


إهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ)
سورة الأحقاف : ١٥
إلى والديّ ـ رحمهماالله ـ
مع حبي وامتناني
وشكري وشوقي الكبير لهما ...
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكتاب الذي
بين يدي القارئ الكريم مجموعة متنوعة من المقالات والمحاضرات التي خطّها القلم عبر
السنين القريبة الماضية ، ليعبّر عمّا كان يعتمر فيه من دهشة وذهول عند وقوفه أمام
شعاع من أشعّة النور المنبعثة من آية من آيات القرآن الكريم.
ولقد نشرت بعض
المجلّات المتخصّصة بعضا من هذه المقالات لكنها ظلّت بمجموعها تنتظر الظهور في
كتاب يجمعها في محاورها الرئيسية في منظومة واحدة موحّدة لكي تؤدي هدفها المنشود
في استقراء بعض من أسرار الإعجاز العلمي في القرآن أو بثّ عبق من عطره الأخّاذ
المتألّق عبر الدهور والأجيال والمتجدّد بتجدّد الأزمان والآجال. ولقد كان لعملي
في مجال الطبّ وتخصّصي في أمراض الأنسجة والخلايا الأثر الكبير في التركيز على بعض
المواضيع الجديدة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والذي كثر الباحثون فيه
والدارسون والمتخصصون والمستكشفون خاصة في مجال العلوم الفلكية والجيولوجية
والمناخية والنباتية والحيوانية والبشرية ... ولقد حاولت عبر هذه الإضاءات طرق
أبواب جديدة قلّ أو ندر طارقوها من قبل كعوالم الوراثة وموت الخلايا المبرمج
والوقاية من السرطان والحركة
الكونية للإنسان
وغيرها من المواضيع التي ارتأيت توزيعها في محاور رئيسية أربعة تسبقها «افتتاحية ـ
مدخل» تمهّد لها ، وتتبعها «خاتمة» تكون لها نهاية.
وتتوزّع المحاور
على الشكل التالي :
ـ
افتتاحية / مدخل : جدلية العلاقة بين العلم والإيمان «العلم والإيمان ... إلى أين؟».
ـ
المحور الأول : إضاءات على الإعجاز العلمي في الخلق والتقويم.
ـ
المحور الثاني : إضاءات على الإعجاز العلمي في الأمر والتقدير.
ـ
المحور الثالث : إضاءات على الإعجاز العلمي في النهي والتحذير.
ـ
المحور الرابع : إضاءات على الإعجاز العلمي في المقادير والآجال.
ـ
الخاتمة : إضاءات على
الإعجاز العلمي في علاقة الإنسان بالكون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
|
الدكتور حسن يوسف حطيط
دبي ـ ١٧ ربيع الأول ـ ١٤٢٥ ه.
|
افتتاحية / مدخل :
جدليّة العلاقة بين العلم والإيمان
ـ «العلم والإيمان
.. إلى أين؟»
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
فصّلت : ٥٣
العلم والإيمان .. إلى أين؟
خلق الله العليّ
القدير الكون ، وجعل فيه آيات باهرة وآثار دامغة ، تدلّ على إبداعه وتفرّده
ووحدانيته ورحمته وجبروته وعظمته وأبديته وأزليته ، ثم جعل في الكون الواسع الرحب
مخلوقات مادية ونباتية وحيوانية وبشرية وأخرى نجهلها وأخرى لم يصلنا ذكرها .. وجعل
فيها آيات وعلامات ودلائل لتكون حجّة عليها وعلى غيرها في الخلق.
ولقد سأل الله
تعالى الإنسان عبر أنبيائه ورسله وكتبه ووحيه أن يتأمل في السماوات والأرض وينظر
في نفسه وجسمه وأعضائه ، ويتعرّف على أسرار الكون والخلق والطبيعة وأسرار الحياة
والموت. ولقد وجد الإنسان في نفسه شعورا فطريا وميلا للتعرّف والتقصي والاستقراء
والاستنباط والتأمل والتفكّر ، كما استفزّت الظواهر الطبيعية والكونية والتغيّرات
الخارجيّة والداخلية الطارئة على جسمه ومحيطه ، كل هذه المشاعر والميول لتجعل من
هذا الكائن البشري باحثا دائما عن الحقيقة وأسرار الأشياء. وهكذا نشأت العلوم وازدهرت
وانقسمت وتفرّعت وتشعبت ، وتفتحت أبواب عند كل باب ، وأدّت المخارج إلى مداخل
جديدة وانتقلت العلوم من محطة إلى محطات أخرى كثيرة لا يزال الإنسان يكتشف أسرارها
ويسبر أغوارها.
وبرز للإنسان سؤال
كبير عند كل محطة وعند كل باب وعند كل
محاولة لاستكشاف
أسرار الأشياء وهو السؤال عن السبب الأول أو العلّة الأصلية أو مسبّب الأسباب أو
علّة العلل ، ومن هو المسيّر للإرادات أو الإرادة الأولى والأخيرة والأقوى
والأعظم.
صارت الظواهر
والأحداث والمخلوقات تتحدث عن أنفسها وعن كيفية حدوثها وتطورها ووظائفها ونتائجها
، وصار الإنسان يقرأ الكون ويستشف منه التنظيم والإبداع والدقة والتناسق والتناغم
والترابط والتكامل وغيرها من القوانين والنظم والمعايير والأسس التي بني عليها
الكون وأنشئت الخلائق. وبعثت ظواهر التراتب والتسلسل والتضاد والتشابه والتزاوج
والتناسل والشيخوخة والموت ، أسئلة كانت مصادر للقلق والحيرة والخوف من جهة ،
ومباعث للدهشة والانبهار والمتعة والنشوة من جهة أخرى. ولقد تطوّرت هذه المشاعر
والأحاسيس والأفكار عبر الحضارات والأجيال والقرون ، وخاضت آلاما وحروبا وضغوطا
وانحرافات وضياعا ، حتى تمخّضت في القرون الأخيرة عن مسالك للنور والسعادة والبهجة
والراحة والنشوة حينما راحت الأسئلة تلتقي بأجوبتها الواحدة تلو الأخرى ، بظلّ
الأديان السماوية والتطوّر العلمي والتقني والعقلي والفلسفي ، وحينما اجتمع وتلاقى
الإيمان الحقيقي بالعلم الحقيقي واتّحدا ليفتحا الآفاق على مصراعيها وينشرا النور
والسعادة في العقول والقلوب على السواء!
العلم والإيمان في
الحضارات القديمة :
أسّست الحضارات
القديمة ومعتقداتها على ما كانت تستشفّه في انبهارها وخوفها ودهشتها أمام الظواهر
الطبيعية كالبراكين والصواعق
والعواصف والنيران
والرياح ، وأسبغت على هذه الظواهر ستارا من القداسة وألهتها ، وقدّمت لها القرابين
والولاء وتعبّدت لها. كانت مشاعر الإيمان عند تلك الشعوب ساذجة حائرة مقتصرة على
مشاعر الخوف ورجاء الخلاص من بطش تلك الظواهر أو من سيطرة الكواكب ، أو من غضب بعض
المخلوقات الغربية ، وكانت تلك الشعوب تقدم أغلى ما عندها إرضاء لتلك النزعات
البدائية. ثم قامت تلك الحضارات القديمة بتأليه أصنام بنتها هي لتسقط عليها حاجتها
الفطرية لتقديس شيء عظيم يحميها مما تخافه وتتفاداه من أذى ، مطلقة العنان
لعواطفها الساذجة ومكنونات نفوسها الخائفة ، كل ذلك من دون إدراك كامل لحقيقة
الأشياء ومن دون معرفة صحيحة بآثار الأفعال ونتائجها ، ثم أخذت بعض الحضارات
القديمة بتأليه بعض الأشخاص من الطغاة والحكام والسحرة والمشعوذين وأسقطت عليهم كل
هالات التقديس ليزدادوا طغيانا وعبثا وتسلطا على الشعوب وأفكارها ومعتقداتها.
وتطوّر التقديس
عند بعض الشعوب فقامت باختراع آلهة أسطورية خيالية متعدّدة ذات أسماء ووظائف
وكيانات مختلفة ، وربطت أفعالها بما كانت تراه في السماء من نجوم وكواكب وأجرام
ورياح وغمائم وأنوار ، وصارت تحيك الحكايا والأساطير حولها وتتبناها طقوسا وأعيادا
واحتفالات ونذورا وقرابين في المواسم والفصول والمحطات الزمانية والمكانية.
العلم والإيمان في
الأديان السماوية قبل الإسلام :
بعد ظهورها
وانتشارها وقعت معظم الأديان السماوية قبل الإسلام في
شرك التضارب بين
المؤسسات الدينية والمذاهب العلمية الباحثة عن حقيقة الأشياء ، واصطدم معظمها
بإشكالية الصراع بين المصالح في تلك المؤسسات والمصالح العلمية وأساليبها المبنية
على التجربة والحسّ والمنطق والعقل. أسّس كل ذلك لظهور مفهوم خاطئ أدّى إلى بروز
فصل بين الدين والإيمان من جهة ، والعلم والعقل من جهة أخرى. وصارت المؤسسات
الدينية وخاصة في العصور الوسطى تحارب وتكفّر العلماء الباحثين عن أسرار الخلق
والطبيعة. ووصلت الأحوال بما سمّي بالعلماء «الزنادقة» أن أجبروا بطريقة أو بأخرى
على الابتعاد عن الدين وفضائه الرحب ، فعاشوا حالات التشكيك والشك الدائم أمام
السؤال الكبير الذي كان يواجههم : العلّة الأولى والأخيرة؟؟ وإزاء تلك الإشكالية
ظهرت مجموعات من الباحثين العلميين نادت بعظمة الطبيعة وقدرتها الذاتية الخلاقة أو
بقدرة الصدفة على تأسيس الكون عبر اجتماع احتمالات بعيدة والتقائها في نقطة ما
تحوّل ما بعدها إلى حقائق أو بتأليه الإنسان وقدراته أو حتى بتأليه المادة والطاقة
المستمدة منها ...
كل ذلك أدّى إلى
تفاقم الصراع في العصور الوسطى ، وإلى انفصام العرى بين الشعور الديني والمنطق
العقلي في بداية النهضة الصناعية في بلاد الغرب ، حيث بات من المستحيل ردم الهوّة
الآن بين الجانبين.
ومن الأسباب
العميقة لذلك الشرخ القديم ، وجود خلل واضح في القدرة على التآلف والتكامل
والتناسق بين العقل وبين بعض المعتقدات المعروفة بالدوغما (أو المعتقدات المفروضة)
التي ترفض المنطق في
أسسها ، كمفاهيم
بنوة الخالق والتثليث وضعف الخالق أمام مخلوقاته والأساطير التي حيكت حول الرسل
ومفاهيم أخرى يستحيل على العقل أن يتقبلها ويستسيغها.
العلم والإيمان في
الإسلام :
جاء الإسلام حاملا
مفاهيم إيمانية سامية ومتكاملة جعلت من العلم والإيمان بعدين موحدين يجتمعان في
جبهة واحدة ضد الشرك والكفر والظلمات والجهل ، هي جبهة البحث عن الحقيقة. كما حضّ
الإسلام على العلم والتعلّم والبحث والتأمل والسير في الأرض للنظر في آيات الخلق ،
ودعا إلى إيمان خالص ذي عقلانية وعقلية منطقية هادفة وواضحة المعالم. وارتفع
الإيمان الفطري في الإسلام وعبر التزاوج بين العلم والإيمان إلى أعلى درجات اليقين
والتصديق والكمال. واستفاد الإنسان من التحفيز الدائم له للمعرفة واستقراء الآثار
والدلائل والبراهين واستنباط النتائج ، عبر السير في الآفاق والنظر في نفسه ومحيطه
والتأمل في الكون ، ليصل إلى نتيجة نهائية أكيدة وهي التزاوج والتآلف والتناغم بين
الخطين الإيماني والعلمي في بوتقة متوازنة. وهكذا ، وبسبب كل ذلك ظهرت مدارس كثيرة
ومتعددة عمادها علماء متدينون ورجال دين عالمون على مدى التاريخ الإسلامي ، وصار
علماء الدين يبرعون في الطب والفيزياء والفلك والزراعة والرياضيات والكيمياء ،
وصار رجال العلم التجريبي والحسّي يبرعون في الفقه والأصول وعلم الأخلاق
والروحانيات والإلهيات ، على عكس ما كان يجري في أوروبا من تضارب وتطاحن وتنافس
بين المؤسسات الدينية والمعاهد العلمية.
أما المساهم
الأكبر والأعظم في ترسيخ وتوثيق عرى التزاوج بين العلم والإيمان في الإسلام ، فهو
كتاب الله العزيز القرآن الكريم الذي حضّ بشكل لافت على العلم والمعرفة والتحقق
والتأمل وسبر أغوار الكون وأسراره ، كما أورد في طيّاته إشارات صريحة وأوصاف بديعة
ودلائل دامغة أدّت فيما أدّت إلى ظهور العلم الذي صار يعرف بالإعجاز القرآني.
تنوعت الأبحاث
والدراسات في الإعجاز العلمي القرآني وتشعبت ، وبرزت بشكل خاص وباهر الدراسات
الطبية والفلكية حيث أسهمت بشكل واضح في فهم بعض الآيات على ضوء المكتشفات العلمية
الحديثة. كما أدهشت وحيّرت عقول العامة والخاصة في دقتها وبراعتها ووصفها المعجز
لأمور لم تكتشف إلا في عصرنا الحاضر ، وبعد تطوّر المراصد الفلكية والمجاهر
الإلكترونية والتقنيات المختصة.
وتطابقت هذه
الإشارات واللطائف البديعة مع المصطلحات العلمية والأوصاف المستعملة حديثا في
العلوم الفلكية والطبية الحديثة. وكأنما كان الهدف من ذلك لفت أنظار الإنسان دوما
إلى نفسه ومحيطه الكوني ليتعرف على الأسرار البديعة ويكتشفها شيئا فشيئا ، وطورا
فطورا حتى يشعر بعظمة خالقه في كل حين ومهما طالت فيه الأيام.
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣].
ولتوكيد ذلك
نستعرض بعضا من الإعجازات العلمية المؤكدة والصريحة التي لم تظهر بحقيقتها المدهشة
إلّا بعد مضي قرون من المعرفة
والبحث والتطوّر
والنموّ في الوعي البشري والمنطق العقلي والتقنية العلمية ، والتي من المؤكد ستظل
تدلي بدلوها الإعجازي في القرون القادمة لأن القرآن الكريم معجزة خالدة وإعجازه
باق أبد الدهور :
١ ـ مراحل وأطوار
خلق الجنين ومطابقة الوصف التفصيلي لما ورد في كتب علوم الأجنّة الحديثة ، ومقاربة
الكلمات القرآنية للمصطلحات الحديثة الواردة في الكتب الطبية المعاصرة (بعد ظهور
التشريح والمجهر والتقنيات الجديدة) :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣)
ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [المؤمنون : ١٢
و ١٣ و ١٤].
٢ ـ مسئولية الذكر
(المني) عن تحديد جنس الجنين (وهذا ما ثبت في عصرنا الحالي بعد ظهور علم الوارثة
وعلم الخلايا وتطور المجهر الإلكتروني).
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى
(٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) [القيامة :
٣٧ ـ ٣٩]. (وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا
تُمْنى) (٤٦) [النجم : ٤٥
ـ ٤٦].
٣ ـ الطب الوقائي
وأسسه ومفاهيمه المبنية على قواعد النهي عن مصادر العدوى والإسراف في الأكل
والشراب والابتعاد عن المواد أو الأشربة المضرّة وغير النافعة وعدم تحميل الجسم ما
لا طاقة له عليه ، وعدم الاقتراب من أسباب الأذى وانتقاله ونقله إلى الآخرين :
(وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى) [الإسراء : ٣٢] (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢]. (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩]. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١]. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) [البقرة : ١٧٣]. (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٣٣]. (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ
مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١].
٤ ـ مبادئ علم
الوراثة وأسسه المتعلقة بالخلق والحياة والموت وتحديد الجنس وتقدير عملية التخلّق
والنمو والوظائف :
(مِنْ نُطْفَةٍ
خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (١٩) [عبس : ١٩]. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا
تُمْنى) (٤٦) [النجم : ٤٥
ـ ٤٦]. (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً) (٥٤) [الفرقان :
٥٤]. (وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْواراً) (١٤) [نوح : ١٤].
٥ ـ مبادئ نشأة
الكون ونهايته وعالم المجرّات والكواكب ووصف السماوات وظواهرها الكونية ومعالمها
المخفية والمرئية كل ذلك بأساليب ومصطلحات لا يمكن أن يفهمها الإنسان إلا إذا كان
ضليعا بمكتشفات العصر الحديث (وبعضها من سنوات قليلة):
(خَلَقَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [لقمان : ١٠]. (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠]. (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧) [الذاريات :
٤٧]. (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤].
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ) (١) [البروج : ١].
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ) (١١) [الطارق : ١١].
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ) (٧) [الذاريات : ٧].
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢]. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١٦) [نوح : ١٦].
٦ ـ مبادئ تكوّن
الأرض وبيئتها وظواهرها الطبيعية كالرياح والجبال والبحار والمياه والتوازن البيئي
بين المخلوقات الحية وغير الحية :
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها
ماءَها وَمَرْعاها) (٣١) [النازعات :
٣٠ ـ ٣١]. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) [النحل : ١٥]. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ) [الحجر : ١٩]. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢]. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨]. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨].
العلم والإيمان ..
إلى أين؟
شهدت الفترة
الأخيرة من عصرنا الحالي تطورا سريعا في شتى العلوم والمعارف ، ونموا هائلا في
الصناعات العملية والتكنولوجية ، وظهرت تقنيات علمية جديدة ومتطورة لم تكن تخطر
على بال العقل البشري ، وأهم وأبرز ما حصل ، التطور العظيم في المجالات التالية :
ـ علوم الاتصالات
؛
ـ علوم الفضاء ؛
ـ علوم الوراثة
والجينات وتطبيقاتها ؛
ـ علوم التصنيع
العسكري ، أو ما يسمّى بالحرب الإلكترونية تحديدا.
وبرزت في الوقت
نفسه مشاكل عديدة جراء التلوث البيئي بسبب النمو
الصناعي الهائل ،
جراء الخلل المخيف في التوازن المناخي بسبب الإشعاعات الصناعية المتصاعدة والأبخرة
السامة. كما برزت أسئلة كبيرة وإشكالات صعبة من جراء التطبيقات القائمة والمتوقعة
والمحتملة مستقبلا لبعض التقنيات الحديثة كتقنية الاستنساخ الحيواني والبشري أو
كتقنيات الاتصالات المفتوحة والخارقة لكل الحدود والحواجز أو كالتقنيات الجديدة
لما يسمّى بالحرب الإلكترونية أو حرب النجوم.
وفي المدة الأخيرة
، بدأت الحكومات الغربية والشرقية تبدي قلقها من حصول بعض المؤسسات غير الحكومية
أو بعض الدول الصغيرة غير المراقبة على تلك التقنيات واستعمالها في حقول ، وعلى
أسس غير أخلاقية ، أو على الأقل لتحقيق مصالحها الخاصة. ثم أخذت تعلو أصوات
المؤسسات الدينية المطالبة بعدم تعريض الجنس البشري ، وخاصة الأجنة للهتك والعبث
لتحقيق مآرب شركات الأبحاث العلمية والتكنولوجية.
وهكذا أخذت تطفو
على السطح أسئلة ما زالت تبحث عن إجابات لها للحاضر وللمستقبل منها على سبيل
المثال لا الحصر :
ـ من سيتمكن من
مراقبة معاهد الأبحاث. ومن سيقدر على منعها من المغامرة والتهور في تطبيق تقنياتها؟
ـ ما هي المعايير
الأخلاقية في تطور العلم وما هي حدود ذلك وضوابطه؟
ـ من هو الذي
سيخوّل أية سلطة كانت القدرة على المراقبة والمحاسبة لضبط الانحرافات في الأبحاث
والتطبيقات؟
ـ ما هو المستقبل
المحتمل والمتوقع لهكذا تطور ، وإلى أين يمضي ركب الأبحاث والتجارب؟
ـ هل لهذه الأبحاث
نهاية ما أو مرحلة نهائية ، وما الذي يضمن عدم حصول الكارثة قبل استكمالها؟
على كل حال وفي
نهاية النفق المخيف نجد أن التاريخ الإنساني بمراحله المتعددة كشف لنا أنه لا يمكن
لحضارة ما مهما كانت عظيمة وقوية أن تستمر وتدوم معتمدة على قواها الحضارية
والثقافية والعلمية فقط ، كما عرفنا أنه لا يمكن لمعرفة ما أن تتكشف وتبلغ مداها
وأهدافها إلا إذا اقترنت بالخير والضمير الحقيقي والسعي إلى الكمال والتكامل. فلا
يمكن لحضارة أن تعيش فقط على فتات معارفها وتطور علومها كما لا يمكن لها أن تنمو
فقط على أجوائها الروحانية الداخلية من دون سعي حثيث للمعرفة والعلم وسبر أغوار
الحقيقة.
هكذا نرى أن العلم
والحقيقة المعرفية لن يحققا أهدافهما إلا إذا اقترنا بالحق الصادر عن علة العلل
ومسبّب الأسباب ، كما أنه لا يمكن أن يكون للعلم والتقدم العلمي ضابط ومراقب
ومحاسب غير الإيمان الحقيقي المبني على أسس القيم والأخلاق وحب الخير ومحبة
الآخرين ، والضمير الحي والسعي إلى الكمال المطلق. ولا يمكن للمعايير البشرية
الوضعية أن تتصدى لهكذا مسئولية لما ينقصها من رادع ملزم وضمير كامل وأمر بالخير
والمعروف والجميل ، ونهي عن المنكر والشر والقبيح لما يشوبها من إخفاء لحقيقة
الكون وسر خلقه ومعرفة خالقه. ولهذا كله فالأمور جلية جلاء الشمس ؛ والخلاصة أنه
إذا ظلّت المادية غير الإيمانية وعقلية العلم من أجل العلم والمغامرات العلمية
المتسمة بالفوضى متحكمة بالأمور البشرية
وبمستقبل عالمها
المهدد ، فإن النتيجة النهائية آتية لا محالة ، وهي بلا شك الهلاك والفناء والدمار
والخراب والقضاء على الجنس البشري بعد تشويهه والعبث به.
ومن هنا يجب على
العلماء المتنورين وعلى المؤمنين العالمين في مجالات العلم وتقنياته الحديثة ،
وعلى كل مخلص ومؤمن بتخليص الإنسانية من أمراضها الفتاكة ، أن يبرزوا آراءهم
ويطرحوا أفكارهم وينشروا معتقداتهم الحضارية ، ويحثوا المجتمعات البشرية الواعية
على الأخذ بعبر التاريخ ودروسه واستشعار المستقبل والتنبيه لأهواله المحتملة إذا
لم يأخذ الإنسان بوصفة الخلاص من الجمود والعدم والفناء والدماء الحتمي : توحيد
الإيمان والعلم في خط نوراني واع للتاريخ وللمستقبل مرتبط بالأصل والفروع
وبالميزان وبالقسط وبالحسبان وبالتقدير الذي أسس للخلق وقدره تقديرا.
المحور الأوّل :
إضاءات على الإعجاز العلمي
في الخلق والتقويم
ـ الجينوم البشري
... أو خريطة الجينات الوراثية للإنسان ؛
ـ عالم التكوين
البشري ؛
ـ الجهاز اللمفاوي
.. خطوط دفاع استراتيجية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ
(١٣)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤)
[المؤمنون : ١٢ و ١٣ و ١٤]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
(لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
[التين : ٤]
«الجينوم البشري ... أو خريطة
الجينات الوراثية للإنسان»
مقدمة :
ظهرت في
الثمانينات فكرة إعداد خريطة للجينات الوراثية للإنسان وذلك لمعرفة صفات الإنسان
المرضية وتمكينه من الوقاية منها. بدأ تنفيذ المشروع في أوائل التسعينات وحددت له
١٥ سنة للانتهاء من جمعه واستكماله. ويهدف إلى اكتشاف ٨٠ إلى ١٠٠ ألف جين يعتقد
أنها كل جينات الإنسان أو بصماته الوراثية. كما يهدف المشروع إلى اكتشاف كل
الحلقات المتتابعة لمجموعات القواعد النيتروجينية (حوالي ال ٣ بلايين زوج) التي
تشكل شريطي الحمض النووي المعروف بال «د. ن. أ» والذي يحدد بدوره الصفات الوراثية
لكل كائن حي.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣)
ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [المؤمنون : الآيات
١٢ ، ١٣ ، ١٤).
أجمع علماء اللغة
والتفسير على أن كلمة «سلالة» هي من سللت الشيء من الشيء أي استخرجته منه وهو
خلاصته. وهذه الكلمة التي تعني استخراج الشيء من الشيء أو الخلاصة المستلة من
الشيء والتي أتى ذكرها قبل ذكر كلمة «النطفة» ، تدل فيما تدل على وجود مرحلة ما في
الخلق تحدث قبل
مرحلة «جعل النطفة
في القرار المكين» وبعد فعل «الخلق» مباشرة أو أثنائه (ولقد خلقنا الإنسان من
سلالة من طين) ويحصل فيها فعل الاستخراج (أو السل) لتكون فيها خلاصة الشيء (أو
السلالة بعد سلها واستلاها).
شهد القرن الماضي
تطورا بارزا ومنقطع النظير في العلوم الطبيعة ، وحصلت إنجازات وسجلت اختراعات
عديدة في ميادين مختلفة ، كان أهمها على الإطلاق الاكتشافات المذهلة في علوم
الوارثة وبيولوجيا الخلايا والكيمياء الجزئية. ولعل الدراسات والأبحاث التي تناولت
مواضيع الجينات الوراثية والجينوم البشري والحمض النووي المعروف بال «د. ن. أ» هي
أكثر الاكتشافات الحديثة تماسا وتقاربا مع مفهوم الخلق ومراحله المذكورة أعلاه ،
في الآيات القرآنية الإعجازية من سورة المؤمنون ، وخاصة الآية رقم ١٢ التي تصف
مرحلة «السلالة».
لمحاولة تقصي هذه
الاكتشافات ولمعرفة خصائصها وآثارها ونتائجها ولاستشراف آفاقها المستقبلية ، علينا
أن نفهم أولا الحلقات الأساسية لهذه الشبكة المتتابعة من العوامل المعقدة
والمرتبطة ببعضها البعض ، والتي أسهم اكتشافها التدريجي في بناء هذه المنظومة
المذهلة من المشاريع العلمية والإنجازات المكتملة والمتوقعة. أهم هذه الحلقات
الأساسية وأعظمها دورا في تأليف الأسس العلمية للاكتشافات الجديدة خاصة في ميادين
العلوم الوراثية هي التالية :
ـ ال «د. ن. أ.»
أو الحمض النووي الديوكسي الريبوزي : يتألف من سلسلة حلزونية من شريطين ملتفين حول
بعضهما البعض على شكل سلم ملفوف له درجات. تتكون جوانبه من جزئيات السكر والفوسفات
وتتألف درجاته من مجموعات من القواعد النيتروجينية المتتابعة والمختلفة ، والموزعة
على شكل وحدات من أربع قواعد هي : الثيمين ، الأدينين ، الجوانين ، السيتوزين.
الغريب في الأمر هو أنه بينما تأكد أن التركيبة هي
واحدة في الإنسان
والكائنات الراقية ، تأكد أيضا أن تتابع واختلاف هذه القواعد هو الذي يحدد
التعليمات الوراثية والصفات الوراثية لكل كائن حي. أما المذهل في الموضوع فهو
تقارب وتشابه كلمة «سلسلة» مع التعبير القرآني «سلالة» والتي هي أشد إيحاء بالخلق
والنسب والوراثة.
ـ الجينات أو
حاملات الصفات الوراثية : الجين هو عبارة عن تتابع معين للقواعد النيتروجينية في
السلسلة الحلزونية لل «د. ن. أ.» ، ويلعب دورا أساسيا في إرسال التعليمات لتخليق
البروتينات التي تكون الأنسجة والأنزيمات العاملة على تسهيل وظائف الجسم
وتفاعلاته. يعتقد حاليا أن عدد الجينات في الإنسان يتراوح ما بين ٠٠٠ ، ٨٠ إلى ٠٠٠
، ١٠٠ ، تشكل بمجموعها الجينوم البشري أو خريطة العوامل الوراثية.
ـ البروتينيات :
تتكون الكائنات الحية من جزيئات كبيرة ومعقدة ومكونة من سلاسل طويلة تسمى
البروتينيات. تتكون هذه السلاسل من وحدات فرعية أولية تسمى الأحماض الأمينية ولها
٢٠ نوعا مختلفا.
ـ ال «ر. ن. أ.»
أو الحمض النووي الريبوزي الرسول : هو عبارة عن شريط مفرد يتكون في النواة كشريط
مكمل للحمض النووي الديوكسي الريبوزي ويعمل كقالب لاستنساخ البروتينيات. وعلى هذا
الأساس ، تمكن العلماء منذ سنوات ، من فصل نسخة مكملة من الحمض النووي الديوكسي
الريبوزي لاستخدامها في تحديد الجين المقابل في خريطة الكروموسومات.
ـ الكروموسومات :
هي عبارة عن وحدات ميكروسكوبية موجودة في نواة الخلية تتكون من البروتينيات وتتراص
الجينات طوليا عليها. تحتوي خلية الإنسان على مجموعتين من الكروموسومات تتكون كل
مجموعة من ٢٣ كروموسوما يمكن التعرف عليها عن طريق اختلاف أحجامها. وطبقا لهذه
الظاهرة ، تشخص الأمراض الوراثية عبر ضبط وتحديد التغيرات الطفيفة في الكروموسومات
والجينات.
إذا وبعد استعراض
حلقات هذه المنظومة الوراثية الدقيقة والمتراصة يمكن فهم أبعاد اكتشاف كل جينات
الإنسان وجعلها محددة ومحصاة ومدروسة بشكل كامل ، ومعرضة لأية أبحاث ممكنة في
المستقبل. فالهدف الأهم من هذا المشروع هو فهم بيولوجية الإنسان واكتشاف الوظائف
المختلفة للجينات والتعرف على الجينات المختصة بالأمراض المختلفة ، كالسرطان وداء
السكري وأمراض الأوعية الدموية والأمراض العصبية والعقلية. كما يهدف المشروع
لمعرفة عوامل وأسباب التطور البيولوجي والعمليات الكيميائية والوظائف الفسيولوجية
المختلفة.
وهكذا وعند
استكمال المشروع سيكون للإنسان القدرة على معرفة المرض ومنعه قبل حصوله وعلاج
الخلل الوراثي قبل ظهور أعراضه. ولكن الأمر لن يكون النهاية فالأمراض والعوامل
الوراثية تتحكم بها العوامل البيئية والجين المسئول عن أي خلل أو مرض يبدأ نشاطه
مع تعرض الإنسان لمثيرات معينة عادة ما تكون بيئية كالتعرض للإشعاعات والمبيدات
والتدخين والتلوث ، وقد يحدث التفاعل في مرحلة عمرية مبكرة أو متأخرة.
خلق الله الإنسان
وعلمه ما لم يعلم وكشف له الحجب شيئا فشيئا ، حتى صار يكتشف أسرار الخلق ويسعى في
فهمها والتبحر بعوالمها وآفاقها. ولم يقف الإنسان المكتشف لأسرار الأشياء موقف
المتفرج المشاهد المتأمل ؛ بل راح يسعى في تفكيك الرموز والحلقات وتتبع المراحل
والدرجات المتسلسلة في تفاعلات الأشياء ومكنوناتها ، وصار يخطط لتفادي الحوادث
والاختلالات الطارئة فيرصدها ويحددها ويبحث عن علاجها. وما الجينوم البشري
والدراسات المتعاقبة خلفه وقبله والمشاريع المخططة والمرصودة حوله وبعده إلا خطوة
متقدمة على هذا الطريق الطويل المليء بالأسرار والأسئلة.
عالم التكوين البشري
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ
(١٣) ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [المؤمنون : ١٢
و ١٣ و ١٤].
يمر التكوين
الجنيني للإنسان عبر ثلاث مراحل أوّلية أساس هي التالية :
١ ـ مرحلة النطفة
أو ما يقابلها علميا : مرحلة التلقيح Fertilization.
٢ ـ مرحلة العلقة
أو ما يقابلها علميا : مرحلة الانغراز lmplantation.
٣ ـ مرحلة المضغة
أو ما يقابلها علميا : مرحلة التشيّم Placentation.
١ ـ مرحلة النطفة
: Fertilization
(وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا
تُمْنى) (٤٦) [النجم : ٤٥
ـ ٤٦].
يساهم في تكوين
النطفة في الجنس البشري ، كلّ من الحيوان المنوي من جهة الذكر ، والبويضة من جهة
الأنثى. لكن الذكورة والأنوثة يحددها الحيوان المنوي الذي إمّا أن يكون حاملا
لعلامة الذكورة (y) أو يكون حاملا لعلامة الأنوثة (x) ، أما البويضة فتحمل دائما علامة الأنوثة (x).
يتكوّن الحيوان
المنوي في الخصية ، فيما تتكوّن البويضة في المبيض.
وكلا هذين
المصدرين (الخصية والمبيض) يتكوّنان في مراحلهما الجنينيّة في المنطقة المسماة عند
الجنين بالتناسلية ، وتقع ما بين ما بين العمود الفقري والأضلاع. وفيما تنزل
الخصية تدريجيا لتصل إلى مستقرها في «كيس الصفن». ينزل المبيض وبشكل تدريجي أيضا
ليستقر في حوض المرأة ويلتصق برحمها. ومن هنا يتمثل لذوي الألباب الإعجاز القرآني
العظيم الوارد في سورة الطارق ، الآيات من ٥ إلى ٧ (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ) (٦) (ماء المني أو
ماء البويضة) (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (العمود الفقري) (وَالتَّرائِبِ) (الأضلاع). يبلغ
قطر البويضة ١٢٠ ـ ١٥٠ ميكرون ، ويبلغ عددها في مبيض الطفلة المولودة حديثا ،
حوالي ال ٣٠٠ مليون بويضة ، يتناقص عددها بعد ذلك بشكل تنازلي حادّ ، ليصل إلى ما
بين ٢٠٠ ـ ٣٠٠ بويضة عند البلوغ ، ولتخرج واحدة منها فقط ، كل شهر وحتى سنّ اليأس.
أما الحيوان
المنوي فيبلغ طوله حوالي ٦٥ ميكرون وقطره حوالي ال ٥ ميكرون ، ويتألف من خمسة
أجزاء رئيسة : الرأس ، العنق ، المنطقة الوسطى ، المنطقة الأساس ، المنطقة
النهائية أو الذيل. يبلغ عدد الحيوانات المنوية في كل سنتمتر مكعب واحد من السائل
المنوي البشري ، حوالي ال ١٠٠ مليون ، لكن ما يصل إلى البويضة لا يتعدّى ال ٥٠٠
حيوان منوي ، وذلك بعد أن تموت الملايين منها في الطريق إليها ، ثم تتحلل هذه
الحيوانات المنوية ال ٥٠٠ حول البويضة لتذيب جدارها السميك وتسمح لواحد منها فقط ،
بالدخول والاتحاد معها ، لتكوين النطفة ، الأمشاج المذكورة في الآية رقم ٢ من سورة
الإنسان : (إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) [الإنسان : ٢].
٢ ـ مرحلة العلقة
أو مرحلة الانغراز : lmplantation
تعلق النطفة
الملقحة في جدار الرحم ، بعد أن تمرّ بحقبتين من الانقسام النواتي : الحقبة
التوتية (Morule) والحقبة الجرثومية (Blastocyst). وتبدأ العملية الهرمونية التي
يساهم فيها المبيض بشكل فعّال ، بإفرازه هرمون الحمل (البروجسترون) ، الذي ينمي
الرحم ويزيد من تغذيته بالمواد المنشطة وبالدماء ، كما يدفع كل أجهزة المرأة الأمّ
، إلى الاستعداد للحمل ومتطلباته. وهكذا تأخذ العلقة بالانغراز شيئا فشيئا بجدار
الرحم السميك وتبدأ جذورها بالامتداد تحتها لتثبت أكثر ولتنطلق عملية النمو
المعقدة ، بشكل ثابت ومضمون.
٣ ـ مرحلة المضغة
أو التشيّم : Placentation
تبلغ العلقة «مقدار
ما يمضغ عادة» ، وتبدأ مرحلة التشيّم ، حيث تنطلق الطبقة الخارجية «للمضغة»
بامتداداتها وجذورها ، بقضم خلايا الرحم والتشعّب والامتداد عبر فراغاتها ،
للاتصال بالأوعية الدموية الرحمية واستحصال الغذاء منها. وتبدأ في داخل المضغة
عملية تكوين الأغشية والأنسجة الجنينية وتقسيمها وتوزيعها عبر عملية شديدة التعقيد
والتشابك ، ما زالت بعض تفاصيلها مجهولة الأسباب إلى الآن. وأهمّ الأنسجة العاملة
على الإطلاق في هذه المرحلة هو النسيج الترفوبلاستي (Trophoblast)
الذي يؤمن للجنين غذاءه من أنسجة الأمّ الرحمية وأوعيتها الدموية ، ويسهّل عملية
الامتداد و«الزحف» النسيجيّ للمضغة نحو الطبقات الرحمية المتعددة ، كما يفرز
الهرمونات والبروتينيات الأساسية لتسهيل هاتين العمليتين. وعبر هذا النسيج تبدأ
المشيمة (Placenta) بالتبرعم والنمو والامتداد لتكون
صلة الوصل الأساس ما بين الأمّ وجنينها ، والمفصل الهام في استمرارية حياة الجنين
وتكامله.
بعد ستة أيام من
مرحلة التلقيح (خلق النطفة) تبدأ مرحلة الانغراز في جدار الرحم (خلق العلقة) ، وفي
اليوم الخامس عشر بعد التلقيح ، تبدأ مرحلة التشيّم (خلق المضغة) ، وفي اليوم
السابع عشر بالذات تنعقد «الجذور» الأولى لعظام العمود الفقري (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) ثم تظهر حولها وبشكل تسلسلي وتدريجي «البراعم» الأولى
للأعضاء والأجهزة العضوية (فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ لَحْماً).
بعد اليوم السابع
عشر بالتحديد ـ أي بعد ظهور خلايا عظام العمود الفقري ـ وبعد بلوغ المضغة «المخلوقة
عظاما» حجما يساوي ٥ ، ١ مليمتر ، تبدأ بالظهور سلسلة من التحولات التدريجيّة
والمتتابعة يوما بعد يوم ، حتى بلوغ الجنين حجما يساوي ٣٠ مليمترا ، بعد انفصال
أصابع رجليه ويديه.
ونستطيع عرض هذا
المسلسل «الخلقي» المنظّم والحكيم ، عبر ما استطاعت كشفه واكتشافه علومنا الحديثة
إلى الآن ، على الشكل التالي :
ـ
اليوم الثامن عشر : ظهور الجذور الأولى للأجهزة العصبيّة والسمعيّة ؛ ـ
اليوم
الواحد والعشرون : يتضاعف حجم «المضغة» إلى ٥ ، ٢ مليمتر ؛
ـ
اليوم الرابع والعشرون : ظهور الأوعية الدموية والأعصاب الأولى ؛
ـ
اليوم السادس والعشرون : ظهور الأطراف العليا ؛
ـ
اليوم الثامن والعشرون : ظهور الرئتين والبنكرياس والأطراف السفلى والجهاز الأوّلي لحاسة البصر ؛ ـ
اليوم
الثلاثون : يبلغ حجم الجنين
٥ ، ٤ مليمتر ، ويظهر جهاز حاسّة الشم ؛
ـ
اليوم الثاني والثلاثون : ظهور الدماغ ؛ ـ
اليوم
الثاني والأربعون : ظهور اليدين ؛ ـ
اليوم
الخامس والأربعون : يبلغ حجم الجنين ١٧ مليمترا ؛
ـ
اليوم التاسع والأربعون : ظهور «التجاويف» أو «الغرف» الأربع في القلب ؛
ـ
اليوم السادس والخمسون : انفصال الأصابع في اليدين والرجلين ؛ ـ
اليوم الستون :
يبلغ حجم الجنين ٣٠ مليمترا.
في الشهر الثاني
تكتمل فصول هذا المسلسل التكويني وتجتمع كل العناصر العضوية والأجهزة ، وتبدأ
بإطلاق وتسيير وظائفها شيئا فشيئا ، عبر الأشهر السبعة المتبقية. وهكذا نرى أنّ
النموّ الخلقي للجنين هو مجموعة نتائج النموّ التكويني لكل جهاز وعضو ووظيفة ، عبر
كل مرحلة من المراحل الأولى التي ذكرناها ، وحتى اكتمال فصول هذا المسلسل المحكم
التفاصيل ، حينما تكتمل العملية الخلقية الجنينيّة ، وتنتهي بابتداء مرحلة «الخلق
الآخر» السويّ المتكامل الكامل : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
وتحار العقول
والقلوب وتخشع عند ما يكتشف المرء أنّ التسلسل التكويني التدريجيّ الذي ورد في هذه
الآية الإعجازية الكريمة ، هو عينه الموجود حاليا في الجداول الزمنية للمراحل
الجنينيّة الواردة في معظم مراحل العلم الجنينيّ الحديث :
جعل النطفة /
التلقيح ، خلق العلقة / الانغراز ، خلق المضغة / التشيّم ، خلق العظام / ظهور الفقرات
الأولى ، كسو العظم باللحم / ظهور العضلات
والأعصاب والأعضاء
والأجهزة ، إنشاء الخلق الآخر / اكتمال العملية الخلقية وتكاملها.
وما أروع وأعظم
وأسمى الآيات الإعجازية التي وردت أيضا ، وفي نفس السياق ، في سورة السجدة : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ
(٨)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) صدق الله
العلي العظيم ، [الآيات : ٧ ـ ٨ ـ ٩].
وإذا تأملنا مليّا
بالآية رقم ٩ ، لوجدنا فيها انطباقا وانسجاما وتناغما عجيبا مع الجدول الزمني
الوارد سابقا ، إذ نلحظ أن السمع سبق الأبصار في الآية ، والأبصار سبقت الأفئدة
فيها ، وهكذا أيضا نلحظ أن الجهاز الأولي للسمع تبدأ انطلاقته في اليوم الثامن عشر
، بينما تبدأ انطلاقة الجهاز البصري في اليوم الثامن والعشرين ، أي قبل اكتمال نمو
القلب والدماغ (إذا كانت الأفئدة تحتمل المعنيين).
وما أجمل الكلمات
التي أرسلها أمير المؤمنين علي عليهالسلام في إحدى خطبه ، حينما قال مستوحيا الآيات الإعجازية السابقة
:
«أيها المخلوق
السويّ المنشأ ، المرعيّ في ظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من
طين ، ووضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم ، تمور في بطن أمّك جنينا لا تحير دعاء ،
ولا تسمع نداء ، ثم أخرجك من مقرك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن
هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك ، وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟».
وفي الختام ،
نستطيع القول أنّ المعجزة الإلهية «الحية» التي نقرأها كل يوم ، ونعتبر بآياتها
الإعجازية الرائعة ، وهي القرآن الكريم ، هي خير دليل على أنّ النبوة والرسالة
الخاتمة المحمدية أتحفت ورصعت وزوّدت بخير وأعظم وأرقى معجزة ربّانية على الإطلاق
، حازها نبيّ أو مرسل قبلها ، إذ أنّ العلوم التي حوتها والروائع التي اكتنزتها ،
لم يستطع العلم الحديث اكتشافها إلا بعد اكتشاف الوسائل العلمية التقنية الراقية ،
كالمجهر البصري والإلكتروني وغيرها من الآلات المعقدة ، وبعد إجراء الدراسات
والبحوث الطويلة التي امتدت واستمرت عبر السنين والقرون.
عجائب الخلق
الأولى : الأغشية الثلاثة والمشيمة والرضاعة
الظلمات الثلاث :
قال الله العزيز
في كتابه الكريم في سورة الزمر [الآية رقم ٦] : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ* خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).
أجمع المفسّرون في
كتب التفسير القرآني على أن المقصود من تعبير الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن وظلمة
الرحم وظلمة المشيمة ، وهذا المعنى الإجمالي صحيح ومعتبر ومقارب للتشريخ العلمي
المعروف والمتداول على أساس أنّ لجدار البطن ظلمة تليها ظلمة جدار الرحم الذي
يحتوي بدوره على ظلمة أغشية المشيمة وجذورها المتشابكة والمحيطة بالجنين. وفي
المدة الأخيرة حدد بعض العلماء (ومنهم الدكتور محمد علي
البار في كتابه «خلق
الإنسان بين الطب والقرآن») مفهوم «الظلمات الثلاث» بموضوع الأغشية الثلاثة
المحيطة بالجنين : غشاء السلى أو الأمنيون (Amnion)
، والغشاء المشيمي أو الكوروين (Chorion)
، والغشاء الساقط أو الدسيدوا (Decidua).
واللطيف في الأمر
والملفت للإعجاب والإعجاز أنّ الآية الكريمة حدّدت وحصرت مكان «الظلمات الثلاث» في
«بطون الأمهات» ، وبالتحديد في مكان «الخلق» في «البطون» يخلقكم / في بطون أمهاتكم
/ في لمات ثلاث ، وذلك لا يكون إلا في الرحم حصرا وواقعا وتحديدا. وإذا عدنا إلى
التشريح الجنيني الحديث ، نجد أن هذه الأغشية الثلاث تحيط بالجنين منذ أوّل مراحل
تكونه ، وتبقى محيطة به إلى ما قبل خروجه إلى النور ، أثناء الولادة.
تتميّز هذه
الأغشية الثلاث بعدة خصائص هامّة وأساسية في نمو الجنين وانتقاله من مرحلة إلى
أخرى ، حتى اكتماله وولادته ، ومن أهمّها :
أولا : حماية
الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة والحركات العنيفة والسقطات والحوادث التي يمكن
أن تتعرض لها الأمّ في فترة حملها ؛
ثانيا : تغذية
الجنين وتسهيل عملية انتقال الأوكسجين والمواد الغذائية إليه ، وعملية نقل غاز
ثاني أوكسيد الكربون من دمه إلى دم الأم ؛
ثالثا : تسهيل
عملية الولادة عبر تكوين «جيب المياه» (من غشاء السّلى) الذي يوسع عنق الرحم ويعقم
الطريق للجنين ويمهّده له.
المشيمة (Placenta) :
تعتبر المشيمة أهم
«عضو» في حياة الجنين ، يساهم في تكوينه الجنين
نفسه عبر نسيج «التروفوبلاست»
(Trophoblast) الذي يبدأ بالظهور في اليوم الخامس
من حياته ، والأمّ نفسها عبر نسيج الغشاء المخاطي الذي يغطي الحجرة الرحمية التي
تستقبل البويضة الملقحة.
تظهر المشيمة
بحدودها وتأخذ شكلها المعهود في الشهر الثالث ثم تقوم بالنمو التدريجي شيئا فشيئا
، والامتداد حسب نمو الجنين إلى أن تبلغ حجما دائريا بقياس ٢٠ سنتم وبثخانة ٣
سنتيمترات وبوزن ٥٠٠ غرام ، عند اكتمال نمو الجنين وقرب ولادته.
تشكل المشيمة
مجموعة جذور متفرعة وأوعية دموية متشابكة ومعقدة التواصل والتقاطع فيما بينها بشكل
يصعب وصفه وملاحقته جزئيا من طرف إلى طرف ، وكأنما هو مجموعة متاهات متقاطعة
ومتشابكة إلى أبعد حدود!. وفي هذا التشابك والتقاطع الشديد التعقيد بين الأوعية
والجذور المشيمية تكمن أسرار الوظائف التي يتميز بها هذا العضو الأساسيّ لحياة
الطفل والذي يساعد في نموّه وتكامله ، إلى أن تنتهي مهمته وحياته بولادة الطفل
وخروجه إلى العالم «مستغنيا» عن رفيق دربه الرحميّ ، «متخليا» عن خدماته!
تتعدّد وظائف
المشيمة وتتنوع وتزداد أهمية كلما مرّ الجنين من مرحلة إلى أخرى متقدمة ، وأهمها
على الإطلاق :
أولا : تشكيل حاجز
فاصل بين الأمّ وجنينها يكون بنفس الوقت معبرا بينهما لنقل المواد والرسائل ؛
ثانيا : تأمين كل
احتياجات الجنين الغذائية من مصادرها في دم الأمّ عبر عمليات النقل المتنوعة التي
تجري في شبكات الأوعية المشيمية كالماء
والغلوكوز والدهون
والبروتينيات والفيتامينات وبعض الأدوية والمواد الهامة كالمضادات المناعية (IGA) ؛
ثالثا : تسهيل
الوظيفة التنفسية بنقل الأوكسجين من دم الأم إلى دم الجنين وأخذ ثاني أوكسيد
الكربون من دم الجنين إلى دم الأمّ ؛
رابعا : تولّي بعض
المهمّات الباطنية عبر فرز الهرمونات أو نقلها أو المساهمة في إنتاجها.
وتتواصل هذه
المهمات وتكتمل لتتوّج عند الولادة بظهور الإعجاز الخلقي الآخر المتمثل بالرضاعة
عبر حليب الأمّ الذي تتجلّى فيه ذروة العظمة المكنونة في أسرار الخلق.
الإرضاع وحليب
الأم (الرضاعة الطبيعية):
قبل الولادة ،
يتحضّر الجهاز الهضمي للجنين لتلقي غذاءه الذي سيهبه له الخالق الكريم بعد الولادة
ومغادرة البيت الأول (الرحم) ورفيق العمر الأول (المشيمة). ويتعاظم هذا الكرم
الإلهي عند ما يعطي الخالق هذا الغذاء الجديد ، القدرة على التكيّف مع حاجات الطفل
وظروفه وقدراته ، فإذا كان ضعيفا لسبب ما كخروجه إلى النور قبل وقته المحدّد ،
يتفاعل حليب الأم مع حاجة طفلها ويتكيّف لها بكل دقة وبراعة. وتبرز العظمة الإلهية
أكثر فأكثر عند ما تتكيّف الرضاعة الطبيعية مع حاجات الطفل في كل مرة من المرات ،
بل في كل مرحلة جزئية في كل «حصّة» من الحصص اليوميّة : فبداية «الحصّة» تكون
«مائية» أكثر ولا تحتوي على الكثير من الدهون لكي يشعر الوليد بالجوع ويمتصّ حليب
أمّه بكمية أكبر ، بينما تكون النهاية «زبديّة» أكثر مع كمية أكبر من الدهون لكي
يشعر الوليد بالشبع ويترك عملية
الامتصاص ،
ويتميّز حليب الأمّ بميزات إعجازية أخرى ، نورد منها على سبيل العرض ، العوامل
التالية :
أولا : إفراز «اللّبأ»
أو «الصمغ» في الأيام الخمسة الأولى ، والذي يحتوي على كمية كبيرة من البروتينيات
والدهون ومضادات المناعة (lGA) التي تتكفل بتحصين الوليد الجديد من
آثار العوامل الخارجية الضارّة ؛
ثانيا : التكيّف
مع النمو التدريجي للطفل وأجهزته العصبية والهضمية والتنفسية ، فالمواد الغذائية
لا تفرز إلّا عبر قوانين مبرمجة بدقة شديدة لا تحيد عنها حتى لا يتضرر التسلسل
المتصاعد في نمو بعض الأجهزة الفعّالة الحسّاسة ، كالجهاز العصبي مثلا (نسبة إلى
إفراز السكريّات الحليبيّةLactose) ؛
ثالثا : القدرة
على «تدريب» و«تعليم» و«تهذيب» التغيّرات الكيميائية في الخلايا الحية ، عند
الوليد (Metabolism) والتي بها يؤمن الطاقة الضرورية
للعمليات والنشاطات الحيوية ، وكأنّ فيه «قوّة» واعية و«طاقة حية» تستطيع التقاط
الإشارة تلو الأخرى ومعالجتها شيئا فشيئا بكل صبر وحكمة وروية ، حتى تأخذ العمليات
الحيوية مجراها وتتولّد منها الطاقة بشكلها الطبيعي من دون زيادة أو نقصان ،
تثبيتا لأحد مضامين الآية الكريمة : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣].
وتعظيما للأسرار الإلهية المكنونة في آيات خلقه تعالى وسننه وشرائعه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ**
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) صدق الله العظيم والحمد له في كل حين.
الجهاز اللمفاوي
خطوط دفاع
استراتيجية لحماية أجسامنا :
يتميز الجهاز
اللمفاوي ووظائفه الأساسية التي تتصدرها المناعة بفروعها وأشكالها المتجددة ،
بانتظام وترابط وتناغم بديع أضفى على محاولات اكتشاف أسراره رونقا خاصا وسحرا
بديعا. وسنلاحظ من خلال دراستنا للعمليات والردود المباشرة وغير المباشرة للوظائف
والخصائص الدقيقة والعجيبة ووظيفته الأساسية المناعة لهذا الجهاز كيف أنه نظم ضمن
حلقات مرصوصة وموزونة بدقة متناهية وبإحكام فريد ، جعل الكثير من العلماء يتفكرون
ويتأملون ويعتبرون بعوالمه التي لم تكتشف بأكملها إلى الآن ، والتي إن دلت على شيء
فإنما تدل على عظمة وإبداع الخالق القدير.
(وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) [سورة الجاثية
: ٤].
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) [سورة فصلت :
٥٣].
يقوم الجهاز
اللمفاوي بنقل السوائل والخلايا من الأنسجة إلى خارجها (على عكس جهاز الدورة
الدموية الذي يوصل السوائل إلى الأنسجة وينقلها منها). ويتألف الجهاز من أوعية
وأعضاء لمفاوية تقوم بأداء وظائفها المتعددة وأهمها المناعة بشكل مترابط ومنتظم
ومنسق وعبر توزيع «استراتيجي» دقيق وعالي الكفاءة.
تتواجد الأوعية
اللمفاويةLymphatic Vessels في معظم أنسجة الجسم البشري وتفرغ
سوائلها وخلاياها في الدم في منطقتين محددتين في الجسم هي :
الأولى
: الوريد تحت
الترقوي الأيمن Right Subclavian Vein حيث يصب «المبحري أو الأنبوب
اللمفاوي» Lymphtic Duct الذي يتألف من تجمع الأوعية
اللمفاوية الآتية في النصف الأيمن للصدر والرأس والرقبة مع الذراع الأيمن ؛
الثانية
: الوريد تحت
الترقوي الأيسرLeft Subclavian Vein حيث يصب «المبحري الصدري» Thoracic Duct الذي يتألف من تجمع الأوعية
اللمفاوية الآتية من النصف الأيسر للصدر والمناطق المتبقية من الجسم.
أما الأعضاء
اللمفاوية فهي تتألف من الأنسجة اللمفاوية التي تحتوي بدورها على الخلايا
اللمفاويةLYMPHOCYTES وخلايا أخرى مجتمعة في شبكة دقيقة من
الألياف الكولاجينية. وهي على التوالي :
١ ـ اللوزتان : TONSILS وتتألف من ثلاث مجموعات :
الأولى
: الحنكيةPALATINE TONSILS ;
الثانية
: البلعوميةPHARYNGEAL TONSILS ;
الثالثة
: اللسانيةLINGUAL TONSILS.
٢ ـ العقد
اللمفاوية أو الدرن LYMPH NODES : تتواجد في جسم أنحاء الجسم. ولكن
تتجمع في ثلاث مناطق خاصة هي :
الأولى
: العقد الأربية (في
أصل الفخذ): INGUINAL NODES ;
الثانية
: العقد الإبطية (في
أصل الكتف): AXILLARY NODES ;
الثالثة : العقد العنقية (في الرقبة): CERVICAL
NODES.
٣ ـ الطحال SPLEEN : يقع في الجانب الأعلى للنصف الأيسر من البطن ويتألف
من نوعين من الأنسجة :
ـ اللب الأبيض WHITE PULP : الذي يحيط بالشرايين الداخلة إلى
الطحال ؛
ـ اللب الأحمرREDPULP : الذي يحيط بالأوردة ؛
٤ ـ الغدة
الصعتريةTHYMUS : وهي غدة مثلثة الشكل وذات فلقين
تقع في المنطقة العليا للصدر ويتناقص حجمها شيئا فشيئا منذ الولادة ، وحتى البلوغ.
ونلاحظ كيف أن هذه
الأعضاء قد وزعت على أنحاء الجسم بشكل متناسق واستراتيجي لكي تقوم بعملها ووظائفها
من دون أي خلل أو تأخير ، خاصة حينما يتعلق الأمر بالوظيفة الأساسية : المناعة.
المناعةIMMUNITY : هي المقدرة على مقاومة الإضرار
الناتجة عن المواد والعناصر الخارجية التي تدخل الجسم كالميكروبات وإفرازتها.
وتنقسم المناعة
إلى نوعين متكاملين ومتتابعين كل له خصائصه ونتائجه :
الأول
: المقاومة العامة
أو الرد الشامل NONSPECIFIC RESISTANCE.
الثاني
: المناعة المتخصصة
أو الرد الخاص : SPECIFIC IMMUNITY.
المناعة
العامة أو الشاملة : تتميز بإصدار رد شامل ودائم ومتشابه في كل مراحل تطوره ومتنوع العناصر.
وكأنما يبتغي من وراء ذلك إحاطة العناصر الغريبة من كل جانب ومحاصرتها والقضاء
عليها عبر عدة طرق وأساليب أكثر ما تشبه في بعضها الاستراتيجيات العسكرية للجيوش
في مقاومة أعدائها. ومن هذه الأساليب نذكر :
أ
ـ العناصر الميكانيكية أو الحواجز الهندسية : كالجلد والأغشية المخاطية والدموع واللعاب والبول. التي
إما تستطيع منع الجراثيم من الدخول بشكل كامل عبر الحواجز الموضوعة أمامها ، وإما
تقوم بطردها وجرفها بشكل دائم عبر عمليات غسل وتنظيف وطرد من الأماكن الحساسة ؛
ب
ـ المواد أو العناصر الكيميائية : وهي عديدة وتتميز بقدرتها على القضاء مباشرة على
الميكروبات ومن دون سابق إنذار ، ونذكر منها :
ـ LYSOZYME (الليزوزيم) : وتتجمع في الدموع واللعاب
وفي الإفرازات الشمعية الجلدية.
ـ INTERFERON (الإنترفرون) : يقوم بقتل الفيروسات
بطريقة عجيبة فيها من الإبداع ما يعجز عن وصفه الواصفون. إذ إن الفيروسات نفسها
وبذاتها تقوم عند دخولها الجسم بالمساعدة والإسهام المباشر في إفراز مادة
الإنترفرون التي تقوم بدورها بقتلها وإعدامها. ويحار العقل كيف ومن وضع هذه
الخاصية العجيبة في جسم الإنسان؟ وما هي بالضبط رموزها وأسرارها؟ وكيف ومن وضع هذه
الخاصية العجيبة أيضا في جسم هذه الفيروسات المتناهية الصغر لتقوم بالمساعدة على
القضاء على أجسامها عند اقترابها من المخلوق البشري.
(وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) [سورة الجاثية
: ٤].
ج
ـ الخلايا الآكلة أو القاتلة : PHAGOCYTIC CELLS
:
وتتكون إما من
خلايا كبيرةMACRO PHAGES تقوم بابتلاع البكتيريا وقتلها في
داخلها بكل براعة ودقة. وإما من خلايا صغيرةNEUTROPHILS
تتميز (وتختلف عن الأولى) بسرعتها الفائقة في مواجهة العناصر الضارة وسرعة تحركها
نحو مصدر الغدد ومواقع هجومه. كما تتميز بعنصر كثير الغرابة ، إذ تقوم بقتل نفسها
بعد قتل البكتيريا لتساهم في حصر الأذى ومحاصرة المنطقة المجتاحة ببقايا جثثها
ومنع الأعداء من النفاذ إلى مناطق أخرى (غير المنطقة المصابة) بطريقة «استشهادية»
استحقت عبرها اسم «الخلايا الشهيدة».
د ـ الرد الالتهابي INFLAMATORY RESPONSE
:
يبدأ بظهور مواد
كيميائية محددة تقوم بجذب وجلب الخلايا الآكلة إلى المنطقة المجتاحة من قبل
الميكروبات. ولهذه المواد «الجالبة» أوCHEMOTACTIC
تتنوع مهامها وطرق عملها وأساليبها في مواجهة الميكروبات حسب أنواعها المتعددة وهي
:
١ ـ الهيستامين : HISTAMINE ؛
٢ ـ الكينين : KININS ؛
٣ ـ الكومبلمنت : COMPLEMENT ؛
٤ ـ اللويكوترينز
: LEUCOTRIENES.
وأشهر هذه المواد
على الإطلاق هي الكومبلمنت وسلسلته المكونة من
البروتينيات التي
تتواجد في الأحوال الطبيعية في الدم بشكل غير ناشط وفعال. ولكن حين تلتقي بالأجسام
الغريبة تبدأ بالعمل وينشط كل بروتيين في السلسلة البروتيين التالي حتى يتم القضاء
على الميكروبات بشكل مباشر أو غير مباشر. وتصاحب هذه العملية المعقدة عمليات
مساندة تقوم بتسهيل المهمة الأساسية ، أي قتل الميكروبات وهي توسيع الأوعية
الدموية وازدياد نفاذ الخلايا القاتلة عبر جدران الأوعية ، مما يسرع ويسهل وصول
خلايا المناعة إلى المنطقة المصابة.
المناعة
المتخصصة : SPECIFIC IMMUNITY.
يتميز هذا النوع
من الرد بمقدرته على معرفة وتحليل ورصد وتذكر المواد المؤذية للجسم وكيانه
الفيزيولوجي عبر عمليات معقدة ودقيقة جدا لم تكتشف جميع أسرارها إلى الآن ، خاصة
فيما يتعلق بسلاح «الذاكرة» الذي يتميز به هذا الرد ويستعمله في مواجهة العناصر
الضارة إذا أعادت محاولاتها في الاعتداء على الجسم في المرات القادمة أو التالية
لأول اعتداء.
وتنقسم المناعة
المتخصصة إلى نوعين متكاملين يتميز كل منهما بطرق وأساليب وأسرار خاصة :
١ ـ المناعة
الخلطيةHUMORAC IMMUNITY :
تعمل بإشراف
وإدارة «مضادات الأجسام» أوANTI ـ BODIES التي تفرزها الخلايا اللمفاوية
التابعة للغدة (ب) B ـ LYMPHOID CELLS ، ويطلق عليها في معظم الأحيان اسم «بروتينيات
الغلوبلين المناعية» أوIMMUNOGLOBULINS. تتوزع هذه البروتينيات المعقدة
والدقيقة والتي
تتكون من جذع ثابت
وأطراف عليا متغيرة (على شكل الحرف اللاتيني ـ Y)
على جميع أنحاء الجسم بنسب مختلفة وبأنواع متعددة ، اكتشف منها إلى الآن خمسة هي :
ج. م. أ. ي. د. ؛ لكل منها مهمته الخاصة ودوره المتكامل مع أدوار ومهمات غيرها من
الأنواع ومن الميزات المشهورة لبعض الأنواع ، والمكتشفة حتى الآن الخواص التي عرفت
بها الأنواع التالية :
ـ النوع ج : يعبر
المشيمة ويحقن الجنين لمواجهة العناصر الضارة.
ـ النوع أ : يظهر
ويستطيع العمل في الإفرازات كاللعاب والدموع والأغشية المخاطية ، وغيرها من الخطوط
الدفاعية الأولى. كما وينشط في حليب الأم وخاصة في الفترات الأولى للرضاعة ليساعد
على تقوية وتنمية الجهاز المناعي للوليد الجديد.
ـ النوع م : يتميز
بسرعة ظهوره على ساحة المعركة مع العناصر الضارة ، وبكونه في معظم الأحيان النوع
الأول والسلاح المستعمل في بدايات المواجهة مع العوامل الغريبة.
أ ـ المناعة
الخليويةCELLULAR IMMUNITY :
تعمل بإشراف
وإدارة الخلايا اللمفاوية من فئة «ت» T ـ lYMPHOID CEllS التي تتميز بفعالية خاصة بمواجهة
الميكروبات التي تنمو وتتكاثر داخل خلايا الجسم ، كالفيروس وبعض أنواع البكتيريا ،
حيث تقوم هذه الخلايا اللمفاوية المتخصصة بإفراز مواد قاتلة تقوم بتسميم
الميكروبات CYTO TOXIC وإعدامها مباشرة. وفي نفس الوقت ،
تقوم خلايا متخصصة أخرى ـ T MEMORY CELLS
بجمع المعلومات وتخزينها في ذاكرة دقيقة يعجز العقل عن استيعاب الكثير من أسرارها
ودقائقها. خاصة عند كيفية رصدها
وتحليلها وتخزينها
لخصائص كل مادة ضارة ، لتقوم بعدها بتحضير برامج متخصصة فائقة الدقة ومتناهية
الفعالية لمواجهة محتملة أخرى مع كل من هذه المواد المتنوعة والعناصر الضارة. كل
حسب خصائصه ومميزاته ونقاط ضعفه وقوته. وكأنما كل شيء مهم صغيرا كان أم متناهيا في
الصغر ، ومهما كان دقيقا ومتناهيا في الدقة ، مخلوق ومقدر بإبداع لا يفوقه إبداع
وبإعجاز لا يفوقه شيء ولا يبلغه وصف :
(وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [سورة الفرقان : ٢].
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [سورة القمر
: ٤٩].
المحور الثاني :
إضاءات على
الإعجاز العلمي في الأمر والتقدير
ـ الحمل يقي من
السرطان ؛
ـ الرضاعة ... آية من
آيات الخالق ؛
ـ القواعد الذهبية في
الوقاية من الأمراض السرطانية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ)
البقرة : ٢٣٣
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)
لقمان : ١٤
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
الأعراف : ٣١
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)
القمر : ٤٩
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
(وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)
الفرقان : ٢
الحمل ... يقي من السرطان
طالما تساءل
الإنسان ، منذ القدم ، عن السر المكمون في عملية الحمل والحكمة الدفينة في أطوارها
المتعددة ومراحلها المختلفة ، والمصحوبة بالتغيرات الجسدية والنفسية المتنوعة
والصعوبات والإشكالات المحتملة والآثار الناتجة عنها.
لقد ظل الإنسان
يبحث عن الأسباب الكامنة وراء الكيفية التي تجري بها هذه العملية والأشكال المتبعة
في فسيولوجيتها المعقدة ، حيث تتفاعل وتتداخل معظم أجهزة الجسم ووظائفه المتعددة ،
بأساليب بالغة الدقة والتناسق والانسجام وأنماط متناهية الإبداع والإعجاز ، لتحقق
الهدف المنشود والأخير ، ألا وهو الولادة الطبيعية بالصورة السليمة وعلى الوجه
الصحيح وفي الطريق الأمثل.
وانسجاما مع البحث
الدءوب من قبل الأوساط العلمية والطبية لاكتشاف المعالم المتشابكة والآثار
المتعددة للحمل ومراحله وأطواره المختلفة ، ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات وأبحاث
تناولت موضوع العلاقة بين الحمل والوقاية من سرطان المبيض وسرطان الثدي وسرطان
بطانة الرحم ، والتي تمثل أهم أنواع السرطان الخاصة بالنساء وأعلاها نسبة فيها
وأكثرها فتكا. وأظهرت النتائج معلومات دامغة وبراهين ساطعة أثارت دهشة الباحثين في
هذا المجال ؛ حيث تبين وبشكل قاطع أن الحمل
ولأسباب مختلفة
وبطرق متنوعة ، يقي من أخبث أنواع السرطان عند النساء ، ويساهم بشكل فعال في تقليص
خطر الإصابة بها.
الحمل والوقاية من
السرطان :
أجمعت الدراسات
على أن أهم عوامل الوقاية من أخطر وأكثر أنواع السرطان عند النساء في العالم ، وهي
سرطان المبيض وسرطان الثدي وسرطان بطانة الرحم ، تكمن في بلوغ الاكتمال
الفيسيولوجي الطبيعي المتمثل في التفاعلات الهرمونية للحمل والتعرض لآثارها الخصبة
ونتائجها الإيجابية المتعددة الأوجه والمتشابكة ببعضها البعض. ولقد ثبت مؤخرا أن
أحد أهم هذه التفاعلات الطبيعية وأكثرها جلاء هو ازدياد نسبة وكمية إفرازات هرمون «البروجسترون»
الذي يساعد وبشكل فعال في تقليص الإصابة بسرطان المبيض والثدي وبطانة الرحم عبر
أساليب وطرق مختلفة ، أهمها «نقض» و«إلغاء» مفاعيل ازدياد وتراكم إفرازات هرمون «الإستروجين»
الذي يلقي بظله المريب خلف معظم أنواع السرطان عند النساء والعديد من الأمراض
والإشكالات المتنوعة.
كما أظهرت
الدراسات شروطا وظروفا وسنن محتملة لاكتمال هذه العملية وبلوغ هدفها المنشود ،
أهمها على الإطلاق عدم تأخير الحمل إلى سن متأخرة وعدم التعرض خلال الحمل لمسببات
السرطان عند النساء كالتدخين والكحول والإفراط الغذائي ، والتي يمكن أن تؤدي إلى
نتيجة عكسية مأساوية تصيب المرأة الحامل وجنينها على السواء. وفي هذا الصدد برهنت
الأبحاث والإحصائيات الأخيرة أن المرأة الحامل التي تتعرض لتأثيرات التدخين
والكحول والإفراط الغذائي (بالأطعمة المشبعة بالدهون) تعرض جنينها بالأخص الأنثى
للإصابة مستقبلا بسرطان الثدي بشكل شبه مؤكد ومحدد.
الحمل والوقاية من
سرطان المبيض :
يعتبر أكثر أنواع
السرطان عند النساء خبثا وأقلها احتمالا للشفاء ، وبالتالي أصعبها علاجا. ويكمن
ذلك في عدم ظهور أعراض المرض إلا بعد تمكن الورم من السيطرة على المنطقة المصابة و«اجتياح»
المناطق المحيطة ، ومن ثم «الزحف» السريع إلى مناطق أبعد فأبعد ، حتى يستحيل
التمكن من استئصاله والإحاطة به للقضاء عليه.
يصيب هذا النوع من
السرطان النساء في أعمار متقدمة ، وعلى الأخص ، النساء اللواتي تجاوزن سن اليأس
ولم يولد لهن ولد أو لم يرضعن في حياتهن لمدة سنة أو أكثر. ولهذا يتكاثر هذا النوع
بالتحديد وبشكل جلي في المجتمعات الغريبة حيث تزداد بشكل مطرد نسب العانسات أو
الممتنعات عن الحمل الطبيعي (والتي ستزداد أعدادهن خاصة بعد ظهور بدعة الأرحام
المستأجرة وظاهرة أطفال الأنابيب وصرعة المستقبل الداهمة المعروفة بأطفال
الاستنساخ) ، أو اللواتي يتأخر زواجهن أو حملهن إلى أعمار متقدمة.
أما المذهب في هذه
العلاقة المباشرة بين الحمل والوقاية من سرطان المبيض فهو وجود ترابط تصاعدي إضافي
حيث أن نسبة حدوث هذا الورم الخبيث تتدنى وتتقلص مع كل حمل إضافي يحدث بعد الحمل
الأول.
فالنساء اللواتي
يلدن ولدا واحدا تتناقص نسبة الإصابة بينهن ٤٥ خ ثم تتدنى النسبة مع كل ولد إضافي
بمقدار ١٥ خ.
الحمل والوقاية من
سرطان الثدي .... علاقة مباشرة ، ولكن بشروط! :
يعتبر سرطان الثدي
، وعلى نطاق واسع ، أكثر الأورام الخبيثة نسبة وتكاثرا وفتكا عند النساء بشكل عام.
فهو صاحب المركز الأول في سلم
الأورام الخبيثة
في أهم مناطق العالم وأكثرها تقدما ، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وشمال
أوروبا.
تتميز العلاقة بين
الحمل وسرطان الثدي بوجود مستويات وشروط عدة أهمها :
١ ـ تدني الإصابة
بالورم الخبيث ، إذا كان الحمل في سن غير متأخرة (ما قبل سن الثلاثين) ؛
٢ ـ تتناقص نسبة
الإصابة مع كل حمل جديد ؛
٣ ـ هبوط نسبة
الإصابة إلى أدنى المستويات في مجموعات النساء اللواتي يحملن قبل سن الثلاثين
وينجبن عدة أولاد ؛
٤ ـ الحمل المبكر
يكسب نسيج الثديين مناعة قوية ضد تشكل الأورام ويمنحه «نضجا» خلويا دائما يحفظه
على مر السنين من الإصابة بالسرطان ، بشرط أن لا يكون هنالك عوامل وراثية مصاحبة
أو تغيرات جينية طارئة ؛
٥ ـ المرأة الحامل
التي تسيء إلى حملها بتناول الكحول أو بالتدخين أو بالإفراط الغذائي (ذي الأطعمة
المشبعة بالدهون) تزيد من احتمال إصابة جنينها الأنثى بسرطان الثدي في المستقبل ؛
٦ ـ يتميز الحمل
الطبيعي بظهور إفراز متزايد لهرمون «الأسترول» الذي يتكون في الجنين وينتقل إلى
الحامل ليسبب فيما يسبب وقاية مذهلة من نشوء تغيرات سرطانية في خلايا نسيجها
الثديي ؛
٧ ـ تحمي الرضاعة
الطبيعية الثدي من خطر السرطان وخاصة إذا كانت المدة أكثر من ستة أشهر وحتى لو كان
هناك عامل وراثي قوي في العائلة.
الحمل والوقاية من
سرطان بطانة الرحم :
يطلق في الغرب على
هذا النوع من السرطان النسائي لقب «سرطان الراهبات» لتكاثره في مجموعة النسوة
اللواتي يمتنعن عن الزواج لسبب أو لآخر ، بالمقارنة مع سرطان عنق الرحم الذي يطلق
عليه لقب «سرطان بائعات الهوى» لإصابته النساء «المتعددات الشركاء» ، واللواتي
يتعرضن للالتهابات الفيروسية المتناقلة جنسيا.
يصيب هذا النوع من
السرطان النساء المتقدمات في السن واللواتي لم يتزوجن أو لم يلدن ، أو تعرضن
لعوامل إضافية أخرى كالسمنة المفرطة أو داء السكري أو تناول هرمون الإستروجين (من
دون الهرمون «المعاكس» أو المضاد : البروجسترون).
الحمل ... معجزة
الخلق ومنحة الخالق :
أجرى الله تعالى
الأمور بأسبابها وأخضع الأشياء لقوانين وسنن وشرائع ومبادئ ، وجعل حكمته ولطفه
ورحمته فيها لتظهر في مكنوناتها ونتائجها وآثارها ؛ فيهتدي المهتدون ويعتبر أولو
الألباب والعالمون. وكان الحمل ، كغيره من الظواهر الخلقية الفطرية الأصيلة ، أحد
مصاديق هذه الحكمة الربانية المتناهية اللطف والإعجاز وأحد براهين الرحمة الإلهية
المستديمة ، والتي تنطق بمكنوناتها وأسرارها كلما تقدم علم ما أو ظهر أثر ما أو
استجد حدث ما. ولطالما تساءل الإنسان عن سر الحمل وماهية أسبابه والحكمة من زمنه
المحدد وكيفيته المحددة ونمطيته المحددة ، ولطالما فكر وتفكر في إيجاد بدائل
محتملة وأساليب مغايرة تسهل له التوالد والتكاثر على ذوقه وكيف ما يحب وعند ما يحب
بعيدا عما يعتقده هو من تعب وألم ومشقة ، متغافلا عما أودعه الخالق في كل شيء خلقه
من منح وهبات وهدايا تتفتح
نعما دائمة لتخلص
الإنسان من أخطار ظاهرة وباطنة ومصاعب معروفة وغير معروفة ، حسب تقدم الإدراك
الإنساني وتطور فهمه لأسرار الأشياء والظواهر على مر العصور والأزمنة.
الرضاعة .. آية من آيات الخالق وهديته الكبرى
إلى الأم ورضيعها
تعتبر خصائص
الرضاعة الطبيعية المتنوعة وميزات حليب الأم العديدة واحدة من أهم معجزات الخلق
على الإطلاق ، وأعظمها تجليا عبر العصور ، فبالرغم من التقدم المتسارع في العلوم
الصناعية والطبية ، فإنه لم تظهر أية بدائل مماثلة أو حتى متقاربة في مستوى الجودة
والنوعية ، وفي فرادة النتائج والفعالية.
كثرت الدراسات
النفسية والطبية التي تناولت آثار الرضاعة الطبيعية على صحة المرأة المرضعة ،
النفسية منها والجسدية ، على عدة صعد وبعدة أشكال.
أما الدراسات
النفسية فقد تناولت حالات الاسترخاء العصبي والشعور بالنشوة والهناء والسعادة
والراحة الجسدية العارمة التي تعيشها المرضعة خلال عملية الرضاعة. كما تناولت
حالات التقارب المتبادل والحنان الفياض والترابط العضوي ـ النفسي بين الأم ووليدها
الملتصق بكيانها النفسي والجسدي بكل مشاعره وجوارحه.
من جهة أخرى ،
تناولت الدراسات الطبية بشكل خاص ، دور الرضاعة
الطبيعية في
التغيرات والتحولات الجسدية التي تعيشها المرضعة خلال فترة الرضاعة وبعدها ، وخاصة
فيما يتعلق بإفراز هرمون البرولاكتين الذي يعمل كعامل منع طبيعي عبر نزول البويضة
وتأخير العادة الشهرية ، ما يؤدي إلى إعطاء الأم راحة واستقرارا جسديا وتفرغا
كاملا لمهمتها الموكولة بها. وقد تناولت بعض الأبحاث أيضا دور الرضاعة الطبيعية في
إعادة الرحم وملحقاته إلى حالته الأولى قبل الحمل ، ودورها في المساهمة بشكل فعال
في سحب الدهون التي يختزنها الجسم خلال فترة الحمل ، واستعادة المرأة لرشاقتها
ونشاطها الطبيعي.
أما أهم الدراسات
الطبية على الإطلاق فهي التي تعرضت إلى موضوع العلاقة بين الرضاعة الطبيعية وتدني
الإصابة بسرطان الثدي ، حيث تبين أن كل سنة إرضاع تمضيها الأم مع رضيعها تقلل من
نسبة إصابتها بسرطان الثدي بنحو ٣ ، ٤ خ ، هذا بالإضافة إلى زيادة ٧ خ ، وهي
النسبة المتمثلة بمعدل تراجع التعرض لسرطان الثدي عند كل أم ولكل طفل تنجبه.
كما ثبت بالمقابل
أن نسبة سرطان الثدي تزداد في الحالات التي تنجب فيها المرأة عددا أقل من الأطفال
، وتقوم بإرضاعهم لفترات قصيرة.
وهكذا يتبين أن
الأمهات يمكن أن يتجنبن الكثير من المشاكل الصحية وخاصة سرطان الثدي ، إذا قمن
بإطالة مدة الإرضاع ، على عكس ما هو شائع حاليا من تقصير وتحديد لهذه المدة.
بسم الله الرحمن
الرحيم : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣].
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤].
آثار الرضاعة
الطبيعية على صحة الطفل الرضيع :
تقول إحدى الوثائق
الصادرة عن منظمة الصحة العالمية : «ليس هناك شيء يماثل حليب ثدي الأم في توفير
الغذاء الأفضل والأنسب للطفل الرضيع ، وإن حليب الأم فيه من الفوائد الإضافية التي
تقوي الجهاز المناعي للرضيع ضد العديد من الأمراض التي يصاب بها الأطفال ، وهو
نظيف وآمن ، ويكون في درجة حرارية مناسبة وغير مكلف ، وكل الأمهات تقريبا لديهن ما
هو أكثر من كاف لإرضاع أطفالهن».
أما مجلس الصحة
العالمي التابع لمنظمة الصحة العالمية ، فقد أقر مؤخرا قرارا يقضي برفع «الفترة
النموذجية الدنيا» للرضاعة الطبيعية دون أي مصدر غذائي آخر من أربعة أشهر كما كان
في السابق ، إلى ستة أشهر على الأقل.
كما أكدت الدراسات
الطبية الحديثة التي اعتمدت على الإحصائيات «المسحية» في الدول النامية على أن
الأطفال الذين يتناولون الحليب الصناعي يتعرضون للأمراض ويصابون بالوفاة بفارق ١٥
ضعفا مقارنة بالأطفال الذين تغذوا على حليب أمهاتهم في أول عامين من حياتهم.
أما أهم آثار
الرضاعة الطبيعية على صحة الطفل الرضيع ، والتي لا يحصل عليها بشكل كامل وفعال عبر
البدائل الحيوانية والصناعية ، فتتلخص بالمحاور العامة التالية :
ـ اكتساب القدرة
على هضم الغذاء بسهولة ، وبشكل يتناسب مع النمو ومع الاحتياجات المتغيرة ؛ ـ
اكتساب القدرة على
امتصاص المعادن والأحماض وغيرها من المواد الأساسية بشكل يتناسب مع حاجة الطفل
وسرعة نموه ؛
ـ اكتساب القدرة
على مقاومة الفطريات والباكتيريا والفيروسات ؛
ـ الوقاية من
أمراض الحساسية كالربو والأكزيما وأمراض أخرى كالسكري.
لقد ظهرت في المدة
الأخيرة دراسات طبية جديدة كشفت عن وجود ميزات للرضاعة الطبيعية لم تكن معروفة من
قبل ، وأهمها :
ـ الرضاعة
الطبيعية تساعد على نمو أنسجة المخ والشبكية وتطورها بسبب وجود نوع من الأحماض
الدهنية غير المشبعة ؛
ـ الرضاعة
الطبيعية تزيد معدل الذكاء والكثير من الوظائف الحيوية ؛
ـ الرضاعة
الطبيعية تساعد على نمو العظام والأسنان وكريات الدم الحمراء ؛
ـ الرضاعة
الطبيعية تساعد على منع انتقال مرض الإيدز من الأم إلى الطفل كما أنها تساعد على
مقاومة العدوى إزاء الكثير من الأمراض الجرثومية ؛
ـ الرضاعة
الطبيعية تحمي الطفل من التعرض لمخاطر ارتفاع ضغط الدم.
وهكذا يتبين أن
الرضاعة الطبيعية كانت وستبقى هدية سماوية خالصة تتكشف معالمها وآثارها يوما بعد
يوم ، على صعيدي صحة الأم وصحة الطفل على السواء.
وستظهر بالتأكيد
علامات جديدة تواكب تطور العلوم وتقدمها عبر الزمن ، ليتعرف الإنسان على عظمة
وإعجاز الآية الباهرة من آيات الخالق.
كما ستتجلى جميع
جوانب المهمة العظيمة التي أوكلت إلى الأم وتحملتها «حملا» و«وضعا» و«إرضاعا»
بالرغم من الوهن والتعب والآلام والمكاره ؛ لتعطي جنينها ووليدها ورضيعها ، بنعمة
من الله جلّ وعلا وببركته ، كل الحب والرعاية والعطف والحنان.
بسم الله الرحمن
الرحيم : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) [لقمان : ١٤].
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف : ١٥].
القواعد الذهبية في الوقاية
من الأورام السرطانية
عرفت البشرية داء
السرطان منذ قديم الزمان ، فقد اكتشفت آثار لأورام سرطانية في بقايا الجثث البشرية
والحيوانية القديمة ، وأشهرها : أثر ورم سرطاني خبيث في فك بقايا إنسان قديم ،
وورم حميد في عظام إحدى جثث الديناصورات القديمة. كما وجدت شروحات مستفيضة عن
الأورام وعوارضها وآثارها في بعض المخطوطات الإغريقية والفرعونية.
أطلق الأطباء
القدامى اسم السرطان أو Cancer (الاسم اللاتيني لكلمة
سلطعون) لتشابه جذوره أو امتداداته مع قوائم حيوان السلطعون البحري الذي يتميّز بعناده
في تحدّي الحواجز واختراقها والزحف الدائم في كل الاتجاهات. لقد شاع هذا الاسم
وانتشر هذا الداء البغيض ، وإن آثاره البغيضة أثارت منذ مراحل اكتشافه ومعرفة
خطورته ، خوفا ورعبا لدى أوساط الخاصة والعامة ، حتى تداخلت فيه مشاعر «اللعنة
السماوية» أو «الغضب الإلهي» أو «انتقام القدر» لصعوبة المرض وصعوبة علاجه
واستحالته في معظم الأحيان.
شغلت أنواع
السرطان وآثاره وأسبابه وطرق علاجه الأوساط الطبية والعلمية منذ القديم ، وأخذ هذا
الداء حيزا كبيرا من اهتمام الباحثين والمكتشفين والعلماء على جميع الصعد العلمية (الطبية
، الفيزيائية ،
الكيميائية ،
البيولوجية) ، وشهدت مراحل النهضة العلمية المتعددة تطورا بارزا في فهم هذا الداء
وطرق تصنيفه وعلاجه وتشخيصه ، وما زالت الأبحاث مستمرة إلى الآن في كل مجالات وطرق
وأساليب الوصول إلى معرفة أوسع مدى عن هذا الداء وأسراره الكثيرة وعلائقه المتعددة
بالنمو الصناعي والتطور المديني ، وانعكاسات التقدم التكنولوجي على حساب البيئة
والطبيعة.
وفي السنوات
الأخيرة ظهرت أبحاث مفصلة عن علاقة السرطان بالكثير من العوامل والمواد والأساليب
الصناعية والتكنولوجية الحديثة ، حيث تبيّن أن الكثير من أنواع هذا الداء الخبيث
تتكاثر وتنمو بسرعة هائلة في المجتمعات التي تتعرض لإشعاعات نووية ، أو تستهلك
مواد صناعية ، أو تصاب بعوامل بيولوجية وكيميائية وفيزيائية ناتجة عن تقدم
الصناعات بأنواعها المختلفة وازدهارها ، وإضرارها المستمر في كل جوانب الطبيعة
والبيئة الطبيعية. كما تبيّن أن هنالك علاقة واضحة ومؤكدة بين أنواع السرطان
المختلفة وبعض العادات السيئة المكتسبة حديثا والمنتشرة بمساعدة «حمّى الاستهلاك»
التي أصابت جميع المجتمعات ، كالتدخين بجميع أنواعه والإفراط في تناول السكاكر
والحلويات والدهون ، والتعرّض الدائم لأشعة الشمس بداعي الاستجمام والتزيّن ،
وغيرها من العادات الخبيثة التي فرضتها الثقافات الاستهلاكية الخبيثة.
وفي خضم المعمعة
العلمية والإعلامية الدائرة حول موضوع السرطان وطرق تشخيصه وعلاجه والوقاية منه ،
نستعرض القواعد الذهبية التي أجمع عليها الأطباء والباحثون في الوقاية من هذا
الداء بعد التعرّض لأسبابه المباشرة وغير المباشرة ، وبعد التمكن من فهم بعض أسرار
هذا الداء وطرق
عمله وانتشاره
وامتداده من عضو إلى عضو ، ومن جهاز إلى جهاز في الجسم البشري.
القاعدة الأولى :
عدم الإفراط أو التفريط في الغذاء
ارتبطت بعض أنواع
السرطان بما يسمّى بالإفراط الغذائي أوOvernutrition
وبالأخص عند ما تزداد كمية الدهون والسكريات في الغذاء ، وعند ما تتناقص كمية
الألياف فيه. فالإكثار من اللحوم والنشويات والبروتينيات والإقلال من الخضار
والفاكهة الغنية بالألياف والفيتامينات والمعادن ، يساعدان على ظهور أنواع معينة
من السرطان ، وخاصة في الجهاز الهضمي. كما لوحظ أن أنواعا معينة من الخضار
كالملفوف والقنبيط تقي من ظهور سرطان القولون أو الأمعاء الغليظة ، وأن الغذاء
الغني بالفيتامين «س» و«أ» يمنع من ظهور أنواع متعددة من السرطان ، وخاصة سرطان
المعدة.
وأظهرت بعض الأبحاث
أن المجتمعات الفقيرة التي تتناول كميات قليلة من الغذاء الفقير بالمعادن
والفيتامينات ، وخاصة معدني الزنك والسيلينيوم تتعرّض أكثر من غيرها لأنواع من
السرطان ، تشترك في ظهورها أيضا عوامل أخرى كضعف المناعة وكثرة الالتهابات
الفيروسية والبكتريائية.
القاعدة الثانية :
الإقلاع عن العادات الاستهلاكية السيئة
يدخل في هذا
المضمار جميع العادات والتقاليد المستحدثة التي تكاثر الإدمان عليها بعد ظهور
مراحل النمو الصناعي والتطور المديني ، وأهمّ هذه العادات السيئة على الإطلاق ،
التدخين بجميع أنواعه ، وتناول السكريات عند الأطفال والمراهقين ، والتعرّض الزائد
للشمس للاستجمام ، وتناول الأطعمة المدخّنة.
ـ
التدخين ومضاره : ارتبط تدخين التبغ بالسرطان منذ بداية الانتشار المفاجئ
لهذه العادة السيئة في عصر النهضة الصناعية الحديثة ، بعد ما أحضر كريستوف كولومبس
معه هذه النبتة من أرض أميركا المكتشفة حديثا. وللتدخين أثر مباشر ومؤكد في ظهور
سرطان الفم والبلعوم والمريء والرئة والحنجرة والبنكرياس والمثانة والكلى ،
وتتعاون مواده السامة مع المواد السامة الأخرى كالمواد الكحولية أو الصناعية
المساعدة في نمو بعض الأنواع الأخرى من السرطان. وأضرار التدخين لا تحصى ولا تعدّ
، وهي لا تؤذي الشخص المستهلك فقط ، بل الأشخاص المحيطين به كالزوجة والأولاد
ورفاق المسكن والعمل ووسائل النقل. وفي مادة التبغ مواد سامة متعددة تساهم بشكل
مباشر وفعال في نمو الخلايا السرطانية وانتشارها.
ـ
تناول السكاكر والحلوى عند الأطفال :
لمعرفة مدى الضرر
والأذى الذي تسبّبه هذه العادة السيئة ، يكفي أن تتناول لوحا أو قطعة من
الشوكولاتة أو حلوى الأطفال لتعرف مدى الخطورة التي تمثلها المواد الاستهلاكية ،
فمعظم هذه المواد المركبة والصناعية المستعملة في صناعة هذه الأنواع البرّاقة
والجذابة لكل طفل ومراهق ، تدخل في نطاق المواد الصناعية الحافظة أو الملونة أو
المنكّهة التي تحمل في طياتها خطر التراكم في جسم الطفل والتسبب المباشر أو غير
المباشر في ظهور السرطان بمختلف أنواعه ، هذا عدا ما يمكن أن تسببه للطفل من أضرار
أخرى في جهازه الهضمي والعصبي والتنفسي.
ـ
التعرض الزائد لأشعة الشمس :
ثبت علميا أن
التعرض الزائد لأشعة الشمس هو السبب المباشر والمطلق في ظهور السرطان الجلدي
بأنواعه المختلفة وخاصة النوع القاتل منه الملانوماMelanoma.
ـ
تناول الأطعمة المجففة أو المدخنة أو المقددة :
من الثابت علميا
أن المواد الحافظة المستعملة في «تدخين» أو «تقديد» أو «تجفيف» الأسماك وغيرها من
اللحوم وخاصة مواد النيترات والنيتريت Nitrites
وNitrates ، هي مواد مسببة للسرطان ، وخاصة
سرطان المعدة المنتشر في اليابان والصين ودول شرق آسيا ، حيث ينتشر تناول الأسماك
المقددة أو المدخنة.
كما تنتشر في دول
شرقي آسيا أنواع من سرطان الكبد تسببه الفطريات من نوع Aflatoxins
التي «تستعمر» المخازن التي تخزّن فيها الحبوب كالفستق الذي يستعمل في صناعة الخبز
اليومي. والجدير بالذكر أن الأطعمة المدخنة أو المقددة أو المجففة هي من الأطعمة
المعرضة بسهولة للإصابة بالتلوث البيئي بيولوجيا كان أم كيميائيا.
ـ
تناول المشروبات الكحولية :
أكدت الأبحاث
الطبية الحديثة أن للسرطان وخاصة سرطان الكبد والمريء والمعدة علاقة مع تناول
المشروبات الكحولية ، إما بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة ، عبر ظهور ما
يسمّى بالتليّف الكبدي أوCirrhosis الذي يساعد هو أيضا في ظهور الأورام
الخبيثة. كما تشترك المواد الكحولية مع عوامل أخرى كالتدخين والفيروسات في تسريع
عملية نمو الخلايا السرطانية ، وتحطيم الجهاز المناعي المتصدي لها. والجدير بالذكر
أن المواد الحافظة المستعملة في صنع المواد الكحولية المختلفة هي أيضا مواد مساعدة
على ظهور مواد مدمرة للجهاز المناعي الحامي لخلايا الجسم وأنسجته من أي تأثير
خارجي أو داخلي ذي طبيعة سلبية.
ـ
العادات الاجتماعية والتقاليد الموروثة السيئة :
ومن هذه التقاليد عادة بعض الشعوب ـ كالشعوب الآسيوية في إيران والصين مثلا ـ في
تناول
الشاي أو الحساء
أو غيرها من الأطعمة وهي ساخنة جدا من غير تبريدها أو تخفيف حرارتها الأمر الذي
يسبب ظهور سرطان الفم والمريء المنتشر بشكل خاص ومثير للاهتمام في شمالي إيران
والصين. ومن التقاليد الموروثة في الباكستان والهند تناول ومضغ قطعة من «العلكة»
مكونة من عدة عناصر يدخل فيها التبغ والبهارات والليمون ، والإبقاء عليها ممضوغة
ومعلوكة طيلة النهار من دون توقف ، ما يسبب في ظهور أنواع خاصة من السرطان في الفم
والغشاء الداخلي لجوف الفم أو سقفه. هذه العادة السيئة والمنتشرة خاصة في مجموعات
العمّال ، أثارت اهتمام الأوساط الطبية لدرس العلاقة بين البهارات والكحول من جهة
، والسرطان من جهة أخرى ، كما أثارت موضوع العلاقة بين ازدياد نسبة سرطان المعدة
في المجتمعات التي يكثر فيها تناول البهار الحار كالهند والباكستان.
القاعدة الثالثة :
الابتعاد عن المناطق الملوثة إشعاعيا وتفادي الأطعمة المعرّضة للإشعاعات النووية
برهنت الدراسات
العلمية أن الإشعاعات النووية هي من أهمّ الأسباب المباشرة في ظهور سرطان الدم
المعروف ب «اللوكيميا» وسرطان الغدد اللمفاوية المعروف ب «الليمفوما». وأكدت هذه
العلاقة المباشرة ظهور أعداد هائلة من المصابين بهذه الأنواع من السرطان بعد
انفجاري هيروشيما وناغازاكي في اليابان ، وبعد حادث «شيرنوبيل» في بلاد ما كان
يعرف بالاتحاد السوفياتي. كما أثبتت الدراسات ظهور حالات معينة من سرطان الغدة
الدرقية بعد تعرضها للأشعة السينية ، وظهور حالات أخرى بعد تناول الأشخاص المصابين
أطعمة ملوثة إشعاعيا ، إما بسبب قربها من مناطق تجارب نووية أو مفاعل صناعية ،
وإما بسبب معالجتها نوويا بطريقة خاطئة
(لحفظها وتعليبها).
وتظهر حاليا في الوسائل الإعلامية تصريحات رسمية وغير رسمية عن تزايد مخيف في
أعداد المصابين بسرطان الدم في العراق بعد حرب الخليج الثانية مع الإيحاءات
والاتهامات بأن هنالك أسلحة ذات طبيعة نووية قد استعملت هناك في تلك الفترة.
القاعدة الرابعة :
الاهتمام بالعامل الوراثي والأخذ بالنصيحة والوراثة
صار من الواضح
الآن أن هنالك عاملا وراثيا ثابتا في ظهور أنواع عديدة من السرطان وأهمها سرطان
الثدي ، فعلى سبيل المثال إذا أصيبت امرأة بسرطان الثدي (وخاصة إذا كانت شابة أو
في عمر مبكر) فعلى بناتها وبنات إخوتها وأخواتها أن يأخذن جانب الحيطة والحذر
ويداومن على الوسائل التشخيصية المبكرة كالفحص الإشعاعي أو النسيجي واستئصال أي ورم
مشكوك في أمره. وتكثر حاليا حالات السرطان «العائلي» حيث يشترك عدة أفراد من
العائلة في النوع نفسه والفصيلة ذاتها كبعض أنواع سرطان الدماغ والغدد اللمفاوية
والثدي وغيرها ...
القاعدة الخامسة :
تحاشي الالتهابات الفيروسية ومواجهتها
ازدادت الأبحاث
الطبية المتخصصة في الآونة الأخيرة والتي تحاول ربط أنواع معينة من السرطان بأنواع
معينة من الالتهابات الفيروسية وخاصة المزمنة منها. فقد ثبت حاليا أن هنالك علاقة
مباشرة بين بعض أنواع التهابات فيروس الثألول البشري Human
Papilloma Virus ، وسرطان عنق الرحم وغيره من أنواع السرطان في الأعضاء
التناسلية ، وبين فيروس «إبستاين بار» Epstein Barr
وبعض أنواع سرطان الغدد اللمفاوية وأنواع من سرطان المنطقة الخلفية للأنف
والحنجرة.
القاعدة السادسة :
تحاشي الاضطرابات الهرمونية ومعالجتها
لاحظت بعض
الدراسات العلمية الحديثة ارتباطا مباشرا وغير مباشر بين الاضطرابات الهرمونية
التي تحصل خاصة عند النساء اللواتي يتأخر عندهن سن الزواج أو اللواتي لم يقدّر لهن
الحياة الزوجية ، بما فيها من تكامل هرموني عبر مراحل الزواج من حمل ورضاعة وغيرها
من الوظائف الطبيعية التي تشغّل الأجهزة الهرمونية المعقدة والمترابطة في جسم
المرأة ، وأهم هذه الهرمونات هو هرمون «الإستروجين» الذي ارتبط اسمه بالكثير من
الاضطرابات الهرمونية المصاحبة أو المسببة لبعض أنواع السرطان عند المرأة ، وخاصة
عند ما يكون هنالك إفراط أو تفريط في «تحريكه» وتوظيفه في ظروف غير طبيعية وفي
نواح غير طبيعية.
وهكذا نرى ونستشف
بعد استعراض هذه القواعد الست ، أن داء السرطان المخيف يدخل ويتداخل مع الأمراض
والعاهات المرضية الأخرى ضمن ما يمكن أن يوصف ب «الضرر» الناتج عن أسباب ومسببات
معروفة في معظمها ، ومترابطة فيما بينها ومرتبطة بالخلل أو الجهل أو الإفساد المقصود
أو غير المقصود الذي يتميز به الإنسان في نطاقه الخاص والعام. فالإنسان بكل غروره
وصلفه وجهله وتعنته هو الذي أصرّ على إيذاء نفسه والإضرار بها وبالآخرين ، عبر
استخدام المسببات المباشرة وغير المباشرة لهذا الداء بكل أنواعه ، وهو الذي استهتر
بالعامل الوراثي وأهمله وتراخى وكسل في معالجته ومنع انتقال الداء من جيل إلى جيل
، وهو الذي أفسد «الطبيعة» والبيئة الطبيعية بصناعاته «الملغومة» ومواده الحافظة
والملونة ، والمستغلة لمتعة قريبة الأجل فيها من الإضرار التي يمكن أن تقرّب أجله
، وهو الذي كان عليه أن يلتفت ويلتزم ويتعظ ويسير على خطى التعاليم السامية التي
أوصت بها الأديان
السماوية في الحفاظ على النفس والحفاظ على الطبيعة واحترام الخلق والمخلوقات ،
والابتعاد عمّا يهلكها أو يضرّها أو يعيبها أو يشوّه صفحة وجودها الداخلية أو
الخارجية. وما أعظم الإسلام حينما يؤكد ويحث ويصر على تطبيق تعاليم الوقاية الصحية
وتعاليم الحفاظ على البيئة الطبيعية ومبادئ الحفظ والابتعاد عما يضر والالتزام
بالخير والطيبات ، وعدم الإفراط أو التفريط ، وإلزام الناس بالنظافة والطهارة
والأغسال ، والأمر بعدم الإسراف في الأكل والشرب ، والحثّ على الحمية ومراعاة
البدن والنفس ، والحث على الزواج والحمل والرضاعة ، والابتعاد عن الضرر والإضرار
بالناس والحيوان والنبات.
بسم الله الرحمن
الرحيم : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١].
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم : ٤١].
«إن في صحة البدن
فرح الملائكة ومرضاة الرب وتثبيت السنّة».
«لا خير في الحياة
إلا مع الصحة».
«من أخلاق
الأنبياء التنظيف».
«الطهر نصف
الإيمان».
«المعدة بيت الداء
والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عوّدته».
«الذي أنزل الداء
أنزل الشفاء».
«كل وأنت تشتهي
وأمسك وأنت تشتهي».
«برّد الطعام فإن
الحار لا بركة فيه».
«تخللوا على أثر
الطعام وتمضمضوا فإنها مصحة الناب والنواجذ».
«كثرة الأكل شؤم».
«من قل أكله قلّ
حسابه».
«تخلّلوا فإنه من
النظافة ، والنظافة من الإيمان ، والإيمان مع صاحبه في الجنّة».
«من تعوّد كثرة
الطعام والشراب قسا قلبه».
وفي طب الإمام
الرضا عليهالسلام ورد خطاب منه عليهالسلام إلى المأمون يصف له الداء والدواء ، وصحة البدن والوقاية
من الأمراض بطريقة لا مثيل لها ، وبإعجاز فريد وبطريقة خلابة عجيبة ، نقتطف منه
المبادئ والتعاليم التالية :
«الجسد بمنزلة
الأرض الطيبة متى تعودت بالعمارة والسقي من حيث لا يزداد في الماء فتغرق ، ولا
ينقص منه فتعطش ، دامت عمارتها وكثر ريعها وزكا زرعها ، وإن تغوفل عنها فسدت ولم
ينبت فيها العشب. فالجسد بهذه المنزلة ، وبالتدبير في الأغذية والأشربة يصلح ويصح
وتزكو العافية فيه.
فانظر ما يوافقك
ويوافق معدتك ويقوي عليه بدنك ويستمرئه من الطعام فقدره لنفسك واجعله غذاءك ..
واعلم أن كل واحدة
من هذه الطبائع تحب ما يشاكلها ، فاغتذ ما يشاكل جسدك. ومن أخذ من الطعام زيادة لم
يغذه ومن أخذ بقدر لا زيادة عليه ولا نقص في غذائه نفعه ..
كل البارد في
الصيف والحار في الشتاء والمعتدل في الفصلين على قدر قوتك وشهوتك ، وابدأ في أول
الطعام بأخف الأغذية التي يغتذي بها بدنك بقدر عادتك وبحسب طاقتك ونشاطك وزمانك ..
وليكن ذلك بقدر لا يزيد ولا ينقص ، وارفع يديك من الطعام وأنت تشتهيه».
المحور الثالث :
إضاءات على الإعجاز
العلمي في النهي والتحذير
ـ حياة الإنسان المهددة بين مطرقة
الإسراف وسندان الإفساد.
ـ آفة المخدرات ؛
ـ آفة الكحول ؛
ـ الانحرافات الخلقية في المجتمعات
الغربية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)
يونس : ٢٣
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
(وَلا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)
الأنعام : ١٥١
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)
الرحمن : ٩
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
الروم : ٤١
حياة الإنسان المهددة ... بين مطرقة الإسراف
الاستهلاكي وسندان الإفساد البيئي
بسم الله الرحمن
الرحيم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣].
برزت في عصرنا
الحاضر إشكالية المخاطر الحالية والمستقبلية التي تحيط بحياة الإنسان من جميع
جوانبها الاجتماعية والصحية والبيئية ، وتبين أن الكثير من هذه المخاطر الداهمة
تزداد وضوحا وبروزا في المجتمعات والجماعات التي تتعرض لآثار الإفساد أو التلوث
البيئي من جهة ، أو لظهور أنماط وعادات اجتماعية وغذائية واستهلاكية سيئة ، اتخذت
الإسراف والإفراط والبغي سمات دائمة.
الإسراف أو
الإفراط والبغي في العادات والأنماط الفردية والجماعية :
تتكاثر يوما بعد
يوم العادات والأنماط الاستهلاكية والغذائية والاجتماعية السيئة التي يتعرض لها
الفرد ويدمن عليها دون إدراك أضرارها المتعددة عليه وعلى محيطه ، ودون معرفة
مخاطرها القاتلة على المدى القريب والمدى البعيد. وتأخذ هذه العادات والأنماط
السيئة في معظم الأحيان طابعا جماعيا تفرض به نفسها على المجتمعات وتحجب عن العيان
آثارها الخبيثة القاتلة إلى أن يفوت الأوان.
تتنوع العوامل
الخطرة والأنماط السيئة والمؤثرات السلبية المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه
الأمراض القاتلة ، كما تتعدد وتختلف كيفية ظهورها ونوعية آثارها من حالة إلى أخرى
، ويصعب حصر نتائجها على الصعد والميادين كافة.
ظواهر الإسراف
والعادات الاستهلاكية والأنماط الغذائية والاجتماعية السيئة :
تشمل كل العادات
والأنماط المضرة بصحة الإنسان والمؤدية إلى الإصابة بأمراض خطيرة بطريقة مباشرة أو
غير مباشرة ، عبر الإدمان عليها أو الإسراف والإفراط فيها ، وأهمها :
*
الإفراط الغذائي والاستهلاكي والسلوكي :
يشمل الإكثار من
تناول الأطعمة الغنية بالدهون والبروتينيات والنشويات ، وبالمقابل الإقلال من
تناول الأطعمة الغنية بالألياف والفيتامينات والمعادن (كأحد أهم الأسباب الرئيسة
لسرطان الجهاز الهضمي ، وارتفاع نسبة الدهون في الدم والبدانة المفرطة وغيرها من
الإشكالات الخطيرة).
كما يشمل ظواهر
الإفراط في تناول السكاكر والحلويات (وخاصة عند الأطفال) والأطعمة المجففة
والمدخنة والمقددة (كأحد أسباب سرطان المعدة) ، وبعض العادات الاجتماعية التقليدية
والموروثة السيئة كتناول المشروبات الساخنة جدا (كأحد أسباب سرطان المريء) أو كمضغ
بعض المركبات الكيميائية المخلوطة (كأحد أسباب التقرحات المزمنة وسرطان الفم) ، أو
كظاهرة الإفراط في التعرض لأشعة الشمس لأسباب ترفيهية وتجميلية (كسبب رئيسي في
ظهور سرطان الجلد).
*
التدخين بأنواعه المختلفة :
الدخان هو خليط مركب من أكثر من ٤
آلاف مادة
كيميائية ، صنّف أكثر من ٥٠ منها على أنّها مسببة للسرطان ، وتمكث هذه المواد
الضارة في الهواء وتسبب ما يسمى بالدخان الثانوي الذي يعتبر أهم ملوثات الهواء في
الأماكن المغلقة ، والذي هو مسئول ، على سبيل المثال لا الحصر ، عن ٣٠٠٠ حالة وفاة
سنويا في الولايات المتحدة الأميركية نتيجة الإصابة بسرطان الرئة فقط.
كما أكدت الدراسات
العلمية أنه بالإضافة إلى علاقة التدخين المباشرة بأمراض واضطرابات خطيرة كأمراض
القلب والصدر والأوعية الدموية والإجهاض المفاجئ ، ثبتت علاقة التدخين بأنواع
مختلفة ومتنوعة من السرطان الخبيث كسرطان الفم والحنجرة والبلعوم والمريء والرئة
والبنكرياس والمثانة والكلى وعنق الرحم وغيرها.
*
المشروبات الكحولية بأنواعها :
ثبتت علاقة
المشروبات الكحولية بأنواعها المختلفة بظهور أمراض متعددة وآفات عصبية ونفسية
واجتماعية خطيرة ، هذا بالإضافة إلى أنواع كثيرة من السرطان كسرطان الكبد والمريء
والمعدة والأمعاء الغليظة والمستقيم والفم والحنجرة والبلعوم. كما لا يسعنا إلا أن
نذكر دور الكحول في ظهور إشكالات خطيرة يصعب التعامل معها كالنزف الهضمي والإجهاض
المفاجئ وهشاشة العظام والكسور والعجز الجنسي.
*
آفة المخدرات بأنواعها :
تتكاثر المخدرات
بأنواعها المختلفة في عصرنا الحاضر ، بسرعة هائلة ، وتجتاح بآفاتها وأخطارها
المتعددة الدول الفقيرة والغنية على السواء.
تتنوع المواد
المخدرة من دولة إلى دولة وتختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى ، فمنها ما هو مصنع
ومستحضر من مركبات كيميائية ، ومنها ما
هو طبيعي ومستخرج
من النباتات والأشجار ، ومنها ما يجمع بين النوعين. كما تتنوع آثار المخدرات
وتتوزع على مجالات وصعد عديدة ، منها ما هو صحي بدني أو عقلي أو نفسي ، ومنها ما
هو اجتماعي أو تربوي أو اقتصادي.
تنقسم المخدرات
إلى مجموعات عدة تتألف بدورها من أنواع مختلفة ، يتغير شكل الإدمان عليها من حالة
إلى أخرى. نذكر منها : عقاقير الهلوسة (كعقار الأل ـ أس ـ دي) ، والمنومات (كالفينوباربيتال)
، ومثبطات الجهاز العصبي (كالأفيون والهيرويين) ، والمنشطات (كالكوكائين والقات
والأمفيتامينات) ، والمهدئات (كالفاليوم) ، والحشيش ، والمستنشقات التي تعتبر
حاليا ، أهم أنواع المخدرات على الإطلاق ، وأكثرها تفتكا بالإنسان لما تسببه من
اضطرابات خطيرة وأضرار بالغة في الجهاز العصبي والقلب والكبد والكلى ، هذا
بالإضافة إلى حالات الغيبوبة والموت المفاجئ. لقد بلغ الإنسان ، في هذا المجال حدا
لا يصدق ولا يوصف من البغي والإفراط والانهيار ، إذ صار يتعاطى ، في حال عدم وجود
مبتغاه ، استنشاق مواد غريبة كالبنزين ومزيل طلاء الأظافر ، وسائل وقود القداحات ،
ومخفف الطلاء وروث البقر ولاصق الغراء وعوادم اشكمانات السيارات.
*
الانحرافات والعادات الجنسية السيئة :
ترتبط الانحرافات
الجنسية بشكل عام والعلاقات الجنسية المتعددة خارج الزواج والممارسات الجنسية
المحرمة باضطرابات اجتماعية ونفسية وعصبية وجسدية سيئة الأبعاد والنتائج. وأهم هذه
الاضطرابات على الإطلاق هي الأمراض الجرثومية وما يترتب عليها من أعراض وإشكالات ،
وخاصة ما ينتج عن بعضها من تغيرات سرطانية في الخلايا ونشوء أورام خبيثة ، كالتي
تصاحب التهابات
فيروس الثألول
البشري في عنق الرحم والشرج والمهبل. هذا بالإضافة إلى ما يعرف الآن وما يكتشف
حاليا من إشكالات خطرة على حياة الإنسان تنتج عن داء نقص المناعة المكتسبة وفيروس
الإيدز الذي يفتك ، بشكل خاص ، بجماعات المنحرفين والشاذين جنسيا.
*
ظاهرة الخمول البدني : تعتبر ظاهرة الخمول البدني مع ما تشمله من مظاهر مختلفة
كانعدام الرياضة وحياة «القعدة» والجلوس ساعات طويلة أمام التلفاز والحاسوب ووراء
المكتب ، والاستعمال الدائم للسيارات والحافلات وقلة الحركة والنشاط البدني ، أهم
أسباب الأمراض المعروفة حاليا بأمراض العصر الفتاكة ، كالسكري والبدانة المفرطة
وأمراض القلب والأوعية الدموية.
وبينت الإحصاءات
أن ستا من كل عشر وفيات ناتجة عن السكري ، وأمراض القلب والشرايين ، والأورام
الخبيثة ، ترتبط بانعدام الرياضة ، خاصة في الدول المتقدمة والغنية. كما أصبح من
الواضح حاليا أن أهم تحد تواجهه البشرية جمعاء ، لتسببه بأكثر الأمراض نسبا في
الوفيات في عصرنا الحاضر ، هو نمط الحياة الجلوسية المفرطة مع ما يصاحبها من بدانة
وخمول وانعدام النشاط والحركة.
*
ظاهرة الاكتئاب المفرط :
تصف منظمة الصحة
العالمية الاكتئاب بأنه اضطراب عقلي يصيب حوالي ٣٤٠ مليون شخص في العالم ، تشمل
أعراض الاكتئاب فقدان الاهتمام بالأشياء والإحساس بعدم الأهمية وبعدم السعادة وضعف
المزاج وعدم القدرة على التركيز وإحساس عام بالخمول.
يعد الاكتئاب من
الأمراض القاتلة حيث إن ١٥ خ من المصابين ينتهي بهم الأمر إلى الانتحار ، كما أن
الإحصائيات أظهرت أن ٥٠ خ من
المنتحرين يمرون
بفترة من الاكتئاب في وقت من الأوقات ، هذا عدا وجود علاقة مباشرة بين الاكتئاب
وازدياد نسب الوفيات نتيجة الإصابة بأمراض أخرى كالسرطان وأمراض القلب والشرايين.
لهذا كله ، يعتقد
أن الاكتئاب سيشكل السبب الرئيس للإعاقة في العالم ، ومن أهم الأعباء التي
ستواجهها البشرية عند حلول سنة ٢٠٢٠ م.
في المقابل ، نجد
أن الإنسان نسي نفسه وتناسى ماضيه وحاضره ومستقبله ، بعد ما نسي معالم الحياة
المثلى وأساليب العيش الكريم وأنماط العلاقات المتوازنة التي حددها له خالقه
الكريم ، جل وعلا ، وضبطها ضمن موازين وأسس ومنظومات واضحة منسقة مترابطة ، لا
إفراط فيها ولا تفريط ، ولا طغيان فيها ولا نقصان ، مبنية على العدل والقسط
والتوازن :
بسم الله الرحمن
الرحيم : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا
فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٩) [الرحمن : ٧ و
٨ و ٩].
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف : ٣١].
(وَلا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١].
(يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ) (٥١) [المؤمنون :
٥١].
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٧) [المؤمنون : ٥
و ٦ و ٧].
(وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢) [الإسراء :
٣٢].
(وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥].
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ) (٢٨) [الرعد: ٢٨].
* ظاهرة الإفساد
البيئي :
يعاني عالمنا
الحاضر ، في عصرنا الحالي ، وبشكل متزايد من وجود هواء ملوث بجميع أنواع الإشعاعات
النووية والغازات المنبعثة السامة والملوثات الكيميائية والصناعية والعضوية ، هذا
عدا نشوء ظاهرتي «الاحتباس الحراري» و«تآكل طبقة الأوزون» الشديدتي الخطورة على
الحياة بجميع أشكالها على كرتنا الأرضية.
وقد أفادت
الدراسات الحديثة أن هواء المدن الملوث يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان ، هذا
بالإضافة إلى أمراض القلب والرئتين ، كما برهنت الدراسات عن وجود علاقة مباشرة بين
التعرض المتزايد للهواء الملوث بجسيمات دقيقة شديدة الصغر صادرة عن الانبعاثات
الصناعية ووقود الحافلات والمبيدات الزراعية ، وغيرها من الملوثات ، وزيادات
ملحوظة في نسب وفيات السرطان خاصة في حالة سرطان الرئة.
وفي الوقت نفسه ،
ثبت للباحثين المختصين وبعد تتبع ودراسة آثار التجارب النووية على الإنسان والحيوان
أن الإشعاعات المؤينة تخترق الأنسجة والخلايا وتشوه محتويات نواتها من
الكروموزومات والأحماض الأمينية لتتسبب في ظهور أورام خبيثة ومتنوعة.
كما أظهرت دراسات
أخرى نتائج متشابهة بعد تتبع وإحصاء وإحصاء ودراسة الآثار الناتجة عن استهلاك
أطعمة ملوثة إشعاعيا أو معالجة نوويا بطريقة خاطئة بهدف حفظها وتعليبها.
كما يجب أن لا ننسى ، أخيرا ، الآثار
المدمرة والقاتلة للأسلحة النووية التي استخدمت قديما وحديثا في حروب عالمية
وإقليمية وتسببت في ازدياد هائل في نسب وفيات السرطان.
وفي هذا المجال ،
أقر خبراء من منظمة الصحة العالمية ، منذ مدة قريبة ، أن التلوث البيئي يؤدي إلى
مقتل ٣ ملايين طفل سنويا دون سن الخامسة في الدول النامية والفقيرة ، خصوصا في
قارة آسيا. وكان من أبرز المخاطر البيئية التي يتعرض لها هؤلاء الأطفال قيام بعض
الدول برمي نفاياتها السامة في السهول والأنهار حيث يستحم ويشرب الأطفال في
الأرياف ، وانبعاثات الرصاص في المدن والأماكن القريبة من مكبات النفايات ،
والتلوث الجوي الناتج عن الاستخدام الكثيف للطاقة والتوسع الصناعي.
في نهاية المطاف ،
لا يسعنا إلا أن نؤكد على أن الإنسان هو الذي أوقع نفسه في هذا المأزق المريع ،
وهو الذي ألقى بنفسه وجعلها بين مطرقة هذا الوحش الذي ركبه من إسرافه الفردي وبغيه
النمطي وإفراطه الاستهلاكي وخسرانه النفسي ، وبين سندان الرمضاء الموحشة التي
جعلها مرتعا له بعد إفساده بيئته ، وتدميره العبثي للنعم التي اؤتمن عليها ،
ونسيانه مهمة إعمار الكون التي كلف به وجعل على أساسها خليفة الخالق على الأرض.
لذلك كله ، لا سبيل للإنسان في هذا الليل المظلم ولا خلاص له من هذه الكارثة
المحتمة إلا بالرجوع إلى خالقه والعودة إلى التمسك بالأمانة التي قبلها في مهمته
وتحمل المسئولية في إعادة إعمار ما خربت يداه ، حتى لا يفوت الأوان.
بسم الله الرحمن
الرحيم : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١) [الروم : ٤١].
آفة المخدّرات
لا زال الغرب
بكافة أجهزته ومقوّماته الاجتماعية والاقتصادية والأمنية يعاني من الآثار التي
أنتجتها ولا تزال تنتجها أزمات التجارة والتعاطي بالمخدّرات والإدمان على تناولها
، بين أجياله الشابّة على الأخص.
وقد تفجرت تلك
الأزمات ، بشكل علني وفاضح ، وعلى جميع الصعد الاجتماعية والصحية والاقتصادية
والأمنية ، في أواخر الخمسينات ، عند ما أخذت تروّج للتعاطي ب ثقافة» المخدّرات
بعض من أشهر الفرق الموسيقية ك «البيتلز» و«الرولينغ ستونز» و«الهو» و«الكوين»
والكثير من الشخصيات البارزة في الأوساط الثقافية من ممثلين وكتّاب وشعراء ورسامين
وموسيقيين ، على أساس أنها مواد تساعد على تنمية وتفجير الطاقات الفنية والأدبية
المختزنة ، وضمن مبدأ الانطلاق عبر عوالم وأجواء سحرية وخيالية مخفية على باقي
البشر!!
وانتشرت تلك الآفة
بشكل أوسع وأسرع بين الأجيال الغربية الشابّة ، وبين الأجيال الصاعدة من الشعوب
التي استعمرها الغرب بنماذجه الثقافية (كجنوب أميركا وجنوب آسيا وأستراليا) ، دون
التمييز بين طبقاتها الاجتماعية أو بين مقوّماتها العلمية والثقافية ، إذ أنها
انتشرت وبشكل متساو في معظم الأحيان ، بين المجتمعات الجامعية والمثقفة وبين
الجماعات الشاذّة والخارجة عن القانون. وأصبح من «العيب» و«المكروه» و«المشئوم»
في الستينات
والسبعينات ، وخاصة في فرنسا وإسبانيا وإنكلترا ، أن لا يشارك شاب زملاءه (خاصة إن
كانوا ضمن مجموعات سياسية «حرة» وليبرالية) في الندوات التي كانت تفتتح وتختتم
بتعاطي المخدرات «المنعشة للفكر والخيال والمشاعر» كالDSL
والكوكايين والأمفتامين وغيرها.
١ ـ آثار الإدمان
على المخدرات على الصعيد الاقتصادي :
ارتبطت أزمة
التجارة والتعاطي بالمخدّرات منذ البداية بأزمة البطالة بشكل مباشر ، حيث كان هذا
العامل الاقتصادي من أهمّ الدوافع الأساسية إلى التعاطي والاتّجار بالمخدّرات.
وكانت هذه الأخيرة وما زالت من أهمّ العوامل المؤدية إلى البطالة ، وأصبح من
المستحيل على الأجهزة الاقتصادية الغربية الفصل بين هذه الأزمة وتلك من دون أن
تصطدم بالعلائق والوشائج التي تجمع ما بينها ، فعصابات المخدّرات بكل فروعها
وأقسامها من الاستيراد إلى التهريب إلى التوزيع إلى التصدير ، تعتمد اعتمادا كاملا
على جماعات العاطلين عن العمل. أما تعاطي المخدرات فيؤدي بدوره وبشكل تدريجي إلى
فقدان الوظائف وأماكن العمل ، وإلى تدني نسبة اليد العاملة ومستواها وخاصة الشابة
منها. وتدور حول هذه النتيجة عوامل ومؤثرات أخرى تساعد في تعميق الأزمة اقتصاديا
وبأشكال مختلفة ، كالحوادث التي تصيب المدمنين على المخدرات في أماكن عملهم وعلى
الطرقات ، أو كفقدانهم لطاقاتهم الجسدية والفكرية بشكل مبكر ، أو كتكاثر حالات
الوفيات المفاجئة بينهم.
٢ ـ آثار الإدمان
على المخدّرات على الصعيد الاجتماعي :
إن الأمراض
الاجتماعية الناتجة عن تعاطي المواد المخدّرة صعبة الحصر والاستجلاء ، وتتوزع على
جميع الأوجه والأصعدة : على الصعيد
الفردي وبناء
الذات والشخصية ، وعلى الصعيد العام والأخلاق العامة ، على صعيد العلاقات العائلية
والأسرية والزوجية والاجتماعية الخاصة ، إلى آخره ... وتجرّ هذه الآفة الطبقات
المدمنة وخاصة الشابة منها إلى ويلات أخرى يصعب حصرها اجتماعيا ، كالدعارة التي
تقوم بها الشابات ، ومن جميع الطبقات الاجتماعية ، لجمع الأموال اللازمة لشراء «الوجبات
اليومية» ، والسرقة التي يقوم بها الأفراد أو الجماعات من فتيان في مقتبل أعمارهم
، وكحالات التفكك العائلي (من طلاق وترك للواجبات وخاصة التحصيل العلمي ، والهرب
من المنزل) التي تصيب الشرائح الاجتماعية التي يقع أحد أفرادها في شرك المخدّرات.
٣ ـ آثار الإدمان
على المخدّرات على الصعيد الصحي :
تعتبر الإحصائيات
الطبية أنّ الإدمان على المخدّرات هو أول وأهمّ وأعظم أسباب الوفاة على الإطلاق في
مدينة نيويورك الأميركية ، وخاصة بين المجموعات التي تتراوح أعمارها بين ال ٢٥ وسن
ال ٣٣. وتجتمع آراء هذه الإحصائيات على المبدأ القائل بأنّ جميع أنواع هذه المواد
السامّة هي «قاتلة» بكل معنى الكلمة ، وإن كان بعضها أسرع في هدفه من الآخر! وكثرت
الدراسات الطبية على هذه المواد بأنواعها وميزاتها ونتائجها ، وتركزت خاصة على بحث
خصائص المواد المخدّرة الثلاث المشهورة عالميا : الكوكايين والهيرويين
والماريجوانا ، وسنحاول بشكل موجز استعراض هذه الخصائص للتدليل على عمق وخطر
وشراسة هذه الآفة على المجتمع بكل خصائصه :
١
ـ الكوكايين : وهي المخدّر الأكثر شهرة وانتشارا بين الشباب من ذوي
الطبقات المتدنية اقتصاديا في الغرب ، ومنه اشتقّ مؤخرا مخدّر
«الكراك» الذي
ينتشر بين أوساط الزنوج الأميركيين وبشكل «وبائي» قاتل. وتشمل آثار هذه المادة
السامة على الجسم الإنساني : الارتفاع المفاجئ لضغط الدم ، سرعة خفقان القلب ،
تعطيل انتظام الدورة الدموية ، واحتمال إصابة القلب بالذبحة أو التضخم. وللمادة
أيضا آثار وخيمة على الجهاز التنفسي ، إذ أنها تعرض الرئتين للفشل المفاجئ ، وبسبب
ذلك حظيت مؤخرا بتسمية «أتوستراد نحو السماء» في الأوساط الطبية ، بعد أن كانت
تعتبر الأخف والأقل ضررا ، بين المواد المخدّرة في الستينات.
٢
ـ الهرويين : وهي أخطر المواد المخدّرة ، يتعرض متعاطيها للإدمان الدائم
، حيث تؤدي إلى حالات من الهلوسة والنشوة الدائمة ممزوجة بنعاس ورقاد ثقيل يصعب
إيقاظ المدمن منه. وقد ارتبط اسم هذه المادة السامة بحالات الموت المفاجئ ، التي
تحدث عبر طرق ثلاث : السكتة القلبية ، أو التلف الرئوي ، أو الفشل التنفسي الحاد.
ومن نتائجها المباشرة أيضا ، الالتهابات الجرثومية : الجلدية والقلبية والكبدية
والصدرية والعظمية وإصابة الكليتين بالفشل والتلف ، بالإضافة إلى آثار مهلكة على
العضلات والأعصاب والشرايين.
٣
ـ الماريجوانا : وقد انتشرت بين الأوساط الثقافية الغربية في الستينات
وأوساط الفرق الموسيقية الشابّة ، والرسامين والنحاتين والممثلين. تتميّز عن غيرها
من المواد المخدّرة بأن لها آثار عميقة ودقيقة بنفس الوقت على أجهزة الجسم «الأساسية»
مما أخّر اكتشاف آثارها ، ودفع البعض إلى الاعتقاد بأنها غير ضارّة. وأهمّ هذه
الآثار فقدان المناعة المكتسبة الذي يعرّض الإنسان إلى الكثير من الالتهابات
والخلل الوراثي في الكروموزومات الذي يؤدي إلى عاهات وتشوّهات جسدية في أجنّة
الشابات المدمنات ، كما
أنها تؤدي إلى
ازدياد كبير في احتمالات حدوث انفصام الشخصية. والجدير بالذكر أن إحدى الإحصائيات
الغربية الأميركية المتداولة قدّرت أنّ ٧٠ خ من الشباب ما بين الثامنة عشرة
والخامسة والعشرين تعاطوا هذه المادة أو أدمنوا عليها في المدارس أو الجامعات ،
وأنّ الذين لم يقلّدوهم بذلك اعتبروا خارجين عن المألوف!
أخيرا ، حري بنا
أن نلفت النظر إلى أنّ الشرع الإسلامي بأحكامه الإلهية الصارمة والحاسمة في موضوع
الاتجار والتعاطي بالمخدّرات ، ساعد بشكل أساس على عدم تفشّي هذه الآفة في معظم
مجتمعاتنا الإسلامية ، وعلى الرغم من عدم التزام معظم الحكومات والأنظمة
بالتشريعات المقدّسة. ومن الملاحظ في المدة الأخيرة أنه كلما اقتربت دولة من
التشريع الإسلامي كلما ابتعدت عنها هذه الآفة ، وقلّ تأثيرها وتناقصت آثارها.
آفة الكحول
تعاني المجتمعات
الغربية بشكل عام ، من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تسببها بشكل
مباشر أو غير مباشر ، آفة تناول الكحول واستهلاكها. ورغم ازدياد الحملات التوجيهية
الداعية إلى التخفيف من تناول واستهلاك المشروبات الروحية ، فإن تناولها يزداد
يوما بعد يوم ويتفشى في جميع طبقات المجتمع دون تمييز بين الأعمار والمستويات
الاجتماعية والطبقية. أما الذي يقلق السلطات والمراجع الصحية والاجتماعية ، حاليا
، فهو استهلاك المراهقين وحتى بعض الأطفال لكميات شديدة الضرر والأذى بالنمو
والصحة والتربية والوعي الاجتماعي بشكل عام. وتشير الإحصائيات المتداولة في السنين
الأخيرة إلى أنه حوالي ال ٩٠ خ من الأشخاص (رجالا ونساء) الذين تتجاوز أعمارهم ال
١٨ سنة يقومون بتناول الكحول بشكل مستمر واعتيادي في المجتمعات الغربية ، وكأن ذلك
عادة اجتماعية طبيعية وأمر واقع لا محالة فيه ، حتى أنه بات من الغريب والمستغرب
ومن الشذوذ أيضا أن يبادر الشخص إلى الامتناع عن ذلك لغير سبب صحي ويخالف بذلك
القاعدة العامة السائدة.
وعلى سبيل المثال
وللدلالة على المدى الذي بلغه تفشي هذه الآفة في المجتمعات الغربية المتحضرة ،
تقدر بعض الإحصائيات الأمريكية أنه هناك ، الآن ، حوالي العشرة ملايين مصاب بداء
الكحولية المزمن ، في
الولايات المتحدة
فقط ، وأكثر من سبعة ملايين يتناولون الكحول بشكل يؤدي إلى ضرر أكيد بالصحة
وبالعلاقات الاجتماعية ..
نظريات حول أسباب
الإدمان :
تتحدث بعض
النظريات السيكولوجية عن بعض الأسباب المتعلقة بأمور نفسية بحتة كمحاولة الهرب من
الواقع المؤلم المليء بالمشاكل والمصاعب اليومية ، أو محاولة الابتعاد عن الروتين
الدائم والتخلص من الضغط النفسي ، والبحث عن حالات الارتخاء والراحة والنشوة التي
يظن المدمنون أنهم بالغوها عبر تناولهم هذه السموم ، أو مما نشهده حاليا ، عند
المراهقين من اعتقادات باطلة ، تجعلهم متوهمين بأن تناول الكحول هو انطلاقة تحررهم
من قيود العائلة والمجتمع وبدء تبلور قدراتهم على جميع الأصعدة!
وتتحدث بعض
النظريات الطبية عن عوامل وراثية وبيئية تساعد على دفع الإنسان إلى حالة الإدمان
على الكحول عبر خلل وراثي في الجينات أو عبر خلل بيئي في العائلة والمحيط
الاجتماعي. لكن تلك النظريات بقيت من دون تحديد مكان الخلل في الجينات المصابة
مثلا ، من دون تحديد أسباب الخلل وكيفية نشوئه.
نتائج الإدمان على
المجتمعات الغربية :
١ ـ نتائجه على
اقتصاد الدول :
يعود تناول الكحول
والإدمان عليها على اقتصاد المجتمعات الغربية بأزمات عديدة ، بشكل مباشر وغير
مباشر. ونستطيع إيجاز هذه الأزمات المتعددة الأوجه والمدلولات بالأمور التالية :
أ ـ التغيب
المتقطع أو المستمر عن العمل ، وخاصة بعد انتهاء العطلة الأسبوعية أو الأعياد السنوية
؛
ب ـ فقدان التركيز
والوعي والمراقبة وهبوط مستوى الإنتاج الفكري والمادي بشكل مستمر وتصاعدي عند
المدمنين ، وبشكل متقطع ومتزايد عند الذين يتناولون الكحول ولم يدمنوا عليه بعد ،
مما يؤدي إلى الكثير من حالات الطرد من العمل والبطالة ؛
ج ـ ازدياد حالات
الحوادث داخل العمل وخارجه بسبب عدم التركيز وحالة التخدير التي يعيشها المدمن
وتمنعه من مراقبة أعماله وأقواله وتحركاته ، مما يؤدي إلى ازدياد الدعاوى والشكاوى
وطلبات التعويض وغيرها ؛
د ـ حوادث السير
وهي أهم هذه الأزمات وأكثرها تأثيرا على جميع الأصعدة الاقتصادية المتعلقة
بالسياحة والأشغال العامة والنقل والأجهزة الصحية والقضائية والأمنية والإعلامية.
والملفت للنظر أن هذه الأزمات رغم كل الحملات التربوية والإعلامية لمحاولة تفادي
تناول الكحول قبل قيادة السيارات والحافلات أو عندها ، لم تتراجع بل تزداد تضخما
يوما بعد يوم ، ولا تخلو الوسائل الإعلامية عند نهاية كل عطلة أسبوع من الحديث عن
ذلك ونتائجه على الأرض. والجدير بالذكر أن تناول الكحول (وليس فقط الإدمان عليها)
هو السبب المباشر لحوالي ال ٧٠ خ من حوادث السير المستمرة في المجتمعات الغربية (في
بعض الدول كإسبانيا مثلا تصل النسبة إلى حوالي ال ٩٠ خ من حوادث السير).
٢ ـ آثاره على
العلاقات والعوامل الاجتماعية :
تناول الكحول
والإدمان عليها من أهم الأسباب المذكورة في كل
لوائح الأمراض
الاجتماعية على جميع أصنافها. فآفة الكحول ، في المجتمعات الغربية ، هي من أكثر
العوامل الهدامة وأكبرها على صعيد العلاقات العائلية والزوجية ، ومن أعتى السموم
فتكا على صعيد العوامل النفسية وأمراضها وانحرافاتها وشذوذها. وعلى سبيل المثال
يعرف في الغرب أن الكحول هي السبب الأول لحالات الخلل والتفكك العائلي ، من مشاكل
بين الأب وأولاده أو بين الولد وأبويه أو بين الرجل وزوجته أو بين الأولاد ببعضهم
البعض. ويعرف أيضا أن الكحول هي الدافع المباشر لمعظم حالات اليأس والانهيار
النفسي والمعنوي وما يسببه ذلك من محاولات انتحار أو هروب من البيت أو العمل أو
الواقع ، أو انحرافات نفسية مرضية كانفصام الشخصية والشذوذ والضياع.
ومن أكثر آثار
الكحول أهمية وأعظمها واقعا على المجتمعات الغربية بشكل عام هي مساهمتها المباشرة
وغير المباشرة في تفشي الأمراض الاجتماعية الأكثر ضررا بالقيم والأخلاق والتربية
والمجتمع بشكل كامل ، كالسرقة والقتل والاغتصاب والدعارة وغيرها.
٣ ـ آثاره على
الصحة :
قبل البدء بالحديث
عن هذا القسم ، لا بد لنا أن نذكر أن الكحول مادة سامة في المفهوم الطبي ،
وتناولها والإدمان عليها يعرضان الجسم الإنساني لحالات تسمم تتراوح ما بين الحالات
الحادة والحالات المزمنة. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نقسم الآثار والعوارض
والإصابات بين القسمين التاليين :
أ
ـ حالات التسمم الحاد : وتؤدي إلى حد انهيار تام وكامل في وظائف الجهاز العصبي المركزي ، كما تؤدي
إلى خلل وتلف في المعدة
والكبد (من
التهابات متعددة وقروح مختلفة). وهذه الحالات الحادة بالذات هي السبب المباشر
لأكثر من ٧٠ خ من حوادث السير في المجتمعات الغربية بالإضافة إلى أنها عبر إصابتها
الجهاز العصبي المركزي بشكل شامل ، يمكن أن تؤدي إلى الموت المفاجئ عبر وقف الحركة
التنفسية وانقطاعها.
ب
ـ حالات التسمم المزمن : وتؤدي إلى خلل بطيء في جميع أنسجة الجسم وأعضائه ، وبالأخص في الكبد والمعدة
والقلب. وتؤدي إصابة الكبد إلى تلفه شيئا فشيئا وتليفه وتعرضه حينئذ لاحتمالات
نشوء أورام خبيثة ، علما بأن تليف الكبد أو الCIRRHOSIS
هو السبب التاسع للوفاة في الولايات المتحدة مثلا ، وهذا يعني أن الكبد لا ينتظر
حتى تنشأ الأورام الخبيثة ليقضي على صاحبه وينهى حياته. ويمكن أن تؤدي إصابة
المعدة وتلفها إلى الموت مباشرة عبر نزيف حاد ناشئ عن التهاب أو قرحة فيها. أما
القلب فيصاب بحالة من التضخم تؤدي عبر الأيام إلى الإضرار بوظائفه وإيقافها في
النهاية. وعلى سبيل الذكر والتنبيه تكثر هذه الأيام نصيحة طبية مزيفة مفادها أن
تناول كميات قليلة من الكحول تزيد من مادة الHDL
الدهنية التي تحمي القلب والأوعية الدموية من الإصابة بالنشفان والتكلس ، وهذا
صحيح! لكن الحقيقة المقابلة لها تفيد أن هذه الكميات بالتحديد تؤدي عبر إيذائها
الكبد إلى نقصان هذه المادة وإلى ازدياد حالة الإصابة بالنشفان والتكلس كنتيجة
لذلك ، هذا بالإضافة إلى أن هذه الكميات تساعد في ارتفاع الضغط الدموي وتساهم عبر
ذلك بالمزيد من الضرر والأذى للقلب والأوعية الدموية.
ومن العوارض
الأخرى نذكر نقصان وافتقاد الفيتامين ١ B
في المدمنين المزمنين ، مما يؤدي إلى خلل الأعصاب. وهناك ازدياد احتمال الإصابة
بالتهاب البنكرياس
وتلف العضلات المزمن. والنتائج الأكثر ضررا وإيذاء ، نراها عند تناول المرأة
الحامل للكحول وعندها تزداد احتمالات التخلف في النمو والتخلف العقلي في المواليد.
أما علاقة الكحول
بالسرطان فهي أكثر وأكبر من أن تذكر وأن تعرّف لأنها علاقة مباشرة وبشكل خاص ،
خاصة مع سرطان الشفة والفم والمريء والبلعوم والرئة والأمعاء الغليظة والبنكرياس
والكبد والمرارة.
وفي الختام نذكر
ما قاله أحد العلماء يوما ما حول موضوع تناول الكحول والإدمان عليها ، ومفاده أنه
إذا كان التسمم الحاد بالكحول يؤدي إلى فقدان الباخرة لقبطانها فإن التسمم المزمن
يغرقها.
نظرة الإسلام حول
الموضوع :
أمّن الإسلام
بتحريمه تناول الكحول ، كثيره وقليله ، تحصين المجتمع بجميع طبقاته من الأمراض
الناتجة عن هذه الآفة ، واقتلع ، بجعله رجسا ، كل الأوهام والاعتبارات المختلفة
حول ذلك ، من جذورها. وبذلك قام الإسلام عبر قوانينه الإلهية الحاسمة الحازمة بعزل
العاصين لذلك النهي ، وأقام الحدود عليهم ليمنع تفشي هذه الآفة ويزيل عدواها
الاجتماعية ، من دون شروط أو اعتبارات ، ومن دون تلكؤ في إصدار الأحكام الشرعية.
الانحرافات الخلقية في المجتمعات الغربية
تتعدد الانحرافات
الخلقية وتتنوّع متخذة أشكالا ووجوها مختلفة في المجتمعات الغربية وفي غيرها من
المجتمعات التي قلّدت ثقافاتها وعاداتها ومعتقداتها تقليدا أعمى. وقد أصبحت هذه
الانحرافات بجميع أشكالها علنية أو معلنة ، بشكل فردي وجماعي ، وصارت تتمحور حول
حركات ومجموعات ثقافية واجتماعية ، في معظمها فاعلة اجتماعيا وحاضرة سياسيا بشكل
باتت معظم الأحزاب الغربية تأخذ قوتها الانتخابية بعين الاعتبار (كما حصل مؤخرا في
حملة الرئيس بيل كلينتون الانتخابية في الولايات المتحدة). وسنعالج في هذا البحث
بعضا من وجوه الآثار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والصحية لهذه
الانحرافات على المجتمعات الغربية ، وغيرها من المجتمعات المستعمرة ثقافيا (كمجتمعات
دول شرقي آسيا وشرقي أوروبا وأميركا الجنوبية).
أولا : آثار
الانحرافات والشذوذ على الصعيد الصحّي :
تنعكس هذه
الانحرافات والأفعال الشاذّة على هذه المجتمعات بشكل متفاقم ومأساوي جدا ، كانت
حصيلتها الأخيرة ظهور مرض «الإيدز» أو «نقص المناعة المكتسب» الذي اختار مجموعة
لتكون هدفه الأول والأسهل.
وقد أصيبت هذه
المجموعات بنكسة عميقة وكبيرة عند ما اكتشفت
هشاشة حالتها
المزرية وازدياد نمو معدلات الوفاة فيها بشكل تصاعدي بارز. وأخذت تكثر الدراسات
العلمية الوقائية التي ركزت على سبل الوقاية ودفع الأخطار في المجموعات الشاذة من
دون نتيجة فعالة إلى الآن سوى النصح بتجنب وتفادي الأفعال الشاذة دفعا لأخطار
العدوى والانتقال الوبائي.
وتنقسم الأمراض في
المجموعات الشاذة إلى نوعين : الأول جرثومي بحت ، والثاني نفسي متنوع ومختلط تشترك
عوارضه وتختلط مع عوارض القسم الأول وتتطور أحيانا لتتسبّب بأمراض عضوية حادة
ومزمنة في الجهازين العصبي والتنفسي خاصة. وتتشعب الأمراض الجرثومية إلى أنواع
عديدة ومختلفة وتنقسم إلى أربع مجموعات كبيرة هي :
أولا
: الفيروسات : كفيروس الإيدزHIV ، والHERPES
، والHPV والCMV.
ثانيا
: البكتيريا : كالTREPONEMA (باكتيريا السفلس) ،
والNEISSERIA والMYCOPLASMA
والCHLAMYDIA.
ثالثا
: الطفيليات : كالTRICHOMONA والGIARDIA.
رابعا
: الفطريات : كالCANDIDA.
أما الأمراض
النفسية فتتصاعد وتتدرج من حال الكآبة والاكتئاب النفسي إلى أحوال الانفصام الشخصي
والهوس والميل إلى تعاطي مواد الإدمان والميل إلى الانتحار ، وتتسبب أيضا بخلل
عصبي هام يمكن أن يؤدي إلى ضعف ووهن في جميع الأجهزة الحيوية. ويؤدي نقص المناعة
ووهنها في الأشخاص المنتسبين إلى المجموعات الشاذة ، إلى أورام خبيثة
في الجهاز أو
النسيج اللمفاوي LYMPHOMA (كما لوحظ مؤخرا في
مجموعات المنحرفين المصابين بمرض الإيدز حيث إنهم أصيبوا بأورام خبيثة جدا في
الدماغ) وفي الأنسجة الجلدية ـ في الأطراف السفلى ـ KAPOSY
,S SARCOMA.
ثانيا : على
الصعيدين الثقافي والاجتماعي :
تنتشر الانحرافات
الخلقية والعادات الشاذة في أوساط النخبة الثقافية والفنية في الغرب. ويتغنى
المنحرفون بوجود «رواد» لهم في أوساط الشعراء الكبار في أوروبا (كلوركا ، رامبو ،
فيرلين ، وأوسكار وايلد) وفي أوساط الممثلين المشهورين (كروك هيدسون الذي توفي
مؤخرا بسبب إصابته بالإيدز ، وايرول فلين) ، وفي أعضاء الحركات الموسيقية والأدبية
والفنية بشكل عام. وكثيرا ما يلجأ المنحرفون إلى «روّادهم» و«عرّابيهم» في الأوساط
العامة البارزة لكي ينظّموا معهم حملات دعم وتأييد ومطالبة بالحقوق والمساعدة (كالحملات
التي أقيمت لجمع تبرعات لمرضى الإيدز) وتسبب هذه الأمور حالات من الإحراج
والاضطراب للحكومات والأوساط التربوية والكنسية ، فالأطفال والمراهقون يستدرجون
إلى الانحراف والشذوذ عبر محاولة «الولاء والتقليد» و«المحاكاة» لهؤلاء المشهورين
والمحبوبين لديهم ، وكثيرا ما تتأثر الحركات الطلابية والشبابية الداعية إلى
التمرد والتغلب على التقاليد والعادات والأطر العائلية والاجتماعية ، بهذه
الانحرافات ، معتقدة أنها بذلك تسعى لتحقيق أهدافها الثورية و«مقلدة» بعض أعلام
الشعر والفكر والفن الغربي المعاصرين.
وتتنوع الآثار على
الصعيد الاجتماعي ، فمن الخلل والاضطراب في الأطر العائلية إلى حالات التشرذم
والتسكع والتسول والبطالة السلبية (حينما
يرفض الشاذون
مجالات العمل ، ويهيمون وينتظمون ضمن مجموعات ضالة مضادة للمجتمع). وينعكس ذلك
سلبا على الأمن الاجتماعي فتزداد معدلات الجريمة والأخص المنظمة منها ، وتزداد
أرقام معدلات الانتحار والتشرد والإدمان.
ثالثا : على
الصعيدين الاقتصادي والسياسي
تتأثر المؤشرات
الاقتصادية بكل ما يزيد من معدلات البطالة والتشرد والتغيب عن أماكن العمل بسبب
المرض أو غيره ، وبنقص النشاط الجسدي والعقلي في مراكز العمل ، وكل هذه من العوامل
التي أشرنا إليها سابقا تتفاقم عبر السنين ، وتزداد خطرا وشراسة (وخاصة بعد ظهور
مرض الإيدز) في المجموعات المنحرفة والشاذة. وقد بدأت الحكومات تأخذ بعين الاعتبار
التخلص أو التخفيف من أعباء هذه الآثار لما تجلبه من ويلات على الصعيدين العام
والخاص على الخزينة الحكومية والميزانية العامة (وخاصة ميزانية الشئون الاجتماعية
والصحة والضمان الصحي والعمل وشئون العاطلين عنه). ولأجل ذلك ، بدأت تقوم بحملات
وقائية وإرشادية صحية واجتماعية صارت تختلف معاييرها من دولة إلى دولة ، ومن حزب
حاكم إلى حزب حاكم آخر ، بظل المعتقدات والمبادئ الأخلاقية فيها (يسارية كانت أم
يمينية) والعلاقة مع الكنيسة (سلبية كانت أم إيجابية).
ولكن ، وبالوقت
نفسه ، بدأت هذه الحكومات وعبر أحزابها الحاكمة بالتأثر والاهتمام بالقوة
الانتخابية لهذه المجموعات ، وأخذت تهتم أكثر فأكثر بمطالبها ، وصارت تسعى
لإرضائها بإدراج «حقوقها» في برامجها الانتخابية ، وبضمّ «مرشحيها» إلى لوائحها ،
مما أحدث خللا وتضاربا في الأهداف الصحية والاجتماعية من جهة ، والمصالح السياسية
من جهة أخرى.
وهكذا نرى كيف أن
المعايير التي يعتمدها الغرب في مواجهة مشاكله الداخلية والخارجية ، تؤدي به في
كثير من الأحيان وعلى المدى البعيد إلى مواجهة مشاكل جديدة أعمق وأعظم بكثير من
سابقاتها ، التي اعتقد بأنه قادر على التغلب عليها. فمعايير المصلحة السياسية
الآنية والجدوى الاقتصادية الذاتية واتباع الهوى والدوافع الخاصة وحبّ الاستعمار
والتسلط والتحكم والتزام مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» ، وعدم التزام أي مبدأ أخلاقي
ومعنوي وروحي سام ، كل ذلك أدى إلى تحطيم الأسس الاجتماعية الهشّة التي يحاول
الغرب دائما أمام الآخرين إظهار صورة لها مغايرة للواقع والحقيقة.
(أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩) [التوبة :
١٠٩].
المحور الرابع :
إضاءات على الإعجاز العلمي
في المقادير والآجال
ـ الوراثة وأسرارها ؛
ـ موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)
الرعد : ٨
(قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)
الطلاق : ٣
(يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ
ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨)
الانفطار ٦ ، ٧ ، ٨
(ما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)
الأحقاف : ٣
الوارثة وأسرارها
تضج المحافل
والأوساط العلمية والإعلامية ـ في الوقت الحاضر ـ بالحديث عن الاستكشاف
والاكتشافات العلميّة الحديثة في عالم الوراثة. فقد فاجأنا العلم الحديث بمبادئ
ونظريات وأسس جديدة لما يمكن أن يمهّد لقنبلة وراثية أو جينيّة هائلة ، ستغيّر
الكثير من حقائق العلم الحديث ومعالمه ، وستؤدي إلى الكثير من النتائج والانعكاسات
الكبيرة والحاسمة على جميع الصعد العلمية والاجتماعية والاقتصادية. ومن أهم هذه
النظريات الجديدة ، الاستنساخ ونظرية الخارطة أو المخزون الجيني. وبدأت المحافل
السياسية والاقتصادية والاجتماعية الاهتمام بشكل جدّي بنتائج وانعكاسات الاكتشافات
الجديدة ، وبدأت تتعاطى معها على أساس أنها واحدة من معالم المستقبل القريب ،
وأنها إحدى أسلحة الدولة الحديثة والمتقدمة على صعيد التطوّر العلمي والاجتماعي
والاقتصادي. وبدأ يحتدم النقاش حول إيجابيّات وسلبيّات هذه الأسلحة ، والمحاذير
الأخلاقية في تطبيقها ، والمخاوف من أخطار اجتماعية وبيئية وسياسية آتية ، إن
طبّقت هذه النظريات الجديدة بشكل غير مدروس ومقنّن. وصارت كل الأوساط المهتمّة
بالأمر تستقرئ الكوارث القادمة التي يمكن أن تهزّ المجتمعات البشرية بسبب سوء
استخدام تلك النظريات ، كالتفرقة العنصرية والإنجاب تحت الطلب ، وإنشاء «نماذج»
عضوية أو جسميّة بشرية مشوّهة ، أو لأغراض تجارية أو عسكرية أو سياسية خبيثة.
وسنحاول قدر
الإمكان الدخول شيئا فشيئا إلى عالم الوراثة وأسراره المتعددة ، لنفهم ما يحصل وما
يمكن أن يحصل في مجالات الاكتشاف العلمي وتطبيقاته ومبادئه ونظرياته المختلفة
والمتشابكة ، علّنا نفكّ بعض الرموز المعقدة ونسهّل الوصول إلى فهم مبسط لأسرار
الوراثة ومبادئها المعقدة.
الخلايا
والكروموسومات والجينات :
(لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) [التين : ٤].
خلق الله الإنسان
في أحسن تقويم ، وجعل في بدنه عدة أجهزة متراصة متشابكة مترابطة ، منها ، الجهاز
العصبي والتنفسي والهضمي والغددي واللمفاوي والعضلي والعظمي. وهي بدورها تتألف من
عدة أعضاء أساسية وأعضاء أصغر جانبيّة ، وزوائد وحواجز وسواند وفواصل وصلات وصل.
تشكّل هذه الأعضاء مجموعة أنسجة متراصة ومتماسكة ، لها أدوار وظيفية متعددة
ومتخصصة ، منها ما هو متعلق بالعضو نفسه ووظيفته ، ومنها ما هو متعلق بحماية العضو
ومساندته والدفاع عن وظائفه.
تتألف هذه الأنسجة
من بلايين الخلايا بأنواع متعددة ومختلفة ومتنوعة ، حسب الوظيفة الخاصة والعامة ،
وحسب المراحل المتعددة التي تمرّ بها ، وحسب الظروف العادية أو الطارئة المحيطة
بها. وهذه الخلايا مقدرة تقديرا بارعا ، إذ أنها تختلف بعضها عن بعض في التركيب
والوظيفة ، وتعيش وتموت ، ثم يتمّ تعويضها حسب الحاجات والظروف والأحوال.
(وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨] (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً) [الطلاق : ٣].
تعمل الخلايا
بنظام بديع فيه من الإعجاز والإبداع والبراعة ما يحيّر عقول ذوي الألباب ، إذ
تتألف كل خلية من قسمين رئيسيين ، هما : النواة ، أو مركز المعلومات والإدارة ،
واللبّ ، أو السيتوبلازم ، وتسبح فيه مجموعة من الأنظمة والأجهزة الدقيقة الشديدة
الإتقان ، منها الميتوكوندريات ، وهي مصانع الطاقة ، ومعقد غولجي ، وهو مركز
التجميع ، والأجسام الحالة (لايسوسومات) وهي وحدات التنظيف ، والشبكة
الأندوبلازمية أو مراكز تصنيع البروتينيات.
توجد في النواة
معظم الأسرار الوراثية التي دأب العلماء والباحثون على محاولة استكشافها وكشف
بواطنها وعلائقها وميزاتها. وما زالت الأبحاث والدراسات إلى الآن ، تطرق باب هذه
النواة بجميع الوسائل المتاحة لاستجلاء أجهزتها ومحتوياتها ونظمها المعقدة
والمركبة تركيبا بديعا ، فيها من الإتقان ما يعجز اللسان عن وصف ما اكتشف منها إلى
الآن في عصرنا الحاضر ، وهو القليل القليل مما يراهن على اكتشافه العلماء من آفاق
، في العصور القادمة.
تكمن أهمية النواة
في أنها ـ بالإضافة إلى كونها مركز إدارة أعمال الخلية ، وأنها المسيطرة على كل
أعمال الخلية وفعالياتها ـ تحتوي على النسخة الأصلية أو «الشيفرة» السرية
للمعلومات الحيوية المتوارثة من الآباء والأجداد.
تتركب النواة من
خيوط طويلة ودقيقة ومعقدة تسمّى «الكروموسومات» ، تتركب بدورها من أحماض نووية
تنتظم وتتشكل عبر تشكيلات وجزئيات ووحدات تتكرر بشكل منتظم وهندسي بديع ، يؤدي إلى
نشوء مجمّعات من الوحدات المتكررة والمتسلسلة والمرتبطة هندسيا بعضها ببعض ، تدعى
الجينات ، التي بدورها تعتبر الوحدة السرية الخاصة بتحديد الصفات والمزايا
الوراثية ، ونقلها.
كل خلية من خلايا
الجسم البشري تحتوي على عدد محدّد من الكروموسومات هو ستة وأربعون أو ثلاثة وعشرون
زوجا ، إلّا الخلايا التناسلية (الحيامن والبويضات) ، فهي تحتوي على النصف أي على
ثلاثة وعشرين فردا فقط.
تنتظم
الكروموسومات داخل النواة على شكل أزواج متقابلة ومتماثلة ، يأتي فرد من هذه
الأزواج من جهة الأب ويأتي الفرد الآخر من جهة الأم ، ويوجد في كل خلية زوج خاص
متميز من الكروموسومات المتخصصة ، يعرف بكروموسوم الجنس ، وهو المسئول عن تحديد
الجنس. هذا الزوج المتميّز والفريد يحتوي عند الأنثى على فردين متشابهين مثيلين
هما «س س» (أو باللاتينيةxx). أما في الذكر فيختلف الفردان
ليصبحا «س ص» (أو باللاتينيةyx). وهكذا نلحظ أن جنس الوليد يحدّده
نوع الحيمن المخصب للبويضة ، فهو إما يكون «س» ويخصب بويضة (بالضرورة س) فيأتي
الوليد أنثى (س س) ، وإما يكون ذكرا (ص) ، ويخصب بويضة (بالضرورة س) ، ويأتي
الوليد ذكرا (س ص) ، لأنه كما سبق وذكرنا ، كل بويضة تحتوي على نصف المجموعة
الكروموسومية ، أي على الكروموسوم «س» ، بالإضافة إلى الاثنين والعشرين كروموسوما
جسميا ، بينما تكون الحيامن على نوعين ، إما «س» ، أو «ص» ، بالإضافة إلى الاثنين
والعشرين كروموسوما جسميا.
ومن هنا يبرز
الإعجاز القرآني العظيم الذي علق عليه الكثير من العلماء والأطباء المسلمين وغير
المسلمين ، في الآية السابعة والثلاثين وما بعدها من سورة القيامة ، والتي وردت
فيها إشارة لطيفة في مسئولية الذكر في تحديد جنس الوليد.
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً
فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) [القيامة :
٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩].
فالإعجاز يكمن في
عبارتين ، مني يمني ، المتعلقة على أكثر الأحوال والتفاسير بالذكورة ، فجعل منه ،
المشيرة بشكل واضح إلى مسئولية الذكر في تحديد النسل ذكرا أم أنثى.
يتميّز كل كروموسوم
عن آخر بواسطة الحجم أو الشكل ، واعتمدت بعض التقنيات الحديثة في علم الخلايا
الوراثي ، على هذه الميزة لتحاول كشف هذا الاختلاف الخاص والتغيرات الدقيقة
والواضحة من كروموسوم إلى آخر ، ولتقدر على رصد كل تغيير ثابت مرتبط بتشوه خلقي
معين أو مرض معين أو أورام سرطانية محددة. وهنا يكمن السر الجديد الذي اعتمد
العلماء المعاصرون في كشفه عن نظرية الهوية أو الخريطة أو المخزون الجيني ، بحيث
أنهم عبر تشخيص التغيّرات الحاصلة في الوحدات المتكررة أو المكونة من أربعة عناصر
من البروتينيات :
١ ـ الأدينين A) Adenine) ؛
٢ ـ السيتوزين C) Cytosine) ؛ ٣
ـ الغوانين G) Guanine) ؛ ٤
ـ التايمين (Thymine) T.
يستطيعون تحديد
أمراض معينة والتعرّف إلى الأشخاص المعرّضين لها في المستقبل ، ومن ثم مقاومتها أو
الوقاية منها.
القوانين والمبادئ
والنظم الوراثية :
وضع المولى العزيز
في الكون وفي المخلوقات قوانين ومبادئ ونظم شديدة الدقة ، ومتناهية الكمال ، جعلها
آيات باهرة وهادية لجميع أبناء البشر ، وفي جميع الآفاق المحيطة بهم ، وفي جميع
الأشياء الكائنة معهم ، وفي بواطن أنفسهم. وقد أمر الخالق تعالى الإنسان بالرؤية
والمشاهدة والتأمّل والتبصّر والاعتبار أمام كل شيء في هذا الكون ، وحثّه على
السّير في الآفاق والأعماق والبواطن ، مستهديا مستنيرا متقصّيا عن كل صغيرة وكبيرة
في الأشياء وقوانينها ونظمها الدقيقة المذهلة ، ووعده بأن يكشف له كل الحقائق
والأسرار الدفينة إذا سار في هذا الطريق وسعى له ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ، وأعانه على تحقيق بعض الاكتشافات التي فتحت له آفاقا
جديدة في مجال العلم والبحث والمعرفة. ومن هذه القوانين والمبادئ والنظم الكونية
الدقيقة ، تعرّف الإنسان إلى بعض من قوانين الوراثة الباهرة ، التي أعانته على
تطبيق بعض النظريات في مجالات عدة. ولدقة هذه المبادئ المتناهية التعقيد وصعوبتها
وترابطها ، نكتفي بعرضها واستعراضها بطريقة مختصرة على الشكل التالي:
قانون تكاثر
الخلايا : بعد مرحلة التلقيح ، تجري سلسلة متعاقبة من الانقسامات تدعى بالانقسامات
الخيطية ، تستلم عبرها كلتا الخليتين الناتجتين ، العدد الكروموسومي نفسه للخليّة
الأصلية. ويتألف الانقسام الخيطي من أربع مراحل أو أطوار ، هي : الطور التمهيدي ،
والطور المتوسط ، وطور الانفصال ، والطور النهائي.
أمّا الانقسام
الاختزالي ، فإنه يتضمن انقسامين متتاليين يتمّ فيهما اختزال العدد الزوجي الوراثي
إلى عدد فردي وراثي عبر أطوار متتابعة تعاني خلالها النواة من تغيّرات مستمرة :
ـ الطور التمهيدي
، وفيه عدة أطوار ثانوية ، الطور القلادي ، الطور التزاوجي ، الطور الضامّ ، الطور
الانفراجي ، الطور التشتتي ؛
ـ الطور المتوسط ؛
ـ الطور الانفصالي
؛
ـ الطور النهائي.
قانون تصنيع
البروتيين ، أو مصادر الطاقة ، الذي يمرّ بعدة مراحل هي :
ـ استنساخ
المعلومات الوراثية بواسطة الحامض النووي الرسول (ر ن أ) أو (R.N.A) ؛
ـ انتقال الرسول
إلى الرايبوزومات أو مراكز التجميع لترجمة المعلومات المستنسخة ؛
ـ إنجاز ترتيب
سلسلة الأحماض الأمينية ؛
ـ تشكيل الهيكل
الأساس للبروتيين.
قانون تخزين
المعلومات الوراثية :
تخزن كل معلومة
وراثية على شكل ثلاث درجات متسلسلة من درجات السلم الحلزوني للحامض النووي (د. ن. أأوD.N.A) ، ويطلق عليها اسم «الشفرة الوراثية». وعند ما تحتاج
الخلية إلى إنتاج مادة معينة يطلق الحامض النووي بداخل النواة مجموعة من التعليمات
، وكأن في داخل النواة مجمّعا صناعيا متكاملا مبرمجا بشكل تلقائي عالي الدقة ،
وبمنتهى الذكاء والإعجاز ، ويحار المرء ويعجز لسانه وعقله وفكره عند ما يحاول فكّ
رموز هذا المعمل
التكنولوجي الضخم الذي وضعه الخالق القدير في أصغر شيء في الوجود لا يمكن رؤيته
إلا عبر مجهر إلكتروني عظيم ذي مقدرة تكبيرية عظيمة.
قانون
وراثة الصفات : وفيه ثلاثة مبادئ ونظم مختلفة :
١ ـ وراثة الصفات
المتغلبة ، عند ما نرث جينات أقوى من غيرها ، تنتقل بقوة من جيل إلى جيل ، ناقلة
الصفات أو الأمراض ؛
٢ ـ وراثة الصفات
المتنحّية ، عند ما نرث جينات «عاطلة» أي ليس لها تأثير في الجسم ، فهي مشوّهة
لكنها تنتقل «متخفية» من جيل إلى آخر حتى تجتمع بشركاء لها من الزوج الآخر ، فتسبب
الخلل أو المرض في الوليد المشترك ؛
٣ ـ وراثة الصفات
المرتبطة بالجنس ، عند ما ينتقل الجين المشوه عبر الإناث ليصيب الذكور كمرض نزيف
الدم الوراثي ، فالمرأة تنقل المرض إلى أولادها الذكور ليصابوا به من دون أن تعاني
هي منه (إلا في الحالات النادرة).
التطبيقات العلمية
الحديثة في عالم الوراثة :
اكتشف الإنسان
بعضا من أسرار هذا العلم الواسع الدفين في أصغر الأشياء على الإطلاق ، وأخذ يطبق
ما يكتشفه في مجالات الطب الحديث كالمناعة وأمراض الدم والأمراض النسائية والتوليد
والبحث التشخيصي للسرطان وغيرها.
ومن أبرز الأبواب
والمواضيع التي دخلها الإنسان في العصر الحديث معتمدا على بعض قوانين ومبادئ
وأنظمة هي :
ـ المعالجة
الكيميائية للجينات أو الهندسة الوراثية ، حيث تمكن العلماء من نقل قطع من مواد
وراثية معينة ، إلى عناصر بكتيرية وزرعها وتحقيق مضاعفتها وتكاثرها ، لصنع وإنتاج
بروتينيات معينة كالهرمونات والمضادات الحيوية واللقاحات ؛
ـ علم تحسين
الأنواع ، حيث تمكن العلماء من زراعة نبات كامل من خلية خضرية واحدة بعد زراعتها
في وسط غذائي اصطناعي ملائم ؛
ـ التلقيح
الاصطناعي أو أطفال الأنابيب ، حيث تمكن العلماء من تخصيب بويضة الأم في أنبوبة
اختبار ، ومن ثم زراعة بويضة الأم المخصّبة في رحمها ، لتنمو بعدها وتصبح جنينا ؛
ـ
الاستنساخ ، حيث
تمكن الباحثون من إنتاج نماذج وعينات من الأجناس الحيوانية عبر استنساخ جينات
وراثية لفصيلة حيوانية معينة ومحددة بهدف إنتاج فصائل متكاملة ومتشابهة تفي
بالأغراض الاستهلاكية (ككثرة الشحوم واللحوم وغزارة الحليب في الحيوان المستنسخ) ؛
ـ
الخارطة الجينية ،
حيث تمكن الباحثون من رصد التغيّرات الحاصلة في الجينات الوراثية والمرتبطة ببعض
الأمراض والعاهات ، إذ تمكنوا من تأليف خارطة جينية ، فيها كل الدلائل والبينات
والإشارات لجميع الأمراض ، كالسرطان والتشوّهات الخلقية وأمراض الغدد وغيرها ،
وذلك بهدف الوقاية المبكرة والمعالجة الفعالة وإصلاح الخلل قبل انطلاق المرض
وتفاقمه.
المحاذير
الأخلاقية والاجتماعية والمخاطر المحتملة لسوء استخدام واستغلال هذه التطبيقات :
عهد الخالق القدير
إلى الإنسان الأمانة ، وحثّه على الاستزادة من المعرفة والتبحّر في دراسة الأشياء
التي وضع فيها آياته الباهرة ودلائل إعجازه ، وأمره بالتعرّف إلى نفسه وإلى ما
يحيط به من موجودات وكائنات ليستشفّ منها النظم الخلاقة البديعة ، والقوانين
والأسباب الظاهرة والخفية ، والمبادئ والأسس التي وضعت وجبلت وعملت عليها الأشياء
، بهدف الوصول إلى اليقين والسعادة والكمال. كل ذلك مع تذكيره دوما بالأمانة
والوفاء وحفظ العهد ومسئوليته في ذلك ، والحفاظ على الموجودات والكائنات واحترام
وجودها وعدم العبث بقوانينها ونظمها. فحينما يبدأ الإنسان بعد اكتشافه سرا عظيما
أو كنزا دفينا ، بالتفريط به والعبث بموجوداته واستغلاله في أمور غير محسوبة ، أو
ذات نوايا سيئة ، حتما ستنقلب القوانين عليه ، وتحل عليه اللعنة ، ويخسر كل شيء.
فكما حصل للإنسان بعد اكتشافه السرّ النووي واستخدامه في تدمير الآخرين وسوء
استغلاله في الصناعات والتكنولوجيا ، وتسبّبه بكوارث كثيرة مميتة ، حدثت وما زالت
تحدث بسبب الإشعاعات النووية ، يمكن للإنسان أن يواجه كوارث أعظم وأعمّ ، إذا أساء
استغلال القوانين الوراثية ، وأخذ عن جهل أو عن سوء نية في استغلالها ، في صنع
أسلحة جرثومية فتاكة ، أو في إنتاج «جيوش» من جنس بشري «مهندس» وراثيا على أساس
عنصري خبيث ، أو في إنشاء موجودات أو كائنات مشوّهة لمجرد اللعب والعبث وإثراء
الخيال ، كدمج المخلوقات بعضها ببعض ، أو اقتطاع أجزاء منها أو تجميعها في كائنات
مشوّهة وغير طبيعية.
ومن المعروف أيضا
، ومن الثابت تاريخيا ، أن هنالك علماء سوء وأنظمة سوء وشركات سوء ، يمكن أن تبدأ (ومن
الممكن أن تكون قد بدأت فعلا) في استغلال هذه القوانين البديعة ، والأسرار المبهرة
، والآيات الرائعة في تحقيق أهدافها الخبيثة ، عسكرية كانت أم سياسية ، استهلاكية
أم اقتصادية ، والكارثة القادمة ، إذا حصل فعلا الاستغلال الخبيث ، لن تكون جانبية
أو ثانوية ، ونتائج الإفساد لن تكون مرحلية ، بل ستعمّ الطامّة الجميع لأن الضرر
والتدمير والفتك سيشمل الكلّ ، ولن توفر نتائجه أحدا.
(يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ
ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)) [الانفطار : ٦ ، ٧
، ٨].
(قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا
يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣) [عبس : من ١٧
إلى ٢٣].
موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى
مقدمة :
شهدت الأوساط
العلمية مؤخرا اهتماما متزايدا باكتشاف علمي بارز طغى على معظم المؤتمرات العلمية
المتخصصة خاصة في علوم الخلايا والبيولوجيا الجزيئية والأورام والباتولوجيا
والأجنة وغيرها من العلوم الدقيقة. وقد لاقت الأبحاث المقدمة حول الموضوع رواجا
متزايدا لما طرحته من نظريات وشروح ومفاهيم مفترضة تتناول أمورا شديدة الأهمية ،
كتشخيص وعلاج الأورام أو سبر أغوار العوالم الفسيولوجية لمراحل تشكل الجنين وأسباب
الشيخوخة وعمل أجهزة المناعة والغدد والهرمونات وغيرها من العوامل الأساسية في
حياة الإنسان.
تعريف :
انطلاقا من المبدأ
العلمي المشهور القائل بأن لكل خلية وقتا محددا لحياتها ووقتا محددا لمماتها ، فإن
المعروف علميا وحتى وقتنا الحالي أن الخلايا تموت بعد تعرضها لعاملين محددين:
أولا : تلقي ضربات
خارجية أو عوامل ضارة تقتل الخلية ؛
ثانيا : تلقي
أوامر داخلية بالموت أو بالانتحار المبرمج.
تواجه الخلية
الموت في هاتين الحالتين بشكل مختلف تماما وبطريقة مغايرة جدا ، ففي الحالة الأولى
تمر الخلية بتغيرات تتضخم فيها شيئا فشيئا حتى تنفجر ويتسبب انفجارها بجر خلايا
المناعة الآكلة إلى مكان تواجدها والقضاء عليها وعلى بقاياها.
أما في الحالة
الثانية وهي الأكثر غرابة ودقة وإعجازا ، يصغر حجم الخلية بشكل بارز وتتراكم
مكونات نواتها على بعضها البعض ، ثم تظهر فيها شقوق تتحول إلى أجسام صغيرة ميتة
مبعثرة لا تشد إليها خلايا المناعة لتتولى القضاء عليها كما في الحالة الأولى بل
تقوم هي بإماتة نفسها أو بما يصفه الباحثون بالانتحار المبرمج للخلايا.
أسباب موت الخلايا
المبرمج :
تحدث ظاهرة الموت
الخلوي المبرمج في كثير من الحالات والأوضاع الحساسة التي يحتاج فيها الجسم إلى
تغيرات كبيرة وحاسمة في النمو العضوي أو في عمل الأنسجة وعمليات الأجهزة الدقيقة ،
إما لإحداث تسريع أو تكثيف في عملها وإما لإحداث تراجع أو ضمور فيها حسب ما
تستدعيه الظروف والأوضاع.
تتجلى ظاهرة الموت
الخلوي المبرمج بكل مظاهرها المتعددة في مشاهد متنوعة ومختلفة ، تتعدد فيها
الأسباب من حالة إلى حالة ومن ظرف إلى ظرف حتى تتحقق الأهداف الكامنة من ورائها ،
وأكثر ما يبرز فيه عمل الظاهرة وأسبابها وأهدافها هو في الأمور والظروف التالية :
ـ إزالة الأنسجة
والخلايا الزائدة في أطراف وأعضاء الجنين لإعطائها الشكل النهائي المعروف ،
كاندثار الأنسجة والخلايا الزائدة بين أصابع
اليدين والرجلين
عند الجنين قبل ظهور شكلها المعروف وأعدادها الخماسية النهائية ؛
ـ إزالة الأنسجة
التابعة لغشاء بطانة الرحم الداخلية عند وصول المرأة البالغة إلى مرحلة الطمث من
الدورة الشهرية ؛
ـ إزالة الحواجز
الناشئة عن وجود خلايا زائدة بين الخلايا العصبية في الدماغ لتسهيل عمليات الاتصال
فيما بينها ؛
ـ تحفيز ضمور
الغدد الثديية عند الأم المرضع بعد بلوغ مرحلة الفطام والحاجة لعودة الأنسجة
لحالتها الأولى وحجمها الطبيعي ؛
ـ ظاهرة الموت
المبرمج أو الانتحار الخلوي الذي يصيب أحيانا الخلايا السرطانية في بعض حالات
الأورام ؛
ـ إصدار الأوامر
الداخلية بالانتحار أو الموت المبرمج لخلايا المناعة بعد تأدية مهماتها الوظيفية
أو لمنع بعضها البعض من مهاجمة أجهزة وأنسجة الجسم الداخلية ؛
ـ الإسهام في ضبط
عمليات تسريع تكاثر الخلايا في الأنسجة حسب الظروف والحاجيات وحسب تطلبات الجسم ،
خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة الهرمونات ؛
ـ ظاهرة انتحار
الخلايا المصابة ببعض أنواع التلوث الفيروسي وذلك للحد من انتشار المرض ؛
ـ موت الخلايا
المصابة بآثار رفض الأنسجة المزروعة وذلك لمنع التلف الناتج عن انتشارها ؛
ـ موت بعض أنواع
الخلايا المصابة بتأثيرات مرضية معينة كالتأثيرات السرطانية وذلك بعد تعرضها لبعض
الإشعاعات أو الأدوية الخاصة أو بعض درجات الحرارة ؛
ـ موت الخلايا
المصابة بأعطال أو أضرار في أحماضها النووية لتفادي حصول تشوهات خلقية وتكاثر
سرطاني.
السؤال الكبير :
الحري بنا وبعد
وصف هذه الظاهرة ببعض من جوانبها وأشكالها ومهماتها وأهدافها المعروفة والمكتشفة
حتى الآن أن نسأل وبشكل بديهي عن المسئول الأول عن وضع هذه البرامج العجيبة داخل
كل خلية لتصدر لها الأمر بالموت أو الانتحار عند حصول أي طارئ وحسب الظروف
الملائمة التي تقتضي ذلك.
من الذي أبدع خلق
هذه البرامج ووضع الخطط المناسبة لها ولمحيطها ، والمهمات الملائمة للظروف
والأحوال ، والأهداف المعقدة الشديدة التعقيد بجميع أشكالها المتعددة والمختلفة؟
من الذي وضع هذه
البرامج الدقيقة والمتنوعة في كل خلية على صغر حجمها المتناهي في الصغر ، وعظم
عددها المتناهي في الكبر ، وعلى تنوع مشاربها واختلاف وظائفها وتعدد طرق توزيعها
وتكاثرها وانتشارها؟
من هو المهندس
الأعظم الذي صمم وصنع ونظم ونسق هذه البرامج لتكون في كل خلية ، وجعل لها وقتا
معلوما وهدفا معلوما وظرفا معلوما وسببا معلوما وأجلا مسمى تماما كما هو الأجل
المسمى الذي وضعه الخالق البديع لكل شيء خلقه ، صغيرا كان في الكون كالإنسان ،
عظيما كان في الكون كالسماوات والأرض وما بينهما؟
قال الله العزيز
القدير في كتابه الكريم :
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) [الروم : ٨].
(ما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف : ٣].
(اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد: ٢].
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧) [غافر : ٦٧].
وهكذا تتجلى
العظمة الإلهية بكل أبعادها المتناهية في الإبداع والدقة والإعجاز والجمال في أصغر
الأشياء حجما ودورا ووظيفة ، كما هي متجلية في أعظم المخلوقات اتساعا وقوة وعلوا ،
وبنفس النوعية في الهدف والصورة والصيرورة ، وبنفس الشكل في البهاء والإتقان
والقدرة.
وكأنما الخالق
العظيم المتعال يريد من مخلوقه السفلي الضعيف ، هذا الإنسان الذي كرمه بالعقل
وبالتعقل أن ينتبه لحكمته تعالى في الخلق ، ويتأمل في طريقته في الخلق ، ويتفكر في
إبداعه المعجز ، ويعقل الأهداف الكامنة وراء ذلك ، ويوقن به ، ويشهد له بالربوبية
كما تشهد له جميع الأشياء وكل سلسلة المخلوقات بذلك ، من أسفلها إلى أعلاها ، ومن
أولها إلى آخرها ، ومن أصغرها إلى أكبرها.
الخاتمة :
إضاءات على الإعجاز العلمي
في علاقة الإنسان بالكون
ـ الحركة الكونية للإنسان .. في الحج ؛
ـ النظر والتفكر في المشهد الكوني.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
النور : ٤١
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)
آل عمران : ١٨
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ)
آل عمران : ١٩٠
الحركة الكونية للإنسان .. في الحج
لو تسنى للإنسان
يوما ما أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض ويصل إلى مكان يستطيع منه مراقبة الكون
المتسع بانتظام ورصد حركته العجيبة في أصغر مكوناته حجما وفي أكبرها مساحة ؛ لذهل
عقله لشدة التناسق ودقة التناغم ، وانفرط لبه لعظمة الإبداع والترابط والإعجاز.
فالكون كل الكون
بكل أجزائه ومكوناته وأطيافه يتحرك في أفلاك دائرية بالاتجاه نفسه من يسار ليمين
أو عكس عقارب الساعة بانتظام موزون وبسرعة غير مضطربة تفاجئ المتأملين في حركة
الإلكترونات حول النواة ، وتدهش الباحثين في حركة المجرات حول بعضها البعض وفي
الاتجاه نفسه. ولو تسنى للإنسان في موسم الحج أن يرصد حركة الطائفين حول الكعبة
المشرفة ويستشرف السماوات من حول الأرض ليرقب حركة الشمس والقمر وحركة الكواكب
والنجوم وحركة المنظومات والمجرات لوقع بصره على أعظم مشهد كوني وأجمل سر تكويني
مكتشف إلى الآن.
يطوف الحاج حول
الكعبة المشرفة في أشواطه السبعة وعكس عقارب الساعة بكل جوارحه وأعضائه وحواسه
ومشاعره وبكل خلاياه وجزيئياته وذراته ومكنوناته. ولو تسنى لهذا الحاج أن يستشعر
ما يجري من حوله ومن فوقه ومن تحته على الأرض التي يطوف فيها وفي السماوات التي
تحيط به لأدرك سرا من أسرار عبادته المتناغمة والمترابطة مع حركة الكون
كله من أصغر
مكوناته إلى أعظم مجراته. ففي أصغر الأشياء حجما وأدقها إنشاء تدور الإلكترونات
حول نواة الذرة في سبع مدارات وعكس عقارب الساعة ، وتدور الأرض بكل ما فيها من
يابسة وبحار وجبال وطبقات وغلاف جوي حول نفسها وحول الشمس في حركة دائرية وعكس
عقارب الساعة.
ولو تمكن الحاج في
أشواط طوافه السبعة وعكس عقارب الساعة من إدراك ما يجري من حوله في السماء الدنيا
لوجد أن القمر أيضا يدور حول الأرض وحول نفسه وحول الشمس بأطواره السبعة وبالاتجاه
نفسه ، كما تدور الكواكب السيارة حول نفسها وحول الشمس وبالاتجاه ذاته ، وتدور
الشمس حول نفسها وبنفس الاتجاه أيضا ، وكذلك نجوم المجرة وكذلك المجرة نفسها وكذلك
المجرات كلها .... ولاكتشف أخيرا أن الكون من حوله يدور معه ويطوف ويسبح في أفلاك
دائرية وبالاتجاه نفسه من يسار إلى يمين وفي نفس الوقت بأقصى تناغم وانسجام وأجمل
ترابط وائتلاف.
(لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠) [يس : ٤٠].
الإعجاز العلمي
للطواف :
الطواف حركة
دائرية متوازنة ومرتبطة بمحور وسطي بالغ الأهمية يشد الطائف حوله بقوة جاذبة هادئة
متزنة ، ويفرض عليه مشاعر الهيبة والاحترام ممزوجة بمشاعر الرجاء والطمأنينة.
فالطائف حول الكعبة المشرفة يشعر في أعماق نفسه بالانشداد القوي لما هو على يساره
من مكان مشرف عامر بالقداسة والآيات البينات ، ويستشعر الهيبة والخشوع والسلام
وينغمر في جو من الطمأنينة الخالصة تنسيه كل آلامه وهمومه وأحزانه.
وهكذا بالإضافة
إلى كل ما يعرف إلى الآن عن المؤثرات الدينية والتاريخية والبيئية والاجتماعية
والعلمية البالغة الأهمية للمكان (كتوسط مكة المكرمة لليابسة على الكرة الأرضية ،
ووقوعها على خط الطول الحقيقي أو الأساس الذي يقسم العالم إلى قسمين متماثلين)
التي تضفي عليه وعلى الطائفين فيه هالات عظيمة من الأمن والأمان والسلام والسعادة
الروحية والاستقرار ، تأتي ظاهرة الحركة الدائرية للكون الحديثة الاكتشاف لتعطي
بعدا واسعا آخر لهذه العبادة المتناغمة مع الأفلاك ، يجعلها على مستوى من الإعجاز
العلمي تحار فيه العقول والألباب وتفتح أمام الإنسان المتعبد آفاقا لا حدود لها من
السعادة واليقين.
لم يعرف الإنسان
قبل هذا الاكتشاف نشاطا عباديا كالطواف ، يمنحه إمكانية التآلف والانسجام المطلق
مع حركة الكون ويعطيه القدرة على محاكاة ما عرف حتى الآن من السنن الكونية وأعظمها
جمالا وسحرا وإعجازا. ولذلك ورغم ضآلة حجم الإنسان وصغر أبعاده الدنيوية أمام
أبعاد الكون المديدة وأحجامه اللامتناهية ينتقل هذا المخلوق البشري الضعيف بواسطة
هذه العبادة العظيمة إلى أرفع مستويات المعرفة الكونية فيتناغم مع كل أجزاء هذا
الكون الرحب ليشهد على أن خالقه وخالق كل هذا الكون من أصغر أجزائه إلى أكبرها
...... هو ذاته تعالى واحد أحد صمد.
الإعجاز العلمي
للعدد سبعة :
يتكرر ذكر العدد
سبعة في معظم المراحل الأساسية من عبادة الحج ، كأشواط الطواف السبع وأشواط السعي
السبع والحصيات السبع في المرات السبع من رمي الجمار ، كما يتكرر العدد نفسه في
الكثير من المفاهيم العبادية والآيات القرآنية والسماوات السبع والأرضين السبع
والمثاني السبع
والمسبحات السبع
ومواضع السجود السبع. والمعجز في الأمر أن العدد نفسه يتواجد ويتكرر في كثير من
مفاصل الحياة والخلق والعالم والكون بشكل عام ومن أصغر مستوى في الخلق إلى أعلى
مستويات الوجود. فالمدارات التي تستعملها الإلكترونات للدوران حول نواة الذرة سبعة
، وألوان الضوء الأبيض سبعة وإشعاعات الضوء غير المرئي سبعة. وأنواع الموجات
الكونية الكهرومغناطيسية سبعة وأيام الأسبوع سبعة. أما الكرة الأرضية فإنها تكون
من سبع طبقات وسبع قارات وسبع محيطات وفيها سبع معادن رئيسية ولغلافها الجوي
الخارجي سبع طبقات ويمر القمر في سبع مراحل أو أطوار وللنجوم سبعة أنواع.
وهكذا يقف الإنسان
بمؤلفاته الجسمية السبعة (الذرة ، الجزيء ، الجين ، الكروموسوم ، الخلية ، النسيج
، العضو) وبأطواره الجنينية السبعة (السلالة ، النطفة ، العلقة ، المضغة ، خلق
العظام ، كسو اللحم ، الخلق الآخر) وبمراحله أو أحواله السبعة (الجنين ، الطفل ،
الشاب ، الكهل ، الشيخ ، الميت ، المبعوث) ليتأمل في خلقه وفي خلق الكون من حوله ،
فيكتشف الأسرار والسنن والقوانين والأنماط التي لا تدل إلا على حقيقة مطلقة واحدة
هي وحدانية الخالق وإبداعه المعجز في كل الصعد وعلى كل المستويات.
الإعجاز العلمي
لمكة والكعبة المشرفة :
تقع مكة المكرمة ،
كما أثبت العلماء الجيولوجيون والجغرافيون المسلمون المعاصرون ، في وسط اليابسة
على سطح الكرة الأرضية كما تقع على خط الطول الأساسي أو الحقيقي الذي يقسم العالم
إلى قسمين متماثلين. وتتميز أيضا بحرارتها الأرضية العالية وصخورها البركانية
القادرة
على امتصاص
الصدمات والزلازل. كما تتواجد فيها آيات وظواهر وميزات مختلفة وفريدة يصعب حصرها
ويصعب فهم دلالاتها الكاملة لإعجازها الكامن في أبعادها المتعددة. وعلى سبيل
المثال لا الحصر نذكر هنا الموقع المتميز والفريد للكعبة المشرفة حيث تقع الأركان
الأربعة في الاتجاهات الأصلية تماما وبدقة فائقة (الركن الشمالي في الشمال ،
والركن الجنوبي في الجنوب ، والركن الشرقي في الشرق حيث تسطع الشمس على الحجر
الأسود ، والركن الغربي في الغرب) ، وحركة الطيور حولها وعدم اعتلائها لها ، ومقام
إبراهيم عليهالسلام الذي انغرزت فيه قدماه في صخر أصم شديد القسوة ، والخصائص
الشفائية والبيولوجية العجيبة لبئر زمزم الفريدة والمستديمة منذ القدم ورغم مرور
آلاف السنين. وأخيرا وليس بآخر ظاهرة الحجر الأسود وطبيعته النيزكية الفريدة.
وهكذا تجتمع هذه
الظواهر الإعجازية ، ما نعرفه منها وما لا نعرفه ، وما نراه فيها وما لا نراه ،
لتلتقي جميعا مع حركة الإنسان العبادية في الحج ومع حركة الكون التوحيدية ، وتشهد
مع بعضها البعض وفي كل بعد من أبعادها المتعددة المهام والوظائف ، وفي نفس الوقت
وبكل تناغم وتآلف وترابط ، على أن خالقها وخالق ما حولها وما قبلها وما بعدها هو
الذي جعلها على هذا النمط من الإعجاز والجمال والفرادة لتسبح كل الأشياء من حولها
بحمده تعالى وتشكر له.
النظر والتفكر في المشهد الكوني ...
جسر العبور إلى الحقيقة
خلق الله ـ جل
وعلا ـ الإنسان وجعله عاقلا ناطقا مدركا ومنحه القدرة على تحسس الأشياء ومراقبتها
وتدبر تفاعلاتها وأسبابها وعلائقها ، مستجيبا لنداء داخلي فطري دائم. كما منحه
المقدرة على السيطرة ـ بإذنه تعالى ـ على بعض مكنونات الأشياء ومحاكاة بعض سننها
وقوانينها والعمل على استغلال مكتشفاته في هذا المجال ، شيئا فشيئا ، في تطوير نظم
حياته وتحسين ظروف عيشه والسعي دوما لتحقيق الأحسن والأفضل والأكمل والأمثل.
نظر الإنسان إلى
الكون منذ بدء الخليقة وتأمل بالنجوم والكواكب التي سحرته وأثارت فيه الكثير من
الأسئلة ، وشاهد الظواهر الكونية التي أذهلته كالرياح والشهب والرعد والبرق
والأمطار. كما راقب الحوادث والأهوال التي أخافته وأرعبته كالزلازل والبراكين
والأعاصير ، وأخذ يبحث عن الأجوبة لأسئلته المضطربة وراح يرصد الأشياء ويدقق فيها
وفي تفاعلاتها ويفحص ويمحص ويتدبر ويستخلص النتائج والدلائل والبراهين وصار يجرب
ويعيد التجربة ويكررها ويستدل بها ليصل إلى ما يزيل قلقه واضطرابه وخوفه وجهله ،
معتمدا على ما جبل عليه من تطلع لمعرفة الحقيقة والبحث عن نفسه وعن آثار خلقه في
كل شيء حوله.
الدعوة إلى التأمل
في الخلق والحث على النظر والتفكر في مكونات وظواهر المشهد الكوني :
قال الله تعالى في
كتابه الكريم : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١].
وقال عز من قائل : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٨٥].
أمر الله جل وعلا
الإنسان بشكل صريح ومباشر بالسير في الأرض والنظر في الخلق والتفكر والتأمل
والتدبر والتثبت والتمحيص والتدقيق في الفحص والرصد والمراقبة ، كل ذلك في سبيل
استخلاص العبر واستنباط النتائج واستخراج الدلائل ومحاولة الإجابة عن الأسئلة
واكتشاف القوانين والسنن والأسرار المحيطة بالخلق والمخلوقات والحياة والموت
وأبعاد ومكنونات الكون. قال الله عزوجل : (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت : ٢٠].
وقال في سورة الغاشية : (أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ
كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) [الغاشية :
١٧ ـ ٢٠].
لقد وردت في سورة
الواقعة عدة آيات متتابعات بدأت بعبارة (أَفَرَأَيْتُمْ) وحثت بشكل قوي وحاسم وبكلمات حملت فيما حملت معاني التذكير
والتنبيه والتحدي والأمر بالتفكر وتحليل وتقدير العوامل والظروف والظواهر الحياتية
والطبيعية والكونية المحيطة بالإنسان ، للوصول تباعا إلى استنباط النتائج
والقوانين والتثبت من حقيقتها والقبول بها بعد تدبرها ، ومن ثم بلوغ درجة التسليم
والرضى مع ما يستتبع ذلك من الشكر والتنزيه والتسبيح:
(أَفَرَأَيْتُمْ ما
تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)
إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨)
أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩)
لَوْ
نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠)
أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣)
فَسَبِّحْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) [الواقعة :
٥٨ ـ ٧٤].
أما في سورة آل
عمران فقد ورد ذكر أولي الألباب الذين بلغوا أعلى درجات الإيمان ومقامات العبادة والذكر
والتسليم عبر التفكر في الآيات المحسوسة في نظم خلق السموات والأرض وحركة اختلاف
الليل والنهار ليصلوا بعدها إلى فهم الغاية من الخلق واكتشاف عظمة الخالق وإدراك
الحقائق المتعلقة بالحياة والإيمان والرسالات والموت والآخرة :
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ
مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) (١٩٤) [آل عمران :
١٩٠ ـ ١٩٤].
معالم المشهد
الكوني ... محطات للعابرين على جسر الحقيقة :
يزخر المشهد
الكوني منذ بدء الخليقة بمظاهر ومعالم ومضامين
متعددة الأبعاد
والأوزان والوظائف ، ومن شتى الأنواع والسبل والفعاليات وعلى مختلف الصعد والنسب
والجوانب. وحفل الكون باتساعه المستمر وتمدده الهائل في جميع أبعاده المعروفة
والمجهولة بخصائص وروابط ومراحل ودورات متتابعة ومنتظمة ومتداخلة ومتناسقة ضمن
حركة عجيبة لا تحد ولا تحدد ، مضبوطة على إيقاع بديع فريد فهي في نفس الوقت عظيمة
السرعة وعظيمة الثبات وشديدة القوة وشديدة التوازن وهائلة الطاقة وهائلة التقدير ،
لا حدود لمساراتها ولا تحديد لكنهها ولا راصد لأبعادها.
وللعابرين على جسر
الحقيقة محطات لا متناهية للنظر والتأمل والتفكر والتعقل في حدود ما أدركه الحس
والعقل من البعدين المرئي والمعقول لأبعاد الكون المحتملة أو المتوقعة أو المتصورة
دون الأبعاد الأخرى غير المدركة أو المجهولة. فالأرض التي يحيا عليها الإنسان
ويتحرك ويتفكر ويسعى لمراقبة ما حوله من عوالم وأسرار ، جزء متناهي الصغر من
مجموعة تعج بالكواكب والكويكبات والأقمار عرفت بالمجموعة الشمسية التي تشكيل
بدورها جزءا بسيطا من المجرة التي تحتوي على أكثر من أربعمائة ألف مليون نجم مشابه
أو مماثل لكوكب الشمس في المجموعة الشمسية ، مع ما يتبع ذلك من كواكب وكويكبات
وأقمار. وهذه المجرة جزء متناهي الصغر من عنقود مجري محلي يشكل بدوره جزءا بسيطا
من العناقيد المجرية العظمى البالغة الكبر والسرعة والاتساع والتباعد والتي تسبح
وتدور وتطوف حول محاورها في جزء بسيط من السماء الدنيا!
لقد وردت في
الكثير من آيات القرآن الكريم إشارات لطيفة وبديعة وصريحة حول بعض من هذه المظاهر
والمعالم والسنن الكونية ، بطريقة تنبيهية وتذكيرية وتحفيزية لمشاعر الإنسان
وأحاسيسه وأفكاره ، ولتدفعه
لسلوك طريق التفكر
والتدبر والتعقل والتأمل بكل أبعاد وآثار وآفاق هذا الكون الرحيب ، جاعلة من ذلك
الأمر عبادة خاصة وعالية الشأن لذوي الإيمان المطلق من أولي الألباب :
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠].
ولهذه المحطات
التي تأسر لب الواقف على جسر العبور إلى الحقيقة والتي استطاع الإنسان حتى يومنا
هذا سبر بعض من أغوارها المرئية أو المحسوسة أو المعقولة ، مظاهر ومشاهد زاهية
زاهرة باهرة تشد الأبصار والعقول والقلوب والأنفس والأرواح إلى عوالم لا متناهية
ولا حدود لها من الجمال والبهاء والروعة.
المحطة الأولى :
الوحدة المتجانسة والتماثل الشمولي :
قال الله جل وعلا
في سورة الملك ، في الآيتين ٣ و ٤ : (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤).
يتميز الكون بوحدة
متكاملة متجانسة وبتوحد خصائصه المترابطة كما يتمتع بصفات متماثلة وشاملة ،
فالمجرات تنتشر بصورة متجانسة من دون تجمعات في أماكن محددة دون غيرها ، وهي
متناسقة في حركاتها ومتماثلة في خواصها وتنطبق عليها نفس السنن والقوانين والمبادئ
الشاملة التي يخضع لها الكون ، وهي تشهد بذلك بكل أجزائها الموحدة وبكلها المتجانس
المتماثل على وجود خالق واحد ورب واحد ومدبر واحد.
المحطة الثانية :
الاتقان بجمال والتقدير بإحصاء :
قال عز من قائل : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ) [النمل : ٨٨].
وقال الله جل وعلا
في سورة السجدة ، الآية ٧ : (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، وفي سورة الفرقان ، الآية ٢ : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) ، وفي سورة الجن ، الآية ٢٨ : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).
كل شيء في الكون
مخلوق بإتقان ومصبوغ بجمالية لا حد لها من شدة الدقة والإبداع وكل شيء في الكون
أيضا مقدر بتقدير محكم ومحصى لا حد له من شدة الإحكام والإحصاء.
برزت مظاهر هذا
الإبداع المحكم أو الإحكام المبدع في الكثير من الدراسات الفلكية والأبحاث الجيولوجية
والمناخية المعاصرة والتي لم تستكمل بعد ولم تغطي إلا القليل القليل من ظواهر
الكون المعروفة حتى الآن ، فالتبادل بين الظلمة والنور على سبيل المثال أو ما يعرف
بالمصطلح القرآني ب «آيتي الليل والنهار» فيه من الإتقان والتقدير والإحصاء ما
يذهل العقول ، فهو «جهاز تحكم» شديد الدقة يضبط درجات الحرارة والرطوبة وكميات
الضوء الضرورية وحركات الأمواج والسحب والرياح ونزول المطر وتكون التربة والصخور
وتخزين الثروات الأرضية وغيرها من العمليات الحياتية الأساسية والكثير الكثير من
الأمور المجهولة إلى الآن.
المحطة الثالثة :
الحركة النمطية في الكون :
(لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٣٩].
كل شيء في الكون
يتحرك والكون كله بدوره يتحرك بجميع أجزائه
ومكوناته وأشكاله
ومقوماته من أصغرها حجما إلى أكبرها مساحة ومن أرقها دقة إلى أعظمها أثرا ، ومن
أقلها أهمية إلى أكثرها فعالية. وكل ما في الكون «يسبح» في أفلاك دائرية وفي
مستويات ومدارات و«طرائق» و«طبقات» متماثلة وبنفس النمطية المتكررة في سلسلة
الأجزاء الكونية من أصغر المكونات إلى أكبرها لتشهد على صنع خالق واحد أحد وتسبح
لوحدانية الخالق.
هكذا وفي نفس
اللحظة التي ترصد فيها المراصد الفلكية العظيمة دوران الكواكب السيارة حول الشمس
وحول نفسها من يسار إلى يمين (عكس عقارب الساعة) ودوران الشمس حول نفسها وحول مركز
مجرة «درب التبانة» من يسار إلى يمين أيضا ، ودوران نجوم المجرة والمجرة نفسها
وبالاتجاه ذاته وكذلك دوران المجرات حول بعضها البعض ، تكشف أدق التقنيات المجهرية
الذرية عن دوران الإلكترونات حول نفسها وحول نواة الذرة من يسار إلى يمين عكس
عقارب الساعة.
المحطة الرابعة :
نسبية الزمن وزوجية الطاقة والمادة :
قال الله عزوجل : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) [المعارج : ٤].
وقال في سورة الحج في الآية ٤٧ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).
أشار القرآن إلى
اختلاف الزمن في الحالات المختلفة ، وهكذا هو ، فهو في الأرض غيره في الكواكب
الأخرى وغيره في النجوم وهكذا دواليك ، وهو واحد من أزمنة أخرى مختلفة منتشرة في
الكون ومرتبطة بظروف أمكنتها وكتلتها ومحيطها الخارجي وسرعة حركتها.
إن مادة الكون
ليست ميتة بل تكمن فيها طاقة يمكن أن تكون هائلة إذا تهيأت لها الظروف والأسباب.
وهذا الاقتران أو الزوجية أو الطبيعة الثنائية نجده أيضا في الذرة حيث تدور
إلكترونات ذات شحنة سالبة حول نواة فيها بروتونات ذات شحنة موجبة. وهكذا في غير
ذلك من الأسس والأشياء والمضامين والظواهر في الخلق والمخلوقات.
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩].
المحطة الخامسة :
الخلق بالحق والأجل المسمى :
قال الله جل وعلا
في سورة الأحقاف في الآية ٣ : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى). وقال في سورة الروم في الآية ٨ : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وفي سورة الزمر في الآية ٥ : (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).
بعد ازدهار وتوسع
مدى الأبحاث والدراسات الفيزيائية والفلكية حول مبدأي «بداية الكون» و«نهاية الكون»
المترابطين بنظرية «الانفجار الكوني» الذائعة الصيت في الأوساط العلمية وبعد تأكيد
الدراسات الرياضية والفيزيائية والفلكية لظاهرة توسع الكون وتباعد المجرات عن
مجرتنا وعن بعضها البعض ، تبين للباحثين وللساعين لكشف الحقائق الكونية أن
القوانين التي تحكم الكون بكل أجزائه وحركته وقواه وكتلته المرئية وغير المرئية
تدير كل ذلك ب «الحق» و«أجل مسمى». فالكون مصمم بتصميم مسبق من غير صدفة ، وبتنظيم
منسق من غير فوضى وبإحكام وانسجام من غير تنافر ، والقوانين التي تحكمه شديدة
الدقة لا زيغ فيها ولا عبثية ولا تضارب ولا
اختلاف. وقد برهنت
الحسابات الفلكية والفيزيائية أن الانفجار الكوني الذي أسس لبداية الكون قدر له
وصمم بشكل ما وبطريقة ما جعلته وقضت عليه أن لا يكون مخربا أو مدمرا أو مشتتا أو
مبعثرا للمواد والطاقات والإشعاعات بل جعلته وقضت عيه أن يكون منظما ومهندسا
ومبرمجا وجامعا ومتآلفا ليقدر على تأليف المجرات وأجزائها. ولقد صرح في هذا المجال
أحد أبرز الباحثين في موضوع الانفجار الكوني العالم البريطاني المعروف «بول ديفز»
قائلا : «لقد دلت الحسابات أن سرعة توسع الكون تسير في مجال حرج للغاية ، فلو توسع
الكون بشكل أبطأ بقليل جدا عن السرعة الحالية لتوجه إلى الانهيار الداخلي بسبب قوة
الجاذبية ، ولو كانت هذه السرعة أكثر بقليل عن السرعة الحالية لتناثرت مادة الكون
وتشتت الكون ، ولو كانت سرعة الانفجار تختلف عن السرعة الحالية بمقدار جزء من
مليار مليار جزء لكان هذا كافيا للإخلال بالتوازن الضروري ، لذا فالانفجار الكبير
ليس انفجارا اعتياديا ، بل عملية محسوبة جيدا من جميع الأوجه وعملية منظمة جدا».
ولأن الكون يتوسع
باستمرار وبسرعة كبيرة ، لأن مادة الكون انتشرت في كل اتجاه بعد حدوث الانفجار
الكوني الهائل ، فإن الكون سيواجه الفناء أو النهاية عند حلول «الأجل المسمى» عند
ما ستتباطأ سرعة التوسع بفعل قوة الجاذبية فتنكمش وتتقلص أجزاء الكون وأجسامه
ومجراته وتعود لتتركز ، كما كانت ، في النقطة المركزية الكونية الأولى ، أو عند ما
يستنفذ الكون وقوده عبر عمليات الإشعاع ، وتتحول النجوم والمجرات إلى قبور عظيمة
وثقوب هائلة.
خلق الكون لكي
يعرف ويكتشف ويستكشف ولكي يعرف أيضا من
خلاله ومن خلال
تقصي تكويناته وتركيباته وتشكيلاته إبداع خالقه وجلاله وجماله ، حتى تتحقق في
النهاية شروط الوصول إلى جسر الحقيقة وتنعقد في قلب وعقل العارف المستكشف مسببات
الإيمان وومضات الإقرار ومشاعر التسليم واليقين. ولكي يقف الإنسان الباحث عن
المعرفة على محطات هذا الجسر ويبدأ بعملية بحثه وتقصيه واستشرافه واستنباطه ، عليه
أن يعرف نفسه أولا ويتسلق درجات السلم المعرفي معتمدا على فطرته وتفكره وتعقله
ومتأملا بالآفاق حوله ، سابرا أغوار كل مجهول أمامه مستقرئا كل سر من الأسرار حوله
ومستشرفا أنوار شمس الحقيقة المحتجبة خلف الغيوم فوقه.
(قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت : ٢٠].
المراجع
ـ القرآن الكريم.
ـ تفسير ابن كثير.
ـ تفسير الجلالين.
ـ تفسير الميزان.
ـ أسرار الكون في
القرآن ، الدكتور داود سلمان السعدي ، دار الحرف العربي.
ـ أسرار خلق
الإنسان العجائب في الصلب والترائب ، الدكتور داود سلمان السعدي ، دار الحرف
العربي.
ـ القرار المكين ،
الدكتور مأمون شقفة ، مطبعة دبي.
ـ الآداب الطبية
في الإسلام ، جعفر مرتضى العاملي ، منشورات جامعة المدرسين.
ـ الطب في القرآن
، د. محمد جميل الحبّال ود. وميض رمزي العمري ، دار النفائس.
ـ العلوم في القرآن
، د. محمد جميل الحبّال ود. مقداد مرعي الجواري ، دار النفائس.
ـ من علم الطب
القرآني ، د. عدنان الشريف ، دار العلم للملايين.
ـ من علم النفس
القرآني ، د. عدنان الشريف ، دار العلم للملايين.
ـ من علوم الأرض
القرآنية ، د. عدنان الشريف ، دار العلم للملايين.
ـ من علم الفلك
القرآني ، د. عدنان الشريف ، دار العلم للملايين.
ـ الرسالة الذهبية
، د. محمد علي البار ، دار المناهل.
OBSTETRICAL AND
GYNAECOLOGICAL PATHOLOGY, Fox and Wells.
Forth Edition. Chrchill Livingstone.
ـ Pathologic
Basis of Disease, Robbins, Saunders.
ـ OXFORD
Textboock of Pathology, McGee, OXFORD.
ـ ACKERMAN'S
Surgical Pathology, Rosai, Mosby.
ـ Essential
Pathology, Rubin and Farber, Lippincott.
ـ Pathology of
Human Neoplasms, Azar, Raven Press.
ـ Diagnostic
Surgical Pathology, Sternberg, Raven Press
الفهرس
إهداء........................................................................... ٧
مقدمة المؤلف.................................................................... ٩
افتتاحية / مدخل :
جدليّة العلاقة بين العلم والإيمان................................ ١١
العلم والإيمان
.. إلى أين؟..................................................... ١٣
المحور الأوّل :
إضاءات على الإعجاز العلمي في الخلق والتقويم........................ ٢٥
«الجينوم البشري ... أو خريطة الجينات الوراثية للإنسان»......................... ٢٧
عالم التكوين البشري......................................................... ٣١
الجهاز اللمفاوي............................................................. ٤٣
المحور الثاني : إضاءات على الإعجاز العلمي في الأمر والتقدير........................ ٥١
الحمل ... يقي من السرطان................................................... ٥٣
الرضاعة .. آية من آيات الخالق وهديته الكبرى إلى الأم ورضيعها................... ٥٩
القواعد الذهبية في الوقاية من الأورام السرطانية................................... ٦٥
المحور الثالث : إضاءات على الإعجاز العلمي في النهي والتحذير..................... ٧٥
حياة الإنسان المهددة ... بين مطرقة الإسراف الاستهلاكي وسندان
الإفساد البيئي... ٧٧
آفة المخدّرات................................................................ ٨٥
آفة الكحول................................................................ ٩١
الانحرافات الخلقية في المجتمعات الغربية.......................................... ٩٧
المحور الرابع :
إضاءات على الإعجاز العلمي في المقادير والآجال..................... ١٠٣
لوراثة وأسرارها............................................................. ١٠٥
موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى......................................... ١١٧
الخاتمة : إضاءات على
الإعجاز العلمي في علاقة الإنسان بالكون................... ١٢٣
الحركة الكونية للإنسان .. في الحج........................................... ١٢٥
النظر والتفكر في المشهد الكوني ... جسر العبور إلى الحقيقة..................... ١٣١
المراجع....................................................................... ١٤١
الفهرس...................................................................... ١٤٣
|