء تاما مشهورا أنه لا بدّ منه ، فقدم المشكل ، لأنّه أهم في البيان.

الخامس ـ أنّ الوصية كانت مشروعة ثم نسخت في بعض الصور ، فلما ضعّفها النسخ قويت بتقديم الذكر ؛ وذكرهما معا كان يقتضى أن تتعلّق الوصية بجميع المال تعلّق الدّين. لكن الوصية خصصت ببعض المال ، لأنها لو جازت في جميع المال لاستغرقته ولم يوجد ميراث ؛ فخصّصها الشرع ببعض المال ؛ بخلاف الدّين ، فإنه أمر ينشئه بمقاصد صحيحة في الصحة والمرض ، بيّنة المناحى في كل حال ؛ يعمّ تعلّقها بالمال كله.

ولما قام الدليل وظهر المعنى في تخصيص الوصية ببعض المال قدّرت ذلك الشريعة بالثلث ، وبيّنت المعنى المشار إليه على لسان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعد ؛ قال سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم (١) : يا رسول الله ، لي مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدّق بثلثي مالي ... الحديث ، إلى أن قال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : الثلث والثلث كثير ، إنّك [١٢٠] إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس.

فظهرت المسألة قولا ومعنى وتبيّنت حكمة وحكما.

المسألة الخامسة عشرة ـ لما ذكر الله تقديم الدّين على الوصية تعلّق بذلك الشافعىّ في تقديم دين الزكاة والحجّ على الميراث ، فقال : إن الرجل إذا فرّط في زكاته وحجّه أخذ ذلك من رأس ماله.

وقال أبو حنيفة ومالك : إن أوصى بها أدّيت من ثلثه ، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء.

وتعلّق الشافعى ظاهر ببادئ الرأى ، لأنه حقّ من الحقوق ؛ فلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين ، لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمىّ.

ومتعلّق مالك أنّ ذلك موجب إسقاط الزكاة أو ترك الورثة فقراء ، لأنه يعتمد ترك

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٢٥٢


الكل ، حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله ؛ فلا يبقى للورثة حقّ ؛ فكان هذا قصدا باطلا في حقّ عباداته وحقّ ورثته ؛ وكلّ من قصد باطلا في الشريعة نقض عليه قصده ، تحقّق ذلك منه أو اتّهم به إذا ظهرت علامته ، كما قضينا بحرمان الميراث للقاتل ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً).

اختلف العلماء في معناه على قولين :

أحدهما ـ لا تدرون في الدنيا أنهم أقرب لكم نفعا في الآخرة ؛ لأنّ كلّ واحد من الجنسين يشفع في الآخرة يوم القيامة.

الثاني ـ لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا : أيهم أرفع درجة في الدنيا ؛ روى عن ابن عباس.

والمعنى فيه أنه لو ترك الأمر على ما كان في أول الإسلام : الوصية للوالدين والأقربين لم يؤمن ـ إذا قسم التركة في الوصية ، حيف أحدكم ، لتفضيل ابن على بنت ، أو أب على أم ، أو ولد على ولد ، أو أحد من هؤلاء أو غيرهم على أحد ، فتولّى الله سبحانه قسمها بعلمه ، وأنفذ فيها حكمته بحكمه ، وكشف لكلّ ذي حقّ حقّه ، وعبّر لكم ربّكم عن ولاية ما جهلتم ، وتولّى لكم بيان ما فيه نفعكم ومصلحتكم ، والله أعلم.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ، فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ، وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ في قراءتها (٢) :

قرئ بفتح الراء وكسرها ، وقرئ بتشديدها مكسورة ، فإن كان بالفتح فذلك عائد

__________________

(١) من الآية الثانية عشرة.

(٢) يريد قراءة كلمة (يُورَثُ) في الآية.


الميّت ، ويكون قوله : (كَلالَةً) حالا من الضمير في يورث.

وإذا قرئت بالكسر فمعناه عائد إلى الورثة ، ويكون قوله (كَلالَةً) مفعولا يتعدّى الفعل إليه. وكذلك بالتشديد ؛ وإنما فائدته تضعيف الفعل إليه.

المسألة الثانية ـ في لغتها :

اختلف أهل اللغة وغيرهم في ذلك على ستة أقوال :

قال صاحب العين : الكلالة : الذي لا ولد له ولا والد.

الثاني ـ قال أبو عمرو : ما لم يكن لحّا من القرابة فهو كلالة ، يقال : هو ابن عمى لحّا ، وهو ابن عمّى كلالة.

الثالث ـ وهو في معنى الثاني : أنّ الكلالة من بعد ، يقال : كلّت الرحم إذا بعد من خرج منها.

الرابع ـ أنّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ولا أخ.

الخامس ـ أنّ الكلالة هو الميت بعينه ، كما يقال رجل عقيم ورجل أمىّ.

السادس ـ أنّ الكلالة هم الورثة ، والورّاث الذين يحيطون بالميراث.

المسألة الثالثة ـ في التوجيه :

أما القول الأوّل والثاني والثالث فيعضده الاشتقاق الذي بينّاه في القول الثالث ، ويقرب منه توجيه الرابع ؛ لأنّ الأخ قريب جدّا حين جمعه مع أخيه صلب واحد وارتكضا في رحم واحدة ، [١٢١] والتقما من ثدي واحدة ، وقد قال الشاعر (١) :

فإنّ أبا المرء أحمى له

ومولى الكلالة لا يغضب

وأما من قال : إنه الميت نفسه فقد نزع بقول الشاعر (٢) :

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

ومن قال : إنهم المحيطون بالميراث نزع بأنّ العرب تقول : كلّله النسب : أحاط به ، ومنه سمّى التاج إكليلا ؛ لأنه يحيط بجوانب الرأس.

__________________

(١ ـ ٢) اللسان مادة (كلّ).


وقال أبو عبيدة : هو الذي لا والد له ولا ولد ، مأخوذ من تكلّله النسب ، أى أحاط به ؛ كأنه سماه بضدّه كالمفازة والسليم على أحد الأقوال.

المسألة الرابعة ـ في المختار : دعنا من ترتان ، وما لنا ولاختلاف اللغة وتتبّع الاشتقاق؟ ولسان العرب واسع ، ومعنى القرآن ظاهر ، وظاهر القرآن أنّ الكلالة من فقد أباه وابنه والزوجات وترك الإخوة ، [والدليل عليه أن الله تعالى ترك سهام الفرائض مع الآباء والأبناء والزوجات وترك الإخوة] (١) ؛ فجعل هذه آيتهم وجعلهم كلالة اسما موضوعا لغة بأحد معاني الكلالة مستعملا شرعا ، وكذلك ذكره في آخر السورة في آية الصيف (٢) سمّاه كلالة ، وذكر فريضة لا أب فيها ولا اين ، فتحقّقنا بذلك مراد الله عزّ وجلّ في الكلالة.

تبقى ها هنا نكتة تفطّن لها أبو عمرو ، وهي إلحاق فقد الأخ للعين أو لعلة بالكلالة ، لأنها نازلة الآية في سورة النساء الأولى ، وهي هذه ؛ وفي الآية الأخرى آية الصيف : الكلالة فقد الأب والابن ؛ فدلّ على أنّ الاشتقاق يقتضى ذلك كله ؛ ومطلق اللغة يقتضيه ؛ لأن القرآن جاء بها فاستعمله الشّرع في كل موضع قصدا لبيان الأحكام بحسب الأدلة والمصالح ، فهذا جريان الأمر على الاشتقاق وتصريف اللغة ، فأما اعتبار المعنى على رسم الفتوى ، وهي :

المسألة الخامسة ـ واختلف العلماء في المراد بالكلالة على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ قوما اختاروا أنّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ؛ وهو قول أبى بكر الصديق ، وإحدى الروايتين عن عمر.

الثاني ـ من لا ولد له وإن كان له أب أو إخوة.

الثالث ـ قول طريف لم يذكر في التقسيم الأول ؛ وهو أنّ الكلالة المال.

فأما من قال : إنه المال ، فلا وجه له. وأما من قال : إنه الذي ذهب طرفاه الأسفل فمشكل تحقيق القول فيه ؛ وذلك أنّ عمر أشكلت عليه هذه الآية حتى ألحف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيانها ؛ فقال له : ألا تكفيك آية الصيف ، يعنى الآية التي أنزلت في آخر النساء.

__________________

(١) من ل.

(٢) سيأتى أنها الآية التي في آخر النساء. وفي النهاية : آية الصيف أى الآية التي نزلت في الصيف.


وروى معدان بن أبى طلحة قال : خطب عمر بن الخطاب يوم الجمعة فقال : إنى لا أدع بعدي شيئا هو أهمّ عندي من الكلالة. وفي رواية : أهمّ عندي من الجد والكلالة ، وما راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال : يا عمر ؛ أما تكفيك آية الصيف ، يعنى الآية التي في آخر سورة النساء. قال : وإن أعش أقض فيها بقضية يقضى بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.

فإذا كان هذا أمرا وقف في وجه عمر فمتى يسفر لنا عنه وجه النظر؟

لكن الآن نرد في اقتحام هذا الوعر (١) بنيّة وعلم ، فنقول فيهما والله الموفق المنعم : إن الكلالة وإن كانت معروفة لغة متواردة على معان متماثلة ومتضادّة فعلينا أن نتبصّر مواردها في الشريعة فنقول :

وردت في آيتين : إحداهما هذه ، والأخرى التي في آخر سورة النساء كما تقدّم ، فأما هذه فهي التي لا ولد فيها ولا والد وفيها إخوة لأم. وأما التي في آخر سورة النساء فهي التي لا ولد ذكرا فيها ، وهم إخوة لأب وأم أو إخوة لأب أو أخوات لأب وأم وجدّ ، فجاءت هذه الآية لبيان حال الإخوة من الأم ، وجاءت في آخر سورة النساء لبيان إخوة الأعيان والعلّات حتى يقع البيان بجميع الأقسام ، ولو شاء ربك لجمعه وشرحه.

وكان عمر يطلب من النبىّ صلّى الله عليه وسلّم النصّ القاطع للعذر ، وهو عليه السلام يحمله على البيان الواقع مع الإطلاق الذي وكل فيه إلى الاجتهاد بالأخذ من اللغة ومقاطع القول ومرابط البيان ومفاصله.

وهذا نصّ في جواز الاجتهاد ، ونصّ في التكلّم بالرأى المستفاد عند النظر الصائب.

وإذا ثبت فيه النظر فإنّه يصحّ في ذلك أنّ معنى الكلالة من «كلّ» أى بعد ، ومن «تكلل» أى أحاط على معنيين :

أحدهما ـ أن يكون على معنى السلب (٢) ، كما يقال فاز في المفازة أى انتفى له الفوز.

والثاني ـ أن الإحاطة وجدت مع فقد السبب الذي يقتضى الإحاطة وهو قرب النسب.

__________________

(١) في ا : الوعد ، وهو تحريف.

(٢) يريد النفي.


المسألة السادسة ـ إنما قلنا : إنّ الكلالة في هذه الآية فقد الابن والأب ؛ لأن الإخوة للأم يحجبون بالجد ، وهم المرادون في الآية بالإخوة إجماعا ، ودخل فيها الجدّ الخارج عن الكلالة ؛ لأنه أصل النسب كالأب المتولّد عنه الابن.

وأما الآية التي في آخر سورة النساء فقد قال المحقّقون من علمائنا : إنّ الجدّ أيضا خارج عنها ؛ لأنّ الأخت مع الجدّ لا تأخذ نصفا ؛ إنما هي مقاسمة ، وكذلك الأخ مقاسم لها.

فإن قيل : فلم أخرجتم الجدّ عنها؟ قلنا : لأنّ الاشتقاق يقتضى خروجه عنها ؛ إذ حقيقة الكلالة ذهاب الطرفين ، وعليه مبنى اللغة ، وغير ذلك من الأقوال بعيد ضعيف.

وأفسدها قول من قال : إنه المال ، فإنه غير مسموع لغة ولا مقيس معنى.

الثاني ـ أنّ الجدّ يرث مع ذكور ولد المتوفّى في السدس ، والإخوة لا يرثون معهم ، فكيف يشارك من يسقط الإخوة كلهم ويكون كأحدهم.

ولهذه العلة قال حبر الأمة مالك بن أنس : إنّ امرأة لو ماتت وتركت زوجها وأمّها وإخوتها لأبيها وإخوتها لأمها وجدّها : إنّ النصف للزوج ، والسدس للأم فريضة ، وللجد ما بقي ؛ قال : لأنّ الجدّ يقول : لو لم أكن كان للإخوة للأم ما بقي ، ولا يأخذ الإخوة للأب شيئا ، فلما حجبت إخوة الأم عنه كنت أنا أحقّ به.

وقد روى عن مالك أنه جعل للجدّ السدس ، وللإخوة للأب السدس كهيئة المقاسمة ، وذلك محقّق في الفرائض.

المسألة السابعة ـ قوله : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) :

اتفق العلماء على أنّ التشريك يقتضى التسوية بين الذّكر والأنثى ؛ لأنّ مطلق اللفظ يدلّ عليه ، كما أنّ الآية التي في سورة النساء في آخرها ما يقتضى التعصيب ؛ ولذلك قلنا ـ في مسألة الزوج والأم والأخ من الأم والإخوة من الأب والأم : إنّ للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخ للأمّ السدس ، وللإخوة للأب والأم السدس بحكم التعصيب.

المسألة الثامنة ـ الأخوات عصبة للبنات ، وإذا ترك بنتا وأختا أو ابنتين وأختا فالنصف للابنة ، وللأخت ما بقي ، وهما ذواتا فرض ، لكن إذا اجتمعا سقط فرض الأخوات


وعاد سهمهنّ إلى التعصيب بقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن مسعود كما تقدّم.

وقال ابن عباس وابن الزبير : الابنة تسقط الأخت ؛ لأنّ الله تعالى يقول (١) : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) ، فتأخذ البنت النصف وما بقي للعصبة ، وقد سبق (٢) قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه ابن مسعود.

وفي البخاري أنّ معاذا قضى باليمن على عهد رسول الله [١٢٣] صلّى الله عليه وسلّم بأنّ للابنة النصف ، وللأخت النصف ؛ وبهذا الحديث رجع ابن الزبير عن قوله ؛ فصار فرض الأخت والأخوات بالنصّ إن لم يكن ولد ، وصار فرضهنّ التعصيب إن كان بنتا ، وسقطن بالذكر بظاهر القرآن ، فخصّت السنة برواية ابن مسعود عموم قوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ).

المسألة التاسعة ـ لو كان الورثة أخوين للأم أحدهما ابن عم ، أو ابنا عم أحدهما أخ لأم ؛ فأما الصورة الأولى فاتفق الناس فيها أنّ الثلث لهما بسبب الأم ، ويأخذ الثاني ما بقي من الميراث بالتعصيب.

وأما الثانية فاختلفوا فيها ؛ فقال الجمهور : لمن اجتمعت فيه القرابتان السدس بحكم الأمومة ، والباقي بينه وبين الآخر.

وقال عمر ، وابن مسعود : المال للأخ للأم ، وبه قال شريح والحسن وأبو ثور ، واحتجّوا بأنه ساواه في التعصيب ، وفضله بقرابة الأم ، فكان مقدّما عليه في التعصيب كالأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب.

ودليلنا أنّ الإخوة من الأم سبب يفرض به في السهام ، فلا يرجّح به في التعصيب ، كما لو كان زوجها ، وبهذا فارق الأخ الشقيق فإنه لا يفرض له بقرابة الأم.

فإن قيل : فقد فرضتم له في مسألة المشتركة.

قلنا : إنما يفرض فيها لولد الأم ، لا لولد الأب والأم ، ثم يدخل معهم فيه ولد الأب والأم.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ).

وذلك راجع إلى الوصية والدّين.

__________________

(١) النساء : ١٧٦

(٢) صفحة ٣٣٦


أما رجوعه إلى الوصية فبوجهين :

أحدهما ـ بأن يزيد على الثلث. الثاني ـ بأن يوصى لوارث فأما إن زاد على الثلث فإنه يردّ إلا أن يجيز الورثة ؛ لأنّ المنع لحقوقهم لا لحقّ الله.

وأما إن أوصى إلى وارث فإنّ الورثة يحاصّون (١) به أهل الوصايا في وصاياهم ، ويرجع ميراثا.

وقال أبو حنيفة والشافعى : تبطل ، ولا يقع به تحاصّ ، ونظرهما بيّن في إسقاط ما زاد على الثلث لبطلانه. ومطلع نظر مالك أعلى ؛ لأنا نتبيّن بوصيته للوارث مع سائر الوصايا أنه أراد تنقيص حظّ الوصايا وتخصيص وارثه ، فإن بطل أحد القصدين ، لأنّ الشرع لم يجوّزه ، لم يبطل الآخر ؛ لأن الشرع لم يمنع منه. وقد بيناه في مسائل الخلاف ، فيردّ ما أبطل الشرع ويمضى ما لم يعترض فيه.

وأما رجوع المضارّة إلى الدّين فبالإقرار في حالة لا يجوز فيها لشخص الإقرار له به ، كما لو أقرّ في مرضه لوارثه بدين أو لصديق ملاطف له ، فإنّ ذلك لا يجوز عندنا إذا تحققنا المضارّة بقوة التهمة ، أو غلب على ظننا.

وقال أبو حنيفة : يبطل الإقرار رأسا. وقال الشافعى : يصحّ.

ومطلع النظر أنّا لمحنا أنّ الموروث لما علم أنّ هبته لوارثه في هذه الحالة أو وصيّته له لا تجوز ، وقد فاته نفعه في حال الصحة عمد إلى الهبة فألقاها بصورة الإقرار لتجوّزها ؛ ويعضد هذه التهمة صورة القرابة وعادة الناس بقلة الديانة.

ومطلع نظر أبى حنيفة نحو منه ؛ لكنه ربط الأمر بصفة القرابة حين تعذّر عليه الوقوف على التهمة ، كما علقت رخص السفر بصورة السفر حين تعذّر الوقوف على تحرير المشقة ووجودها.

وراعى الشافعىّ في نظره أنّ هذه حالة إخبار عن حقّ واجب مضاف إلى سبب جائز في حالة يؤمن فيها الكافر ، ويتّقى فيها الفاجر ، ويتوب فيها العاصي ، فأمضاه عليهم ، وجوّزه.

فإن قال : الإقرار حجة شرعية فلا يؤثّر فيها المرض.

قلنا : وإن كان الإقرار حجّة شرعية [فإنّ الهبة صلة شرعية] (٢) ، ولكن حجرها المرض.

__________________

(١) حاصوا : اقتسموا حصصا (اللسان).

(٢) ليس في ل.


كذلك تحجر التهمة الإقرار (١) ، وكما ردّت التهمة الشهادة [١٢٤] أيضا.

وأما نظر أبى حنيفة إلى صورة القرابة ففيه إلغاء العلّة في غير محلها وقصر لها على موردها. وينبغي أن تطّرد العلة حيث وجدت ما لم يقف دونها دليل تخصيص ، فعلى هذا إذا وجدنا التهمة في غير القريب من صديق ملاطف حكمنا ببطلان الإقرار ، وكم من صديق ألصق من قريب وأحكم عقدة في المودّة.

(تكملة) ـ لما ذكر الله تعالى في هذه الآية فرائض السهام ، وبقيت بعد ذلك من الأموال بقية مسكوت عنها في كتاب الله عزّ وجلّ بيّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في الحديث الصحيح (٢) : ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقته الفرائض فلأولى عصبة ذكر؛ فلأجل ذلك قدم الأقعد في العصبة على الأبعد ، كالأخ من الأب والأم يقدم على الأخ للأب ، وابن الأخ من الأب والأم على ابن الأخ للأب ، ويقدم الأخ للأب على ابن الأخ للأب والأم ، هكذا أبدا.

(تخصيص) ـ قال الله سبحانه (٣) : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الفرائض إلى آخرها بسهامها ومستحقيها ، ثم ثبت في الصحيح المتفق عليه أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال (٤) : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. فخرج من هذا العموم توارث الكفّار والمسلمين ، فلا يرث كافر مسلما ، ولا يحجبه.

وقال ابن مسعود : هو ـ وإن كان لا يرث ـ فإنه يحجب ، وهذا ضعيف ؛ فإنّ المذكور في قوله (٥) : (وَلِأَبَوَيْهِ) هو المذكور في (٦) : (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) فكما أن قوله : (وَلِأَبَوَيْهِ) لم يدخل فيه الكفار ؛ كذلك قوله : (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) لا يدخل فيه الكافر.

تحقيقه أنّ الشريعة جعلته في باب الإرث وإن كان موجودا كالمعدوم ، كذلك في باب الحجب فإنه أحد حكمى الميراث ؛ فلا يؤثر فيه الكافر ، أو لا يتعلق بالكافر أصله الميراث ، والتعليل بالحجب معضّد لهذه الأقسام في الأبواب.

قال علماؤنا : الأسباب التي يستحقّ بها الميراث ثلاثة أسباب : نكاح ، ونسب ، وولاء.

فأما النكاح والنسب فهو نصّ القرآن ، وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة. يستحقّ

__________________

(١) في ل : والإقرار.

(٢) صحيح مسلم : ١٢٣٣

(٣) الآية ١١ من سورة النساء ، وقد تقدمت.

(٤) صحيح مسلم : ١٢٣٤


الميراث زائدا على هذا بالحلف والمعاقدة والاتحاد في الديوان.

وحقيقة المسألة في المذهب أنّ الميراث عندنا يستحقّ بأربعة معان : نكاح ، ونسب ، وولاء ، وإسلام ، ومعنى قولنا : «وإسلام» أنّ بيت المال عندنا وارث.

وقال أبو حنيفة : ليس بوارث. وقد حقّقناه في مسائل الخلاف ، وعوّل أبو حنيفة على قوله تعالى (١) : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، وهي آية نبيّنها في موضعها إن شاء الله تعالى.

فصل ـ لما قدر الله سبحانه الفرائض مقاديرها ، وقرّرها مقاريرها ، واستمرت على ذلك زمانا نزلت في خلافة عمر عارضة ، وهي ازدحام أرباب الفرائض على الفرائض ، وزيادة فروضهم على مقدار المال ، مثال ذلك امرأة تركت زوجها وأختها وأمها. قال ابن عباس : فلما ألقيت عند عمر ، وكان امرأ ورعا ، ودفع بعضهم بعضا قال : والله ما أدرى أيكم قدّم الله ولا أيكم أخّر ، فلا أجد ما هو أوسع من أن أقسّم عليكم هذا المال بالحصص ، فأدخل على كل ذي سهم ما دخل عليه من عول.

وقال ابن عباس : سبحان الله العظيم! إنّ الذي أحصى رمل عالج (٢) عددا ما جعل في المال نصفا ونصفا وثلثا ، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال ، فأين الثلث؟ فليجيئوا فلنضع أيدينا على الركن فلنبتهل.

قال زفر بن الحارث البصري : يا ابن عباس ؛ وأيهما قدّم الله؟ وأيهما أخّر؟ قال : كلّ فريضة لم يهبطها الله إلّا إلى فريضة ، فهي المقدّم ، وكلّ فرض إذا زال رجع إلى ما بقي فهو المؤخر.

قال القاضي : اجتمعت الأمة على ما قال عمر ، ولم يلتفت أحد إلى ما قال ابن عباس ؛ وذلك أنّ الورثة استووا [١٢٥] في سبب الاستحقاق ، وإن اختلفوا في قدره ، فأعطوا عند التضايق حكم الحصّة ، أصله الغرماء إذا ضاق مال الغريم عن حقوقهم ، فإنهم يتحاصّون بمقدار رءوس أموالهم في رأس مال الغريم.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٣٣

(٢) رملة بالبادية مسماة بهذا الاسم (ياقوت).


الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

قال القاضي : هذه معضلة في الآيات لم أجد من يعرفها ، ولعلّ الله أن يعين على علمها ، وفيها ثماني عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ اجتمعت الأمّة على أنّ هذه الآية ليست منسوخة ؛ لأن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه ، اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال ، وأما إذا كان الحكم ممدودا إلى غاية ، ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ ؛ لأنه كلام منتظم متصل لم يرفع ما بعده ما قبله ، ولا اعتراض عليه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (اللَّاتِي) هو جمع التي ؛ كلمة يخبر بها عن المؤنث خاصة ، كما أنّ قوله : «الذي» يخبر به عن المذكر خاصة ، وجمعه الذين ، وقد تحذف التاء فتقى الياء الساكنة فتجرى (٢) بحركتها ، قال سبحانه (٣) : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) ، فجاء باللغتين في القرآن ، وقد قال الشاعر المخزومي :

من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفّلا

المسألة الثالثة ـ قوله : (الْفاحِشَةَ) :

هي في اللغة عبارة عن كلّ فعل تعظم كراهيته في النفوس ، ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه ، وذلك مخصوص بشهوة الفرج إذا اقتضيت على الوجه الممنوع شرعا أو المجتنب عادة ، وذلك يكون في الزنا إجماعا ، وفي اللواط باختلاف.

والصحيح أنّ اللواط فاحشة ؛ لأنّ الله سبحانه سماه به على ما يأتى ذكره في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) :

يقال : أتيت مقصورا ؛ أى جئت ، وعبّر عن الفعل والعمل بالمجيء ؛ لأن المجيء إليه يكون ، وهذا من بديع الاستعارة.

__________________

(١) الآية الخامسة عشرة.

(٢) في م : فتحرك.

(٣) سورة الطلاق ، آية ٤


المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) :

اختلف الناس في ذلك ؛ فقال الأكثر من الصحابة : إنّ المراد بذلك الأزواج. وقال آخرون : المراد به الجنس من النساء ، وتعلّق من قال : إنهن الأزواج بقوله تعالى (١) : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ). وقوله (٢) : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ). وأراد الأزواج في الآيتين ، فكذلك في هذه الآية الثالثة ، وإذا كان إضافة زوجية فلا فائدة فيها إلا اعتبار الثيوبة ؛ قالوا : ولأنّ الله سبحانه ذكر عقوبتين : إحداهما أكبر من الأخرى ، وكانت الأكبر للثيب ، والأصغر للبكر.

والصحيح عندي أنه أراد جميع النساء ؛ لأنه مطلق اللفظ الذي يقتضى ذلك وعمومه ، فأما الذي تعلّقوا به من آية الإيلاء والظهار فإنما أوقفناه على الأزواج ؛ لأن الظّهار والإيلاء من أحكام النكاح ؛ ألا ترى أنّ الإيلاء لما كان مجرّدا عن النكاح بأن يحلف ألّا يطأ امرأة أجنبية فوطئها يحنث إذا وطئها إذا تزوّجها ، وإنما وقف على الأجل في الزوجة رفعا للضرر.

وأما قولهم : إنه ذكر عقوبتين فاقتضى أن يكون الأغلظ للأعظم والأقلّ للأصغر ، بناء منهم على أنّ الآيتين في النساء جميعا : إحداهما في الثيب ، والأخرى في البكر ، وهذا لا يصحّ ، وسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

وقد قال المحققون من علمائنا : إنّ الحكمة في قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) بيان حال المؤمنات ، كما قال تعالى (٣) : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يعنى من المؤمنين.

وقال تعالى (٤) : (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ويفيد ذلك أنّ الحاكم لا يحدّ الكافرة إذا زنت ، وذلك يأتى بيانه إن شاء الله تعالى [١٢٦].

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) :

وهذا حكم ثابت بإجماع من الأمة ، قال تعالى (٥) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ...) الآية.

فشرط غاية الشهادة في غاية المعصية لأعظم الحقوق حرمة ، وتعديد الشهود بأربعة

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٦

(٢) سورة المجادلة ، آية ٢

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٨٢

(٤) سورة الطلاق ، آية ٢

(٥) سورة النور ، آية ٤


حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ؛ روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال (١) : جاءت اليهود برجل وامرأة قد زنيا ، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : ائتوني بأعلم رجلين منكم ، فأتوه يا بنى صوريا ، فنشدهما الله كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال : فما يمنعكا أن ترجموهما؟ قالا : ذهب سلطاننا وكرهنا القتل. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشهود فجاءوا وشهدوا أنّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجمهما (٢).

المسألة السابعة ـ ولا بد أن يكون الشهود عدولا ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ شرط العدالة في البيوع والرجعة ، فهذا أعظم ، وهو بذلك أولى ، وهو من باب حمل المطلق على المقيّد بالدليل ، حسبما بينّاه في أصول الفقه.

المسألة الثامنة ـ ولا يكونوا ذمة ، وإن كان الحكم على (٣) ذمة ، وسيأتى ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة ـ فإن قيل : أليس القتل أعظم حرمة من الزنا؟ وقد ثبت في الشرع بشاهدين ، فما هذا؟

قال علماؤنا : في ذلك حكمة بديعة ، وهو أنّ الحكمة الإلهية والإيالة الربانية اقتضت الستر في الزنا بكثرة (٤) الشهود ؛ ليكون أبلغ في الستر ، وجعل ثبوت القتل بشاهدين ، بل بلوث وقسامة (٥) صيانة للدماء.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (مِنْكُمْ) : المراد به ها هنا الذكور دون الإناث ، لأنه سبحانه ذكر أولا (مِنْ نِسائِكُمْ) ، ثم قال : (مِنْكُمْ) ، فاقتضى ذلك أن يكون الشاهد غير المشهود عليه ، ولا خلاف في ذلك بين الأمّة.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا).

__________________

(١) ابن ماجة : ٨٥٤ ، صحيح مسلم : ١٣٢٦

(٢) في ا : فرجمها.

(٣) في ل : في.

(٤) في ا : بتكثر.

(٥) في النهاية : اللوث : هو أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت ؛ يقول : إن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد منه أو نحو ذلك. والقسامة : اليمين كالقسم ، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلا بين قوم ولم يعرفوا قاتله ، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينا.


المعنى فاطلبوا عليهنّ الشهداء ، فإن شهدوا. وليس هذا بأمر وجوب لطلب الشهادة ، وإنما هو أمر تعليم كيف يكون الحكم بالشهادة ، وصفة الشهادة التي يشهد بها الشاهد ما ورد في الحديث (١) من شأن ماعز بن مالك الأسلمى على ما رواه أبو داود والنسائي عن أبى هريرة ـ أنّ رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات ، كلّ ذلك يعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فأقبل عليه في الخامسة ، فقال : أسكتها؟ قال نعم. قال : حتى غاب ذلك منك فيها؟ قال : نعم. قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال : نعم. قال : هل تدرى ما الزنا؟ قال : نعم. قال : أتيت منها حراما مثل ما يأتى الرجل من أهله حلالا؟ قال : نعم. قال : فما تريد منى بهذا القول؟ قال : أريد أن تطهّرنى ، فأمر به فرجم.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ).

أمر الله تعالى بإمساكهنّ في البيوت وحبسهنّ فيها في صدر الإسلام قبل أن تكثر الجناة ، فلما كثر الجناة وخشي فوتهم (٢) اتّخذ لهم سجن.

واختلف في هذا السجن ، هل هو حدّ أو توعّد بالحدّ على قولين :

أحدهما ـ أنه توعّد بالحد. والثاني ـ أنه حد. قال ابن عباس والحسن : زاد ابن زيد أنهم منعوا من النكاح [١٢٧] حتى يموتوا. يعنى عقوبة لهم حيث طلبوا النكاح من غير وجهه. ثم نسخ ذلك بالحدّ.

وقال ابن عباس : أنزل الله سبحانه بعد ذلك (٣) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ؛ فمن كان محصنا رجم ، ومن كان بكرا جلد.

والصحيح أنه حدّ جعله الله عقوبة ممدودة إلى غاية مؤذنة (٤) بأخرى هي النهاية.

وإنما قلنا : إنه حدّ ، لأنه إيذاء ، وإيلام ، ومن الناس (٥) من يرى أنه أشدّ من الجلد ، وكلّ إيذاء وإيلام حدّ ، لأنه منع وزجر.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٢٢

(٢) في ا : فوتهن.

(٣) سورة النور ، آية ٢

(٤) في ل : مردفة.

(٥) في ل : بل من الناس.


وإنما قلنا : إنه ممدود إلى غاية إبطالا لقول من رأى من المتقدمين والمتأخرين : إنه نسخ. وقد تقدم بيانه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

روى مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال (١) : خذوا عنّى ، قد جعل الله لهنّ سبيلا (٢) ، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرّجم.

وروى مسلم أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أنزل عليه الوحى كرب لذلك واربدّ (٣) ، فأنزل الله عليه ذات يوم فلقى كذلك (٤) ، فلما سرّى عنه قال : قد جعل الله لهنّ سبيلا ، الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر ، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ونفى سنة.

وروى مسلم في بعض طرقه : البكر تجلد وتنفى ، والثيب تجلد وترجم.

فبيّن صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أحوال : بكر تزنى ببكر ، وثيّب تزنى بثيب. الثالث بكر تزنى بثيب ، أو ثيب تزنى ببكر ، لقوله : البكر تجلد وتنفى ، والثيب ترجم.

المسألة الرابعة عشرة ـ البكر يجلد ويغرب ، وبه قال الشافعى وأحمد.

وقال أبو حنيفة وحماد : لا يقضى بالنفي حدّا إلا أن يراه الحاكم [تعزيرا] (٥) ، واحتجّا بقوله تعالى (٦) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، ولم يذكر تغريبا ، والزيادة على النص نسخ.

قلنا : لا نسلّم أنّ الزيادة على النص نسخ ، وقد بيناه في غير موضع.

جواب ثان : قد رددتم البينة بخبر لا يصحّ على الماء والتراب (٧).

جواب ثالث : وذلك أنّ الله تعالى ذكر الجلد ، ولم يذكر الرّجم ، وهو زيادة عليه.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣١٦

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً.) فبين النبي أن هذا هو السبيل.

(٣) في صحيح مسلم (١٣١٧) : وتريد وجهه.

(٤) في ا : فلقى ذلك. والمثبت من صحيح مسلم.

(٥) ليس في ل.

(٦) سورة النور ، آية ٢

(٧) هكذا في الأصول.


جواب رابع : وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى لم يذكر الإحصان ولا الحرية ، فتبيّن أنّ المقصود من الآية بيان جنس الحدّ ، والفرق بين المحصن وغير المحصن.

المسألة الخامسة عشرة ـ المرأة لا تغرّب خلافا للشافعي وغيره حين تعلّقوا بعموم الحديث ، والمعنى يخصّه ؛ فإنّ المرأة تحتاج من الصيانة والحفظ والقصر عن الخروج والتبرز اللذين يذهبان بالعفة إلى ما لا يحتاج إليه الرجل.

المسألة السادسة عشرة ـ العبد لا يغرّب خلافا للشافعي حيث يقول بعموم الخبر ، ويخصّه قوله صلّى الله عليه وسلّم (١) : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ، ثم إن زنت فليجلدها ، ثم قال في الثالثة أو الرابعة فليبعها ، ولو بضفير (٢). فكرّر ذكر الجلد ، ولم يذكر التغريب ، ولو كان واجبا لكرّره أو ذكره.

وأيضا فإنّ المعنى يخصّه ؛ لأنّ المقصود من تغريب الحرّ إيذاؤه بالحيلولة له بينه وبين أهله ، والإهانة له ؛ ولا يتصوّر ذلك في العبد.

المسألة السابعة عشرة ـ في أصل التغريب ، وهو أنه أجمع رأى خيار بنى إسماعيل على أنّ من أحدث في الحرم حدثا غرّب منه ، وكان ذلك مما بيّنه لهم أوّلهم ، فصارت سنّة لهم فيه يدينون بها ، فلأجل ذلك استنّ الناس إذا أحدث أحد حدث غرّب عن بلده ؛ وتمادى ذلك إلى الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصة ؛ لأنّ المظالم يمكن كفّ الظالم عنها جهرا ، فلا يقدر عليها سرّا ، والزنا ليس الكفّ عنه بكامل حتى يغرّب عن موضعه ، فلا تكون [١٢٨] له حيلة في السر يتوصّل بها إلى العودة إليه أو إلى مثله.

المسألة الثامنة عشرة ـ لا يجمع بين الجلد والرّجم خلافا لأحمد وغيره ، ومتعلّقهم بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفعل علىّ ذلك (٣) أيام خلافته.

وقولنا أصحّ ؛ لأنّ كلّ من رجمه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجلده ، فتركه له عليه السلام فعلا في كل من رجم ، وقولا في

قوله في حديث العسيف : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ـ مسقط (٤) له.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٢٩

(٢) الضفير : الحبل (صحيح مسلم).

(٣) في ل : لذلك.

(٤) خبر فتركه.


الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن الإذاية في الأبكار (٢) ، قاله قتادة والسدى وابن زيد.

الثاني ـ أنها عامّة في الرجال والنساء.

الثالث ـ أنها عامة في أبكار الرجال وثيّبهم ، قاله مجاهد ؛ واحتجّ بأنّ لفظ الآية الأولى مؤنّث ؛ فاقتضى النساء ؛ وهذا لفظ مذكر ، فاقتضى الرجال.

وردّ عليه الطبري وأبو عبد الله النحوي وغيرهما وقالوا : إنّ لفظ الآية الثانية يصلح للذكر والأنثى.

قال ابن العربي : والصواب مع مجاهد ؛ وبيانه أنّ الآية الأولى نصّ في النساء بمقتضى التأنيث والتصريح باسمهنّ المخصوص لهنّ ، فلا سبيل لدخول الرجال فيه ، ولفظ الثانية يحتمل الرجال والنساء ، وكان يصحّ دخول النساء معهم فيها لو لا أنّ حكم النساء تقدّم ، والآية الثانية لو استقلّت لكانت حكما آخر معارضا له ، فينظر (٣) فيه ، ولكن لما جاءت منوطة بها ، مرتبطة معها ، محالة بالضمير عليها فقال : (يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) علم أنه أراد الرجال ضرورة. وإذا ثبت هذا قلنا ـ وهي :

المسألة الثانية ـ إن قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) عامّ في البكر والثيب ، فاقتضى مساق الآيتين أنّ الله تعالى جعل في زنا النساء عقوبة الإمساك في البيوت ، وجعل في زنا الرجال على الإطلاق فيهما جميعا الإيذاء ، فاحتمل وهي :

المسألة الثالثة ـ أن يكون الإيذاء الذي جعل الله عقوبة لهم [عقوبة] (٤) دون الإمساك ، واحتمل الإيذاء والإمساك حملا على النساء ، والأول أظهر. وإذا ثبت هذا فهاهنا نكتة حسنة وهي :

المسألة الرابعة ـ أنّ الجلد بالآية والرّجم بالحديث نسخ هذا الإيذاء في الرجال ؛ لأنه لم

__________________

(١) الآية السادسة عشرة.

(٢) في ا : هي الإنكار ، وهو تحريف.

(٣) في ا : فلينظر.

(٤) من ل.


يكن ممدودا إلى غاية ، وقد حصل التعارض ؛ وعلم التاريخ ، ولم يمكن الجمع ، فوجب القضاء بالنسخ ؛ وأما الجلد فقرآن نسخ قرآنا ، وأما الرجم فخبر متواتر نسخ قرآنا ، ولا خلاف فيه بين المحققين ، وقد بيناه في أصول الفقه ، وأوعبنا القول في القسم الثاني قبل هذا فيه.

الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

فيه تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

وفي ذلك أقوال : الأوّل ـ قال ابن عباس (٢) : كان الرجل في الجاهلية إذا مات كان أولياؤه أحقّ بزوجته من وليّها ، يتزوجها (٣) أو ينكحها لغيره ، وربما ألقى أحد من أوليائه عليها ثوبا ، فكان أولى بها ، حتى مات ابن (٤) عامر ، فأنزل الله سبحانه وتعالى الآية ، ونحوه عن زيد بن أسلم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ).

القول في العضل قد تقدّم (٥) في سورة البقرة ؛ قيل فيها أمروا بتخلية سبيلهنّ إذا لم يرثوهنّ.

وقيل : هذا خطاب للجاهلية الذين كانوا يمنع الرجل [منهم] (٦) امرأة أبيه أن تتزوج حتى تموت فيرثها ؛ رواه ابن وهب عن مالك.

المسألة الثالثة ـ قوله [١٢٩] تعالى : (ما آتَيْتُمُوهُنَ).

قيل : هو خطاب للأزواج إذا لم يتّفقوا مع أزواجهنّ ، نهوا أن يمسكوهنّ على غير عشرة جميلة حتى يأخذوا ما أعطوهنّ.

وقيل : هو خطاب للأزواج كما تقدم. والجاهلية نهوا أن يمنعوا النساء من النكاح ،

__________________

(١) الآية التاسعة عشرة.

(٢) ابن كثير : ١ ـ ٤٦٥ ، وأسباب النزول : ٨٤

(٣) في ل : فليتزوجها.

(٤) في أسباب النزول : فتوفى أبو الأصلت ...

(٥) صفحة ٢٠١

(٦) من م.


لمن أردن (١) إذا مات أزواجهن ، ولا يحبسوهن ليرثوا منهنّ ما ورثوا من مورثهم ، عبّر عن ذلك بقوله تعالى : (آتَيْتُمُوهُنَ) ، لأنه إعطاء في الحقيقة على وجه الميراث ، وهم يريدون أن يأخذوه على وجه الغصب ميراثا أيضا.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

وفي ذلك أربعة أقوال :

الأول ـ قيل : الفاحشة الزنا. الثاني ـ قيل النشوز.

الثالث ـ قال عطاء : كان الرجل من الجاهلية إذا زنت امرأته أخذ جميع مالها الذي ساقه لها ، ثم نسخ الله سبحانه ذلك بالحدود.

الرابع ـ قيل إنه كان في الزنا ثلاثة وجوه ، قيل لهم : لا تقربوا الزنا ... الآية ، ثم قيل لهم (٢) : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) ، فجاز له عضلها عن حقها وأخذ مالها. ثم نزلت (٣) : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) ، فهذا البكران.

المسألة الخامسة ـ في تحقيق ما تقدّم من الأقوال.

أما من قال إنه الزنا والنشوز فقد بينا (٤) أحكام جواز الخلع وأخذ مال المرأة في سورة البقرة.

وأما قول عطاء فمحتمل صحيح تتناوله الآية ، لكن لا يقال في مثل هذا إنه نسخ ، وإن كان في التحقيق نسخا ؛ لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نسخ الباطل ، ولكنّ اللفظ مجمل ينطلق عليه ، وشرط يرتبط به معلوم عند العلماء مبيّن في موضعه.

وأما من قال : كان في الزنا ثلاثة أنحاء فتحكّم محض ، ونقل لم يصح ، وتقدير يفتقر إلى نقل ثابت ، ولم يكن ، فلا معنى للاشتغال به.

المسألة السادسة ـ في تقدير الآية على الصحيح من الأقوال :

وهو أنّ المعنى لا يحلّ لرجل أن يحبس امرأة كرها حتى يأخذ مالها إذا ماتت كانت غير زوجة أو زوجة قد سقط غرضه فيها ، وسقطت عشرته الجميلة معها ، ولا يحلّ عضلها عن النكاح لغيرهم حتى يأخذ الزوج ما أعطاها صداقا ، أو ليأخذ الغاصب ما كان أخذ من

__________________

(١) في ا : من أردن.

(٢) هي الآية الخامسة عشرة. وقد سبقت في صفحة : ٣٥٤

(٣) الآية السادسة عشرة ، وهي السابقة لهذه الآية في صفحة : ٣٦٠

(٤) صفحة ١٩٤


مال مورثه ؛ إلّا أن يكون منهن ذنب بزنا أو نشوز لا تحسن معه عشرة ، فجائز عند ذلك أن يتمسّك بنكاحها حتى يأخذ منها مالا ، فأول الآية عامّ في الأزواج وغيرهم ؛ وآخرها عند الاستثناء مخصوص بالأزواج.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وقد تقدم ذلك (١) في سورة البقرة.

وحقيقة (ع ش ر) (٢) في العربية الكمال والتمام ، ومنه العشيرة ، فإنه بذلك كمل أمرهم وصحّ استبدادهم عن غيرهم.

وعشرة تمام العقد في العدد ، ويعشّر (٣) المال لكماله نصابا.

فأمر الله سبحانه الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أدمة (٤) ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال ، فإنه أهدأ للنفس ، وأقرّ للعين ، وأهنأ للعيش ، وهذا واجب على الزوج ، ولا يلزمه ذلك في القضاء إلّا أن يجرى الناس في ذلك على سوء عادتهم فيشترطونه ويربطونه بيمين ، ومن سقوط العشرة تنشأ المخالعة ، وبها يقع الشقاق ، فيصير الزوج في شقّ ، وهو سبب الخلع على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [١٣٠].

المعنى : إن وجد الرجل في زوجته كراهية ، وعنها رغبة ، ومنها نفرة من غير فاحشة ولا نشوز فليصبر على أذاها وقلة إنصافها ، فربما كان ذلك خيرا له.

أخبرنى أبو القاسم بن أبى حبيب بالمهدية ، عن أبى القاسم السيوري ، عن أبى بكر بن عبد الرحمن ، قال : كان الشيخ أبو محمد بن أبى زيد من العلم والدين في المنزلة المعروفة ، وكانت له زوجة سيئة العشرة ، وكانت تقصّر في حقوقه ، وتؤذيه بلسانها ، فيقال له في أمرها فيسدل (٥) بالصّبر عليها ، وكان يقول : أنا رجل قد أكمل الله علىّ النعمة في صحّة بدني ومعرفتي ، وما ملكت يميني ، فلعلها بعثت عقوبة على ديني ، فأخاف إذا فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشدّ منها.

__________________

(١) صفحة ١٩٩

(٢) في ا : حقيقة وشرعا وفي العربية ، وهو تحريف

(٣) عشر المال ، وعشره : أخذ عشره.

(٤) الأدمة : القرابة والوسيلة والخلطة (اللسان ـ أدم).

(٥) في ل : ويعدل.


المسألة التاسعة ـ قال علماؤنا : في هذا دليل على كراهية الطلاق ، وقد تقدم ذكره قبل هذا.

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ لما أباح الله الفراق للأزواج والانتقال بالنكاح من امرأة إلى امرأة أخبر عن دينه القويم وصراطه المستقيم في توفية حقوقهن إليهن عند فراقهن ؛ فوطأة واحدة حلالا تقاوم مال الدنيا كلّه ، نهى الأزواج عن أن يعترضوهنّ في صدقاتهن ، إذ قد وجب ذلك لهنّ وصار مالا من أموالهنّ.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فيه جواز كثرة الصداق ، وإن كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يقللونه. وقد قال عمر بن الخطاب على المنبر : ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ ما أصدق قطّ امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا أنت؟ أليس الله سبحانه يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)؟ فقال عمر : امرأة أصابت وأمير أخطأ.

وفي الرواية المشهورة عنه مثله إلى قوله اثنتي عشرة أوقية ، زاد : فإنّ الرجل يغلى بالمرأة في صداقها ، فتكون (٢) حسرة في صدره فيقول : كلفت إليك عرق القربة. قال : فكنت غلاما مولودا لم أدر ما هذا ؛ قال : وأخرى يقولون لمن قتل في مغازيكم هذه : قتل فلان شهيدا أو مات فلان شهيدا ، ولعله أن يكون خرج وأفرد (٣) دون راحلته أو أعجزها بطلب النجاة ، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من قتل في سبيل الله أو مات فله الجنة.

وهذا لم يقله عمر على طريق التحريم ، وإنما أراد به الندب إلى التعليم ؛ وقد تناهى

__________________

(١) الآية العشرون.

(٢) في ا : خبيرة ، وهو تحريف.

(٣) في ا : وأوقر دفء راحلته أو أعجزها بصلب التجارة. ونراه تحريفا. والمثبت من ل.


الناس في الصدقات حتى بلغ صداق امرأة ألف ألف ، وهذا قلّ أن يوجد من حلال.

وقد سئل عطاء عن رجل غالى في صداق امرأة أيردّه السلطان؟ قال : لا.

وقد روى عن عمر أنه خطب إلى علىّ أم كلثوم ابنته من فاطمة ، فقال : إنها صغيرة ، فقال عمر : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : إن كلّ نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلّا نسبي وصهري ، فلذلك رغبت في مثل هذا. فقال على : إنى أرسلها حتى تنظر إلى صغرها ، فأرسلها فجاءت ، فقالت : إن أبى يقول : هل رضيت الحلّة؟ فقال عمر : قد رضيتها. فأنكحها علىّ فأصدقها أربعين ألف درهم.

وقد روى أنّ صداق النبي صلّى الله عليه وسلّم لأم حبيبة كان أربعمائة دينار ، وروى ثمانمائة دينار.

وروى عن عقبة بن عامر (١) أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم [١٣١] قال : خير النكاح أيسره. وقال لرجل : أترضى أن أزوّجك فلانة؟ قال : نعم. وقال للمرأة : أترضين أن أزوّجك فلانا؟ قالت : نعم. فزوّجها فدخل عليها فلم يكتب لها صداقا ولا أعطاها شيئا ، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ، فلما حضرته الوفاة قال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زوّجنى فلانة ، فلم أعيّن لها صداقا ، ولم أعطها شيئا ، وإنى أعطيها من صداقها سهمي بخيبر ، فأخذت سهمه ذلك فباعته بمائة ألف.

وزوج عروة البارقي بنت هانئ بن قبيصة على أربعين ألف درهم.

وعن غيلان بن جرير أنّ مطرّقا تزوّج امرأة على عشرة آلاف أوقية.

وقد ثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف تزوّج امرأة بنواة من ذهب ، يقال هي خمسة دراهم. وزوّج النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة بخاتم من حديد.

وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلا تزوّج امرأة على نعلين ، فقال لها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : أرضيت عن مالك بهاتين النعلين؟ قالت : نعم ، فأجازه النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطا جاز.

وقال إبراهيم : يستحبّ في الصداق الرطل من الذهب ، وكانوا يكرهون أن يكون سهم الحرائر مثل أجور البغايا : الدرهم والدرهمين ، ويحبّون أن يكون عشرين درهما ، وشيء من

__________________

(١) في م : بن عمران.


هذا لم يصحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن غيره ، خلاف حديث عبد الرحمن بن عوف وخاتم الحديد ، وسيأتى تقدير المهر بعد هذا إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ قوله سبحانه : (قِنْطاراً).

قال علماؤنا : اختلف في القنطار على عشرة أقوال :

الأول ـ أنه اثنا عشر ألف درهم ؛ روى عن الحسن وابن عباس.

الثاني ـ أنه ألف ومائتا دينار ؛ قاله الحسن. وهو الأولى للصواب (١).

الثالث ـ أنه دية أحدكم ؛ روى عن ابن عباس.

الرابع ـ أنه ألف ومائتا أوقية ؛ روى عن أبى هريرة.

الخامس ـ أنه اثنا عشر ألف أوقية ؛ قاله أبو هريرة أيضا.

السادس ـ أنه ثمانون ألف درهم ؛ روى عن ابن عباس وابن المسيّب.

السابع ـ أنه مائة رطل ؛ قاله قتادة.

الثامن ـ أنه سبعون ألف دينار ؛ قاله مجاهد.

التاسع ـ قال أبو سعيد الخدري : وهو ملء مسك ثور (٢) من ذهب.

العاشر ـ أنه المال الكثير من غير تحديد.

المسألة الرابعة ـ هذه الأقوال كلها تحكّم في الأكثر ، وقد روى بعضها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ، ولا يصحّ في هذا الباب شيء.

والذي يصحّ في ذلك أنه المال الكثير الوزن ، هذا عرفي (٣) عربي ، أما أنّ الناس لهم في القنطار عرف معتاد ، وهو أنّ القنطار أربعة أرباع ، والربع ثلاثون رطلا ، والرطل اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية ستة عشر درهما ، والدرهم ست وثلاثون حبّة ، وهي ستة دوانيق ، فما زاد أو نقص فبحسب اتّفاقهم أو بحكم الولاة ، وقد ردّوا الدرهم من سبعة ، والأصل أنه من ستّة دوانيقى ، وركبوا الدرهم الأكبر من ثمانية دوانيق على الدرهم الأصغر ، وهو

__________________

(١) في ا : للصرف.

(٢) في الأصول تور. والتور : قدح كبير كالقدر يتخذ تارة من الحجارة وتارة من النحاس وغيره (صحيح مسلم). والمثبت في ابن كثير صفحة ٣٥٢ ، وهناك تفسير طويل لكلمة (بِقِنْطارٍ) ، وهو الموافق لكلمة مسك ، فالمسك : الجلد.

(٣) هكذا في كل الأصول ، ولعلها عرف. وفي ل : الورق بدل الوزن.


أربعة دوانيق ، فحملت بنو أمية زيادة الأكبر على نقصان الأصغر ، فجعلوهما درهمين متساويين ، كلّ واحد منهما ستة دوانيق ، وجعلوا الدينار درهمين ، وذلك أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط ثلاث حبات.

وقد روى شريك عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علىّ بن أبى طالب ؛ قال : زوّجنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة على أربعمائة وثمانين درهما بوزن ستة ؛ وهذا ضعيف ، إنما زوّجه إياها في الصحيح على درعه الحطمية (١).

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

فيه ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (أَفْضى) أفعل من الفضاء [١٣٢] ، وهو كلّ موضع خال ، فقال : وكيف تأخذونه ، وقد كانت الخلوة بينكم وبينهن؟ وهذا دليل على وجوب المهر بالخلوة ، وقد بيّنا ذلك (٣) في سورة البقرة ومسائل الخلاف.

ولمالك في ذلك ثلاث روايات : إحداهنّ يستقر المهر بالخلوة. الثاني لا يستقر إلّا بالوطء. الثالث يستقرّ بالخلوة في بيت الإهداء. والأصحّ استقراره بالخلوة مطلقا ، ويليه في بيت الإهداء.

وأما وقوفه على الوطء فضعيف.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

فيه قولان :

الأول ـ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما قوله (٤) : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

الثاني ـ كلمة النكاح ؛ قاله مجاهد ، وهي قوله : «نكحت». وعن محمد بن كعب نحوه. وقد ثبت عن جابر بن عبد الله عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : اتّقوا الله في

__________________

(١) الحطميات من الدروع : منسوبة إلى حطمة بن محارب ، وقد كان يعمل الدروع. أو هي التي تكسر السيوف ، أو الثقيلة العريضة (القاموس).

(٢) الآية الواحدة والعشرون.

(٣) صفحة ٢١٨

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٢٩


النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله. وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة (١).

المسألة الثالثة ـ قال بكر بن عبد الله المزني : لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا لقوله : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ...) إلى قوله : (مِيثاقاً غَلِيظاً).

قال ابن زيد : رخص بعد ذلك فقال : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، فنسخ ذلك.

قال الطبري : بل هي محكمة. ولا معنى لقول بكر إن أرادت هي العطاء ؛ فقد جوّز النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها وصدق إنما يكون النسخ عند تعذّر الجمع والجمع ممكن ، وبه يتمّ البيان ، وتستمرّ في سبلها الأحكام.

الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً).

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ قد بينا في غير موضع أنّ النكاح أصله الضمّ والجمع ، فتجتمع الأقوال في الانعقاد والربط كما تجتمع الأفعال في الاتصال والضمّ ، لكنّ العرب على (٣) عادتها خصّصت اسم النكاح ببعض أحوال الجمع وبعض محالّه ، وما تعلق بالنساء ، واقتضى تعاطى اللذة فيها ، واستيفاء الوطر منها ، وعلى ذلك من المعنيين جاءت الآثار والآيات.

المسألة الثانية ـ قوله : (ما نَكَحَ) :

اختلف العلماء في كلمة «ما» هل يخبر بها عما يعقل أم لا؟ وقد بينا في رسالة ملجئة المتفقهين أنّ ذلك مستعمل في اللغة شائع فيها ، وفي الشريعة.

وجهل المفسّرون هذا المقدار ، واختلفت عباراتهم في ذلك ، فقالت طائفة : المعنى ولا تنكحوا نكاح آبائكم (٤) ، يعنى النكاح الفاسد المخالف لدين الله ؛ إذ الله سبحانه قد أحكم وجه النكاح ، وفصّل شروطه.

والمعنى الصحيح : ولا تنكحوا نساء آبائكم ، ولا تكون «ما» هنا بمعنى المصدر ؛

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٩

(٢) الآية الثانية والعشرون.

(٣) في ا : في.

(٤) في ل : ما نكح آباؤكم.


لاتصالها بالفعل ، وإنما هي بمعنى الذي ، وبمعنى من ، والدليل عليه أمران :

أحدهما ـ أنّ الصحابة إنما تلقّت الآية على هذا المعنى ، ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء.

الثاني ـ أنّ قوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) تعقب النهى بالذم البالغ المتتابع (١) ؛ وهذا دليل على أنه انتهاء من القبح إلى الغاية ، وذلك هو خلف الأبناء على حلائل الآباء ؛ إذ كانوا في الجاهلية يستقبحونه ويستهجنون فاعله ويسمّونه المقتى ؛ نسبوه إلى المقت.

فأما النكاح الفاسد فلم يكن عندهم ولا يبلغ إلى هذا الحد.

المسألة الثالثة ـ [١٣٣] روى عن الحسن وقتادة أنهما قالا : ثلاث آيات مبهمات : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) ، و (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ، و (أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ).

وقد بينا أنّ هذه الآية ليست مبهمة ، وإنما النهى يتناول العقد والوطء ، فلا يجوز للابن أن يتزوّج امرأة عقد عليها أبوه أو وطئها لاحتمال اللفظ عليهما معا.

وقد بينا ذلك في أصول الفقه وفيما تقدم.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ).

يعنى من فعل الأعراب في الجاهلية ؛ فإن بعضهم كانت الحمية تغلب عليه ، فيكره أن يعمر فراش أبيه غيره ، فيعلو هو عليه ، ومنهم من كان يستمرّ على العادة وهو الأكثر ، فعطف الله تعالى بالعفو عما مضى.

المسألة الخامسة ـ قال علماؤنا : هو استثناء منقطع ، وصدقوا ؛ [فإنه] (٢) ليس بإباحة المحظور ، وإنما هو خبر عن عفو سحب ذيله عما مضى من عملهم القبيح ؛ فصار تقديره إلّا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين [به] (٣).

المسألة السادسة ـ قال علماؤنا : معنى قوله : (كانَ) أنه صفة للمقت والفحش ، دليله القطع : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، وهو يكون كذلك ، وإنما أخبر عن صفته التي هو كائن

__________________

(١) في ل : الشائع.

(٢) من ل.


عليها ، كذلك فسر هذا كله الحبر والبحر رضى الله عنه.

وقد وهم القاضي أبو إسحاق والمبرد فقالا : إنّ (كانَ) زائدة هنا ، وإنما المعنى في زيادتها كما قال الشاعر :

فكيف إذا مررت بدار قوم

وجيران لنا كانوا كرام

وهذا جهل عظيم باللغة والشعر ؛ بل لا يجوز زيادة [كان] (١) هاهنا ، وإنما المعنى وجيران كرام كانوا لنا مجاورين ، فأبادهم الزمان وانقطع عنهم ما كان ، وقد بسطنا القول في ملجئة المتفقهين ، وذكرنا من قالها قبلهما وبعدهما ، واستوفينا القول في ذلك.

المسألة السابعة ـ إذا نكح الأب والابن نكاحا فاسدا حرم على كل واحد منهما من (٢) انعقد لصاحبه عقد فاسد عليه من النساء ، كما يحرم بالصحيح.

وتحقيقه أنّ النكاح الفاسد لا يخلو أن يكون متّفقا على فساده أو مختلفا فيه ؛ فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما ولا تحريما ، وكان وجوده كعدمه ، وإن كان مختلفا فيه تعلّق به إلى الحرمة ما يتعلّق بالصحيح ، لاحتمال أن يكون نكاحا ، فيدخل تحت مطلق اللفظ ؛ والفروج إذا تعارض فيها التحليل والتحريم غلّب التحريم ، والله أعلم.

المسألة الثامنة ـ إذا لمسها الأب أو الابن فإنّ ذلك عندنا في التحريم كالوطء.

وقد اختلف الناس في ذلك ؛ هل يتعلّق باللمس من التحريم ما يتعلّق بالوطء على قولين ؛ فعندنا وعند أبى حنيفة هو مثله ؛ وتفصيل بيانه في المسائل.

وقد قال الشافعى : لا يتعلّق باللمس ما يتعلّق بالوطء ؛ لأنّ النكاح اسم مختصّ بالجماع أو العقد ؛ وليس ينطلق على المباشرة لغة ولا حقيقة.

وهذا فاسد ؛ فإنّا قد بينا أنّ النكاح هو الاجتماع ، وإذا قبّل أو عانق فقد وجد المعنى من اللفظ حقيقة ، فوجب إطلاقه عليه.

فإن قيل النكاح في عرف الشرع عبارة عن العقد.

قلنا : لا نسلّم ذلك ، بل هما سواء ، يتصرّف المعنى فيهما تحت اللفظ في كل موضع بحسب أدلّته واحتمالاته ، وانتظام المعنى والحكم معه.

__________________

(١) من ل.

(٢) في ل : ما.


المسألة التاسعة ـ إذا نظر إليها بلذّة هو وأبوه حرمت عليهما عندنا ؛ نصّ عليه (١) مالك في كتاب محمد ؛ لأنه استمتاع ، فجرى مجرى النكاح في التحريم ؛ إذ الأحكام إنما تتعلّق بالمعاني لا بالألفاظ.

وقد يحتمل أن يقال : إنه من الاجتماع بالاستمتاع ؛ فإنّ النظر اجتماع ولقاء ، وفيه بين المحبين استمتاع. وقد بالغ في ذلك الشعراء [١٢٣] فقالوا :

أليس الليل يجمع أمّ عمرو

وإيانا ، فذاك بنا تدان

نعم وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النهار كما علاني

فكيف بالنظر والمجالسة واللذة؟ وهذا بيّن.

الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

فيها ثلاث عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ).

قد بيّنا ـ بيّن الله لكم وبلّغكم في العلم أملكم ـ أنّ التحريم ليس بصفات للأعيان (٣) ، وأنّ الأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا ، وإنما يتعلّق التكليف بالأمر والنهى بأفعال المكلّفين من حركة وسكون ، لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهى والحكم إليها وعلّق بها مجازا بديعا على معنى الكناية بالمحلّ عن الفعل الذي يحلّ به من باب قسم التسبيب في المجاز ، وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه.

المسألة الثانية ـ قال ابن عباس : حرّم الله تعالى في هذه الآية من النّسب سبعا ومن

__________________

(١) في ا : عليها.

(٢) الآية الثالثة والعشرون.

(٣) في ا : ليس بصفات أعيان الحرمة.


الصّهر سبعا ، وهذا صحيح ؛ وهو أصل المحرّمات ، ووردت من جهة مبينة لجميعها بأخصر لفظ وأدلّ معنى فهمته الصحابة العرب وخبرته العلماء.

ونحن نفصّل ذلك بالبيان فنقول : الأمّ عبارة عن كل امرأة لها عليك ولادة ، ويرتفع نسبك إليها بالبنوة ، كانت منك على عمود الأب أو على عمود الأم ، وكذلك من فوقك.

والبنت عبارة عن كل امرأة لك عليها ولادة تنتسب إليك بواسطة أو بغير واسطة إذا كان مرجعها إليك.

والأخت عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصليك : أبيك وأمك ، ولا تحرم أخت الأخت إذا لم تكن لك أختا ؛ فقد يتزوّج الرجل المرأة ولكلّ واحد منهما ولد ثم يقدر بينهما ولد.

سحنون : هو أن يزوّج الرجل ولده من غيرها بنتها من غيره.

وتفسيرها أن يكون لرجل اسمه زيد زوجتان عمرة وخالدة ، وله من عمرة ولد اسمه عمرو ، ومن خالدة بنت اسمها سعادة ، ولخالدة زوج اسمه عمرو ، وله منها بنت اسمها حسناء ، فزوّج زيد ولده عمرا من حسناء ، وهي أخت أخت عمر ، وهذه صورتها لتكون أثبت في النفوس.

العمة : هي عبارة عن كلّ امرأة شاركت أباك ما علا في أصليه.

الخالة : هي كلّ امرأة شاركت أمّك ما علت في أصليها ، أو في أحدهما على تقدير تعلّق الأمومة كما تقدم ، ومن تفصيله تحريم عمّة الأب وخالته ؛ لأنّ عمة الأب أخت الجدّ ، والجدّ أب ، وأخته عمة ، وخالة الأب أخت جدّته لأمه ، والجدة أمّ ، فأختها خالة ، وكذلك عمة الأم أخت جدّها لأبيها ، وجدها أب وأخته عمة ، وخالة أمها أخت جدته. والجدة أم وأختها خالة ؛ وتتركّب عليه عمة العمة ؛ لأنها عمة الأب كذلك ، وخالة العمة خالة الأم كذلك ، وخالة الخالة خالة الأم ، وكذلك عمة الخالة عمة الأم ؛ فتضمّن هذا كله قوله تعالى : (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) بالاعتلاء في الاحترام ، ولم يتضمّنه آية الفرائض بالاشتراك في المواريث ؛ لسعة الحجر في التحريم وضيق الاشتراك في الأموال ، فعرق التحريم يسرى حيث اطّرد ، وسبب الميراث يقف أين ورد ، ولا تحرم أمّ العمة ولا أخت الخالة ؛ وصورة ذلك كما قررنا لك في الأخت.


بنت الأخ ، وبنت الأخت : عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك عليها ولادة ، وترجع إليها بنسبة ؛ فهذه الأصناف [١٣٥] النسبية السبعة.

وأما الأصناف الصّهرية السبعة : أمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وهما محرّمتان بالقرآن ، ولم يذكر من المحرم بالرضاعة في القرآن سواهما. والأمّ أصل والأخت فرع ؛ فنبّه بذلك على جميع الأصول والفروع ، وثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (١) يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة.

وثبت في الصحاح عن علىّ أنه قال (٢) : قلت : يا رسول الله ؛ ما لك تنوّق (٣) في قريش وتدعنا؟ قال : وعندكم شيء؟ قلت : نعم ، ابنة حمزة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنها ابنة أخى من الرضاعة.

ومثله في الصحة والمعنى حديث أم حبيبة قالت (٤) : يا رسول الله ؛ إنى لست لك بمخلية ، وأحبّ من شركنى في خير أختى. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ ذلك لا يحلّ لي. قلت : فإنا نتحدّث أنك تنكح ابنة أبى سلمة. قال : ابنة أم سلمة؟ قلت : نعم. قال: إنها لو لم تكن ربيبتى في حجري (٥) ما حلّت لي ، إنها ابنة أخى ، أرضعتنى أنا وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علىّ بناتكنّ ولا أخواتكن.

قال ابن العربىّ : وثويبة هي التي أرضعت حمزة أيضا ، فروى أنّ هذا الرضاع كان في وقت واحد.

وروى أنه كان في وقتين لاتّفاق أهل السّير على أنّ حمزة كان أكبر من النبي صلّى الله عليه وسلّم بعامين ، وقيل بأربع.

المسألة الثالثة ـ روى مسلم وغيره أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال (٦) : لا تحرّم المصّة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان ـ وهي المصّة (٧).

وروى مالك وغيره عن عائشة قالت : كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات

__________________

(١) ابن كثير : ٤٦٩

(٢) صحيح مسلم : ١٠٧١

(٣) تنوق : تختار وتبالغ في الاختيار.

(٤) صحيح مسلم : ١٠٧٢

(٥) في صحيح مسلم : لو أنها لم تكن ربيبتى في حجري.

(٦) صحيح مسلم : ١٠٧٤

(٧) الإملاجة : المرة من أملجته أمه ؛ أى أرضعته (النهاية).


فنسخت بخمس معلومات ، فتوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ مما يقرأ من القرآن ، فقال بها جماعة منهم الشافعى.

ورأى مالك وأبو حنيفة الأخذ بمطلق القرآن ، وهو الصحيح ؛ لأنه عمل بعموم القرآن وتعلّق به ، وقد قوى ذلك بأنه من باب التحريم في الأبضاع والحوطة على الفروج ؛ فقد وجب القول به لمن يرى العموم ومن لا يراه ، وقد رام بعض حذّاق الشافعية وهو الإمام الجويني أن يبطل التعلّق بهذا العموم ؛ قال : لأنه سيق ليتبيّن به وجه التحريم في المحرمات ، ولم يقصد به التعميم ، وإنما يصحّ القول بالعموم إذا سبق قصدا للعموم ؛ وذلك يعلم من لسان العرب.

قال القاضي : يا لله وللمحققين من رأس التحقيق الجويني ، يأتى بهذا الكلام في غير موضعه ، وقد علم كلّ ناظر في الفقه شاد أو منته (١) ـ أن المحرمات كلها في الآية جاءت مجيئا واحدا في البيان في مقصود واحد ، فلو جاز لقائل أن يقول : إنه لا يحمل على العموم قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) لما حمل أيضا على العموم قوله : (أُمَّهاتُكُمْ) فيرتقى بهنّ إلى الجدّات ، ولا بناتكم فيحطّ بهنّ إلى بنات البنات ، وقد رأى أنهنّ لم يعمهنّ في الميراث وعمهنّ ها هنا في التحريم ، وكذلك قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) كان ينبغي ألا يحمل على العموم أيضا ؛ لأنه لم يقصد به كما قال سياق العموم ، وكان ذلك لو قلنا به سيبا لخرم قاعدة الآية. وقد بينت ذلك في التلخيص والتمحيص.

وأما الأحاديث المتقدمة فلا متعلّق فيها.

أمّا حديث عائشة فهو أضعف الأدلة ؛ لأنها قالت : كان مما نزل من القرآن ولم يثبت أصله فكيف يثبت فرعه؟

وأما حديث الإملاجة [١٣٦] فمعناه كان من المصّ والجذب مما لم يدرّ معه لبن ويصل إلى الجوف. ويتحقّق وصول اللبن إلى الجوف ، فقليله وكثيره سواء ، بنصّ القرآن وبنصّ الحديث في قوله صلّى الله عليه وسلّم : أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة ، فإذا مصّ لبنها وحصل في جوفه فهي مرضعة ، وهي أمّه ، وهي داخلة بالآية بلا مرية. والله أعلم.

__________________

(١) في الأصول : شادى ومنتهى.


المسألة الرابعة ـ كان قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) يقتضى بمطلقه تحريم الرضاع في أىّ وقت وجد من صغر أو كبر ، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى بيّن وقته بقوله(١) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فبيّن زمانه الكامل ؛ فوجب ألا يعتبر ما زاد عليه.

وقد رأت عائشة أنّ رضاع الكبير محرّم ؛ للحديث الصحيح عنها ، قالت : جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت (٢) : يا رسول الله ؛ إنّا كنّا نرى سالما ولدا ، وكان يأوى معى ومع أبى حذيفة في بيت واحد ، ويراني فضلا (٣) ، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم ما علمت ، فكيف ترى يا رسول الله فيه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أرضعيه خمس رضعات يحرم بلبنها. فكانت تراه ابنا من الرضاعة ، فبذلك كانت عائشة تأخذ ، وأباه (٤) سائر أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وقلن : والله ما نرى ذلك إلا رخصة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسهلة ؛ لأنهم لم يروه حكما عاما ولا قضية مطلقة لكل أحد ، لا سيما وقد ردّه عمر ، وأمر بأدب من أرضع من النساء كبيرا.

وقد روى الترمذي والنسائي عن أبى سلمة ؛ قالت عائشة : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (٥) : لا يحرم من الرضاعة إلّا ما فتق الأمعاء من الثّدى ، وكان قبل الفطام.

نظام نشر : اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أن كلّ شخصين التقما ثديا واحدا في زمان واحد أو في زمانين فهما أخوان ، والأصول منهما والفروع بمنزلة أصول الأنساب وفروعها في التحريم.

المسألة الخامسة ـ في لبن الفحل :

ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من كل طريق وفي كل فريق عن عائشة أنّ أفلح أخا

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٣

(٢) في صحيح مسلم (١٠٧٦) : فقالت : يا رسول الله ، إن سالما معنا في بيت واحد ، وقد بلغ ما يبلغ الرجال وعلم ما يعلم الرجال ...

(٣) في ا : ويرى بي فصلا. وهو تحريف. والمثبت من مسلم ؛ أى متبذلة في ثياب مهنتى (النهاية).

(٤) صحيح مسلم : ١٠٧٨ ، وابن ماجة : ٦٢٦

(٥) ابن ماجة : ٦٢٦


أبى القعيس (١) جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب ، فقالت عائشة : والله لا آذن ـ لأفلح حتى أسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعنى ، إنما أرضعتنى المرأة. قالت عائشة : فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت : يا رسول الله ، إنّ أفلح أخا أبى القعيس جاء يستأذن علىّ فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك ، فقال : إنه عمّك فليلج عليك. وهو مذهب أكثر الأئمة وأعيان العلماء.

ورأى سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي : أنّ لبن الفحل لا يحرم ؛ وصورته أن يكون رجل له امرأتان أرضعت إحداهما صبيّا والأخرى صبية ، فيحرم كلّ واحد منهما على صاحبه ؛ لأنهما أخوان لأب من لبن ؛ فيحرمان كما يحرمان لو كانا أخوين لأب من نسب ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة. وهذا ظاهر ، وحديث عائشة نصّ ؛ فقد تعاضدا فوجب القضاء به.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ).

اختلف الناس فيها في الصدر الأول ؛ فروى عن علىّ وجابر وابن الزبير وزيد بن ثابت ومجاهد ـ أنّ العقد على البنت لا يحرّم الأمّ حتى يدخل بها ، كما أن العقد على الأمّ لا يحرم البنت حتى يدخل بها.

وقال سائر العلماء والصحابة : إنّ العقد على البنت يحرّم الأم ولا تحرم البنت حتى يدخل بالأم.

واختلف النحاة في الوصف في قوله : (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) فقيل : يرجع إلى الربائب والأمهات ، وهو اختيار أهل الكوفة.

وقيل : يرجع إلى الربائب خاصة [١٣٧] ، وهو اختيار أهل البصرة ، وجعلوا رجوع الوصف إلى الموصوفين المختلفى العامل ممنوعا كالعطف على عاملين. وجوّز ذلك كلّه أهل الكوفة ، ورأوا أنّ عامل الإضافة غير عامل الخفض بحرف الجر.

وقد مهدنا القول في ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين وقد ردّ القاضي أبو إسحاق الرواية عن زيد بن ثابت ، والذي استقرّ أنه مذهب علىّ خاصة ، كما قد

__________________

(١) في ابن ماجة (٦٢٧) : أفلح بن أبى قعيس.


استقرّ اليوم في الأمصار والأقطار أنّ الربائب والأمهات في هذا الحكم مختلفات ، وأنّ الشرط إنما هو في الربائب.

واعلموا أنّ هذه المسألة من غوامض العلم وأخذها من طريق النّحو يضعف ؛ فإنّ الصحابة العرب القرشيين الذين نزل القرآن بلغتهم أعرف من غيرهم بمقطع المقصود منهم ؛ وقد اختلفوا فيه وخصوصا على مع مقداره في العلمين ، ولو لم يسمع ذلك في اللغة العربية لكان فصاحتها بالأعجمية ، فإنما ينبغي أن يحاول ذلك بغير هذا القصد.

والمأخذ فيه يرجع إلى خمسة أوجه :

الأول ـ أن يقال : إنه يحتمل أن يرجع الوصف إلى الربائب خاصة. ويحتمل أن يرجع إليهما جميعا ؛ فيردّ إلى أقرب مذكور تغليبا للتحريم على التحليل في باب الفروج ، وهكذا هو مقطوع السلف فيها عند تعارض الأدلة بالتحريم والتحليل عليها.

الثاني ـ روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا يحلّ له نكاح أمها ، وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها ، فإن لم يدخل بها فلينكحها.

وهذا إن صحّ حجّة ظاهرة ، لكن رواية المثنى بن الصباح تضعف.

الثالث ـ أنّ قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ) لفظة عربية ؛ لأنه جمع لا واحد له من لفظه ، والواحد منه امرأة. وقولك : امرؤ وامرأة ، كقولك : آدمي وآدمية ، فقوله : وامرأتك كقوله : وآدميتك ، فأضيفت إليك ، ولا بدّ من البحث عن وجه هذه الإضافة ؛ فيحتمل أن يكون معناه التي تشبهك أو تجاورك أو تملكها أو تملك ، أو تحلّ لها أو تحل لك. والإضافة على معنى الشبه والجوار محال ، وكذلك لو قسمت ما قسمت لم تجد وجها إلا باب التحليل والتحريم الذي نحن فيه وله مساق الآية ، وهو المقصود بالبيان ؛ فإذا حلّت له أو ملكها فقد تحققت الإضافة المقصودة فوجب ثبوت الحكم على الإطلاق.

وكذلك كنّا نقول في الربائب ، لو لا التقييد بشرط الدخول.

فإن قيل : فاحملوا الأمهات على البنات. قلنا : لو كنّا نطلب الرّخص لفعلنا ، ولكن


إذا تعارض الدليل في التحليل والتحريم في الفروج غلّبنا التحريم ، وكذلك فعل علىّ في الأختين من ملك اليمين لمّا تعارض فيهما التحليل والتحريم غلب التحريم.

الرابع ـ أنه قد قيل : إنّ المراد بالدخول ها هنا النكاح ، فعلى هذا الربائب والأمهات سواء ؛ لكن الإجماع غلب على الربائب باشتراط الوطء في أمهاتهن لتحريمهنّ.

الخامس ـ أنّ كلّ واحد من الموصوفين قد انقطع عن صاحبه ، وخرج منه بوصفه ؛ فإنه قال : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ، ثم قال بعده : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) ؛ فوصف وكرّر ، وذلك الوصف لا يصحّ أن يرجع إلى الأمهات ، وهو قوله : (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ، فالوصف الذي يتلوه يتبعه ، ولا يرجع إلى الأول لبعده منه وانقطاعه عنه.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ) واحدتها ربيبة (١) ، فعيلة بمعنى مفعولة ، من قولك : ربّها يربّها ؛ إذا تولّى أمرها ، وهي محرّمة بإجماع الأمّة ، كانت في حجر الرجل أو في حجر حاضنتها غير أمّها ، وتبيّن بهذا أن قوله تعالى : (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) تأكيد للوصف ، وليس بشرط في الحكم [١٣٨].

فإن قيل : فقد روى مالك بن أوس عن علىّ أنها لا تحرم حتى تكون في حجره. قلنا : هذا باطل.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ).

اختلف فيه على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن الدخول هو الجماع ؛ قاله الطبري والشافعى. وقالت طائفة أخرى : هو التمتّع من اللمس أو القبل ؛ قاله مالك وأبو حنيفة.

والثالث ـ أنه النظر إليها بشهوة ؛ قاله عطاء وعبد الملك بن مروان ، وهي مسألة خلاف قد ذكرناها.

وجملة القول فيها أنّ الجماع هو الأصل ، ويحمل عليه اللمس لأنه استمتاع مثله ، يحلّ بحله ، ويحرم بحرمته ، ويدخل تحت عمومه ، كما بيناه قبل هذا.

__________________

(١) الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره.


وأما النظر فعند ابن القاسم أنه يحرم. وقال غيره : لا يحرم ؛ لأنه في الدرجة الثالثة شبهة في الزنا ذريعة الذريعة ، لكن الأموال تارة يغلب فيها التحليل وتارة يغلب فيها التحريم ؛ فأما الفروج فقد اتفقت الأمة فيها على تغليب التحريم ، كما أن النظر لا يحل إلا بعقد نكاح أو شراء فكذلك يحرم إذا حلّ ، أصله اللمس والوطء.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ).

واحدتها حليلة ، وهي فعيلة بمعنى مفعلة ، أى محلّة. حرّم الله على الآباء نكاح أزواج أبنائهم ، كما حرّم على الأبناء نكاح أزواج آبائهم في قوله تعالى (١) : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ؛ فكلّ فرج حلّ للابن حرّم على الأب أبدا.

المسألة العاشرة ـ الأبناء ثلاثة : ابن نسب ، وابن رضاع ، وابن تبنّ.

فأما ابن النسب فمعلوم ، ومعلوم حكمه. وأما ابن الرضاع فيجري مجرى الابن في جملة من الأحكام معظمها التحريم ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم (٢) : يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.

وأما ابن التبنّى فكان ذلك في صدر الإسلام ؛ إذ تبنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة ، ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذلك بقوله (٣) : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ).

وفي الصحيح أنّ ابن عمر قال : ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت (٤) : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ؛ وهذه هي الفائدة في قوله تعالى : (مِنْ أَصْلابِكُمْ) ليسقط ولد التبنّى ، ويذهب اعتراض الجاهل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نكاح زينب زوج زيد ، وقد كان يدعى له ، فنهج الله سبحانه ذلك ببيانه.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). حرّم الله سبحانه الجمع بين الأختين ، كما حرّم نكاح الأخت ؛ والنهى يتناول الوطء ، فهو عامّ في عقد النكاح وملك اليمين ، وقد كان توقّف فيها من توقّف في أوّل وقوعها ، ثم اطّرد البيان عندهم ، واستقرّ التحريم ؛ وهو الحقّ.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٢

(٢) ابن كثير : ٤٦٩

(٣) سورة الأحزاب ، آية ٥


تعلّق أبو حنيفة به في تحريم نكاح الأخت في عدّة الأخت ، والخامسة في عدّة الرابعة ، وقال : إن هذا محرّم بعموم القرآن ؛ لأنه إن لم يكن جمعا في حلّ فهو جمع في حبس بحكم من أحكام الفرج ، وهو إذا تزوّج أختها فقد حبس المتزوّجة بحكم من أحكام النكاح ، وهو الحلّ والوطء ، وقد حبس أختها بحكم من أحكام النكاح ، وهو استبراء الرحم لحفظ النسب ، فحرم (١) ذلك بالعموم ؛ وهي من مسائل الخلاف الطيولية ، وقد مهدنا القول فيها هنالك.

والذي نجتزى به الآن أنّ الله سبحانه نهاه عن أن يجمع ؛ وهذا ليس بجمع منه ، لأنّ النكاح اكتسبه ، والعدّة ألزمته ، فالجامع بينهما هو الله سبحانه بخلقه (٢) ، وليس للعبد في هذا الجمع كسب يرجع النهى بالخطاب إليه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ).

ليس هذا من مثل [قوله] (٣) : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في نكاح منكوحات الآباء ؛ لأنّ ذلك لم [١٣٩] يكن قطّ بشرع ؛ وإنما كانت جاهلية جهلاء وفاحشة شائعة ؛ ونكاح الأختين كان شرعا لمن قبلنا فنسخه الله عزّ وجل فينا (٤).

الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (٥) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

فيها إحدى وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٦) :

روى أبو الخليل صالح بن أبى مريم الضبعي عن أبى سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا يوم أوطاس (٧) لهنّ أزواج في قومهن ، فكرهتهنّ رجال ، فذكروا ذلك إلى رسول الله صلّى الله

__________________

(١) في ل : فيحرم.

(٢) في ا : بحلمه.

(٣) ليس في ل.

(٤) هنا آخر القسم الأول :

تم الجزء الأول من الأحكام للشيخ الإمام حجة الإسلام أبى بكر بن العربي رحمه الله. ووافق الفراغ من نسخه العشرين من شهر شعبان من شهور سنة ست وثلاثين وسبعمائة ، والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم. نقلته من نسخة عبد الله بن هبة الله بن إسماعيل المالكي عفا الله عنهما.

(٥) الآية الرابعة والعشرون.

(٦) ابن كثير : ٤٧٣ ، وأسباب النزول : ٨٠

(٧) أوطاس : واد في ديار هوازن ، فيه كانت وقعة حنين للنبي صلّى الله عليه وسلّم ببني هوازن.


عليه وسلّم ؛ فأنزل الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وقد خرج عن أبى الخليل مسلم والبخاري.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَالْمُحْصَناتُ) :

بناء (ح ص ن) على المنع ، ومنه الحصن ؛ لكن يتصرّف بحسب متعلقاته وأسبابه ؛ فالإسلام حصن ، والحرية حصن ، والنكاح حصن ، والتعفف حصن ؛ قال الله تعالى (١) : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) ؛ وهو الإسلام. وقال تعالى (٢) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فهن الحرائر.

وقال تعالى (٣) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) هنّ العفائف.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أحصنت؟ يعنى تزوّجت؟ قال : نعم. وقال صلّى الله عليه وسلّم : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ، من أحصن (٤) منهم ومن لم يحصن. خرجه مسلم.

وتصريفه غريب ؛ يقال : أحصن الرجل فهو محصن (٥) ـ بفتح العين في اسم الفاعل ، وأسهب في الكلام فهو مسهب إذ أطال القول فيه ، وألفج فهو ملفج إذ كان عديما ، ولا رابع لها. والله أعلم.

المسألة الثالثة ـ في إشكالها :

قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس لا يعلمها. وقال مجاهد : لو أعلم أحدا يفسّر هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل ، وذلك لا يدريه إلّا من ابتلى بالقرآن ومعانيه ، وتصدّى لضمّ منتشر (٦) الكلام ، وترتيب وضعه ، وحفظ معناه من لفظه.

المسألة الرابعة ـ في سرد الأقوال :

الذي تحصل عندي فيه ستة أقوال :

الأول ـ أنّ المحصنات ذوات الأزواج ؛ قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن المسيب وغيرهم. وقاله مالك واختاره.

الثاني ـ ذوات الأزواج من المشركين ؛ قاله على وأنس وغيرهما.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٤

(٢) سورة المائدة ، آية ٥

(٣) سورة النور ، آية ٤.

(٤) أحصن الرجل : تزوج.

(٥) في اللسان : المحصن ـ بالفتح ـ يكون بمعنى الفاعل والمفعول. وفي المصباح : واسم الفاعل من أحصن ـ إذا تزوج ـ محصن ـ بكسر محصن على القياس ، قاله ابن القطاع. ومحصن ـ بالفتح ـ على غير قياس. وارجع إلى اللسان في مادة (سهب) تجد تفصيل الحديث عن هذه الأفعال الثلاثة

(٦) في ا : نثر.


الثالث ـ من جميع النساء الأربع اللواتي حللن له ؛ قاله عبيدة.

الرابع ـ أنهنّ جميع النساء على الإطلاق ؛ قاله طاوس وغيره.

الخامس ـ المعنى لا تنكح المرأة زوجين.

السادس ـ أنّ المحصنات الحرائر ؛ قاله عروة وابن شهاب.

المسألة الخامسة ـ في سرد الأقوال في قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ قالوا : بيع الأمة طلاقها ؛ ذكره ابن عباس ، وأبىّ ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود.

وعن عكرمة عن ابن عباس : طلاق الأمة ستّة : بيعها وعتقها وهبتها وميراثها وطلاق زوجها ، زاد أنس بن مالك : وانتزاع سيّدها لها من ملك زوجها عبده.

الثاني ـ يعنى به المرأة الحربية إذا سبيت ؛ فإنّ السباء يفسخ النكاح.

الثالث ـ قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إلا الإماء والأزواج ، وهو اختيار طاوس ؛ وقال : زوجك ما ملكت يمينك.

المسألة السادسة ـ في تنزيل الأقوال وتقديرها :

أما من قال : إنهنّ ذوات الأزواج ؛ فذوات الأزواج على قسمين : مسلمات وكافرات ، والمسلمات على قسمين : حرائر وإماء ، فيعمهنّ التحريم على هذا التأويل ، ويرجع الاستثناء في قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إلى بعضهن وهنّ الإماء ، أو إلى بعض البعض وهن المسببات ؛ فإن رجع إلى الإماء جملة فعليه يتركّب أنّ بيع الأمة المزوّجة فراق بينها وبين زوجها ، وإن رجع إلى المسبيات ـ وفيه وردت الآية ـ فيكون التقدير : حرمنا عليكم كلّ ذات زوج ، إلا من سبيتم. وعلى أنهنّ جميع الإماء يكون التقدير : حرمنا عليكم كلّ ذات زوج إلا ما ملكتم (١).

[وأما من قال : إنهنّ جميع النساء فيكون تنزيل الآية عنده : حرّمنا عليكم من تقدّم تحريما مدبرا ، وحرّمنا عليكم جميع النساء إلا بملك نكاح أو شراء ، وكلّهن ما ملكت أيمانكم] (٢).

__________________

(١) في ل : إلا ما ملكت أيمانكم.

(٢) ما بين القوسين ليس في ل.


وأما من قال : إنهنّ جميع النساء إلا أربع فدعوى أنّ هذه الآية نزلت بعد الآية الأولى في ابتداء السورة في الأربع ؛ فإن ثبت ذلك تعذّر ذلك له لفظا وبطل معنى ، على ما نبيّنه إن شاء الله تعالى. وقول مجاهد مقدّر بنوع ونحو مما تقدم.

وأما من قال : إنهن الحرائر فيكون تقدير الآية : وحرّمنا عليكم الحرائر من النساء ، وأحللنا لكم ما ملكت أيمانكم.

المسألة السابعة ـ في الاعتراض على الأقوال :

أما من خصّصها في بعض النساء فيعترض عليه أنّ البعض يبقى حلّا ، والآية إنما جاءت لبيان المحرمات والمحللات منهن ، فإن بقي من الأزواج له من الحرائر أو من المسلمات أو كلّ تأويل يقتضى بقاء بعضهن فذلك بعيد في التأويل مفسّر للتنزيل.

وأما من عمّم جميع المسائل إلا الأربع فمبنى على دعوى لا برهان عليها.

وأما من عمّم في الكل فهو الصحيح ، ويقع الاستثناء بقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في الإماء أو في الزوجة والأمة ؛ وهذا موضع الإشكال العظيم.

المسألة الثامنة ـ في المختار :

وهذا المشكل هو الذي ملنا إليه قديما وحديثا ، وذلك أنّ من قال : إنّ قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) راجع إلى الشراء والنكاح فيعترض (١) عليه بقوله تعالى (٢) : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ، فقد ميّز بينهما ، ولم يطلق قطّ أحد من أرباب الشريعة على الحرّة في ملك النكاح بأنها ملك اليمين ؛ فإنها تملك منه ما يملك منها ، أما إنّه (٣) له عليها درجة ، ولكن نقول : إنّ قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يرجع إلى الإماء ، وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يرجع إلى من عدا (٤) المنصوص على تحريمهنّ.

وأما من قال : إنها في الإماء كلهنّ ، فإنّ ملك الأمة المتجدّد على النكاح (٥) يبطله ، فموضع إشكال عظيم ، ولأجله تردّد فيه أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ، بيد أنّ الظاهر أن ملكا

__________________

(١) في ا : يعترض.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ٦

(٣) هكذا في كل الأصول.

(٤) في ل : إلى ما عدا.

(٥) في م : المتجرد عن النكاح. والمثبت في ل.


متجددا (١) لا يبطل نكاحا متأكدا (٢) ، ولو أنه ملّك منفعة رقبتها لرجل بالإجارة ثم يبيعها ما أبطل الملك المتجدّد ملك منفعة الرقبة ؛ فملك منفعة البضع أولى أن يبقى ، فإنّ أحقّ الشروط أن يوفى به ما استحلّت به الفروج ، فعقد الفروج نفسه أحقّ بالوفاء به من عقد منفعة الرقبة.

والذي يقطع العذر أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة ولم يجعل ما طرأ من العتق عليها ، ولا ما ملكت من نفسها ، مبطلا لنكاح زوجها ، وعليه يحمل كلّ ملك متجدّد. وقد بيناه في مسائل الخلاف وفيما أشرنا إليه هاهنا من الأثر والمعنى كفاية لمن سدّد النظر ، فوضح أنّ المراد بالمحصنات الجميع ، وأنّ المراد بملك اليمين السّبى الذي نزلت الآية في بيانه.

وأما تحريم الأربع فيأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة ـ قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ).

هذا عموم متّفق عليه ممن نفاه وممن أثبته ؛ وذلك أنّ الله تعالى عدّد المحرمات ، ثم قال : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ؛ فاختلف الناس في المراد به على ثلاثة أقوال :

الأول ـ المراد به من عدا القرابة من المحرمات المذكورات.

الثاني ـ ما دون الأربع.

الثالث ـ ما ملكت أيمانكم.

المسألة العاشرة ـ عجبا للأوائل كلفوا فهرفوا (٣) ؛ نظروا (٤) إلى السدّى يقول : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يعنى (٥) ما دون الأربع ، وكم حرام بعد هذا ، وكأنه يشير إلى أنّ هذا العموم مخصوص فيما زاد على الأربع ، وكذلك قول عطاء : إنه فيما زاد على القرابة ، وبقي الأجانب غير مبينات ، ومثله قول قتادة ؛ بل أضعف ؛ لأنه ردّ التحليل إلى الإماء خاصة.

المسألة الحادية عشرة ـ اعلموا وفّقكم الله تعالى أنّا قد بينا أنّ الشرع لم يأت دفعة ،

__________________

(١) في ا : مجددا.

(٢) في ل : النكاح المتأكد.

(٣) هرف : أطرى في المدح إعجابا أو مدح بلا خبرة (القاموس).

(٤) في ا : نظر.

(٥) في ل : يقول.


ولا وقع البيان في تفصيله في حالة واحدة ؛ وإنما جاء نجوما وشذّر شذورا لمصلحة عامة وحكمة بالغة ؛ فلو شاء ربّك لذكر المحرّمات معدودات مشروحات في حالة واحدة ، ولكنه فرّقها على السور والآيات ، وقسّمها على الحالات والأوقات ؛ فاجتمعت (١) العلماء وكملت في الدين ، كما كمل جميعه واستوثق وانتظم واتّسق ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : لا يحلّ دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث. وقد بلغ العلماء الأسباب المبيحة للدم إلى عشرة يأتى ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.

وعدد المحرّمات في الشريعة عندنا حسبما رتّبنا من الأدلّة في هذا الكتاب وغيره من النساء أربعون (٢) امرأة ، منهن أربع (٣) وعشرون حرّمن تحريما مؤبّدا ، ومنهن ست عشرة تحريمهنّ لعارض.

فأما الأربع (٤) والعشرون فهن : الأمّ ، البنت ، الأخت ، العمة ، الخالة ، بنت الأخ ، بنت الأخت ، فهؤلاء سبع. ومن الرضاع مثلهن بالسنة وإجماع الأمة ، كملن أربع عشرة ، وحليلة الأب ، وحليلة الابن ، وأم الزوجة ، وربيبة الزوجة ، المدخول بها ومن الجمع ثلاث ؛ وهن الأختان بنصّ القرآن ، والمرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيانه ، وكذلك الملاعنة سنة ، والمنكوحة في العدّة بإجماع الصحابة في قضاء عمر بن الخطاب ، وزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وقد سقط هذا الوجه بموتهنّ (٥).

وأما المحرّمات لعارض فهن : الخامسة ، والمزوّجة ، والمعتدّة ، والمستبرأة ، والحامل ، والمطلّقة ثلاثا ، والمشركة ، والأمة الكافرة ، والأمة المسلمة لواجد الطول ، وسيأتى بيانها إن شاء الله تعالى ، وأمة الابن ، والمحرمة ، والمريضة ، ومن كان ذا محرم من زوجه اللاتي لا يجوز الجمع بينهن وبينها ، واليتيمة الصغيرة ، والمنكوحة عند النداء يوم الجمعة ؛ والمنكوحة عند الخطبة بعد التراكن.

__________________

(١) في ل : واجتمعت.

(٢) في ل : اثنتان وأربعون امرأة.

(٣) في ل : منها ست وعشرون.

(٤) في ل : فأما الست والعشرون.

(٥) في ل : وقد يسقط هذا العدد بموتهن.


فأما السبع عشرة منهنّ فدليلهنّ ظاهر. وأما الملاعنة فمختلف فيها ؛ قال أبو حنيفة : ليس تحريمها مؤبّدا ؛ فإنه إذا أكذب (١) نفسه حلّ له رجعتها ، وبناء على أنّ فرقة اللعان طلاق ؛ لأجل أنها متعلقة بلفظ الزوج كالطلاق ، مفتقرة إلى الحاكم كطلاق العنّين ، ولأنه سبب أوجبه اللعان ، فزال بالتكذيب ؛ فنفى بلعانه ويعود بتكذيبه.

والنكتة العظمى لهم أنهم قالوا : أوجب حرمة لأوجد محرمية كالرضاع.

وبالجملة فالمعاني لهم ، والنظائر والأصول معهم ، وليس لنا نحن إلّا حديث ابن عمر في صحيح مسلم وغيره قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (٢) : حسابكما على الله ، أحدكما كاذب. لا سبيل لك عليها. قال : يا رسول الله ، ما لي؟ قال : لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها.

وأما المنكوحة في العدّة فهو النظر الصحيح ؛ لأنه استعجل محرما قبل حلّه فحرمه أبدا ؛ كالقاتل لا يمكّن من الميراث ، والمستبرأة معتدة ، العلة واحدة ، والمحلّ واحد ، والسبب واحد ؛ فلما اتّحدا اتّحد الحكم والحامل أوقع ، والدليل فيها الجمع (٣) ، والمطلقة ثلاثا قرآنية ، وكذلك المشركة ، والأمتان تأتيان مبينتين إن شاء الله.

وأما أمة الابن فكلّ محرّم في كتاب الله مما تقدّم بيانه فإنّ لفظه ومعناه عامّ في النكاح وملك اليمين ، فدخل فيه تحريم ملك اليمين ، وأمة الابن من حلائل الابن لفظا ، أو معنى ولفظا ، أو معنى من غير لفظ ، والكلّ في اقتضاء التحريم درجات ، وله مقتضيات ؛ وكذلك تحريم الجمع دخل فيه الجمع بملك اليمين لما بيناه.

وأما المحرمة فقال أبو حنيفة والبخاري وجماعة : نكاح المحرم جائز بالعقد دون الوطء.

وقال مالك والشافعى : لا يجوز ، ولا عمدة لهما فيه إلّا حديث نبيه بن وهب ، خرّجه مالك : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح. وضعف البخاري نبيه بن وهب ، وتعديل مالك وعلمه به أقوى من علم كلّ بخارى وحجازي ، فلا يلتفت لغيره.

وأما حديث البخاري في ميمونة أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تزوّجها محرما ، فعجبا للبخاري يدخله مع عظيم الخلاف فيه ويترك أمثاله ، ولا يعارض حديث نبيه المتّفق عليه

__________________

(١) في ل : كذب نفسه.

(٢) صحيح مسلم : ١١٣٢

(٣) في ل : أنجع.


بحديث ميمونة المختلف فيه. والمسألة عظيمة قد بيناها في مسائل الخلاف.

وأما نكاح المريض (١) فمن مسائل الخلاف ؛ ومنعه مالك وجوّزه أبو حنيفة والشافعى ؛ وقد بيناه في موضعه ؛ وكذلك اليتيمة الصغيرة لا تزوّج بحال عندنا وعند الشافعى ، وقال أبو حنيفة : يزوّجها وليّها ، ولها الخيار إذا بلغت ؛ فأفسد ما بنى وجعل حلا مترقبا ، وهي طيولية قد ذكرناها في التخليص وغيره.

فهذه جمل من المحرّمات ثبتت في الشريعة بأدلّتها وخصّت من قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ). وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة ، هل يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها؟ عن مالك في ذلك روايتان ودع من روى ، وما روى. أقام مالك عمره كلّه يقرأ عليه الموطّأ ويقرؤه لم يختلف قوله فيه : إنّ الحرام لا يحرّم الحلال ، ولا شك في ذلك ، وقد بيّناها في مسائل الخلاف ، والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) يعنى بالنكاح أو بالشراء ، فأباح الله الحكيم الفروج بالأموال والإحصان دون السفاح وهو الزنا ؛ وهذا يدلّ على وجوب الصّداق في النكاح ، لكن رخص في جواز السكوت عنه عند العقد كما تقدم في التفويض (٢) في سورة البقرة ، وقد حقّقناه هنالك في مسائل الخلاف.

المسألة الثالثة عشرة ـ قال الله سبحانه : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) مطلقا ، فتعلّق الشافعىّ بهذا الإطلاق في جواز الصداق بكلّ قليل وكثير ، وعضد ذلك بحديث الموهوبة في الصحيح في قوله صلّى الله عليه وسلّم (٣) : التمس ولو خاتما من حديد.

ولنا فيه طرق ؛ أقواها أنّ الله تبارك وتعالى لمّا حرّم استباحة هذا العضو وهو البضع إلّا ببدل وجب أن يتقرّر ذلك البدل ؛ بيانا لخطره وتحقيقا لشرفه ، لا سيما وهو حقّ الله تعالى ؛ وحقوق الله مقدّرة كالشهادات والكفّارات والزكاة و [نصب] (٤) السرقة والديات.

وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف ؛ فوجب أن يتخصّص هذا الإطلاق بهذه الأدلة ، لا سيما ومساق هذا اللفظ إيجاب البدل ، وليس المقصود الإشارة بعمومه.

__________________

(١) في ا : المرض.

(٢) في ل : التعويض.

(٣) صحيح مسلم : ١٠٤١

(٤) ليس في ل.


فأما حديث خاتم الحديد فخاتم في العرف يتزيّن به ، قيمته أكثر من ربع دينار ، وهذا ظاهر ؛ فتأمّل تحقيقه في موضعه.

المسألة الرابعة عشرة ـ لمّا أمر الله تعالى بالنكاح بالأموال لم يجز أن يبذل فيه ما ليس بمال ، وتحقيق المال ما تتعلّق به الأطماع ، ويعتدّ للانتفاع ، هذا رسمه في الجملة ، وفيه تفصيل.

وتحقيق بيانه في كتب المسائل يترتّب عليه أنّ منفعة الرقبة (١) في الإجارة مال ، وأنّ منفعة التعليم للعلم كله مال ، وفي جواز كونه صداقا كلام يأتى بيانه في سورة القصص إن شاء الله تعالى.

وأما عتق الأمة فليس بمال. وقال أحمد بن حنبل : هو مال يجوز النكاح بمثله ، لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم جعله صداقا في نكاحه لصفية بنت حيىّ بن أخطب ؛ فإنه أعتقها بتزوجها وجعل عتقها صداقها ، رواه أنس في الصحيح.

وقال علماؤنا : كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مخصوصا في النكاح وغيره بخصائص ، ومن جملتها أنه كان ينكح بغير ولىّ ولا صداق ، فإنه كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وقد أراد زينب فحرمت على زيد ، فلا يجوز أن يستدلّ بمثل هذا.

وقد حققنا خصائصه في سورة الأحزاب ، وقد عضد ذلك علماؤنا بأن قالوا : إن قوله (٢) : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ؛ وذلك لا يتصوّر في العتق ، وقد مهدناه في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة عشرة ـ قوله : (مُحْصِنِينَ).

قال بعض الغافلين : إنّ قوله : (محصنين) يجوز أن يكون حالا من النساء ، كأنه يريد ابتغوهنّ غير زانيات ، ولو أراد كونها حالا (٣) للنساء لقال : محصنات غير مسافحات كما في الآية بعدها ؛ وإنما المراد بقوله : (مُحْصِنِينَ) حثّ الرّجال على حظّهم المحمود فيما أبيح لهم من الإحصان دون السفاح ؛ قيل لهم : ابتغوا بأموالكم نكاحا لا سفاحا ، والسفاح اسم الزنا.

__________________

(١) في ل : الزينة.

(٢) سورة النساء ، آية ٤

(٣) في ا : حلالا ، وهو تحريف.


المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى (غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، يعنى غير زانين ، والسفاح اسم للزّنا ، سمّى به لأنه يسفح الماء أى يصبّه ، والسفح الصبّ ، والنكاح سفاح اشتقاقا ؛ لأنّ في كل واحد منهما الجمع والضمّ ، وصبّ الماء ؛ ولكن الشريعة واللغة خصّصت كلّ واحد باسم من معنى مطلقه ؛ للتعريف به (١) على عادتها فيما تطلقه من بعض ألفاظها على المعاني المشتركة فيها.

المسألة السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) :

فيه قولان :

أحدهما ـ أنه أراد استمتاع النكاح المطلق ؛ قاله جماعة منهم الحسن ومجاهد وإحدى روايتي ابن عباس.

الثاني ـ أنه متعة النساء بنكاحهنّ إلى أجل ؛ روى عن ابن عباس أنه سئل عن المتعة فقرأ : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى. قال ابن عباس : والله لأنزلها الله كذلك (٢).

وروى عن حبيب بن أبى ثابت قال : أعطانى ابن عباس مصحفا ، وقال : هذا قراءة أبىّ ، وفيه مثل ما تقدم ، ولم يصحّ ذلك عنهما ؛ فلا تلتفتوا إليه ؛ وقول الله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) ، يعنى بالنكاح الصحيح.

أما إنه يقتضى بظاهره أنّ الصداق إذا لم يسمّ في العقد وجب بالدخول ، وقد تقدم بيانه في التفويض ، وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة ؛ لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت في غزوة أوطاس ، ثم حرمت بعد ذلك ، واستقرّ الأمر على التحريم ، وقد بينا ذلك في شرح الحديث بيانا يشفى الصدور.

المسألة الثامنة عشرة ـ قوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ؛ سماه في هذه الآية أجرا ، وسمّاه في الآية الأولى في أول (٣) السورة نحلة ، وقد تكلّمنا على تلك الآية ، وكانت الفائدة بهذا ـ والله أعلم ـ البيان لحال الصّداق ، وأنه من وجه نحلة ومن وجه عوض.

والصحيح أنه عوض ، ولذلك قال مالك : النكاح أشبه شيء بالبيوع ، لما فيه من

__________________

(١) في ل : فيه.

(٢) في ل : لأنزلها سبحانه كذلك.

(٣) في الآية الرابعة من سورة النساء : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) ......


أحكام البيوع ، وهو وجوب العوض وتعريفه وإبقاؤه وردّه بالعيب والقيام فيه بالشفعة إلى غير ذلك من أحكامه.

المسألة التاسعة عشرة ـ قوله تعالى : (فَرِيضَةً) ، يحتمل أن يكون صفة للإتيان ليخلص (١) الأمر للوجوب. ويحتمل أن يكون صفة للأجر ، فيقتضى التقدير ؛ معناه أعطوها صداقها كاملا ، ولا تأخذوا (٢) منه شيئا ، كما قال (٣) : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً).

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).

إذا وجب المهر وعلم فلا بأس أن يقع فيه التراضي بعد ذلك بين الرجال والنساء في تركه كله أو بعضه ، أو الزيادة عليه ، فإن كان ذلك بين المرأة والرجل وهما مالكان أمرهما ـ فذلك مستمرّ على ظاهر الآية ، وإن كان منهما من لا يملك أمر نفسه فذلك إلى الولىّ الذي أوجبه كما تقدم في قوله (٤) : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، وكما توجب امرأة لنفسها صداقها ثم تسقطه ، كذلك يوجبه وليّها لها ثم يسقطه إذا رأى ذلك مصلحة لها ، وقد تقدّم بيان ذلك في موضعه.

وأما الزيادة فيه وهي :

المسألة الحادية والعشرون : فقد قال مالك : إن الزيادة بالثمن (٥) في البيع وبالصداق في النكاح تلحقهما ويجرى مجراهما في أحد القولين ، وبه قال أبو حنيفة. وفي القول الثاني يجرى مجرى الهبات ، وبه قال الشافعى ؛ وهي في مسائل الخلاف مذكورة.

ونكتة المسألة أنهما يملكان فسخ العقد وتجديده صريحا فملكاه عنهما ، ولهما أن يتصرّفا فيه كيف شاءا.

__________________

(١) في ل : لتخليص.

(٢) في ل : ولا تنقصوا منه.

(٣) سورة النساء ، آية ٢٠

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٣٧

(٥) في ل : إن الزيادة في الثمن في البيع والصداق في النكاح.


الآية الموفية عشرين ـ قوله تعالى (١) : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

فيها اثنتا عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في حكمة الآية :

انظروا رحمكم الله إلى مراعاة الباري سبحانه لمصالحنا وحسن تقديره في تدبيره لأحكامنا ؛ وذلك أنه لما ضرب الرّقّ على الخلق عقوبة للجاني وخدمة للمعصوم ، وعلم أنّ العلاقة قد تنتظم بالرّقّ في باب الشهوة (٢) التي رتّبها جبلّة ، ورتّب النكاح عليها في اتحاد القرون وترتيب النظر ، وشرّفه لشرف فائدته ومقصوده من وجود الآدمي عليه ـ صان عنه محلّ المملوكية لثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنّ فيها سبب الحل وطريق التحريم (٣) ، والاستمتاع يكفى.

الثاني ـ وهو المقصود ـ صيانة النّطفة عن التصوير بصورة (٤) الإرقاق.

الثالث ـ صيانة لعقد النكاح حين كثّر شروطه ، وأعلى درجته ، وكمّل صفته ؛ وقد كان سبق في علمه أنّ أحوال الخلق ستستقيم بقسمته (٥) إلى ضيق وسعة وضرورة أذن (٦) في حال الضرورة للحرّ في تعريض نطفته للإرتماق ، لئلا يكون مراعاة أمر موهوم يؤدّى إلى فساد حال متوقعة ، حتى قال بعض العلماء : إن الهوى يجيز نكاح الإماء ، وهذا منتهى نظر المحققين في مطالعة الأحكام من بحر الشرع وساحل العقل ؛ فاتخذوها مقدمة لكل مسألة تتعلّق بها.

المسألة الثانية ـ في فهم سياق الآية :

اعلموا وفقكم الله تعالى أنّ العلماء اختلفوا في سياق هذه الآية ؛ فمنهم من قال : إنها سيقت مساق الرخص ، كقوله (٧) (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) وقوله (٨) : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)

__________________

(١) الآية الخامسة والعشرون.

(٢) في ا : الشهرة.

(٣) في ا : التخدم ، وهو تحريف.

(٤) في ل : بصفة.

(٥) في ل : فقسمه.

(٦) في ا : وخيره ذن ، وهو تحريف ، والمثبت من ل.

(٧) سورة النساء ، آية ٩٢

(٨) سورة النساء ، آية ٤٣ ، وسورة المائدة آية ٦


ونحوه. فإذا كانت كذلك وجب أن تلحق بالرخص التي تكون مقرونة بأحوال الحاجة وأوقاتها ، ولا يسترسل في الجواز استرسال العزائم ؛ وإلى هذا مال جماعة من الصحابة ، واختاره مالك ؛ ومنهم من جعلها أصلا ، وجوّز نكاح الأمة مطلقا ، ومال إليه أبو حنيفة.

وقد جهل مساق الآية من ظنّ هذا ؛ فقد قال الله تعالى ما يدلّ على أنه لم يبح (١) نكاح الأمة إلّا بشرطين : أحدهما عدم الطّول. والثاني خوف العنت ؛ فجاء به شرطا على شرط ، ثم ذكر الحرائر من المؤمنات والحرائر من أهل الكتاب ذكرا مطلقا ؛ فلما ذكر الإماء المؤمنات ذكرها ذكرا مشروطا مؤكّدا مربوطا.

فإن قيل : حلقتم على دليل الخطاب بألفاظ هائلة ، وليس في هذه الآية إلا أنّ الله تعالى ذكر في نكاح الأمة وصفا أو وصفين فأردتم أن يكون الآخر بخلافه ، وهذا دليل الخطاب الذي نازعناكم فيه مذ كنّا وكنتم.

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما ـ أنّا نقول : دليل الخطاب أصل من أصولنا ، وقد دلّلنا عليه في أصول الفقه وحقّقناه تحقيقا لا قبل لكم به ، ومن راد دراه.

الثاني ـ أنّ هذه الآية ليست مسوقة مساق دليل (٢) الخطاب كما بينا ؛ وإنما هي مسوقة مساق الإبدال ، وإنما كانت تكون مسوقة مساق شبه دليل الخطاب لو قلنا : انكحوا المحصنات المؤمنات بطول وعند خوف عنت ، فأما وقد قال : ومن لم يستطع منكم ؛ فقرنه بالقدرة التي رتّب عليها الإبدال في الشريعة وأدخلها في بابها بعبارتها ومعناها لم يقدر أحد أن يخرجها عنها ، فليس لرجل حكمه الله واضع (٣).

ومن غريب دليل الخطاب أنّ الباري تعالى قد يخصّ الوصف بالذكر للتنبيه ، وقد يخصّه بالعرف ، وقد يخصّه باتفاق الحال ، فالأوّل كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ، وقد قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ؛ فإنه تنبيه على حالة الإثراء ، وخصّ حالة الإملاق (٤) بالنهى ؛ لأنها هي التي يمكن أن يتعرّض الأب لقتل الابن فيها. وكذلك قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) خصّ حالة الإكثار والإثراء التي تتعلق بها

__________________

(١) في ل : يجز.

(٢) في ل : مسوقة مساق الخطاب.

(٣) هكذا في الأصول.

(٤) في ا : الإمكان.


النفوس بالنهى ؛ فأما إذا وقع شرط مقرون بقدرة فهو نصّ في البدليّة والرخصة ، وإن وقع بتنبيه مقرونا بحالة أو عادة (١) كان ظاهرا ، كقوله صلّى الله عليه وسلّم : من باع نخلا قد أبرت (٢) فثمرها للبائع إلّا أن يشترطها المبتاع.

وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف ، وبيّنا أنّ خمسة من الأدلة تقتضي في المعنى أنّ نكاح الأمة رخصة ، فلما انتهى النظر إلى هذا المقام ، ورأى المحققون من أصحاب أبى حنيفة أن نكاح الأمة رخصة ، وأنه مشروط بعد الطّول تحكّم في الطول ، وهي :

المسألة الثالثة ـ فقال : إنّ الطّول هو وجود الحرّة تحته ، فإذا كانت تحته حرّة فهو ذو طول ، فلا يجوز له نكاح الأمة ، هذا تأويل أبى يوسف.

وتحقيقه عندهم أنّ الطّول في لسان العرب هو القدرة ، والنكاح هو الوطء حقيقة ، فمعناه من لم يقدر أن يطأ حرّة فليتزوج أمة ، وهذا هو حقيقة في الذي تحته حرّة فلا ينقل إلى المجاز إلا بدليل.

أجاب علماؤنا بأن قالوا : الطول هو الغنى والسّعة ، بدليل قوله (٣) : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ). والنكاح هو العقد ، فمعناه من لم يكن عنده صداق حرّة فليتزوّج أمة ، وكذلك فسّره جماعة من الصحابة والتابعين ، ويعضده قوله تعالى (٤) : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) ، وهذا أقوى ألفاظ الحصر ، كقوله في شروط المتعة في الحج (٥) : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وأبو حنيفة لا يشترط خوف العنت.

فإن قيل ، وهي :

المسألة الرابعة ـ فإن قدر على طول كتابيّة هل يتزوج الأمة؟ قلنا : نعم ، يتزوّجها.

فإن قيل : كيف هذا ، وهي مثل المسلمة الحرة؟ والقدرة على مثل الشيء قدرة عليه في الحكم. قلنا : ليسا مثلين بأدلّة لا تحصى كثرة وقوّة ؛ منها أنّ إماءهم لم تستو فكيف حرائرهم؟ وما لم يشترطه الله سبحانه لا نشترطه نحن ، ولا نلحق مسلمة بكافرة ؛ فأمة مؤمنة خير من حرّة مشركة بلا كلام.

__________________

(١) في ل : أو عرف.

(٢) أبرت : لقحت.

(٣) سورة التوبة ، آية ٨٦

(٤) سورة النساء ، آية ٢٥

(٥) سورة البقرة ، آية ١٩٦


فإن قيل ، وهي :

المسألة الخامسة ـ قال أبو بكر الرازي إمام الحنفية في كتاب أحكام القرآن له : ليس نكاح الأمة ضرورة ؛ لأنّ الضرورة ما يخاف منه تلف النفس أو تلف عضو ، وليس في مسألتنا شيء من ذلك.

قلنا : هذا كلام جاهل بمنهاج الشرع أو متهكّم لا يبالى بما يرد القول. نحن لم نقل إنه حكم نيط بالضرورة ، إنما قلنا : إنه حكم علّق (١) بالرخصة المقرونة بالحاجة ، ولكلّ واحد منهما حكم يختصّ به ، وحالة (٢) يعتبر فيها ، ومن لم يفرق بين الضرورة والحاجة التي تكون معها الرخصة فلا يعنى بالكلام معه ، فإنه معاند أو جاهل ، وتقدير ذلك إتعاب للنفس عند من لا ينتفع به.

فإن قيل ، وهي :

المسألة السادسة ـ فإذا كانت تحته حرّة ، هل يتزوّج الأمة أم لا؟

قلنا : اختلف في ذلك علماؤنا ؛ فقال مالك : إذا خشي العنت مع حرّة واحتاج إلى أخرى ، ولم يقدر على صداقها فإنه يجوز له أن يتزوّج الأمة ؛ وهكذا مع كلّ حرّة وكلّ أمّة حتى ينتهى إلى الأربع بظاهر القرآن.

وقال مرة أخرى : إذا تزوّج الأمة على الحرة ردّ نكاحه ؛ رواه ابن القاسم.

ورواية ابن وهب الأولى أصحّ في الدليل وأولى ؛ لأن الله تعالى أباح بشرط قد وجد وكمل على الأمر.

فإن قيل ، وهي :

المسألة السابعة ـ فهل تكون الحرّة بالخيار في البقاء معها أو الفراق؟

قلنا : كذلك قال مالك على الرواية الواحدة ، ويجيء على مذهبه أنّ من رضى بالسبب المحقّق رضى بالمسبب المرتّب عليه ، وألا يكون لها خيار ؛ لأنها قد علمت أنّ له نكاح الأربع ، وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرّة تزوّج أمة ، وما شرط الله تعالى عليها كما شرطت على نفسها ، ولا يعتبر في شروط الله علمها ، وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه.

__________________

(١) في ل : علق على الرخصة.

(٢) في ل : ودلالة.


المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ).

بهذا استدلّ مالك على أنّ نكاح الأمة الكافرة لا يحلّ ؛ لأن الله تعالى أباح نكاح المؤمنة ، فكان شرطا في نكاح الإماء الإيمان.

فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب ونحن لا نقول به.

قلنا : ليس هذا استدلالا بدليل الخطاب من أربعة أوجه :

الأول ـ أنّ هذا استدلال بالتعليل ؛ فإنّ الله تعالى ذكر الإيمان في نكاحهنّ ، وذكر الصفة في الحكم تعليل ، كما لو قال : أكرموا العالم واحفظوا الغريب لكان تنصيصا على الحكم وعلى علّته ، وهي العلم والغربة فيتعدّى الإكرام [والحفظ] (١) لكل عالم وغريب ، ولا يتعدّى إلى سواهما (٢).

الثاني ـ أن الله تعالى قال (٣) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ فكان هذا تعليلا يمنع من النكاح في المشركات.

الثالث ـ أن الله تعالى قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، فإذا لم يكن الإيمان شرطا في الإحلال ولا العفّة تبيّن أنّ المراد بالإحصان ها هنا الحرية.

الرابع ـ أنّ الله تعالى قال في هذه الآية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) فلينكح الفتيات المؤمنات ، فالإحصان هاهنا في الحرية قطعا ، فنقلناه من حرة مؤمنة إلى أمة مؤمنة ، وقال في آية أخرى (٤) : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ). ثم قال (٥) (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) ، يعنى حلّ لكم ، (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حلّ لكم أيضا ، يريد بذلك الحرائر لا معنى له سواه ، فأفادت الآية حلّ الحرة الكتابية ، وبقيت الأمة الكافرة تحت التحريم.

فإن قيل : فقد قال (٦) : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ، فخاير بينهما ، والمخايرة لا تكون بين ضدّين ، وقد تقدم (٧) الجواب عنه في سورة البقرة.

المسألة التاسعة ـ لما أكمل الله تعالى بيان المحرّمات الحاضرات في ذلك الوقت للتكليف ، وقال بعده (٨) : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ، فلو وقع هذا الإحلال بنصّ لكان ما يأتى بعده

__________________

(١) من ل.

(٢) في ل : ولا يتعداهما.

(٣) سورة المائدة ، آية ٥

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٢١

(٥) صفحة ١٥٧

(٦) سورة النساء ، آية ٢٤


من المحرمات التي عددناها نسخا ، ولكنه كان عموما ؛ فجرى على عمومه إلّا ما خصه الدليل في ست عشرة مسألة ، ولو كانت ألفا ما أثّر (١) في العموم ، فكيف وهي على هذا المقدار؟

ألّا ترى إلى قوله تعالى (٢) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، وهو عموم خرج منه عشرة أصناف وبقي تحته صنف واحد ، وهم المحاربون ، ولم يؤثّر ذلك فيه لا فصاحة ولا حكمة ولا دينا ولا شريعة.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

المعنى أنّ الله لما شرط الإيمان ، وعلم أنه مخفىّ لا يطّلع عليه سواه أحال على الظاهر فيه ، وقال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) فيما أضمرتم من الإيمان ، كلكم فيه مقبول ، وبظاهره معصوم ، حتى يحكم فيه الحكيم ، ولذلك لما جاء الأنصارىّ فقال له : علىّ رقبة وأريد أن أعتق هذه الجارية. قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم : أين الله؟ قالت : في السماء. قال : من أنا؟ قالت : رسول الله. قال : أعتقها فإنها مؤمنة حملا على الظاهر من الإيمان ، نعم وعلى الظاهر من الألفاظ ، وقد بيّنا ذلك في كتاب المشكلين.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

قيل معناه أنتم بنو آدم ، وقيل معناه أنتم المؤمنون إخوة. وفي هذا دليل على التسوية بين الحرّ والعبد في الشرف ، وردّ على العرب التي كانت تسمّى ولد الأمة هجينا تعييرا له بنقصان مرتبة أمه ، وهذا أمر أدخلته اليمنية على المضرية من حيث لم تشعر بجهل العرب وغفلتها ؛ فإن إسماعيل ابن أمة ، فلو كانت على بصيرة ما قبلت هذا التعبير ، وإليها يرجع.

المسألة الثانية عشرة ـ إذا تزوّج أمة ، ثم قدر بعد ذلك على حرّة فتزوّجها ثبت نكاح الأمة ولم ينفسخ.

وقال مسروق : ينفسخ ؛ لأنه أمر أبيح للضرورة ، فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنه شرط في ابتداء العقد فلا يشترط في استدامته ، كالعدّة والإحرام وخوف العنت. وهذا لا جواب عنه.

وأما الميتة في الضرورة فتفارق هذا من وجهين :

أحدهما ـ أنّ هذا عقد لازم ، وتلك إباحة مجرّدة.

__________________

(١) في ل : ما كثر.

(٢) سورة التوبة ، آية ٥


الثاني ـ أنّ هذا عقد بشروط ، فيعتبر بشروطه ، بخلاف الإباحة في الميتة ، والله أعلم.

الآية الحادية والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ قال إسماعيل القاضي : زعم بعض أهل العراق أنّ السيد إذا زوّج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق ، وكيف يجوز هذا ونكاح بغير صداق سفاح؟ وبالغ في الرد ، وبيّن أنّ الله ذكر نكاح كلّ امرأة ، فقرنه بذكر الصداق فقال في الإماء : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) : وقال تعالى (٢) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وقال أيضا (٣) : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ؛ فكيف يخلو عنه عقد حكم الشرع (٤) فيه بأن يجب في كلّ نوع منه ، حتى أنه لو سكت في العقد عنه لوجب بالوطء.

قال ابن العربي : وهذا الذي ذكره القاضي إسماعيل هو مذهب الشافعى وأبى حنيفة ، وقد تعرّض الحنفيون والشافعيون للرد على إسماعيل ؛ فردّ عليه أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن له ، وردّ عليه علىّ بن محمد الطبري الهراس في كتاب أحكام القرآن ؛ فتعرّضوا (٥) للارتقاء في صفوفه بغير تمييز.

قال الرازي : يجب المهر ويسقط ؛ لئلا تكون استباحة البضع بغير بدل ، ويسقط في الثاني حين يستحقه المولى ، لأنها لا تملكه (٦) ، والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين.

وقال الطبري : إنّ المهر لو وجب لوجب لشخص. على شخص ، فمن الذي أوجبه؟ وعلى من وجب؟

__________________

(١) من الآية الخامسة والعشرين.

(٢) سورة المائدة ، آية ٥

(٣) سورة الممتحنة ، آية ١٠

(٤) في ل : حكم الله عزّ وجلّ فيه بأن يجب.

(٥) في ل : فتعلقوا للارتقاء في صعود بغير تمهيد.

وفي ا : للارتقاء في صفوفه كونه بغير تمييز.

(٦) في ل : لا تملك.


فإن قلت : وجب للسيد على العبد فهذا محال أن يثبت له دين على عبده ، ووجوبه لا على أحد محال ، وكما أنّ العقد يقتضى الإيجاب كذلك الملك يقتضى الإسقاط ، وليس إيجابه ضرورة الإسقاط ، كما يقال إنّ إثبات الملك للابن ضرورة العتق ؛ فإنّ العتق لا يتصوّر بدون الملك ، فأما إسقاط المهر فلا يقتضى إثباته ، فوجب ألّا يجب بحال.

وقد دلّ الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلا ، وإذا (١) لم يملك ولا بدّ من مالك ، واستحال أن يكون السيد مالكا ؛ فامتنع لذلك ، وعاد الكلام إلى أصل آخر ؛ وهو أنّ العبد هل يملك أم لا؟

قال القاضي أبو بكر : أما قول الرازي : إنه يجب ويسقط (٢) فكلام له في الشرع أمثلة ، منها متفق عليها ومنها مختلف فيها ؛ فمن المتّفق عليه بيننا وبين الشافعية والحنفية هو فيما إذا قال لرجل : أعتق عبدك عنى على ألف. فقال سيّده : هو حرّ. فإنّ هذا القول ـ وهو كلمة «هو حر» يتضمّن (٣) عقد البيع ، ووجوب الثمن على المبتاع ، ثم وجوب الثمن للبائع ، ووجوب الملك للمبتاع ، وخروجه عن يد البائع وملكه والعتق ، ويجب الملك ثم يسقط. كلّ ذلك بصحّة البيع والعتق.

كذلك يلزم أن يقول : يجب الصداق ها هنا لحلّ الوطء ، ثم يكون ما كان.

ومما اتفقنا عليه نحن والشافعية إذا اشترى الابن أباه فإنه يصحّ عقد الشراء ويحصل الملك للابن ، ثم يسقط الملك ويعتق ، ويجب الثمن للبائع.

وقد قال بعض أصحاب الشافعى : إذا قتل الأب ابنه يجب القصاص ويسقط ، فوجوبه لوجود علّة القصاص من العدوان وشرطه من المكافآت ، ويسقط لعدم المستحق ؛ إذ يستحيل أن يجب للمرء على نفسه.

ونحن نقول : ينتقل القصاص إلى غير الأب من الورثة ، كما لو كان الأب كافرا لانتقل الميراث عنه إلى غيره من الورثة.

وكذلك قال أصحاب أبى حنيفة : لو قتل حرّ عبدا قتل به ، ولو قتل مكاتبا لم يترك وفاء قتل به ، ولو قتل مكاتبا ترك وفاء لم يقتل به ؛ لأن الصحابة اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال :

__________________

(١) في ا : وكذا.

(٢) في ل : ثم يسقط.

(٣) في ل : يقتضى.


مات عبدا والقصاص لسيده. ومنهم من قال : مات حرّا ويدفع من ماله كتابته لسيده ، ويرث ماله بقية ورثته ، ويرثون قصاصه ، فانتصب اختلافهم في المستحق شبهة في درك القصاص.

وهذا الفقه صحيح ؛ وذلك أنّ الإيجاب حكم ، والاستيفاء حكم آخر مغاير له ، وأسبابهما تختلف ؛ وإذا اختلفا سببا واختلفا ذاتا كيف يصحّ لمحق أن ينكر انفراد أحدهما عن الآخر؟ بل هنالك أغرب من هذا ؛ وهو أنّ الوجوب حكم والاستقرار حكم آخر ؛ فإن الصداق يجب بالعقد ، ولا يستقرّ إلا بالوطء ؛ إذ يتطرّق السقوط إلى جميعه قبل الوطء بالردة ، وإلى نصفه بالطلاق.

وقد انبنى على هذا الأصل أحكام كثيرة من الزكاة ، إذا كان الصداق ماشية وغيرها ؛ فإذا كان الاستقرار ـ وهو وصف الوجوب حكما ـ انفرد عن الوجوب بانفراد الاستيفاء منه وهو غيره أصلا وصفة فذلك أولى.

وأما قول الطبري : من الذي أوجب عليه؟ ولمن وجب؟

فيقال له : نقصك قسم ثالث عدلت عنه أو تعمّدت تركه تلبيسا : وهو أن يجب للأمة ـ وهي الزوج (١) ـ على العبد الذي تزوجها ، كما تجب عليه النفقة لها.

فإن قال : ليست الأمة أهلا للملك ولا للتمليك.

قلنا : لا نسلّم ؛ بل العبد أهل للملك والتمليك. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف تخليصا وتخليصا وإنصافا ، وحققنا في الكتب الثلاثة أنّ علة الملك الحياة والآدمية ، وإنما انغمر وصف العبد بالرقّ للسيد ، ولكن العلّة باقية ، والحكم قد يتركب عليها مع وجود الغامر لها. وكيف لا تملك الأمة والله تعالى يقول في الإماء (٢) : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، فأضاف الأجور إليهن إضافة تمليك؟

وأما قوله : إن العقد كما يقتضى الإيجاب كذلك [الملك] (٣) يقتضى الإسقاط.

قلنا له : فذكر على كل واحد مقتضاه (٤) أوجب بالعقد وأسقط بالملك ووفر على كلّ سبب حكمه كما فعلنا في شراء القريب.

__________________

(١) الزوج : البعل ، والزوج ـ أيضا : ويقال لها زوجة أيضا (مختار الصحاح).

(٢) سورة النساء ، آية ٢٤

(٣) ليست في ل.

(٤) في ل : نوفر عن كل أحد مقتضاه.


وأما قوله : إنّ إيجابه ليس ضرورة للإسقاط بخلاف عتق القريب فإن إيجابه هناك ضرورة العتق.

قلنا : وإيجابه الصداق ها هنا ضرورة الحل ؛ إذ جعله الله علما على الفرق بين النكاح والسفاح ، ونصّ على إيجابه في كلّ نكاح على اختلاف أنواع الناكحين من ملك أو مملوك ؛ فيجب للأمة ، ثم يجب للسيد منها ، وليس يستحيل أنّ يجب للسيد على العبد حق ، فلا تغر غرورا بما لا تحصيل فيه ولا منفعة له. وهلّا قلتم : يجب للأمة على العبد ، ثم يجب للسيد من الأمة ، ثم يسقط ؛ وسقوط الحق بانتقاله من محلّ إلى محل ليس غريبا في مسائل القصاص والشفعة والديون.

وأما قوله : إنّ العتق لا يتصوّر بدون الملك ، فكذلك لا يتصوّر الحلّ في النكاح بغير صداق.

وأما قولك : إنّ القول عاد إلى أنّ العبد لا يملك فيا حبذا عوده إلى هذا الأصل الذي ظهرنا فيه عليكم ، والحمد لله.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) دليل على أنّ المملوكة لا تنكح إلا بإذن أهلها ، وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن أهله وسيّده.

وذلك لأنّ العبد مملوك لا أمر له ، وبدنه كله مستغرق بحقّ السيد ؛ لكن الفرق بينهما أنّ الأمة إذا تزوّجت بغير إذن أهلها فسخ النكاح ولم يجز بإجازة السيد ، وإذا جوّز السيّد نكاح العبد جاز لأنّ نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح ألبتة على ما بيّناه في سورة البقرة.

فإن قيل : فهل يجوز نكاحها بإذن أهلها وإن لم يباشر السيد العقد.

قلنا : نعم ، يجوز ؛ ولكن لا تباشره هي ، بل يتولّاه من تولّاه. وقد روى ابن جريج وغيره عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : أيما عبد تزوّج بغير إذن مواليه فهو عاهر. خرجه الترمذي. وقال : هو حسن.

وحديث يرويه ابن جريج عن ابن عقيل عن جابر ينبغي أن يكون صحيحا.


المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : هذا يدلّ على وجوب المهر في النكاح ، وقد تقدم.

المسألة الرابعة ـ هذا نصّ على أنه يسمى أجرة ، ودليل هذا (١) أنه في مقابلة المنفعة البضعية ؛ لأنّ ما يقابل المنفعة يسمّى أجرة.

وقد اختلف الناس في المعقود عليه النكاح ما هو؟ بدن المرأة ، أو منفعة البضع ، أو الحل؟ وقد مهدناه في مسائل الخلاف عند ذكرنا ما تردّ به الزوجة من العيوب.

المسألة الخامسة ـ هذا يدلّ على وجوب المهر للأمة ، وقد أنكر ذلك الشافعىّ وقال: إنه عوض منفعة لا يكون للأمة ، أصله إجازة (٢) المنفعة في الرقبة.

وقال علماؤنا : إنّ السيد إذا زوّج أمته فقد ملك منها ما لم يكن يملك ؛ لأنّ السيد لم يكن يملك غشيانها بالتزويج ، وإنما كان يملكه بملك اليمين ، فهذا العقد لها لا له ، فعوضه لها بخلاف منافع الرقبة فإنها والعقد عليها للسيد ، وهذا ظاهر لا يفتقر إلى إطناب.

المسألة السادسة ـ ما يعنى بالمعروف؟ يعنى الواجب ، وهو ضد المنكر ، وليس يريد به المعروف الذي هو العرف والعادة ؛ وستراه مبيّنا في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) يعنى عفائف غير زانيات.

وقد استدلّ بها من حرّم نكاح الزانية ، وهو الحسن البصري ، وقال إنه شرط في النكاح الإحصان وهو العفّة (٣) ، وأيضا فإنّ الله تعالى قال في سورة النور (٤) : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وقالت طائفة : معنى قوله : محصنات ، أى بنكاح لا بزنى ، وهذا ضعيف جدّا ، لأنّ الله تعالى قد قال قبل هذا : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) ، فكيف يقول بعد ذلك منكوحات ، فيكون تكرارا في الكلام قبيحا في النظام ، وإنما شرط الله ذلك صيانة للماء الحلال عن الماء الحرام ؛ فإنّ الزانية لا يجوز عندنا نكاحها حتى تستبرأ.

__________________

(١) في ا : بدليل على أنه ، وهو تحريف.

(٢) في الأصول : إجارة والمثبت في القرطبي : ٥ ـ ١٤٢

(٣) في ل : وهو الفقه.

(٤) سورة النور ، آية ٣


وقال أبو حنيفة والشافعى : يجوز نكاحها اليوم لمن زنى بها البارحة ، ولمن لم يزن بها مع شغل رحمها بالماء ، فهذه هي الزانية التي حرّم الله نكاحها ؛ فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره. وثبت عنه أنه قال : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض في وطء ونسب ليس لهما حرمة. وذلك في وطء الكفّار ؛ لكن إن لم يكن للماء المستقرّ في الرحم حرمة فللماء الوارد عليه حرمة ، فكيف يمتزج ماء محترم بماء غير محترم ، وفي ذلك خلط الأنساب الصحيحة بالمياه الفاسدة.

وأما قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية ، فهي آية مشكلة ، اختلف فيها السلف قديما وحديثا ، والمتحصّل فيها أربعة أقوال :

الأول ـ أنه روى عن عبد الله بن عمر أنّ رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نكاح امرأة كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه ، وكذلك كنّ نساء معلومات يفعلن ذلك فيتزوجن الرجل من فقراء المسلمين لتنفق المرأة منهن عليه ، فنهاهم الله عن ذلك.

الثاني ـ قال ابن عباس ونحوه عن قتادة ومجاهد عن بغايا كن ينصبن على أبوابهن كراية البيطار ، وكانت بيوتهن تسمّى المواخير ، لا يدخل إليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك ، فحرّم الله ذلك على المؤمنين.

الثالث ـ قال سعيد بن جبير : لا يزنى الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة ، ونحوه عن عكرمة.

الرابع ـ قال سعيد بن المسيّب : نسخها قوله (١) : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). وقال أنس : من أيامى المسلمين.

وقد أكّد رواية ابن عمر ما رواه الترمذي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبى مرثد ، وكان رجل يحمل الأسرى من مكّة حتى يأتى بهم المدينة. قال : وكانت امرأة بغىّ بمكة يقال لها عناق ، وكان صديقا لها ، وإنه واعد رجلا من أسرى مكة يحمله. قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظلّ حائط من حوائط مكة في ليلة

__________________

(١) سورة النور ، آية ٣٢


مقمرة قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلّى بجنب الحائط ، فلما انتهت إلىّ عرفتني ، فقالت : مرثد! فقلت : مرثد. فقالت : مرحبا وأهلا ، هلمّ فبت عندنا الليلة. قال : قلت: باعناق ، حرّم الله الزنا ، قالت : يأهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم ... وذكر الحديث. قال : حتى قدمت المدينة فقلت : يا رسول الله ، أأنكح عناق؟ فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يردّ علىّ شيئا ، فنزلت (١) : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ... الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يا مرثد ، الزاني لا ينكح ... وقرأها إلى آخرها ، وقال له : فلا تنكحها.

فأما من قال : إنها نزلت في بغايا معلومات فكلام صحيح.

وأما من قال : إنّ معناه الزاني لا يزنى إلا زانية فما أصاب فيه غيره ، وهي من علوم القرآن المأثورة عن معلمه المعظم ابن عباس.

وأما من قال : لا ينكح المحدود إلا محدودة ، وهو الحسن ، يريد أنّ معنى الآية : الزانية التي تبيّن زناها ، ويصحّ أن يخبر عنها به ؛ وذلك لا يكون إلا فيمن نفذ عليه الحدّ ؛ وقبيل نفوذ الحدّ هي محصنة يحدّ قاذفها ، وهو الذي منع من نكاحها ومعه نتكلم وعليه نحتج. وإذا قال القائل : إنّ معناه إذا زنى بامرأة فلا يتزوجها فيشبه أن يكون قولا ، لكن مخرجه ما قدمناه من أنّ تحريم ذلك إنما يكون قبل الاستبراء ، وتكون الآية مسوقة لبيان أنه لا يسترسل على المياه الفاسدة بالنكاح إلّا زان أو مشرك كما سبق ، أو يكون معناه ما اختاره عالم القرآن ؛ قال : المراد بالنكاح الوطء ، والآية نزلت في البغايا المشركات ؛ والدليل عليه أنّ الزانية من المسلمات حرام على المشرك ، وأنّ الزاني من المسلمين حرام عليه المشركات ، فمعنى الآية أنّ الزاني لا يزنى إلا بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحله ، والزانية لا يزنى بها إلّا زان لا يستحل الزنا أو مشرك يستحله.

وأما من قال : إنّ الآية منسوخة فما فهم النسخ ؛ إذ بيّنا أنه لا يكون إلا بين الآيتين المتعارضتين من كل وجه ؛ بل الآية التي احتجّ بها عاضدة لهذه الآية وموافقة لها ؛ لأنّ الله تعالى حرّم نكاح الزناة (٢) والزواني ، وأمر بنكاح الصالحات والصالحين.

__________________

(١) سورة النور ، آية ٣

(٢) في ل : الزانية والزاني.


المسألة الثامنة ـ هذه الآية وإن كانت بصيغة الخبر فكذلك هو معناها (١) ، وهي خبر عن حكم الشرع ، فإن وجد خلاف المخبر فليس من الشرع على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) :

كانت البغايا في الجاهلية على قسمين : مشهورات ومتخذات أخدان ، وكانوا بعقولهم يحرّمون ما ظهر من الزنا ويحلّون ما بطن ؛ فنهى الله سبحانه عن الجميع.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) يدلّ على أنّ فتى وفتاة وصف للعبيد ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : لا يقولنّ أحدكم عبدى وأمتى وليقل فتاي وفتأتي. ومن ها هنا قال بعضهم : إنّ يوشع بن نون كان عبدا لموسى عليه السلام لقوله تعالى (٢) : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) ؛ والله أعلم.

الآية الثانية والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ معنى الإحصان هاهنا مما اختلف فيه ؛ فقال قوم : هو الإسلام ؛ قائله ابن مسعود والشعبي والزّهرى وغيرهم. وقال آخرون : أحصنّ : تزوجن ؛ قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير. وقال مجاهد : هو أن يتزوّج العبد حرة والأمة حرّا ، ويروى عن ابن عباس. وقال الشافعى : تحدّ الكافرة على الزنا ، ولا يشترط الإسلام ولا النكاح.

وقرئ أحصن بفتح الهمزة وأحصن بضمها ، فمن قرأه بالفتح قال معناه : أسلمن ، والإسلام أحد معاني الإحصان. ومن قرأ أحصن ـ بالضم ـ قال معناه : زوّجن.

وقد يحتمل أن يكون أحصن ـ بفتح الهمزة زوجن ، فيضاف الفعل إليهن لما وجد بهن.

__________________

(١) في ل : معناه أو هي خبر لكم عن حكم الشرع.

(٢) سورة الكهف ، آية ٦٠.

(٣) من الآية الخامسة والعشرين.


وقد يحتمل أن يكون أحصن بضم الهمزة : أسلمن : معناه منعن بالإسلام من أحكام الكفر. والظاهر في الإطلاق هو الأول.

ومن شرط نكاح الحرّ والحرة لا معنى له ولا دليل عليه.

والإحصان هو الإسلام من غير شك ؛ لأنّه أول درجات الإحصان ، فلا ينزل عنه (١) إلا بدليل ، ويكون تقدير الآية : ومن لم يستطع أن ينكح الحرائر المؤمنات فلينكح المملوكات المؤمنات ، فإذا أسلمن فعليهن نصف ما على الحرائر من الحدّ ولا يتنصف الرجم ، فليسقط اعتباره. ويكون المراد ما يتشطر وهو الجلد ، وعلى قول الآخرين (٢) يكون التقدير: فإذا تزوّجن فعليهن نصف ما على الأبكار من العذاب ، وهو الجلد.

ونحن أسدّ تأويلا لوجهين :

أحدهما ـ أنّ قوله : المؤمنات ، يقتضى الإسلام. فقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) يجب أن يحمل على فائدة مجردة.

الثاني ـ أنّ المسلمة داخلة تحت قوله (٣) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فتناولها عموم هذا الخطاب.

فإن قيل : فخذوا الكافر بهذا العموم.

قلنا : الكافر له عهد ألّا نعترض (٤) عليه.

فإن قيل : فالرقيق لا عهد له.

قلنا : الرقّ عهد إذا ضرب عليه لم يكن بعده سبيل إليه إلا بطريق التأديب والمصلحة لتظاهره بالفاحشة إن أظهرها.

المسألة الثانية ـ روى الأئمة بأجمعهم عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن. قال : إن زنت فاجلدوها ثلاثا ثم بيعوها ولو بضفير. قال ابن شهاب : لا أدرى بعد الثالثة أو الرابعة.

وروى مسلم (٥) وأبو داود والنسائي عن علىّ بن أبى طالب : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم :

__________________

(١) في ا : عليه.

(٢) في ل : وعلى القول الآخر.

(٣) سورة النور ، آية ٢

(٤) في ل : ولا نعترض عليه.

(٥) في ل : رواه مسلم.


أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن. وهذا نصّ عموم في جلد من تزوّج ومن لم يتزوج.

المسألة الثالثة ـ قال مالك والشافعى : يقيم السيد الحدّ على مملوكه دون رأى الإمام.

وقال أبو حنيفة : لا يقيمه إلا نائب الله وهو الإمام ؛ لأنه حقّ الله تعالى.

ودليلنا قوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) ولم يعيّن من يقيمه ؛ فبيّنه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، وجعل ذلك إلى السادات ، وهم نوّاب الله في ذلك ، كما ينوب آحاد الناس في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

فإن قيل : وكيف يتّفق للسيد أن يقيم حدّ الزنا ؛ أيقيمه بعلمه أم بالشهود فيتصدّى (١) منصب قاض وتؤدّى عنده الشهادة؟

قلنا : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (٢) : إذا زنت أمة أحدكم فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ ولا يثرب (٣) عليها. وهو حديث صحيح عند الأئمة.

والزّنا يتبيّن بالشهادة ، وذلك يكون عند الحاكم ؛ أو بالحمل ، ولا يحتاج فيه السيد (٤) إلى الإمام ، ولكنه يقيمه عليها بما ظهر من حملها إذا وضعته وفصلت من نفسها ؛ لقول علىّ في الصحيح : إنّ أمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم زنت فأمرنى أن أجلدها الحدّ ، فوجدتها حديثة عهد بنفاس ، فخفت إن أنا جلدتها أن أقتلها فتركتها فأخبرته. فقال : أحسنت.

ولهذا خاطب السادات بذكر الإماء اللاتي يتبيّن زناهنّ بالحمل ، وسكت عن العبيد الذين لا يظهر زناهم إلّا بالشهادة.

المسألة الرابعة ـ دخل الذكور تحت الإناث في قوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) بعلّة المملوكية ، كما دخل الإماء تحت قوله : من أعتق شركا له في عبد ؛ بعلّة سراية العتق وتغليب حقّ الله تعالى فيه على حقّ الملك.

__________________

(١) في ا : فيتعدى.

(٢) صحيح مسلم : ١٣٢٨

(٣) لا يثرب : لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب.

(٤) في ا : السير.


وأبين من هذا أنه فهم من قوله (١) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) دخول المحصنين فيه. والله أعلم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).

اختلف الناس في العنت على خمسة أقوال :

الأول ـ أنه الزنا ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنه الإثم.

الثالث ـ العقوبة.

الرابع ـ الهلاك.

الخامس ـ قال الطبري : كل ما يعنت المرء عنت ، وهذه كلّها تعنته ، وهذا صحيح ؛ فمن خاف شيئا من ذلك فقد وجد شرطه ، وأصله الزنا كما قال ابن عباس فعليه عوّل.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

يدلّ على كراهية نكاح الأمة ؛ لما فيه من خوف إرقاق الولد وجواز خوف هلاك المرء ؛ فاجتمعت فيه مضرّتان دفعت الأعلى بالأدنى ، فقدّم المتحقق على المتوهم. والله أعلم.

المسألة السابعة ـ هذا يدلّ على أنّ العزل حقّ المرأة ؛ لأنه لو كان حقا للرجل لكان له أن يتزوّج ويعزل ، فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب ، وبه قال مالك.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : ليس للمرأة حقّ إلّا في الإيلاج ، وهذا ضعيف ؛ فإن النكاح إنما عقد للوطء ، وكلّ واحد من الزوجين له فيه حق ، وكما أنّ للرجل فيه حقّ الغاية وهو الإيلاج والتكرار فللمرأة فيه غاية الإنزال وتمام ذوق العسيلة ، فبه تتمّ اللذة للفريقين ؛ فإن أراد الرجل إسقاط حقّه والوقوف دون هذه الغاية فللمرأة حقّ بلوغها.

الآية الثالثة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

__________________

(١) سورة النور ، آية ٤

(٢) الآية التاسعة والعشرون ، والثلاثون.


الآية فيها إحدى عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ القول في صدر هذه الآية ، وهو أكل المال بالباطل ، قد تقدّم في سورة البقرة (١).

المسألة الثانية ـ قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً).

التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ، ومنه (٢) الأجر الذي يعطيه الباري عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فضله ، فكلّ معاوضة تجارة على أىّ وجه كان العوض ، إلا أنّ قوله : (بِالْباطِلِ) أخرج منها كلّ عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ووجوه الربا ، حسبما تقدم بيانه.

فإذا ثبت هذا فكلّ معاوض إنما يطلب الربح إمّا في وصف العوض أو في قدره ؛ وهو أمر يقتضيه القصد من التاجر لا لفظ التجارة.

المسألة الثالثة ـ من جملة أكل المال بالباطل بيع العربان ، وهو أن يأخذ منك السلعة ويعطيك درهما على أنه إن اشتراها تمّم الثمن ، وإن لم يشترها فالدرهم لك ، وقد روى مالك في الموطّأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع العربان (٣).

المسألة الرابعة ـ لمّا شرط العوض في أكل المال وصارت تجارة خرج عنها كلّ عقد لا عوض فيه يرد على المال ، كالهبة والصدقة ، فلا يتناوله مطلق اللفظ ، وجازت عقود البيوعات بأدلّة أخر من القرآن والسنة على ما عرف ، ويأتى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة ـ الربح هو ما يكتسبه المرء زائدا على قيمة معوضه فيأذن (٤) له فيه إذا كان معه أصل العوض في المعاملة ، ويكون ذلك الربح بحسب حاجة المشترى والبائع إلى عقد الصفقة ، فالزيادة أبدا تكون من جهة المحتاج ؛ إن احتاج البائع أعطى زائدا على الثمن من قيمة سلعته ، وإن احتاج المشترى أعطى زائدا من الثمن ، وذلك يكون يسيرا في الغالب ، فإن كان الربح متفاوتا فاختلف فيه العلماء ؛ فأجازه جميعهم ، وردّه مالك في إحدى روايتيه إذا كان المغبون لا بصر له بتلك السلعة ، ولذا جوّزه فراعى أنّ المغبون مفرط ؛

__________________

(١) صفحة ٩٦

(٢) في ا : وفيه.

(٣) ونهى عن بيع العربان ، تفسيره

في حديث آخر : لا تبع ما ليس عندك لما فيه من الغرر.

(٤) في ل : وأذن له فيه.


إذ كان من حقه أن يشترى لنفسه ويشاور (١) من يعلم أو يوكله ، وإذا رددناه فلأنّه من أكل المال بالباطل ؛ إذ ليس تبرعا ولا معاوضة ؛ فإنّ المعاوضة عند الناس لا تخرج إلى هذا التفاوت ، وإنما هو من باب الخلابة ، والخلابة ممنوعة شرعا مع ضعفها كالغلابة ـ وهو الغصب ، ممنوعة شرعا مع قوتها (٢) ، وتدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم : لا ضرر ولا ضرار. ألا ترى أن تلقّى الركبان يتعلق به الخيار عند تبيّن الحال ، وهو من هذا الباب ، وقد قرّرناه قبل هذا في موضعين ، فلنجمع الكلام على الآية فيها كلّها.

المسألة السادسة ـ قال عكرمة والحسن البصري وغيرهما : خرج عن هذه الآية التبرّعات كلها ، وإنما جوّز الشرع التجارة وبقي غيرها على مقتضى النهى حتى نسخها قوله(٣) : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) ... ؛ وهذا ضعيف جدا ؛ فإنّ الآية لم تقتض تحريم التبرعات ؛ وإنما اقتضت تحريم المعاوضة الفاسدة ؛ وقد بينا ذلك في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) :

وهو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم :

قال بعضهم : التراضي هو التخاير بعد عقد البيع قبل الافتراق من المجلس ، وبه قال ابن عمر وأبو هريرة وشريح والشعبي وابن سيرين والشافعى ، وتعلّقوا بحديث ابن عمر وغيره (٤) : المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلّا بيع الخيار.

وقال آخرون : إذا تواجبا بالقول فقد تراضيا ، يروى عن عمر وغيره ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والصحابة.

واختار الطبري أن يكون تأويل الآية : إلا تجارة تعاقدتموها وافترقتم بأبدانكم عن تراض منكم فيها ؛ وهذه دعوى إنما يدلّ مطلق الآية على التجارة على الرضا ، وذلك ينقضي بالعقد ، وينقطع بالتواجب ، وبقاء التخاير في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقا ولا تنبيها ، وكلّ آية وردت في ذكر البيع والشراء والمدينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس

__________________

(١) في ا : وليشاور.

(٢) في ل : مع قوته.

(٣) سورة النور ، آية ٦١

(٤) صحيح مسلم : ١١٦٣ ، وفيه : البيعان.


فيها ولا لافتراق الأبدان منها ؛ كقوله (١) : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ فإذا عقد ولم يبرم لم يكن وفاء ، وإذا عقد ورجع عن عقده لم يكن بين الكلام والسكوت فرق ، بل السكوت خير منه ، لأنه تعب (٢) ولا التزم ولا أخبر عن شيء ، فتبيّن الأمر ، وتقدّم العذر ، وإذا عقد وحلّ بعد ذلك كان كلامه تعبا ولغوا ، وما الإنسان لو لا اللسان ، وقد أخبر بلسانه عن عقده ورضاه ، فأىّ شيء بقي بعد هذا؟

وكذلك قوله في آية الدّين (٣) : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) ، فإذا أملى وكتب وأعطى الأجرة ثم عاد ومحا ما كتب كان تلاعبا وفسخا لعقد آخر قد تقرّر.

وكذلك قال (٤) : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ، وإذا حلّه فقد بخسه كلّه.

وكذلك قال (٥) : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ). وعلى أى شيء يشهدون؟ ولم يلزم عقد ولا انبرم أمر.

وكذلك قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) يلزم منه ما لزم من قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ). وكذلك قوله (٦) : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فيضيف عقدا إلى غير عقد ، ويرتهن إلى غير واجب ؛ واعتبار خيار المجلس وحده مبطل لهذا كله ، فأىّ الأمرين أولى أن يراعى؟ وأى الحالين أقوى أن يعتبر؟

فإن قيل : أمر الله تعالى بالكتابة والإشهاد محمول على الغالب في أن المتبايعين لا يفترقان حتى ينقضي ذلك كله.

قلنا : الغالب ضدّه ، وكيف يتصوّر بقاء الشهود حتى يقوم (٧) المتعاقدان؟ هذا لم يعهد (٨) ولم يتفق.

فإن تعلّقوا بخبر ابن عمر وغيره في خيار المجلس فهذا خروج عن القرآن إلى الأخبار وقد تكلمنا على ذلك في مسائل الخلاف بما يجب ، فلا ندخله في غير موضعه.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ١

(٢) في ا : لم يتعب. والمثبت من ل.

(٣) سورة البقرة آية ٢٨٢

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٨٣.

(٥) في ا : حتى يقدم.

(٦) في ا : لم يعمد. وهو تحريف.


المسألة الثامنة ـ هذا نصّ على إبطال بيع المكره لفوات الرّضا فيه ، وتنبيه على إبطال أفعاله كلّها حملا عليه.

المسألة التاسعة ـ قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ لا تقتلوا أهل ملّتكم. الثاني ـ لا يقتل بعضكم بعضا. الثالث ـ لا تقتلوا أنفسكم بفعل ما نهيتم عنه ؛ قاله الطبري والأكثر من العلماء.

وكلّها صحيح وإن كان بعضها أقعد من بعض في الدّين من اللفظ واستيفاء المعنى.

والذي يصحّ عندي أن معناه : ولا تقتلوا أنفسكم بفعل ما نهيتم عنه ، فكلّ ذلك داخل تحته ، ولكن ها هنا دقيقة من النظر ؛ وهي أنّ هذا الذي اخترناه يستوفى المعنى ، ولكنه مجاز في لفظ القتل ، وعلى حمل (١) الآية على صريح القتل يكون قوله : (أَنْفُسَكُمْ) مجازا أيضا ، فإذا لم يكن بدّ من المجاز فمجاز يستوفى المعنى ويقوم بالكل أولى ؛ وهذا كقوله تعالى (٢) : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فتدبّروه عليه.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) :

دليل على أنّ فعل الناسي والخاطئ والمكره لا يدخل في ذلك ؛ لأنّ هذه الأفعال لا تتّصف بالعدوان والظلم ، إلا فرع واحد منها وهو المكره على القتل ، فإنّ فعله يتّصف إجماعا بالعدوان ؛ فلا جرم يقتل عندنا بمن قتله ، ولا ينتصب الإكراه عذرا ، وقد بيّناه في مسائل الخلاف.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) :

اختلف في مرجعه ؛ فقيل إلى ما نهى عنه من قوله (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) إلى هاهنا ؛ لأن ما تقدّم قبله من أول السورة وعيده فيه.

وقيل : إنه يرجع إلى الكلّ ؛ لأن كون وعيده جاء معه مخصوصا لا يمنع أن يدخل في العموم أيضا ؛ إذ لا تناقض فيه ؛ بل فيه تأكيد له. قال (٤) ابن العربي : ها هنا دقيقة

__________________

(١) في ا : الحمل ، وهو تحريف.

(٢) سورة الحجرات ، آية ١١

(٣) سورة النساء ، آية ١٩

(٤) في ا : تأكيد لقول العربي ، والمثبت من ل.


أغفلها العلماء ؛ وذلك أنها إذا نزلت لا نعلم هل كان ذلك بعد استقرار ما سبقها من أول السورة إلى هنا منزّلا مكتوبا ، أم نزل جميعه بعد نزولها؟ وإذا علمنا أنّ ذلك كلّه تقدم نزولا وكتابة لا يقتضى قوله ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من أول السورة دون ما تقدم من أول القرآن دون جميع ما فيه من ممنوع محرّم.

فالأصح أنّ قوله : (ذلِكَ) يرجع إلى قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يقينا ؛ وغيره محتمل موقوف على الدليل ، والله أعلم.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ، وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

يروى (٢) أن أمّ سلمة قالت : يا رسول الله ، نغزو الرجال ولا نغزو؟ ويذكر الرجال ولا نذكر؟ ولنا نصف الميراث! فأنزل الله سبحانه هذه الآية : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).

المسألة الثانية ـ في حقيقة التمني ، وهو نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي.

المسألة الثالثة ـ نهى الله سبحانه عن التمني ؛ لأنّ فيه تعلق البال بالماضي ونسيان الآجل ، ولأجل ما فيه من ذلك وقع النهى عنه ، وتفطّن البخاري له فعقد له في جامعه كتابا فقال : كتاب التمني ، وأدخل فيه أبوابا ومسائل هناك ترى مستوفاة بالغة إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ المراد ها هنا النهى عن التمني الذي تستحسنه عند الغير حتى ينتقل إليك ، وهو الحسد المنهىّ عنه مطلقا في غير هذا الموضع. أمّا أنه يجوز تمنّى مثله وهي الغبطة ، فيستحبّ الغبط في الخير ؛ وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم : لا حسد إلا

__________________

(١) الآية الثانية والثلاثون.

(٢) أسباب النزول : ٨٥


في اثنتين : رجل يتلو القرآن ، وآخر يعمل الحكمة ويعلمها. هذا معناه. قال : اعملوا ولا تتمنّوا ، فليتكم قمتم بما أوتيتم ، واستطعتم ما عندكم.

وأحسن عبارة في ذلك قول الصوفية : كن طالب حقوق مولاك ولا تتبع متعلقات هواك.

وقال الحسن : لا يتمنينّ أحد المال وما يدريه لعل هلاكه فيه.

وهذا إنما يصح إذا تمنّاه للدنيا ، وأما إذا تمناه للخير فقد جوّزه الشرع كما تقدّم ؛ فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب ويفعل الله ما يشاء.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).

قال علماؤنا : أما نصيبهم في الأجر فسواء ؛ كلّ حسنة بعشر أمثالها ، للرجل والمرأة كذلك ، واسألوا الله من فضله.

وأما نصيبهم في مال الدنيا فبحسب ما علمه الله من المصالح ، وركب الخلق عليه من التقدير والتدبير رتّب أنصباءهم ، فلا تتمنوا ما حكم الله به وأحكم بما علم ودبّر حكمه.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ المولى في لسان العرب ينطلق على ثمانية معان ، قد بيناها في كتاب الأمد وغيره ، وأصله من الولي وهو القرب ، وتختلف درجات القرب وأسبابه.

المسألة الثانية ـ [معناه] (٢) مولى العصبة ؛ قاله مجاهد وابن عباس ، وهذا صحيح لقوله بعد ذلك : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). وليس بعد الوالدين والأقربين إلا العصبة ، ويفسّره ويعضده حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر.

__________________

(١) الآية الثالثة والثلاثون.

(٢) من ل.


المسألة الثالثة ـ المولى المنعم بالعتق في حكم القريب ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم : للولاء لحمة كلحمة النسب. وليس المنعم عليه بالعتق نسيبا ولا وارثا ؛ وإنما ثبت حكم النسب من إحدى الجهتين ، فكأنّ الولاء أبوة لأنه أوجده بالعتق حكما ، كما أوجد الأب ابنه بالاكتساب للوطء حسّا.

قال طاوس والحسن بن زياد : هو وارث ؛ لأنّ حكم النسب إذا ثبت من إحدى الجهتين وجب أن يثبت من الأخرى ، لا سيما وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : مولى القوم منهم.

واستهان العلماء بهذا الكلام ، وهي في غاية الإشكال ، وقد أجابوا عنه بأنّ الميراث إنما هو في مقابلة الإنعام بالعتق ؛ وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم جعله لحمة كلحمة النسب. الثاني ـ أنّ الإنعام بالعتق لا مقابل له إلّا العتق من النار حسبما قابله [به] (١) النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حين قال : أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.

وليس في المسألة عندي متعلق إلا الإجماع السابق لطاوس فيه ولمن قاله بعده.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ).

اختلف الناس فيه وابن عباس ، فتارة قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى (٢) : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) : يعنى تؤتوهم من الوصية جميلا وإحسانا في الثلث المأذون فيه. وتارة قال : كان المهاجرون لما قدموا المدينة حالف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم ، فكان الأنصارى يرث المهاجرىّ ، والمهاجرىّ يرث الأنصارى ؛ فنزلت هذه الآية ، ثم انقطع ذلك فلا تواخى بين أحد اليوم.

وقال ابن المسيب : نزلت (٣) في الذين كانوا يتبنون الأبناء ، فردّ الله الميراث إلى ذوى الأرحام والعصبة ، وجعل لهم نصيبا في الوصية.

وقد أحكم ذلك ابن عباس في الصحيح بيانا بما رواه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برهانا ، قال البخارىّ عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الصحيح : ولكلّ جعلنا

__________________

(١) من ل.

(٢) سورة الأحزاب ، آية ٦

(٣) أسباب النزول : ٨٦


موالي ـ قال : ورثة ، والذين عقدت أيمانكم ، فكان (١) المهاجرون لمّا قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصارىّ دون (٢) ذي رحمه للأخوة التي آخى بها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم ، فلما نزلت : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) نسخت. ثم قال : والذين عقدت (٣) أيمانكم من النصر والرّفادة (٤) والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ويوصّى له ، وهذه غاية ليس لها مطلب.

المسألة الخامسة ـ قال أبو حنيفة : حكم الآية باق من يرث به وبالاشتراك في الديون لاشتراكهما عنده في العقد ، وهذا باب قد استوفيناه في مسائل الخلاف ، وقد بينا ها هنا معنى الآية ، وحققنا أنه ليس وراءها معنى.

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (٥) : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ، فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ ، وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً).

فيها أربع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

ثبت عن الحسن أنه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت : إنّ زوجي لطم وجهى. قال : بينكما القصاص. فأنزل الله عزّ وجلّ (٦) : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). قال حجاج في الحديث عنه : فأمسك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حتى أنزل الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

قال جرير بن حازم : سمعت الحسن يقرؤها : «من قبل أن نقضي إليك وحيه» ، بالنون ونصب الياء من «وحيه».

المسألة الثانية ـ قوله : (قَوَّامُونَ) : يقال قوّام وقيّم ، وهو فعال وفيعل من قام ، المعنى

__________________

(١) في ل : كان.

(٢) في ا : فكان ، وهو تحريف. ولعلها مكان.

(٣) في ا ، ل : عاقدت.

(٤) الرفد : العطاء والصلة.

(٥) الآية الرابعة والثلاثون.

(٦) سورة طه ، آية ١١٤


هو أمين عليها يتولّى أمرها ، ويصلحها في حالها ؛ قاله ابن عباس ، وعليها له الطاعة وهي.

المسألة الثالثة ـ الزوجان مشتركان في الحقوق ، كما قدمنا في سورة البقرة (١) : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) بفضل القوامية ؛ فعليه أن يبذل المهر والنفقة ، ويحسن العشرة ، ويحجبها ، ويأمرها بطاعة الله ، وينهى إليها شعائر الإسلام من صلاة وصيام إذا وجبا على المسلمين ، وعليها الحفظ لماله ، والإحسان إلى أهله ، والالتزام لأمره في الحجبة وغيرها إلا بإذنه ، وقبول قوله في الطاعات.

المسألة الرابعة ـ قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) :

المعنى إنّى جعلت القوامية على المرأة للرجل لأجل تفصيلي له عليها ، وذلك لثلاثة أشياء :

الأول ـ كمال العقل والتمييز. الثاني ـ كمال الدين والطاعة في الجهاد والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر على العموم ، وغير ذلك.

وهذا الذي بيّن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للبّ الرجل الحازم منكنّ.

قلن : وما ذلك يا رسول الله؟ قال : أليس إحداكنّ تمكث الليالى لا تصلّى ولا تصوم ؛ فذلك من نقصان دينها. وشهادة إحداكنّ على النصف من شهادة الرجل ، فذلك من نقصان عقلها. وقد نصّ الله سبحانه على ذلك بالنقص ، فقال (٢) : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

الثالث ـ بذله لها المال من الصداق والنفقة ، وقد نصّ الله عليها ها هنا.

المسألة الخامسة ـ قوله : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ) ، يعنى مطيعات ، وهو أحد أنواع القنوت.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) ، يعنى غيبة زوجها ، لا تأتى في مغيبه بما يكره أن يراه منها في حضوره ؛ وقد قال الشعبي : إن شريحا تزوّج امرأة من بنى تميم يقال لها زينب. قال : فلما تزوجتها ندمت حتى أردت أن أرسل إليها بطلاقها.

__________________

(١) سورة البقرة ، ٢٢٨ ، وقد تقدم صفحة ١٨٨

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٨٢


فقلت : لا أعجل حتى يجاء بها. قال : فلما جيء بها تشّهدت ثم قالت : أمّا بعد فقد نزلنا منزلا لا ندري متى نظعن منه ، فانظر الذي تكره ، هل تكره زيارة الأختان (١)؟ فقلت : أما بعد فإنى شيخ كبير ، لا أكره المرافقة ، وإنى لأكره ملال الأختان. قال : فما شرطت شيئا إلّا وفت به ، قال : فأقامت سنة ثم جئت يوما ومعها في الحجلة (٢) إنس ، فقلت : إنا لله. فقالت : أبا أمية ، إنها أمى ، فسلّم عليها. فقالت : انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها. قال : فصحبتني ثم هلكت قبلي. قال : فوددت أنى قاسمتها عمرى أو متّ أنا وهي في يوم واحد. وقال شريح :

رأيت رجالا يضربون نساءهم

فشلّت يميني يوم أضرب زينبا

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (بِما حَفِظَ اللهُ) : يعنى بحفظ الله ، وهو ما يخلفه للعبد من القدرة على الطاعة ؛ فإنه إذا شاء أن يحفظ عبده لم يخلق له إلّا قدرة الطاعة ، فإن توالت كانت له عصمة ولا تكون إلا للأنبياء.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) :

قيل فيه : تظنون ، وقيل تتيقّنون ؛ ولكلّ وجه معنى يأتى بيانه في تركيب ما بعده عليه إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة ـ قوله : (نُشُوزَهُنَ) ، يعنى امتناعهنّ منكم ، عبّر عنه بالنشوز وهو من النشز : المرتفع من الأرض ، وإن كل ما امتنع عليك فقد نشز عنك حتى ماء البئر.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (فَعِظُوهُنَ) ، وهو التذكير بالله في الترغيب لما عنده من ثواب ، والتخويف لما لديه من عقاب ، إلى ما يتبع ذلك ممّا يعرّفها به من حسن الأدب في إجمال العشرة ، والوفاء بذمام الصحبة ، والقيام بحقوق الطاعة للزوج ، والاعتراف بالدرجة التي له عليها ؛ فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لو أمرت أحدا أن يسجد إلى أحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.

__________________

(١) الختن : كل من كان من قبل المرأة ، والجمع أختان.

(٢) الحجلة : بيت يزين بالثياب والأسرة والستور.


المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) :

فيه أربعة أقوال :

الأول : يوليها ظهره في فراشه ؛ قاله ابن عباس.

الثاني : لا يكلّمها ، وإن وطئها ؛ قاله عكرمة وأبو الضحى.

الثالث : لا يجمعها وإياه فراش ولا وطء حتى ترجع إلى الذي يريد ؛ قاله إبراهيم والشعبي وقتادة والحسن البصري ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم.

الرابع : يكلّمها ويجامعها ، ولكن بقول فيه غلظ وشدة إذا قال لها تعالى ؛ قاله سفيان.

قال الطبري : ما ذكره من تقدّم معترض ، وذكر ذلك (١) ، واختار أنّ معناه يربطن بالهجار وهو الحبل في البيوت ، وهي المراد بالمضاجع ، إذ ليس لكلمة (اهْجُرُوهُنَ) إلا أحد ثلاثة معان. فلا يصحّ أن يكون من الهجر الذي هو الهذيان ، فإنّ المرأة لا تداوى بذلك ، ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول ، لأنّ الله لا يأمر به ؛ فليس له وجه إلا أن تربطوهنّ بالهجار.

قال ابن العربي : يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة ، وإنى لأعجبكم من ذلك ؛ إنّ الذي أجرأه على هذا التأويل ، ولم يرد أن يصرّح بأنه أخذه منه ، هو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أنّ أسماء بنت أبى بكر الصديق امرأة الزبير بن العوّام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال : وعتب عليها وعلى ضرّتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، وضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقى ؛ فكان الضرب بها أكثر وآثر ؛ فشكته إلى أبيها أبى بكر ؛ فقال لها : أى بنيّة اصبري ؛ فإنّ الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة ، ولقد بلغني أنّ الرجل إذا ابتكر بالمرأة (٢) تزوّجها في الجنة. فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير ، فأقدم على هذا التفسير لذلك.

وعجبا له مع تبحّره في العلوم وفي لغة العرب كيف بعد عليه صواب القول ، وحاد عن سداد النظر ؛ فلم يكن بدّ والحالة هذه من أخذ المسألتين من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد ؛ فنظرنا في موارد (ه ج ر) في لسان العرب على هذا النظام فوجدناها سبعة :

__________________

(١) في القرطبي : بعد أن ذكر هذا القول وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال.

(٢) في القرطبي : بامرأة.


ضد الوصل. ما لا ينبغي من القول. مجانبة الشيء ، ومنه الهجرة. هذيان المريض. انتصاف النهار. الشاب (١) الحسن. الحبل الذي يشدّ في حقوق البعير ثم يشدّ في أحد رسغيه. ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو البعد عن الشيء فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصّحبة ، وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب ، ومجانبة الشيء بعد منه وأخذ في جانب آخر عنه ، وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام ، وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف. والشاب الحسن قد بعد عن العاب (٢) ، والحبل الذي يشدّ به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرّفه واسترسال ما ربط عن تقلقله وتحركه.

وإذا ثبت هذا ، وكان مرجع الجميع إلى البعد فمعنى الآية : أبعدوهنّ في المضاجع. ولا يحتاج إلى هذا التكلّف الذي ذكره العالم ، وهو لا ينبغي لمثل السدى والكلبي فكيف أن يختاره الطبري!

فالذي قال : يوليها ظهره جعل المضجع ظرفا للهجر ، وأخذ القول على أظهر الظاهر ، وهو حبر الأمة ، وهو حمل الأمر على الأقل ، وهي مسألة عظيمة من الأصول.

والذي قال يهجرها في الكلام حمل الأمر على الأكثر الموفى ، فقال : لا يكلمها ولا يضاجعها ، ويكون هذا القول كما يقول : اهجره في الله ، وهذا هو أصل مالك ، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال في تفسير الآية : بلغنا أنّ عمر بن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهنّ ، فإذا كانت ليلتها يفرش في حجرتها وتبيت هي في بيتها ، فقلت لمالك : وذلك له واسع؟ قال : نعم ، وذلك في كتاب الله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ).

والذي قال : لا يكلّمها وإن وطئها فصرفه نظره إلى أن جعل الأقلّ في الكلام ، وإذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة ، هذا وهو الراوي عن ابن عباس ما تقدّم من قوله.

والذي قال : يكلمها بكلام فيه غلظ إذا دعاها إلى المضجع جعله من باب ما لا ينبغي من القول.

__________________

(١) في ل : والشباب.

(٢) العاب : العيب والذم.


وهذا ضعيف من القول في الرأى ؛ فإنّ الله سبحانه رفع التثريب عن الأمة إذا زنت وهو العتاب بالقول ، فكيف يأمر مع ذلك بالغلظة على الحرة.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (وَاضْرِبُوهُنَ) :

ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : أيها الناس ، إنّ لكم على نسائكم حقّا ، ولنسائكم عليكم حقا ؛ لكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن ألّا يأتين بفاحشة مبيّنة ، فإن فعلن فإنّ الله تعالى قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرّح ، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف.

وفي هذا دليل على أنّ الناشز لا نفقة لها ولا كسوة ، وأن الفاحشة هي البذاء ليس الزنا كما قال العلماء ، ففسر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الضرب ، وبيّن أنه لا يكون مبرّحا ، أى لا يظهر له أثر على البدن ، يعنى من جرح أو كسر.

المسألة الثالثة عشرة ـ من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير ؛ قال : يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها ، فإن هي قبلت وإلا ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، فينظران ممن الضرر ، وعند ذلك يكون الخلع.

المسألة الرابعة عشرة ـ قال عطاء : لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه ، ولكن يغضب عليها.

قال القاضي : هذا من فقه عطاء ، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة ، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في

قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عبد الله بن زمعة : إنى لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه ، ولعله أن يضاجعها من يومه.

وروى ابن نافع عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استؤذن في ضرب النساء ، فقال : اضربوا ، ولن يضرب خياركم.

فأباح وندب إلى الترك. وإنّ في الهجر لغاية الأدب.

والذي عندي أنّ الرجال والنساء لا يستوون في ذلك ؛ فإنّ العبد يقرع بالعصا والحر


تكفيه الإشارة ، ومن النساء ، بل من الرجال من لا يقيمه إلا الأدب ، فإذا علم ذلك الرجل فله أن يؤدّب ، وإن ترك فهو أفضل.

قال بعضهم ـ وقد قيل له ما أسوأ أدب ولدك ـ فقال : ما أحبّ استقامة ولدي في فساد ديني.

ويقال : من حسن خلق السيد سوء أدب عبده.

وإذا لم يبعث الله سبحانه للرجل زوجة صالحة وعبدا مستقيما فإنه لا يستقيم أمره معهما إلا بذهاب جزء من دينه ، وذلك مشاهد معلوم بالتجربة.

فإن أطعنكم بعد الهجر والأدب فلا تبغوا عليهن سبيلا.

الآية السابعة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما).

وفيها خمس عشرة مسألة :

وهي من الآيات الأصول في الشريعة ، ولم نجد لها في بلادنا أثرا ؛ بل ليتهم يرسلون إلى الأمينة (٢) ، فلا بكتاب الله تعالى ائتمروا ، ولا بالأقيسة اجتزوا ، وقد ندبت إلى ذلك فما أجابنى إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد ، ولا إلى القضاء باليمين مع الشاهد إلا قاض آخر ، فلما ولّانى (٣) الله الأمر أجريت (٤) السنة كما ينبغي ، وأرسلت الحكمين ، وقمت في مسائل الشريعة كما علّمنى الله سبحانه من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة ؛ ولكن أعجب لأبى حنيفة ليس للحكمين عنده خبر ، وهو كثيرا ما يترك الظواهر والنصوص للأقيسة ؛ بل أعجب أيضا من الشافعى فإنه قال ما نصه : الذي يشبه ظاهر الآية أنّه فيما عمّ الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما ، وذلك أنى وجدت الله سبحانه أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا (٥) ، وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ، وبيّن في نشوز المرأة بالضّرب ، وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضاء المرأة ، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما

__________________

(١) الآية الخامسة والثلاثون.

(٢) هكذا في الأصول. وفي القرطبي : يجعلان على يدي أمين.

(٣) في ل : فلما ملكني.

(٤) في ا : ايت ، وهو تحريف.

(٥) في ل ، والقرطبي : بأن يصطلحا.


أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دلّ ذلك على أنّ حكمهما غير حكم الأزواج ، فلما كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرّقا إذا رأيا ذلك.

ووجدنا حديثا بإسناد يدلّ على أنّ الحكمين وكيلان للزوجين.

قال القاضي أبو بكر : هذا منتهى كلام الشافعى ، وأصحابه يفرحون به ، وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم ، وقد تولّى القاضي أبو إسحاق الردّ عليه ولم ينصفه في الأكثر.

والذي يقتضى الردّ عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول : أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عمّ الزوجين فليس بصحيح ؛ بل هو نصّه ، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ؛ فإنّ الله تعالى قال : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ.) ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها ؛ فإن أنابت وإلّا هجرها في المضجع ؛ فإن ارعوت وإلّا ضربها ، فإن استمرّت في غلوائها مشى الحكمان إليهما ؛ وهذا إن لم يكن نصّا ، وإلا (١) فليس في القرآن بيان.

ودعه لا يكون نصا يكون ظاهرا ، فأما أن يقول الشافعى يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه (٢) الظاهر؟ وكيف يقول الله : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) ؛ فنصّ عليهما جميعا ، ويقول هو : يشبه أن يكون فيما عمّهما وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، بل يجب أن يكون كذلك ، وهو نصّه.

ثم قال : فلما أمر بالحكمين علمنا أنّ حكمهما غير حكم الأزواج ، ويجب أن يكون غيره بأن ينفّذ عليهما بغير اختيارهما ، فتتحقق الغيريّة.

وأما قوله : لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح ، ولا خلاف فيه.

وأما قوله : برضا الزوجين بتوكيلهما فخطأ صراح ؛ فإن الله خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين ، وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك

__________________

(١) هكذا في الأصول ، وفي القرطبي : وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان.

(٢) في القرطبي : أشبه.


بتوكيلهما ، ولا يصحّ لهما حكم إلّا بما اجتمعا عليه ، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر ، وذلك لا يمكن هاهنا.

المسألة الأولى ـ قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ) :

قال السّدّى : يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقّته ، تقول المرأة لحكمها : قد ولّيتك أمرى وحالي كذا ؛ ويبعث الرجل حكما من أهله ويقول له : حالي كذا ؛ قاله ابن عباس ، ومال إليه الشافعى.

وقال سعيد بن جبير : المخاطب السلطان ، ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان ، فأرسل الحكمين.

وقال مالك : قد يكون السلطان ، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين.

فأما من قال : إنّ المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا.

وأما من قال : إنه السلطان فهو الحق.

وأما قول مالك : إنه قد يكون الوليين فصحيح ، ويفيده لفظ الجمع ، فيفعله السلطان تارة ، ويفعله الوصىّ أخرى.

وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما ، فما أنفذاه نفذ ، كما لو أنفذه الوصيان.

وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علىّ ؛ قال : جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام (١) من الناس ، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرّقا فرقتما.

فقالت المرأة : رضيت بما في كتاب الله لي وعلىّ. وقال الزوج : أما الفرقة فلا. فقال : لا تنقلب حتى تقرّ بمثل الذي أقرّت.

قال القاضي أبو إسحاق : فبنى على أنّ الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهى. فقالت المرأة بعد ما مضيا من عند علىّ : رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلىّ. وقال الزوج : لا أرضى. فردّ عليه علىّ تركه الرضا بما في كتاب الله ، وأمره أن يرجع كما يجب على كل مسلم ، أو ينفّذ ما فيه بما يجب من الأدب ، فلو

__________________

(١) فئام : جماعة من الناس.


كانا وكيلين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما؟ إنما كان (١) يقول : أتدريان بما وكّلتما ، ويسأل الزوجين ما قالا لهما.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) :

هذا نصّ من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان ، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بيّن الله سبحانه كلّ واحد منهما فلا ينبغي لشاد ـ فكيف لعالم ـ أن يركّب معنى أحدهما على الآخر ؛ فذلك تلبيس وإفساد للأحكام ، وإنما يسيران بإذن الله ، ويخلصان النية لوجه الله ، وينظران فيما عند الزوجين بالتثبّت ؛ فإن رأيا للجمع وجها جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما! كما روى أنّ عقيل بن أبى طالب تزوّج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقالت : اصبر لي وأنفق عليك ، وكان إذا دخل عليها قالت : يا بنى هاشم ، لا يحبّكم قلبي أبدا ، أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ، ترد أنوفهم قبل شفاههم! أين عتبة بن ربيعة؟ أين شيبة بن ربيعة؟ فيسكت حتى دخل عليها يوما وهو برم. فقالت له : أين عتبة بن ربيعة؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ، فنشرت عليها ثيابها. فجاءت عثمان ، فذكرت له ذلك ؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية. فقال ابن عباس : لأفرقنّ بينهما. وقال معاوية : ما كنت لأفرّق بين شيخين من بنى عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد سدّا عليهما أبوابهما ، وأصلحا أمرهما.

وفي رواية أنها لما أتيا اشتمّا رائحة طيبة وهدوّا من الصوت. فقال له معاوية : ارجع فإنى أرجو أن يكونا قد اصطلحا.

وقال ابن عباس : أفلا نمضي فننظر أمرهما؟ فقال معاوية : فتفعل ما ذا؟ فقال ابن عباس : أقسم بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمنّ عليهما ثم لأفرقنّ بينهما.

فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة ، وذكّرا بالله تعالى وبالصحبة ؛ فإن أنابا (٢) وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي ، فإن يكن ما طلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرّقا بينهما.

__________________

(١) في ا : أما بأن يقول. وهو تحريف. والمثبت من ل ، والقرطبي.

(٢) أنابا : رجعا.


وقاله جماعة منهم علىّ وابن عباس والشعبي ومالك ـ وهي :

المسألة الثالثة ـ وقال الحسن وابن زيد (١) : هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان ، ويشهدان بما ظهر إليهما.

وروى ذلك عن ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة والشافعى.

والذي صحّ عن ابن عباس ما قدّمنا من أنهما حكمان لا شاهدان.

فإذا فرّقا بينهما وهي :

المسألة الرابعة ـ تكون الفرقة كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة.

فإن قيل : إذا ظهر الظّلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح ؛ بل يؤخذ من الظالم حقّ المظلوم ويبقى العقد.

قلنا : هذا نظر قاصر ، يتصوّر في عقود الأموال ؛ فأما عقود الأبدان فلا تتمّ إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر ؛ فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه ، وكانت المصلحة في الفرقة ، وبأى وجه رأياها من المتاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة ، وهي :

المسألة الخامسة ـ جاز ونفّذ عند علمائنا.

وقال الطبري والشافعى : لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلّا برضاه ، وبه قال كلّ من جعلهما شاهدين ، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان ، وأنّ فعلهما ينفّذ كما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية ، وكما ينفّذ فعل الحكمين في جزاء الصيد ، وهي أختها.

والحكمة عندي في ذلك وهي :

المسألة السادسة ـ أنّ القاضي لا يقضى بعلمه ، فخصّ الشرع هاتين الواقعتين بحكمين ؛ لينفذ حكمهما بعلمهما ، وترتفع بالتعديد التهمة عنهما.

المسألة السابعة ـ قال علماؤنا : إذا كانت الإساءة من قبل الزوج فرّق بينهما ، وإن كانت من قبل المرأة ائتمناه عليها ، وإن كانت منهما فرّقا بينهما على بعض ما أصدقها ،

__________________

(١) في ل : وأبو زيد ، والمثبت في القرطبي أيضا : ٥ ـ ١٧٦


ولا يستوعبانه له ، وعنده بعض الظلم ، رواه محمد عن أشهب ، وهو معنى قوله تعالى (١) : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) :

قال ابن عباس ومجاهد : هما الحكمان إذا أرادا الإصلاح وفّق الله بينهما (٢) ، وذلك إذا أمرهما الله سبحانه بتوفيقه فقد صلح أمرهما وأمر الزوجين ، فكلّ ما كان بعد ذلك فهو خير ، والأصل هي النية ، فإذا صلحت صلحت الحال كلها ، واستقامت الأفعال وقبلت.

المسألة التاسعة ـ الأصل في الحكمين أن يكونا من الأهل ؛ والحكمة في ذلك أنّ الأهل أعرف بأحوال الزوجين ، وأقرب إلى أن يرجع الزوجان إليهما ، فأحكم الله سبحانه الأمر بأهله.

قال علماؤنا : فإن لم يكن لهما أهل ، أو كان ولم يكن فيهم من يصلح لذلك لعدم العدالة أو غير ذلك من المعاني فإنّ الحاكم يختار حكمين عدلين من المسلمين لهما أو لأحدهما كيفما كان عدم الحكمين منهما أو من أحدهما ، ويستحبّ أن يكونا جارين ؛ وهذا لأنّ الغرض من الحكمين معلوم ، والذي فات بكونهما من أهلهما يسير ، فيكون الأجنبى المختار قائما مقامهما ، وربما كان أوفى منهما.

المسألة العاشرة ـ إذا حكما بالفراق فإنه بائن لوجهين :

أحدهما كلّى ، والآخر معنوي. أمّا الكلّى فكلّ طلاق ينفذه الحاكم فإنه بائن.

الثاني أنّ المعنى الذي لأجله وقع الطلاق هو الشقاق ، ولو شرعت فيه الرجعة لعاد الشقاق ، كما كان أول دفعة ، فلم يكن ذلك يفيد شيئا ؛ فامتنعت الرجعة لأجله. فإن أوقعا أكثر من واحدة ؛ قال ابن القاسم وأصبغ : ينفذ. وقال مطرّف وابن الماجشون : لا يكون إلا واحدة.

وجه القول الأول بأنه ينفذ أنهما حكما فينفّذ ما حكما به. ووجه الثاني أنّ حكمهما لا يكون فوق حكم الحاكم لا يطلّق أكثر من واحدة ، كذلك الحكمان.

وبالجملة فردّه المسألة إلى مسألة خيار الأمة حزم ، والأصل واحد ، والأدلّة متداخلة ومتقاربة فليطلب في مسائل الخلاف.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٩

(٢) العبارة في القرطبي : إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين.


المسألة الحادية عشرة ـ فإن حكم أحدهما بواحدة ، والآخر بثلاث ، قال عبد الملك: ينفّذ الواجب ، وهي الواحدة التي اتفقا عليها ويلغو ما زاد.

وقال ابن حبيب : لا ينفذ شيء ، لأنهما اختلفا. وقال محمد : لا ينفذ شيء مثل قول ابن حبيب.

ولو طلّق أحدهما طلقة والآخر طلقتين فعلى قول ابن القاسم تلزمه طلقتان.

وقول عبد الملك أصحّ ، كالشاهدين إذا اختلفا في العدد قضى بالأقلّ.

المسألة الثانية عشرة ـ إذا حكم أحدهما بمال والآخر بغير مال لم يكن شيء ، لأنه اختلاف محض. كالشاهدين إذا شهد أحدهما ببيع والآخر بهبة فإنه لا ينفّذ اتفاقا.

المسألة الثالثة عشرة ـ إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين ولا ينتظر ارتفاعهما ؛ لأنّ ما يضيع من حقوق الله أثناء ما ينتظر رفعهما إليه لا جبر له.

المسألة الرابعة عشرة ـ يجزئ إرسال الواحد ؛ لأنّ الله سبحانه حكم في الزنا بأربعة شهود ، ثم قد أرسل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المرأة الزانية أنيسا ، وقال له : إن اعترفت فارجمها ، وكذلك قال عبد الملك في المدوّنة.

المسألة الخامسة عشرة ـ لو أرسل الزوجان حكمين ، وحكما نفذ حكمهما ؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة. هذا إذا كان كلّ واحد منهما عدلا ، ولو كان غير عدل قال عبد الملك : حكمه منقوض ؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر.

والصحيح نفوذه لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ ، وإن كان تحكيما فقد قدّماه على أنفسهما ، وليس الغرر بمؤثّر فيه ، كما لم يؤثر في التوكيل ، وباب القضاء مبنى على الغرر كلّه ، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يؤول إليه الحكم.

الآية الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ

__________________

(١) الآية السادسة والثلاثون.


ذِي الْقُرْبى ، وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ كما قال الله سبحانه : (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) قال بعض علمائنا : لو نوى تبرّدا أو تنظّفا مع نية الحدث أو مجمّا (١) لمعدته مع التقرّب لله أو قضاء الصوم ، فإنه لا يجزيه ، لأنه مزج في نيته التقرّب بنية دنياوية.

وليس لله إلّا الدّين الخالص.

وهذا ضعيف ؛ فإن التبرد لله ، والتنظيف وإجمام المعدة لله فإنّ كلّ ذلك مندوب إليه أو مباح في موضع ، ولا تناقض الإباحة الشريعة.

المسألة الثانية ـ وليس من هذا الباب ما لو أحسّ الإمام وهو راكع بداخل عليه في الصلاة فإنه لا ينتظره ، وليس لأمر يعود إلى نية الصلاة ؛ ولكن لأنّ فيه إضرارا بمن عقد الصلاة معه ؛ ومراعاته أولى.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) :

برّ الوالدين ركن من أركان الدين في المفروضات كما تقدم ، وبرّهما يكون في الأقوال والأعمال ؛ فأما في الأقوال فكما قال الله تعالى (٢) : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) ، فإنّ لهما حقّ الرّحم المطلقة ، وحقّ القرابة الخاصة ؛ إذ أنت جزء منه ، وهو أصلك الذي أوجدك ، وهو القائم بك حال ضعفك وعجزك عن نفسك.

وقد عرض رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره ، فقال : يا رسول الله ، إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج.

فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ الله سبحانه منع منّى سبى بنى مدلج لصلتهم الرحم.

وفي الإسرائيليات أنّ يوسف لما دخل عليه أبواه فلم يقم لهما قال الله عزّ وجلّ : وعزّتى لا أخرجت من صلبك نبيا ، فلا نبىّ فيهم من عقبه.

__________________

(١) في ا : عجم. والمثبت من ل. وفي القرطبي : مخما.

(٢) سورة الإسراء ، آية ٢٣


وفي الحديث : إنّ من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه ؛ ومن حقه أن يرجع في هبته ، وأن يأكل من مال ولده ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه. وقد بيناه في مسائل الخلاف.

فإن قيل : إذا أخذ الوالد (١) الهبة من الولد أغضبه فعقّه ، وما أدّى إلى المعصية فمعصية قلنا : أما إذا عصى أخذ بالشرع فلا لعا له (٢) ولا عذر ، إنما يكون العذر لمن أطاع الله أو عصى الله فيه.

فإن قيل : هل من برّ الرجل بوالده المشرك ألّا يقتله؟

قلنا : من برّه بنفسه أن يتولّى قتله. قال عبد الله بن عبد الله بن أبىّ بن سلول ـ مستأذنا في قتل أبيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إن أذنت لي في قتله قتلته. وهكذا فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه.

وللرحم حقّ ، ولكن لمّا جاء حقّ الله تعالى بطل حقّ الرحم.

المسألة الرابعة. والخامسة ـ اليتامى والمساكين ، وقد تقدمتا.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) :

حرمة الجار عظيمة في الجاهلية والإسلام معقولة مشروعة مروءة وديانة ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (٣) : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه.

وقال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره.

والجيران ثلاثة (٤) : جار له حقّ واحد ، وهو المشرك. وجار له حقّان : الجار المسلم. وجار له ثلاثة حقوق : الجار المسلم له الرحم (٥).

وهما صنفان قريب وبعيد ، وأبعده في قول الزهري من بينك وبينه أربعون دارا.

وقيل : البعيد من يليك بحائط ، والقريب من يليك ببابه ؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل قال له (٦) : إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدى؟ قال : إلى أقربهما منك بابا.

وحقوقه عشرة يجمعها الإكرام ، وكفّ الأذى.

ومن العشرة الحديث الصحيح (٧) : لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره.

__________________

(١) في ا : الولد ، وهو تحريف.

(٢) في ا : فعاله ، وهو تحريف. وفي اللسان : قال أبو عبيدة من دعائهم : لا لعا لفلان : أى لا أقامه الله.

(٣) ابن كثير ٤٩٥

(٤) في ابن كثير : فجار مسلم ذو رحم.

(٥) صحيح مسلم : ١٢٣٠


وقد رأى جميع العلماء أن يكون ذلك ندبا لا فرضا ، وأن يكون منعه مكروها لا محرّما ؛ لأنّ كلّ أحد أحقّ بماله. والحائط يحتاجه صاحبه ؛ فإن أعطاه نقص (١) ماله ، وإن أعاره (٢) تكلّف حفظه بالإشهاد ، وأضرّ بنفسه ؛ فإن شاء أن يحتمل له ذلك فله الأجر ، وإن أبى فليس عليه وزر.

المسألة السابعة ـ الصاحب بالجنب :

قيل : إنه الجار الملاصق ، والذي قال هذا جعل قوله : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الجار الذي له الرحم.

وقيل : إنه الذي يجمعك معه رفاقة السفر ، فهو ذمام عظيم ، فإنه يلفّه معه الأنس والأمن والمأكل والمضجع ، وبعضها يكفى للحرمة ، فكيف إذا اجتمعت؟

المسألة الثامنة ـ ليس من حقّ الجوار الشفعة كما قال أبو حنيفة ، وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف.

قال علماؤنا : لأنّ الله تعالى في هذه الآية لم يتعرّض للمفروضات ، وإنما ذكر الإحسان ، والمفروض لهم يؤخذ (٣) من دليل آخر.

وليس كما زعم ؛ لأنّ الإحسان يعمّ الفرض والنّفل ، ولم يبق شرع ولا حقّ إلا دخل فيه ؛ فعمّت الوصية فيه ، وتفصّلت منازله بالأدلة ؛ وإنما قطعنا شفعة الجوار بعلة أنّ الشفعة متعلقة بالشركة ؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : الشفعة فيما لم يقسم.

فإن قيل : فقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : الجار أحقّ بصقبه (٤).

قلنا : أراد به الشريك ، وهو أخص (٥) جوار بدليل ما تقدم.

المسألة التاسعة ـ ابن السبيل :

قيل : هو الضيف ينزل بك. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة وما زاد عليه صدقة ، ولا يحلّ له أن يثوى عنده حتى يحرجه.

__________________

(١) في ا : بعض.

(٢) في ا : وإن أعاده.

(٣) في ا : يوجد ، وهو تحريف.

(٤) في النهاية : الصقب : الملاصقة والقرب ، والمراد به الشفعة.

(٥) في ا : أحق.


وقد كان قوم منهم الليث بن سعد يرى أنّ الضيافة حق.

وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : فليكرم ضيفه ـ دليل على أنها كرامة ، وليست بحق ، وبذلك يفسر أنّ الإحسان هاهنا مستحب وإن كان ابن السبيل الفقير فقد تقدّم بيانه.

المسألة العاشرة ـ (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) :

أمر الله تعالى بالرّفق بهم والإحسان إليهم. وفي الصحيح عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : إخوانكم خولكم ، ملّككم الله رقابهم ، فأطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ، ولا تكلّفوهم من العمل ما لا يطيقون ، فإن كلفتموهم فأعينوهم.

وقال أبو مسعود : كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي : اعلم أبا مسعود ـ مرّتين ، فالتفّت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فألقيت السوط ، فقال : والله لله أقدر عليك منك على هذا.

الآية التاسعة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ روى عن ابن عباس أنّ جماعة من اليهود كانوا يأتون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزهّدونهم في نفقة أموالهم في الدين ، ويخوّفونهم الفقر ، ويقولون لهم: لا تدرون ما يكون ؛ فأنزل الله تعالى فيهم : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ...) الآية كلها (٢).

وقد قدّمنا (٣) في سورة آل عمران بيان البخل ، قال جماعة من العلماء : المعنى أنهم بخلوا بأموالهم ، وأمروا غيرهم بالبخل. وقيل : بخلوا بعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة ، وتواصوا مع أحبارهم بكتمه ، فذلك قوله تعالى : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وهي :

المسألة الثانية.

وقيل ـ وهي :

__________________

(١) الآية السابعة والثلاثون.

(٢) أسباب النزول : ٨٧

(٣) صفحة ٣٠٣


المسألة الثالثة ـ يكتمون الغنى ويتفاقرون للناس ، ليس عندنا وعندهم ، ليس معنا ومعهم ، وذلك حرام.

وقد قال الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). وإن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يرى أثر نعمته عليه.

الآية الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى (١) : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً).

قيل هم اليهود ، وقيل هم المنافقون ، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة ، وبيانها من تمام ما قبلها ، لأنّ الذي ينفق ماله رئاء الناس شرّ من الذي يبخل بالواجب عليه ، ونفقة الرياء تدخل في الأحكام من جهة أنّ ذلك لا يجزى.

الآية الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً).

فيها ثمان وثلاثون مسألة :

المسألة الأولى ـ خطاب الله سبحانه وتعالى بالصلاة وإقامتها عامّ في المسلم والكافر حسبما بيناه في أصول الفقه ؛ وإنما خصّ الله سبحانه وتعالى هاهنا المؤمنين بالخطاب لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر ، وتلفت (٣) عليهم أذهانهم ؛ فخصّوا بهذا الخطاب ؛ إذ كان الكفّار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها (٤) :

روى عبد الرحمن بن مهدى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبى عبد الرحمن السلمى ، عن على ـ أنه صلّى بعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر فقرأ : «قل يا أيها الكافرون» ،

__________________

(١) الآية الثامنة والثلاثون.

(٢) الآية الثالثة والأربعون.

(٣) في ا : والتفت.

(٤) ابن كثير : ٥٠٠ ، أسباب النزول : ٨٧


فخلط فيها ، وكانوا يشربون من الخمر ؛ فنزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى).

وقال علىّ بن أبى طالب (١) : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منّا ، وحضرت الصلاة ، فقدّمونى فقرأت : قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون. قال : فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ... الآية. خرّجه الترمذي وصحّحه.

وقد رويت هذه القصة بأبين من هذا ، لكنّا لا نفتقر إليها هاهنا ، وهذا حديث صحيح من رواية العدل عن العدل.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) :

سمعت الشيخ الإمام فخر الإسلام أبا بكر محمد بن أحمد الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبى حنيفة ومالك في مجلس النظر ؛ قال : يقال في اللغة العربية : لا تقرب كذا ـ بفتح الراء ؛ أى لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع ، وهذا الذي قاله صحيح مسموع.

المسألة الرابعة ـ قوله : (الصَّلاةَ) :

وهي في نفسها معلومة اللفظ مفهومة (٢) المعنى ، لكن اختلفوا فيها قديما وحديثا في المراد بها ها هنا على قولين :

أحدهما ـ أنّ المراد بها النهى عن قربان الصلاة نفسها ؛ قاله (٣) علىّ ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومالك ، وجماعة.

الثاني ـ أنّ المراد بذلك موضع الصلاة وهو المسجد ؛ قاله ابن عباس ، في قوله الثاني ، وعبد الله بن مسعود ، وعطاء بن أبى رباح ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة وغيرهم.

سمعت فخر الإسلام يقول في الدرس : المراد بذلك لا تقربوا مواضع الصلاة ، وحذف المضاف وإقامته مقام المضاف إليه أكثر في اللغة من رمل يبرين ـ وهي فلسطين ـ في الأرض ،

__________________

(١) القرطبي : ٥ ـ ٢٠٠

(٢) في ا : مقدمة.

(٣) في ا : قال.


ويكون فيه تنبيه على المنع من قربان الصلاة نفسها ؛ لأنه إذا نهى عن دخول موضعها كرامة فهي بالمنع أولى.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) :

السكر : عبارة عن [حبس العقل عن] (١) التصرّف على القانون الذي خلق عليه في الأصل من النظام والاستقامة ، ومنه قوله تعالى (٢) : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ؛ أى حبست عن تصرّفها المعتاد لها ، ومنه سكر الأنهار ؛ وهو محبس مائها ، فكلّ ما حبس العقل عن التصرف فهو سكر ، وقد يكون من الخمر ، وقد يكون من النوم ، وقد يكون من الفرح والجزع.

وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أنّ المراد بهذا السكر سكر الخمر ، وأنّ ذلك إبّان كانت الخمر حلالا ، خلا الضحاك فإنه قال : معناه سكارى من النوم ، فإن كان أراد أنّ النهى عن سكر الخمر نهى عن سكر النوم فقد أصاب ، ولا معنى له سواه ؛ ويكون من باب لا يقضى القاضي وهو غضبان : دلّ على أنه منهىّ عن كل قضاء في حال شغل البال بنوم أو جوع أو حقن أو حزق ، فلا يفهم معه كلام الخصوم ، كما لا يعلم ما يقرأ ، ولا يعقل في الصلاة إذا دافعه الأخبثان ، أو كان بحضرة طعام ، كما رواه مسلم ، ولذلك قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، وهي :

المسألة السادسة ـ فبيّن العلّة في النهى ، فحيثما وجدت ، بأى سبب وجدت ، يترتّب عليها الحكم ، وقد أغنى هذا اللفظ عن علم سبب الآية ، لأنه مستقلّ بنفسه.

وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح : لا يصلّى أحدكم وهو نائم ؛ لعله يذهب يستغفر ، فيسبّ نفسه ، فهذا أيضا مستقل بنفسه ، والحقّ يعضد بعضه بعضا.

فإن قيل ، وهي :

المسألة السابعة ـ وكيف يصحّ تقدير هذا النفي؟ أتقولون : إنّ المراد به السكر؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح : لا يصلّى أحدكم وهو نائم ، لعله يذهب يستغفر فيسبّ نفسه ؛ فهذا أيضا الذي لا يعقل معه معنى ، وكيف يتوجّه على هذا خطاب؟

__________________

(١) من ل.

(٢) سورة الحجر ، آية ١٥


فإن قلتم : نهى عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة. قيل لكم : إنّ السكر إذا نافى ابتداء الخطاب نافى استدامته.

وإن قلتم إنّ المراد به المنتشى الذي ليس بسكران نهى أن يصيّر نفسه سكران والله تعالى يقول : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ؛ أى في حال سكركم ؛ ولما كان الاضطراب في الآية هكذا قال الشافعى : المراد به موضع الصلاة. هذا نصّ كلام بعض من يدّعى له التحقيق من أئمة الشافعية ، وهذه منه غفلة ؛ فإنّ كلّ ما لزمه في تقدير الصلاة من توجيه الخطاب يلزمه في تقدير موضع الصلاة.

والذي يعتقد (١) أنه يصحّ أن يكون خطابا للصاحى ، يقال له : لا تشرب الخمر بحال ؛ فإنّ ذلك يؤدّى إلى أن تصلّى وأنت لا تعلم فتخلط كما فعل من تقدم ذكره ، وهذه إشارة إلى التحريم ، فلم يقنع بها عمر.

والنهى عن التعرض للمحرمات معقول ؛ وهذا الخطاب يتوجّه عليه وهو صاح ؛ فإذا شرب وعصى وسكر توجّه عليه اللوم والعقاب ، ويصحّ أن يخاطب المنتشى وهو يعقل النهى ، لكن استمرار الأفعال والكلام وانتظامه ربما يفوته ؛ فقيل له : لا تفعل وأنت منتش أمرا لا تقدر على نظامه كلّه ، وحاشا لله أن يكون الشافعىّ يأخذ بهذا من كلام هذا الرجل ، وإنما ينسج الشافعىّ على منوال الصحابة ، وما في الآية احتمال يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وهو الإسكار.

فإن قيل ، وهي :

المسألة الثامنة ـ فقد نرى الإنسان يصلّى ولا يحسن صلاته لشغل باله ، فلا يشعر بالقراءة حتى تكمل ، ولا بالركوع ولا بالسجود حتى لا يعلم ما كان عدده ، حتى روى عن عمر أنه قال : إنى لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة.

قلنا : إنما أخذ على العبد الاستشعار وإحضار النيّة في حال التكبير ، فإن ذهل بعد ذلك فقد سومح فيه ما لم يكثر ؛ لتعذّر الاحتراز منه ، وأنه لا يمكن تكليف العباد به ؛ وليس

__________________

(١) في ا : يعتقده.


حال عمر من هذا ، فإنّ ذلك نظر في عبادة لعبادة مثلها أو أعظم في بعض الأحوال منها ، ومع هذا فإنما يكون ذلك لحظة مع الغلبة ثم يصحو إلى نفسه ، بخلاف السكران والنائم والغاضب ومدافع الأخبثين ، فإنه لا يمكنه إحضار ذهنه لغلبة الحال عليه.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) :

الجنب في اللغة : البعيد ، بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة ، وقد كان عندهم الجنب معروفا ، وهو الذي غشى النساء ، والحديث عندهم معروفا. وهو ما خرج من السّبيلين على الوجه المعتاد ، ثم أثبتت الشريعة بعد ذلك زياداته وتفصيله ، وهو إيلاج في قبل أو دبر بشرط مغيب الحشفة دون إنزال ، أو إنزال الماء دون مغيب الحشفة ، أو مجموعهما على حسب ما بينّا في كتب الحديث والمسائل ، فلينظر هناك.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) :

أما من قال : إنّ المراد بقوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) لا تقربوا مواضع الصلاة ، فتقدير الآية عندهم : لا تقربوا المساجد وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا ، إلّا عابري سبيل ؛ أى مجتازين غير لابثين ؛ فجوّزوا العبور في المسجد من غير لبث فيه.

وأما من قال : إنّ المراد بذلك نفس الصلاة فإن تقدير الآية : لا تصلّوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلّا عابري سبيل حتى تغتسلوا لها ، أو تكونوا مسافرين ، فتيمّموا وتصلّوا وأنتم جنب حتى تغتسلوا إذا وجدتم الماء.

ورجّح أهل القول الأول مذهبهم بما روى عن جابر بن عبد الله وابن مسعود أنه كان أحدنا يمرّ بالمسجد وهو جنب مجتازا.

ورجّح الآخرون بما روى (١) أفلت بن خليفة ، عن جسرة بنت دجاجة ، عن عائشة أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بردّ الأبواب الشارعة إلى المسجد ، وقال : لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب. خرّجه أبو داود وغيره.

والمسألة تفتقر إلى تفصيل تنقيح ، وقد أحكمناها في مسائل الخلاف بما نشير إليه ها هنا فنقول :

__________________

(١) ابن كثير : ٥٠١


لا إشكال في أن الآية محتملة ، ولذلك اختلف فيها الصحابة ؛ فإن أردنا أن نعلم المراد منها رجّحنا احتمالاتها حتى نرى الفضل لمن هو فيها ؛ فأما أصحاب الشافعى فظهر لهم أنّ العبور لا يمكن في نفس الصلاة فلا بدّ من تأويل ؛ وأحسنه حذف المضاف وهو الموضع ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو الصلاة ؛ وذلك كثير في اللغة ، ولا يحتاج بعد ذلك إلى حذف كثير وتأويل طويل في قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ).

قالوا : وأيضا فإنّ ما تأوّلتم في قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يفهم من الآية التي بعدها في قوله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

وأما علماؤنا فقالوا : إنّ أوّل ما يحفظ سبب الآية التي نزلت عليه في الصحيح ، وتحفظ فاتحتها فتحمل على ظاهرها ، حتى نرى ما يردّنا عنها ويحفظ لغتها (١) ، فإنه تعالى قال : لا تقربوها ـ بفتح الراء ، وذلك يكون في الفعل لا في المكان ، فكيف يضمر المكان ويوصل بغير فعله؟ هذا محال.

وتقدير الآية أنه قال سبحانه : لا تصلّوا سكارى ولا جنبا إلّا عابري سبيل.

فإن قيل : كيف يكون العبور في نفس الصلاة؟

قلنا : بأن يكون مسافرا ، فلم يجد ماء فيصلّى حينئذ بالتيمم جنبا ، لأنّ التيمم لا يرفع حدث الجنابة.

فإن قيل : لا يسمّى المسافر عابر سبيل.

قلنا : لا نسلّم ، بل يقال له عابر سبيل حقيقة واسما ، والدنيا كلّها سبيل تعبر. وفي الآثار : الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها.

وقد اتفقوا معنا على أنّ التيمم لا يرفع الجنابة.

وأما قولهم : إنّ ما قلتم يفتقر إلى الإضمار الكثير. قلنا : إنما يفتقر إليه في تفهيم من لا يفهم مثلك ، وأما مع من يفهم فالحال تعرب عن نفسها كما أعربت الصحابة.

وأما قولهم : إنّ هذا يفهم من الآية التي بعدها في قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ

__________________

(١) في ل : ونحفظ لغتنا.

(٢) سورة النساء ، آية ٤٣


عَلى سَفَرٍ ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، فليس يفهم من هذا إلّا جواز التيمّم عند الماء ؛ فأما أن يكون التيمم لا يرفع الحدث مع إباحة الصلاة فليس يفهم إلّا من هذا الموضع قبله ؛ وهي فائدة حسنة جدا.

المسألة الحادية عشرة ـ ثبت عن عطاء بن يسار (١) أنه قال : كان رجال من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم تصيبهم الجنابة فيتوضّئون ، ويأتون المسجد فيتحدثون فيه ، وربما اغترّ بهذا جاهل فظنّ أنّ اللبث للجنب في المسجد جائز. وهذا لا حجّة فيه ؛ فإنّ كل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة كيف يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، ولا يصحّ له أن يتلبّس بها؟

فإن قيل : يبطل بالحديث (٢) ، فإنه لا يحلّ فعل الصلاة ويدخل المسجد.

قلنا : ذلك يكثر وقوعه فيشقّ الوضوء له ، والشريعة لا حرج فيها ، بخلاف الغسل ، فإنه لا مشقة في أن يمنع من المسجد حتى يغتسل ، لأنها تقع نادرا بالإضافة إلى حدث الوضوء.

فإن قيل : هذا قياس؟

قلنا : نعم ؛ هو قياس ؛ ونحن إنما نتكلّم مع أصحاب محمد الذين يرونه دليلا ؛ فإن وجدنا مبتدعا ينكره أخذنا معه غير هذا المسلك كما قد رأيتمونا مرارا نفعله فنخصمهم (٣) ونبهتهم ؛ وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه (٤) لم يكن أذن لأحد أن يمرّ في ولا يجلس فيه إلا علىّ بن أبى طالب.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) :

وهو لفظ معلوم عند العرب يعبّرون به عن إمرار الماء على المغسول باليد حتى يزول عنه ما كان منع منه ؛ عبادة أو عادة.

وظن أصحاب الشافعى أنّ الغسل عبارة عن صبّ الماء خاصة لا سيما وقد فرّقت العرب بين الغسل بالماء والغمس فيه.

__________________

(١) ابن كثير : ٥٠٢

(٢) في ا : بالمحدث.

(٣) خصمه : غلبه.

(٤) ابن كثير : ٥٠١


وفي الحديث الصحيح أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أتى بصبى لم يأكل الطعام فبال على ثوبه فأتبعه بماء ولم يغسله. وهذا نص.

المسألة الثالثة عشرة ـ لما قال : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) اقتضى هذا عموم إمرار الماء على البدن كلّه باتفاق ؛ وهذا لا يتأتّى إلّا بالدّلك ، وأعجب لأبى الفرج الذي رأى وحكى عن صاحب المذهب أنّ الغسل دون ذلك يجزى ؛ وما قاله مالك قط (١) نصّا ولا تخريجا ، وإنما هي من أوهامه ؛ فإن اللفظ إذا كان غريبا لم يخرج عند مالك أو كان احتياطا لم يعدل عنه ، ولو صببت على نفسك الماء كثيرا ما عمّ حتى تمشى يدك ؛ لأنّ البدن بما فيه من دهنية يدفع الماء عن نفسه.

المسألة الرابعة عشرة ـ إذا عمّ المرء نفسه بالماء أجزأه إجماعا ، إلّا أنّ الأفضل له أن يمتثل فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد ثبت عنه من طرق في دواوين صحاح على السنة عدول قالوا : روت عائشة : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يأخذ الماء فيدخل فيه أصابعه وفي أصول الشّعر ، حتى إذا رأى أن قد أروى بشرته حفن على رأسه ثلاث حفنات ، ثم أفاض على سائر جسده ، ثم غسل رجليه.

وفي رواية ميمونة : ثم غسل جسده. وروى أبو داود والترمذي ، عن أبى هريرة ـ أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : تحت كل شعرة جنابة ، فاغسلوا الشّعر ، وأنقوا البشرة. قال أبو داود : لم أدخل في كتابي إلّا الحديث الصحيح ، أو ما يقرب من الصحيح.

المسألة الخامسة عشرة ـ لما قال الله سبحانه : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) وفهم الكلّ منه عموم البدن بالماء والغسل بالغ قوم منهم أبو حنيفة فقال : إن المضمضة والاستنشاق واجبان في غسل الجنابة ؛ لأنهما من جملة الوجه ، وحكمهما حكم ظاهر الوجه بدليل غسلهما من النجاسة ، كما يغسل الخدّ والجبين ؛ وهي مسألة خلاف كبيرة ، وقد بيّنا ما فيها.

واللباب منها أنّ الفم والأنف باطنان حقيقة وحكما ؛ أمّا الحقيقة فإنك تشاهد بطونهما

__________________

(١) في ا : وما قاله ، فظاهر نصا لا تخريجا ، وهو تحريف.


في أصل الخلقة ؛ وأمّا الحكم فمن وجهين :

أحدهما ـ أنّ الصائم إذا بلع ما اجتمع من الريق في فمه فلا يفطر ، ولو ابتلعه من يده لأفطر.

الثاني ـ أنهما لا يجبان في غسل الميت مع أنه يعمّ جميع البدن ، والمسألة هناك مستوفاة ، فمن أرادها وجدها.

المسألة السادسة عشرة ـ إن اسم الجنابة باق عليه حتى يغتسل ؛ لأنه حكم مدّة إلى غاية هي الاغتسال ، والحكم المعلّق بالغاية يمتدّ إلى غايته ، وقد تكلمنا عليه في كتب المسائل.

المسألة السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) يقتضى النية ، خلافا لما رواه الوليد بن مسلم عن مالك ، ولما ذهب إليه الأوزاعى وأبو حنيفة من أنّ الطهارة لا تفتقر إلى نيّة ؛ ولفظ «اغتسل» يقتضى اكتساب الفعل ، ولا يكون مكتسبا له إلا بالقصد إليه حقيقة ، فمن أخرجه إلى المجاز فعليه البينة.

وقد استوفيناها في كتب الخلاف بالإنصاف (١) والتلخيص ؛ أعظمها أنّ الوضوء عبادة اشترطت فيها النية كالصلاة.

والدليل على أنّ الوضوء عبادة قوله صلّى الله عليه وسلّم : الوضوء شطر الإيمان. ولا يكون شطر الشيء إلا من جنسه. قال : والوضوء نور على نور ، ولا تستنير الجوارح بالمباحات ، وإنما تستنير بالطاعات والعبادات.

وقال : إذا توضّأ العبد المؤمن خرجت خطاياه ... الحديث

، ولا ينفى الأوزار إلا العبادات ، والقرآن يقتضى وجوب النية في الوضوء في آية المائدة على ما سترونه مشروحا إن شاء الله. المسألة الثامنة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) :

المرض عبارة عن خروج البدن عن الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ ؛ وهو على ضربين : يسير وكثير ، وقد يخاف المريض من استعماله ، وقد يعدم من يناوله إياه وهو يعجز عن تناوله ، ومطلق اللفظ يبيح التيمّم لكل مريض إذا خاف من استعماله وتأذّيه بالماء.

__________________

(١) في ا : والإنصاف.


وروى عن الشافعى أنه قال : يباح التيمم للمريض إذا خاف التلف ؛ ونظر إلى أنّ زيادة المرض غير متحققة ، لأنها قد تكون وقد لا تكون ، ولا يجوز ترك الفرض المتيقّن للخوف المشكوك فيه.

قلنا : ظاهر الآية يجوّز له التيمم ؛ فليس لك في هذا القول أصل تردّ إليه كلامك ؛ بل قد ناقضت ؛ فإنك قلت : إذا خاف التلف من البرد تيمّم ، فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه له خوف المرض ؛ فإن المرض محذور ، كما أنّ التلف محذور ، وكذلك يقول : إذا خاف المرض من البرد يتيمّم فكيف بزيادة المرض؟

وقد روى جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه فشجّه ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ؛ فاغتسل ، فمات ؛ فلما قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك ، فقال : قتلوه ، قتلهم الله. ألا سألوا إذا لم يعلموا! فإنما شفاء العىّ السؤال ؛ إنما كان يكفيه أن يتيمّم ، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. خرّجه أبو داود وغيره.

وعجبا للشافعي يقول : لو زاد الماء على قيمته حبّة لم يلزم شراؤه صيانة للمال ؛ ويلزمه التيمم ، وهو يخاف على بدنه المرض ، وليس لهم عليه كلام يساوى سماعه.

المسألة التاسعة عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) :

روى أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك ، فنزلت هذه الآية.

وقالت عائشة : كنت في مسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنت بذات الجيش ضلّ عقد لي ... الحديث (١) إلى آخره. قال : فنزلت آية التيمم ، وهي معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد ، هما آيتان فيهما ذكر التيمم : إحداهما في النساء ، والأخرى في المائدة (٢) ، فلا نعلم أية آية عنت عائشة.

وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة

__________________

(١) الحديث بتمامه في أسباب النزول ٨٧

(٢) أى هذه الآية في النساء ، وآية المائدة : ٦


المريسيع (١) قال خليفة بن خيّاط : سنة ست من الهجرة. وقال غيره : سنة خمس ، وليس بصحيح.

وحديثها يدلّ على أنّ التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم. فالله أعلم كيف كانت حال من عدم الماء ، وحانت عليه الصلاة. فإحدى الآيتين مبينة والأخرى زائدة عليها ، وإحداهما سفرية والأخرى حضرية ، ولما كان أمرا لا يتعلق به حكم خبأه الله ولم يتيسّر بيانه على يدي أحد ، ولقد عجبت من البخاري بوّب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم ، وأدخل حديث عائشة فقال : وإن كنتم مرضى أو على سفر. وبوّب في سورة المائدة فقال : باب (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ، وأدخل حديث عائشة بعينه ، وإنما أراد أن يدلّ على أنّ الآيتين تحتمل كلّ واحدة منهما قصة عائشة ، وأراد فائدة أشار إليها هي أنّ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) إلى هذا الحد نزل في قصة علىّ ، وأنّ ما وراءها قصة أخرى وحكم آخر لم يتعلّق بها شيء منه ، فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها.

والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أنّ آية الوضوء يذكر التيمم فيها في المائدة ، وهي النازلة في قصة عائشة ، وكان الوضوء مفعولا غير متلوّ ، فكمل ذكره ، وعقب بذكر بدله واستوفيت النواقض فيه ، ثم أعيدت من قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ...) إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، حتى تكمل تلك الآية في سورة النساء جاء بأعيان مسائلها كمال هذه ، ويتكرّر البيان ، وليس لها نظير في القرآن. والذي يدلّ على أنّ آية عائشة هي آية المائدة أنّ المفسرين بالمدينة اتفقوا على أنّ المراد بقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) يعنى من النوم ، وكان ذلك في قصة عائشة ؛ والله أعلم.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) ها هنا خلاف قوله (٢) : (أَوْ عَلى سَفَرٍ)

__________________

(١) المريسيع : بئر أو ماء لخزاعة ، وإليه تضاف غزوة بنى المصطلق.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٨٤ ، ١٨٥


في الصيام ؛ لأنّ السفر هناك شرط في الإفطار ، فاعتبرناه وتكلّمنا عليه ، وحدّدناه ، فأما هاهنا فإنّ التيمم في حالة الحضر جائز ، وإنما نصّ الله سبحانه على السفر ، لأنه الغالب من عدم الماء ؛ فأما عدم الماء في الحضر فنادر ؛ فإن وقع فالتيمم جائز عند علمائنا والشافعية. وفي المدوّنة : يعيد إذا وجد الماء ، وإنما ذلك حيث وقع اتهام له بالتقصير كما استقصر (١) فيما إذا نسى الماء في رحله وتيمّم ، والناس لا خطاب عليهم إجماعا.

وقال أبو حنيفة : يتيمم في الحضر إلا مريض أو محبوس ، يقال له ، أو طليق طلب الماء فلم يجده حتى خاف خروج الوقت فإنه يتيمم ؛ لأنّ معنى المرض والحبس عنده هو عدم المقدرة ، على ما يأتى بيانه شريفا بديعا إن شاء الله تعالى.

وفي الصحيح أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم سلّم عليه رجل فلم يردّ عليه السلام حتى تيمّم في الحائط. وهذا نصّ في التيمم في الحضر.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ).

وهو المطمئنّ من الأرض ، كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستّر ، فكنى به عما يخرج من السّبيلين ، وشرط الوضوء به شرعا ؛ وكأنّ معنى ذلك : أو كنتم جنبا أو محدثين حتى تغتسلوا ؛ ولكل شيء بيان صفة غسله (٢) ، ولذلك قال علماؤنا : إن الخارج إذا كان على غير المعتاد لم يتعلّق به نقض الوضوء وصار داء ، والدليل عليه سقوط اعتبار دم المستحاضة لأجل أنه دم علّة ، وقد مهدنا ذلك بتفصيله في كتب المسائل.

المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) :

فيها خلاف كثير ، وأقوال متعددة للعلماء ، ومتعلقات مختلفات ، وهي من مسائل الخلاف الطيولية ؛ وقد استوفينا ما فيه بطرقه البديعة ، وخذوا الآن معنى قرآنيا بديعا ؛ وذلك أنّا نقول : حقيقة اللمس إلصاق الجارحة بالشيء ، وهو عرف في اليد ؛ لأنها آلته الغالبة ؛ وقد يستعمل كناية عن الجماع.

__________________

(١) في ا : استقصره.

(٢) في ل : ولكل شيء بيان صفة عنه له.


وقد قالت طائفة : اللّمس هنا الجماع.

وقالت أخرى : هو اللمس المطلق لغة أو شرعا ؛ فأما اللغة فقد قال المبرد : لمستم : وطئتم ، ولامستم : قبّلتم ؛ لأنها لا تكون إلا من اثنين ، والذي يكون بقصد وفعل من المرأة هو التقبيل ، فأما الوطء فلا عمل لها فيه.

قال أبو عمرو : الملامسة الجماع ، واللمس لسائر الجسد ، وهذا كلّه استقراء لا نقل فيه عن العرب.

وحقيقة النّقل أنه كله سواء ؛ «وإن لمستم» محتمل للمعنيين جميعا ، كقوله : لامستم ، ولذلك لا يشترط لفعل الرجل شيء من المرأة.

وقد قال ابن عباس : إنّ الله تعالى حيي كريم يعفّ (١) ؛ كنى باللمس عن الجماع.

وقال ابن عمر : قبلة الرجل امرأته وجسّها بيده من الملامسة ، وكذلك قال ابن مسعود ، وهو كوفى ، فما بال أبى حنيفة خالفه؟ ولو كان معنى القراءتين مختلفين لجعلنا لكلّ قراءة حكمها ، وجعلناهما بمنزلة الآيتين ، ولم يتناقض ذلك ولا تعارض ؛ وهذا تمهيد المسألة.

ويكمله ويؤكده ويوضحه أنّ قوله : (وَلا جُنُباً) أفاد الجماع ، وأن قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أفاد الحدث ، وأنّ قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ) أفاد اللمس والقبل ؛ فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام ، وهذا غاية في العلم والإعلام ، ولو كان المراد باللمس الجماع لكان تكرارا ، وكلام الحكيم يتنزّه عنه ، والله أعلم.

فإن قيل : ذكر الله سبحانه الجنابة ولم يذكر سببها ، فلما ذكر سبب الحدث ـ وهو المجيء من الغائط ـ ذكر سبب الجنابة ، وهو الملامسة للجماع ؛ ليفيد أيضا بيان حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء ، كما أفاد بيان حكمها عند وجود الماء.

قلنا : لا يمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس ، ويفيد الحكمين ، وقد حقّقنا ذلك في أصول الفقه.

المسألة الثالثة والعشرون ـ راعى مالك في اللمس القصد ، وجعله الشافعى ناقضا للطهارة

__________________

(١) في ا : يعفو.


بصورته كسائر النواقض ، وهو الأصل ؛ والذي يدّعى انضمام القصد إلى اللمس في اعتبار الحكم هو الذي يلزمه الدليل ؛ فإنّ الله تعالى أنزل اللمس المفضى إلى خروج الذي منزلة التقاء الختانين المفضى إلى خروج المنىّ. فأما اللمس المطلق فلا معنى له ، وذلك مقرّر في مسائل الخلاف.

المسألة الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (النِّساءَ) :

وهذا عامّ في كل امرأة بحلال أو حرام كالجنابة ، حتى قال الشافعىّ : إنه لو لمس صغيرة ينتقض طهره في أحد قوليه.

وهذا ضعيف ؛ فإنّ لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة ، وإن أخرج ذوات المحارم عنها فقد انتقض عليه جميع مذهبه في ذلك. ونحن اعتبرنا اللذة ، فحيث وجدت وجد حكمها ، وهو وجوب الوضوء.

المسألة الخامسة والعشرون ـ يدخل في حكم اللمس الرجال والنساء كما دخلوا في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) سواء ، لأنه لا اعتبار عندنا بالاسم ، وإنما الاعتبار بالمعنى ؛ وذلك بيّن.

المسألة السادسة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) :

لما ذكر الله سبحانه اغتسلوا واطّهروا اقتضى ذلك الماء اقتضاء قطعيّا ، إذ هو الغاسول والطّهور ؛ فلذلك قال : لم تجدوا ماء ، فصرّح بالمقتضى ، وكان عنده سواء التصريح والاقتضاء ؛ وهذا في اللغة كثير.

المسألة السابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) :

قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فائدة الوجود الاستعمال والانتفاع بالقدرة عليهما ، فمعنى قوله : فلم تجدوا ماء : فلم تقدروا ؛ ليتضمّن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة فيها ، وهي المرض والسفر ؛ فإنّ المريض واجد للماء صورة ، ولكنه لمّا لم يتمكن من استعماله لضرورة صار معدوما حكما ؛ فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام : فلم تقدروا على استعمال الماء. وهذا يعمّ المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصّا أو سبعا ، ويجمع الحضر والسفر ؛ وهذا


هو العلم الصريح ، والفقه الصحيح ، والأصوب بالتصحيح ؛ ألا ترى أنه لو وجده بزائد على قيمته جعله معدوما حكما ، وقيل له تيمّم.

ويتبين أنّ المراد الوجود الحكمي ، ليس الوجود الحسّى ؛ وعلى هذا قلنا : إنّ من وجد الماء في أثناء الصلاة ، إنه يتمادى ولا يقطع الصلاة ، خلافا لأبى حنيفة حيث يقول : يبطل تيمّمه ؛ لأنّ الوجود لعينه لا (١) يبطل التيمم ، كما لو رأى الماء وعليه لصّ أو سبع ، أو رآه بأكثر من قيمته لم يبطل تيمّمه ، وإنما يبطل التيمم بوجود مقرون بالقدرة ، وإذا كان في الصلاة فلا قدرة له إلا بعد إبطالها ، ولا تبطل إلّا بعد اقتران القدرة بالماء ، فلا بطلان لها ؛ وهي مسألة دورية ، وقد حققناها في كتاب التلخيص فلتنظر فيه ؛ وعلى هذا تنبنى مسألة ؛ هي إذا نسى الماء في رحله ، وقد اجتهد في طلبه ، فإنّ الناسي لا يعدّ واجدا ولا يخاطب في حال نسيانه ؛ فلذلك قلنا في أصح الأقوال : إنه يجزئه.

المسألة الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى : (ماءً) :

قال أبو حنيفة : هذا نفى في نكرة ، وهو يعم لغة ؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغيّر وغير المتغير ؛ لانطلاق اسم الماء عليه.

قلنا : استنوق (٢) الجمل! الآن يستدلّ أصحاب أبى حنيفة باللغات ، ويقولون على ألسنة العرب ، وهم ينبذونها في أكثر المسائل بالعراء!

واعلموا أنّ النفي في النكرة يعمّ كما قلتم ، ولكن في الجنس ؛ فهو عامّ في كل ما كان من سماء أو بئر أو عين أو نهر أو بحر عذب أو ملح ؛ فأما غير الجنس فهو المتغير ، فلا يدخل فيه ، كما لم يدخل فيه ماء الباقلّاء.

وقد مهّدنا ذلك في الكلام على منع الوضوء بالماء المتغيّر بالزعفران في كتاب التلخيص.

ومن ها هنا وهم الشافعى في قوله : إنه إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء الوضوء كلّها أنه يستعمله فيما كفاه ويتيمم لباقيه ؛ فخالف مقتضى اللغة وأصول الشريعة.

__________________

(١) في ا : ولا.

(٢) استنوق الجمل : صار كالناقة في ذلها. وهو مثل يضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء ثم يخلطه بغيره وينتقل إليه. (اللسان ـ نوق).


أمّا مقتضى اللغة فإن الله سبحانه قال (١) : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، وأراد في جميع البدن ، ثم قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ، فافتضى ذلك الماء الذي يقوم له بحق ما تقدّم الأمر فيه والتكليف له ؛ فإنّ آخر الكلام مرتبط بأوله.

وأما مخالفته لأصول فليس في الشريعة موضع يجمع فيه بين الأصل والبدل ، وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف ، وبهذا تعلّق الأئمة في الوضوء بماء البحر ، وهي :

المسألة التاسعة والعشرون ـ قال ابن عمر رضى الله عنه : إنه لا يجوز الوضوء به ، لأنه ماء النار أو لأنه طين جهنم ، وكأنهم يشيرون إلى أنه ماء عذاب فلا يكون ماء قربة.

وقد منع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حين نزلوا بديار ثمود ألّا يشرب ولا يتوضأ من آبارهم إلّا من بئر الناقة ، وأوقفهم عليه ؛ وهي إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم.

قلنا : قد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في ماء البحر : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.

وقد روى عن ابن عباس أنّ ماء البحر هو طهور الملائكة ، إذا نزلوا توضّئوا ، وإذا صعدوا توضئوا ، فيقابل حديث ابن عمر بحديث ابن عباس ويبقى لنا مطلق الآية ، وحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) ، معناه فاقصدوا (٢).

وقد روى عن عبد الله أنه قرأها فائتمّوا (٣) ، والأول أفصح وأملح ؛ فإن «اقصدوا» أملح من اتخذوه إماما ، ومن هاهنا قال أبو حنيفة : تلزم النية في التيمم ؛ لأنه القصد لفظا ومعنى.

قلنا : ليس القصد إليه للاستعمال بدل الماء هو النية ، إنما معناه اجعلوه بدلا ، فأما قصد التقرب فهو غيره.

جواب آخر ـ وذلك أنّ قوله : (فَتَيَمَّمُوا) إن كان يقتضى بلفظه النية فقوله : تطهّروا واغتسلوا (٤) يقتضى بلفظه النية ، كما تقدم.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٦

(٢) تفسير لتيمموا.

(٣) في ا : فاهتموا.

(٤) في ا : ويغسلوا.


فإن قيل : الماء مطهّر بنفسه ، فلم يفتقر إلى قصد إذا وجدت النظافة به على أى وجه كانت.

قلنا : وكذلك التراب ملوّث بنفسه ، فلم يفتقر إلى قصد إذا وجد التلوّث به.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى : (صَعِيداً) :

فيه أربعة أقوال :

الأوّل ـ وجه الأرض ؛ قاله مالك.

الثاني ـ الأرض المستوية ؛ قاله ابن زيد.

الثالث ـ الأرض الملساء.

الرابع ـ التراب ؛ قاله ابن عباس ، واختاره الشافعى.

والذي يعضده الاشتقاق ـ وهو صريح اللغة ـ أنه وجه الأرض على أى وجه كان من رمل أو حجر أو مدر أو تراب.

المسألة الثانية والثلاثون ـ قوله : (طَيِّباً) :

قيل : إنه منبت ، وعزى إلى ابن عباس ، واختاره الشافعى ؛ وعضده بالمعنى فقال : إنه ينتقل من الماء الذي هو أصل الإحياء إلى التراب الذي هو أصل الإنبات.

وقيل : إنه النظيف. وقيل : إنه الحلال. وقيل : هو الطاهر ؛ فهذه خمسة أقوال أصحّها الطاهر.

فإن قيل : فقد قال مالك : إذا تيمّم على بقعة نجسة جاهلا أعاد في الوقت ، ولو توضّأ بماء نجس أعاد أبدا.

قلنا : هما عندنا سواء في أحد القولين الذي ننصره الآن ، وكلام القول الثاني في كتب المسائل.

فأمّا قول الشافعىّ : إنه نقل من أصل الإحياء إلى أصل الإنبات فهو دعوى لا برهان عليها ؛ على أنّا نقول : نقلنا من الماء إلى الأرض ، ومنها خلقنا.

المسألة الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى : (فَامْسَحُوا) : والمسح في اللغة عبارة عن جرّ اليد على الممسوح خاصة ، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرّها على الممسوح بخلاف الغسل ، وسيأتى تحقيق ذلك كله في موضعه إن شاء الله.


المسألة الرابعة والثلاثون ، والخامسة والثلاثون ـ شرح الوجه واليد.

والسادسة والثلاثون ـ دخول الباء على الوجه.

والسابعة والثلاثون ـ سقوط قوله «منه» ، هاهنا وثبوتها في سورة المائدة (١) ، وسيأتى بيان ذلك كله في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة والثلاثون ـ دخول العفو والغفران على ما تقدّم من الأحكام وانتظامها بهما. ووجه ذلك أنّ عفو الله تبارك وتعالى إسقاطه لحقوقه أو بذله لفضله ، ومغفرته ستره على عباده ؛ فوجه الإسقاط ها هنا تخفيف التكليف ، ولو رد بأكثر للزم ، ووجه بدله إعطاؤه الأجر الكثير على الفعل اليسير ، ورفعه عن هذه الأمّة في العبادات الإصر الذي كان وضعه (٢) على سائر الأمم قبلها ، ومغفرته ستره على المقصّرين في الطاعات ؛ وذلك مستقصى في آيات الذكر ، ومنه نبذة في شرح المشكلين ، فلتنظر هنالك إن شاء الله تعالى.

الآية الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً):

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس في الأمانات ؛ فقال قوم : هي كلّ ما أخذته بإذن صاحبه.

وقال آخرون : هي ما أخذته بإذن صاحبه لمنفعته.

والصحيح أنّ كليهما أمانة ؛ ومعنى الأمانة في الاشتقاق أنها أمنت من الإفساد.

المسألة الثانية ـ أمر الله تعالى : بأدائها إلى أربابها ، وكان سبب نزولها أمر السرايا ؛ قاله علىّ ومكحول.

وقيل : نزلت في عثمان بن أبى طلحة أخذ (٤) النبىّ صلّى الله عليه وسلّم منه المفتاح يوم الفتح ودخل الكعبة ، فنزل عليه جبريل بهذه الآية ، وخرج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يتلوها ،

__________________

(١) في الآية السادسة من المائدة : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ...

(٢) في ا : وظفه.

(٣) الآية الثامنة والخمسون.

(٤) أسباب النزول : ٩٠ ، وابن كثير : ٥١٥ ، والقرطبي : ٥ ـ ٢٥٦


فدعا عثمان ، فدفع إليه المفتاح ، فكانت ولاية من الله تعالى بغير واسطة إلى يوم القيامة ، وناهيك بهذا فخرا.

وروى (١) أنّ العباس عمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل النبىّ عليه السلام أن تجمع له السّدانة والسقاية ، ونازعه في ذلك شيبة ؛ فأنزل الله تبارك وتعالى على النبي الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية.

المسألة الثالثة ـ لو فرضناها نزلت في سبب فهي عامّة بقولها ، شاملة بنظمها لكل أمانة ؛ وهي أعداد كثيرة ، أمهاتها في الأحكام : الوديعة ، واللقطة ، والرّهن ، [والإجارة] (٢) والعارية.

أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب ، وأما اللقطة فحكمها التعريف سنة في مظانّ الاجتماعات ، وحيث ترجى الإجابة لها ، وبعد ذلك يأكلها حافظها ، فإن جاء صاحبها غرمها ، والأفضل أن يتصدّق بها.

وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إليه دينه.

وأما الإجارة والعارية إذا انقضى عمله فيها يلزمه ردّها إلى صاحبها قبل أن يطلبها ، ولا يحوجه إلى تكليف للطلب ومؤنة الردّ.

وقال بعض علمائنا في الإجارة : يردّها أين أخذها إن كان موضع ذلك فيها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) :

قال ابن زيد : قال أبىّ : هم السلاطين ، بدأ الله سبحانه بهم ؛ فأمرهم بأداء الأمانة فيما لديهم من الفيء ، وكلّ ما يدخل إلى بيت المال حتى يوصّلوه إلى أربابه ، وأمرهم بالحكم بين الناس بالعدل ، وأمرنا بعد ذلك بطاعتهم ، فقال (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

قال القاضي : هذه الآية في أداء الأمانة والحكم عامة في الولاية والخلق ، لأنّ كلّ مسلم عالم ، بل كل مسلم حاكم ووال.

وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن ،

__________________

(١) والقرطبي : ٥ ـ ٢٥٦

(٢) ليس في القرطبي.

(٣) سورة النساء ، آية ٥٩


وكلتا يديه يمين ، [وهم] (١) الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا.

وقال صلّى الله عليه وسلّم (٢) : كلّكم راع ، وكلّكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع [على الناس] (٣) وهو مسئول عنهم ، والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عنهم ، فالعبد راع في مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا كلّكم راع ومسئول عن رعيته.

فجعل صلّى الله عليه وسلّم في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم فإنه (٤) إذا أفتى يكون قضى ، وفصل بين الحلال والحرام ، والفرض والندب ، والصحة والفساد ؛ فجميع ذلك فيمن ذكرنا أمانة تؤدّى وحكم يقضى ، والله عزّ وجلّ أعلم.

الآية الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى (٥) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في حقيقة الطاعة ، وهي (٦) امتثال الأمر ، كما أنّ المعصية ضدها ، وهي مخالفة الأمر.

والطاعة مأخوذة من طاع إذا انقاد ، والمعصية مأخوذة من عصى وهو اشتد ، فمعنى ذلك امتثلوا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم.

وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (٧) : من أطاع أميرى فقد أطاعنى ، ومن أطاعنى فقد أطاع الله تعالى ، ومن عصى أميرى فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى الله تعالى.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) :

فيها قولان :

الأول ـ قال ميمون بن مهران : هم أصحاب السرايا ، وروى في ذلك حديثا ، وهو اختيار

__________________

(١) ليس في القرطبي.

(٢) صحيح مسلم : ١٤٥٩

(٣) في القرطبي : لأنه.

(٤) الآية التاسعة والخمسون.

(٥) في كل الأصول : وهو.

(٦) ابن كثير : ١ ـ ٥١٨ ، والقرطبي : ٥ ـ ٢٦٠


البخاري ، وروى عن ابن عباس أنها نزلت (١) في عبد الله بن حذافة ، إذ بعثه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في سريّة.

الثاني ـ قال جابر : هم العلماء ، وبه قال أكثر التابعين ، واختاره مالك ؛ قال مطرّف وابن مسلمة : سمعنا مالكا يقول : هم العلماء. وقال خالد بن نزار ، وقفت على مالك فقلت : يا أبا عبد الله ؛ ما ترى في قوله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)؟ قال : وكان محتبيا فحلّ حبوته ، وكان عنده أصحاب الحديث ففتح عينيه في وجهى ، وعلمت ما أراد ، وإنما عنى أهل العلم ؛ واختاره الطبرىّ واحتجّ له بقوله صلّى الله عليه وسلّم : من أطاع أميرى فقد أطاعنى ... الحديث. والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا ، أما الأمراء فلأنّ (٢) أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأنّ سؤالهم واجب متعيّن على الخلق ، وجوابهم لازم ، وامتثال فتواهم واجب ، يدخل فيه الزوج للزوجة (٣) ، لا سيما وقد قدمنا أنّ كلّ هؤلاء حاكم ، وقد سمّاهم الله تعالى بذلك فقال (٤) : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ). فأخبر تعالى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حاكم ، [والربانىّ حاكم] (٥) ، والحبر حاكم ، والأمر كله يرجع إلى العلماء (٦) ؛ لأنّ الأمر قد أفضى إلى الجهال ، وتعيّن عليهم سؤال العلماء ؛ ولذلك (٧) نظر مالك إلى خالد بن نزار نظرة منكرة ، كأنه يشير بها إلى أنّ الأمر قد وقف في ذلك على العلماء ، وزال عن الأمراء لجهلهم واعتدائهم ، والعادل منهم مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) :

قال علماؤنا : ردّوه إلى كتاب الله ، فإذا لم تجدوه فإلى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فإن لم تجدوه فكما قال علىّ : ما عندنا إلا [ما في] (٨) كتاب الله تعالى أو ما في هذه الصحيفة ، أو فهم أوتيه رجل [مسلم] (٩) ، وكما قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: بم

__________________

(١) ابن كثير : ١ : ٥١٦ ، وأسباب النزول : ٩١

(٢) في ل : فإن أصل الأمر.

(٣) في ل : ويدخل فيه الزوج على الزوجة.

(٤) سورة المائدة ، آية ٤٤

(٥) ليس في ل.

(٦) في ل : إلى الأمراء.

(٧) في ا : ولذا قال نظر ... وهو تحريف.

(٨) من القرطبي.

(٩) من القرطبي.


تحكم؟ قال : بكتاب الله. قال : فإن لم تجد. قال : بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيى ، ولا آلو. قال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله.

فإن قيل : هذا لا يصحّ.

قلنا : قد بينا في كتاب شرح الحديث الصحيح وكتاب نواهى الدواهي صحّته ، وأخذ الخلفاء كلهم بذلك ؛ ولذلك قال أبو بكر الصديق للأنصار : إنّ الله جعلكم المفلحين ، وسمّانا الصادقين ؛ فقال (١) : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ... إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). ثم قال (٢) : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... إلى قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تكونوا معنا حيث كنّا ، فقال (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أوصيكم بالأنصار خيرا. ولو كان لكم من الأمر شيء ما أوصى بكم. وقال له عمر حين ارتدّ مانعو الزكاة : خذ منهم الصلاة ودع الزكاة. فقال : لا أفعل ؛ فإنّ الزكاة حقّ المال والصلاة حقّ البدن.

وقال عمر بن الخطاب : نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا.

وجاءت الجدة الأخرى إليه فقال لها : لا أجد لك في كتاب الله شيئا ولا في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، هو السدس ؛ فأيتكما خلت به فهو لها ، فإن اجتمعتما فهو بينكما.

وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بالسدس للجدّة غير معينة ؛ فوجب أن يشتركا فيه عند الاجتماع.

وكذلك لما جمع الصحابة في أمر الوباء بالشام فتكلّموا معه بأجمعهم وهم متوافرون ، ما ذكروا في طلبهم الحق في مسألتهم لله كلمة ولا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم حرفا ؛ لأنه لم يكن عندهم ، وأفتوا وحكم عمر (٤) ، ونازعه أبو عبيدة ، فقال له : أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان : إحداهما خصبة والأخرى جدبة ؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ، فضرب المثل لنفسه بالرعي والناس

__________________

(١) سورة الحشر ، آية ٨

(٢) سورة الحشر ، آية ٩

(٣) سورة التوبة ، آية ١١٩

(٤) في ا : وحكموا بحكم عمر. والمثبت من ل.


بالإبل ، والأرض الوبئة بالعدوة الجدبة ، والأرض السليمة بالعدوة الخصبة ، ولاختيار السلامة باختيار الخصب ؛ فأين كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا كله؟

أيقال : قال الله تعالى ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما لم يقولا ، فذلك كفر ، أم يقال : دع هذا فليس لله فيه حكم ، فذلك كفر ، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب.

قال أبو العالية : وذلك قوله تعالى (١) : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وقال عثمان بن عفان وأصحابه حين جمعوا القرآن : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى ولم يبيّن لنا موضع براءة ، وإن قصتها لتشبه قصة الأنفال ، فنرى أن نكتبها معها ولا نكتب بينهما سطر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). فأثبتوا موضع القرآن بقياس الشبه.

وقال علىّ : نرى أن مدّة الحمل ستة أشهر ، لأنّ الله تعالى يقول (٢) : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

وقال (٣) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ). فإذا فصلتهما (٤) من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر.

ولذلك قال ابن عباس : صوم الجنب صحيح ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال (٥) : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ؛ فيقع الاغتسال بعد الفجر ، وقد انعقد جزء من الصوم وهو فاتحته مع الجنابة ، ولو سردنا نبط (٦) الصحابة لتبيّن خطأ الجهالة ، وفي هذا كفاية للعلماء ؛ فإن عارضكم السفهاء فالعجلة العجلة إلى كتاب نواهى الدواهي ، ففيه الشفاء إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٧) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٨٣.

(٢) سورة الأحقاف ، آية ١٥

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٣٣

(٤) في القرطبي : فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا.

(٥) سورة البقرة ، آية ١٨٧

(٦) هكذا في الأصول ، وكل ما أظهر بعد خفاء فقد نمط.

(٧) الآية الستون.


بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

يروى أنها نزلت في رجل من المنافقين (١) نازع رجلا من اليهود ، فقال اليهودي : بيني وبينك أبو القاسم (٢) ، وقال المنافق : بيني وبينك الكاهن.

وقيل : قال المنافق : بيني وبينك كعب بن الأشرف ، يفرّ اليهودي ممن يقبل الرشوة ويريد المنافق من يقبلها.

ويروى أن اليهودي قال له : بيني وبينك أبو القاسم. وقال المنافق : بيني وبينك الكاهن ، حتى ترافعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، فحكم لليهودي على المنافق ، فقال المنافق : لا أرضى ، بيني وبينك أبو بكر ؛ فأتيا أبا بكر فحكم أبو بكر لليهودي. فقال المنافق : لا أرضى ، بيني وبينك عمر. فأتيا عمر فأخبره اليهودي بما جرى ؛ فقال : أمهلا حتى أدخل بيتي في حاجة ، فدخل فأخرج سيفه ثم خرج ، فقتل المنافق ؛ فشكا أهله ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنت الفاروق ، فقال عمر : يا رسول الله ؛ إنه ردّ حكمك. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنت الفاروق ، وفي ذلك نزلت الآية كلّها إلى قوله (٣) : (... وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

ويروى في الصحيح أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرّة (٤) ؛ فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : اسق يا زبير ، وأرسل الماء إلى جارك الأنصارى. فقال الأنصارى: آن (٥) كان ابن عمتك! فتلوّن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ، ثم قال للزبير : أمسك الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسله.

قال ابن الزبير عن أبيه : وأحسب أنّ الآية نزلت في ذلك (٦) : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٥١٩ ، وأسباب النزول : ٩٢.

(٢) كنية النبي. وفي القرطبي : انطلق بنا إلى محمد.

(٣) آخر آية ٦٥ من السورة نفسها : النساء.

(٤) الشراج : مسايل الماء. والحرة : أرض ذات حجارة سود. والحديث في صحيح مسلم : ١٨٣٠

(٥) بمد همزة أن المفتوحة على جهة الإنكار (القرطبي). وفي مسلم : أن كان ابن عمتك ـ بفتح الهمزة ، أى فعلت ذلك لكونه ابن عمتك.

(٦) سورة النساء ، آية ٦٥


حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ... إلى آخره.

قال مالك : الطاغوت كلّ ما عبد من دون الله من صنم أو كاهن أو ساحر أو كيفما تصرّف الشرك فيه.

وقوله : (آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : يعنى المنافقين ، أظهروا الإيمان.

وبقوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : يعنى اليهود ؛ آمنوا بموسى ، وذلك قوله (١) : (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) ، ويذهبون إلى الطاغوت.

المسألة الثانية ـ اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي ثم تتناول بعمومها قصّة الزبير ، وهو الصحيح. وكلّ من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصارى زلّ زلّة فأعرض عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه وأنها كانت فلتة ، وليس ذلك لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكلّ من لم يرض بحكم الحاكم بعده فهو عاص آثم.

المسألة الثالثة ـ فيها أن يتحاكم اليهودىّ مع المسلم عند حاكم الإسلام ، وسيأتى في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

الآية الخامسة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ روى أنه (٣) تفاخر ثابت بن قيس بن شمّاس ويهودي ، فقال اليهودىّ : والله ، لقد كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا.

فقال ثابت : والله لو كتب الله سبحانه علينا لفعلنا.

قال أبو إسحاق السبيعي : قال رجل من الصحابة لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا.

فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : إنّ من أمّتى لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٦١

(٢) الآية السادسة والستون.

(٣) ابن كثير ، ١ ـ ٥٢٢


قال ابن وهب : قال مالك : القائل ذلك أبو بكر الصديق.

المسألة الثانية ـ حرف «لو» تدلّ على امتناع الشيء لامتناع غيره ، فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا لعلمه بأنّ الأكثر (١) ما كان يمتثل ذلك فتركه رفقا بنا ؛ لئلا تظهر معصيتنا ، فكم من أمر قصرنا عنه مع خفّته ، فكيف بهذا الأمر مع ثقله؟ أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية ، والحمد لله.

الآية السادسة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

الآية فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) ؛ وفي ذلك روايات أشبهها ما روى سعيد بن جبير أنّ رجلا من الأنصار جاء إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون ، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : ما لي أراك محزونا؟ فقال : يا نبىّ الله ، نحن نعدو عليك ونروح ننظر في وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين ، فلا نصل إليك ؛ فلم يردّ عليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا ، فأتاه جبريل بهذه الآية ؛ فبعث إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يبشره.

المسألة الثانية ـ قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : قال ذلك الرجل ، وهو يصف المدينة وفضلها ، يبعث منها أشراف هذه الأمة يوم القيامة ، وحولها الشهداء أهل بدر وأحد والخندق ، ثم تلا مالك هذه الآية : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) ؛ يريد مالك في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم هؤلاء الذين بالمدينة ومن حولها ، فبيّن بذلك فضلهم ، وفضل المدينة على غيرها من البقاع : مكّة وسواها ، وهذا فضل مختصّ بها ، ولها فضائل سواها بيّناها في قبس الموطأ ، وفي الإنصاف على الاستيفاء ؛ فلينظر في الكتابين.

الآية السابعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا

__________________

(١) في ل : لعلمه لأن أكثر ما كان يمتثل.

(٢) الآية التاسعة والستون.

(٣) أسباب النزول : ٩٥ ، وابن كثير : ١ ـ ٥٢٢

(٤) الآية الواحدة والسبعون


ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ الثبة : الجماعة ، والجمع فيها ثبون أو ثبين أو ثبات ، كما تقول : عضة وعضون وعضاه ، واللغتان في القرآن ، وتصغير الثبة ثبيّة ، ويقال في وسط الحوض ثبة ، لأن الماء يثوب إليه ، أى يرجع ؛ وتصغير هذه ثويبة ، لأنّ هذا محذوف الواو ، وثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبّيت على الرجل (١) إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره ، فيعود إلى الاجتماع.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) :

أمر الله سبحانه المؤمنين ألّا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسّسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ؛ فذلك أثبت للنفوس ، وهذا معلوم بالتجربة.

المسألة الثالثة ـ أمر الله سبحانه الناس بالجهاد سرايا متفرقة أو مجتمعين على الأمير ، فإن خرجت السرايا فلا تخرج إلّا بإذن الإمام ؛ ليكون متحسّسا إليهم وعضدا من ورائهم ، وربما احتاجوا إلى درئه.

الآية الثامنة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

سوّى الله سبحانه في ظاهر هذه الآية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما ، وقد ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (٣) : تكفّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلّا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته ، أن يدخله الجنة ، أو يردّه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة. فغاير بينهما ، وجعل الأجر في محلّ والغنيمة في محل آخر.

وثبت عنه أيضا أنه قال : أيما سريّة أخفقت كمل لها الأجر ، وأيّما سريّة غنمت ذهب ثلثا أجرها.

__________________

(١) في اللسان : ثبيت الرجل : مدحته ، وأثنيت عليه في حياته إذا مدحته دفعة بعد دفعة.

(٢) الآية الرابعة والسبعون.

(٣) ابن كثير : ١ ـ ٥٢٤


فأما هذا الحديث فقد تكلمنا عليه في شروحات الحديث بما فيه كفاية ، وليس يعارض الآية كلّ المعارضة ، لأنّ فيه ثلث الأجر ، وهذا عظيم ؛ وإذا لم يعارضها فليؤخذ تمامه من غير هذا الكتاب.

وأما الحديث الأول (١) فقد قيل فيه : إنّ «أو» بمعنى الواو ؛ لأنّ الله سبحانه يجمع له الأجر والغنيمة ، فما أعطى الله الغنائم لهذه الأمة محاسبا لها بها من ثوابها ، وإنما خصّها بها تشريفا وتكريما لها ؛ لحرمة نبيها. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : جعل رزقي تحت ظلّ رمحي. فاختار الله لنبيه ولأمّته فيما يرتزقون (٢) أفضل وجوه الكسب وأكرمها ، وهو أخذ القهر والغلبة.

وقيل : إنّ معناه الذي يغنم قد أصاب الحظّين ، والذي يخفق (٣) له الحظّ الواحد وهو الأجر ، فأراد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقول : مع ما نال من أجر وحده أو غنيمة مع الأجر ، والله عزّ وجلّ أعلم.

الآية التاسعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).

الآية فيها مسائل :

الأولى ـ قال علماؤنا : أوجب الله سبحانه في هذه الآية القتال ؛ لاستنقاذ الأسرى من يد العدوّ مع ما في القتال من تلف النفس ، فكان بذل المال في فدائهم أوجب ، لكونه دون النفس وأهون منها.

وقد روى الأئمة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني.

وقد قال مالك : على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم ؛ ولذلك قالوا : عليهم

__________________

(١) في ل : الآخر.

(٢) في ل : يرزقون.

(٣) في ل : قد أصاب الحظ الواحد. وفي ا : يحقق ، وهو تحريف.

(٤) الآية الخامسة والسبعون.


أن يواسوهم ، فإن المواساة دون المفاداة ، فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا؟ في ذلك لعلمائنا قولان ؛ أصحّهما الرجوع.

الثانية ـ فإن امتنع من عنده مال من ذلك؟

قال علماؤنا : يقاتله إن كان قادرا على قتاله ، وهو قول مالك في كتاب محمد.

فإن قتل (١) المانع الممنوع كان عليه القصاص ، فإن لم يكن قادرا على قتاله فتركه حتى مات جوعا ؛ فإن كان المانع جاهلا بوجوب المواساة كان في الميّت الدية على عاقلة المانع ، وإن كان عالما بوجوب المواساة ففي المسألة ثلاثة أقوال :

الأول ـ عليه القصاص. الثاني ـ عليه الدّية في ماله. الثالث ـ الدية على عاقلته.

وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (٢) : إن الأشعريّين إذا أرملوا (٣) في الغزو أو قلّ طعامهم جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، واقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة فهم منّى وأنا منهم.

الثالثة ـ في تنقيح هذه المسألة :

قال بعض علماؤنا : روى طلحة بن عبد الله أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما علّم السائل معالم الدين وأركان الإسلام قال له : والزكاة؟ قال : هل علىّ غيرها؟ قال : لا ، إلا أن تطوّع.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أفلح إن صدق. دخل الجنة إن صدق.

وهذا نصّ في أنه لا يتعلق بالمال حقّ سوى الزكاة.

والصحيح أنّ هذا الحديث لا يمنع من وجوب حقّ في المال غير الزكاة لثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنّ المراد بهذا الحديث لا فرض ابتداء في المال والبدن إلا الصلاة والزكاة والصيام ، فأمّا العوارض فقد يتوجّه فيها فرض من جنس هذه الفروض بالنذر وغيره.

الثاني ـ أنّ أركان الإسلام من الصلاة والصيام عبادات لا تتعدى المتعبّد بها. وأما المال فالأغراض به متعلّقة ، والعوارض عليه مختلفة.

فإن قيل : إنما فرض الله سبحانه الزكاة ليقوم بحقّ الفقراء أو يسدّ خلّتهم ، وإلّا فتكون الحكمة قاصرة.

__________________

(١) في ا : قيل ، وهو تحريف.

(٢) صحيح مسلم : ١٩٤٥

(٣) أرملوا : نفد زادهم (النهاية).


فالجواب أن نقول : هذا لا يلزم لثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنّ من الممكن أن يفرض الباري سبحانه الزكاة قائمة لسدّ خلّة الفقراء ، ويحتمل أن يكون فرضها قائمة بالأكثر ، وترك الأقلّ ليسدّها بنذر العبد الذي يسوقه القدر إليه.

الثاني ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ الزكاة في زمنه فلم تقم الخلّة المذكورة بالفقراء حتى كان يندب إلى الصدقة ، ويحثّ عليها.

الثالث ـ للفضلين (١) : إنّ الزكاة إذا أخذها الولاة ، ومنعوها من مستحقيها ، فبقى المحاويج فوضى ؛ هل يتعلق إثمهم بالناس أم يكون على الوالي خاصة؟

فيه نظر ؛ فإن علم أحد بخلّة مسكين تعيّن عليه سدّها دون غيره إلّا أن يعلم بها سواه ، فيتعلّق الفرض بجميع من علمها ، وقد بينا ذلك في التفسير.

الآية الموفية أربعين ـ قوله تعالى (٢) : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : (بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) هي قصور السماء ، ألا تسمع قول الله سبحانه (٣) : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ).

قال علماؤنا : والبروج التي في السماء اثنا عشر برجا عند العرب ، وعند جميع الأمم : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدى ، الدلو ، الحوت. وقد يسمون الحمل الكبش ، والجوزاء التوأمين ، والسنبلة العذراء ، والعقرب الصورة ، والقوس الرامي ، والحوت السمكة. وتسمى أيضا الدلو الرشا.

قال القاضي أبو بكر : خلق الله هذه البروج منازل للشمس والقمر ، وقدّر فيها (٤) ، ورتّب الأزمنة عليها ، وجعلها جنوبية وشمالية ، دليلا على المصالح ، وعلما على القبلة ، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل والنهار ، لمعرفة أوقات التهجّد ، وغير ذلك من أحوال المعاش والتعمّد ، وسنستوفى ذلك بيانا في موضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) هكذا في الأصول.

(٢) الآية الثامنة والسبعون.

(٣) سورة البروج ، آية ١

(٤) في ا : وقدره فيها ، وهو تحريف.


وفي هذا دليل على أنّ ما في السموات والأرض فإن ذاهب كلّه (١) ؛ والله أعلم.

الآية الحادية والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ ظنّ قوم أنّ القتال فرض على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أولا وحده ، وندب المؤمنين إليه ؛ وليس الأمر كذلك ؛ ولكنّ المسلمين كانوا سراعا إلى القتال قبل أن يفرض القتال ، فلما أمر الله سبحانه بالقتال كاع (٣) عنه قوم ، ففيهم نزلت (٤) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ) قبل أن يفرض القتال ؛ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) ، فقال الله تعالى لنبيه : قد بلّغت : قاتل وحدك ، (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) فسيكون منهم ما كتب الله من فعلهم ؛ لأنّ الله سبحانه كان وعده بالنصر ، فلو لم يقاتل معه أحد من الخلق لنصره الله سبحانه دونهم ، وهل نصره مع قتالهم إلّا بجنده الذي لا يهزم.

وفي الحديث الصحيح (٥) أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إنّ الله تعالى أمرنى أن أحرّق قريشا. قلت : أى ربّ ؛ إذا يثلغوا (٦) رأسى فيدعوه خبزة. قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نعنك (٧) ، وأنفق فسننفق عليك ، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك.

وقد قال أبو بكر الصديق في الردّة : أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي (٨). وفي رواية ثانية : والله لو خالفتني شمالي لقاتلتها بيميني.

__________________

(١) في ا : فإن ذلك ذاهب ، وهو تحريف.

(٢) الآية الرابعة والثمانون.

(٣) في ا : كاشح. والمثبت من ل. وكاع : هاب وجبن (القاموس).

(٤) سورة النساء ، آية ٧٦

(٥) صحيح مسلم.

(٦) الثلغ : الشدخ (النهاية). وفي النهاية : إذن يثلغوا رأسى كما تثلغ الخبزة.

(٧) في مسلم : نعزك.

(٨) السالفة : صفحة العنق.


المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) ، أى على القتال.

التحريض والتحضيض هو ندب المرء إلى الفعل ، وقد يندب المرء إلى الفعل ابتداء ، وقد يندب إلى امتثال ما أمر الله سبحانه تذكرة به له.

الآية الثانية والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً).

الآية فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ اختلف في قوله : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً) على ثلاثة أقوال :

الأول ـ من يزيد عملا إلى عمل.

الثاني ـ من يعين أخاه بكلمة عند غيره في قضاء حاجة.

قال النبي الله صلّى الله عليه وسلّم : اشفعوا تؤجروا ، وليقض الله سبحانه على لسان رسوله ما شاء.

الثالث ـ قال الطبري في معناه : من يكن يا محمد شفعا لوتر أصحابك في الجهاد للعدو يكن له نصيب في الآخرة من الأجر. ومن يشفع وترا من الكفار في جهادك يكن له كفل في الآخرة من الإثم.

والصحيح عندي أنها عامّة في كل ذلك ، وقد تكون الشفاعة غير جائزة ، وذلك فيما كان سعيا في إثم أو في إسقاط حدّ بعد وجوبه ، فيكون حينئذ شفاعة سيئة.

وروت عائشة أن قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها؟ فقالوا : ومن يجترئ إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ فكلّمه أسامة ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أتشفع في حدّ من حدود الله؟ وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ـ مختصرا.

وهذا حديث صحيح.

وروى أبو داود وغيره أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حدّ فقد وجب.

__________________

(١) الآية الخامسة والثمانون.


الآية الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ التحية تفعلة من حىّ ، وكان الأصل فيها ما روى في الصحيح أنّ الله تعالى خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعا ، ثم قال له : اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة ، فاستمع ما يحيّونك به ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك ؛ فقال : السلام عليكم. فقالت له : وعليك السلام ورحمة الله. إلّا أنّ الناس قالوا : إن كلّ من كان يلقى أحدا في الجاهلية يقول له : اسلم ، عش ألف عام ، أبيت اللّعن. فهذا دعاء في طول الحياة أو طيبها بالسلامة من الذام أو الذم ، فجعلت هذه اللفظة والعطية الشريفة بدلا من تلك ، وأعلمنا أنّ أصلها آدم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ) :

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنّ قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ) أنه في العطاس والردّ على المشمّت.

الثاني ـ إذا دعى لأحدكم بطول البقاء فردّوا عليه أو بأحسن منه.

الثالث ـ إذا قيل : سلام عليكم ، وهو الأكثر.

وقد روى عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبى بكر بن عبد العزيز ، عن مالك بن أنس أنه كتب إلى هارون الرشيد جواب كتاب ، فقال فيه : بسم الله الرحمن الرحيم والسلام لهذه الآية : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). فاستشهد مالك في هذا بقول ابن عباس في ردّ الجواب إذا رجع الجواب على حقّ. كما روى (٢) رجع المسلم.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) :

__________________

(١) الآية السادسة والثمانون.

(٢) في ا : أرى. وفي ل : في رد الجواب ، أو رجع الجواب.


فيها قولان :

أحدهما ـ أحسن منها أى الصفة ، إذا دعا لك بالبقاء فقل : سلام عليكم ، فإنها أحسن منها ؛ فإنها سنّة الآدمية ، وشريعة الحنيفية.

الثاني ـ إذا قال لك سلام عليك فقل : وعليك السلام ورحمة الله.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ رُدُّوها) :

اختلفوا فيها على قولين :

أحدهما ـ حيّوا بأحسن منها أو ردّوها في السلام.

الثاني ـ أنّ أحسن منها هو في السلم ، وأن ردّها بعينها هو في الكافر ؛ واختاره الطبري.

وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : إنّ أهل الكتاب إذا سلّموا عليك قالوا السّام عليكم فقولوا عليكم. كذلك كان سفيان يقولها. والمحدثون يقولون بالواو ، والصواب سقوط الواو ؛ لأنّ قولنا لهم : عليكم ردّ ، وقولنا وعليكم مشاركة ، ونعوذ بالله من ذلك.

وكانت عائشة مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم : عليك السام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : عليكم ، ففهمت عائشة قولهم ؛ فقالت عائشة : عليكم السلام واللعنة ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : مهلا يا عائشة. فقالت : أولم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ قال : أولم تسمعي ما قلت عليكم؟ إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فىّ.

المسألة الخامسة ـ قال أصحاب أبى حنيفة : التحية ها هنا الهدية ، أراد الكرامة بالمال والهبة ، قال الشاعر :

إذ تحيى بضميران (١) وآس

__________________

(١) في ا : بضمران. والضمران من دق الشجر. وقيل : هو من الحمض. والضميران : من ريحان البر (اللسان ـ ضمر). وفي ل : الضميران ولعلها محرفة عن الضميران.


وقال آخر (١) :

تحييهم بيض الولائد بينهم

والمراد بهذا ـ والله أعلم ـ الكرامة بالمال ؛ لأنه قال : أو ردّوها بأحسن منها ، ولا يمكن ردّ السلام بعينه.

وظاهر الآية يقتضى ردّ التحية بعينها ، وهي الهدية ، فإما بالتعويض أو الرد بعينه ، وهذا لا يمكن في السلام ، ولا يصحّ في العارية ؛ لأنّ ردّ العين هاهنا واجب من غير تخيير.

قلنا : التحية تفعلة من الحياة ، وهي تنطلق في لسان العرب على وجوه ؛ منها البقاء ، قال زهير بن جناب (٢) :

من كل (٣) ما نال الفتى

قد نلته إلّا التّحيّه

ومنها الملك ، وقيل : إنه المراد هاهنا في بيت زهير. ومنها السلام ، وهو أشهرها ، قال الله تعالى (٤) : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ).

وقد أجمع العلماء والمفسّرون أنّ المراد ها هنا بالتحية السلام حتى ادّعى هذا القائل تأويله هذا ، ونزع بما لا دليل عليه. وإن العرب عبّرت بالتحية عن الهدية فإنّ ذلك مجاز ، لأنها تجلب التحية كما يجلبها السلام ، والسلام أول أسباب التحية ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم (٥) : ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.

وقال : أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام.

فعلى هذا يصحّ أن تسمّى الهدية بها مجازا كأنها حياة للمحبة ، ولا يصح حمل اللفظ على المجاز ، وإسقاط الحقيقة بغير دليل.

فإن قيل : نحمله عليهما جميعا. قلنا لهم : أنتم لا ترون ذلك ؛ فلا يصحّ لكم القول به ،

__________________

(١) شطر بيت للنابغة ، وتمامه :

وأكسية الإضريج فوق المشاجب

ديوانه : ٦٣ والقرطبي : ٥ ـ ٢٩٨

(٢) في ا : حباب وهو تحريف. والبيت في اللسان ـ حيي.

(٣) في القرطبي ، واللسان : ولكل.

(٤) سورة المجادلة ، آية ٨

(٥) ابن كثير : ٥٣٢


وإذا ثبت هذا بقيت الآية على ظاهرها ، وإن حملوه على الهدية على مذهبنا في هبة الثواب فنستثنى منها الولد مع والده بما قررناه من الأدلّة في مسائل الخلاف ، فليطلب هنالك ، فصحّت لنا الآية على الوجهين جميعا ، والحمد لله. وبقية الكلام ينظر في مسائل الخلاف فليطلب هنالك.

وقد اختلف في معنى السلام عليكم ، فقيل : هو مصدر سلم يسلم سلامة وسلاما ، كلذاذة ولذاذا ، وقيل للجنة دار السلام ، لأنها دار السلامة من الفناء والتغير والآفات.

وقيل : السلام اسم من أسماء الله تعالى ؛ لأنه لا يلحقه نقص ، ولا يدركه آفات الخلق.

فإذا قلت : السلام عليكم فيحتمل الله رقيب عليكم. وإن أردت بيني وبينكم عقد السلامة وذمام النجاة (١).

حدثنا الحضرمي ، أخبرنا ابن منير (٢) ، أخبرنا النّيسابورى ، [أنبأنا النسائي] (٣) ، أنبأنا محمد ابن على ، سمعت أبى يقول : قال ابن عيينة : أتدرى ما السلام؟ تقول : أنت منّى آمن.

المسألة السادسة ـ قال علماؤنا : أكثر المسلمين على أنّ السلام سنّة وردّه فرض لهذه الآية.

وقال عبد الوهاب منهم : السلام وردّه فرض على الكفاية إن كانت جماعة ، وإن كان واحدا كفى واحد :

فالسلام فرض مع المعرفة ، سنّة مع الجهالة ؛ لأن المعرفة إن لم تسلّم عليه تغيّرت نفسه ، ثم يترتب السلام على حسب ما بيناه في كتب الحديث : من قائم على قاعد ، ومارّ على جالس ، وقليل على كثير ، وصغير على كبير ، إلى غير ذلك من شروطه.

المسألة السابعة ـ إذا كان الردّ فرضا بلا خلاف فقد استدلّ علماؤنا على أنّ هذه الآية دليل على وجوب الثواب في الهبة للعين ، وكما يلزمه أن يردّ مثل التحية يلزمه أن يردّ مثل الهبة.

وقال الشافعى في هبة الأجنبى ثواب ، وهذا فاسد ؛ لأن المرء ما أعطى إلا ليعطى ؛

__________________

(١) الحياة.

(٢) في ل : أبو منير.

(٣) من ل.


وهذا هو الأصل فيها ، وإنا لا نعمل عملا لمولانا إلّا ليعطينا ، فكيف بعضنا لبعض ، وسيأتى بيان ذلك في موضعه في سورة الروم إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها ، وفيه خمسة أقوال :

الأول ـ روى عبد الله بن يزيد الأنصارى عن زيد بن ثابت صاحب عن صاحب ـ أنّ (٢) النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إلى أحد رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا نقتلهم ، فنزلت ، وهو اختيار البخاري والترمذي.

الثاني ـ قال مجاهد : نزلت في قوم خرجوا من أهل مكة حتى أتوا المدينة ، يزعمون أنهم مهاجرون فارتدّوا واستأذنوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في الرجوع إلى مكة ليأتوا ببضائع ، فاختلف فيهم المؤمنون ، ففرقة تقول إنهم منافقون ، وفرقة تقول هم مؤمنون ؛ فبيّن الله سبحانه وتعالى نفاقهم.

الثالث ـ قال ابن عباس (٣) : نزلت في قوم كانوا بمكة فتكلّموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة ، وإنّ المؤمنين لما أخبروا بهم

__________________

(١) الآية الثامنة والثمانون إلى الواحدة والتسعين.

(٢) ابن كثير : ٥٣٢ ، وأسباب النزول : ٩٦


قالت فئة : اخرجوا إلى هؤلاء الجبناء فاقتلوهم. وقالت أخرى قد تكلموا بمثل ما تكلّمتم به.

الرابع ـ قال السّدّى (١) : كان ناس من المنافقين إذا أرادوا أن يخرجوا من المدينة قالوا : أصابتنا أوجاع بالمدينة ، فلعلّنا نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ونرجع ؛ فانطلقوا فاختلف فيهم أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون. وقال آخرون : بل إخواننا غمّتهم المدينة فاجتووها (٢) ، فإذا برئوا (٣) رجعوا ؛ فنزلت فيهم الآية.

الخامس ـ قال ابن زيد : نزلت في ابن أبىّ حين تكلّم في عائشة.

واختار الطبري من هذه الأقوال قول من قال : إنها نزلت في أهل مكة ، لقوله تعالى: (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

والصحيح ما رواه زيد. وقوله : حتى يهاجروا في سبيل الله ، يعنى حتى يهجروا الأهل والولد والمال ، ويجاهدوا في سبيل الله.

المسألة الثانية ـ أخبر الله سبحانه وتعالى أنّ الله ردّ المنافقين إلى الكفر ، وهو الإركاس ، وهو عبارة عن الرجوع إلى الحالة المكروهة ، كما قال في الرّوثة إنها رجس ، أى رجعت إلى حالة مكروهة ؛ فنهى الله سبحانه وتعالى أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يتعلّقوا فيهم بظاهر الإيمان ، إذا كان أمرهم في الباطن على الكفر ، وأمرهم بقتلهم حيث وجدوهم ، وأينما ثقفوهم ؛ وفي هذا دليل على أنّ الزّنديق يقتل ، ولا يستتاب لقوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

فإن قيل : معناه ما داموا على حالهم. قلنا : كذلك نقول وهذه حالة دائمة ، لا نذهب عنهم أبدا ؛ لأنّ من أسرّ الكفر ، وأظهر الإيمان ، فعثر عليه ، كيف تصحّ توبته؟

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ).

__________________

(١) أسباب النزول : ٩٦

(٢) في ا : فأتخموها.

(٣) في ا : «بروا»


المعنى إلّا من انضاف منهم إلى طائفة بينكم وبينهم عهد ، فلا تعرضوا لهم ؛ فإنهم على عهدهم ، ثم نسخت العهود فانتسخ هذا ، وقد بيّناه في القسم الثاني بإيضاحه وبسطه.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) :

هؤلاء قوم جاءوا وقالوا : لا نريد أن نقاتل معكم ولا نقاتل عليكم.

ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك ، وهو نوع من العهد ، وقالوا : لا نسلم ولا نقاتل ، فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام تألّفا حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام. والأول أظهر.

ومثله الآية التي بعدها ، وقد بسطناها بسطا عظيما في كتاب أنوار الفجر بأخبارها ومتعلّقاتها في نحو من مائة ورقة.

الآية الخامسة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ، فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً).

فيها تسع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) :

معناه : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا قتلا جائزا. أمّا أنه يوجد ذلك منه (٢) غير جائز فنفى الله سبحانه جوازه لا وجوده ؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يبعثوا لبيان الحسّيات وجودا وعدما ، إنما بعثوا لبيان الأحكام الشرعية إثباتا ونفيا.

فإن قيل : فهل هو جائز للكافر؟ فإن قلتم : نعم ، فقد أحلتم. وإن قلتم : لا ، فقد أبطلتم فائدة التخصيص بالمؤمن بذلك ، والكافر فيه مثله.

__________________

(١) الآية الثانية والتسعون ، والثالثة والتسعون.

(٢) في ا : معه ، وهو تحريف.


قلنا : معناه أنّ المؤمنين أبعد من ذلك بحنانهم وأخوّتهم وشفقتهم وعقيدتهم ؛ فلذلك خصّ المؤمن بالتأكيد ، ولما يترتّب عليه من الأحكام أيضا حسبما نبيّن ذلك بعد.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (إِلَّا خَطَأً) :

قال علماؤنا : هذا استثناء من غير الجنس ، وله يقول النحاة الاستثناء المنقطع إذا لم يكن من جنس الأول ؛ وذلك كثير في لسان العرب ؛ وقد بينّا حقيقته في رسالة الملجئة. ومعناه أن يأتى الاستثناء على معنى ما تقدّم من اللفظ ، لا على نفس اللفظ ، كما قال الشاعر (١) :

وما بالرّبع من أحد

إلّا الأوارى .............................

فلم تدخل الأوارىّ في لفظ أحد ، ولكن دخلت في معناه. أراد : وما بالرّبع أحد ، أى [غير] (٢) ما كان فيه ، أو أثر كله ذاهب ، إلّا الأوارى ، وكذلك قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) ؛ المعنى ما كان لمؤمن أن يفوت نفس مؤمن بكسبه إلا أن يكون بغير قصده إلى (٣) وصفه ؛ فافهمه وركّبه تجده بديعا.

المسألة الثالثة ـ أراد بعض أصحاب الشافعى أن يخرج هذا من الاستثناء المنقطع ؛ ويجعله متصلا لجهله باللغة وكونه أعجميا في السلف ؛ فقال : هو استثناء صحيح. وفائدته أنّ له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال ، فيا لله! ويا للعالمين من هذا الكلام! كيف يصحّ في عقل عاقل أن يقول : أبيح له أن يقتله خطأ ، ومن شرط الإذن والإباحة علم المكلّف وقصده ، وذلك ضدّ الخطأ ، فالكلام لا يتحصّل معقولا.

ثم قال : وهو أن يرى عليه لبسة المشركين والانحياز إليهم كقصة حذيفة مع أبيه يوم أحد.

__________________

(١) من بيتين للنابغة هما :

وقفت بها أصيلانا أسائلها

عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد

إلّا الأوارىّ لأيا ما أبيّنها

والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

ديوان النابغة : ٢ ، وفيه : إلا أوارى.

(٢) ليس في ل.

(٣) هكذا في الأصول.


قلنا له : هذا هو الاستثناء المنقطع ؛ لأنّ القتل وقع خلاف القصد ، وهو قصد إلى مشرك ، فتبيّن أنه مسلم ؛ فهذا لا يدخل تحت التكليف أمرا ولا نهيا.

ثم قال : وقول الله سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ـ يقتضى أن يقال : إنما يباح له إذا وجد شرط الإباحة ، وشرط الإباحة أن يكون خطأ ، وفي هذا القول من التهافت لمن تأمّله ما يغنى عن ردّه. وكيف يتصوّر أن يقال : شرط إباحة القتل القصد أن لا يقصد ، لا همّ إلا أن يكون المقلّد ألمّ بقول المبتدعة : إنّ المأمور لا يعلم كونه مأمورا إلّا بعد تقضّى الامتثال ومضائه ؛ فالاختلال في المقال واحد والردّ واحد ، فلتلحظه في أصوله التي صنف ؛ فإنه من جنسه ؛ ثم أبطل هو هذا وكان في غنى عن ذكره وإبطاله.

ثم قال : إنّ أقرب قول فيه أن يقال : إنّ قوله سبحانه : (إِلَّا خَطَأً) اقتضى تأثيم قاتله لاقتضاء النهى ذلك ، فقوله تعالى : (إِلَّا خَطَأً) رفع للتأثيم عن قاتله ؛ وإنما دخل الاستثناء على ما تضمّنه اللفظ من استحقاق المآثم ، فأخرج منه قاتل الخطأ ، وجاء الاستثناء على حقيقته ؛ وهذا كلام من لا يعلم اللغة ولم يفهم مقاطع الشريعة ، بل قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) معناه كما قلنا جائز ضرورة لا وجودا ؛ فنفى الله سبحانه جواز ذلك لا وجوده ، فقول هذا الرجل : إنّ ذلك يقتضى تأثيم قاتله لا يصحّ ؛ لأنه ليس ضدّ الجواز التحريم وحده ؛ بل ضد الندب والكراهية على قول ، والوجوب والتحريم على آخر ، فلم عيّن هذا الرجل من نفى الجواز التحريم المؤثم. أما إنّ ذلك علم من دليل آخر لا من نفس هذا اللفظ.

ثم نقول : هبك أنّا أوجبنا الإثم عليه بهذا اللفظ ، وقلنا له : إنّ معناه الصريح أنت آثم إن قتلته ، إلا أن تقتله خطأ ، فإنه يكون استثناء من غير الجنس ؛ لأنّ الإثم أيضا إنما يرتبط بالعمد ، فإذا قال بعده : إلّا خطأ ، فهو ضدّه ، فصار منقطعا (١) عنه حقيقة وصفة ورفعا للمأثم.

__________________

(١) في ا : قطعا.


وقوله : فإنما دخل الاستثناء على ما يتضمّنه اللفظ من استحقاق المأثم فقد (١) بينّا أنّ اللفظ ليس فيه لذلك ذكر حقيقة ولا مجازا ؛ وإنما يؤخذ الإثم من دليل آخر ، وقد أشرنا نحن إلى حقيقته في أول الأمر.

وقد قال بعض النحارير : إنّ الآية نزلت في سبب ؛ وذلك أنّ أسامة لقى (٢) رجلا من المشركين في غزاة فعلاه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ؛ فقتله ؛ فلما بلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله؟ فقال : يا رسول الله ، إنما قالها متعوّذا. فجعل يكرّر عليه : أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله؟

قال : فلقد تمنّيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. فهذا قتل متعمّدا مخطئا في اجتهاده ؛ وهذا نفيس.

ومثله قتل أبى حذيفة يوم أحد ، فمتعلّق الخطأ غير متعلق العمد ، ومحلّه غير محله ؛ وهو استثناء منقطع أيضا منه ؛ ولذلك قالت جماعة : إنّ الآيتين نزلت في شأن مقيس بن صبابة ، فإنه أسلم هو وأخوه هشام فأصاب هشاما رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدوّ ، فقتله خطأ في هزيمة بنى المصطلق من خزاعة ، وكان أخوه مقيس بمكة ، فقدم مسلما فيما يظهر.

وقيل : لم يبرح من المدينة فطلب دية أخيه ، فبعث معه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم رجلا من فهر إلى بنى النجّار في ديته ، فدفعوا إليه الدية مائة من الإبل ، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين إلى المدينة قتل مقيس الفهري ، وارتدّ عن الإسلام ، وركب جملا منها ، وساق معه البقية ، ولحق كافرا بمكة ، وقال :

شفى النفس أن قد مات بالقاع مسندا

يضرج في ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله

تلمّ فتحمينى وطاء المضاجع

ثأرت به فهرا وحمّلت عقله

سراة بنى النجّار أرباب فارع

حللت به وترى وأدركت ثؤرتى (٣)

وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

__________________

(١) في ا : قد.

(٢) في ابن كثير : ١ ـ ٥٣٤ : نزلت في عياش بن أبى ربيعة ، وقيل نزلت في أبى الدرداء. ثم قال : وهذه القصة في الصحيح لغير أبى الدرداء.

(٣) في اللسان :

وأدركت ثأرى واضطجعت موسدا


فدخل قتل الأنصارى في قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ، ودخل قتل مقيس في قوله تعالى (١) : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) ، وكل واحد بصفته في الآيتين بصفتهما ، والله أعلم.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) :

أوجب الله سبحانه في قتل الخطأ تحرير الرقبة ، وسكت في قتل العمد عنها.

واختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا قديما وحديثا ، مآله أنّ أبا حنيفة ومالكا قالا : لا كفّارة في قتل العمد. وقال الشافعى : فيه الكفّارة ؛ لأنها إذا وجبت في قتل الخطأ ولا إثم فيه ففي العمد أولى.

قلنا : هذا يبعدها عن العمد ؛ لأنّ الله سبحانه لم يوجبها في مقابلة الإثم ، وإنما أوجبها عبادة ، أو في مقابلة التقصير ، وترك الحذر والتوقّى ، والعمد ليس من ذلك.

المسألة الخامسة ـ قوله : (مُؤْمِنَةٍ) :

وهذا يقتضى كمالها في صفات الدين ، فتكمل في صفات المالية حتى لا تكون معيبة ، لا سيما وقد أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه ، فعليه أن يخلّص آخر لعبادة ربه عن شغل غيره ، وأيضا فإنما يعتق بكل عضو منه عضو منها من النار حتى الفرج بالفرج ، فمتى نقص عضو منها لم تكمل شروطها. وهذا بديع.

المسألة السادسة ـ سواء كانت الرقبة صغيرة أو كبيرة إذا كانت بين مسلمين أو لمسلم فإنه يجوز خلافا لابن عباس وجماعة من التابعين ؛ إذ قالوا : لا يجزئ إلّا من صام وصلّى وعقل الإسلام.

قال الطبري : من ولد بين المسلمين فحكمه حكم المسلمين في العتق ، كما أنّ حكمه حكم المسلمين في الجناية والإرث والصلاة عليه وجميع أحكامه (٢).

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) :

أوجب الله تعالى الدّية في قتل الخطأ جبرا. كما أوجب القصاص في قتل العمد زجرا ، وجعل الدّية على العاقلة رفقا ؛ وهذا يدلّ على أنّ قاتل الخطأ لم يكتسب إثما ولا محرما (٣) ،

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٩٣

(٢) في ابن كثير ١ ـ ٥٣٤ : واختار ابن جرير أنه إن كان مولودا بين أبوين مسلمين أجزأ وإلا فلا. والذي عليه الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا.

(٣) في ا : غرما.


والكفارة وجبت زجرا عن التقصير والحذر في جميع الأمور.

المسألة الثامنة ـ الدّية مائة من الإبل في تقدير الشريعة ، وبإجماع الأمّة ؛ فإن عدمت الإبل فاختلف العلماء ؛ فقال مالك : من الدراهم على أهل الورق اثنا عشر ألف درهم ، ومن الذهب ألف دينار ، وليست في غيرهما.

وقال أبو حنيفة : عشرة آلاف درهم. وقال الشافعى : الواجب منه الإبل كيف تصرّفت ، فإنها الأصل ؛ فإذا عدمت وقت الوجوب فحينئذ ينظر في بدلها وهو القيمة بحساب الوقت ، كما في كلّ واجب في الذمة يتعذّر أداؤه.

ودليلنا أنّ عمر بن الخطاب قوّمها بمحضر من الصحابة ذهبا وورقا ، وكتب به إلى الآفاق ؛ ولا مخالف ؛ ولا ينبغي أن يكون ؛ فإنّ بلدا لم يكن قطّ به إبل لا سبيل إلى تقويمها فيه ، فعلمت الصحابة ذلك فقدّرت نصيبها (١) ، واعتبرتها في كل بلد بالذهب والفضة ؛ إذ لا يخلو بلد منهما.

وقال أبو حنيفة ، في تقديرها : عشرة آلاف درهم ، فبناها على نصاب الزكاة ، وعمر مع الصحابة قد علموا نصاب الزكاة حين قدّروها باثنى عشرة ألف درهم ، وقد بينا المعنى في نصاب الزكاة في مسائل الخلاف ، وهو بديع ، فلينظر فيه من أراد تمام العلم به.

المسألة التاسعة ـ هي في الإبل أخماس (٢) : بنات مخاض ، وبنات لبون ، وبنو لبون ، وحقاق ، وجذاع.

وقال أبو حنيفة : هي أخماس ، إلا أنّ منها بنى مخاض دون بنى لبون.

ودليلنا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر دية الخطأ أخماسا ، فقال : عشرون بنى لبون ، ولم يذكر بنى مخاض ، أخرجه أبو داود كوفيا من طريق ابن مسعود ؛ فلا كلام لهم عليه ، ولا معنى معهم ؛ لأنّ ما ذكروه شيء لا يجب في الزكاة فلم يجب في الدّية كالثنايا.

المسألة العاشرة ـ وهي مؤجّلة في ثلاثة أعوام ، كذلك قضى عمر وعلىّ ، وهي ضرورة ؛ لأنّ الإبل قد تكون في وقت الوجوب حوامل فيضرّ به ، ولا يجوز العدول إلى غير ما قال

__________________

(١) في ا : نصبها.

(٢) في ابن كثير (١ ـ ٥٣٥) : عن ابن مسعود : قضى رسول الله في دية الخطأ عشرين بنت مخاض وعشرين بنى مخاض ذكور وعشرين بنت لبون وعشرين جذعة وعشرين حقة.


النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وفيه تكون في السنة الثانية لوابن ، ووجبت مواساة ورفقا ، فتؤخذ منها بذلك!.

وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعطيها دفعة واحدة لأغراض : منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا. ومنها أنه كان يعجّلها تأليفا ، فلما وجد الإسلام قررتها الصحابة على هذا النظام.

المسألة الحادية عشرة ـ ولا مدخل فيها لغير الذهب والفضة من ثياب أو طعام أو بقر خلافا لأبى يوسف ومحمد وغيرهما ؛ لأنّها قد تمهّدت في عصر الصحابة على هذا ، وما كان من غيره فقد سقط بالإجماع على هذا ؛ فأما بقية أحكام الدية فهي كثيرة لا يفي بها إلّا كتب المسائل ، فلا نطوّل بذكرها ، فنخرج عن المقصود بها.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) :

أوجب الله تعالى الدّية لأولياء القتيل إلا أن يصّدّقوا بها على القاتل ؛ والاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها إذا صلح ذلك فيها ، وإلا عاد إلى ما يصلح له ذلك منها.

والذي تقدّم الكفارة والدية ، والكفارة حقّ لله سبحانه ، ولا تقبل الصدقة من الأولياء ؛ لأنّ الصدقة من المتصدّق عليه لا تنفذ إلا فيما يملكه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) :

أوجب الله سبحانه الكفّارة في قتل المؤمن بين أهل الحرب إذا كان خطأ ، ولم يذكر الدية.

وقد اختلف العلماء في ذلك ؛ فقال أبو حنيفة : لا دية في ذلك ، وهو مذهب ابن عباس وعكرمة وقتادة وجماعة من التابعين ، وفيه الكفارة :

أمّا وجوب الكفارة فلأنّه أتلف نفسا مؤمنة. وأما امتناع الدية عندهم فاختلفوا في ذلك ؛ فقال بعضهم : إنما لم تجب الدية لهم لئلا يستعينوا بها على حرب المسلمين.

وقال آخرون : إنما لم تجب لهم دية ؛ لأنه ليس بينهم وبين الله عزّ وجلّ عهد ولا ميثاق.

وأما أبو حنيفة فعوّل على أنّ العاصم للعبد في ذمته (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وأنّ العاصم له


في ماله الدار ؛ فإذا أسلم وبقي في دار الحرب فقد اعتصم عصمة قويمة يجب بها على قاتله الكفّارة ، وليس له عصمة مقوّمة ؛ فدمه وماله هدر ، ولو أنه هاجر إلى أرض الإسلام وترك أهله في دار الحرب فلا حرمة لهم.

وهذا هو قطعة من مذهب مالك ؛ فإن الدار عند مالك العاصمة للأهل والمال. وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف.

وقال الشافعى : الإسلام يعصم مال المسلم وأهله ودمه حيث كانوا.

والمسألة في نهاية الإشكال ، ومذهب الشافعى فيها أسلم ، وعلى هذا عند هؤلاء لم يذكر أنه الدية ، لأنها لم تجب ، وعلى المذهب المالكي لم يذكرها الله سبحانه ، لأنها لم يكن لها مستحقّ ؛ فلو كان لها مستحقّ لوجبت ؛ لأنّ سبب الوجوب موجود وهو الإسلام ، وجلّ أن يكون الله لم يذكر الدية ؛ لأن الهجرة كانت على من آمن فرضا ، ومن أسلم ولم يهاجر فلا إسلام له ولا ولاية ، فأما مذ (١) سقط فرض الهجرة بعصمة الإسلام فوجب (٢) له الدية والكفارة أينما كان.

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) :

والميثاق هو العهد المؤكّد الذي قد ارتبط وانتظم ، ومنه الوثيقة ففيه الدية.

قال ابن عباس : هذا هو الكافر الذي له ولقومه العهد ، فعلى قاتله الدّية لأهله والكفّارة لله سبحانه ، وبه قال جماعة من التابعين والشافعىّ.

وقال مالك وابن زيد والحسن : المراد به ، وهو مؤمن. واختار الطبري أن يكون المراد به المقتول الكافر من أهل العهد ؛ لأنّ الله سبحانه أهمله ولم يقل وهو مؤمن ، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب ، وإطلاقه ما قيّد قبل ذلك دليل أنه خلافه.

وهذا عند علمائنا محمول على ما قبله من وجهين :

أحدهما ـ أنّ هذه الجملة نسقت على ما قبلها وربطت بها ؛ فوجب أن يكون حكمها حكمه.

__________________

(١) في ل : من.

(٢) في ا : يوجب.


الثاني ـ أنّ الله سبحانه قال : (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) ـ وقد اختلف الناس في دية الكافر ، فمنهم من جعلها كدية المسلم ، وهو أبو حنيفة وجماعة ؛ ومنهم من جعلها على النصف ، وهو مالك وجماعة ، ومنهم من جعلها ثلث دية المسلم ، وهو الشافعى وجماعة.

والدية المسلّمة هي الموفرة (١).

قال القاضي : والذي عندي أنّ هذه الجملة محمولة على ما قبلها حمل المطلق على المقيّد ، وهو أصل من أصول الفقه اختلف الناس فيه ، وقد أتينا فيه بالعجب في المحصول ، وهو عندي لا يلحق إلّا بالقياس عليه.

والدليل على حمل هذه الجملة على التي قبلها أمران :

أحدهما ـ أنّ الكفارة إنما هي لأنه أتلف شخصا عن عبادة الله ؛ فيلزمه (٢) أن يخلّص آخر لها.

والثاني ـ أنّ الكفّارة إنما هي زجر عن الاسترسال وتقاة للحذر (٣) ، وحمل على التثبت عند الرمي ؛ وهذا إنما هو في حق المسلم. وأما في حق الكافر فلا يلزم فيه مثل هذا. ونحرر (٤) هذا قياسا فنقول : كلّ كافر لا كفّارة في قتله ، [كالمستأمن وقد اتفقنا على أنه لا كفّارة في قتله] (٥) ، ولا عذر لهم عنه به احتفال.

المسألة الخامسة عشرة ـ إذا ثبت أنّ المذكور في هذه الجملة هو المؤمن ، فمن قتل كافرا خطأ ، وله عهد ففيه الدية إجماعا.

وقد اختلفوا فيه كما تقدم ، وهو أصل بديع في رفع الدماء. ونحن نمهّد فيه قاعدة قوية فنقول :

مبنى الديات في الشريعة على التفاضل في الحرمة والتفاوت في المرتبة ؛ لأنه حقّ مالىّ يتفاوت بالصفات ، بخلاف القتل ، لأنه لما شرع زجرا لم يعتبر فيه ذلك التفاوت ، فإذا ثبت هذا نظرنا إلى الدية فوجدنا الأنثى تنقص فيه عن الذكر ؛ ولا بد أن يكون للمسلم مزيّة على الكافر ؛ فوجب ألّا يساويه في ديته (٦).

__________________

(١) في القرطبي : مسلمة مدفوعة مؤداة.

(٢) في ل : فلزمه.

(٣) في ا : الحذر.

(٤) في ا : ويحرز.

(٥) ليس في ل.

(٦) في ا : في دينه.


وزاد الشافعى نظرا ، فقال : إن الأنثى المسلمة فوق الكافر الذكر ، فوجب أن تنقص ديته عن ديتها ، فتكون ديته ثلث دية المسلم.

وقال مالك بقضاء عمر وهو النصف ؛ إذ لم يراع الصحابة التفاوت بينهما إلا في درجة واحدة ، ولم يتبع ذلك إلى أقصاه ، وليس بعد قضاء عمر بمحضر من الصحابة نظر.

وما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أعطى في ذي العهد مثل دية المسلم فإنما كان على معنى الاستئلاف لقومهم ؛ إذ كان يؤدّيه من قبل نفسه ولا يرتبها على العاقلة ، وإلا فقد استقرّ ما استقر على يد عمر ، حتى جعل في المجوسىّ ثمانمائة درهم لنقصه عن أهل الكتاب ؛ وهذا يدلّ على مراعاة التفاوت واعتبار نقص المرتبة.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) : ظن قوم أوّلهم مسروق أنّ الصيام بدل عن الدّية والرقبة ، وساعده عليه جماعة ؛ وهو وهم ؛ لأنّ الصيام يلزم القاتل فهو بدل عما كان يلزمه من الرقبة ، والدية لم تكن تلزمه ، فليس عليه بدل عنها. وهذا أظهر من إطناب فيه.

المسألة السابعة عشرة ـ لما قال الله سبحانه : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) ، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) انحصر القتل في خطأ وعمد عند أكثر العلماء ، ومنهم من زاد ثالثا ؛ وهو شبه العمد ، وجعلوه عمدا خطأ ، كأنهم يريدون به أنه عمد من وجه خطأ من وجه. والذي أشاروا به من ذلك قد جاء في الحديث ؛ فروى عبد الله بن عمر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلّم قال في خطبته (١) : ألا إنّ في قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة (٢) في بطونها أولادها. رواه أبو داود والترمذي.

قال ابن العربي : هذا حديث لم يصح ، وقد [روى] (٣) شبه العمد عن الصحابة والفقهاء كأبى حنيفة والشافعى ، وحكى العلماء عن مالك القول بشبه العمد ، وأن القتل ثلاثة أقسام ، ولكن جعل شبه العمد في مثل قصّة المدلجي في (٤) نظر من أثبته أنّ الضرب مقصود

__________________

(١) ابن ماجة ٨٧٧ ، وفيه : قتل الخطأ شبه العمد.

(٢) في القرطبي : إلا أن دية الخطا شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها.

(٣) من ل.

(٤) في ا : ونظر من أثبته إلى أن.


والقتل غير مقصود ؛ وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود ، وتغلظ الدية.

وبالغ أبو حنيفة مبالغة أفسدت القاعدة ، فقال : إنّ القاتل بالعصا والحجر شبه العمد فيه دية مغلّظة ولا قود فيه ، وهذا باطل قطعا ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.

الآية السادسة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها ، وفيه خمسة أقوال :

الأول ـ قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : إنّ (٢) رجلا من المسلمين في مغازي النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حمل على رجل من المشركين ؛ فلما علاه بالسيف قال المشرك : لا إله إلا الله. فقال الرجل : إنما يتعوّذ بها من القتل ؛ فأتى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : كيف لك بلا إله إلا الله؟ قال : يا رسول الله ، إنما يتعوّذ. فما زال يعيدها عليه : كيف لك بلا إله إلا الله؟ فقال الرجل : وددت أنى أسلمت ذلك اليوم ، وأنه يبطل ما كان لي من عمل قبل ذلك ، وأنى استأنفت العمل من ذلك اليوم. قال القاضي : هذا الذي ذكره مالك مطلقا هو أسامة بن زيد ، والحديث صحيح ، رواه الأئمة من كل طريق ، أصله أبو ظبيان عن أسامة ، رواه عنه الأعمش ، وحصين بن عبد الرحمن ، والحديث مشهور. وذكر الطبري أنّ اسم الذي قتله أسامة ـ مرداس بن نهيك.

الثاني ـ قال عبد الله بن عمر : بعث (٣) النبىّ صلّى الله عليه وسلّم محلّم بن جثامة ، فلقيهم عامر بن الأضبط ، فحيّاهم بتحية الإسلام ، وكان بينهما إحنة في الجاهلية ، فرماه محلم بن جثّامة بسهم فقتله ، وجاء محلم (٤) بن جثامة فجلس بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

__________________

(١) الآية الرابعة والتسعون.

(٢) أسباب النزول : ٩٩ ، والقرطبي : ٥ ـ ٣٣٦

(٣) ابن كثير : ١ ـ ٥٣٨

(٤) في ا : مسلم.


ليستغفر الله ، فقال : لا غفر الله لك! فقام وهو يتلقّى دموعه ببردته ، فما مضت سابعة حتى دفنوه ولفظته الأرض ، فذكر ذلك له فقال : إن الأرض لتقبل من هو شرّ منه ، ولكن الله أراد أن يعظم من حرمتكم ، فرموه بين جبلين وألقوا عليه من الحجارة ، وأنزل الله سبحانه الآية.

الثالث ـ قال ابن عباس : لقى ناس رجلا في غنيمة له فقال : السلام عليكم ، فقتلوه ، وأخذوا تلك الغنيمة ، فنزلت الآية.

الرابع ـ قال قتادة : أغار رجل من المسلمين على رجل من المشركين ، فقال المشرك : إنى مسلم ، لا إله إلا الله ، فقتله بعد أن قالها.

وعن سعيد بن جبير أنّ الذي قتله هو المقداد ، وذكر نحو ما تقدّم ـ وهو الخامس.

قال القاضي : قد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه حمل ديته ، وردّ على أهله غنيمته (١) ، ويشبه أن يكون هذا صحيحا على طريق الائتلاف وهي المسألة الثانية ؛ فإن هذا المقتول الذي نزلت فيه الآية لا يخلو أن يكون الذي قال : سلام عليكم ، أو يكون الذي قال : لا إله إلا الله ، أو يكون عامر بن الأضبط الذي علم إسلامه ؛ فأما كونه عامر بن الأضبط فبعيد ؛ لأنّ قصة عامر قد اختلفت اختلافا كثيرا لا نطول بذكره ، تبيّن أنّ قتل محلم إنما كان لإحنة وحقد بعد العلم (٢) بحاله ، وكيفما تصوّر الأمر ففي واحدة من هذه نزلت ، وغيرها يدخل فيها بمعناها (٣).

وجملة الأمر أنّ المسلم إذا لقى الكافر ولا عهد له جاز له قتله ؛ فإن قال له الكافر : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) لم يجز قتله ؛ فقد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله. فإن قتله بعد ذلك قتل به.

وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام ، وتأوّلوا أنه قالها متعوّدا ، وأنّ العاصم قولها مطمئنا ، فأخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح أنه عاصم كيفما قالها (٤).

__________________

(١) في القرطبي : رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف. وفي ا : ونسبه أن يكون. والتصحيح من ل.

(٢) في ا : وعقد بعد الحكم.

(٣) في القرطبي : ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع. وارجع إلى الروايات في ابن كثير ، وأسباب النزول إن أردت.

(٤) في ل : كيفما دارت.


وأمّا إن قال له : سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل حتى يعلم ما وراء هذا ؛ لأنه موضع إشكال.

وقد قال مالك ـ في الكافر (١) يوجد عند الدرب فيقول : جئت مستأمنا أطلب الأمان : هذه أمور مشكلة ، وأرى أن يردّ إلى مأمنه ، ولا يحكم له بحكم الإسلام ؛ لأن الكفر قد ثبت له ، فلا بدّ أن يظهر منه ما يدلّ على أنّ الاعتقاد الفاسد الذي كان يدلّ عليه قوله الفاسد قد تبدّل باعتقاد (٢) صحيح يدلّ عليه قوله الصحيح ، ولا يكفى فيه أن يقول : أنا مسلم ، ولا أنا مؤمن ، ولا أن يصلّى حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الحكم بها عليه في قوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منّى دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله.

فإن صلّى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام ـ وهي :

المسألة الثالثة ـ فقد اختلف فيه علماؤنا ، وتباينت الفرق في إسلامه ، وقد حررناها في مسائل الخلاف.

ونرى أنه لا يكون مسلما بذلك ، أما أنه يقال له : ما وراء هذه الصلاة؟ فإن قال : صلاة مسلم قيل له قل : لا إله إلا الله محمد رسول الله. فإن قالها تبيّن صدقه ، وإن أبى علمنا أنّ ذلك تلاعب ، وكانت عند من يرى إسلامه ردّة ويقتل على كفره الأصلى ، وذلك محرّر في مسائل الخلاف ، مقرّر أنه كفر أصلى ليس بردة.

وكذلك هذا الذي قال : سلام عليكم يكلف (٣) الكلمة ، فإن قالها تحقّق رشاده ، وإن أبى تبيّن عنده وقتل. وهذا معنى قوله : فتبيّنوا ، أى الأمر المشكل ، أو تثبّتوا ولا تعجلوا ، المعنيان سواء ؛ فإن قتله أحد فقد أتى منهيّا عنه ، لا يبلغ فدية ولا كفّارة ولا قصاصا.

وقال الشافعى : له أحكام الإسلام ، وهذا فاسد ، لأنّ أصل كفره قد تيقنّاه ، فلا يزال اليقين بالشك.

فإن قيل : فتغليظ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على محلّم (٤) كيف مخرجه؟

__________________

(١) في ا : الكفار.

(٢) في ا : اعتقاد.

(٣) في ل : تكلف.

(٤) في ا : محكم ، وهو تحريف.


قلنا : لأنه علم من نيّته أنه لم يبال بإسلامه ، ولم يحققه ؛ فغضب على هذه النية ، والله أعلم.

الآية السابعة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً).

فيها ثماني مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ) :

اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّ بناء «ضرب» يتصرّف في اللغة على معان كثيرة ؛ منها السفر ، وما أظنه سمّى به إلّا لأنّ الرجل إذا سافر ضرب بعصاه دابّته ، ليصرفها في السير على حكمه ، ثم سمّى به كلّ مسافر ، ولم يجتمع لي في هذا الباب ، ولا أمكننى في هذا الوقت ضبط فرأيته تكلّفا ، فتركته إلى أوبة تأتيه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية ـ قوله : (مُراغَماً كَثِيراً) :

هذه لفظة وردت في الآية التي قبلها (٢) ، وهي مرتبطة بها سنذكرها معها ، فأردنا أن تقدّم شرح اللفظة ، لتكون إلى جانب أختها. وفيه اختلاف وإشكال ، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ المراغم : المذهب قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : المراغم الذهاب في الأرض.

الثاني ـ المراغم : المتحوّل ، يعزى إلى ابن عباس.

الثالث ـ المراغم : المندوحة (٣).

قال مجاهد : وهذه الأقوال تتقارب (٤).

واختلف في اشتقاقها ، فقالت طائفة : هو مأخوذ من الرّغام ـ بفتح الراء والغين والمعجمة ، وهو التراب. وقالت أخرى : هو مأخوذ منه بضم الراء ، وهو ما يسيل من أنف الشاة.

__________________

(١) الآية الواحدة بعد المائة.

(٢) هي قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

(٣) هكذا في ا ، ل ، وفي القرطبي : المتزحزح.

(٤) في ا : تتفاوت.


والرّغام ـ بضم الراء ـ يرجع إلى الرّغام بفتحها ؛ لأنّ من كره رجلا قصد ذلّه ، وأن يكبّه الله على وجهه ، حتى يقع أنفه على الرّغام ، وهو التراب ، فضرب المثل به ، حتى يقال : أرغم الله أنفه ، وافعل كذا وإن رغم أنفه ، ثم سمّى بعد ذلك الأنف وما يسيل منه به.

وتحقيقه أنّ اللفظة ترجع إلى الرّغام ـ بفتح الراء.

المعنى : ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانا للذهاب ، وضرب التراب له مثلا ؛ لأنه أسهل أنواع الأرض.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ، وقد تقدم بيانه في سورة البقرة.

المسألة الرابعة ـ في السفر في الأرض :

تتعدّد أقسامه من جهات مختلفات ، فتنقسم من جهة المقصود به إلى هرب أو طلب. وتنقسم من جهة الأحكام إلى خمسة أقسام ، وهي ـ من أحكام أفعال المكلفين الشرعية : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومكروه ، وحرام.

وينقسم من جهة التنويع في المقاصد إلى أقسام :

الأول ـ الهجرة ، وهي تنقسم إلى ستة أقسام : الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ؛ وكانت فرضا في أيام النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مع غيرها من أنواعها بينّاها في شرح الحديث ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حيث كان ، [فمن] (١) أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام ، فإن بقي فقد عصى ، ويختلف في حاله كما تقدم بيانه.

الثاني ـ الخروج من أرض البدعة. قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لا يحلّ لأحد أن يقيم ببلد (٢) سبّ فيها السلف.

وهذا صحيح ؛ فإنّ المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل (٣) عنه ، قال الله تعالى (٤) : (وَإِذا

__________________

(١) من ل.

(٢) في ل : بأرض.

(٣) في ا : فزل.

(٤) سورة الأنعام ، آية ٦٨


رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبى بكر الفهري : ارحل عن أرض مصر إلى بلادك. فيقول : لا أحبّ أن أدخل بلادا غلب عليها كثرة الجهل ، وقلّة العقل ، فأقول له : فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله ؛ فقد علمت أنّ الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام ، فيقول : وعلى يدي فيها هدى كثير ، وإرشاد للخلق ، وتوحيد ، وصدّ عن العقائد السيئة ، ودعاء إلى الله عز وجل ؛ وتعالى الكلام بيني وبينه فيها إلى حدّ شرحناه في ترتيب [لباب] (١) الرحلة واستوفيناه.

الثالث ـ الخروج عن أرض غلب عليها الحرام ؛ فإنّ طلب الحلال فرض على كل مسلم.

الرابع ـ الفرار من الإذاية في البدن ؛ وذلك فضل من الله عز وجلّ أرخص فيه ، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه ؛ ليخلصها من ذلك المحذور.

وأول من حفظناه فيه الخليل إبراهيم عليه السلام لمّا خاف من قومه قال (٢) : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي). وقال (٣) : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ). وموسى قال الله سبحانه فيه (٤) : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ : رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وذلك يكثر تعداده.

ويلحق به ، وهو :

الخامس ـ خوف المرض في البلاد الوخمة ، والخروج منها إلى الأرض النزهة.

وقد أذن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم للرّعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزّهوا إلى المسرح ، فيكونوا فيه حتى يصحّوا ، وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون ؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، بيد أنّى رأيت علماءنا قالوا هو مكروه.

وقد استوفيناه في شرح الصحيح عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم.

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) سورة العنكبوت ، آية ٢٦

(٣) سورة الصافات ، آية ٩٩

(٤) سورة القصص ، آية ٢١


السادس ـ الفرار خوف الإذاية في المال ؛ فإنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله أو آكد ؛ فهذه أمهات قسم الهرب.

وأما قسم الطلب فينقسم إلى قسمين : طلب دين وطلب دنيا ؛ فأما طلب الدّين فيتعدد بتعدد أنواعه ، ولكن أمهاته الحاضرة عندي الآن تسعة :

الأول ـ سفر العبرة ، قال الله تعالى (١) : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وهذا كثير في كتاب الله عزّ وجلّ.

ويقال : إنّ ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها. وقيل : لينفذ الحقّ فيها.

الثاني ـ سفر الحجّ. والأول وإن كان ندبا فهذا فرض ، وقد بينّاه في موضعه.

الثالث ـ سفر الجهاد ، وله أحكامه.

الرابع ـ سفر المعاش ؛ فقد يتعذّر على الرجل معاشه مع الإقامة ، فيخرج في طلبه لا يزيد عليه ولا ينقص من صيد أو احتطاب أو احتشاش أو استئجار ، وهو فرض عليه.

الخامس ـ سفر التجارة والكسب الكثير الزائد على القوت ؛ وذلك جائز بفضل الله سبحانه قال الله سبحانه (٢) : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ـ يعنى التجارة.

وهذه نعمة منّ بها في سفر الحج ، فكيف إذا انفردت.

السادس ـ في طلب العلم ، وهو مشهور.

السابع ـ قصد البقاع الكريمة ، وذلك لا يكون إلا في نوعين : أحدهما المساجد الإلهية ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدى هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى.

الثاني ـ الثغور للرباط بها ، وتكثير سوادها للذبّ عنها ؛ ففي ذلك فضل (٣) كثير.

الثامن ـ زيارة الإخوان في الله ، وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث.

التاسع ـ السفر إلى دار الحرب ، وسيأتى بعد إن شاء الله تعالى ؛ وبعد هذا فالنية

__________________

(١) سورة يوسف ، آية ١٠٩

(٢) سورة البقرة ، آية ١٩٨

(٣) في ا : فعل.


تقلب الواجب من هذا حراما والحرام حلالا بحسب حسن القصد وإخلاص السر عن الشوائب.

وقد تتنوّع هذه الأنواع إلى تفصيل ؛ هذا أصلها التي تتركب عليه.

فإذا ثبت هذا فقد اختلف الناس في السفر الذي تقصر فيه الصلاة المذكورة ها هنا على ستة أقوال :

الأول ـ أنها لا تقصر إلا في سفر واجب ؛ لأنّ الصلاة فرض ، ولا يسقط الفرض إلّا فرض.

الثاني ـ أنها لا تقصر إلا في سفر قربة ، وبه قال جماعة ، منهم ابن حنبل. وتعلقوا بفعل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وبحديث عمران بن حصين ، قال : إنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يقصر إلّا في حج أو عمرة أو جهاد.

الثالث ـ أنه يجوز القصر في كل سفر مباح ، كما قد بينا أنواعه ، لعموم قوله سبحانه : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ، ولم يفرق بين سفر وسفر.

الخامس ـ أنه يقصر في كل سفر ، حتى في سفر المعصية ، وهو قول أبى حنيفة وجماعة ، بنوه على أنّ القصر فرض الصلاة في السفر بعينه ؛ وتعلقوا بحديث عائشة (١) : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر على أصلها.

السادس ـ أنّ القصر لا يجوز إلا مع الخوف ، قال به جماعة منهم عائشة ، قالت : أتمّوا ، فقالوا لها : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقصر. قالت : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في حرب ، وكان يخاف ؛ فهل تخافون أنتم؟

أما القول الأول ففاسد ؛ لأن عموم القرآن لم يخص منها واجبا من ندب ، وقد قصر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في غير الواجب ، كالعمرة في الحديبية وغيرها. وأما من قال : لا تقصر إلّا في سفر قربة فعموم القرآن أيضا يقضى عليه ، لأنه عمّ ولم يخصّ قربة من مباح ، وهو القول الثالث الصحيح.

__________________

(١) ابن ماجة : ٣٣٩ ، البخاري : ٢ ـ ٤٥٦ ، وفيه : فأتممت صلاة الحضر.


وأما من قال : إنه يقصر في سفر المعصية فلأنها فرض معيّن للسفر. وقد اختلف في ذلك قول علماء المذهب ، وهي مسألة تعلّقت لهم من أقوال العراقيين.

وقد بينا في كتاب التلخيص وغيره فسادها. وقد تكلمنا على هذا الحديث في شرح مسائل الخلاف والحديث ، وبينا أنه خبر واحد ، يعارضه نصّ القرآن والأخبار المتواترة ؛ فإنّ الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفا ، والتمام أصلا ، ويعارض أيضا الأصول المعقولة ؛ فإنه جعل الإقامة في القرآن أصلا ، وهو الواجب وقلبها في الحديث الراوي ؛ وأقواه أنّ عائشة قالت : سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقصر وأتممت ، وأفطر وصمت ، ولم ينكر ذلك علىّ ، وكانت تتم في السفر.

وأما سفر المعصية فأشكل دليل فيه لهم أن قالوا : إنّا بنينا الأمر على أنّ القصر عزيمة وليس برخصة ، والعزائم لا تتغير بسفر الطاعة والمعصية كالتيمم.

قلنا : قد بينا أنه رخصة ، وعليه تنبنى المسألة ، والرخص لا تجوز في سفر المعصية كالمسح على الخفين.

المسألة الخامسة ـ تلاعب قوم بالدين ؛ فقالوا : إنّ من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل.

وقائل هذا أعجمىّ لا يعرف السفر عند العرب ، أو مستخفّ بالدين ؛ ولو لا أنّ العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ، ولا أن أفكّر فيه بفضول قلبي ؛ وقد كان من تقدّم من الصحابة يختلفون في تقديره ؛ فروى عن عمر وابن عمر وابن عباس أنهم كانوا يقدرونه بيوم. وعن ابن مسعود أنه كان يقدّره بثلاثة أيام يعلمهم بأنّ السفر كلّ خروج تكلّف له وأدركت فيه المشقة.

المسألة السادسة ـ قوله : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) :

اختلف العلماء في تأويلها ؛ فمنهم من قال : إنّ القصر قصر عدد ، وهم الجمّ الغفير. ومنهم من قال : إنها قصر الحدود وتغيير الهيئات (١). والذين قالوا : إن القصر في العدد

__________________

(١) في ل : لهيئة


قالت جماعة منهم : أن ينقص من أربع إلى اثنين. وقال آخرون : يقصر من اثنين إلى واحدة.

وقال علماؤنا : الآية تحتمل المعنيين [جميعا] (١) ؛ فأما القصر من هيآتها فقد ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فعلا حالة الخوف ، وأما القصر من عددها إلى ثنتين فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم فعلا في حالة الأمن.

وأما القصر في حالة الخوف إلى واحدة فقد روى عنه من طريقين : أحدهما قول ابن عباس في الصحيح : فرض الله الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة. ويأتى إن شاء الله بيانه.

المسألة السابعة ـ قوله : (إِنْ خِفْتُمْ) ، فشرط الله تعالى الخوف في القصر.

وقد اختلف العلماء في الشرط المتصل (٢) بالفعل ؛ هل يقتضى ارتباط الفعل به حتى يثبت بثبوته ويسقط بسقوطه؟ فذهب بعض (٣) الأصوليين إلى أنه لا يرتبط به ، وهم نفاة دليل الخطاب ، ولا علم عندهم باللغة ولا بالكتاب.

وقد بينا ذلك في المحصول بيانا شافيا.

وعجبا لهم. قال (٤) يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب : إنّ الله تعالى يقول : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) فها نحن قد أمنّا. قال : عجبت مما عجبت منه. فسألت عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.

وقال أميّة بن عبد الله بن أسيد لعبد الله بن عمر (٥) : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر ، يعنى نجد ذلك في هذه الآية فقال : إنّ الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلينا ونحن لا نعلم شيئا ، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل ؛ فهذه الصحابة الفصح ، والعرب تعرف ارتباط الشرط بالمشروط ، وتسلم فيه وتعجب منه ، وهؤلاء يريدون أن يبدّلوا كلام العرب لأغراض صحيحة لا يحتاج إلى ذلك فيها ، فلينظر تحقيقه في كلامنا عليه.

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) في ا : المتكمل ، ونراه تحريفا. والمثبت من ل.

(٣) في ا : معظم.

(٤) ابن ماجة : ٣٣٩


ولقد انتهى الجهل بقوم آخرين إلى أن قالوا : إنّ الكلام قد تمّ في قوله (مِنَ الصَّلاةِ) وابتدأ بقوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وإن الواو زائدة في قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) وهذا كلّه لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلى بن أمية معهما.

وفي الصحيح عن حارثة بن وهب قال : صلّى بنا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بمنى ، آمن ما كان الناس وأكثره ركعتين ؛ فهؤلاء لما جهلوا القرآن والسنة تكلّموا برأيهم في كتاب الله.

وهذا نوع عظيم من تكلّف القول في كتاب الله تعالى بغير علم ، وقول مذموم ، وليس بعد قول عمر وابن عمر مطلب لأحد إلّا لجاهل متعسّف أو فارغ متكلف ، أو مبتدع متخلف.

وهذا كله يبيّن لك أنّ القصر فضل من الله سبحانه ورخصة لا عزيمة ـ وهي :

المسألة الثامنة ـ وإذا ثبت ذلك ، فقد اختلف الناس ـ بعد ثبوت القول بأن القصر ليس بفرض ـ على قولين : الأول أنّ المسافر مخيّر بين القصر والإتمام لحديث عائشة المتقدم ، وبه قال الشافعىّ ، وجماعة من أصحابنا.

ومنهم من قال : إنّ القصر سنّة ، وعلى هذا جمهور المذهب ؛ لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم واظب عليه في الصحيح ، وإنّ عثمان لما أتم بمنى قال عبد الله بن مسعود (١) : صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين ، ومع أبى بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، فليت حظى من أربع ركعتان متقبّلتان.

الآية الثامنة والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

__________________

(١) البخاري : ٢ ـ ٤٥٢

(٢) الآية الثانية بعد المائة.


وهي وإن كانت منفصلة عن التي قبلها عددا فقد زعم قوم كما قدّمنا أنها بها مرتبطة. وقد فصّلناها خطابا (١) ونتكلم عليها حكما حتى يتبين الحال دون اختلال.

وذلك أنّ الله تعالى قال : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ).

فإن ذلك إن كان شرطا في القصر ؛ وكان المعنى أن تقصروا من حدودها (٢) ، فهذه الآية بيان صفة ذلك القصر من الحدود ، وإن كان كلاما مبتدأ لم يرتبط بالأول ، فهذا بيانه ، فيقول : ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى صلاة الخوف مرارا عدّة بهيئات مختلفة ، فقيل في مجموعها : إنها أربع وعشرون صفة ، ثبت فيها ست عشرة صفة قد شرحناها في كتب (٣) الحديث.

والذي نذكره لكم الآن ما نورده أبدا في المختصرات ، وذلك على ثماني صفات (٤) :

الصفة الأولى ـ روى عن ابن عمر قال : صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجد سجدتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ثم صلّى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة ، ثم سلّم ، ثم قضى هؤلاء ركعة.

الصفة الثانية ـ قال جابر بن عبد الله : شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف ، فصفّنا صفّين ؛ صفّا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والعدوّ بيننا وبين القبلة ، فكبّر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فكبّرنا جميعا ، ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدرنا بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصفّ المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدّم الصف المؤخر وتأخّر الصف المقدم ، ثم ركع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدرنا بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرا في الركعة الأولى ، وقام الصفّ المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم السجود والصف الذي يليه انحدر الصفّ المؤخر بالسجود ، فسجدوا ثم سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم وسلّمنا جميعا.

__________________

(١) في ا : خطا.

(٢) في ل : الحدود.

(٣) في ل : كتاب.

(٤) ارجع إلى ابن ماجة : ٣٩٩


الصفة الثالثة ـ عن ابن أبى خيثمة أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه في الخوف ، فصفّهم خلفه صفّين ، فصلّى بالذين يلونه ركعة ، ثم قام فلم يزل قائما حتى صلّى بالذين خلفه ركعة ، ثم تقدّموا وتأخّر الذين قدامهم ، فصلّى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلّى الذين تختلفوا ركعة ثم سلّم.

الصفة الرابعة ـ يوم ذات الرّقاع ، إن طائفة صلّت معه وجاه العدو فصلّى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائما فأتمّوا لأنفسهم ، ثم انصرفوا فصفّوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى وصلّى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالسا ، وأتموا لأنفسهم ثم سلّم بهم.

الصفة الخامسة ـ قال جابر : أقبلنا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنا بذات الرّقاع ... فذكر الحديث ، ثم قال : فصلّى بطائفة ركعتين ، ثم تأخّروا وصلّى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع ركعات وللقوم ركعتين.

الصفة السادسة ـ عن ابن عمر : يتقدّم الإمام وطائفة من الناس فيصلّى بهم ركعة ، وتكون طائفة بينهم وبين العدو لم يصلّوا ؛ فإذا صلّى بالذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا فيصلون ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلّى ركعتين ، فيقوم كلّ واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام ويكون كلّ واحد من الطائفتين قد صلّى ركعتين.

قال ابن عمر : قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : فإن كان خوف أشدّ من ذلك صلّوا قياما وركبانا. قال نافع : قال ابن عمر : مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، لا أرى ذكر ذلك عن عمر إلّا عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ؛ فهذه الصفات الست في الصحيح الثابت.

الصفة السابعة ـ عن ابن مسعود ؛ قال : صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف ، فقام صفّ خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصفّ مستقبل العدو (١) ، فصلّى بهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ركعة ، وجاء الآخرون ؛ فقاموا مقامهم ، واستقبل هؤلاء للصلاة فصلّى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقام هؤلاء وصلّوا لأنفسهم

__________________

(١) في ل : مستقبل القبلة.


ركعة ، ثم سلّموا ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك مقامهم ، فصلّوا لأنفسهم ركعة ثم سلّموا.

الصفة الثامنة ـ عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا ، ومن هذه الصفة الثامنة ما قال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، وقد تقدم(١).

وهاتان الصفتان مرويّتان في المصنفات خرجهما أبو داود وغيره.

واختلف الناس في هذه الصفات وما بقي غيرها من الست عشرة صفة على ستة أقوال :

الأول ـ قال أبو يوسف : هي ساقطة كلّها ، لقوله عزّ وجل : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) ، فإنما أقام الصلاة خوفية بشرط إقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم لها بهم.

قلنا لهم : فالآن ما يصنعون؟ فإن قال : نترك الصلاة مع الذكر لها والعلم بها وبوقتها كان ذلك احتجاجا بها واقتداء بمن فات ، [وإن] (٢) قال يفعلها على الحالة المعتادة فيها فلا يمكن ، فلم يبق إلا الاقتداء بقول الله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) ، والائتمام بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم.

وقد قال في الصحيح : صلّوا كما رأيتمونى أصلّى ، والله قال له : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) ، وهو قال لنا : صلّوا كما رأيتمونى أصلّى.

وقد استوفيناها في مسائل الخلاف.

الثاني ـ قالت طائفة : أى صلاة صلّى من هذه الصلوات الصحاح المرويّة جاز ، وبه قال أحمد بن حنبل.

الثالث ـ أن [الذي] (٣) يعلم تقدمه ويتحقّق تأخّر غيره عنه ؛ فإنّ المتأخر ينسخ المتقدم ، وإنما يبقى الترجيح فيما جهل تاريخه.

__________________

(١) صفحة ٤٨٩

(٢) من ل.


وقد تكلمنا في نسخ الفعل للفعل في الأصول في المحصول ، وهذا كان فيه متعلق لو لا أنّا نبقى في الإشكال بعد تحديد المتقدّم.

الرابع ـ قال قوم : ما وافق صفة القرآن منها فهو الذي نقول به ، لأنه مقطوع به ، وما خالفها مظنون ، ولا يترك المقطوع به له ، وعلّقوه بنسخ القرآن للسنة ؛ وهذا متعلق قوىّ ، لكن يمنع منه القطع على أنّ صلاة الخوف إنما كانت ليجمع بين التحرّز من العدو وإقامة العبادة ، فكيفما أمكنت فعلت ، وصفة القرآن لم تأت لتعيين الفعل. وإنما جاءت لحكاية الحال الممكنة ، وهذا بالغ.

الخامس ـ ترجيح الأخبار بكثرة الرواة لها أو مزيد عدالتهم فيها ، وهو مذهب مالك والشافعى ، فرجحنا خبر سهل وصالح ، ثم رجّحنا بينهما بعد ذلك بوجوه من الترجيحات ؛ منها أن يكون أخفّ فعلا ، ومنها ما يكون أحفظ لأهبة الصلاة ، وهو :

السادس ـ مثال ذلك إذا صلّى صلاة المغرب في الخوف.

قلنا : نحن وأبو حنيفة نصلّى بالأولى ركعتين ؛ لأنه أخف في الانتظار.

وقال الإمام الشافعى : يصلّى بالأولى ركعة لأن عليّا فعلها ليلة الهرير. ومنها الترجيح بالسلام بعد الإمام على ما قبله ، وذلك طول لا يكون إلا في موضعه ، وهذه نبذة كافية للباب الذي تصدّينا إليه.

المسألة الثانية (١) ـ إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف ، وبه قال الشافعى ، وهو نصّ القرآن.

وقال أبو حنيفة : لا يحملها (٢) قالوا : لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها.

قلنا : لم يجب عليهم حملها لأجل الصلاة ، وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا ، أو لأمر خارج عن الصلاة ، فلا تعلّق لصحة الصلاة به نفيا وإثباتا [فاعلمه] (٣).

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ):

__________________

(١) كأنه عد ما سبق كله بعد الآية : المسألة الأولى.

(٢) في ا : لا يحملونها.

(٣) من ل.


فيها قولان :

أحدهما ـ أحسن منها أى الصفة ، إذا دعا لك بالبقاء فقل : سلام عليكم ، فإنها أحسن منها ؛ فإنها سنّة الآدمية ، وشريعة الحنيفية.

الثاني ـ إذا قال لك سلام عليك فقل : وعليك السلام ورحمة الله.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ رُدُّوها) :

اختلفوا فيها على قولين :

أحدهما ـ حيّوا بأحسن منها أو ردّوها في السلام.

الثاني ـ أنّ أحسن منها هو في المسلم ، وأن ردّها بعينها هو في الكافر ؛ واختاره الطبري.

وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : إنّ أهل الكتاب إذا سلّموا عليك قالوا السّام عليكم فقولوا عليكم

. كذلك كان سفيان يقولها. والمحدثون يقولون بالواو ، والصواب سقوط الواو ؛ لأنّ قولنا لهم : عليكم ردّ ، وقولنا وعليكم مشاركة ، ونعوذ بالله من ذلك.

وكانت عائشة مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم :

عليك السام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : عليكم ، ففهمت عائشة قولهم ؛ فقالت عائشة :

عليكم السلام واللعنة ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : مهلا يا عائشة. فقالت : أولم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ قال : أولم تسمعي ما قلت عليكم؟ إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فىّ.

المسألة الخامسة ـ قال أصحاب أبى حنيفة : التحية ها هنا الهدية ، أراد الكرامة بالمال والهبة ، قال الشاعر :

إذ تحيى بضميران (١) وآس

__________________

(١) في ا : بضمران. والضمران من دق الشجر. وقيل : هو من الحمض. والضميران : من ريحان البر (اللسان ـ ضمر). وفي ل : الضميران ولعلها محرفة عن الضميران.


المسألة السادسة ـ قال الشافعى : إذا تابع الطعن والضرب فسدت الصلاة ؛ لأنها لا تكون حينئذ صلاة ، وإنما تكون محاربة.

قلنا : يا حبذا الفرضان إذا اجتمعا ، وإذا كانت الحركة لعبا لم تنتظم مع الصلاة ، أما إذا كانت عبادة واجبة وتعيّنتا جميعا جمع بينهما فيصلى ويقاتل ؛ وعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم : ركبانا ، وعلى أقدامهم ، ومستقبلي القبلة وغير مستقبليها ـ يعطى جواز قليل ذلك وكثيره.

المسألة السابعة ـ قال المزني : لا يفتقر القصر والخوف إلى تجديد نية ، وهذه إحدى خطيئاته ؛ فله انفرادات يخرج فيها عن مقام المثبتين.

وهذا فاسد ، لأنها صلاة طارئة ، فلا بدّ لها من تجديد نيّة كالجمعة.

فإن قيل الجمعة بدل عن الظهر ، فلذلك افتقرت إلى نية محدودة.

قلنا : ربما قلبنا الأمر ، فقلنا الجمعة أصل والظهر بدل ، فكيف يكون كلامهم؟

الثاني ـ إنا نقول : وهبكم سلّمنا لكم أنّ الجمعة بدل ، أليست صلاة القصر بدلا ، وصلاة الخوف بدلا آخر؟ فإنّ الجمعة إنما قلنا إنها غير صلاة الظهر سواء جعلناها بدلا أو أصلا لأجل مخالفتها في الصفات والشروط والهيئات ، وهذا كلّه موجود هاهنا ؛ فوجب أن يكون غيره وأن تستأنف له نية.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) :

نزل عليهم المطر ، ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح ، فرخّص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهّب للعدو بعذر المرض والمطر ؛ وهذا يدلّ على تأكيد التأهّب والحذر من العدوّ وترك الاستسلام ؛ فإنّ الجيش ما جاءه قطّ مصاب إلا من تفريط في حذر.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى (١) : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً).

قال قوم : هذه الآية والتي في آل عمران سواء ، وهذا عندي بعيد ؛ فإن القول في هذه

__________________

(١) الآية الثالثة بعد المائة.


الآية دخل في أثناء صلاة الخوف ، فاحتمل أن يكون قوله سبحانه : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أى فرغتم منها فافزعوا إلى ذكر الله ، وإن كنتم في هذه الحال ، كما قال : فإذا فرغت فانصب.

ويحتمل أن يريد فإذا قضيتم الصلاة إذا كنتم فيها قاضين لها ، فأتوها قياما وقعودا وعلى جنوبكم في أثناء الصلاة ومصافّتكم للعدوّ وكرّكم وفركم ، والله أعلم.

والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك ، وهي :

المسألة العاشرة ـ (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) :

يعنى بحدودها وأهبتها وكمال هيئتها في السفر وكمال عددها في الحضر ؛ ولذلك قال جماعة من السلف ، منهم إبراهيم ومجاهد : يصلّى راحلا وراكبا ، كما جاء في سورة البقرة (١) ، وما قد يومئ (٢) إيماء كما جاء في هذه السورة ويكون في كل حالة حكم له آية أخرى تدلّ عليه وحكم ينفرد به.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً):

قال العلماء : معناه مفروضا ، وزعم بعضهم أنه من الوقت ، وما أظنه ؛ لأنه استعمل في غير الزمان ؛ فإنّ في الحديث الصحيح : وقت رسول الله عليه وسلّم لأهل المدينة ذا الحليفة ؛ فدلّ أنّ معناه مفروضا حقيقة.

ومن قال : إنها منوطة بوقت فقد أخطأ ، وقد عوّلت عليه جماعة من المبتدعة في أنّ الصلاة مرتبطة بوقت إذا زال لم تفعل ، ونحن نقول : إنّ الوقت محلّ للفعل لا شرط فيه ، وإنّ الصلاة واجبة على المكلف لا تسقط عنه إلّا بفعلها مضى الوقت أو بقي. ولا نقول إنّ القضاء بأمر ثان بحال.

وقد ربطنا ذلك على وجهه في أصول الفقه.

وقد قال غيرهم : إنّ موقوتا محدودا بأقوال وأفعال وسنن وفرائض ؛ وكلّ ذلك سائغ لغة محتمل معنى.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٩

(٢) هكذا في كل الأصول.


فإن قيل : فقد قال ابن مسعود : إنّ للصلاة وقتا كوقت الحج.

قلنا : قد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ وقت الصلاة وقت للذكر ، وكما (١) دام ذكرها وجب فعلها وأداؤها.

الآية التاسعة والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ هذه الآية نزلت في شأن (٣) بنى أبيرق ؛ سرقوا طعام رفاعة بن زيد ، واعتذر عنهم قومهم بأنهم أهل خير (٤) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقتادة بن النعمان ذلك ، فطالبهم عن عمه رفاعة بن زيد ، فقال رفاعة : الله المستعان ، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم الآية ، ونصر رفاعة وأخزى الله بنى أبيرق بقوله: (بِما أَراكَ اللهُ) ؛ أى بما أعلمك ، وذلك بوحي أو بنظر ، ونهى الله عزّ وجلّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة ـ وهي :

المسألة الثانية ـ وفي ذلك دليل على أنّ النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز ، بدليل قوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم (٥) : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ، وهي : المسألة الثالثة.

الآية الموفية خمسين ـ قوله تعالى (٦) : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

هذه الآية آية بكر لم يبلغني عن أحد فيها ذكر.

والذي عندي فيها أنّ الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين :

أحدهما ـ الإخلاص ، وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه.

والثاني ـ النصيحة لكتاب الله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولأئمة المسلمين وعامتهم ،

__________________

(١) في ا : وكلما.

(٢) الآية الخامسة بعد المائة.

(٣) في ابن كثير (١ ـ ٥٥١). في سارق ... والقصة هناك كاملة.

(٤) في ل : خيبر.

(٥) سورة النساء ، آية ١٠٦

(٦) الآية الرابعة عشرة بعد المائة.


فالنجوى خلاف هذين الأصلين ، وبعد هذا فلم يكن بدّ للخلق من أمر يختصّون به في أنفسهم ، ويخصّ به بعضهم بعضا ، فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف ؛ والحثّ على الصدقة ، والسعى في إصلاح ذات البين.

إذا ثبت هذا الأصل ففيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) :

يحتمل أن يكون النّجوى مصدرا ، كالبلوى والعدوى ، ويحتمل أن يكون اسما للمنتجين كما قال (١) : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

فإن كان بمعنى المنتجين فقوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) استثناء شخص من شخص ، وإن كان مصدرا جاز الاستثناء على حذف تقديره : إلا نجوى من أمر بصدقة.

المسألة الثانية ـ في صفة النجوى :

ثبت عن ابن عمر أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد.

واختلف في ذلك على أربعة أقوال :

الأول ـ ما جاء في الحديث الصحيح : فإن ذلك يحزنه ، وهو ضرر ؛ والضرر لا يحلّ بإجماع ، وبالنص : لا ضرر ولا ضرار.

الثاني ـ أنّ ذلك كان في صدر الإسلام حين كان الناس بين مؤمن وكافر ومنافق ومخلص ، حتى فشا الإسلام فسقط اعتبار ذلك.

الثالث ـ أنّ ذلك في السفر حيث يتوقّع الرجل على نفسه من حيلة لا يمكنه دفعها.

الرابع ـ أنه من حسن الأخلاق وجميل الأدب ؛ وهو راجع إلى الأول.

والصحيح بقاء النهى وتمادى الأمر وعمومه في الحضر والسفر. والدليل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث. مخافة أن يحزنه. وأيضا فإنّ ابن عمر كان يمشى مع عبد الله ابن دينار ، فأراد رجل أن يكلّمه فدعا رابعا ، وأوقفه مع عبد الله بن دينار ريثما تكلّم الرجل.

المسألة الثالثة ـ قال ابن القاسم عن مالك : لا يتناجى ثلاثة دون ـ يعنى أربع (٢) ، وهذا صحيح ؛ لأنّ العلة إذا علمت بالنظر اطردت حيثما وجدت ، وتعلّق الحكم بها أينما كانت.

__________________

(١) سورة الإسراء ، آية ٤٧

(٢) في ا : رابعا.


وقد بينّا أن علّة النهى تحزين الواحد ، وهو موجود في كل موضع ، وكلما كثر العدد كان التحزين أكثر ، فيكون المنع آكد.

المسألة الرابعة ـ إذا ثبت أنّ نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم معلّل بتحزين الواحد فإذا استأذنه فإذن له جاز ولم يحرم. والله عز وجل أعلم.

الآية الحادية والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).

فيها ثماني مسائل :

المسألة الأولى ـ روى أبو الأحوص قال : أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قشف الهيئة ، فصعّد فىّ النظر وصوّبه فقال : هل لك من مال؟ قلت : نعم : قال : من أى المال؟ قلت : من كل المال آتاني الله فأكثر وأطيب (٢) ؛ الخيل والإبل والرقيق والغنم. قال : فإذا آتاك الله مالا فلير عليك. ثم قال : هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى الموسى فتشق آذانها ، فتقول : هذه بحر ؛ وتشق جلودها ، وتقول : هذه صرم (٣) لتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال : قلت : أجل. قال : فكلّ ما آتاك الله حلّ وموسى الله أحدّ ، وساعده أشدّ ... الحديث.

المسألة الثانية ـ لما كان من إبليس ما كان من الامتناع من السجود والاعتراض على الآمر به بالتسفيه أنفذ الله فيه حكمه وأحقّ عليه لعنته ، فسأله النظرة ، فأعطاه إياها زيادة في لعنته ، فقال لربه : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) ، وكان ما أراد ، وفعلت العرب ما وعد به الشيطان ، كما تقدم في الحديث ، وذلك تعذيب للحيوان وتحريم ، وتحليل بالطغيان ، وقول بغير حجة ولا برهان ، والآذان في الأنعام جمال ومنفعة ، فلذلك رأى الشيطان أن يغيّر بها خلق الله تعالى ، ويركب على ذلك التغيير الكفر به ، لا جرم أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمر في الأضحية أن تستشرف العين والآذان في الأنعام ، معناه أن تلحظ الأذن ؛ لئلا تكون مقطوعة أو مشقوقة ؛ فتجتنب من جهة أن فيها أثر الشيطان.

__________________

(١) الآية التاسعة عشرة بعد المائة.

(٢) في ا : رابطت.

(٣) بحر : جمع بحيرة : مشقوقة الأذن. الصرم : جمع صريم ، وهو الذي صرمت أذنه ، أى قطعت (النهاية).


وفي الحديث : نهى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن شريطة (١) الشيطان ، وهي هذه ، وشبّهها مما وفى فيها للشيطان بشرطه حين قال : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ).

المسألة الثالثة ـ ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسم الغنم في آذانها ، وكأن هذا مستثنى من تغيير خلق الله.

المسألة الرابعة ـ كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يقلّد الهدى ويشعره ؛ أى يشقّ جلده ، ويقلّده نعلين ، ويساق إلى مكّة نسكا ؛ وهذا مستثنى من تغيير خلق الله.

وقال أبو حنيفة : هو بدعة ؛ كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ، لهى [فيها] (٢) أشهر منه في العلماء.

المسألة الخامسة ـ وسم الإبل والدواب بالنار في أعناقها وأفخاذها مستثنى من التغيير لخلق الله تعالى كاستثناء ما سلف.

المسألة السادسة ـ لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة ، والنّامصة والمتنمصة ، والواشرة والموتشرة (٣) والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله.

فالواشمة هي التي تجرح البدن نقطا أو خطوطا ، فإذا جرى الدم حشته كحلا ، فيأتى خيلانا وصورا فيتزيّن به النساء للرجال ؛ ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ليدلّ كلّ واحد منهم على رجلته في حداثته.

والنامصة : هي ناتفة الشعر ، تتحسّن (٤) به.

وأهل مصر ينتفون شعر العانة ، وهو منه ؛ فإنّ السنّة حلق العانة ونتف الإبط ، فأمّا نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه ويبطل كثيرا من المنفعة فيه.

والواشرة : هي التي تحدّد أسنانها.

والمتفلّجة : هي التي تجعل بين الأسنان فرجا ، وهذا كله تبديل للخلقة ، وتغيير للهيئة ، وهو حرام. وبنحو هذا قال الحسن في الآية.

__________________

(١) في ا : شرطة. وشريطة الشيطان : الذبيحة التي لا تقطع أوداجها ويستقصى ذبحها ؛ وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حلقها ويتركونها حتى تموت. وإنما أضافها إلى الشيطان لأنه هو الذي حملهم على ذلك وحسن هذا الفعل لديهم (النهاية).

(٢) ليس في ل.

(٣) في ا : والموشرة. والحديث في ابن كثير : ١ ـ ٥٥٦ ، وصحيح مسلم : ١٦٧٧

(٤) في ا : فتحسن.


وقال إبراهيم ومجاهد وغيرهما : التغيير لخلق الله يريد به دين الله ؛ وذلك وإن كان محتملا فلا نقول : إنه المراد بالآية ، ولكنه مما غيّر الشيطان وحمل الآباء على تغييره ، وكلّ مولود يولد على الفطرة ، ثم يقع التغيير على يدي الأب والكافل والصاحب ، وذلك تقدير العزيز العليم.

المسألة السابعة ـ قال جماعة من الصحابة منهم ابن عباس ومن التابعين جملة : توخية الخصاء تغيير خلق الله. فأما في الآدمي فمصيبة ، وأما في [الحيوان و] (١) البهائم فاختلف الناس في ذلك ؛ فمنهم من قال : هو مكروه ، لأجل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنما (٢) يفعل ذلك الذين لا يعلمون.

وروى مالك كراهيته عن ابن عمر. وقال : فيه نماء الخلق ، ومنهم من قال : إنه جائز ؛ وهم الأكثر.

والمعنى فيه أنهم لا يقصدون به تعليق الحال بالدين لصنم يعبد ، ولا لربّ يوحّد ؛ وإنما يقصد به تطييب اللخم فيما يؤكل ، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ، والآدمىّ عكسه إذا خصى بطل قلبه وقوّته.

المسألة الثامنة ـ روى علماؤنا أنّ طاوسا كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ، ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هو من قول الله (٣) : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ). وهو إن كان يحتمله عموم اللفظ ومطلقه فهو مخصوص بما أنفذه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من نكاح مولاه زيد ، وكان أبيض ، بظئره (٤) بركة الحبشية أم أسامة ، فكان أسامة أسود من أبيض ، وهذا مما خفى على طاوس مع علمه.

الآية الثانية والخمسون ـ قوله تعالى (٥) : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً).

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) في ا : لنا.

(٣) سورة النساء ، آية ١٢٨

(٤) في ا : بنظيره. والصواب من ل ، والقرطبي.

(٥) الآية السابعة والعشرون بعد المائة.


فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قد تقدّم بيانها في أول السورة عند قولنا في آية (١) : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى).

وقد روى أشهب عن مالك : كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يسأل فلا يجيب ، حتى ينزل عليه الوحى ، وذلك في كتاب الله ، قال الله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ). هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير.

قال علماؤنا : طلبنا ما قال مالك فوجدناه في ثلاثة عشر موضعا : قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ). و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى). (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ). (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً). (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ). (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ).

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) الذين لا أب لهم ؛ أكد الله سبحانه أمرهم وأكد أمر اليتامى ، وهم الذين لا أبا لهم ؛ فيحتمل ـ وهي :

المسألة الثالثة ـ أن يكونوا هم ، أكد أمرهم بلفظ آخر أخصّ به من الضعف ، ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من كان هو وأبوه ضعيفا ، واليتيم المنفرد بالضعف ، ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من رماه أهله ودفعه أبوه عن نفسه لعجزه عن أمره.

الآية الثالثة والخمسون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ، وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

قالت عائشة : هي المرأة تكون عند الرجل ليس بمستكثر منها أن يفارقها ؛ فيقول : أجعلك من شأنى في حلّ ، فنزلت الآية.

__________________

(١) صفحة ٣٠٩ من هذا الكتاب.

(٢) الآية الثامنة والعشرون بعد المائة.


قال القاضي رضوان الله عليه وعلى الصديقة الطاهرة : لقد وفت ما حملها ربّها من العهد في قوله (١) : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ). ولقد خرجت في ذلك عن العهد. وهذا كان شأنها مع سودة بنت زمعة (٢) لما أسنّت أراد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يطلقها فآثرت الكون مع زوجاته. فقالت له : أمسكني واجعل يومى لعائشة ، ففعل صلّى الله عليه وسلّم وماتت وهي من أزواجه.

وقد صرح ابن أبى مليكة بذلك فقال : نزلت هذه الآية في عائشة. وفي هذه الآية ردّ على الرّعن الذين يرون الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي له أن يتبدّل بها ، فالحمد لله الذي رفع حرجا وجعل من هذه الضيقة مخرجا.

الآية الرابعة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال الأستاذ أبو بكر : في هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق ، فإن الله سبحانه كلّف الرجال العدل بين النساء ، وأخبر أنهم لا يستطيعونه ، وهذا وهم عظيم ، فإن الذي كلّفهم من ذلك هو العدل في الظاهر الذي دلّ عليه بقوله (٤) : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

وهذا أمر مستطاع ، والذي أخبر عنهم أنهم لا يستطيعونه لم يكلّفهم قطّ إياه ؛ وهو النسبة في ميل النفس ؛ ولهذا كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يعدل بين نسائه في القسم ، ويجد نفسه أميل إلى عائشة في الحبّ ، فيقول : اللهم هذه قدرتي فيما أملك ، فلا تسألنى في الذي تملك ولا أملك ـ يعنى قلبه ، والقاطع لذلك الحاسم لهذا الإشكال أنّ الله سبحانه قد أخبر بأنه رفع الحرج عنّا في تكليف ما لا نستطيع فضلا ، وإن كان له أن يلزمنا إياه حقا وخلقا.

المسألة الثانية ـ قال محمد بن سيرين : سألت عبيدة عن هذه الآية فقال : هو الحبّ والجماع

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية ٣٤

(٢) ابن كثير : ١ ـ ٥٦٢

(٣) الآية التاسعة والعشرون بعد المائة.

(٤) سورة النساء ، آية ٣


وصدق ؛ فإنّ ذلك لا يملكه أحد ؛ إذ قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يصرّفه كيف يشاء. وكذلك الجماع قد ينشط للواحدة ما لا ينشط للأخرى ، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه ، فإنه مما لا يستطيعه فلم يتعلق به تكليف.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ).

قال العلماء : أراد تعمّد الإتيان ، وذلك فيما يملكه وجعل إليه ، من حسن العشرة والقسم والنفقة ونحوه من أحكام النكاح.

الآية الخامسة والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

فيها ثلاث عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

روى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان : غنىّ وفقير ، فكان ضلعه مع الفقير ، يرى أنّ الفقير لا يظلم الغنى ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنى والفقير.

المسألة الثانية ـ القسط : العدل. بكسر الفاء (٢) وإسكان العين. والقسط بفتحها : الجور. ويقال : أقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار ، ولعله مأخوذ من : قسط البعير قسطا إذا يبست (٣) يده ، فلعل أقسط سلب قسط ، فقد يأتى بناء أفعل للسلب. كقوله : أعجم الكتاب إذا سلب عجمته بالضبط.

وقيل : نزلت في الشهادة بالحق ، وهي عامّة لكل أحد في كل شيء.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) : يعنى فعّالين ، من قام ، واستعار القيام لامتثال الحقّ ؛ لأنه يفعل في مهمات الأمور ، وهي غاية الفعل لنا ، ومن أسمائه سبحانه الحىّ القيوم ، والقائم على كل نفس بما كسبت ، فضربه هاهنا مثلا لغاية القيام بالعدل.

__________________

(١) الآية الخامسة والثلاثون بعد المائة.

(٢) يريد فاء الكلمة ، وهي القاف في هذه الكلمة.

(٣) ارجع إلى اللسان ـ مادة قسط ، ففيه تفسير أوفى.


المسألة الرابعة ـ (شُهَداءَ لِلَّهِ) :

كونوا ممن يؤدّى الشهادة لله ولوجهه ، فيبادر بها قبل أن يسألها ، ويقول الحقّ فيها ، وإن الله يشهد بالحق ، والملائكة وأولو العلم وعدول الأمة ، وكلّ من قام بالقسط فقد شهد لله سبحانه بالحق ، وكل من قام لله فقد شهد بالقسط ، ولهذا نزلت الآية الأخرى في المائدة بمقلوب هذا النظم (١) ، وهو مثله في المعنى كما بينّاه آنفا.

المسألة الخامسة والسادسة ـ قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) :

أمر الله سبحانه العبد بأن يشهد على نفسه بالحقّ ، ويسمى الإقرار على نفسه شهادة ، كما تسمّى الشهادة على الغير الإقرار.

وفي حديث ماعز : فلم يرجمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أقرّ على نفسه أربع مرات ، ولا يبالى المرء أن يقول الحقّ على نفسه لله جلّ وعلا فالله يفتح له (٢). قال الله سبحانه (٣) : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، إلا أنه في باب الحدود ندب إلى أن يستر على نفسه فيتوب حتى يحكم الله له ؛ بل إنه يجوز أن يقر على نفسه بالحدّ إذا رأى غيره قد ابتلى به وهو صاحبه ، فيشهد على نفسه ليخلّصه ويبرئه.

روى أبو داود والنسائي عن الحلاج أنه كان يعمل في السوق فرمت امرأة صبيا. قال : فثار الناس وثرت فيمن ثار ، فانتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول : من أبو هذا معك؟ فقال فتى حذاءها : أنا أبوه يا رسول الله. فأقبل عليها فقال : من أبو هذا معك؟ فسكتت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنها حديثة السنّ حديثة عهد بحزن ، وليست تكلّمك ، أنا أبوه ؛ فنظر إلى بعض أصحابه كأنه يسألهم عنه ، فقالوا : ما علمنا إلا خيرا. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : أحصنت. قال : نعم ، فأمر به فرجم. قال : فخرجنا فحفرنا له حتى أمكناه ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ محتضرا.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (أَوِ الْوالِدَيْنِ) :

أمر الله سبحانه بالشهادة بالحقّ على الوالدين الأب والأم ، وذلك دليل على أنّ شهادة

__________________

(١) آية ٨ : لله شهداء.

(٢) في ا : ويفتح الله ومن يتق الله. والمثبت من ل.

(٣) سورة الطلاق ، آية ٣


الابن على الأبوين لا يمنع ذلك برّهما ، بل من برّهما أن يشهد عليهما بالحق ، ويخلّصهما من الباطل ، وهو من قوله تعالى (١) : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) في بعض معانيه.

وقد اتفقت الأمة على قبول شهادة الابن على الأبوين ، فإن شهد لهما أو شهدا له وهي : المسألة الثامنة ـ فقد اختلف العلماء فيها قديما وحديثا ؛ فقال ابن شهاب : كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالد والأخ لأخيه ، ويتأوّلون في ذلك قول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ، وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ؛ فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح ، ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم ، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة ، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعى وأحمد بن حنبل أنه لا تجوز شهادة الوالد للولد ، وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا.

وروى عن عمر أنه أجازه ، وكذلك روى عن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال إسحاق وأبو ثور (٢) والمزني.

ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب.

وروى ابن وهب عن مالك أنه (٣) لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه ، ولا تجوز عند مالك شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر ؛ وأجازه الشافعى.

ولا تجوز شهادة الصديق الملاطف عنده ، ولا إذا كان في عياله.

والمختار عندي أن أصل الشريعة لا تجوز شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد لما بينهما من البعضية ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنما فاطمة بضعة منى يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. وشهادة الإنسان لنفسه لا تجوز ، إلا أن من تقدم قال : إنه كان يسامح فيه ؛ وما روى قطّ أحد أنه نفذ قضاء بشهادة ولد لوالده ولا والد لولده ، وإنما معنى المسامحة فيه أنهم كانوا لا يصرّحون بردّها ، ولا يحذّرون منها لصلاح الناس ، فلما فسدوا وقع التحذير ، ونبّه العلماء على الأصل ، فظنّ من تغافل أو غفل أنّ الماضين جوّزوها ، وما كان ذلك

__________________

(١) سورة التحريم ، آية ٦

(٢) في القرطبي : والثوري.

(٣) في القرطبي : إنها.


قط ؛ وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ من أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ، وقد جعله الله جزءا منه في الإسلام ؛ وتبعا له في الإيمان ، فهو مسلم بإسلام أبيه بإجماع ، ومسلم بإسلام أمه باختلاف ، وماله لأبيه حيا وميتا ، وهكذا في أصول الشريعة ، ولا بيان فوق هذا.

والأخ وإن كان بينهما بعضية فإنها بعيدة حقيقة وعادة ، فجوّزها العلماء في جانب الأخ بشرط العدالة المبررة ، ما لم تجرّ نفعا.

وخالف الشافعى فقال : يجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض ؛ لأنهما أجنبيان ؛ وإنما بينهما عقد الزوجية ، وهو سبب معرّض للزوال.

وهذا ضعيف : فإنّ الزوجية توجب الحنان والتعطف والمواصلة والألفة والمحبة ، وله حقّ في مالها عندنا ، ولذلك لا تتصرف في الهبة إلا في ثلثها.

وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، ولها في ماله حقّ الكسوة والنفقة ، وهذه شبهة توجب ردّ الشهادة.

المسألة التاسعة ـ ألحق مالك الصديق الملاطف بالقرابة القريبة ؛ فهي في العادة أقوى منها ، وهي في المودة ؛ فكانت مثلها في ردّ الشهادة.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) :

المعنى لا تميلوا بالهوى مع الفقير لضعفه ، ولا على الغنى لاستغنائه ، وكونوا مع الحق ؛ فالله الذي أغنى هذا وأفقر هذا أولى بالفقير أن يغنيه بفضله بالحق لا بالهوى والباطل ، والله أولى بالغنىّ أن يأخذ ما في يده بالعدل والحق ، لا بالتحامل عليه ؛ فإنما جعل الله سبحانه الحقّ والعدل عيارا لما يظهر من الخبث وميزانا لما يتبيّن من الميل ، عليه تجرى الأحكام الدنياوية ، وهو سبحانه يجرى المقادير بحكمته ، ويقضى بينهم يوم القيامة بحكمه.

المسألة الحادية عشرة ـ قال جماعة : قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فسوّى بين الأقربين والأبوين في الأمر بالحق والوصية بالعدل ، وإن تفاضلوا في الدرجة ؛ كما سوّى بين الخلق أجمعين ، وإن تفاضلوا أيضا في الدرجة ، وكأنه سبحانه


يقول : لا تلتفتوا في الرّحم قربت أو بعدت في الحق كونوا معه عليها ، ولو لا خوف العدل عنه لها لما خصوا بالوصية بها ، وذلك قوله سبحانه ـ وهي :

المسألة الثانية عشرة ـ (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) :

معناه لا تتبعوا أهواءكم في طلب العدل برحمة الفقير والتحامل على الغنىّ ، بل ابتغوا الحقّ فيهما ، وهذا بيان شاف.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) :

المعنى إن مطلتم حقّا فلم تنفذوه إلّا بعد بطء ، أو عرضتم عنه جملة فالله خبير بعملكم. يقال لويت الأمر ألويه ليّا وليّانا ، إذا مطلته ، قال غيلان (١) :

تطيلين ليّانى وأنت مليّة

وأحسن يا ذات الوشاح التقّاضيا

وقرأ حمزة والأعمش (٢) : وإن تلوا ، والأول أفصح ، وأكثر ، وقد ردّ إلى الأول بوجه عربي ؛ وذلك أن تبدل من الواو الآخرة همزة فتكون تلوؤا ، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الواو ، والعرب تفعل ذلك.

وقيل : إن معناه تلوا من الولاية ، أى استقللتم بالأمر أو ضعفتم عنه فالله خبير بذلك.

الآية السادسة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

هذا خبر ، والخبر من الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، ونحن نرى الكافرين يتسلّطون على المؤمنين في بلادهم وأبدانهم وأموالهم وأهليهم ، فقال العلماء في ذلك قولين :

أحدهما : لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة ، فلله الحجة البالغة.

الثاني ـ لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة يوم القيامة.

قال القاضي : أمّا حمله على نفى وجود الحجة من الكافر على المؤمن فذلك ضعيف ؛ لأنّ وجود الحجة للكافر محال ، فلا يتصرّف فيه الجعل بنفي ولا إثبات.

وأما نفى وجود الحجة يوم القيامة فضعيف ؛ لعدم فائدة الخبر فيه ؛ وإن أوهم صدر الكلام معناه ؛ لقوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فأخّر الحكم إلى يوم القيامة ،

__________________

(١) ذو الرمة ، والبيت في اللسان ـ لوى. وديوانه : ٦٥١

(٢) إعراب القرآن للعكبرى : ١٩٨

(٣) من الآية الواحدة والأربعين بعد المائة.


وجعل الأمر في الدنيا دولة تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة ، ثم قال : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). فتوهّم من توهّم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله ، وذلك يسقط فائدته. وإنما معناه ثلاثة أوجه :

الأول ـ لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ، ويذهب آثارهم ، ويستبيح بيضتهم ، كما جاء في الحديث : ودعوت ربي ألّا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم يستبيح بيضتهم فأعطانيها.

الثاني ـ أنّ الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل ، ولا تتناهوا عن المنكر ، وتتقاعدوا عن التوبة ؛ فيكون تسليط العدوّ من قبلكم ؛ وهذا نفيس جدا.

الثالث ـ أنّ الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع ؛ فإن وجد ذلك فبخلاف الشرع ، ونزع بهذا علماؤنا في الاحتجاج على أنّ الكافر لا يملك العبد المسلم ؛ وبه قال أشهب والشافعى ؛ لأنّ الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه ، والملك بالشراء سبيل فلا يشرع ولا ينعقد بذلك.

وقال ابن القاسم عن مالك ، وهو قول أبى حنيفة : إنّ معنى (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) في دوام الملك ؛ لأنّا نجد ابتداءه يكون له عليه ، وذلك بالإرث ، وصورته أن يسلم عبد كافر في يدي كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه ، فقبل الحكم ببيعه مات ، فيرث العبد المسلم وارث الكافر ، فهذه سبيل قد ثبتت ابتداء ، ويحكم عليه ببيعه.

ورأى مالك في رواية أشهب والشافعى أنّ الحكم بملك الميراث ثابت قهرا لا قصد فيه.

فإن قيل : ملك الشراء ثبت بقصد اليد ، فقد أراد الكافر تملّكه باختياره.

قلنا : فإن الحكم بعقد بيعه وثبوت ملكه ؛ فقد تحقّق فيه قصده وجعل له سبيل اليد ، وهي مسألة طيولية عظيمة ، وقد حققناها في مسائل الخلاف ، وحكمنا بالحق فيها في كتاب الإنصاف لتكملة الإشراف ، فلينظر هنالك.


الآية السابعة والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

فيها من الأحكام ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) :

يعنى متكاسلين متثاقلين ، لا ينشطون لفعلها ، ولا يفرحون لها ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في الآثار : أرحنا يا بلال. فكان يرى راحته فيها.

وفي آثار أخر : وجعلت قرّة عيني في الصلاة. وفي الحديث : أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح ؛ فإنّ العتمة تأتى وقد أنصبهم عمل النهار ، فيثقل عليهم القيام إليها ، وتأتى صلاة الصبح ، والنوم أحبّ إليهم من مفروح به ، وهم لا يعرفون قدر الصلاة دنيا ولا فائدتها أخرى (٢) ؛ فيقومون إليها بغير نية إلا خوفا من السيف ومن قام إليها مع هذه الحالة بنيّة إتعاب النفس وإيثارها عليها ، طالبا لما عند الله سبحانه فله أجران ، والذي يرى راحته فيها مع الملائكة المقرّبين.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ) :

يعنى أنهم يفعلونها ليراها الناس وهم يشهدونها لغوا ، فهذا هو الرياء للشّرك ، فأما إن صلّاها ليراها الناس ، يعنى ويرونه فيها ، فيشهدون له بالإيمان فليس ذلك الرياء المنهىّ عنه ، وكذلك لو أراد بها طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة لم يكن عليه حرج ، وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للدنيا وطريقا إلى الأكل بها ، فهذه نيّة لا تجزئ ، وعليه الإعادة.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) :

وروى الأئمة ـ مالك وغيره ، عن أنس أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : تلك صلاة المنافقين. تلك صلاة المنافقين. تلك صلاة المنافقين. يجلس أحدهم حتى إذا اصفرّت الشمس ، وكانت بين قرني الشيطان ، أو على قرني الشيطان ، قام ينقر أربعا لا يذكر الله

__________________

(١) الآية الثانية والأربعون بعد المائة.

(٢) في ا : ولا فائدة لها أخرى.


فيها إلا قليلا. فذمّها صلّى الله عليه وسلّم بقلّة ذكر الله سبحانه فيها ؛ لأنه يراها أثقل عليه من الجبل ، فيطلب الخلاص منها بظاهر من القول والعمل ، وأقلّ ما يجزئ فيها من الذكر فرضا الفاتحة. وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله عز وجل. وأقل ما يجزئ من العمل في الصلاة إقامة الصّلب في الركوع والسجود ، والطمأنينة فيهما ، والاستواء عند الفصل بينهما.

ففي الحديث الصحيح : لا تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ، وعلّم الأعرابى (١) على ما روى في الصحيح فقال له : فاركع حتى تطمئنّ راكعا ، ثم ارفع حتى تطمئن رافعا ، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئنّ جالسا ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.

وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أنّ الطمأنينة ليست بفرض ، وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها ، فليس للعبد شيء يعول عليه سواها ؛ فلا ينبغي أن ينقرها نقر الغراب ، ولا يذكر الله بها ذكر المنافقين ، وقد بين صلاة المنافقين في هذه الآية ، وبيّن صلاة المؤمنين ، فقال (٢) : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ، ومن خشع خضع واستمرّ ، ولم ينقر ولا استعجل ، إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض الذي قد بيناه.

وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك أنه ذكر صلاة عمر بن عبد العزيز فقال : هذا أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موجزة في تمام.

الآية الثامنة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس في تأويلها ؛ فقال ابن عباس : إنما نزلت في الرجل يظلم الرجل ، فيجوز للمظلوم أن يذكره بما ظلمه فيه لا يزيد عليه.

وقال مجاهد وآخرون : إنما نزلت في الضيافة ، إذا نزل رجل على رجل ضيفا فلم يقم به

__________________

(١) في ا : وعلم الأعرابى ما روى.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ١ ، ٢

(٣) الآية الثامنة والأربعون بعد المائة.


جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك.

وقال رجل لطاوس : إنى رأيت من قوم شيئا في سفر ، أفأذكره؟ قال : لا.

قال القاضي : قول ابن عباس هو الصحيح ، وقد وردت في ذلك أخبار صحيحة ؛

قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم (١) : مطل الغنىّ ظلم وقال (٢) : لىّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته. وقال العباس لعمر بحضرة أهل الشورى عن علىّ بن أبى طالب : اقض بيني وبين هذا الظالم ، فلم يردّ عليه أحد منهم ؛ لأنها كانت حكومة ، كلّ واحد منهما يعتقدها لنفسه حتى أنفذ فيها عليهم عمر للواجب (٣).

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : وهذا إنما يكون إذا استوت المنازل أو تقاربت ؛ فأمّا إذا تفاوتت فلا تمكّن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء ، وإنما تطلب حقّها بمجرّد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح ، وعليه تدلّ الآثار.

وقد قال العلماء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : لىّ الواجد يحل عرضه ، بأن يقول مطلنى ، وعقوبته بأن يحبس له حتى ينصفه.

المسألة الثالثة ـ قال ابن عباس : رخص له (٤) أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر وغفر كان أفضل له ؛ وصفة دعائه على الظالم أن يقول : اللهم أعنّى عليه ، اللهم استخرج حقي منه ، اللهم حل بيني وبينه ؛ قاله الحسن البصري.

قال القاضي أبو بكر : وهذا صحيح ، وقد روى الأئمة عن عائشة أنها سمعت من يدعو على سارق سرقه ، فقالت : لا تستحيي عنه ، أى لا تخفّف عنه بدعائك ، وهذا إذا كان مؤمنا ؛ فأمّا إذا كان كافرا فأرسل لسانك وادع بالهلكة ، وبكلّ دعاء ، كما فعل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في التصريح على الكفار بالدعاء وتعيينهم وتسميتهم ؛ ولذلك قال علماؤنا وهي :

المسألة الرابعة ـ إذا كان الرجل مجاهرا بالظلم دعا عليه جهرا ، ولم يكن له عرض محترم ، ولا بدن محترم ، ولا مال محترم. وقد فصّلنا ذلك في أحكام العباد في المعاد.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) :

قرئ بفتح الظاء ، وقرئ بضمها ، وقال أهل العربية : كلا القراءتين هو استثناء ليس من الأول ، وإنما هو بمعنى : لكن من ظلم. ويجوز أن يكون موضع «من» رفعا على البدل

__________________

(١) ابن ماجة : ٨٠٣

(٢) ابن ماجة : ٨١١

(٣) في ل : أنفذها عليهم فيها عمر بن الخطاب الواجب.

(٤) في ا : إن حضر. له وهو تحريف.


من أحد. التقدير : لا يحبّ الجهر بالسوء لأحد إلّا من ظلم.

والذي قرأها بالفتح هو زيد بن أسلم ، وكان من العلماء بالقرآن ، وقد أغفل المتكلّمون على الآية تقديرها وإعرابها ، وقد بيناه في ملجئة المتفقهين ؛ واختصاره أنّ الآية لا بدّ فيها من حذف مقدّر ، تقديره في فاتحة الآية ليأتى الاستثناء مركّبا على معنى مقدّر خير من تقديره هذا الاستثناء فنقول : معنى الآية لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول لأحد إلّا من ظلم ، بضم الظاء. أو نقول مقدرا للقراءة الأخرى : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول لأحد إلّا من ظلم ، فهذا خير لك من أن تقول تقديره : لكن من ظلم بضم الظاء فإنه كذا. أو من ظلم فإنه كذا ، التقدير أبعد منه وأضعف ، كما قدّر العلماء المحققون في قوله تعالى(١): (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). قيل الاستثناء تقديرا انتظم به الكلام واتّسق به المعنى ؛ قالوا : تقدير الآية إنى لا يخاف لدىّ المرسلون ، لكن يخاف الظالمون ، إلا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء ، فإنى غفور رحيم.

الآية التاسعة والخمسون ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

المسألة الأولى ـ قد قدّمنا القول في مخاطبة الكفّار بفروع الشريعة في مسائل الأصول ، وأشرنا إليه فيما سلف من هذا الكتاب ، ولا خلاف في مذهب مالك في أنهم يخاطبون.

وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل ، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فيها ونعمت ، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عزّ وجل على موسى في التوراة ، وأنهم بدّلوا وحرّفوا وعصوا وخالفوا ـ فهل يجوز لنا معاملتهم ، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد.

والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم ، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة : قال الله تعالى (٣) : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ

__________________

(١) سورة النمل ، آية ١٠ ، ١١

(٢) الآية الواحدة والستون بعد المائة.

(٣) سورة المائدة ، آية ٥


لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).

وهذا نصّ في مخاطبتهم بفروع الشريعة ، وقد عامل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اليهود ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودىّ في شعير أخذه لعياله.

وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عمن أخذ ثمن الخمر في الجزية والتجارة ، فقال : ولّوهم بيعها وخذوا منهم عشر أثمانها ؛ والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأئمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ، وقد سافر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم تاجرا ، وهي:

المسألة الثانية ـ وذلك من سفره صلّى الله عليه وسلّم أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم.

فإن قيل : كان ذلك قبل النبوّة.

قلنا : إنه لم يتدنّس قبل النبوة بحرام ، ثبت ذلك تواترا ، ولا اعتذر عنه إذ بعث ، ولا منع منه إذ نبىء ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ولا أحد من المسلمين بعد وفاته ؛ فقد كانوا يسافرون في فكّ الأسرى ، وذلك واجب ؛ وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره ، وقد يجب وقد يكون ندبا ، فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فذلك مباح.

المسألة الثالثة ـ فإن قيل : فإذا قلتم إنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، كيف يجوز مبايعتهم بمحرّم عليهم ، وذلك لا يجوز للمسلم؟

قلنا : سامح الشرع في معاملتهم وفي طعامهم رفقا بنا ، وشدّد عليهم في المخاطبة تغليظا عليهم ، فإنه ما جعل علينا في الدين من حرج إلا ونفاه ، ولا كانت في العقوبة شدة إلا وأثبتها عليهم.

المسألة الرابعة ـ مع أنّ الله شرع لهم الشرع ، وبيّن لهم الأحكام فقد بدّلوا وابتدعوا رهبانية التزموها ، فأجرى الشرع الأحكام على ما هم عليه في بيع وطعام حتى في اعتقادهم في أولادهم وبناتهم ، سواء تصرّفوا في ذلك بشرعتهم أو بعصبيتهم ، حتى قال مالك ؛ وهي:

المسألة الخامسة ـ يجوز أن يؤخذ منهم في الصلح أبناؤهم ونساؤهم إذا كان الصلح للعامين ونحوهما ؛ لأنهما مهادنة ، ولو كان دائما أو لمدّة كثيرة لم يجز ؛ لأنه يكون لهم من الصلح مثل ما لآبائهم.

وقال ابن حبيب : لا يجوز ذلك ؛ فراعى مالك اعتقادهم في الأولاد والنساء ، كما راعى


اعتقادهم في الطعام ، فإن كان ذلك شرطا مع بطارقتهم ـ يعنى باتفاق منهم ـ جاز.

المسألة السادسة ـ فإن عامل مسلم كافرا بربا فلا يخلو أن يكون في دار الحرب أو في دار الإسلام ، فإن كان في دار الإسلام لم يجز ، وإن كان في دار الحرب جاز عند أبى حنيفة وعبد الملك من أصحابنا.

وقال مالك والشافعى : لا يجوز ، وتعلّق أبو حنيفة بأنّ ماله حلال فبأىّ وجه أخذ جاز.

قلنا : إنّ ما يجوز أخذه بوجه جائز في الشرع من غلّة وسرقة في سرية ، فأما إذا أعطى من نفسه الأمان ودخل دارهم فقد تعيّن عليهم أن يفي (١) بألا يخون عهدهم ، ولا يتعرّض لمالهم ، ولا شيء من أمرهم ؛ فإن جوّز القوم الربا فالشرع لا يجوّزه. فإن قال أحد : أنهم لا يخاطبون بفروع الشريعة فالمسلم مخاطب بها.

المسألة السابعة ـ توهم قوم أنّ ابن الماجشون لما قال : إن من زنا في دار الحرب بحربيّة لم يحدّ أنّ ذلك حلال. وهو جهل بأصول الشريعة. ومأخذ الأدلّة قال الله تعالى (٢) : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ؛ فلا يباح الوطء إلا بهذين الوجهين ، ولكن أبا حنيفة يرى أن دار الحرب لا حدّ فيها ، نازع بذلك ابن الماجشون معه ؛ فأما التحريم فهو متفق عليه فلا تستنزلنكم الغفلة في تلك المسألة.

الآية الموفية ستين ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في تسمية عيسى بالمسيح :

قد ذكرنا في الحديث نحوا من خمسة وعشرين وجها في معناه ، وأمهاتها أنه اسم علم له. أو هو فعيل بمعنى مفعول ، ولد دهينا لأنه مسح بالدهن أو بالبركة ، أو مسحه حين ولد يحيى. أو فعيل بمعنى فاعل عليه مسحة جمال ، كما يقال : فلان جميل ، أو بمسح الزمن فيبرأ ،

__________________

(١) في ا : يخفى ، وهو تحريف.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ٥ ، ٦

(٣) الآية الواحدة والسبعون بعد المائة.


أو يمسح الطائر فيحيا ، أو يمسح الأرض بالمشي ؛ وإليه ذهب مالك.

قال ابن وهب : أخبرنى مالك بن أنس : بلغني أنّ عيسى عليه السلام انتهى إلى قرية قد خربت حصونها ، وعفت آثارها ، وتشعّت شجرها ، فنادى : يا خرب ، أين أهلك؟ فنودي عيسى بن مريم عليه السلام : بادوا والتقمتهم الأرض ، وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة ، عيسى بن مريم مجد.

قال الراوي : يريد مالك أنه كان يمسح الأرض.

وقيل (١) إنه معرب من مشيح كتعريب موسى عن موشى ، وهو بتخفيف الشين وكسرها ، وكذلك الدجال ، وقد دخل فيه جهلة يتوسّمون بالعلم ، فجعلوا الدجال مشدّد السين (٢) بالخاء المعجمة ، وكلاهما في الاسم سواء ، إنّ الأول قالوا هو المسيح الذي هو مسيح الهدى الصالح السليم ، والآخر المسيح الكذاب الأعور الدجال الكافر ، فاعلموه ترشدوا.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) :

اختلف العلماء فيه على ستة أقوال :

الأولى ـ أنها نفخة نفخها جبريل في جيب درعها ، وسميت النفخة روحا لأنها تكون عن الريح.

الثاني ـ أنّ الرّوح الحياة ، وقد بينا ذلك في المقسط والمشكلين.

الثالث ـ أنّ معنى روح رحمة.

الرابع ـ أنّ روح صورة ؛ لما خلق الله آدم أخرج من صلبه ذرّيته ، وصوّرهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ألست بربكم؟ قالوا : بلى. ثم أنشأهم كرّة أطوارا ، أو جعل لهم الدنيا قرارا ؛ فعيسى من تلك الأرواح أدخله في مريم. واختار هذا أبىّ بن كعب.

وقيل في الخامس ـ روح صورة صوّرها الله تعالى ابتداء وجهها في مريم.

وقيل في السادس ـ سرّ روح منه ، يعنى جبريل ، وهو معنى الكلام ألقاها إليه روح منه ؛ أى إلقاء الكلمة كان من الله ثم من جبريل.

__________________

(١) ارجع إلى اللسان ـ مادة مسح.

(٢) على وزن سكيت ـ كما في اللتان.


قال الطبري : وهذه الأحكام كلها محتملة غير بعيدة من الصواب.

قال القاضي وفقه الله : وبعضها أقوى من بعض ، وقد بيناها في المشكلين ، لكن يتعلّق بها الآن من الأحكام مسألة ؛ وهي إذا قال لزوجه : روحك طالق ؛ فاختلف علماؤنا فيه على قولين. وكذا لو قال لها : حياتك طالق ، فيها قولان. وكذلك مثله كلامك طالق.

واختلف أصحاب الشافعى كاختلافنا ، واستمر أبو حنيفة على أن الطلاق لا يلزمه في شيء من ذلك ؛ فأما إذا قال لها : كلامك طالق ؛ فلا إشكال فيه. فإن الكلام حرام سماعه ، فهو من محللات النكاح فيلحقه الطلاق.

وأما الروح والحياة فليس للنكاح فيهما متعلق ، فوجه وقوع الطلاق بتعليقه عليهما خفىّ ، وهو أنّ بدنها الذي فيه المتاع لا قوام له إلا بالروح والحياة. وهو باطن فيها ؛ فكأنه قال لها : باطنك طالق ، فيسرى الطلاق إلى ظاهرها ؛ فإنه إذا تعلق الطلاق بشيء منها سرى إلى الباقي.

وقال أبو حنيفة : لا يسرى ، وهي مسألة خلاف كبيرة تكلّمنا عليها في قوله : يدك طالق.

وتحقيق القول فيه أنه إذا طلق منها شيئا وحرّمه على نفسه ، فلا يخلو أن يقف حيث قال ، ولا يتعدى ، أو يسرى كما قلنا أو يلغو. ومحال أن يلغو لأنه كلام صحيح أضافه إلى محلّ بحكم صحيح جائز فنفذ كما لو قال : رأسك طالق أو ظهرك ، ومحال أن يقف حيث قال ؛ لأنه يؤدى إلى تحريم بعضها وتحليل بعضها. وذلك محال شرعا ، وهذا بالغ ، والله أعلم.

الآية الحادية والستون قوله تعالى (١) : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

هذا ردّ على النصارى الذين يقولون : إن عيسى ولد الله ، وردّ على من يقول : إنّ الملائكة بنات الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

يقول الله سبحانه وتعالى لهم : إنّ من نسبتموه إلى ولادة الله تعالى ، من آدمي وملك ، ليس بممتنع أن يكون عبد الله ، فكيف تجعلونه ولدا؟ ولو كان اجتماع العبودية والولادة جائزا ما كان لله سبحانه وتعالى في ذلك حجة ، وذلك قوله سبحانه وتعالى (٢) : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

__________________

(١) الآية الثانية والسبعون بعد المائة.

(٢) سورة مريم ، آية ٩٢ ، ٩٣


فإن قيل : ما معنى (يَسْتَنْكِفَ) في اللغة؟

قلنا : هو يستفعل ، من نكفت كذا إذا نحيته ، وهو مشهور المعنى.

التقدير لن يتنحى من ذلك ، ولا يبعد عنه ، ولا يمتنع منه.

الآية الثانية والستون ـ قوله تعالى (١) : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ في وقت نزولها :

ثبت في الصحيح أنّ البراء بن عازب قال : آخر سورة براءة ، وآخر آية نزلت آية الكلالة.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها (٢) :

روى عن جابر بن عبد الله قال : مرضت وعندي تسع أخوات لي ، فدخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنضح في وجهى من الماء ، فأفقت فقلت : يا رسول الله ؛ ألا أوصى لأخواتى بالثلثين؟ قال : أحسن. قلت : بالشطر؟ قال : أحسن ، ثم خرج وتركني ، ثم رجع فقال : لا أراك ميتا من وجعك هذا ، فإن الله أنزل الذي لإخوانك فجعل لهنّ الثلثين.

وكان جابر يقول : نزلت فىّ هذه الآية : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). خرجه النسائي ، وأبو داود ، والترمذي.

المسألة الثالثة ـ قال قتادة : وذكر لنا أنّ أبا بكر قال : ألا إنّ الآية التي نزلت في أول (٣) سورة النساء من شأن الفرائض نزلت في الولد والوالد ، والآية الثانية (٤) أنزلها الله سبحانه في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية (٥) التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها الله سبحانه في ذوى الأرحام ، وما جرّت الرّحم من العصبة.

__________________

(١) الآية السادسة والسبعون بعد المائة.

(٢) أسباب النزول للسيوطي ٦٧

(٣) هي الآية ١١

(٤) هي الآية ١٢

(٥) هي الآية ٧٥ من سورة الأنفال.


المسألة الرابعة ـ قال ابن سيرين : نزلت والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم في مسير له ، وإلى جنبه حذيفة ، فبلّغها حذيفة وبلغها حذيفة عمر ، وهو يسير خلفه ، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ، ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز هكذا قال الطبري في روايته.

وقال نعيم بن حماد فيها : والله إنك لأحمق إن ظننت أنّ إمارتك تحملني على أن أحدّثك بما لم أحدثك يومئذ. فقال عمر : لم أرد هذا رحمك الله ، والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا ؛ فكان عمر يقول : اللهم من كنت بينتها له فإنها لم تتبيّن لي.

وقد روى أنّ عمر نازع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها فضرب في صدره ، وقال(١) : يكفيك آية الصيف (٢) التي نزلت في آخر سورة النساء ، وإن أعش فسأقضى فيها بقضاء يعلمه من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه ، وهو من لا ولد له.

المسألة الخامسة ـ قال علماؤنا : معنى الآية إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى فكان موروثا كلالة ، فلأخته النصف فريضة مسماة. فأما إن كان للميت ولد أنثى فهي مع الأنثى عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة لو لم يكن ذلك غير محدود بحدّ ، ولم يقل الله : إن ان له ولد فلا شيء لأخته معه ؛ فيكون لما قال ابن عباس وابن الزبير وجه ؛ إذ قال ابن عباس : إن الميت إذا ترك بنتا فلا شيء للأخت ، إلا أن يكون معها أخ ذكر ، وإنما بين الله سبحانه حقّها إذا ورثت الميت كلالة ، وترك بيان مالها من حقّ إذا لم يورث كلالة ؛ فبينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوحي ربّه ، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت ، وذلك لا يغيّر وراثتها في الميت إذا كان موروثا عن كلالة.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) :

معناه كراهية أن تضلّوا ، وفيه اختلاف قد بيناه في ملجئة المتفقهين فلينظره هنالك من أراده.

المسألة السابعة ـ فإن قيل : وأىّ ضلال أكبر من هذا؟ ولم يعلمها عمر ولا اتفق فيها الصحابة وما زال الخلاف إلى اليوم الموعود.

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٥٩٣

(٢) أى التي نزلت في الصيف ، وهي الآية التي في آخر سورة النساء ، والتي في أولها نزلت في الشتاء (النهاية).


قلنا : ليس هذا ضلالا ، هذا هو البيان الموعود به ؛ لأن الله سبحانه لم يجعل طرق الأحكام نصا يدركه الجفلى ، وإنما جعله مظنونا يختص به العلماء ليرفع الله تعالى الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، ويتصرف المجتهدون في مسالك النظر ، فيدرك بعضهم الصواب فيؤجر عشرة أجور ، ويقصر آخر فيدرك أجرا واحدا ، وتنفذ الأحكام الدنياوية على ما أراد الله سبحانه ، وهذا بين للعلماء ، والله أعلم (١).

__________________

(١) في آخر المخطوطة (ل) : تم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله والحمد لله على كل حال. ووافق الفراغ من نسخه ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم قدره سنة خمس وثمانين وسبعمائة عن يد العبد الفقير الحقير الذليل الراجي عفو ربه محمد بن رزين بن يوسف المالكي مذهبا غفر الله له ولوالديه ولمن دعا له بالمغفرة والرحمة ولجميع المسلمين. وصلّى الله على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.


فهرس القسم الأول

السورة

أرقام الآيات

الصفحة

سورة الفاتحة :

١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥

٢ ـ ٧

سورة البقرة :

٣ ، ٨ ، ٢٢ ، ٢٥ ، ٢٧ ، ٢٩ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٤٣ ، ٥٩ ، ٦٧ ، ١٠٢ ، ١٠٤ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٨ ، ١٥٤ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ١٦١ ، ١٧٣ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ١٨٧ ، ١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ، ١٩٧ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٢٠٧ ، ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢١ ، ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٣٠ ، ٢٣١ ، ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٦ ، ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، ٢٤٩ ، ٢٥٦ ، ٢٦٧ ، ٢٧١ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٢٧٥ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢ ، ٢٨٦

٨ ـ ٢٦٥

سورة آل عمران :

٢١ ، ٢٣ ، ٢٨ ، ٣٥ ، ٤٤ ، ٦١ ، ٧٥ ، ٧٧ ، ٧٩ ، ٨٠ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٦ ، ١١٣ ، ١١٨ ، ١٢٥ ، ١٥٩ ، ١٦١ ، ١٨٠ ، ١٩١ ، ٢٠٠

٢٦٦ ـ ٣٠٦

__________________

* هذا فهرس خاص بهذا القسم وفيه بيان بالآيات التي تناولها المؤلف من السور التي وردت فيه ، الفهارس الفنية المفصلة فنجدها في آخر القسم الرابع.


السورة

أرقام الآيات

الصفحة

سورة النساء :

١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١١ ، ١٢ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٩ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٣ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٦٦ ، ٦٩ ، ٧١ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٨ ، ٨١ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٨ ـ ٩١ ، ٩٢ ، ٩٤ ، ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٠٥ ، ١١٤ ، ١١٩ ، ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣٥ ، ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٨ ، ١٦١ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٦

٣٠٧ ـ ٥٢١

تم القسم الأول ، ويليه القسم الثاني

وأوله سورة المائدة

أحكام القرآن - ١

المؤلف:
الصفحات: 523