بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٩٦)


(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) جملة مستأنفة مسوقة لتقريرما قبلها من قبائح اليهود ، وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها ، والخطاب إما لسيد المخاطبينصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما لكل أحد يصلح له إيذانا بأن حالهم مما لا تخفى على أحد من الناس. والوجدان متعد لاثنين أولهما (أَشَدَّ) وثانيهما اليهود وما عطف عليه كما قال أبو البقاء ، واختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر ومحط الفائدة هو الخبر ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين فليفهم. و (عَداوَةً) تمييز ، واللام الداخلة على الموصول متعلقة بها مقوية لعملها. ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك ، وجوز أبو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا ، والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يهود المدينة وغيرهم. ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وفي لفظ «إلا حدث نفسه بقتله» وقيل : المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد. وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا ، والمراد من الناس كما قال أبو حيان الكفار أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء ؛ ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم‌السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم. وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان ، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى كان ، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة : ٩٦] إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص.

وقيل : التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم ، ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه أخصر للمبالغة في الذم. وقيل : ليكون على نمط (لِلَّذِينَ آمَنُوا) والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة ، وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) روما لزيادة التوضيح والبيان ، والتعبير بقوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام.

وقال ابن المنير : لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم : ادخلوا الأرض المقدسة قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] والنصارى لما قيل لهم من أنصاري إلى الله؟ قالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [آل عمران : ٥٢ ، الصف : ١٤] وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عزوجل (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة : ١٤] لكن ذكر هاهنا تنبيها على انقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود. وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه والعدول كما قال شيخ الإسلام عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا : ولتجدن أضعفهم مودة إلخ ، أو بأن يقال أولا : لتجدن أبعد الناس مودة للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما في أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر والكلام في مفعولي (لَتَجِدَنَ) وتعلق اللام كالذي سبق ، والمراد من النصارى على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه : وابن جبير ، وعطاء ، والسدي النجاشي ، وأصحابه.


وعن مجاهد أنهم الذين جاءوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب ، وأبرهة ، وإدريس ، وأشرف ، وتمام ، وقثم ، ودريد ، وأيمن ، والظاهر العموم على طرز ما تقدم (ذلِكَ) أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا (بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي بسبب أن منهم (قِسِّيسِينَ) وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم. والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب ، وقيل : القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم. وقيل : قص الأثر وقسه بمعنى. وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة (١) وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة ، وكان الأصل قساسسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا. وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحدا على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس (وَرُهْباناً) جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبة والرهبانية ، وقيل : إنه يطلق على الواحد والجمع ، وأنشد فيه قول من قال:

لو عاينت (٢) رهبان دير في قلل

لأقبل الرهبان يعدو ونزل

وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون ، والترهب التعبد في صومعة ، وأصله من الرهبة المخافة ، وأطلق الفيروزآبادي. والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة ، وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام» والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف. وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها ، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها ، والتنكير في (رُهْباناً) لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود.

(وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود ، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة. وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كان (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) عطف على (لا يَسْتَكْبِرُونَ) و (إِذا) في موضع نصب بتري ، وجملة (تَفِيضُ) في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع ، وجوز السمين وغيره الاستئناف ، وأيّا ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه. والظاهر عود ضمير (سَمِعُوا) للذين قالوا إنا نصارى.

وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم ، وقيل : يتعين هنا إرادة البعض ، وهو من جار من الحبشة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن كل

__________________

(١) قوله وقسيسة كذا بخط مؤلفه تبعا للقاموس والذي في شرحه ان الصواب قسيسية كما نص عليه الليث.

(٢) قوله لو عاينت كذا بخط مؤلفه والمعروف من كتب اللغة لو كلمت.


النصارى ليسوا كذلك ، والفيض انصباب عن امتلاء ، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلئ من الدمع أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في الكشاف. وأراد على ما في الكشف أن الدمع على الأول هو الماء المخصوص وعلى الثاني الحدث ، وهو على الأول مبدأ مادي وعلى الثاني سببي. وفي الانتصاف أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعا فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز ، والثالثة ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل ، وجوز الزمخشري أن تكون ـ من ـ هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقأ زيد من شحم فليفهم (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ مِنَ) الأولى لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالا من (الدَّمْعِ) أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق. وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم.

وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضا لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق (مِنَ) هذه ومن في (مِنَ الدَّمْعِ) القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد ، و (مِنَ) الثانية للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة ، أو لبيان ما بناء على أنها موصولة ، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول. وقرئ «ترى أعينهم» على صيغة المبني للمفعول (يَقُولُونَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل : ما ذا يقولون؟ فأجيب يقولون : (رَبَّنا آمَنَّا) بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما.

وقال أبو البقاء : إنه حال من الضمير في (عَرَفُوا) ، وقال السمين : يجوز الأمران. وكونه حالا من الضمير المجرور في (أَعْيُنَهُمْ) لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧].

(فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي اجعلنا عندك مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابك كما نقل عن الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلاما مستأنفا تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن (لا نُؤْمِنُ) حال من الضمير في (لَنا) والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) [يس : ٢٢] ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب كما في قوله تعالى (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق : ٢٠] وأمثاله ، وقيل: هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا إلخ. ويقولون ما لنا لا نؤمن إلخ ، وقيل : هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله إلخ. وقال بعضهم : إنه جواب سائل قال : لم آمنتم؟ واختاره الزجاج.

واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال ، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة ، ولا يخفى أنه لا بد لذلك من ثبت ، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم


المعنى بدونها قال : ولذا لا يصح اقترانها بالواو في ما لنا وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها.

وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وإنّما هو للإنكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا إليه ، ومعنى الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فإن القوم لم يكونوا موحدين كذلك ، وقيل : بكتابه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الإيمان بهما إيمان به سبحانه والظاهر هو الأول ، والإيمان بالكتاب والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفهمه العطف فإن الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعا. و (مِنَ الْحَقِ) على ما ذكره أبو البقاء حال من ضمير الفاعل ، وجوز أن تكون من لا بتاء الغاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصول مبتدأ و (مِنَ الْحَقِ) خبره والجملة في موضع الحال أيضا ، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد ، وقوله تعالى : (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) حال أخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ) [البقرة : ٢٥] أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين. وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في (لا نُؤْمِنُ) على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين ، وجوز فيه أن يكون معطوفا على نؤمن أو على (لا نُؤْمِنُ) على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى ما لنا لا نجمع بين الإيمان والطمع المذكور بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة ، وموضع المنسبك من أن وما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه ، والمراد في أن يدخلنا ، واختار غير واحد من المعربين أن ـ نا ـ مفعول أول ليدخل والمفعول الثاني محذوف أي الجنة ، قيل : ولو لا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما إذا قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.

وقيل : إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال : هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلا أي هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم : «وما لنا لا نؤمن» إلخ.

واستظهر أبو حيان أنه عنى به قولهم : «ربنا آمنا» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعطاء أن المراد به «فاكتبنا مع الشاهدين» وقولهم «ونطمع أن يدخلنا ربنا» إلخ ، قال الطبرسي : فالقول على هذا بمعنى المسألة وفيه نظر ، والإثابة المجازاة ، وفي البحر أنها أبلغ من الإعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم فيه ذلك. وقرأ الحسن «فآتاهم الله» (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين وهو حال مقدرة (وَذلِكَ) المذكور من الأمر الجليل الشأن (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي جزاؤهم ، وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحا لهم وتشريفا بهذا الوصف الكريم ، ويحتمل أن يراد الجنس ويندرجون فيه اندراجا أوليا أي جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء.

هذا «ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات» (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ). ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أنزله إليه


مما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس أسرار ما بينه وبينه فإن ذرة من أسراره سبحانه لا تتحملها السماوات والأرض ، وهذه الأسرار هي المشار إليها بقوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠]. ولهذا قال سبحانه (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ولم يقل ما خصصناك به أو ما تعرفنا به إليك.

وقال بعضهم وهو المنصور : إن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والإلهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك «فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها «والله يعصمك من الناس» بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى ، وقريب من ذلك ما قيل : يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال ، وقيل : يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئا بل ترى الكل منه سبحانه وبه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) يعتد به (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ) فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع توحيد الأفعال (وَالْإِنْجِيلَ) فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات «وما أنزل إليكم» فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة «وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا» لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره.

وعن بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو صفتين : صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرآن بصفة اللطف يزيد نور بصيرته بلطائف حكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد ذلك نور إيمانه وتوحيده ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه ، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وقوله سبحانه (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه.

ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدى بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم ، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل إصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد ، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو بنته أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه ، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وإن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها ، فقد جاء عن غير واحد من العارفين إن الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا : إنه زنديق ولله در من قال خطابا للحضرة المحمدية :

وأنت باب الله أي امرئ

أتاه من غيرك لا يدخل

و (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (الْيَهُودَ) وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) كذلك بل هم أشد مباينة منهم


للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقا ، وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم ، وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات ، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار ، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) من أنواع التوحيد التي من جملتها توحيد الذات (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) مما عرفوا بالدليل وبواسطة الرياضة (مِنَ الْحَقِ) الذي أنزل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بذلك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المعاينين لذلك (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) جمعا (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) تفصيلا (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء «فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار» من التجليات الثلاث مع علومها (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عزوجل «والذين كفروا» أي حجبوا عن الذات «وكذبوا بآياتنا» الدالة على التوحيد «أولئك أصحاب الجحيم» لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم ، وقيل : لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين ، وقيل : لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم ، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه. فقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله تعالى وجهه ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن ، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما دخل عثمان فأخبرته بذلك أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لهم : انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا قال : نعم يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لم أؤمر بذلك ثم قال عليه الصلاة والسلام : «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم فقال : «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية.


وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه ، وبلال ، وعثمان بن مظعون فأما علي كرم الله تعالى وجهه فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله تعالى ، وأمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا. وأما عثمان فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. وروي أيضا غير ذلك ولم نقف على رواية فيها ما يدل على أن هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب إليه هذا القائل. ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل. لا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين.

وقوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهي عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسا. ويحتمل أن يكون نهيا عن الإسراف في الحلال ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، ومجاهد ، وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة.

وقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في موضع التعليل لما قبله. وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى.

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي كلوا ما أحل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى. فحلالا مفعول به لكلوا و (مِمَّا رَزَقَكُمُ) إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية. ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئا مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولا بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفا. و (حَلالاً) حال من الموصول أو من عائدة المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلا حلالا. وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن. والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى ، وقد أكل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى. وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك.

وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال : يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال : لعاب النحل بلعاب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم ، وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح. وقد جاء في غير ما خبر أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية» وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل : «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم» وعن أنس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهيا شديدا».

وعن أبي نجيح قال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فاليمين غموس ، وروي ذلك عن مجاهد.

وعند الشافعي رحمه‌الله تعالى ما يسبق إليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروي عن أبي جعفر. وأبي عبد الله. وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك ، و (فِي أَيْمانِكُمْ) إما متعلق باللغو فإنه يقال لغا في يمينه لغوا وإما بمحذوف وقع حالا منه أي كائنا أو واقعا في أيمانكم ؛ وجوز أن يكون متعلقا بيؤاخذكم ، وقيل عليه : إنه لا يظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في


«إن امرأة دخلت النار في هرة» (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية ، وقيل : إنها موصولة والعائد محذوف أي بما عقدتم الإيمان عليه. ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مئونة التقدير ، وقال بعضهم : إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وما هنا ليس كذلك فليتدبر ؛ والمعنى ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به ، والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف ، وتعقيد الأيمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم وأما عندنا فلا كفارة ولا حنث.

وقرأ حمزة. والكسائي. وابن عياش عن عاصم «عقدتم» بالتخفيف ، وابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأن القراءات يفسر بعضها بعضا ، وقيل : إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار أن العقد باللسان والقلب لا أن ذلك للتكرار اللساني كما توهم. والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهى القوم عما صنعوا فقالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام له : أحسنت ونزلت.

(فَكَفَّارَتُهُ) الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي فكفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير ، وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالأنعام عند سيبويه أو مؤول بمفرد فكما ترى ، والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها ، والمراد بالستر المحو لأن الممحو لا يرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها ، وذكر عصام الدين أن فعالا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن ما يستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفة يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس ، وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى.

ويدل على أنها بالمعنى المصدري الإخبار عنها بقوله تعالى : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا ، وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم ، ووجه الاستدلال بذلك على ما ذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فإنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لا يتحقق بدون حنث ، وقد قاسوا ذلك أيضا على تقديم الزكاة على الحول ، واستدلوا أيضا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير».

ونحن نقول : إن الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها ، وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] فأفطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا. والحديث الذي استدلوا به لا يصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال : إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والإيتاء ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)


[الجمعة : ٩] لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق ، وأيضا جاء في رواية «فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه». ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب ، وقال عصام الدين : إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان اه.

وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا إليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لا يخفى فتدبر. و (إِطْعامُ) مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيرا ، ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنيا للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي من أقصده في النوع أو المقدار ، وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير.

وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن ، والأفضل نحو الخبز واللحم. وعن ابن سيرين قال : كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر. ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للإطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف إليه ، والتقدير طعاما أو قوتا كائنا من أوسط ، وقيل : إنه صفة مصدر محذوف أي إطعاما كائنا من ذلك ؛ وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط أو على أنه صفة لإطعام أو على أنه بدل من إطعام.

واعترض هذا بأن أقسام البدل لا تتصور هنا. وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب. وصاحب اللباب. ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون بملابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية ، وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى ذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصا لما أجمله الأول ومبينا له ، ويعدون من هذا القبيل قولهم : نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في شرح اللباب. ولا يخفى أن إطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالا ومتقاض له بوجه. واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من أوسط نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد ، وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من أوسط الذي تطعمونه.

وجوز أبو البقاء تقديره مجرورا بمن أي تطعمون منه ، ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجرورا بمثل ما جرا به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك. ثم قال : فإن قلت الموصول غير مجرور بمن وإنما هو مجرور بالإضافة. فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك اه. وقد قدمنا آنفا نحو هذا النظر ، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولا يخفى أن فيه تطويلا للمسافة. والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علما أو صفة وأهل اسم جامد ، قيل : والذي سوغه أنه استعمل كثيرا بمعنى مستحق فأشبه الصفة. وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «أهاليكم» بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة.

وقال ابن جني : واحدهما ليلات وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفردا مقدرا هو ما ذكر ولأن يكون مراده أن لهما مفردا محققا مسموعا من العرب هو ذاك ، وقيل : إن أهالي جمع أهلون وليس بشيء (أَوْ


كِسْوَتُهُمْ) عطف كما قال أبو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد ، واختار الزمخشري أنه عطفت على محل (مِنْ أَوْسَطِ) ووجهه فيما نسب إليه بأن (مِنْ أَوْسَطِ) بدل من الإطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي فكأنه قيل : فكفارته من أوسط ما تطعمون. ووجه صاحب التقريب عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدرا ، فقد قال الراغب : الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين ، وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط ، ثم قال : ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالإلباس ، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بان تترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها على الغير ، وأيضا العطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه.

واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضا بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلا أيضا وإبدال الكسوة من (إِطْعامُ) لا يكون إلا غلطا لعدم المناسبة بينهما أصلا وبدل الغلط لا يقع في الفصيح فضلا عن أفصح الأفصح. ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه ، وجعل غير واحد هذا العطف من باب. علفتها تبنا وماء باردا. كأنه قيل إطعام هو أوسط ما تطعمون أو إلباس هو كسوتهم على معنى إطعام هو إطعام الأوسط وإلباس هو إلباس الكسوة وفيه إبهام وتفسير في الموضعين.

واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل ، وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى ، واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي الزمخشري عن العدول إلى الظاهر إلى اختيار العطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على «من أوسط» على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة إطعام مقدر انتهى.

وقد علمت أن هذا رأي لبعضهم. وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي : إنه غلط والصواب العطف على «إطعام» ، وقال الحلبي : ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ) خبر لمبتدإ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه : (عَشَرَةِ مَساكِينَ) ثم ابتدأ أخبارا آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا. وأما إذا قلنا إن (مِنْ أَوْسَطِ) هو المفعول الثاني فيستحيل عطف (كِسْوَتُهُمْ) عليه لتخالفهما إعرابا انتهى. ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ما روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة ، وفي اشتراط النية حينئذ روايتان. وظاهر الرواية الإجزاء نوى أو لم ينو. وروي أيضا أنه إن أعطى السراويل المرأة لا يجوز وإن أعطى الرجل يجوز لأن المعتبر رد العرى بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالادام في الطعام والمروي عن محمد أن ما تجوز فيه الصلاة يجزئ مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول ، ويشترط أن يكون ذلك ما يصلح فيه الصلاة يجزئ مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول ، ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت العباءة تجزئ يومئذ ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزئ قميص أو رداء أو كساء ، وعن الحسن أنهما ثوبان أبيضان. وروى الإمامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزئ ثوب واحد عند الضرورة واشترط


أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقا فما فوقه فلا يجزئ غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلا عن البدائع في كفارة الظهار ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الإطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه. وقرئ «أو كسوتهم» بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وأسوة في أسوة. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني «أو كاسوتهم» بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنا وإن قبيحا. والهمزة كما قال غير واحد : بدل من واو لأنه من المواساة. والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كأسوة أهليكم ، وقال السعد : الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم ، وقيل : الأولى أن يكون التقدير طعام كاسوتهم على الوصف فهو عطف أيضا على (مِنْ أَوْسَطِ) وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام والتحرير في قوله تعالى : (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة. وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء ، وقال أبو البقاء : المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إذ ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير.

والمراد بتحرير رقبة إعتاق إنسان كيف ما كان. وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الإيمان حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل. وعندنا لا يحمل لاختلاف السبب. واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لا يجوز صرفه إلى عدو الله عز اسمه كالزكاة. ونحن نقول : المنصوص عليه تحرير رقبة وقد تحقق. والقصد بالإعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به إلى سوء اختياره. واعترض بأن لقائل أن يقول : نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعا عن الصرف إليه كما في الزكاة. وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة إليه أيضا لأن فيه مواساة عبيد الله تعالى أيضا لكن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم» أخرجهم عن المصرف.

وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطا لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لا يجوز فقال : متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقرونا بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدل جاز وإن لم يكن كذلك فإنه لا يجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا؟ قولان. وفي الهداية ، ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزئه انتهى.

ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين ونسب إلى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحدا. وقيل الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين. وقيل : إن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به وبالآخر. وتفاوتها قدرا وثوابا لا ينافي التخيير المفوض تفاوته إلى الهمم وقصد زيادة الثواب فإن الكسوة أعظم من الإطعام والتحرير أعظم منهما. وبدأ سبحانه بالإطعام تسهيلا على العباد. وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتبا ولم ينو إلا بعد تمامها وقع عنها واحد هو أعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالأدنى. وتحقيق ذلك في الأصول (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي شيئا من الأمور المذكورة (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي فكفارته ذلك. ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر. وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والنخعي.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله


نحن بالخيار فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات». وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي داود في المصاحف ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ «فصيام ثلاثة أيام متتابعات». وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضا كذلك ، وقال سفيان : نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه «فمن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبمجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه ، وجوز الشافعي رحمه‌الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة ، ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في المجتبى ، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث. ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فلو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو بموت. مورثه موسرا لا يجوز له الصوم ويستأنف بالمال. ولو صام ناسيا له لم يجز على الصحيح ، واختلف في الواجد فأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : إذا كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لا يجد ويصوم.

وأخرج عن النخعي قال : إذا كان عنده عشرون درهما فعليه أن يطعم في الكفارة ، ونقل أبو حيان عن الشافعي. وأحمد. ومالك أن من عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد ، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد.

(ذلِكَ) أي الذي مضى ذكره (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك. و (إِذا) على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط ، وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفا عند البصريين ، والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم. ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية أو لا تبذلوها وأقلوا منها كما يشعر به قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] وعليه قول الشاعر :

قليل الألايا حافظ ليمينه

إذا بدرت منه الألية برت

أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاونا بها وصحح الشهاب الأول. واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فليأت الذي هو خير وليكفر» وقال سبحانه. (فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢] فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون (احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) نهيا عن الحنث ، والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين وهل هو إلا كقولك : احفظ المال بمعنى لا تكسبه ، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكررا مع ما قبله أعني قليل الألايا ـ. واعترض الرابع بأنه بعيد فتدير (كَذلِكَ) أي ذلك البيان البديع (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه ، وتقديم (لَكُمْ) على المفعول الصريح لما مر مرارا.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة.

وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَالْمَيْسِرُ) وهو القمار وعدوا منه اللعب بالجوز والكعاب


و (الْأَنْصابُ) وهي الأصنام المنصوبة للعبادة ، وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بأن الأنصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها ، والأصنام ما صور وعبد من دون الله عزوجل (وَالْأَزْلامُ) وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه (رِجْسٌ) أي قذر تعاف عنه العقول ، وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح. وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم.

وفرق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن ، وأفراد الرجس مع أنه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير ، ومثل ذلك قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] وقيل : لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور.

وقيل : لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس. وقوله سبحانه : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) في موضع الرفع على أنه صفة (رِجْسٌ) أي كائن من عمله لأنه مسبب من تزيينه وتسويله ، وقيل : إن من للابتداء أي ناشئ من عمله. وعلى التقديرين لا ضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ما ذكر من الأعيان. ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لا يخلو عن نظر (فَاجْتَنِبُوهُ) أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي راجين فلا حكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه. وقد مر الكلام في ذلك ، ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بإنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة. ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية فقال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على ما فعل ، والرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية. وقوله تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) إشارة إلى مفاسدهما الدينية. ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة. وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك. وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب رزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال ، وتخصيص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسلف الصالح من الأخبار الصادحة بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما.

وخص الصلاة من الذكر بالأفراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيما لها كما في ذكر الخاص بعد العام وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر إذ التصديق القلبي لا يطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان ويشهدوا به ، ففي الكلام إشارة إلى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الإيقاع في الكفر


الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار. ثم إنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الإنكاري مع الجملة الاسمية مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقال جل شأنه : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إيذانا بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى أن العاقل إذا خلي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء. ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : «اللهم بين لنا في ذلك بيانا شافيا» فنزلت هذه الآية ، ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال : «انتهينا يا رب» ، وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : أول ما نزل في تحريم الخمر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] الآية ، فقال بعض الناس : نشربها لمنافعها التي فيها ، وقال آخرون : لا خير في شيء فيه إثم ثم نزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] الآية فقال بعض الناس : نشربها ونجلس في بيوتنا ، وقال آخرون لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية فانتهوا.

وأخرج عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها» فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها. وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك. وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) عطف على «اجتنبوه» أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا (وَاحْذَرُوا) أي مخالفتهما في ذلك وهذا مؤكد للأمر الأول ، وجوز أن يكون المراد أطيعوا فيما أمرا واحذروا عما نهيا فلا تأكيد. وجوز أيضا أن لا يقدر متعلق للحذر أي وكونوا حاذرين خاشين وأمروا بذلك لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ولم يأل جهدا في ذلك فقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل ولم يبق بعد ذلك إلا العقاب.

وفي هذا كما قال الطبرسي وغيره من التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى ، وقيل : إن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليتكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه وليس بشيء إذ لا يتوهم منهم ادعاء الضرر بتوليتهم حتى يرد عليهم. ومثل ذلك ما قيل : إن المعنى فإن توليتم فلا تطمعوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهملكم لأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فلا يجوز له ترك البلاغ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أي إثم وحرج (فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قيل : لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله عنهم : كيف بمن شربها من إخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل : إنها نزلت في القوم الذين حرموا على نفوسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنس بن مالك ، والبراء بن عازب. ومجاهد. وقتادة. والضحاك. وخلق آخرين.


وللمفسرين في معنى الآية كلام طويل الذيل فنقل الطبرسي والعهدة عليه عن تفسير أهل البيت أن ما عبارة عن المباحات ، واختاره غير واحد من المتأخرين. وتعقب بأنه يلزم عليه تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله سبحانه : «إذا ما اتقوا» واللازم منتف بالضرورة فهي سواء كانت موصولة أو موصوفة على عمومها وإنما تخصصت بذلك القيد الطارئ عليها ، والطعم كالطعام يستعمل في الأكل والشرب كما تقدمت إليه الإشارة

والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرم واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه ، ولا محذور في هذا إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقييد إباحة بعضه باتقاء الآخر منه كما هو اللازم مما عليه الجماعة. و (اتَّقَوْا) الثاني عطف على نظيره المتقدم داخل معه في حيز الشرط. والمراد اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق ، والمراد بالإيمان المعطوف عليه أما الإيمان بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه أما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به ، وأما الاستمرار على الإيمان بما يجب الإيمان به ومتعلق الاتقاء ثالثا ما حرم عليهم أيضا بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ وأريد بالإحسان فعل الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة بجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية.

وليس تخصيص هذه المراتب بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرار بالغا ما بلغ ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله تعالى ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المآكل والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه قاله مولانا شيخ الإسلام ، ثم قال : وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حيز إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم ، وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تميزا بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي من الزمان بقضية «إذا ما» لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال ، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذلك ولو حرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة انتهى.

ومما يدل على أن الآية للتشريع الكلي ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال : لما نزلت (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الآية قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيل لي أنت منهم» وقيل : إن ما في حيز الشرط من الاتقاء وغيره إنما ذكر على سبيل المدح والثناء للدلالة على أن القوم بتلك الصفة لأن المراد بما المباحات ، ونفي الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يتقيد بشرط ، وقال علي بن الحسين النقيب المرتضى : إن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد إشكالا من ذلك وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان والعمل الصالح مع أن المباح لو وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر. ولنا في حل هذه الشبهة طريقان ، أحدهما أن يضم إلى المشروط


المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا إلخ لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفي ثبت الجناح ، وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه ، ولما ولى ذكر الاتقاء الإيمان والعمل الصالح ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط ويطابق المشروط لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ولكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب وضيعه من فرض فإذا شرطنا الإيمان والعمل الصالح ارتفع عنه الجناح من كل وجه ، وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ويكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به ، ومنه قول الشاعر :

تراه كأن الله يجدع أنفه

وعينيه إن مولاه بات له وفر

فإنه لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه. الطريق الثاني أن يجعل الإيمان والعمل الصالح ليس شرطا حقيقيا وإن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وما عطف عليه عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا واستغرابا انتهى. ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وأن الطريق الأول حزن فإن مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لا يكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات ، وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فإنه من باب.

علفتها تبنا وماء باردا

وهو مما لا كلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان. وقيل في الجواب أيضا عن ذلك : إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك ، وأيضا أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريم فلذلك يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه.

وقال عصام الملة : الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير ، وذكر الإيمان والعمل الصالح للإيذان بأن الاتقاء لا بد له منهما فإن من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الإيمان لأنهما ملاك الاتقاء ، وتكرير التقوى والثبات على الإيمان للإشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى ، وترك ذكر العمل الصالح ثانيا للإشارة إلى أن الإيمان بعد التمرن على العمل لا يدع أن يترك العمل. وذكر الإحسان بعد للإشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى. وفيه الغث والسمين.

وكلامهم الذي أشار إليه المرتضى في إيضاح وجه التكرير كثير فقال أبو علي الجبائي : إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي. والثاني يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله. والثالث يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد. واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى : (وَأَحْسَنُوا) فإن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضا متعدية وهو في غاية الضعف إذ لا تصريح في الآية بأن المراد بالإحسان الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت ، ثم لو سلّم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن


يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى. ولو صرح سبحانه فقال : اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر ، وقيل : إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه. والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها. والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بقبحها ووجوب تجنبها. والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى ، وقيل : المراد بالأول اتقاء ما حرم عليهم أولا مع الثبات على الإيمان والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك. وبالثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والإيمان التصديق بتحريم ذلك. وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الأعمال الجميلة. وهذا مراد من قال : إن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة ، وقيل : إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى وقد مر تفصيلها ، وقيل : باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويجتنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب. ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخبر الصحيح «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه».

وقيل : باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب. والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام. وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة ، وقيل : المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر ، وقيل : إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٤٥٣] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام ، وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان وعلى الأعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعنى بقوله تعالى : (وَأَحْسَنُوا) إلخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عزوجل : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). وفي هذا النظم نتيجة مما رواه الترمذي. وابن ماجة من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالى أوثق منك بما في يدك انتهى».

وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر.

وجملة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير ، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولا كان أو غير مأكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد. والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) فهموا بأخذها فنزلت. وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار


من الصيد. واختار الجبائي أن المراد بما تناله الأيدي والرماح صيد الحرم مطلقا لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل ، وقيل : ما تناله الأيدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه ، وقيل : المراد بذلك ما قرب وما بعد ، وذكر ابن عطية أن الظاهر أنه سبحانه خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأيدي من فخاخ وأشباك. وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه. وتنكير «شيء» كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر. وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن. فمن بيانية أي بشيء حقير وهو الصيد.

واعترضه ابن المنير بأنه قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما في قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض ، والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى هذا سبق الإخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم والإنذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها. وإذا فكر العاقل فيما يبتلي به من أنواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه بإضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده انتهى.

وتعقبه مولانا شهاب الدين بأن ما ذكر بعينه أشار إليه الشيخ في دلائل الإعجاز لأن شيئا إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] أو الإبهام وعدم التعيين أو التحقير لادعاء أنه لحقارته لا يعرف. وهنا لو قيل : ليبلونكم بصيد تم المعنى فإقحامها لا بد له من نكتة وهي ما ذكر ، وأما ما أورده من الآية الأخرى فشاهد له عليه لأن المقصود فيه أيضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان «ونقص» معطوفا على مجرور من ولو عطف على ـ شيء ـ لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى.

وقال عصام الملة : يمكن أن يقال : التعبير بالشيء للإبهام المكنى به عن العظمة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لإفادة البعضية ، ومما قدمنا يعلم ما فيه. وقرأ إبراهيم «يناله أيديكم» بالياء (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي ليتعلق عمله سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقا به لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل ، وإلى هذا يشير كلام البلخي. والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه في الموضع الغائب عن الخلق ، فالجار متعلق بما قبله.

وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من من أو من ضمير الفاعل في «يخافه» أي يخافه غائبا عن الخلق.

وقال غير واحد : العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره. ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه ، وقيل : إن هناك مضافا محذوفا ، والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى ومن على كل تقدير موصولة ، واحتمال كونها استفهامية أي ليعلم جواب من


يخافه أي هذا الاستفهام بعيد. وقرئ ليعلم من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده إلخ ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة (فَمَنِ اعْتَدى) أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد (بَعْدَ ذلِكَ) الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة. وقيل : بعد التحريم والنهي ، ورد بأن النهي والتحريم ليس أمرا حادثا ترتب عليه الشرطية بالفاء ، وقيل : بعد الابتلاء ورد بأن الابتلاء نفسه لا يصلح مدارا لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتحقيقه.

وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل ، وقال : ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى ، وأنت تعلم إن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية ، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض. والمتبادر على ما قيل : إن هذا العذاب الأليم في الآخرة ، وقيل : هو في الدنيا.

فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضا ، وقيل : المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام. ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات. وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين ، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد ، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب فقال عزّ من قائل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) والتصريح بالنهي مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه ، واللام في (الصَّيْدَ) للعهد حسبما سلف ، وإطلاقه على غير المأكول شائع ، وإلى التعميم ذهبت الإمامية ، وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه :

صيد الملوك ثعالب وأرانب

وإذا ركبت فصيدي الأبطال

وخصه الشافعية بالمأكول قالوا : لأنه الغالب فيه عرفا ، وأيد ذلك بما رواه الشيخان «خمس يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور». وفي رواية لمسلم والحية بدل العقرب ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة البحث. والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم بمعنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالا ، وقيل : المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرما بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل ، وقال أبو علي الجبائي : الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا ، وقال علي بن عيسى : لا تدل إلا على تحريم ذلك على الأول خاصة ، ولعل الحق مع علي لا مع أبيه ، وذكر القتل دون الذبح ونحوه للإيذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة ، وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم. وأحمد. ومالك رضي الله تعالى عنهم ، وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه ، وفي القديم لا يكون في حكم الميتة ويحل أكله للغير ويحرم على المحرم (وَمَنْ قَتَلَهُ) كائنا (مِنْكُمْ) حال كونه (مُتَعَمِّداً) أي ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة.

فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وأخرج الشافعي وابن المنذر


عن عمرو بن دينار قال : رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ ، وقال بعضهم : التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياسا. واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه ، والحنفية لا تراه ، وقيل : التقييد به لأنه المورد ، فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له : قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية. واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم ، وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضا على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية. وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالما بالحرمة إذ ذاك.

فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حراما في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيدا ضربا شديدا والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا ، وقيل : إن العلم بالحرمة جاء من قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) ولعله أولى. وعن داود أنه لا شيء في الخطأ أخذا بظاهر الآية. وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير وطاوس وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال : من قتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمدا لقتله غير ناس لإحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وأخرج ابن جرير عن الحسن. ومجاهد نحو ذلك ، و (مَنْ) يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ؛ ويجوز أن تكون موصولة ، والفاء في قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) جزائية على الأول وزائدة لشبه المبتدأ بالشرط على الثاني. و (فَجَزاءٌ) بالرفع والتنوين مبتدأ و (مِثْلُ) مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله.

وجوز أبو البقاء أن يكون (مِثْلُ) بدلا ؛ والزجاج أن يكون جزاء مبتدأ و (مِثْلُ) خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب ، وقرأ باقي السبعة برفع «جزاء» مضافا إلى «مثل».

واستشكل ذلك الواحدي بل قال : ينبغي أن لا يجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله. ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك غاية في الشناعة ، وما ذكر مجاب عنه ، أما أولا فبأن جزاء كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني ، وقد يقال لا حاجة إلى ارتكاب هذه المئونة بأن يجعل مصدرا مضافا إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزئ مثل أن يعطي المثل جزاء ، وأما ثانيا فبأن تجعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل ، وأما ثالثا فبأن يكون (مِثْلُ) مقحما كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا.

واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط المماثلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي المماثلة مما لا يكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لا يخفى.

وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين جزاء ونصبه ونصب (مِثْلُ) أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء مثل ما قتل ، وقرأ السلمي برفع جزاء منونا ونصب (مِثْلُ) أما رفع جزاء فظاهر وأما نصب مثل فبجزاء أو بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل. وقرأ عبد الله «فجزاؤه» برفع جزاء مضافا إلى الضمير ورفع مثل على الابتداء والخبرية. والمراد عند الإمام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث أنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه المحرم فيه أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشري


وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ، ولا يجوز أن يطعم مسكينا أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعا وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فإن بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الإطعام والصوم وإن لم تبلغ إلا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلا يخير بين أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يوما كاملا لما قلنا فيكون قوله تعالى : (مِنَ النَّعَمِ) تفسيرا للهدي المشتري بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم. ونظر فيه صاحب التقريب لأن قراءة رفع «جزاء ومثل» تقتضي أن يكون الجزاء مماثلا من النعم للصيد فإن كان الجزاء القيمة فليس مماثلا له منها بل الجزاء قيمة يشتري بها مماثل. وأجاب في الكشف بأن ما يشتري بالجزاء جزاء أيضا فإن طعام المساكين جزاء بالإجماع وهو مشترى بالقيمة. والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشترى بالجزاء ولا تنافي بينهما ، وادعى صاحب الهداية أن (مِنَ النَّعَمِ) بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بجعل المثل بمعنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي ، وقد ثبت كما قال أبو عبيدة. والأصمعي أن النعم كما تطلق على الأهلي في اللغة تطلق على الوحشي ، وكان كلام أبي البقاء حيث قال : يجوز أن يكون (مِنَ النَّعَمِ) حالا من الضمير في (قَتَلَ) لأن المقتول يكون من النعم مبنيا على هذا ، وهو مع بعد إرادته من النظم الكريم خلاف المتبادر في نفسه ، فإن المشهور أن النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم دون ما ذكر ، وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه إذا أفردت الإبل قيل لها نعم أيضا وإن أفردت البقر والغنم لا تسمى نعما.

وقال محمد ونسب إلى الشافعي. ومالك. والإمامية أيضا : المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة. وفي الضبع شاة. وفي الأرنب عناق. وفي اليربوع جفرة. وفي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر القيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك ، وجاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه أبو داود «الضبع صيد وفيه شاة» وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور ، والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الإمام الأعظم وصاحبه ، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فأوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم ، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال : أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه ، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي ، والحيوانات من القيميات شرعا إهدارا للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف


الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الأداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزئ غير ذلك ، وحديث التقييد بالنعم قد علمت الجواب عنه ، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى : (مِثْلُ ما قَتَلَ) وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال. وأما قوله سبحانه (مِنَ النَّعَمِ) فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عزوجل : (يَحْكُمُ بِهِ) أي بمثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوفي في معرفتها كل أحد من الناس. وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد.

وقد يقال : إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية. ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا.

وقرأ محمد بن جعفر «ذو عدل» وخرجها ابن جني على إرادة الإمام ، وقيل : إن «ذو» تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير ، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه اثنان لأنه أقل مراتبه ، وفي الهداية قالوا : والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط ، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل «ذو» على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إماما كان أو غيره ، ومن اشترط الاثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية ، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر ، وقيل : حال منه لتخصيصه بالصفة ، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع جزاء وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة.

وقوله تعالى : (هَدْياً) حال مقدرة من الضمير في (بِهِ) كما قال الفارسي أو من جزاء بناء على أنه


خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من (مِثْلُ) فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء (بالِغَ الْكَعْبَةِ) صفة لهديا لأن إضافته لفظية (أَوْ كَفَّارَةٌ) عطف على محل من النعم على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام. وقوله تعالى : (طَعامُ مَساكِينَ) عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين.

وقوله سبحانه : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) عطف على (طَعامُ) وذلك إشارة إليه و (صِياماً) تمييز. وخلاصة الآية كأنه قيل : فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة ، وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلا منها بدلا عن الآخرين ، وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديا فله الخيار في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما لأن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين. وقال محمد ـ وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا ـ : إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى.

واستدل كما قيل على ذلك بالآية ، ووجهه أنه ذكر الهدى منصوبا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على (مِثْلُ) في قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ) سواء كان حالا منه كما قدمنا أو تمييزا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلا عن الضمير محمولا على محله كما في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١] وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين. ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة أو وهي عند غير الشعبي. والسدي. وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على هديا وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى : (فَجَزاءٌ) بدليل أنه مرفوع وكذا قوله : (أَوْ عَدْلُ) إلخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في تقديم المتلف لا غير ، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في العناية إشكالا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة أو لا يفيد المطلوب إلا إذا كان كفارة منصوبا على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة ، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول.

واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف (كَفَّارَةٌ) على جزاء وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام ، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره. والآية عليه أيضا لا تصلح دليلا على مدعي الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه كما في هدي المتعة والقران. واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال : إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك. وأجيب بأن


الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته ، وعند محمد يجزئ صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقا وجفرة فدل على جواز ذلك في باب الهدي ، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام ، وأخرى كقول محمد وهي التي في المبسوط. والأسرار. وغيرهما ، وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الإطعام فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليه.

وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم. ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها ، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديا على مسكين واحد كما في هدي المتعة. ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له ، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب. ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل ، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم.

ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم ، ونحن نقول : الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلا أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم ، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه ، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان. وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة. وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولا. وفي الهداية يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته.

ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينا إذا كان للمقتول نظير ، وأنت تعلم أنه لو سلّم أن النظير هو الواجب عينا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع ، وإن اختار الصيام فعلى ما في الهداية يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن طعام كل مسكين يوما على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام ، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية. وتمام البحث في الفروع. والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا ، وما ذكرنا من عطف «كفارة» إنما هو على قراءة جزاء بالرفع. وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة (مِنَ النَّعَمِ).

وذكر الشهاب أنه يجوز في «كفارة» على قراءة جزاء بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزئ جزاء فيكون «أو كفارة» عطفا على أن يجزئ وهو مبتدأ مقدم عليه خبره. وقرئ (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره ، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم جديد. وقال أبو حيان : إن الطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء.

وقرأ الأعرج «أو كفارة طعام مسكين» على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس. وقرئ «أو عدل» بكسر العين ، والفرق بينهما إن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به


في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول ، وقال البصريون : العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره. وقال الراغب : العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء. وعلى هذا روي بالعدل قامت السماوات تنبيها على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظما.

(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر ، وقيل : بجزاء ، وقيل : بصيام أو بطعام ، وقيل : بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه ، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير «أمره» إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي ، وعلى هذا لا بد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته.

(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثما ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضا حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه‌السلام والصيد محرم فيها ، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع (وَمَنْ عادَ) إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدا وهو محرم (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعا مثبتا لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور ، وكذا المنفي بلا ، وجوز السمين أن تكون من موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ. والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة ، وأما الكفارة فعن عطاء. وإبراهيم. وابن جبير. والحسن. والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل.

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال : نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقا بظاهر الآية.

وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى ، وقيل : معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد ، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملا لكنه خلاف الظاهر. وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر. وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر : يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلظ ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما. والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في المبسوط.

وفي الخانية المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة. ومحمد.

وقال أبو يوسف. والحسن : يذبح الصيد. ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل. ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيدا وكلبا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين.

وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى. وفي هذا خلاف ما ذكر في المبسوط (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب


لا يغالب (ذُو انْتِقامٍ) شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه (أُحِلَّ لَكُمْ) أيها المحرمون (صَيْدُ الْبَحْرِ) أي ما يصاد في الماء بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو ما يكون توالده ومثواه في الماء مأكولا كان أو غيره كما في البدائع. وفي مناسك الكرماني الذي رخص من صيد البحر المحرم هو السمك خاصة وأما نحو طيره فلا رخصة فيه له والأول هو الأصح (وَطَعامُهُ) أي ما يطعم من صيده. وهو عطف على «صيد» من عطف الخاص على العام. والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا. وعند ابن أبي ليلى الصيد والطعام على معناهما المصدري وقدر مضافا في صيد البحر وجعل ضمير «طعامه» راجعا إليه لا إلى البحر أي أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه فيحل عنده أكل جميع حيوانات البحر من حيث أنها حيواناته ، وقيل : المراد بصيد البحر ما صيد ثم مات وبطعامه ما قذفه البحر ميتا ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وابن عمر. وقتادة.

وقيل : المراد بالأول الطري وبالثاني المملوح. وسمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات به من الأغذية وروي ذلك عن ابن المسيب وابن جرير ومجاهد وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه بعد. وأبعد منه كون المراد بطعامه ما ينبت بمائة من الزروع والثمار. وقرئ «وطعمه» (مَتاعاً لَكُمْ) نصب على أنه مفعول له لأحل أي تمتيعا. وجعله في الكشاف مختصا بالطعام كما أن «نافلة» في باب الحال من قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] مختص بيعقوب عليه‌السلام ، والذي حمله على ذلك كما قال الشهاب مذهبه وهو مذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه من أن صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وأن طعامه هو المأكول منه إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أن الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زيد وعمرو إجلالا لك على أن الإجلال مختص بقيام أحدهما وفيه إلباس. وأما الحال في الآية المذكورة فليست نظيرة لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة لأن النافلة ولد الولد فلا تعلق لها بإسحاق لأنه ولد صلب لإبراهيم عليهما‌السلام. وعلى غير مذهب الإمام لا اختصاص للمفعول له بأحدهما وهو ظاهر جلي.

وقيل : نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعا ، وقيل : مؤكد لمعنى «أحل» فإنه في قوة متعكم به تمتيعا كقوله (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] وقيل وليس بشيء : إنه حال مقدرة من طعام أي مستمتعا به للمقيمين منكم يأكلونه طريا (وَلِلسَّيَّارَةِ) منكم يتزودونه قديدا وهو مؤنث سيار باعتبار الجماعة كما قال الراغب.

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) وهو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويخرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما ، وكون زكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لا ينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الإمكان وعدمه لا مع الصيدية وعدمها.

واستثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا. ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس من الدواب. ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة» وقد تقدم ما في رواية لمسلم وجاء تسميتهن فواسق ، وفي فتح القدير ويستثنى من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود. وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأنه يجب بقتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالأسد ، والفهد ، والنمر ، والصقر ، والبازي ، وأما صاحب البدائع فيقسم البري إلى مأكول وغيره ، والثاني إلى ما يبتدئ بالأذى غالبا كالأسد. والذئب. والنمر وإلى ما ليس كذلك كالضبع ، والفهد. والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل


الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل ، وجعل ورود النص في الفواسق ورودا فيها دلالة ولم يحك خلافا لكن في الخانية ، وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب. وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب ؛ ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه أبو شيبة. والدارقطني. والطحاوي.

وقيل : لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق ، وقيل : وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف منه بالعقورية ولعل الإمام إنما يعتبر الجنس.

ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه. وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه فإن ذلك طبع فيه ، وقال سعدي جلبي : لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف ما في أصولنا ، وأما كون السباع كلها صيدا إلا ما استثني ففيه خلاف للشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياسا أو ملحقة بها دلالة أو لأن الكلب العقور يتناولها لغة.

وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد وكذلك الإلحاق بها دلالة لأن الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها ، واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفا والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الإيمان لبنائه على الاحتياط ، وفيه بحث طويل الذيل فتأمل.

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرم عليكم صيد» ببناء حرم للفاعل ونصب صيد أي وحرم الله عليكم صيد البر (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي محرمين.

وقرئ «دمتم» بكسر الدال كخفتم من دام يدام وذلك لغة فيها. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرما» بفتحتين أي ذوي حرم بمعنى إحرام أو على المبالغة ، وظاهر الآية يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وجماعة من السلف ، واحتج له أيضا بما أخرجه مسلم عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيا ، وفي رواية حمار وحش ، وفي رواية من لحم حمار وحش ، وفي رواية من رجل حمار وحش ، وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما ، وفي رواية شق حمار وحش ، وفي أخرى عضوا من لحم صيد وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان فرده عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما في وجهي قال : «إنا لم نرده عليك إلّا أنا حرم».

وعن أبي هريرة ، وعطاء ، ومجاهد وابن جبير ورواه الطحاوي عن عمر وطلحة ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنه يحل له أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل عليه ولم يشر إليه ولا أمره بصيده. وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما اختاره الطحاوي لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم ، أو يقال : إن المراد صيدهم حقيقة أو حكما وصورة الدلالة أو الأمر من الشق الثاني ، وعن مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وداود رحمهم‌الله تعالى لا يباح ما صيد له لما رواه أبو داود. والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحم الصيد حلال لكم وأنتم محرمون ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» وأجيب : بأنه قد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم فارتفعت أصواتنا فاستيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : فيم تتنازعون؟ فقلنا : في لحم الصيد يأكله المحرم فأمرنا بأكله» ، وروى الحافظ أبو عبد الله الحسين عن أبي حنيفة


عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده الزبير بن العوام قال : «كنا نحمل لحم الصيد صفيفا (١) وكنا نتزوده وكنا نأكله ونحن محرمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجا وخرجنا معه فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال : خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال : فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا : أكلنا لحما ونحن محرمون قال : فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا : نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة والسلام : هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها».

وفي رواية لمسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل عندكم منه؟ شيء قالوا : معنا رجله فأخذها عليه الصلاة والسلام فأكلها». وحديث جابر مؤول بوجهين الأول كون اللام للملك ، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه ، والثاني الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه ، والتزام التأويل دفعا للتعارض كما قال غير واحد. وقال ابن الهمام وقد يقال : القواعد تقتضي أن لا يحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة : فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافا لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر.

وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزود ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرا والإحرام بعد الخروج إلى الميقات ، فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فإنه أفاد أنه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت. موجودة أم لا فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها.

وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعا فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد ، وكذا في رجاله من فيه لين ، وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل انتهى. وأنت تعلم أن في حديث جابر أيضا شيئا من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل.

بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين ، واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطرابا ليس مثله في حديث قتادة حتى روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة والسلام وأكل القوم فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها ، ومعلوم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب : يحتمل أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر ،

__________________

(١) اي قديدا اه منه.


وتعليله عليه الصلاة والسلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرما ، فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشرط الذي يحرم به ، وقيل : إن جابرا إنما أهدى حمارا فرده صلى‌الله‌عليه‌وسلم لامتناع تملك المحرم الصيد ، ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلا على كل الحيوان غير معهود ، وقد صرحوا أنه لا يجوز أن يطلق على زيد إصبع ونحوه لأن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر ، وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ.

(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا علميا (لا تُحَرِّمُوا) بتقصيركم في السلوك (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات (وَلا تَعْتَدُوا) بظهور النفس بصفاتها (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم (حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ) في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله ، وجعل غير واحد هذا خطابا للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى حال أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب ، وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة ، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله ، وقيل : الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر ، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك ، وقال آخرون : الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه منها بوصف الرضا والتسليم ، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى ، وعدوا من اللغو في اليمين الإقسام على الله تعالى بجماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئا من إقباله عزوجل ووصاله فإن ذلك لغو في شريعة الرضا ومذهب التسليم. والذي يقتضيه ذلك ما أشير إليه بقوله :

أريد وصاله ويريد هجري

فأترك ما أريد لما يريد

لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله. وعدوا من ذلك أيضا ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم :

وحقك لا نظرت إلى سواكا

بعين مودة حتى أراكا

فإن ذلك ينافي التوحيد وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) وهي على ما قال البعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) وهم القلب والسر والروح والخفي ، وطعامهم الشوق ، والمحبة ، والصدق ، والإخلاص ، والتفويض ، والتسليم ، والرضا ، والإنس ، والهيبة ، والشهود ، والكشوف ، والأوسط الذكر ، والفكر ، والشوق ، والتوكل ، والتعبد ، والخوف ، والرجاء ، وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) لباس التقوى (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) ولم يستطع (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه وفي اليوم الثاني


عما لا يعنيه وفي اليوم الثالث عن العود إليه ، وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا ، فقد قيل : الدنيا ثلاثة أيام ، يوم مضى ، ويوم أنت فيه ، ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه (وَأَطِيعُوا اللهَ) بالفناء فيه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بالبقاء بعد الفناء (وَاحْذَرُوا) ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ) ولم يقصر فيه فالقصور منكم (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالتقليد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال البدنية الشرعية (جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) من المباحات (إِذا مَا اتَّقَوْا) الشبهة والإسراف (وَآمَنُوا) بالتحقيق (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه سبحانه ومن تحليته بالأحوال المضادة لهواه من الصدق ، والإخلاص ، والتوكل ، والتسليم ونحو ذلك (ثُمَّ اتَّقَوْا) شرك الأنانية (وَآمَنُوا) بالهوية (ثُمَّ اتَّقَوْا) هذا الشرك وهو الفناء (وَأَحْسَنُوا) بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري.

وقال غيره : ليس على الذين آمنوا الإيمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الأفعال منهم وآمنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الإلهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآمنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الباقين بعد فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالغيب (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) في أثناء السير والإحرام لزيارة كعبة الوصول بشيء من الصيد أي الحظوظ والمقاصد النفسانية (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه.

وقيل : ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية (لِيَعْلَمَ اللهُ) العلم الذي ترتب عليه الجزاء «من يخافه» بالغيب أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال ، وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف ، والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة ، والثانية بتجلي الذات ، فالخوف كما قيل من صفات النفس والخشية من صفات القلب ، والهيبة من صفات الروح «فمن اعتدى بعد ذلك» بتناول شيء من الحظوظ (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب الاحتجاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي في حال الإحرام الحقيقي (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) بأن ارتكب شيئا من الحظوظ النفسانية قصدا (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهما القوتان النظرية والعملية (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الحقيقية وذلك بإفنائها في الله عزوجل (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي أو يستر تلك القوة بصدقة أو صيام (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) وهو ما في العالم الروحاني من المعارف (وَطَعامُهُ) وهو العلم النافع من علم المعاملات والأخلاق (مَتاعاً) أي تمتيعا لكم أيها السالكون بطريق الحق (وَلِلسَّيَّارَةِ) المسافرين سفر الآخرة ، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية (وَاتَّقُوا اللهَ) في سيركم (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد وإليه المرجع والمعاد.


(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ(١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ


كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) أي صيرها ، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة. ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع ، وتطلق لغة على كل بيت مربع ، وقد يقال : التكعب للارتفاع ، قيل : ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة ، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه ، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها ، وقيل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض.

وقوله تعالى : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته ، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح ، وقيل : جيء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية.

وجوز أن يكون بدلا وأن يكون مفعولا ثانيا لجعل ، وقوله سبحانه : (قِياماً لِلنَّاسِ) نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني.

وقيل : (جَعَلَ) بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال ، ومعنى كونه قياما لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها دينا ودنيا حيث كان مأمنا لهم وملجأ ومجمعا لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق. ولهذا قال سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه ، ومن ذلك أخذ بعضهم أن التجارة في الحج ليست مكروهة. وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن


في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله ، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة ، وقيل : معنى كونه قياما للناس كونه أمنا لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء. وقرأ ابن عامر «قيما» على أنه مصدر كشيع. وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله ألفا تبعه المصدر في إعلال عينه (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه ؛ واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد ، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وهو وما بعده عطف على (الْكَعْبَةَ) فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أيضا قياما لهم ، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر والحج بها أظهر ؛ وقيل : الكلام على ظاهره ، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر ، وقيل : كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء ، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحدا ، وقد توارثوا ـ على ما قيل ـ ذلك من دين إسماعيل عليه‌السلام (ذلِكَ) أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد. وقيل : محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب ، والتقدير شرع ذلك (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ) واجبا كان أو ممتنعا أو ممكنا (عَلِيمٌ) كامل العلم ، وهذا تعميم إثر تخصيص ، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد.

وجوز أن يراد بما في السماوات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني. والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة. وسمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك. ووجه تقديم الوعيد ظاهر (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ولم يأل جهدا في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد. وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه. والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك (قُلْ) يا محمد (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أي الرديء والجيد من كل شيء. فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول ان المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره ، وقيل : نزلت في رجل سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أنفقته في حج أو جهاد لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب. وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال ، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال : الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم


الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله ، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه ، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).

وقيل الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل «لا يستوي» أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى. وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله. ولله در من قال :

والناس ألف منهم كواحد

وواحد كالألف إن أمر عنا

وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلا إذا كان معتل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها. فذهب سيبويه. والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والطرفاء فأشياء في الأصل شيئا بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء ، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسى ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل. وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشآء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه أفلاء ، وقيل : في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها أفعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث. واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل ، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر. ورده الزجاج بأن فعلا لا يجمع على أفعلاء ، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قاله أبو علي في التكملة فقال : كيف تصغر أشياء قال أقول أشيئاء فقال المازني : هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت بمقنع انتهى. وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم : دريهمات ، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلا من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال ، ويدل على كونها بدلا أيضا تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم : ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى ، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع


صارت بدلا من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفا كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال ، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلا من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك ، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون : ثلاثة شسوع وخمسة دراهم ، وأما إلحاق الهاء في قولنا : ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثا لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة : أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثا وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله : ويدل على كونها بدلا تذكيرهم العدد المضاف إليها إلخ ثم قال : والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال : إنما جاز تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه ، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف.

وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء (١) وأسماء ، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء ، وقد جمعوها على أشاوى كعذراء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح. ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه. وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل ، وقيل : إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء ، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذا بدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة ، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر ، وقيل غير ذلك ، وللشهاب عليه الرحمة :

أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا

لاما لها وهي قبل القلب شيئاء

وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب

منهم وهذا لوجه الرد إيماء

أو أشيّاء وحذف اللام من ثقل

وشيء أصل شيء وهي آراء

وأصل أسماء اسما أو كمثل كسا

فاصرفه حتما ولا تغررك أسماء

واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها

حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مذهب الخليل وسيبويه ، وقال غير واحد : إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى ، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واوا على غير قياس كإبدالها واوا في قولهم جبيت الخراج جباوة ، وأيضا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعا لقالوا شياءات على ما تقدمت الإشارة ، وتمام البحث في أمالي ابن الشجري (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها ، وعطف عليها قوله سبحانه : (وَإِنْ تَسْئَلُوا

__________________

(١) قوله ويلزمه صرف أبناء إلخ كذا بخطه ، ولعل الأصل ويلزمه منع صرف إلخ تأمل.


عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي بالوحي كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور ، فضمير (عَنْها) راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم ، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها ، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا» فقال رجل ـ وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس ، وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت : نعم لو جبت ولما استطعتم ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.

وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال : «لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه : فجعلت انظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي؟ قال : أبوك حذافة ، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال : رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» ، وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها : ما سمعت قط أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة : لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج.

وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه ، الأول أنها متصلة بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه ، والثاني أنها متصلة بقوله سبحانه : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم ، والثالث أنها متصلة بقوله جل وعلا : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا.

والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها ، وفيه من حثهم على الجد ، في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله ، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين ، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند


المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعا على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديدا كمسألة الحج لو لا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن أبي هريرة قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين أبي؟ قال : في النار» ، وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلا ، وإلى التفسير الأول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء لم يجىء فيه أثر يقول : هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية. والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت ، واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله. ثم قال : إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للأولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلما عبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت : لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية من الموجبة للانتهاء لا الحيثية الثانية ولا حيثية التردد بين الإيجابين ، فإن قيل : الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها فلم تخلف الإبداء في مسألة الحج ولم يفرض كل عام؟ قلنا : لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد لا تخلف فيه.

فإن قيل : ما ذكر إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة ابن حذافة فيكون هو متعلق الإبداء لا غيره فيتعين التخلف حتما. قلنا : لا احتمال له فضلا عن تعينه فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال : أين أبي؟ لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع.

وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة ، وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معا ، ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم ، وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه انتهى وهو تحرير لم يسبق إليه (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى.

(قَدْ سَأَلَها) أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به ، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال (قَوْمٌ) وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير ، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير


المضاف أيضا فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها ، وقيل : لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك : سألته درهما بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية ، واختلف في تعيين القوم. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها ، وقيل : هم قوم صالح عليه‌السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها ، وقيل : هم قوم موسى عليه‌السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة.

وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقا كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم. وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحول الصفا ذهبا ، وقال الجبائي : كانوا يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا : ليس الأمر كذلك ، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار ، والحمل على الاستخبار أولى ، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق بسألها ، وجوز كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لقوم ، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها ، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط بما إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتا دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا.

وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه : هذا المنع إنما هو في الزمان المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت : جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول ، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة. قال تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] ولا يجوز والذين اليوم وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر ، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أو في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) أي بسببها ، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى : (كافِرِينَ) قدم عليه رعاية للفواصل.

وقرأ أبي «قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين» (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الاسمية أو لحذف الموصوف ، قال الزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمس أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة ، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك ، وقيل : البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها ، وعن محمد بن إسحاق. ومجاهد أنها بنت السائبة ، وستأتي إن شاء الله تعالى قريبا وكانت تهمل أيضا.

وقيل : هي التي ولدت خمسا أو سبعا ، وقيل : عشرة أبطن وتترك هملا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة. وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب ، وقيل : هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنها وتركوها هملا ، وجعلها في القاموس على هذا القول من الشاء خاصة ، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضا.

وقيل : هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا : اللهم إن عاش فعبى وإن مات فذكى فإذا مات أكلوه ، وقيل : هي التي تترك في المرعى بلا راع (وَلا سائِبَةٍ) هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى


مفعول كعيشة راضية. واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق ، وقيل : هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب ، وقيل : كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال : هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلإ ولا تركب ، وقيل : هي ما ترك ليحج عليه ، وقيل : هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث (وَلا وَصِيلَةٍ) هي فعيلة بمعنى فاعلة ؛ وقيل : مفعولة والأول أظهر كما ينبئ عن ذلك بيان المراد بها. واختلف فيه. فقال الفراء : هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا ولدت في آخرها عناقا وجديا قيل : وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجري مجرى السائبة ، وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل : هي الشاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرا قالوا : هذا قربان لآلهتنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها. وقال ابن قتيبة : إن كان السابع ذكرا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا : خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وقال محمد بن إسحاق : وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمس أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوها لمكانها ، وقيل : هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جديا ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، وقال بعضهم : الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. وقيل : هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها.

(وَلا حامٍ) هو فاعل من الحمى بمعنى المنع. واختلف فيه أيضا فقال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده فيقولون : قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة. والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى. وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين ، وقيل : هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره ، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية. ومعنى (ما جَعَلَ) ما شرع ولذلك عدى إلى مفعول واحد وهو (بَحِيرَةٍ) وما عطف عليها. و (مِنْ) سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي. وأنكر بعضهم مجيء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة (١) وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون : الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وأمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة. أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة

__________________

(١) هكذا الأصل بتكرار ولا فتدبر.


قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأكثم بن الجون : يا أكثم عرضت على النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال : أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إنك مؤمن وهو كافر أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي ، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ ووصل الوصيلة ـ.

وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعرف أول من سبب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام : عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وأني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام : رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال : هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطئانه بإخفافهما واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع. واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده : أنت سائبة وقال : لا يعتق بذلك.

وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه ، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة. والشعبي ، وظاهر سياق النظم الكريم إنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد إلى الحق : (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الكتاب المبين للحلال والحرام والإيمان به (وَإِلَى الرَّسُولِ) الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال ، وما موصولة اسمية ، وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة و (عَلَيْهِ) متعلق به أو حال من مفعوله ، وجوز أن يكون بمعنى العلم و «عليه» عليه في موضع المفعول الثاني (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف ، وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجيب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين ولو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض ، وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الإنشائية حالا ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق ، وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك : أحسن إلى زيد ولو أساء إليك فإن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى.

وجواب ـ لو ـ كما قال أبو البقاء ـ محذوف لظهور انفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم. ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون ، وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر ، وفائدة ذلك المبالغة في الإنكار والتعجيب ، وقيل : الواو للحال والهمزة لإنكار الفعل على هذه الحال ؛ والمراد نفي صحة الاقتداء بالجاهل الضال ، والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل : إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالا من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي ولو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه


علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشئ من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل ، وأغرب من ذلك ما قيل: إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم. ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فما يليق بالتنزيل.

واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا : إن للمقلد دليلا إجماليا وهو دليل من قلده فتدبر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي ألزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب ، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل. وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازما ، والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليك بذات الدين» وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسما للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدا قد استعمل اسما لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح ، ونقل الطبرسي أن استعمال على من الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدا لم يجز وفيه خلاف.

وقرأ نافع في الشواذ (أَنْفُسَكُمْ) بالرفع ، والكلام حينئذ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ ، وقوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة «لا يضيركم» ، ويحتمل أن يكون مجزوما جوابا للأمر ، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم. وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم ، ويجوز أن يكون نهيا مؤكدا للأمر السابق والكلام على حد لا أريتك هاهنا.

وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ «لا يضركم» بالفتح «ولا يضركم» بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه ، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأجيب عن ذلك بوجوه. الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال. فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قاف : «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب ـ وفي رواية ـ يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب». وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال : خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب».

ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب ، والثاني أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي ، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال : أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.


وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فقال : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل امرئ برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت : يا رسول الله خمسين منهم قال : بل خمسين منكم أنتم».

والثالث أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت.

والرابع أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة. والخامس أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه ، فقد قيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت ، وقيل : معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك ، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ونحوه ، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه (إِلَى اللهِ) لا إلى أحد سواه (مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم يوم القيامة (جَمِيعاً) بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم (فَيُنَبِّئُكُمْ) بالثواب والعقاب (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من أعمال الهداية والضلال ، فالكلام وعد ووعيد للفريقين ، وفيه كما قيل دليل على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم ، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) للشهادة معان الإحضار ، والقضاء ، والحكم ، والحلف ، والعلم ، والإيصاء ، والمراد بها هنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك ، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ و (اثْنانِ) خبرها ، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم اثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة اثنين ، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر ، وقيل : الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف ، وقيل : الخبر محذوف و (اثْنانِ) مرفوع بالمصدر الذي هو (شَهادَةُ) والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد ، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام.

وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول و (اثْنانِ) قائم مقام فاعله ، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر ، وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا : إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. و (إِذا) ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته ، و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) إما بدل من (إِذا) وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها. وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر ، وأن يكون (شَهادَةُ) مبتدأ


خبره إذا حضر أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) على الأوجه السابقة ، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره (حِينَ الْوَصِيَّةِ). و (إِذا) منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير ـ غير ـ لأنها بمنزلة لا. و (اثْنانِ) على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدرا أو خبرا لشاهدان كذلك.

وعن الفراء أن (شَهادَةُ) مبتدأ و (اثْنانِ) فاعله سد مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد ، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد. و (إِذا) و (حِينَ) عليه منصوبان على الظرفية كما مر ، وإضافة (شَهادَةُ) إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرئ (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] بالرفع ، وقيل : إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع ، وحذف «ما» جائز نحو (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) [الإنسان : ٢٠] أي ما ثم ، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه.

وقرأ الشعبي «شهادة بينكم» بالرفع والتنوين فبينكم حينئذ منصوب على الظرفية. وقرأ الحسن «شهادة» بالنصب والتنوين ، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر (اثْنانِ) فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان. وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [النور : ٣٦] في قراءة من قرأ «يسبّح» بالبناء للمفعول ، وقول الشاعر : ليبك يزيد ضارع لخصومة. أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر ، والآية ليست واحدا من هذه الثلاثة.

وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية ، واختار في البحر وجهين للتخريج ، الأول أن تكون (شَهادَةُ) منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و (اثْنانِ) مرتفع به ، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيدا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب ، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت ، والثاني أن تكون مصدرا لا بمعنى الأمر بل خبرا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلا كقوله : وقوفا بها صحبي على مطيهم. فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفا فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر ، والتقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة ، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان (أَوْ آخَرانِ) عطف على (اثْنانِ) في سائر احتمالاته.

وقوله سبحانه : (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة له أي كائنان من غيركم ، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين. واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص : إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولا إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر ، ويدل لذلك أيضا سبب النزول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم ، وارتفاع (أَنْتُمْ) بفعل مضمر ويفسره ما بعده ، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه ، وهذا رأي جمهور البصريين ، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فجملة (ضَرَبْتُمْ) لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني.


وقوله تعالى : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف ، فإن كان الشرط قيدا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض إلخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم ، وإن كان شرطا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم ، وحينئذ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض ، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه. وقوله سبحانه : (تَحْبِسُونَهُما) أي تلزمونهما وتصبرونهما استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، وقتادة ، وابن جبير وغيرهم ، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم ، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف ، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان. وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله.

وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما ، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت. والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر. وجعل الحسن التقييد بذلك دليلا على ما تقدم من تفسيره. وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران ؛ وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضا قطعا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي. ولا يخفى ما فيه.

والخطاب للموصى لهم. وقيل : للورثة. وقيل : للحكام والقضاة.

وقوله عزوجل : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) عطف على (تَحْبِسُونَهُما إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة. والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه ، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك : والله إن أتيتني لأكرمنك ، ولا ريب في استحالته هاهنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى ، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى.

وزعم بعضهم جواز كونها شرطية و (لا نَشْتَرِي) دليل الجواب ، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنا قليلا وهو بعيد جدا وتخلو الآية عليه ظاهرا من شرط التحليف ، وضمير (بِهِ) عائد إلى الله تعالى ، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفا كاذبا لأجل المال ، وقيل : إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب ، وقيل : إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضا ، وتقدير مضاف في (ثَمَناً) أي ذا ثمن مما لم يدع إليه إلا


قلة التأمل (وَلَوْ كانَ) المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام (ذا قُرْبى) أي قريبا منا. وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا : لا نأخذ لأنفسنا بدلا من ذلك مالا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك ، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها ـ كما قال شيخ الإسلام ـ ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه ، وقيل : الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدا بشهادتنا ولو كان قريبا منا ، وجواب لو محذوف اعتمادا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنا ، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان إلخ ، وجعل السمين الواو للحال ، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا.

وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جوابا للو غير ما قدرنا أي ولو كان الشاهد قريبا يقسمان ، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الاقسام بالأجنبي ، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلا عن كلام رب الكل ، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عزوجل على مثل ذلك مما لا يليق (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة ، والجملة معطوفة على (لا نَشْتَرِي بِهِ) داخل معه في حيز القسم. وروي عن الشعبي أنه وقف على «شهادة» بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله : أشارت كليب بالأكف الأصابع. لأن ذلك حيث لا تعويض ، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف ، وهل الجر به أو بالعوض قولان. وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر ، وابن جرير ، وآخرين «الله» بدون مد. وفي ذلك احتمالان.

الأول أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس ، الثاني أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ. ولذا اختاره في الدر المصون ، وقرئ بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد. وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا ، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة. وقرئ «لملاثمين» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها (فَإِنْ عُثِرَ) أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه.

وقال الغوري : تقول عثرت إذا اطلعت على ما كان خفيا وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم : عثر إذا كبا. وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه ، وقال الليث : إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين ، وفي القاموس عثر كضرب ، ونصر ، وعلم وكرم عثر أو عثير أو عثارا كبا. والعثور الاطلاع كالعثر. وظاهر هذا أن لا مجاز. ويفهم منه أيضا الاتحاد في بعض المصادر فافهم ، والمراد فإن عثر بعد التحليف (عَلى أَنَّهُمَا) أي الشاهدين الحالفين (اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فعلا ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه ، وقال الجبائي : الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة إثم (فَآخَرانِ) أي فرجلان آخران. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (يَقُومانِ مَقامَهُما) والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الابتداء بالنكرة. ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) ، وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران ، وجملة (يَقُومانِ) صفته والجار والمجرور صفة أخرى ؛ وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من ضمير (يَقُومانِ) ، وقيل : هو فاعل فعل محذوف أي


فليشهد آخران وما بعده صفة له ، وقيل : مبتدأ خبره الجار والمجرور ، والجملة الفعلية صفته وضمير (مَقامَهُما) في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا. وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس. والتحليف و (اسْتَحَقَ) بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله (الْأَوْلَيانِ) ، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثما إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف.

ومفعول (اسْتَحَقَ) محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين ، وقدره أبو البقاء وصيتهما ، وقدره ابن عطية مالهم وتركتهم.

وقال الإمام : إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما. وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما. وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول ، وقرأ الجمهور «استحقّ عليهم الأوليان» ببناء استحق للمفعول. واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم ، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة ، وقيل : إنه الإيصاء ، وقيل: الوصية لتأويلها بما ذكر ، وقيل : المال ، وقيل : إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور. وكذا اختلفوا في توجيه رفع (الْأَوْلَيانِ) فقيل : إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر الميت آخران ، وقيل : بالعكس ، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله ، وقيل : خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني ، وقيل : بدل من آخران ، وقيل. عطف بيان عليه ، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره ، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط ، وقيل : هو بدل من فاعل (يَقُومانِ).

وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرا أو صفة عن الضمير ، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطا. وقيل : هو صفة آخران ، وفيه وصف النكرة بالمعرفة. والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة قيل وهذا على عكس :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف ، ويمكن ـ كما قال بعض المحققين ـ أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة.

وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل (اسْتَحَقَ) والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأولين كما قيل. وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها ، وفي ـ على ـ في (عَلَيْهِمُ) أوجه الأول أنها على بابها. والثاني أنها بمعنى في. والثالث أنها بمعنى من. وفسر (اسْتَحَقَ) بطلب الحق وبحق وغلب. وقرأ يعقوب ، وخلفت ، وحمزة ، وعاصم في رواية أبي بكر عنه «استحقّ عليهم الأولين» ببناء استحق للمفعول ، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة (الَّذِينَ) أو بدل منه أو من ضمير (عَلَيْهِمُ) أو منصوب على المدح ، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة. وقيل : التقدم في الذكر لدخولهم في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).


وقرأ الحسن «الأولان» بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان ؛ وقرئ «الأولين» بالتثنية والنصب ، وقرأ ابن سيرين «الأوليين» بباءين تثنية أولى منصوبا ، وقرئ «الأولين» بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) عطف على (يَقُومانِ) والسببية ظاهرة. وقوله سبحانه (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) جواب القسم. والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عزوجل (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) [النور : ٦] وسميت اليمين شهادة على ما قال الطبرسي لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينها مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما ، وقيل : إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق ، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك.

وقوله عزّ شأنه (وَمَا اعْتَدَيْنا) عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما. وقوله تعالى : (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) استئناف مقرر لما قبله أي أنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه ، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت. وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الاثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث ، وقيل : إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة.

وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما ، وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله. وكذا ادعى البعض النسخ أيضا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقا ، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقال بعضهم : لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة.

وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليا على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وقال آخرون : الاثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافا للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولا صار مدعيا للملك والورثة ينكرون ذلك ، ويدل عليه ما أخرجه البخاري في التاريخ ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري ، وعدي بن بداء ، وقيل : نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجدا لجام بمكة


فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة هاهنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلا بد من التأويل ، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلما فإن لم يجد فكافرا ، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه ، والشهادة الثانية بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب ، والشهادة الثالثة إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين ، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى علي ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال ، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق ، وسبب النزول وفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبين لما ذكر انتهى.

ولعل تخصيص الاثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قبل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحدا حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية ، وما ذكر من أن سبب النزول إلخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم ، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات ، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميما وعديا كذبا وخانا ، نعم قال الترمذي في الجامع بعد روايته لذلك الخبر : إنه حديث غريب. وليس إسناده بصحيح ، وأيضا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) خفاء ، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل ، فقد قال الزجاج : إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن ، وقال الواحدي : روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام ، وقال الإمام : اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وقال المحقق التفتازاني : اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرآن حكما وإعرابا ونظما.

وقال الشهاب : اعلم أنهم قالوا : ليس في القرآن أعظم إشكالا وحكما وإعرابا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها يعني (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ وقوله تعالى (فَإِنْ عُثِرَ) إلخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا : ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها. وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكما ومعنى وإعرابا وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه (ذلِكَ) كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والإشارة إلى الحكم السابق تفصيله ، وقيل : إلى تحليف الشاهدين ، وقيل : إلى الحبس بعد الصلاة (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من العذاب الأخروي ، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولا ، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني بمحذوف وقع حالا من الشهادة ، وقوله تعالى : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) أي إلى الورثة فيحلفوا (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) التي حلفوها عطف على مقدر ينبئ عنه المقام كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الايمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم


فيخجلوا من ذلك على رءوس الاشهاد فينزجروا عن الخيانة ، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها ، وقيل : إنه عطف على (يَأْتُوا) أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة ، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله : علفتها تبنا وماء باردا. وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير «يأتوا ويخافوا» على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس ، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين ـ وهو ضعيف ـ أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأيمان.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر ، والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا (وَاسْمَعُوا) سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل لما تقدم ، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة ، وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) قيل ظرف لقوله عزوجل : (لا يَهْدِي) ، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقا لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري ، ونقل عن المغربي أيضا وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة ، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من أن نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدى إليه ، وقيل : إنه بدل من مفعول (وَاتَّقُوا) فهو حينئذ مفعول لا ظرف.

وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لطول الفصل بالجملتين ، وقال الحلبي : لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الإنصاف أن بدل الاشتمال هاهنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي : لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح ، والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية ، وقال المحقق التفتازاني : وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلا إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك ، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك ، وقيل : إنه منصوب بمضمر معطوف على «اتقوا» إلخ أي واحذروا أو واذكروا يوم إلخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة ، وقيل : منصوب بقوله سبحانه (وَاسْمَعُوا) بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم.

وقيل : منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل : يوم يجمع الله الرسل إلخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال ، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم. وقيل ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية : لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [القصص : ٧٥] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى ،


وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل (فَيَقُولُ) لهم (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبئ عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم ، وفي العدول عن ما ذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيظ عليهم ، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضا وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. و (ما ذا) متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل : التقدير بما ذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله : تمرون الديار ولم تعوجوا. وكذا تقديره مجرورا. وقال العوفي : إن (ما) اسم استفهام مبتدأ و (ذا) بمعنى الذي خبره و (أُجِبْتُمْ) صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به. واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما ، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى (قالُوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل : فما ذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل : يقولون (لا عِلْمَ لَنا) والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق كنفخ في الصور وغيره ، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بما ذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه.

وقال ابن الأنباري : إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بما ذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وآخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضا نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة. وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بما ذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء ، وقيل : المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا.

وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظرا إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثو الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم ، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأزرق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في آية أخرى. وروي أيضا عن السدي ، والكلبي ، ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي ، وقال : كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] وقوله عزوجل : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨ ، الأنعام : ٤٨ ، الأعراف : ٣٥ ، الأحقاف : ١٣] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال : ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إنما هو كالبشارة بالنجاة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف.

وقيل : إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور آثار تجلي


الجلال. واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر. و (عَلَّامُ) صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. و (الْغُيُوبِ) جمع غيب وجمع وإن كان مصدرا على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا : إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرئ «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم عند (إِنَّكَ أَنْتَ) ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن ، ومعنى (إِنَّكَ أَنْتَ) إنك الموصوف بصفاتك المعروفة ، والكلام على طريقه : أنا أبو النجم. وشعري شعري.

وقرأ أبو بكر وحمزة «الغيوب» بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وقد نصب بإضمار اذكر ، وقيل : في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء ، وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع ، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عزوجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيص عيسى عليه‌السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم ، وإظهار الاسم الجليل لما مر. و (عِيسَى) مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادي وفتحه عند الجمهور ، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى ، أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعا كما بين في كتب النحو ، و «على» في قوله تعالى :

(اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) متعلقة بنعمتي جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة أن جعل اسما أي اذكر نعمتي كائنة عليك إلخ ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه‌السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه‌السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه‌السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه‌السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه‌السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا (إِذْ أَيَّدْتُكَ) ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك ، وقيل : بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها.

وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة ، وقرئ «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك ، قال أبو حيان : ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد ، وقيل : معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما ـ كما قيل ـ متقاربان لأن النصر قوة (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي جبريل عليه‌السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه‌السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية ، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه ، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.

(تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي طفلا صغيرا ، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه ، والظرف في موضع الحال من ضمير «تكلم».


وجوز أن يكون ظرفا للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في «أيدتك» كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمهعليهما‌السلام ، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه‌السلام أو أن ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه.

وقوله تعالى : (وَكَهْلاً) للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلّا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام : إن الثاني أيضا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلا. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بحالة أو من جاوز أربعا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.

وقيل : رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب ، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى.

وقال بعض : الأولى أن يجعل «وكهلا» تشبيها بليغا أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ) عطف على «إذ أيدتك» أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي جنسهما ، وقيل : الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خصا بالذكر إظهارا لشرفهما على الأول.

(وَإِذْ تَخْلُقُ) أي تصور (مِنَ الطِّينِ) أي جنسه (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي هيئة مثل هيئته (بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها) أي في تلك الهيئة المشبهة (فَتَكُونُ) بعد نفخك من غير تراخ (طَيْراً بِإِذْنِي) أي حيوانا يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب «طائرا» وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر.

(وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) عطف على «تخلق» وقوله سبحانه : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) عطف على (إِذْ تَخْلُقُ) أعيدت فيه (إِذْ) كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميما معجزة باهرة حرية بتذكير وقتها صريحا. وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران.

وذكر (بِإِذْنِي) هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا : لأنه هنا للامتنان وهناك للأخبار فناسب هذا التكرار هنا (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه.

(إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى : (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات ، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي. وجاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد :


الحمد لله الذي استقلت

بإذنه السماء واطمأنت

أوحى لها القرار فاستقرت

أي أمرها أن تقر فامتثلت ، وقيل : المراد بالوحي إليهم إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك ، وقد تقدم المراد بالحواريين.

وأن قوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول ، وقيل : مصدرية أي بأن آمنوا إلخ. وتقدم الكلام في دخولها على الأمر. والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه الصلاة والسلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة والسلام عن حده حطا ورفعا (قالُوا آمَنَّا) طبق ما أمرنا به (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) منصوب باذكر على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كما يشير إليه الإظهار في مقام الإضمار.

وجوز أن يكون ظرفا لقالوا وفيه ـ على ما قيل حينئذ ـ تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عزوجل. وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع. وقال ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين. وأيد ذلك بقوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عزّ من قائل : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) [الصف : ١٤] الآية. وبأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مدح الزبير «إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير» والتزام القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة ، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد. ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل : إن معنى «هل يستطيع» هل يفعل كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن.

والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الإيجاد. وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] إلخ. وقيل : إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازا ونقل ذلك عن السدي وذكر أبو شامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد أبا طالب في مرض فقال له : يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني فقال : اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال : يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال : يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك المشاكلة.

وقيل : هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا : هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا؟ لأنه لا يقع شيء بدون تعلقهما به.

واعترض بأن قوله تعالى الآتي : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه. وقيل : إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص. ومعنى «نعلم أن قد


صدقتنا» نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان. ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض.

وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه ، وعائشة ، وابن عباس ، ومعاذ ، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم «هل» تستطيع ربك بالتاء خطابا لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب «ربك» على المفعولية. والأكثرون على أن هناك مضافا محذوفا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف. وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك. وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير ، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة كعيشة راضية ، واختاره الأزهري في تهذيب اللغة أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة : مطعمة. وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشهد عليه بقول الراجز :

وميدة كثيرة الألوان

تصنع للجيران والإخوان

واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط ، والمراد بها السفرة ، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمى بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالبا كما سميت المزادة راوية. وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فأسفر عما فيه. وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له : إخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام ، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر. وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضا كما نص عليه بعض المحققين ، و (مِنَ السَّماءِ) يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أي مائدة كائنة من السماء (قالَ) أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك : (اتَّقُوا اللهَ) من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج. وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقا. ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢] وقال جل شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) [المائدة : ٣٥] (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أكل تبرك. وقيل : أكل تمتع وحاجة. والإرادة إما بمعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى ولكن نريد إلخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكر.

(وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بازدياد اليقين كما قال عطاء (وَنَعْلَمَ) علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي أنه قد صدقتنا في ادعاء النبوة ، وقيل : في أن الله تعالى يجيب دعوتنا ، وقيل : فيما ادعيت مطلقا.

(وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) عند من لم يحضرها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر ، وقيل : من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة.

و (عَلَيْها) متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحذوف يفسره من الشاهدين إن جعلت موصولة. وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل ، وقيل : متعلق به ؛ وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع.

ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف ، وعن بعضهم جوازه مطلقا ، وجوز أن يكون حالا من اسم كان أي عاكفين عليها. وقرئ «يعلم» بالبناء للمفعول و «تعلم». «وتكون» بالتاء والضمير للقلوب.


(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك ، وأخرج الترمذي في نوادر الأصول وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال : (اللهُمَّ رَبَّنا) ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدا بأن يعرب (رَبَّنا) بدلا أو صفة لأنهم قالوا : إن لفظ (اللهُمَ) لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة.

وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك ، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى (مِنَ السَّماءِ) متعلق إما بإنزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء ، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه.

ويؤيد الثاني ما روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام : يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام : ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر ، وقوله تعالى (تَكُونُ لَنا عِيداً) صفة (مائِدَةً) و (لَنا) خبر كان و (عِيداً) حال من الضمير في الظرف أو في (تَكُونُ) على رأي من يجز إعمالها في الحال ، وجوز أن يكون (عِيداً) الخبر و (لَنا) حينئذ إما حال من الضمير في «تكون» أو حال من (عِيداً) لأنه صفة له قدمت عليه ، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور ، وعليه فلا بد من تقدير مضاف ، والمعنى يكون نزولها لنا عيدا ، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير ، وفي الكلام لطافة لا تخفى ، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت ، ومنه قول الأعشى :

فوا كبدي من لاعج الحب والهوى

إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها

وهو واوي كما ينبئ عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه : أعياد وكان القياس أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه ـ كما قال ابن هشام ـ بجمع عود ، ونظر ذلك الحريري بقولهم. هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان ، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة ، وعن الكسائي يقال لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط ، ثم إنهم إنما لم يعكسوا


الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضا اعتبارا على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالا مع رعاية ظاهر المفرد ، وقرأ عبد الله «تكن» بالجزم على جواب الأمر (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا. روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني (لَنا) ، وقال أبو البقاء إذا جعل (لَنا) خبرا أو حالا فهو صفة لعيدا وإن جعل صفة له كان هو بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجار ، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل ، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إليه إبدال المجموع من المجموع ، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقا وأجازه آخرون كذلك ، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدا وإحاطة وشمولا جاز وإلا امتنع.

واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون (لَنا) خبرا أي قوتا أو نافعة لنا. وقرأ زيد ، وابن محيصن ، والجحدري «لأولانا وأخرانا» بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة ، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح (وَآيَةً) عطف على (عِيداً) وقوله سبحانه وتعالى : (مِنْكَ) متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي (وَارْزُقْنا) أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد ، والمراد بها حينئذ ـ كما قيل ـ ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض.

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) مرات عديدة كما ينبئ عن ذلك صيغة التفعيل ، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الافعال لإظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين ، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار ، وهذه القراءة لأهل المدينة ، والشام ، وعاصم.

وقرأ الباقون كما قال الطبرسي (مُنَزِّلُها) بالتخفيف ، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) أي بعد تنزيلها حال كونه كائنا (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) بسبب كفره ذلك (عَذاباً) هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع ، وقيل : مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين ، وقيل : منصوب على التوسع ، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك ، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال ، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به ، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرف في غير أن وإن عند عدم اللبس ، والتنوين للتعظيم أي عذابا عظيما.

وقوله سبحانه وتعالى : (لا أُعَذِّبُهُ) في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيدا قائما. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم ، ويحصل الربط بالعموم ولو رد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبرا فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابا لا أعذب تعذيبا مثله ، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعا على العذاب المقدم فالربط به.

وقيل : الضمير راجع إلى (مِنَ) بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا ، وهذا العذاب إما في الدنيا ، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن


قتادة وإما في الآخرة. وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة ، والمنافقون ، وآل عمران ، ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد.

وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم : (فَمَنْ يَكْفُرْ) إلخ قالوا : لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول. فقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفا ومرفوعا. والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة.

وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها. فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام : من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا : يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلا ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقلنا : بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله شمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته.

ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام : إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه‌السلام : سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال : يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم : ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا : يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال : معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه‌السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهو ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم ، وكانت العائدة إذا نزلت


بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسىعليه‌السلام ذلك منهم قال : هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) إلى قوله تعالى : (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا ، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئا أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء اللهعزوجل.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عطف على (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام : (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) يوم القيامة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه الصلاة والسلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عزوجل.

وقيل : قاله سبحانه عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرا لله تعالى حين خاطبه بذلك ، وكان الأولى لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية لنفيها عن أمه. والثالثة لإثباتها لله عزوجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضا خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٦٢] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى. (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان : ١٧] وقال بعض : لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه ، وقيل : التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن


المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها ، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه ، وفي قوله (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل : أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.

وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام (لِلنَّاسِ) للتبليغ ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول و (إِلهَيْنِ) مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول و (مِنْ دُونِ اللهِ) حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه. فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عزوجل. وهذا كما في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) إلى قوله سبحانه : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك.

وقال الراغب : إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال : إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذ يكون (مِنْ دُونِ اللهِ) مجازا عن مع الله تعالى أو يقال : إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا : هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها.

وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلها في حق ذلك البعض ، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.

واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها‌السلام إلها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر (إِلهَيْنِ) على طريق الإلزام لهم. والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذ على حد ـ القلم أحد اللسانين ـ والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم : المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.

(قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر. وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عزوجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته ، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية ،


وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ إلهان دونك ، وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك ، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير ـ على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت ـ علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب ، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.

وقوله سبحانه : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول (أَقُولَ) والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولا أوليا ، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ليس ضمير عائد إلى ما و (بِحَقٍ) خبره ، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس. ومعنى (ما يَكُونُ لِي) أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه : والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الأوقات ، وجوز أبو البقاء أن يكون (لِي) خبر ليس و (بِحَقٍ) في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس و (لِي) صفة حق قدم عليه فصار حالا ، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم المجرور عليه ، وقيل : إن (لِي) متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره ، وقوله عزوجل : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال.

وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك ، وقد نقل ذلك عثمان ابن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته ، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه‌السلام ، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة ، قيل : وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولى مجاز فيما عداه ، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب ، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات


وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة ، ومن ذلك قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران ٢٨ ، ٣٠] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال» وقوله عليه الصلاة والسلام : «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عزوجل ولأجل ذلك مدح نفسه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه» إلى غير ذلك من الأخبار.

وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره : إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث ، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) [البقرة : ١٣٨] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة ، نعم قيل : إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي. وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه ، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ (فِي) فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه‌السلام والارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرا إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام ، وقال الراغب : يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال : تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فاعلم ما فيها كقول الشاعر :

ولا ترى الضب بها ينجحر

وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه‌السلام أيضا ، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تقرير لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضا ، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه.

وقوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لبيان ما صدر عنه عليه‌السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل : (ما قُلْتُ لَهُمْ) نزولا على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معا آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ). ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا كقوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فكذا ما أول به لأنه ـ كما قال ابن هشام ـ لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن


الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر.

وجوز إبقاء القول على معناه و (أَنِ اعْبُدُوا) إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدرا ، قيل : عطف بيان للضمير في (بِهِ) ، واعترض بأنه صرح في المغني بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان ، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في المغني قد أشار شراحه إلى رده ، وقيل : بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في الكشاف بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه ، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقا بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضا : إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط ، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله : وأنت الذي في رحمة الله أطمع. ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافا لهم ، وجوز أن يكون بدلا من (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ، واعترض بأن (ما) مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلا كانت مفعول القول مع أنها ليست واحدا من هذه الأمور فلا يقال : ما قلت لهم إلا العبادة ، وفي الانتصاف أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم : إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] أي الوطن الذي قالوا قولا يتعلق به وقوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم : ٨٠] ونحو ذلك ، وفي الفوائد أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ويصح كون هذه الجملة بدلا من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة و (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) مفرد لفظا وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف ، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر ، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكى به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله ونحوه ، وأجيب عن هذا بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه‌السلام حكى معنى قول الله عزوجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه‌السلام : مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه‌السلام : اعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه‌السلام قال : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [طه : ٥٢ ، ٥٣] فإن موسى عليه‌السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه‌السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عزوجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] إلى قوله سبحانه : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الزخرف : ١١] إلى غير ذلك.

وقال أبو حيان : يجوز أن يكون المفسر (اعْبُدُوا اللهَ) ويكون (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه‌السلام على إضمار أعني لا على الصفة لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧] على رأي. وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف م ٥ ـ


المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه ، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف.

وقيل على الأول : إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسرا له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولا فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا.

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهدا لأحوالهم من إيمان وكفر ، و (عَلَيْهِمْ) كما قال أبو البقاء متعلق بشهيدا ، ولعل التقديم لما مر غير مرة (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي مدة دوامي فيما بينهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور.

وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه‌السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا ، وقيل : المراد بالرقيب المطلع المشاهد ، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها ، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام ، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولا ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيبا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم به كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات ، و (أَنْتَ) ضمير فصل أو تأكيد و (الرَّقِيبَ) خبر كان. وقرئ «الرقيب» بالرفع على أنه خبر أنت ، والجملة خبر كان و (عَلَيْهِمْ) في القراءتين متعلق بالرقيب.

وقوله سبحانه : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه ـ على ما قيل ـ إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه‌السلام فيما بينهم ، و (عَلى) متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة ، وقوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) على معنى أن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه ، وقيل : على معنى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وما ذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه ، وقيل : المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا ، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم ، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه.

(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة ، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر ، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن.


وقد نقل الإمام أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا : لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم ، وهذا قول عيسى عليه‌السلام في الدنيا اه.

ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق ، وقيل : الترديد بالنسبة إلى فرقتين ، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك إلخ وهو بعيد جدا ، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه وإن تغفر إلخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته ، ولذا قال سبحانه (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما ، وما جاء في الإخبار مما أخرجه أحمد في المصنف والنسائي والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) إلخ فلما أصبح قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال : إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئا»وما أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الأسماء والصفات. وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٣٦] الآية ، وقوله عزوجل في عيسى ابن مريم : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) إلخ فرفع يديه فقال : اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته : يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقل له : إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك» وما أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال : «قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن أو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال : دعوت الله سبحانه لأمتي قال : فما ذا أجبت؟ قال : أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت : أفلا أبشر الناس؟ قال : بلى فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع» لا يقوم دليلا على أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن على الوجه الذي قصده عيسى عليه‌السلام منه ، ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتبس ذلك من القرآن مؤديا به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء ، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن (١) شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر ، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاما طويلا حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر ، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري ، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك.

وقيل : إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما ، وفي أمالي العز بن عبد السلام أن (الْعَزِيزُ) معناه هنا الذي لا نظير له ، والمعنى

__________________

(١) هكذا في الأصل تأمل.


وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك ، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم ، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به ، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط ، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم ، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام.

(قالَ اللهُ) كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكي مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله ، وصيغة الماضي لما تحقق ، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه‌السلام مشيرا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضا عنه عليه‌السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل.

(هذا) أي اليوم الحاضر (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه‌السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق ترغيب السامعين المقصود بالحكاية في الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صِدْقُهُمْ) أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذ ، وقيل : في الآخرة.

والمراد من الصادقين الأمم ومن (صِدْقُهُمْ) صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى ، وقيل : المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه‌السلام فيما قاله جوابا عن السؤال على ما يقتضيه السوق ، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة ، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق ، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء ، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه ، ولعل فيما تقدم غني عن هذا كما لا يخفى على الناظر ، وقيل : المراد من الصادقين النبيون ومن (صِدْقُهُمْ) صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه‌السلام في قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة.

وقيل : المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم ، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه‌السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء ، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ و (يَوْمُ) بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده «يوم» بالنصب على أنه ظرف لقال و «هذا» مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه‌السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرا ؛ والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه‌السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع ، وجوز أن يكون «هذا» مفعولا به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولا مطلقا لأنه بمعنى القول ، وقيل : إن «هذا» مبتدأ و «يوم» خبره وهو مبني على الفتح بناء على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله : على حين عاتبت المشيب على الصبا. وألحقوا بذلك الفعل المنفي ، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة.

وقرأ الأعمش «يوم» بالرفع والتنوين على أنه خبر (هذا) والجملة بعده صفته بحذف العائد ، وقرأ «صدقهم»


بالنصب على أن يكون فاعل (يَنْفَعُ) ضمير الله تعالى ، و (صِدْقُهُمْ) كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك : صدقته القتال ، والمراد يحققون الصدق.

(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل : ما لهم من النفع؟ فقيل : لهم نعيم دائم وثواب خالد ، وقوله سبحانه : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عزوجل الذي لا غاية وراءه كما ينبئ عن ذلك قوله سبحانه : (وَرَضُوا عَنْهُ) إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال (ذلِكَ) إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في البحر وإليه يشير ما روي عن الحسن (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلا (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما‌السلام.

وقيل : استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : من يملك ذلك ليعطيهم إياه؟ فقيل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ) [آل عمران : ١٨٩ ، المائدة : ١٨ ، النور : ٤٢ ، الشورى : ٤٩] إلخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده. وفي إيثار «ما» على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة ـ كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية ، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (قَدِيرٌ) أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدرا بتقدير الإرادة. والعلم واقعا على وفقهما ، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير. والتقديم لمراعاة الفاصلة ، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام ، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة «ولله ملك السماوات والأرض والله سميع بصير».

ومن باب الإشارة في الآيات : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار ، وقيل : قلب المؤمن ، وقيل : الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عزّ شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران» (قِياماً لِلنَّاسِ) من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك (وَالْهَدْيَ) وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي (وَالْقَلائِدَ) وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) بما يحصل لكم (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال (وَالطَّيِّبُ) من ذلك (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان البرهاني (لا تَسْئَلُوا) من أرباب الإيمان العياني (عَنْ أَشْياءَ) غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لإنكار كم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا ـ كما قيل ـ تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) الجامع للظاهر والباطن والمتضمن لما سئلتم عنه (تُبْدَ لَكُمْ) بواسطته (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات (وَلا سائِبَةٍ) وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات (وَلا وَصِيلَةٍ) وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة (وَلا حامٍ) وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان ، وقال : يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات.

ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقلندرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة ، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة ، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد ، والحام إشارة إلى المغرور بالله عزوجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) لمتابعته (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الشريعة والطريقة (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحقيقة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فاشتغلوا بتزكيتها (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) عما أنتم فيه فأنكر عليكم (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وزكيتم أنفسكم ، وإنما ضرر ذلك على نفسه.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير ، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وهو يوم القيامة الكبرى (فَيَقُولُ) لهم (ما ذا أُجِبْتُمْ) حين دعوتم الخلق (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) بذلك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فتعلم جواب ما سئلنا ، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب.

وقال بعض أهل التأويل : يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ) للأحباب والمريدين (نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة ، وقيل : المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي مهد البدن أو في المهد المعلوم. والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية (وَكَهْلاً) أي في حال كبرك ، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) وهو كتاب الحقائق والمعارف (وَالْحِكْمَةَ)


وهي حكمة السلوك في الله عزوجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد (وَالتَّوْراةَ) أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها (وَالْإِنْجِيلَ) العلوم الباطنة ومنها تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته (وَإِذْ تَخْلُقُ) بالتربية أو بالتصوير (مِنَ الطِّينِ) وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور (فَتَنْفُخُ فِيها) من الروح الظاهرة فيك (فَتَكُونُ طَيْراً) نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة (بِإِذْنِي) حيث صرت مظهرا لي (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي المحجوب عن نور الحق (وَالْأَبْرَصَ) أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى (بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) بداء الجهل من قبور الطبيعة (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات (عَنْكَ) فلم ينقصك كيدهم شيئا (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) بطريق الإلهام (إِلَى الْحَوارِيِّينَ) وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع (أَنْ آمِنُوا بِي) إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات (وَبِرَسُولِي) برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل.

وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك ، والروح ، والقلب ، والعقل ، والسر ، وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء. ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام (مِنَ السَّماءِ) أي من جهة سماء الأرواح (قالَ اتَّقُوا اللهَ) أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ولا تسألوا شريعة مجددة (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) بأن نعمل بها (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) فإن العلم غذاء (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في الاخبار عن ربك وعن نفسك (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ) بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين (بَعْدُ) أي بعد الإنزال (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) إلخ كلام الشيخ الأكبرقدس‌سره. وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي فيه شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في كل مبدأ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.


سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

كما أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن مردويه ، والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة. وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين أتل (تَعالَوْا أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] والتي بعدها. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا : نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) [الأنعام : ١١١] فإنها مدنية ، وقال غير واحد : كلها مكية إلا ست آيات (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] إلى تمام ثلاث آيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلى آخر الثلاث. وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمس وستون. وعند البصريين والشاميين ست وستون. وعند الحجازيين سبع وستون. وقد كثرت الأخبار بفضلها فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال عليه الصلاة والسلام : «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق» وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه ، وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله تعالى به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة».

وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال : من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام إلى قوله تعالى (تَكْسِبُونَ) بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة أدخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال : أنا ربك حقا وأنت عبدي إلى غير ذلك من الأخبار ، وغالبها في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها. ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك. وحكى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه. والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه. والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه.


ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا ، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه مناسبتها لآخر المائدة على ـ ما قال بعض الفضلاء ـ إنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر : ٧٥].

وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) [المائدة : ١٢٠] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ) [الأنعام : ١٢] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عزّ من قائل : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عزوجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن ، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] إلخ ، وذكر جل شأنه بعده (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا ، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] وقوله عزّ اسمه (الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا : (وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران : ١٤] وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت: ٥٧] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني : إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا ، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع ، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول ، وفي الكهف إلى


الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عزوجل من قائل :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) جملة خبرية أو إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد أخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم. ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال : بعت بائع.

واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل : ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر ، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلّا من المحذور. نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه ، وقيل : إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها. ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على


الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظاهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عزوجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة. ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي.

وقد صرح الإمام في شرح الإشارة عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر. والثانية وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقا للعبادة. والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه. ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه ـ كما قال الشهاب ـ لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات. ولذا قال أهل الظاهر :

صفاته لم تزد معرفة

لكنها لذة ذكرناها

فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم. والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل. وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات.

وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام.

وحاصله أن اللام الجارة في «لله» لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد : إن التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما بقي فرق بين «الحمد لله» وله الحمد غير كون الثاني أوكد من الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر دون الآخر وإن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عزوجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقا بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب. ويعضد ما أشير إليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب ، نعم في


ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه مقصورا عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف. ثم قال : وبالجملة إن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مدعى ومدلول.

وقوله سبحانه وتعالى : (الَّذِي خَلَقَ) إلخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولا على ما قيل وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد ، ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها ، وأيضا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ما ذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل. وأما ما يقال : إنما قيل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودا عليه.

وقد يقال : إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم مقامه فكأنهم قالوا : الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل : الإله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السماوات والأرض ولكونه كذا وكذا. وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى.

فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات ـ على ما قيل ـ : هل له وجه أم لا؟ قلت : أما كون الذات الصرف محمودا عليه ، وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له.

وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء ، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح


بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى ، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد.

وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم ، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ١] وبين (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) [سبأ : ١] مما محصله أن جملة (لَهُ الْحَمْدُ) جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به تعالى بخلاف جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ) إلخ فإنها لم يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه ، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ) إلخ بخلاف جملة (لَهُ الْحَمْدُ) ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير ، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك. وجمع سبحانه السماوات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم. ولذا عيب على أبي نواس قوله :

وما لك فاعلمن فينا مقالا

إذا استكملت آجالا ورزقا

حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل ، وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف. وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك. والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتبليغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة القدس لأنها ليست بدار قرار ، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها ، وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد ، وكذا كون الله تعالى وصف بقاعا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا ، ولهذا الشرف أيضا قدمت على الأرض في الذكر ، وقيل : إن جمع السماوات وافراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم ، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول.

وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض.


واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس ، وقال بعضهم : إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض ، ولهذا لم تجمع ، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين» فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة ، وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام» والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية ، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته ، والمراد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام» ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي ، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أو أم كل صاد ، وحمل المماثلة في الآية أيضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر.

ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السماوات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم.

وعن الشيخ الأكبر قدس‌سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض ، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام ، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد.

والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السماوات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) عطف على (خَلَقَ السَّماواتِ) داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل ، والجعل ـ كما قال شيخ الإسلام ـ الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] وأيّا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه ، وقيل : الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية.

واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفساد يبطل بمجرد هذا ، وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه ، وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ


بُيُوتاً ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) [الفرقان : ٥٢ ، ٥٣] إلى غير ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر ، وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أو لما قدمناه في البقرة.

وقيل. لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد ، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسماوات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده ، وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل.

وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر ، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وهو باطل ، أما أولا فلأن كونها أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم ، وأما إن قيل : إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس ، وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة ، وأما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أولا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل : إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل : إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها. وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم ، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم «بيان الصغرى بثلاثة أوجه» ، الأول أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة. والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء. والثالث أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة «والجواب» أن قولهم : الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل. وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل ، وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم. ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء ، والخفاء المطلق هو الظلمة ، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لا يجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور. الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية ، والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل


النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده. والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى ، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا. وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية. الثاني أن البياض قد يكون مضيئا ومشرقا وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال إذا الضوء لا يقابله إلا الظلمة.

الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلا قد لا يكون مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذ يرى ضوءه فذلك ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلا بد من التغاير.

الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا ، وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لما ذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوءه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة ، وفرق الإمام بين النور ، والضوء ، والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال : إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة ، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءا والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نورا ، والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا. والذي يكون للشيء من غيره كما للمرأة يسمى بريقا.

وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضا ، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور ، والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة ، ولهذا قدمت الظلمات على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على الملكات.

وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فيهما العدم والملكة المشهوران ، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب ، فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما ينشأ من المادة المهيأة قبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها ، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل. وقال المولى ميرزاجان : لا بد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلا للوجودي ، ولا يكفى نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له ، ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب.

قال في الشفاء : العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة ، وهذا مما لا بد منه في معناه المشهور انتهى ، وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام ، وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود : إن عدم


الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات.

ولذا قال الإمام : إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن.

وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث ، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية ، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل ، وتحقيقه ـ على ما قيل ـ إن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجودا عينيا ، وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) يحتمل أن يكون (يَعْدِلُونَ) فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية ، والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للإيمان أو بمعنى كفران النعمة ، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون ، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه ، ثم هي إما معطوفة على جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إنشاء أو اخبارا أو على قوله سبحانه (خَلَقَ) صلة الذي أو على (الظُّلُماتِ) مفعول جعل فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع ، والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار ، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه ، وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين.

والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه ، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته.

و (ثُمَ) لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية ، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق بالمقام ، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد أمر الاستبعاد ، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول ، فالظاهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها ، وما قاله المحقق التفتازاني مني إنه لا مخصص لكل من توجيهي (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه ، وذلك لأنه إذا قيل مثلا في الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة ، ولا


يناسب أن يقال : إنهم يسوون به غيره إذا لم يسبق صريحا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية ، وإذا قيل مثلا في الصورة الثانية : إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال : ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه ويعرضون عنه.

وقال بعض المحققين : إذا كان المعنى على الأول الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه ، وعلى الثاني المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته ، فوجه التخصيص في الأول أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولي نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإن المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره ، وفي الثاني أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصور لجهل العادل بحقه وما يليق بحقه فإن العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوى بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر.

واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ما له ذلك. ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محمودا عليه. وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه ، وفي ذلك تعظيم منبئ عن كمال الاستحقاق ، وقد يقال : وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلا اختياريا ، وما ذكر ليس كذلك فعليه لا بد من التأويل.

وذكر شيخ الإسلام في الاعتراض على العطف المذكور أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الانباء في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه ، وادعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه عزوجل كما يقتضيه الادعاء المذكور ، وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بروادفها ؛ وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام انتهى.

ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته. وادعاء التعكيس ممنوع فإن المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام آخر إذ لكل مقام مقال. واعترض أيضا بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم : أبو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظاهر موضع الضمير وكأنه قيل : ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع إمكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح. وأجيب بأنه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيرا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره ، والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النجاة : إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم.


واعترض شيخ الإسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودا بالإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي ، وأجيب بأنه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس‌سره توجيها للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل ، وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك ، والذي تصدح به كلماتهم أن صلة (يَعْدِلُونَ) على تقدير أن يكون من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الإنكار على نفس الفعل ، وإنما قدروا له مفعولا على تقدير أن يكون من العدل بمعنى التسوية فقالوا : غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول ، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم (بِرَبِّهِمْ) على احتمال تعلقه بما بعد لذلك ، ويجوز أن يكون للاهتمام.

وقال بعض المحققين : إن هذا وإن تراءى في بادئ النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه. ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب. هذا وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم عن كعب قال : فتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وختمت بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله سبحانه وتعالى وكبره تكبيرا.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) استئناف مسوق لبيان كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر ، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس ، وقيل في توجيه خلقهم منه : إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة.

وقال المهدوي في ذلك : إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر «ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته» وفي القلب من هذا شيء ، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من التجوز ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم ، وأيّا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة.

(ثُمَّ قَضى) أي قدر وكتب (أَجَلاً) أي حدا معينا من الزمان للموت. و (ثُمَ) للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق ، وقيل : الظاهر الترتيب في الزمان ، ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به اللائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون


مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد».

(وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي حد معين للبعث من القبور ، وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل و (عِنْدَهُ) هو الخبر ، وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره. وقدم على خبره الظرف مع أن الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم ، فإن ما قصد به ذلك حقيق بالتقديم فالمعنى وأجل أي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا يقف على وقت حلوله سواه جل شأنه لا إجمالا ولا تفصيلا. وهذا بخلاف أجل الموت فإنه معلوم إجمالا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمال الإنسان.

وقيل : وجه الاخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، والأول أيضا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤] لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كان.

وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت ، والثاني ما بين الموت والبعث. وروي ذلك عن الحسن وابن المسيب ، وقتادة ، والضحاك ، واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه حيث قال : قضى أجلا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه فإذا كان الرجل صالحا وأصلا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل الحياة وزاد في أجل الممات ، وذلك قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] وعليه فمعنى عدم تغير الأجل عدم تغير آخره ، وقيل : الأجل الأول الزمن الذي يحيى به أهل الدنيا إلى أن يموتوا والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له ، ونسب ذلك إلى مجاهد ، وابن جبير ، واختاره الجبائي.

ولا يخفى بعد إطلاق الأجل على المدة الغير المتناهية ، وعن أبي مسلم أن الأجل الأول أجل من مضى والثاني أجل من بقي ومن يأتي ، وقيل : الأول النوم والثاني الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأيده الطبرسي بقوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٤٢] ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا الموت لكنه لم تعهد تسميته أجلا وإن سمي موتا ، وقيل : إن كلا الأجلين للموت ولكل شخص أجلان أجل يكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وهو المراد بالعمر في خبر «إن صلة الرحم تزيد في العمر» ونحوه وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره عز شأنه وكثير من الناس قالوا : إن المراد بالزيادة الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة ، وقيل : المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا : ذكر الفتى عمره الثاني وضعفه الشهاب ، وقيل : الأجلان واحد والتقدير وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف و (عِنْدَهُ) خبر بعد خبر أو متعلق بمسمى وهو أبعد الوجوه.

(ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي تشكون في البعث كما أخرجه ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان ، وعن الراغب المرية التردد في المتقابلين وطلب الامارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر. ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم. قيل : الامتراء الجحد ، وقيل : الجدال. وأيّا ما كان فالمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقطع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارا


على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة. ومن هذا يعلم أن شطرا من تلك الأوجه السابقة آنفا لا يلائم مساق النظم الكريم ، وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على جحوده وإنكاره كما ينبئ عنه كثير من الآيات للدلالة على أن جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار.

وذكر بعض المحققين أن الآية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه دليل البعث ، ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه عزوجل لأنه المنعم لا أحد غيره ويلزم منه أنه لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى ، وزعم بعضهم أنها لا تدل على ذلك إلا بملاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا تدل على أكثر من وجود الصانع ، ومنشأ ذلك حمل الدليل على البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله وليس ذلك باللازم. ومن الناس من جعل الآية الأولى أيضا دليلا على البعث على منوال قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ اللهُ) جملة من مبتدأ عائد إليه سبحانه كما قال الجمهور وخبر معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام الهيئة لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف ما تقدم ، والحمل ظاهر الفائدة إذا اعتبر ما يأتي وإلا فهو على حد ـ أنا أبو النجم وشعري شعري ـ ، وقوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق ـ على ما قيل ـ بالمعنى الوصفي الذي تضمنه الاسم الجليل كما في قولك : هو حاتم في طيئ على معنى الجواد.

والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم الكريم أعني المعبود أو ما اشتهر به الاسم من صفات الكمال إلا أنه يلاحظ في هذا المقام ما يقتضيه منها أو ما يدل عليه التركيب الحصري لتعريف طرفي الإسناد فيه من التوحيد والتفرد بالألوهية أو ما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه تعالى خاصة فكأنه قيل : وهو المعبود فيهما أو وهو المالك والمتصرف المدبر فيهما حسبما يقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة أو وهو المتوحد بالألوهية فيهما أو وهو الذي يقال له : الله فيهما لا يشرك به شيء في هذا الاسم ، ومعنى ذلك مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمن ذلك الاسم الجليل ويكفي مثل ذلك في تعلق الجار لا أنه يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو على نحو المالك والمتصرف أو المتوحد أو يقدر القول ، وعلى كل تقدير يندفع ما يقال : إن الظرف لا يتعلق باسم الله تعالى لجموده ولا بكائن لأنه حينئذ يكون ظرفا لله تعالى وهو سبحانه وتعالى منزه عن المكان والزمان. ومن الناس من جوز تعلقه بكائن على أنه خبر بعد خبر والكلام حينئذ من التشبيه البليغ أو كناية على رأي من لم يشترط جواز المعنى الأصلي أو استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة التي حصلت من إحاطة علمه سبحانه وتعالى بالسماوات والأرض وبما فيهما بحالة بصير تمكن في مكان ينظره وما فيه والجامع بينهما حضور ذلك عنده.

وجوز أن يكون مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر ، وأن يكون استعارة بالكناية بأن شبه عز اسمه بمن تمكن في مكان وأثبت له من لوازمه وهو علمه به وبما فيه ، وليس هذا من التشبيه المحظور في شيء وعليه يكون قوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو منها ومن الأفعال بيانا للمراد وتوكيدا لما يفهم من الكلام. وتعليق علمه سبحانه بما ذكر خاصة مع شموله لجميع من في السماوات وصاحبتها لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا يعتبر بيانا على تقدير اعتبار ما اشتهر به الاسم الجليل من صفات الكمال عند تعلق الجار على ما علمت فإن ملاحظته من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل حسبما تقدم مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط حتما.


وعلى التقادير الأخر لا مساغ كما قيل لجعله بيانا لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مفهوم شيء من المعبودية واختصاص إطلاق الاسم عليه تعالى ، وكذا مفهوم المتوحد بالألوهية فكيف يكون هذا بيانا لذلك. واعتبار العلم فيما صدق عليه المتوحد غير كاف في البيانية ، وقيل في بيانها على تقدير اعتبار المتوحد بالألوهية : إن حصر الألوهية بمعنى تدبير الخلق ، ومن تفرد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له تدبيرها فملاحظة المتوحد بالألوهية مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط على طرز ما تقرر في ملاحظة اسمه عز اسمه من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل على الوجه المتقدم.

ومن هذا يعلم اندفاع ما أورد على احتمال تعلق الجار السابق باعتبار ملاحظة المتوحد بالألوهية من أن التوحيد بها أمر لا تعلق له بمكان فلا معنى لجعله متعلقا بمكان فضلا عن جميع الأمكنة فإن تدبير الخلق مما يتعلق بما في حيز الجار من الحيز ، وكذا بما فيه. وتعقب ذلك بمنع تفسير الألوهية بما ذكر ؛ ولعل الجملة على هاتيك التقادير خبر ثالث ، وقد جوز غير واحد الاخبار بالجملة بعد الاخبار بالمفرد ، وبعضهم جعلها كذلك مطلقا ، والقرينة على إرادة المراد من الجملة الظرفية حينئذ عقلية ، وهي أن كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عما يقتضيه الظاهر من المكان ، وذلك كما في قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] إذا لم يردف بما يبينه ، وجوز أن تكون كلاما مبتدأ وهو استئناف نحوي. ورجحه غير واحد لخلوه عن التكلف أو استئناف بياني ويتكلف له تقدير سؤال ، وقيل : إن الجملة هي خبر (هُوَ) والاسم الجليل بدل منه والظرف متعلق بيعلم. ويكفي في ذلك كون المعلوم فيما ذكر ولا يتوقف على كون العالم فيه ليلزم تحيزه سبحانه وتعالى المحال. وهذا ـ كما قيل ـ كقولك : رميت الصيد في الحرم فإنه صادق إذا كنت خارجه والصيد فيه.

ونقل بعض المدققين عن الإمام التمرتاشي في الإيمان إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل كما إذا قلت : إذا ضربت في الدار أو في المسجد فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه فلذا قال بعض الفقهاء : لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فكذا فشرط حنثه كون الفاعل فيه. وإن قال : إن ضربته في المسجد أو جرحته أو قتلته أو رميته فكذا فشرطه كون المفعول فيه. وفرق بين الرميين المتعدي بإلى والمتعدي بنفسه بأن الأول إرسال السهم من القوس بنية وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل. والثاني إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيؤثر فيه ولذا عد كل منهما في قبيل. وعلى هذا يشكل ما نحن فيه لأن العلم لا يظهر له أثر في المعلوم فيلزم أن يكون الكلام من قبيل شتمته في المسجد ويجيء المحال وكون العلم هنا مجازا عن المجازاة وهي مما يظهر أثرها في المفعول فيكون الكلام من قبيل إن ضربته في المسجد ويكفي كون المفعول فيه دون الفاعل في القلب منه شيء على أن كون المفعول هنا أعني سر المخاطبين وجهرهم في السماوات مما لا وجه له.

والقول بأن المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في السماوات ونفوسكم المقارنة لأبدانكم الكائنة في الأرض تعسف وخروج عن الظاهر على أن الخطاب حينئذ يكون للمؤمنين وقد كان فيما قبل للكافرين فتفوت المناسبة والارتباط ، ومثله القول بتعميم الخطاب بحيث يشمل الملائكة وظاهر أن سرهم وجهرهم في السماوات.

وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا أنهما يكونان في السماوات أيضا ، وقيل : المراد بالسر ما كتم عنهم من


عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر وما ظهر لهم من السماوات والأرض. وإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى.

وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقا بالمصدر على سبيل التنازع ، واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. ويلزم أيضا التنازع مع تقدم المعمول. وأجيب بأن منهم من يجوز التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول : بجواز تقديم الظرف على المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره ، ونقل عن ابن هشام أنه قال : إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه ، وقال مولانا صدر الدين : يرد على منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] مع أن إلها مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فإن أول بالصفة مثل المعبود فليؤول السر والجهر بالخفي والظاهر.

وعن أبي علي الفارسي أنه جعل (هُوَ) ضمير الشأن و (اللهُ) مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرا وعلانية. وتخصيص ذلك بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر لإظهار كمال الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في إعادة (يَعْلَمُ). ومن الناس من غير بين المتعاطفين بجعل العلم هنا عبارة عن جزائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم. وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر. وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على ما لم يقع بعد.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد وامترائهم في البعث وإعراضهم عن بعض أدلته. والإعراض عن خطابهم للإيذان بأن إعراضهم السابق قد بلغ مبلغا اقتضى أن لا يواجهوا بكلام بل يضرب عنهم صفحا وتعدد جناياتهم لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم. فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية كما أشار إليه العلامة البيضاوي ولله تعالى دره أو للدلالة على الاستمرار التجددي ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق أو لتأكيده ، والثانية للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف مجرور أو مرفوع وقع صفة لآية ، وجعلها ابن الحاجب للتبيين لأن كونها للتبعيض ينافي كون الأولى للاستغراق إذ الآية المستغرقة لا تكون بعضا من الآيات. ورد بأن الاستغراق هاهنا لآية متصفة بالإتيان فهي وإن استغرقت بعض من جميع الآيات على أن كلامه بعد لا يخلو عن نظر.

وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها. والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات والإتيان على الأول بمعنى النزول ، وعلى الثاني بمعنى الظهور على ما قيل ، ويفهم من كلام بعض المحققين أنه مطلقا بمعنى الظهور استعمالاته في لازم معناه وهو المجيء الذي لا يوصف به إلا الأجسام مجازا لا كناية كما قيل.

وحاصل المعنى على الأول ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها.

(إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) غير مقبلين عليها ولا معتنين بها ، وعلى الثاني ما تظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شئونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته عزوجل إلا كانوا تاركين للنظر


الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها ، وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات. واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض. وفسر شيخ الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء ، و «عن» متعلقة بمعرضين. والتقديم لرعاية الفواصل.

والجملة بعد إلا ـ كما قال الكرخي ـ في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما. وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) [القمر : ٢] للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات.

وفي الكلام إشارة إلى غاية انهماكهم في الضلال حيث آذن أن إعراضهم عما يأتيهم من الآيات أن الإتيان كما يفصح عنه كلمة (لَمَّا) في قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه. وعبر عنه بذلك إظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به. والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية ـ كما هو الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام ـ لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد.

ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه. ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل بل آن المجيء تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع. وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف. والمعنى على الأول حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه. وعلى الثاني أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات. واختار في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها. وجوز أيضا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها. فقد قال الرضي : وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر : ٣٤] وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية. وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي بشيء من ذلك ، ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضا.

واستشكل بأن السبب يتقدم على المسبب لا متعقب إياه. وتكلف صاحب التوضيح لتوجيه بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار دخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية. ورد بأنها لا تتأتى في كل محل ، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم ، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت : كيف يتصور ترتب السبب على المسبب؟ قلت : من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب انتهى. وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقا. لكن ظاهر كلام النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدا فإنه أبوك ، واعبد الله فإن العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه الأول أولى وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل : لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الفصيح فكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا أسقط الفاء. نعم قيل : إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل عنه وفيه تأمل.

وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت الآية بمعنى الدليل أو المعجزة أو الآية


القرآنية لتغاير الإعراض والتكذيب فيها. والفاء في قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) للترتيب أيضا بناء على أن ما تقدم لكونه أمرا عظيما يقتضي ترتب الوعيد عليه ، وقيل : يستهزءون إيذانا بأن ما تقدم كان مقرونا بالاستهزاء.

واستدل به أبو حيان على أن في الكلام معطوفا محذوفا أي فكذبوا بالحق واستهزءوا به. ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة إليه. وما عبارة عن الحق المذكور. وعبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الذي يعظم وقعه. والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده بما يحصل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة ، وقيل : المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب النار ونحوه ؛ وقيل : المراد بأنباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو ظهور الإسلام وعلو كلمته ، وظاهر ما يأتي من الآيات يرجح الأول.

وصرح بعض المحققين بأن إضافة (أَنْباءُ) بيانية وهو احتمال مقبول وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزءوا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لإقحامه. وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي [الشعراء : ٦] (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ) بدون تقيد الكذب والتنفيس بالسين لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بما تقدم ، وقيل : شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر. والرؤية عرفانية ، وقيل : بصرية ، والمراد في أسفارهم وليس بشيء. وهي على التقديرين تستدعي مفعولا واحدا. و (كَمْ) استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها. وهي منصوبة بأهلكنا على المفعولية. وهي عبارة عن الأشخاص ، وقيل : إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدهما. و (مِنْ قَرْنٍ) مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت. واختلف في مقدار تلك المدة فقيل : مائة وعشرون سنة ، وقيل : مائة ، وقيل : ثمانون ، وقيل : سبعون ، وقيل : ستون ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : عشرون. وقيل : مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان. ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج : إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى. ويحتمل أن يعتبر ذلك مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها. وقيل : هو عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم. واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله. والمراد به هنا الأهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز.

وجوز بعضهم انتصاب (كَمْ) على المصدرية بأهلكنا بمعنى إهلاك أو على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف. ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا. وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية. والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزءون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وقوله تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) استئناف بياني كأنه قيل ما كان حالهم؟ ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع جر صفة (قَرْنٍ) لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص. وجمع الضمير باعتبار معناه. وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة. على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود


لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم. كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد انتهى. ولا يخفى أن التنوين التخفيفي لا يأبى الوصف. وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى ، وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب : إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم (فَأَهْلَكْناهُمْ) إلخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئا. وتمكين الشيء في الأرض ـ على ما قيل ـ جعله قارا فيها. ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض. ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦] وأخرى مكن له في الأرض. ومنه قوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [الكهف : ٨٤] حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر. ومنه قوله تعالى : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) بعد ما تقدم كأنه قيل في الأول : مكنا لهم وفي الثاني ما لم نمكنكم.

وفي التاج أن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له. وقال أبو علي : اللام زائدة مثل (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] وكلام الراغب في مفرداته يؤيده. وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له. ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين و (ما) إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم أو نكرة موصوفة أي تمكينا لم نمكنه. وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف ، وقيل : إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي أعطيناكم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم. وقيل : إنها مصدرية ظرفية أي مدة تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب للكفرة. وقيل : لجميع الناس ، وقيل : للمؤمنين. والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى. وقيل : ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر ، وهي نكتة في الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) أي المطر كما روي عن هارون التيمي. ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقيل : السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل. وقيل : هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. والإرسال والإنزال ـ كما في البحر ـ متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي غزيرا كثير الصب ، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وهو حال من السماء والظرف متعلق بأرسلنا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أي صيرناها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي من تحت مساكنهم. والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا. ولم يقل سبحانه : أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه : (أَرْسَلْنَا السَّماءَ) للإيذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة ظاهرة ، ولو كان ما ذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥ وغيرها] واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب. وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول. وليس المراد ـ على ما قيل ـ بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا. وينبئ عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين.

قوله تعالى : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) والفاء للتعقيب. وقيل : فصيحة. والمراد فكفروا فأهلكناهم. ورجح الأول ، والباء للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة


والسلام (وَأَنْشَأْنا) أي أوجدنا (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد إهلاكهم بسبب ذلك (قَرْناً آخَرِينَ) بدلا من الهالكين. وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخلي بلاده منهم فإنه جل جلاله قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى : (وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس : ١٥] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين ويلونهم من بعدهم (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) استئناف سيق بطريق تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم في المكابرة وما يتفرع عليها من الأقاويل الباطلة إثر بيان ما هم فيه من غير ذلك.

وعن الكلبي وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد لما قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله ، والكتاب المكتوب ، والجار بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أو متعلق به ، وقيل : إن جعل اسما كالإمام فالجار في موضع الصفة له ، وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق به.

وجوز أن يتعلق بنزلنا وفيه بعد ، والقرطاس بكسر القاف وضمها ، وقرئ بهما معرب كراسة كما قيل ، وممن نص على أنه غير عربي الجواليقي ، وقيل : إنه مشترك ومعناه الورق ، وعن قتادة الصحيفة ، وفي القاموس القرطاس مثلثة القاف وكجعفر ودرهم الكاغد ، وقال الشهاب : هو مخصوص بالمكتوب أو أعم منه ومن غيره.

(فَلَمَسُوهُ) أي الكتاب أو القرطاس ، واللمس كما قال الجوهري المس باليد فقوله تعالى : (بِأَيْدِيهِمْ) لزيادة التعيين ودفع احتمال التجوز الواقع في قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) [الجن : ٨] أي تفحصنا ، وقيل : إنه أعم من المس باليد ، فعن الراغب المس إدراك بظاهر البشرة كاللمس ، وبالتقييد به يندفع احتمال التجوز أيضا.

وقيل : إنما قيد بذلك لأن الإحساس باللصوق يكون بجميع الأعضاء ولليد خصوصية في الإحساس ليست لسائرها. وأما التجوز باللمس عن الفحص فلا يندفع به إذ لا بعد في أن يكون ذلك لمباشرتهم للفحص بأنفسهم بل يندفع لكون المعنى الحقيقي أنسب بالمقام وليس بشيء كما لا يخفى ، وقيل : إن ذكر الأيدي ليفيد أن اللمس كان بكلتا اليدين ولا يظهر وجه الإفادة. وتخصيص اللمس لأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع ولأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إذا ترك العناد والتعنت : إنما سكرت أبصارنا.

واعترض بأن اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئي مخيلا وأما نزوله من السماء فلا يثبت به.

وأجيب بأنه إذا تأيد الإدراك البصري في النزول بالإدراك اللمسي في المنزل يجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزما لا يحتمل النقيض فلا يبقى بعده إلا مجرد العناد مع أن حدوثه هناك من غير مباشرة أحد يكفي في الإعجاز كما لا يخفى ، وقال ابن المنير الظاهر أن فائدة زيادة لمسهم بأيديهم تحقيق القراءة على قرب أي فقرءوه وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا. وقوله تعالى : (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب (لَوْ) على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام. والمراد لقالوا تعنتا وعنادا للحق. وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يكفر ـ كما قيل ـ حسن موقعه باعتبار معناه اللغوي أيضا ، وجوز أن يكون المراد بهم قوم معهودون من الكفرة فحديث الوضع حينئذ موضوع و (إِنْ) في قوله سبحانه (إِنْ هذا) أي الكتاب نافية أي ما هذا (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر كونه سحرا (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الظاهر أنه استئناف لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة والسلام بما هو أصرح من الأول ، وقيل : إنه معطوف على جواب لو ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، واعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم


المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ، وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بما ذا يقابله وأي شيء يتشبث به. وكلمة (لَوْ لا) هنا للتحضيض ، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ) إلخ أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه إليهم ، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧]. ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين. إنزال الملك على صورته وجعله معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث الناس عنه وينذرهم أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثا ونذيرا وجعله محدثا ونذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته ، وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا) عليه (مَلَكاً) على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة.

وقد قيل : إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بحياد ومرة في السماء ، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة ، والذي صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل عليه‌السلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدا من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك ، ولم يرد هذا ـ كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شيء ـ من كتب الآثار ، وأما رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه‌السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب ، وظاهر الأخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام ، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفيا ولا إثباتا ، وعدم وقوع رؤية جبريل عليه‌السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم ، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم ، ولوط وداود عليهم‌السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار ، وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسندا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة ، وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة (ثُمَ) في قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلا عن أن يحفظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الانظار فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة ، وقيل : إنها للإشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتأملوا.

واعترض بأن قوله سبحانه : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) عطف على قوله عزوجل : (لَقُضِيَ) ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر.


وقيل في سبب إهلاكهم على تقدير إنزال الملك حسبما اقترحوه : إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورته الأصلية وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فإن سنة الله تعالى قد جرت بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح. وروي هذا عن قتادة ، وقيل : إنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] فيجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء ، وفيه أنه مخالف لقواعد أهل السنة ولا يتسنى إلا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الاشكال كما لا يخفى على المتتبع ، وذكر بعض الفضلاء أن هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة ما قبل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك قد نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وأن الإيمان إيمان يأس.

وقال ابن المنير : لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلك وضوح الآية في نزول الملك فإنه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الأمر كذلك ، فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا لا المعجز الخاص فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة ، ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الأولى ، وقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والاعتراض عليه بأن (لا يُنْظَرُونَ) يدل على إهلاكهم لا على هلاكهم برؤية الملك يندفع بما أشرنا إليه كما لا يخفى ، وليس بتكلف يترك له كلام ترجمان القرآن ، وقد أشير إلى الثاني بقوله سبحانه :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) على أن الضمير الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة والسلام المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم إنزاله ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم استطاعتكم معاينة الملك على هيكله الأصلي ، وفي إيثار (رَجُلاً) على بشرا إيذان على ما قيل بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل ، وفيه إشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها.

والعدول عن ولو أنزلناه ملكا إلى ما في النظم الجليل يعلم سره مما تقدم في بيان المراد ، وقيل : العدول لرعاية المشاكلة لما بعد ووجه شيخ الإسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال : ولو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك ، وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر ، ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت «لو» امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبرازا لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم ولا يخلو عن حسن. وجوز غير واحد كون قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) إلخ جواب اقتراح ثان ، وذلك أن للكفرة اقتراحين ، أحدهما أن ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه القوم ؛ والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم مكان الرسول البشر ملك فإنهم كما كانوا يقولون : لو لا أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملك فيكون معه نذيرا كانوا يقولون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ


مِثْلُكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) إلخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير (جَعَلْناهُ) للرسول المنزل إلى القوم ، ولا يخفى أن جعله جوابا عن اقتراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلا.

وبعضهم جعله جوابا آخر وجعل الضمير للمطلوب واعترض بأن المطلوب أيضا ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكا إلا أن يقال : المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكا ، وتعقب بأن المطلوب هو النازل المقارن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحينئذ لا غبار في الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلا لجعله ملكا كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل. فحينئذ يجب أن تكون الآية جوابا عن اقتراح آخر لا جوابا آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم المنافاة.

وأجيب بأنه على تقدير كونه جوابا آخر يكون جوابا على طريق التنزل ، والمعنى ولو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلا بد من تمثله بشرا لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته الحقيقية فيكون الإرسال لغوا لا فائدة فيه ، وأنت تعلم أن ما عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه الاعتراضات. نعم ذكر بعض الفضلاء إشكالا وهو أن المقرر عند أهل الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فهاهنا عكس القضية الصادقة وهي (لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) غير صادق إذ هو لو جعلناه رجلا لجعلناه ملكا ولا خفاء في عدم تحققه فإن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا «والجواب» بأن ما ذكره أهل الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان غير مرضي فإنه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه.

وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين لغويا وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما في لو جئتني أكرمتك ومفهوم القضية عليه الاخبار بأن شيئا لم يتحقق بسبب عدم تحقق شيء آخر ، وعرفيا تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم جعلوها من أدوات الاتصال لزوميا واتفاقيا وصدق القضية التي هي فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها اللغويون أيضا في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما يقال : لو كان زيد في البلد لرآه أحد. وفي بعض الآثار لو كان الخضر حيا لزارني ، ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول ، وجعلوا من هذا الاستعمال (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء: ٢٢].

وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن قول المستشكل : إن عكس القضية الصادقة إلخ إن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه ما ذكر فإن عكس لو جئتني أكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا : المراد من الآية ولو جعلناه ملكا لجعلناه على صورة رجل وأن المقصود بيان انتقاض غرضهم من قولهم : لو لا أنزل عليه ملك يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها إلا أن يجعله متمثلا على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن يبحث فيها عن أن عكسها. ما ذا أو كيف حالها في الصدق والكذب فإنها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى الآية


كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي فمسلم أنه لا بد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم كذب العكس هنا على ذلك التقدير فإنه إذا فرض لزوم الجعل رجلا للجعل الأول كليا على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكا للجعل رجلا على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال : إذا قلنا إن زيد صاهلا كان حيوانا لا يصدق عكسه ، وهو قد يكون إذا كان زيد حيوانا كان صاهلا لأنه ليس بصاهل في الواقع ، ومنشأ هذا هو ظن أن عدم تحقق أحد الطرفين ، أو كليهما ينافي اللزوم.

وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق المقدم اه. وبحث فيه المولى العلائي أما أولا فبأن كون القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك.

وأما ثانيا فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته ، فالصواب أن يقال : أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين. الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول. والثاني الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلم. وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في نعم العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه. وقد صرح المحققون أن الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول المرسل إليهم ملكا لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكا. وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنسانا وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر. فالبحث بعد محتاج إلى بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين.

(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) جعله بعضهم جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا إلخ ، وكأن الداعي إليه إعادة لام الجواب فإنه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك ، واللبس عليهم فإنه ليس سببا له بل لعكسه ، ويجوز أن يكون عطفا على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه ، ونكتة إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلباب ، واللبس في الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو كالستر له يقال : لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهت عليهم وجعلته مشكلا. قال ابن السكيت : يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له : إنما أنت بشر ولست بملك ، ولو استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلا.

ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبة آياته البينات إلى السحر ، و (ما) على ما اختاره في الكشف على الأول موصولة. وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير ، وأن تكون موصولة أي مثل الذي يلبسونه. ومتعلق (يَلْبِسُونَ) على الوجهين على أنفسهم. ويفهم من كلام الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال : كانوا يلبسون على ضعفائهم في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : إنما هذا بشر مثلكم فأخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكا


لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه.

وقرأ ابن محيصن «ولبسنا» بلام واحدة. والزهري «وللبسنا عليهم ما يلبسون» بالتشديد ، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أمورا. الأول أن الجنس إلى الجنس أميل. الثاني أن البشر لا يطيق رؤية الملك. الثالث أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي. الرابع أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا أو بشرا. ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري لا حقيقي ، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر.

وقول العلائي : لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبيا لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلا على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف ، وأبي جهل ، وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف ، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر ، ولك أن تقول : إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعقوبة من استهزأ به عليه‌السلام إن أصر على ذلك.

وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج ، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره ، وقيل : حل واختاره الطبرسي ، وقيل : نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل إلا في السر كما قال :

فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم

وحاق بهم من بأس ضربة حائق

وقال الراغب : أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة. كتظننت ، وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة ، والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج.

وقال الأزهري : جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها. وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة ، وفيه أيضا حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل ، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله. وظاهره إن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي. و (مِنْهُمْ) متعلق بسخروا والضمير المرسل. ويقال : سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا. وقيل : السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن. وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين


ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار. فعن الراغب الاستهزاء ارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة.

وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي ورده أبو حيان بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور. وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور. و (بِالَّذِينَ) متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو ما للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم. وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل. وإما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزءون به. وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير مضاف ، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة.

وقيل : إن المراد من الذي كانوا يستهزءون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف. وقد اختار ذلك الإمام الواحدي. والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على أن المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاءوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وإن مثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة.

ومن الناس من زعم أن (حاقَ بِهِمْ) كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازا. وأنت تعلم أن الحيق الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي ، ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه. نعم إذا قلنا : إن الإحاطة إنما تكون للأجسام دون المعاني فلا بد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزاعم كما لا يخفى. وفي جمع (كانُوا) و (يَسْتَهْزِؤُنَ) ما مر غير مرة في أمثاله. و (بِهِ) متعلق بما بعده. وتقديمه لرعاية الفواصل.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) خطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم لسوء أفعالهم تحذيرا لهم عما هم عليه مما يحاكي تلك الأفعال. وفي ذلك أيضا تكملة لتسليته عليه الصلاة والسلام بما في ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين ، وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازا أظهر من الشمس يوم بدر ، والمراد من النظر التفكر ، وقيل : النظر بالإبصار ، وجمع بينهما الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك. و (كَيْفَ) خبر مقدم لكان أو حال وهي تامة. والعاقبة مآل الشيء وهي مصدر كالعافية ، والتعبير بالمكذبين دون المستهزئين قيل : للإشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء. وأورد عليه أن تعريف المكذبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع أن الاستهزاء بما جاءوا به يستلزم تكذيبه. ولا يخفى أن مقصود القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الإشارة إليهم بهذا العنوان هنا ما لا يخفى من الإشارة إلى فظاعة ما نالهم ، وقيل : إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك ، وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للإيذان


بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجبا لأن الأول إنما يطلب للثاني كما في قولك : توضأ ثم صل ، وقيل : للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع. والثاني لإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح. وأورد عليه ـ كما قال الشهاب ـ أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالا ظاهرا.

وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادئ النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) [العنكبوت : ٦٦]. وهذا حاصل ما قيل : إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له : إذ قد أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك : افعل ما شئت. ولا يخفى أن انفهام ذلك من الآية في غاية البعد. وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة النمل : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة آنفا ، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر. ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية. ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه أيضا.

وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا : (ثُمَّ انْظُرُوا) وفي غير ما موضع (فَانْظُروا) [آل عمران: ١٣٧ ، النحل : ٣٦ ، النمل : ٦٩ ، العنكبوت : ٢٠ ، الروم : ٤٢] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع. وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٦] مع قوله سبحانه وتعالى : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) [الأنعام : ٦] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الأخر اه ، ولا يخلو عن دغدغة.

واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره ، وتارة أخرى نظرا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد

(قُلْ) على سبيل التقريع لهم والتوبيخ (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا.

وقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ لِلَّهِ) تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن ـ كما قال الإمام ـ في موضع يكون فيه الجواب كذلك ، قيل : وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين ، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ لِمَنْ) إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عزوجل : (قُلْ لِلَّهِ) معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين.

وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك ، والجار


والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عزوجل لجميع الخلق إثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رءوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل : هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي» ، وفي رواية الترمذي عنه مرفوعا «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابا عنده بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي» ، وفي رواية ابن مردويه عنه «أن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السماوات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي» إلى غير ذلك من الأخبار ، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.

وفي شرح مسلم للإمام النووي قال العلماء : غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا. وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها ، قالوا : والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه انتهى ، وهو يرجع إلى ما قلنا. وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق ، وكذا لا يتصور. الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا ، وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو وقال : «إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة» ، والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها ، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام. وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة. واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر ، وقوله سبحانه : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) جواب قسم محذوف وقع ـ على ما قال أبو البقاء ـ كتب موقعه. والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر ، وقيل : بياني كأنه قيل : وما تلك الرحمة فقيل : إنه تعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) إلخ وذلك لأنه لو لا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط. وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس.


وقال بعض المحققين أيضا : إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة ، وقيل : صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي ، وقيل : إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من (الرَّحْمَةَ) بدل البعض ، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك. والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين ، واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها ؛ وقيل : هو متعلق بالفعل المذكور ، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه ، وقيل : إنه متعلق بالفعل وإلى بمعنى في كما في قوله :

لا تتركني بالوعيد كأنني

إلى الناس مطلي به القار أجرب

ومنع بعضهم مجيء إلى بمعنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافا أو مبغضا أو مكرها ، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل : إن استعمال إلى بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر ، وارتكاب التضمين خلاف الأصل ، وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في وإن لم يكن مطردا أهون منه ، وقيل : إنها بمعنى اللام ، وقيل : زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السياق ، وقيل : عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها.

والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له ، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه ، وجوز أن تكون تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة: ٢].

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة ، وموضع الموصول قيل : نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالاً) [الهمزة : ١ ، ٢] كيف قطع فيه (الَّذِي) مع عدم صحة اتباعه نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت ، وقيل : هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضا ولا اختصاص للقطع بالنعت ، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدإ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع. واختار الأخفش البدلية ، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك ، وقيل : هو مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان ، وفي الكشاف فإن قلت : كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت : معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون.

وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون ، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه ،


وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه ، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة ، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر.

وقيل : الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على (لا رَيْبَ فِيهِ) فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل : فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان ، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي سماوات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم ، ويقال : الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ) أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك ، ويقال : الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام. وقال بعضهم : الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب. ثم بعد ظهور ذلك (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وهو طين المادة الهيولانية (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو البقاء بعد الفناء ، وقيل : الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية. ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس. والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر (ثُمَّ أَنْتُمْ) بعد ما علمتم ذلك (تَمْتَرُونَ) وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) في عالم الأرواح وهو عالم الغيب (وَجَهْرَكُمْ) في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها ، وقيل : المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) الأنفسية والآفاقية (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود (وَقالُوا) لضعف يقينهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) فنراه لتزول شبهتنا (وَ (١) لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ليمكنهم مشاهدته (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما في العالمين (قُلْ لِلَّهِ) إيجادا وإفناء (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره : إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق. وهي المرادة في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة. وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة ، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة.

وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة «شفعت الملائكة


وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه» كما في الخبر فهي امام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه ، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد الحمد لله رب العالمين. فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت ، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء ، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما ، ويقول الشرع في حمد السراء : الحمد لله المنعم المتفضل ، ويقول في حمد الضراء : الحمد لله على كل حال فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى ، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله تعالى عقيب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] الرحمن الرحيم فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم ، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى.

وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات ؛ ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص ؛ ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه ، نعم تنقسم الرحمة من بعض الحيثيات إلى قسمين ، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] ، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن ، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال.

وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس‌سره أن الجلال أسبق من الجمال. فقد ورد في الحديث : «العظمة إزاري والكبرياء ردائي» ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال : ولا يناقض هذا قوله جل شأنه : «سبقت رحمتي غضبي» فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال ، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر.

وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار. وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة. نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى أو الكبرى (لا رَيْبَ فِيهِ) في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لذلك ، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.


(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٣٥)

(وَلَهُ) عطف على (لِلَّهِ) فهو داخل تحت (قُلْ) على أنه احتجاج ثان على المشركين وإليه ذهب غير واحد.


وقال أبو حيان : الظاهر أنه استئناف اخبار وليس مندرجا تحت الأمر أي ولله سبحانه وتعالى خاصة (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي الوقتين المخصوصين. وما موصولة. و (سَكَنَ) إما من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير تقدير ، وتعديتها بفي إلى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان ، وجوز أن يكون هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السماوات والأرض ما سكن فيهما واستقر ، والمراد وله ما اشتملا عليه ، وإما من السكون ضد الحركة كما قيل ، وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] والتقدير ما سكن فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون أكثر وجودا وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل :

إذا هبت رياحك فاغتنمها

فإن لكل خافقة سكون

ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة. ورد بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرم في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. وأجيب بأن هذا المحذوف في قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لا يستدعي الذكر وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل والنهار ، ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية عن جميع ذلك ناسب المقام.

وقيل : إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركا بناء على ما حقق في موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها ، وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة المشهورة كلام طويل يطلب من محله (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي المبالغ في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين (الْعَلِيمُ) أي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة ؛ والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقوالهم وأفعالهم ولذا خص السمع والعلم بالذكر ، وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن تكون من مقول الله تعالى : (قُلْ) للمشركين بعد توبيخهم بما سبق (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة. ونحوه (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد قيل : إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام : يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت. واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل : أأتخذ غير الله وليا. وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبودا لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل :

إذا صافى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

وقيل : الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة ، ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصرا أنه لا يتخذه معبودا من باب الأولى ، ويحتمل الكلام ـ على ما قيل ـ أن يكون من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى إمحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٢٢]. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج أبو عبيدة وابن جرير ، وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى عنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : أنا ابتدأتها ، وهو نعت للجلالة مؤكد


للإنكار ، وصح وقوعه نعتا للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاما من الله تعالى ابتداء أو محكيا عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم ، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري «فطر» ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف ، وقيل : بدل من الاسم الجليل ، ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل ، وقرئ بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو أمدح فاطر ، وجوز أن يكون النصب على البدلية من (وَلِيًّا) لا الوصفية لأنه معرفة ، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له.

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي ، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧] وعبر بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه ، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة ، والجملة في محل نصب على الحالية ، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرءوا «ولا يطعم» بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى ، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين ، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، والضمير حينئذ في الفعلين لغير الله تعالى أي اتخذ من هو مرزوق غير رازق وليا ، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى ، وقد يقال : الكلام كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسا ، وقرأ الأشهب (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) ببنائهما للفاعل ، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاما ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] والضميران لله تعالى ، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير (قُلْ) بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول (إِنِّي أُمِرْتُ) من جناب ولي جل شأنه (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصا له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولا بما أمر به ليكون أدعى للامتثال ، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].

وقيل : إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي في أمر من أمور الدين ، وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي : لا تكونن ، فالواو من الحكاية عاطفة للقول المقدر على (أُمِرْتُ) ، وحاصل المعنى إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ، وقيل : إنه معطوف على مقول (قُلْ) على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي ، وقيل : إنه عطف على (قُلْ) على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا ، وتعقب بأن سلاسلة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها ، وجوز أن يعطفه على (إِنِّي أُمِرْتُ) داخلا في حيز (قُلْ) والخطاب لكل من المشركين ، ولا يخفى تكلفه وتعسفه ، وعدم صحة عطف على (أَكُونَ) ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ، وقوله سبحانه وتعالى (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة. وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول


(أَخافُ) والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط محذوف وجوبا. وما تقدم على الأداة شبيه به فهو دليل عليه وليس إياه على الأصح خلافا للكوفيين. والمبرد ، والتقدير إن عصيت أخف أو أخاف عذاب إلخ ، وقيل : صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم. وفي الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير المتكلم ما هو معلوم الانتفاء وقرن بأن التي تفيد الشك وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض. ويؤول المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف على نفسه المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثا ثم قال ، وأجيب عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا فلا تدل إلا على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف ، وأنت تعلم أن فيما قدمنا غنى عن ذلك. ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد وأنه لا يجب عليه شيء ، وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال لموسى عليه‌السلام : يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.

وجاء في غير ما خبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عصفت الريح يصفر وجهه الشريف ويقول : أخاف أن تقوم الساعة مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي ، وعيسى عليهما‌السلام ، وخروج الدجال ، وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد. وصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة والسلام لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها بقوله «خشيت أن تفرض عليكم» مع أن ما كان ليلة الإسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على أن لله تعالى أن يفعل ما شاء وقصارى ما يلزم في أمثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء الله تعالى.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب ، وضمير (عَنْهُ) يعود على (مَنْ) وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب. و (مَنْ) على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف ، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالا من الضمير.

وجوز أن يكون نائب الفاعل. وهل يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذ أم لا فيه خلاف فقيل : لا بد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف و (يَوْمَئِذٍ) له حكمه. وفي الدر المصون لا حاجة إليه لأن التنوين لكونه عوضا يجعل في قوة المذكور خلافا للأخفش. وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك ، والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب ؛ وجوز أن تكون صفة (عَذابَ). وقرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم «من يصرف» على أن الضمير فيه لله تعالى. وقرأ أبي «من يصرف الله» بإظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو «يومئذ» بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه ، و (مَنْ) في هذه القراءة أيضا مبتدأ.

وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرا للمحذوف ، وأن يجعل منصوبا بيصرف ويجعل ضمير (عَنْهُ) للعذاب أي أي إنسان يصرف الله تعالى عنه العذاب (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك : إن أطعمت زيدا من جوعة فقد أحسنت


إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه ، وعلى هذا يكون الكلام من قبيل ـ من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ـ «ومن كانت هجرته إلى الله تعالى» الخبر ، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل ، وقيل : المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب.

ونقض بأصحاب الأعراف. وأجيب بأن قوله تعالى : (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) حال مقيدة لما قبله ، والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وأنت تعلم أنه إذا قلنا : إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك ، وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده ، والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم.

وقال بعض الكاملين : إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» يعني بالشراء المذكور ، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب ، ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الأخبار. وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما معنى ، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال. وأما كون الجواب ماضيا لفظا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي اه فليفهم.

والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن (يُصْرَفْ) وإما إلى الرحمة ، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل. ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو ـ على ما في القاموس ـ بمعنى الرحمة. ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير إليه ، والفوز الظفر بالبغية ، وآل لقصره على المسند إليه.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي ببلية كمرض وحاجة (فَلا كاشِفَ) أي لا مزيل ولا مفرج (لَهُ) عنك (إِلَّا هُوَ) والمراد لا قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من صحة وغنى (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] ويظهر من هذا ارتباط الجزاء بالشرط. وقيل : إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى ، والمذكور تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر تؤكد أنه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها ، وزعم أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار ذلك مكابرة ، وأصل المس ـ كما قال أبو حيان ـ تلاقي الجسمين ، والمراد به هنا الإصابة. وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير للتعدية (١) وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل : وإن يمسسك الله الضر. وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وغيره وبالفتح بضد النفع ، وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر ـ على ما في البحر ـ لأن الشر أعم فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة ، وقال ابن عطية : إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨]

__________________

(١) كان في الأصل تحريف وأصلحناه من تفسير البحر المحيط.


فجيء بالجوع مع العري وبالظمإ مع الضحو وكان الظاهر خلافه. ومنه قول امرئ القيس :

كأني لم أركب جوادا للذة

ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسأل الزق الروي ولم أقل

لخيلي كري كرة بعد إجفال

وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر. وكذلك قرن امرئ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر. وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فإن انتقام العظيم عظيم. ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه ، والآية من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ) إلخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) إلخ. وهي على ما قيل داخلة في حيز (قُلْ) والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نافية للجنس ، و (كاشِفَ) اسمها و (لَهُ) خبرها والضمير المنفصل بدل من موضع (فَلا كاشِفَ) أو من الضمير في الظرف ، ولا يجوز ـ على ما قال أبو البقاء ـ أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته. وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل أحدا سواه.

وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال حوائجه بربه عزوجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال ، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عزوجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى؟ وتستند هذه الجملة إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «بينما أنا رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : يا غلام احفظ الله تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا» فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ويجد العزة برحمة الله عزوجل.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة ، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس ، وقيل : إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة ، وقيل : إن (فَوْقَ) زائدة. وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو كما ترى ، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود ، ويلزم أيضا من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى ، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي. وغيره واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل ، وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله» وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل الذي استشفع بالله


تعالى عليه : «ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب».

وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات» وروى ابن ماجة يرفعه قال : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه». وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي :

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسومينا

فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه ، وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله :

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم

رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم

يقوم بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أشهد. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] أنه قال : لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم ، والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر : ١ ، الجاثية : ٢ ، الأحقاف : ٢]. و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠]. و (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨]. و (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج : ٤]. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم : «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» كثيرة جدا ، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال : قد كفر لأن الله تعالى يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وعرشه فوق سبع سماوات فقال : قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه : هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر ، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل اه.

وأيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه


موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح ، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.

وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول : كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال : فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني ، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة ، ثم هو أيضا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض ، ولا يخفى أن هذا باطل ، أما أولا فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة. وقد استقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال : إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. وأما ثانيا فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلا لا يسمى قبلة أصلا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلا ، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد. ثم سمع عن بشر المريسي أنه يقول : سبحان ربي الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا.

وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال : الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائد ابتداء : الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله : الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضا تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، على أن في ذلك تنقيصا لله تعالى شأنه ففي المثل السائر :

ألم تر ان السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف خير من العصا

نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه‌السلام (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٥٩] (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ٧٣] فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن إليه ، والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة ، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا


إثباتا لئلا يثبتوا معنى فاسدا أو ينفوا معنى صحيحا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه. وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ؛ ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فإذا قيل : إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم ، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات ، ونفاه لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال : إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك ، وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه. والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات ما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي أو المبالغ في الأحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير (الْخَبِيرُ) أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم. واللام هنا وفيما تقدم للقصر (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت.

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري ابن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها.

فأي مبتدأ و (أَكْبَرُ) خبره و (شَهادَةً) تمييز. والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال : شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن.

ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة الإطلاق محتجا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠] فقال : لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك ، وفي المواقف وشرحه الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء ، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل : والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ما ذا يطلق ، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول ، ولو قيل : ليس بشيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى.


وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظر إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا ثم قال : وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم. وعن الجهمية أنه اسم للحادث ، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى. وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه ، وقوله : إن أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء ، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء. وإنكار أهل اللغة على من يقول : الموجود ليس بشيء لكونه سلبا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين. وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣] وقال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠]

وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سأله رجل فقال : «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري يقول : لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ بن جبل. والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف. وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن سيبويه. ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة.

وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة بالمعدوم وليس كذلك. فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٢ ، النساء : ١٧٦ ، النور : ٣٥ ، ٦٤ ، الحجرات : ١٦ ، التغابن : ١١] جمعا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية. ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية ، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا.

وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عزوجل كإطلاق المعلوم مثلا ، ومعنى (أَكْبَرُ شَهادَةً) أعظم وأصدق (قُلِ اللهُ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى الجواب بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبا. والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة ، وجوز العكس.

ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة ، وقوله سبحانه : (شَهِيدٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو ابتداء كلام ، وجوز أن يكون خبر (اللهُ) والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عزوجل إذا كان هو الشهيد بينه


وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له ، ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه : (اللهُ) فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أولا فليفهم (وَأُوحِيَ إِلَيَ) من قبله تعالى : (هذَا الْقُرْآنُ) العظيم الشاهد بصحة رسالتي (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) بما فيه من الوعيد. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب للمقام ، وقيل : إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر ، وفي الدر المصون أن الكلام على حد (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلغه القرآن فكأنما شافهته» واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية ، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال «أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا : لا فخلى سبيلهم ثم قرأ (وَأُوحِيَ إِلَيَ) الآية» وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية ، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع ، والحسن والقبح العقليان قد طوى بساط ردهما ، وجوز أن يكون (مَنْ) عطفا على الفاعل المستتر في (لِأُنْذِرَكُمْ) للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا ، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن. (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) جملة مستأنفة أو مندرجة في القول والاستفهام للتقرير أو للإنكار ، وقيل : لهما ، وفيه جمع بين المعاني المجازية و (أُخْرى) صفة لآلهة. وصفة جمع ما لا يعقل ـ كما قال أبو حيان ـ كصفة الواحدة المؤنثة نحو (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] ولله تعالى الأسماء الحسنى. ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا المجرى تحقيرا لها (قُلْ) لهم (لا أَشْهَدُ) بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف.

(قُلْ) تكرير للأمر للتأكيد (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو وما كافة.

وجوز أبو البقاء ـ وزعم أنه الأليق بما قبله ـ كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون (واحِدٌ) خبرا وهو خلاف الظاهر (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأصنام أو من إشراككم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) جواب عما سبق في الرواية الأولى من قولهم : سألنا اليهود والنصارى إلخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلى الجواب عن تحكمهم بقولهم : أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل ، وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحليته ونعوته المذكورة فيهما ، وفيه التفات ، وقيل : الضمير للكتاب ، واختاره أبو البقاء. والأول


هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلا. روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام : إن الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة؟ فقال ابن سلام : نعرف نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وايم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : وفقت وصدقت.

وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إما إن يكون باقيا وقت نزول الآية أولا بل محرفا مغيرا والأول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال ؛ وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم.

وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها ، وبقولهم : إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤].

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من أهل الكتابين والمشركين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بما يجب الإيمان به ، وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بادعائه أن له جل شأنه شريكا وبقوله الملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه ، والاستفهام للاستعظام الادعائي. والمشهور أن المراد إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له ، والتركيب وإن لم يدل على إنكار المساواة وضعا كما قال العلامة الثاني في شرح المقاصد وحواشي الكشاف يدل عليه استعمالا فإذا قلت : لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف ، والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة.

وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على ما هو عليه فإن الافهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة. فإذا حكم بعض الناس مثلا بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا. كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من يساويه بل من يقاربه أيضا وهو المطلوب ، وبالجملة أن إثبات المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل ففي الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل.

وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه. قال ابن الصائغ في مسألة الكحل : إن ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده


كالدابة انتهى. وأنت تعلم أن هذا مشعر باعتبار العرف أيضا (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كأن كذب بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن سماها سحرا ، وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي ذكرها الله تعالى فيه ، وإنما ذكر (أَوْ) وهم جمعوا بين الأمرين إيذانا بأن كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس ، وقيل : نبه بكلمة (أَوْ) على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت ، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا. أو يقال : إن من نفى الثابت بالبرهان يكون بنفي ما لم يثبت به أولى ، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جمع بين المتناقضين من هذا الوجه.

وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب أن يكون ملكا.

ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء ، وهذه التوجيهات لا ترفعه (إِنَّهُ) أي الشأن ، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو (لا يُفْلِحُ) أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه (الظَّالِمُونَ) من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخرا وضمير (نَحْشُرُهُمْ) للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم و (جَمِيعاً) خال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت. وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل. وقدر ماضيا ليدل على التحقيق ويحسن عطف (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) إلخ عليه ، وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم. واختاره أبو البقاء ، وقيل : التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم إلخ (ثُمَّ نَقُولُ) للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة و (أَيْنَ) للسؤال عن غير الحاضر ، وظاهر قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) [الصافات : ٢٢] وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فأما أن يقال : إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت

وإما أن يقال : إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد؟ فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضرا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم؟ ، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر لسؤال ، وقوله تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ) إلى قوله سبحانه : (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤]. وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم.

وقال شيخ الإسلام : إن هذا السؤال المنبئ عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب حسبما يحكيه قوله سبحانه : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] إلخ ونحوه إما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف ، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث هي شركاء كما


يعرب عنه الوصف بالموصول ، ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو لا.

وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيروا مكان حزنهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد. وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ. وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة اه.

وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها. ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه. مع أن كون هذا واقعا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ. وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه.

وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان سبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله : لأن عذاب البرزخ لا يقتضي إلخ ليس في محله ، وكذا قوله : فكم من معذب في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد. وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر. وقرأ يعقوب «يحشرهم ثم يقول» بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى. وقوله سبحانه للمشركين : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) إما بالواسطة أو بغير واسطة. والتكليم المنفي في قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) إلخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا. فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم. والزعم يستعمل في الحق كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «زعم جبريل عليه‌السلام» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقول سيبويه في أشياء يرتضيها : زعم الخليل ، ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب. وكثيرا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمونهم شركاء.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة ، واختلف في المراد هنا فقيل : الشرك ، واختار هذا القول الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض ، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقا وأبعد مغزى. والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي.

وقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لو لم يكن عاقبة شركهم شيئا إلا تبرئهم منه ، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له : ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن


صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب ، وقيل : المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له.

وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ، وأبي عبد الله ، وقتادة ، ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم ، وقيل: الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقا للمسبب على السبب ، ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة قيل : والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها ، و (تَكُنْ) بالتاء الفوقانية ، و (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع قراءة ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وقرأ حمزة ، والكسائي «يكن» بالياء التحتانية و «فتنتهم» بالنصب ، وكذا قرأ «ربنا» بالنصب على النداء أو المدح. وقرئ في الشواذ «ربنا» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو توطئة لنفي إشراكهم. وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى. وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب «فتنتهم» أيضا ، وخرجوا قراءة الأولين على أن «فتنتهم» اسم «تكن» وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث و (أَنْ قالُوا) خبره.

وقرأ حمزة والكسائي على أن «قالوا» هو الاسم ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر و (فِتْنَتُهُمْ) هو الخبر.

وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله :

وقد خاب من كانت سريرته العذر

ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة ، وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة ، وقيل : إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي. ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم ، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي : إن ذلك من قبيل من كانت أمك؟ ونوقش بما لا طائل فيه ، وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسما لأن (أَنْ قالُوا) يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما. وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع الأحكام ، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في يوم نحشرهم إلخ على ما مرت الإشارة إليه. وجعلها غير واحد عطفا على الجملة قبلها و (ثُمَ) إما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق.

وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم. فيمكن أن يقال : إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما تنبئ عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان. ومما ينبئ على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم.

وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي ، والقاضي ، ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا. وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك. واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) أي في قولهم (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وأجابوا بأنه ليس المراد أنهم


كذبوا في الآخرة بل المراد انظر كيف كذبوا (عَلى أَنْفُسِهِمْ) في الدنيا. ورد بأن الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدا. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضا قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] بعد قوله سبحانه : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة: ١٤] حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ، ويشير إلى هذا التشبيه أيضا الأمر بالنظر كما لا يخفى على من نظر.

وذكر ابن المنير أن في الآية دليلا بينا على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل أخبارهم وتبرءوهم كذبا مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم ، وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر. والمروي عن الحسن أن ما موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] أو نحو ذلك. وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئا ، وقيل : إن (ما) مصدرية أي ضل افتراءهم كقوله سبحانه: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) [الكهف : ١٠٤] أي لم ينفعهم ذلك. والجملة قيل : مستأنفة ، وقيل : واختاره شيخ الإسلام أنها عطف على (كَذَبُوا) داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لا نظر لذلك. وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا بالمرة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) كلام مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه. وضمير (مِنْهُمْ) للذين أشركوا. والاستماع بمعنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة ، وقيل : إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح : إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر ابن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية وأبي بن خلف استمعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأفرد ضمير (مَنْ) في يستمع وجمعه في قوله سبحانه (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) نظرا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل : هنا (يَسْتَمِعُ) وفي (يَسْتَمِعُونَ) [يونس : ٤٢] لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع ، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن. والجعل بمعنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى لأن فعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة


كأكنة وأخبية إلا نادرا. وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال : كنه وأكنه كما قال الطبرسي وغيره ، وفرق بينهما الراغب فقال : أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره. والتنوين للتفخيم والواو للعطف. والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية ، وقيل : الواو للحال أي وقد جعلنا. و (عَلى قُلُوبِهِمْ) متعلق بالفعل قبله.

وزعم أبو حيان أنه إن كان بمعنى ألقي فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني. والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يفهموا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه. وكذلك يفعلون في أمثاله ، وجوز أن يكون مفعولا به لما دل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه (أَكِنَّةً) وحده من ذلك (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما وثقلا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه. والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشئون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى ، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره.

وقرأ طلحة «وقرأ» بالكسر ـ وهو ـ على ما نص عليه الزجاج. حمل البغل ونحوه. ونصبه على القراءتين بالعطف على (أَكِنَّةً) كما قال أبو البقاء (وَإِنْ يَرَوْا) أي يشاهدوا ويبصروا (كُلَّ آيَةٍ) أي معجزة دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة. وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك (لا يُؤْمِنُوا بِها) لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم.

والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم ، ونقل عن بعضهم أنه لا بد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤]. واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية بما كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به ، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم.

(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي يخاصمونك وينازعونك. و (حَتَّى) هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها : حتى الابتدائية. ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافا للزجاج وابن درستويه زعما أنها في محل جر بحتى.

ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى : (إِذا جاؤُكَ) مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وما بينهما حال من فاعل جاءوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم. و (إِذا) منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك ، واعترض بأن جعل (يُجادِلُونَكَ) في موضع الحال و (يَقُولُ الَّذِينَ) جوابا مفض إلى جعل الكلام لغوا لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها.

ولا يخفى ما فيه فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقي صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك ، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد


عدم الإيمان بل يقولون (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها ، وقال قتادة : كذبهم وباطلهم.

وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه. ونظير ذلك ـ مات الناس حتى الأنبياء ـ وجوز أن تكون (حَتَّى) هي الجارة و (إِذا جاؤُكَ) في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضا فلا جواب لها فيقول حينئذ : تفسير «ليجادلونك» وهو في موضع الحال أيضا. والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير ، وقال بعضهم : له مفرد. وفي القاموس إنه جمع أسطار وأسطير بكسرهما وإسطور وبالهاء في الكل ، وقيل : جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع وأصل السطر بمعنى الخط (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) الضمير المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي ، ولعل ذلك ـ كما قال شيخ الإسلام ـ هو السر في تأخير النأي عن النهي. وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه ، وقيل : الضمير المجرور للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى ينهون الناس عن الإيمان به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه ، وهو التفسير الذي أخرجه أبناء جرير ، والمنذر ، وأبي حاتم ، ومردويه من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج أيضا ابن جرير من طريق العوفي. وروي ذلك عن محمد ابن الحنفية ، والسدي ، والضحاك ، وقيل: الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه والمجرور للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به.

أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال : إن الآية نزلت في عمومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في السر ، وقيل : ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاما لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد ، وقيل : إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله : قفا عند المازني ، ولا يخفى بعده. وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا.

وروي عن مقاتل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال منشدا :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذاري سبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فنزلت هذه الآية. وفيها على هذا القول والذي قبله التفات ، ورد الإمام القول الأخير بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم. ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع. وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه.


والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية. ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد :

أعاذل إن يصبح صدى بقفرة

بعيدة نأني زائري وقريبي

وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في «ينهون وينأون» من التجنيس البديع. وقرئ «وينون» عنه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) أي وما يهلكون بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال. وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق. على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل كانوا يبغون الغوائل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو نظام عقد لآلئ الآيات القرآنية.

وجوز أن يكون الإهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم. ونفي الشعور ـ على ما في البحر ـ أبلغ من نفي العلم كأنه قيل. وما يدركون ذلك أصلا (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبا في نفسه. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من له أهلية ذلك قصدا إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص بها راء دون راء. و (لَوْ) شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل. ونظير ذلك قول امرئ القيس :

وجدك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

وقولهم لو ذات سوار لطمتني. و (تَرى) بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه. والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال : أوقفته على كذا إذا فهمته وعرفته. واختاره الزجاج أي ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق.

وقيل : إن لو بمعنى إن وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى. وقرئ (وُقِفُوا) بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالبا الوقوف. ويستعمل وقف متعديا أيضا ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة.

وقيل : إنه بطريق القياس (فَقالُوا) لعظم أمر ما تحققوه (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي إلى الدنيا. و (يا) للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول : أساطير الأولين. وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات ، وقال شيخ الإسلام : يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها. ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون. ونصب الفعلين ـ على ما قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج ـ بإضمار أن على جواب التمني. والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ورده أبو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن


الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال. وشبهة من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط ، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن إسحاق «فلا نكذب» ، واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل : ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، والكسائي برفع الفعلين ، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه : دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تركتني. ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله :

اليوم يومان مذ غيبت عن نظري

نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر

وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة ، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على إنشاء. ومن النحاة من جوزه مطلقا ، ونقله أبو حيان عن سيبويه ، وجوز أن يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على (نُرَدُّ) أو حال من الضمير فيه ، فالمعنى ـ كما قال الشهاب ـ على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودا بالذات هنا ، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفا ، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد.

وقرئ شاذا بعكس هذه القراءة (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشئ عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا ، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلا فكأنه قيل : بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه.

وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عزّ شأنه : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) [الرحمن : ٤٣] وقوله عزّ من قائل : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٤] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم : «ولا نكذب بآيات ربنا» مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسا لقوة الدليل ، وقيل : المراد بما كانا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم ، وقيل : المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وقيل : المراد به أمر البعث والنشور ، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور ، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.


وقيل : الآية في المنافقين ، والضمير المرفوع لهم ، والمجرور للمؤمنين ، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا ، وقيل : هي في أهل الكتاب مطلقا أو علمائهم ، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام. وتعقب كل ذلك بأنه بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها ، وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف ، ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله ، ونقل عن المبرد أن الكلام على حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضا فتدبر.

(وَلَوْ رُدُّوا) من موقفهم ذلك إلى الدنيا (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ولا يخفى حسنه ، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه ، وقيل : إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا ، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والإصرار وكون هذا جوابا لما مر من تمنيهم. وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذ كخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضا ما يصدهم.

وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد ، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم ، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب. وليس الكذب على الاحتمالين متوجها إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب. وقال الربعي : لا بأس بتوجه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه. واحتج على ذلك بقوله :

منى إن تكن حقا أحسن المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب ، ولا يخفى ما فيه مع أنه لو سلّم فهو مجاز أيضا. وقيل: الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب. واعترض بأن الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسألة ، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الإنشاء ، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذكره الراغب (وَقالُوا) عطف على (لَعادُوا) كما عليه الجمهور. واعترضه ابن الكمال بأن حق (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حينئذ أن يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه. وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث. وجوز أن يكون عطفا على (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أو على خبر إن أو على (نُهُوا) والعائد


محذوف أي قالوه ، وأن يكون استئنافا بذكر ما قالوا في الدنيا (إِنْ هِيَ) أي ما هي (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي :

هو الجد حتى تفضل العين أختها

وحتى يكون اليوم لليوم سيدا

وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مواضع ، منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرا له كما هنا. وجعله بعضهم ضمير الشأن. ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة. وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفردا إما مطلقا أو بشرط كون المفرد عاملا عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناء على أنه حينئذ يسد مسد الجملة. وقيل ـ وفيه بعد ـ : يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في الذهن وهو الحياة. والمعنى أن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها. وهو المراد بقولهم: الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظاهر لا سيما الأخير.

(وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلا (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة ، وقيل : الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضا وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه ، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم ، وقيل : هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل : ما عرفناك حق معرفتك ، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه.

(قالَ) استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فما ذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك؟ فقيل : قال : إلخ. وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلا (أَلَيْسَ هذا) أي البعث وما يتبعه (بِالْحَقِ) أي حقا لا باطلا كما زعمتم ، وقيل : الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء ، ولا دلالة في (فَذُوقُوا) عند أرباب الذوق على ذلك ، والهمزة للتقريع على التكذيب (قالُوا) استئناف كما سبق (بَلى) هو حق (وَرَبِّنا) أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال تيقنهم بحقيقته وإيذانا بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعا بأن ينفعهم وهيهات (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ) الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به ، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى ، ولعل هذا التوبيخ والتقريع ـ كما قيل ـ إنما يقع بعد ما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا إلا العذاب ، ويحتمل العكس وأمر سهل (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) هم الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله تعالى والاستمرار عليه ، والمراد به لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم ، وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى ، وصرح آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) أي الوقت المخصوص وهو يوم القيامة ، وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت المعلوم كالنجم للثريا ، وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه. وفسرها بعضهم هنا بوقت الموت ، والغاية المذكورة للتكذيب.

وجوز أن تكون غاية للخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذ على حد قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي


إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ج ٧٨] أي أنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فإذا جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل : خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين (بَغْتَةً) أي فجأة وبغتة بالتحريك مثلها ، وبغتة كمنعه فجأة أي هجم عليه من غير شعور ، وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل (جاءَتْهُمُ) أي مباغته أو من مفعوله أي مبغوتين ، وجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقرى أو لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره. وقوله سبحانه وتعالى : (قالُوا) جواب إذا (يا حَسْرَتَنا) نداء للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل : يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك ، قيل : وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ، ولذا قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته» أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة ، وقال أبو البقاء : التقدير يا حسرة احضري هذا أوانك ، وهو نداء مجازي ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها ، ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى حسنه.

(عَلى ما فَرَّطْنا) أي على تفريطنا ، فما مصدرية فالتفريط التقصير فيما قدر على فعله ، وقال أبو عبيدة : معناه التضييع ، وقال ابن بحر : معناه السبق ومنه الفارط للسابق. ومعنى فرط خلا السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدت البعير أزلت جلده وسلبته (فِيها) أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن ، والمراد من التفريط في الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان والأعمال الصالحة. وقيل : الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي ولا يخفى بعده ، وقول الطبرسي ويدل عليه ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : «يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون (يا حَسْرَتَنا) إلخ لا يخلو عن نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال ، وعن محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفة لدلالة الخسران عليها وهو بعيد أيضا ، ومثل ذلك ما قيل : إن ما موصولة بمعنى التي ، والمراد بها الأعمال والضمير عائد إليها كأنه قيل يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها ، نعم مرجع الضمير على هذا مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فإنه غير مذكور فيه بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول الأول عند بعض فتدبر (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) في موضع الحال من فاعل (قالُوا) وهي حال مقارنة أو مقدرة. والوزر في الأصل الثقل ويقال للذنب وهو المراد هنا أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وذكر الظهور لأن المعتاد الأغلب الحمل عليها كما في ـ كسبت أيديكم ـ فإن الكسب في الأكثر بالأيدي. وفي ذلك أيضا إشارة إلى مزيد ثقل المحمول ، وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظهر من باب الاستعارة التمثيلية ، والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب ، وقيل : حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك؟ قال كذلك كان عملك قبيحا قال : ما أنتن ريحك؟ قال : كذلك كان عملك منتنا قال : ما أدنس ثيابك؟ فيقول : إن عملك كان دنسا قال : من أنت؟ قال : أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار ، وأخرجا عن عمرو بن قيس قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن شيء صوره وأطيبه


ريحا فيقول له : هل تعرفني؟ فيقول : لا إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥] وإن كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا إلا أن الله تعالى قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيّئ طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ) الآية.

وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلا أيضا. ولا مانع من الحمل على الحقيقة وإجراء الكلام على ظاهره ، وقد قال كثير من أهل السنة بتجسيم الأعمال في تلك الدار وهو الذي يقتضيه ظاهر الوزن.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) تذييل مقرر لما قبله وتكملة له ، و (ساءَ) تحتمل ـ كما قيل ـ هنا ثلاثة أوجه ، أحدها أن تكون المتعدية المتصرفة وزنها فعل بفتح العين ، والمعنى ألا ساءهم ما يزرون ؛ وما موصولة أو مصدرية أو نكره موصوفة فاعل لها والكلام خبر ، وثانيها أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين وأشربت معنى التعجب ، والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم. وثالثها أنها حولت أيضا للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى والأحكام.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون بين جل شأنه حال تينك الحياتين في أنفسهما وجعله بعضهم جوابا لقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وفيه بعد ، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات ، وبهذا التقدير خرج ـ كما قال غير واحد ـ ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة إنما كان لضرورة المعاش ، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف ، وجعلت الدنيا نفسها لعبا ولهوا مبالغة كما في قوله :

وإنما هي إقبال وإدبار

صح ، واللهو واللعب ـ على ما في درة التنزيل ـ يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراما أو لا ؛ وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك ، وإذا أطلق اللهو فهو ـ على ما قيل ـ اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله :

ألا زعمت بسياسة اليوم أنني

كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

وقال قتادة : اللهو في لغة اليمن المرأة ، وقيل : اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به ، وقيل : إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو ، وقيل : العاقل المشتغل بشيء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو ، وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقا للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدما على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي ، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها


ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه ، وأيام السرور فصار كما قيل :

وليلة إحدى الليالي الزهر

لم تك غير شفق وفجر

وينزل على هذا الوجوه في الفرق ، وتفصيله في الدرة قاله مولانا شهاب الدين فليفهم (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) التي هي محل الحياة الأخرى (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان ، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون ، وكان الظاهر أن يقال ـ كما قال الطيبي ـ وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلا أنه وضع (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب ، وقال في الكشف : إن في ذلك دليلا على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة.

وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون ، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم ، وقرأ ابن كثير وغيره «يعقلون» بالياء والضمير للكفار القائلين (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، وقيل : للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل. (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة ، وكلمة قد للتكثير وهو ـ كما قال الحلبي رادا به اعتراض أبي حيان ـ راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى ، وقال السفاقسي : قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناء على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي ، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

كأن أثوابه مجت بفرصاد

وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم. وكلام سيبويه حيث قال : وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصا في ذلك ؛ وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به. وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان.

وقول أبي حيان : إن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرا لم يكن قرنا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي.

وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم ، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا ويتناقض أول الكلام وآخره ، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل ، وقد يراد به في بعض المواضع ضده. وهو من


باب استعارة أحد الضدين للآخر ، والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى قومه وتكذيبهم ، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم.

ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى ، وضمير (إِنَّهُ) للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له ، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله ، وهو ما حكي عنهم من قولهم (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥ ، الأنفال : ٣١ ، المؤمنون : ٨٣ ، النمل : ٦٨] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة (إِنَّهُ) إلخ سادة مسد مفعولي يعلم.

وقرأ نافع «ليحزنك» من أحزن المنقول من حزن اللازم ، وقوله سبحانه : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] إيذانا بكمال القرب واضمحلال شئونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الله عزوجل. وفيه أيضا استعظام لجنايتهم منبئ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل : لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون ، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه ، وقيل : إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٥٤] فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

وقيل : إن أل في (الظَّالِمِينَ) إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم ، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد ، لا يخفى ما فيه ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاما لما قدموا عليه ، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفى ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه. والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب ، وقيل : إنه إنما يتعدى بنفسه والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرءوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين ، وقيل : إنها تعليل لقوله سبحانه : (قَدْ نَعْلَمُ) إلخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر : نعلم ما تفعل فكأنه قيل : لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم ، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر ، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل : والله إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة


والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فما ذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية. وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال : كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى الآية ، وقيل : المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي ، ونسب هذا إلى الكسائي ، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة. واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه ، وقال مولانا سنان : إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق ؛ وقال الطيبي : مرادهم أنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر ، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر ، وقيل : معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره ، وقيل : المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية ، وعلى هذا لا يكون ذكر (الظَّالِمِينَ) من وضع المظهر موضع المضمر ، وقيل : غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل.

وقرأ نافع ، والكسائي والأعمش عن أبي بكر «لا يكذبونك» من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه ، ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ، فقال الجمهور كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل ؛ وقيل : معنى أكذبته وجدته كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا ، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول : كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية إثر تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر ، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية ، وتنوين (رُسُلٌ) للتفخيم والتكثير ، ومن متعلقة بكذبت ؛ وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل ، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان ، وفيه منع ظاهر ، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) ما مصدرية وقوله : (وَأُوذُوا) عطف على (كُذِّبُوا) داخل في حكمه ؛ ومصدر كذب التكذيب ، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره ، وقول صاحب القاموس : ولا تقل إيذاء خطأ ، والذي غره ترك الجوهري وغيره له ، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها ، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك ، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء ، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبا ، وفيه تأكيد للتسلية ، وجوز العطف على (كُذِّبَتْ) أو على (فَصَبَرُوا) ، وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافا ثم رجح الأول.

وقوله سبحانه : (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) غاية للصبر ، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين ، وجوز أن يكون غاية


للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف ، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.

(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم ، والمراد بكلماته تعالى ـ كما قال الكلبي ـ وقتادة ـ الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] وقوله عزّ شأنه : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧٢].

وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولا أوليا ، والالتفات إلى الاسم الجليل ـ كما قيل ـ للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال ، وظاهر الآية أن أحدا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عزوجل بمعنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية ، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم ، والنبأ كالقصص لفظا ومعنى.

وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم ، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن ، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفا في ذلك لسيبويه فاعل «جاء» ، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا منه ، وقيل : وإليه يشير كلام الرماني ـ أنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين ، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا ، وقال أبو حيان : الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه.

وقيل ـ وربما يشعر به كلام الكشاف ـ : أن من هي الفاعل ، والمراد بعض أنبائهم (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) أي شق وعظم وأتى بكان ـ على ما قيل ـ ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا لأن (كانَ) لقوة دلالته على المضي لا تقلبه إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال ، وهو مذهب المبرد ، والنحويون يؤولون ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه كبر (عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أي الكفار عن الإيمان بك وبما جئت به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وينبئ عنه فعلهم من النأي والنهي ، ولعل التعبير بالإعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كانت عنه لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل (كَبُرَ) ، وتقديم الجار والمجرور لما مر مرارا. والجملة خبر (كانَ) مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن. ولا حاجة إلى تقدير قد ، وقيل : اسم كان (إِعْراضُهُمْ) ، و (كَبُرَ) مع فاعله المستتر الراجع إلى الاسم خبر لها مقدم على اسمها ، والكلام استئناف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلا.

وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محضر من قريش فقالوا : يا محمد ائتنا بآية من عند الله تعالى كما كانت الأنبياء تفعل وإنا نصدقك فأبى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام لما أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحرص على إيمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعا في إيمانهم فنزلت (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي إن قدرت وتهيأ لك (أَنْ


تَبْتَغِيَ) أي تطلب (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) هو السرب فيها له مخلص إلى مكان كما في القاموس ، وأصل معناه جحر اليربوع ، ومنه النافقاء لأحد منافذه. ويقال لها النفقة كهمزة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى من القاصعاء ضربها برأسه فانتفق ومنه أخذ النفاق ، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة «نفقا» والكلام على التجريد في رأي ، وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالا من ضميره المستتر أي نفقا كائنا في الأرض أو تبتغي في الأرض أو تبتغي أنت حال كونك في الأرض (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) أي مرقاة فيها أخذا من السلامة. قال الزجاج : لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك. وهو كما قال الفراء : مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور : ٣٨] ثم قال : وأنشدت في تأنيثه بيتا أنسيته انتهى.

قال الغضائري : البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو :

لنا سلم في المجد لا يرتقونها

وليس لهم في سورة المجد سلم

وأنشدوا أيضا في تذكيره :

الشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

يريد أن يعربه فيعجمه

وفي (السَّماءِ) نظير ما في الجار قبله من الاحتمالات (فَتَأْتِيَهُمْ) أي منهما (بِآيَةٍ) مما اقترحوه من الآيات. والفاء في صدر هذه الشرطية جوابية وجواب الشرط فيه محذوف. ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر أو فافعل فعل أمر ؛ والجملة جواب للشرط الأول ، والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحا ليؤمنوا فإن استطعت كذا فتأتيهم بآية فافعل ، وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الإيماء إلى توبيخ القوم أو المعنى إن شق عليك إعراضهم فلو قدرت أن تأتي بالمحال أتيت به ، والمقصود بيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية ، وفيه إشعار ببعد إسلامهم عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر ، وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه.

وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية ، فالفاء في (فَتَأْتِيَهُمْ) حينئذ تفسيرية وتنوين «آية» للتفخيم ، والمعنى عليه فإن استطعت ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت.

ورده أبو حيان بأن هذا لا يظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي آية ، وأيضا فأي آية في دخول سرب في الأرض وإن صح أن يكون الرقي إلى السماء آية ، وما ذكرناه من أن إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان. ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : إن المراد فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب ، وأيد بما أخرجه الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخبرني عن قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) فقال رضي الله تعالى عنه سربا في الأرض فتذهب هربا وفيه بعد ، وخبر ابن الأزرق قد قيل فيه ما قيل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي لو شاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزال ، وقالت المعتزلة : المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك


لخروجه عن الحكمة ، والحق ما عليه أهل السنة (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إذا عرفت أنه سبحانه لم يشأ هدايتهم وإيمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على إسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق شئونه تعالى ، وجوز أن يراد بالجاهلين ـ على ما نقل عن المعتزلة ـ المقترحون ، ويراد بالنهي منعه صلى الله تعالى عليه وسلّم من المساعدة على اقتراحهم ، وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق مناط النهي.

وقال الجبائي : المراد لا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم والأول أولى ، وفي خطابه سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح عليه‌السلام من قوله سبحانه له : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] إشارة إلى مزيد شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتداد حرصه عليه الصلاة والسلام فافهم هذا.

ومن باب الإشارة في الآيات : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل: وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي ناصرا ومعينا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) فهو الغنى المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) نفسه لربه عز شأنه. والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي : كن أول من أسلم فكنت ، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة ، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لي : لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء. (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة (الْخَبِيرُ) الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بإظهار المعجزات ، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بإثبات وجود غيره تعالى (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) فأظهر صفات نفسه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بإثبات الغير (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء ولهم وجود (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) لامتناع وجود شيء نشركه


(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها (وَضَلَ) أي ضاع (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فلم يجدوه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) من حيث أنت (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) حسبما اقتضاه استعدادهم (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وهي ظلمات النفس الأمارة (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) وهو وقر الضلالة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وهي نار الحرمان (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) من تجليات صفاته (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي الموحدين (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لرسوخ ذلك فيهم (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكه فيهم (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) الآية قال بعض أهل التأويل : هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق. والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول لا يكون إلا كرها والثاني يكون طوعا ورغبة ، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الكهف : ٢٨] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت ، ومن وقف مع الصفات. وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران. وليس هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف. والمشرك موقوف أولا على الرب فيحجب بالرد والطرد (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤ ، آل عمران : ٧٧] ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) [الزمر : ٧٢] ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على النار متأخرا عن وقفه على الرب تعالى معلولا له كما قال تعالى : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٧٠] وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار. وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى. فتأمل فيه (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) وهي القيامة الصغرى أعني الموت. حكي عن بعض الكبار أنه قيل له : إن فلانا مات فجأة فقال : لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تصوير لحالهم (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول (إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي عالم الروحانيات (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) لمقتضى البشرية (الَّذِي يَقُولُونَ) ما يقولون (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الحقيقة (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ) التي تجلى بها (يَجْحَدُونَ) فهو سبحانه ينتقم منهم (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ) نصرنا فتأس بهم وانتظر الغاية (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.


(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(٥٥)

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لا يؤمنون. والاستجابة بمعنى الإجابة ، وكثيرا ما أجري استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك. ومنه قول الغنوي :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل : مستجيب. ومنهم من فرق بين استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول ، والمراد بالسماع الفرد الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلا سماع أي إنما يجيب دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ


الْمَوْتى) [الروم : ٥٢] (وَالْمَوْتى) أي الكفار كما قال الحسن ، ورواه عنه غير واحد (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) من قبورهم إلى المحشر ، وقيل : بعثهم هدايتهم إلى الإيمان وليس بشيء (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ، وفي إطلاق الموتى على الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما قيل :

لا يعجبن الجهول بزيه

فذاك ميت ثيابه كفن

وقيل : الموتى على حقيقته ، والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيق أولئك الكفار للإيمان باختصاصه سبحانه بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور ، وفيه إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقدر على هدايتهم لأنها كبعث الموتى. وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما يترتب على الإيمان من الآثار ، وفي إعراب (الْمَوْتى) وجهان أحدهما أنه مرفوع على الابتداء ، والثاني أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره أبو البقاء ، ويفهم من كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول ، والجملة بعده في موضع الحال والظاهر خلافه. وقرئ «يرجعون» على البناء للفاعل من رجع رجوعا. والمتواترة أوفى بحق المقام لانبائها عن كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار.

(وَقالُوا) أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم يعتدوا به (لَوْ لا) أي هلا (نُزِّلَ) أي أنزل (عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ملجئة للإيمان (قُلْ) يا محمد (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) من الآيات الملجئة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار أو استئصالا لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد الآية الملجئة.

وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجئ ولا يلزم من عدم الاعتداد بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا يلجئ لجاجا وعنادا ، ويكون الجواب بالملجئ حينئذ من أسلوب الحكيم أو يكون جوابا بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ. ومن لابتداء الغاية. والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بنزل ، وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لآية. وما يفيده التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم. والاقتصار في الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى للآية مع قدرته عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبئ عنه الاستدراك. وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع الإشعار بالعلية ، ومفعول (يَعْلَمُونَ) إما مطروح بالكلية على معنى أنهم ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا يعلمون شيئا. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا. وقرأ ابن كثير «ينزل» بالتخفيف ، والمعنى هنا ـ كما قيل ـ واحد لأنه لم ينظر إلى التدريج وعدمه.

وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق ـ كما قال الطبرسي. وغيره ـ لبيان كمال قدرته عزوجل وحسن تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه تعالى قادر على الإنزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم الباهرة ، وقيل : إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث والحشر والأول أنسب ، وزيدت (مِنْ) تنصيصا على الاستغراق. والدابة ما يدب من الحيوان ، وأصله من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابة ، ووصفت بذلك لزيادة التعميم


كأنه قيل : وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها ، وكذا الوصف في قوله سبحانه (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) لزيادة التعميم أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه ، وقيل : إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله :

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣].

واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة ، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة. وأورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل : ولا طائر في السماء لكان أخضر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى ، ورد ـ كما قال الشهاب ـ بأنه لو قيل : في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء ، ثم إن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعا كما لا يخفى ، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان ، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما ، والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه ، وقرأ ابن أبي عبلة (وَلا طائِرٍ) بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل : وما دابة ولا طائر (إِلَّا أُمَمٌ) أي طوائف متخالفة (أَمْثالُكُمْ) في أن أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية ، وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد ، وهو يقتضي جواز أن يقال : لا رجل قائمون ، والقياس ـ كما قيل ـ لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل. وصرح السيد السند بأن النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع ، ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها ، فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى : (إِلَّا أُمَمٌ) يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة ، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر ، وأما ما قيل : إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم «بأمثالكم» إذ الخطاب بكم لافراد نوع الإنسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع ، نعم قال السكاكي في المفتاح : إن ذكر (فِي الْأَرْضِ) مع دابة و (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما ، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالإنسان فكأنه قيل : ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم إلخ ، وهذا كما يقال : ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا ، ومراده أن لفظ (دَابَّةٍ) و (طائِرٍ) حامل لمعنى الجنس والواحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة من بالنظر إلى الجنسين ، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام ، وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والإحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى.


واعترض أيضا القول بالعموم بأنه كيف يصح مع وجوب خروج المشبه به عنه. وأجيب بأن القصد أولا إلى العام والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل : ما من واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم ، ولك أن تدعي دخول كل فرد من أفراد المخاطبين بالتزام أن له اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) التفريط التقصير ، وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا ، فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة للاستغراق ، ويبعد جعلها تبعيضية أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم ، والمراد من الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فإنه ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إما مفصلا وإما مجملا ، فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها.

وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك : فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له : قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] قالت : بلى قال : فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه» وقال الشافعي رحمه‌الله تعالى مرة بمكة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال : أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن. وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة» وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ، وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر الله تعالى به ، وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت رجله فجاءوا ليحملوه فقال : امهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم فحملوه فقيل له في ذلك فقال : راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة ، وهذا أمر لا تصله عقولنا. ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا أسماء سلاطين آل عثمان وأحوالهم ومدة سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان ، ولا بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب ، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بتخصيص الشيء بما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والتكاليف ، وقال أبو البقاء : إن شيئا هنا واقع موقع المصدر أي تفريطا ، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لأن (فَرَّطْنا) لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير واحد ، وجعلوا ما يفهم من القاموس من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث قال : فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر مما تفرد به في مقابلة من هو أطول باعا منه مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير إليه سابقا ، وعلى هذا لا يبقى ـ كما قال أبو البقاء ـ في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء ، والكلام حينئذ نظير قوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : ١٢٠] أي ضيرا. وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفيا على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع


أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر ، وأيا ما كان فالجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فإن من جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي ، وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند الله تعالى وهو مشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ ، والمراد بالاعتراض حينئذ الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل ، وعن أبي مسلم أن المراد منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلا هو بالغه ولا يخفى بعده.

وقرأ علقمة «ما فرطنا» بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى. وقال أبو العباس : معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك المرض أي أزاله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الضمير للأمم المذكورة في الكريم ، وصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم والتعبير عنها بالأمم ، وقيل : هو للأمم مطلقا وتكون صيغة الجمع للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه الشيخان.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها ، ومراده رضي الله تعالى عنه ـ على ما قيل ـ إن قوله سبحانه وتعالى (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث «من مات فقد قامت قيامته» فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر ، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة ، نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال ، هذا وفي رسالة المعاد لأبي علي قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ : إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) إلخ ، وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة ، وحينئذ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب.

ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد ، ومن الناس من جعلها دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد الإنسان ، وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين. وأورد الشعراني في الجواهر والدرر لذلك أدلة غير ما ذكر ، منها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام ناقته. قال عليه الصلاة والسلام : «دعوها فإنها مأمورة» ووجه الاستدلال بذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة ، وإذا ثبت أن للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق ، ومنها ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره. وأورد بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه إلا العالمون ؛ وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فإن ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة ، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة الحسن وهو من شأن ذوي النفوس. وأغرب من هذا دعوى الصوفية. ونقله الشعراني عن شيخه على الخواص قدس الله تعالى سره أن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى ومن حيث لا يشعر المحجوبون ثم قال : ويؤيده قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] حيث نكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم.

ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول : جميع ما في الأمم فينا حتى أن فيهم ابن عباس


مثلي. وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم أنبياء. وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن يكون خارجا عنهم من جنسهم. وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال : إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] ليس لنقص فيها وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وإن كانت منتقلة في شئونه بتنقل الشئون الإلهية لأنها لا تثبت على حال. ولذلك كان من وصفهم الله عزوجل من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله تعالى اه.

ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره ، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف ، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك. وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له.

والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر. وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة ، ويستندون في ذلك إلى الشهود. وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ولكن لا تفقهون تسبيحهم وبنحو ذلك من الآيات والأخبار.

والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي ، ونظير ذلك.

شكى إلى جملي طول السرى و

امتلأ الحوض وقال قطني

وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قالي كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك ، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع ، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا. وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه. وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده. وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات.

وقد أطالوا الكلام في هذا المقام ، وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله. وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه ، وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به. وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي ، والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولا أوليا ، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] إلخ أو الأعم من أولئك ، والكلام متعلق بقوله سبحانه (ما فَرَّطْنا) إلخ أو بقوله جل شأنه (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)


والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره (صُمٌّ وَبُكْمٌ) وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى. وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون. وقوله سبحانه : (فِي الظُّلُماتِ) أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع (عُمْيٌ) كما في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨ ، ١٧١] ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق ، واختير العطف فيما تقدم للتلازم ، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل : ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا ، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات ؛ وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل ، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق بقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول يشأ محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من مفعولا مقدما له لفساد المعنى ، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده ، وجوز بعضهم أن يكون (مَنْ) في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) عطف على ما تقدم ، والكلام فيه كالكلام فيه ، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد. والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال : معنى (يُضْلِلْهُ) يخذله ولم يلطف به و (يَجْعَلْهُ) إلخ بلطف به ، وقال غيره : المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى.

وكان الظاهر على ما قيل : أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض. ولهذا قيل في تفسير (يَجْعَلْهُ) إلخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد. وليس اسما لأنه لو كان كذلك لكان إما مجرورا ولا جار هنا. أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع. ولا مقتضي له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه ، الأول أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك : أرأيت زيدا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا.

والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى. وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت : أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية. والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول : أرأيتما كما وأ رأيتموكم وأ رأيتكن وهذا مذهب البصريين. والمفعولان في هذه الآية قيل : الأول منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) أي هو لها كما يدل


عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو (عَذابُ اللهِ) والساعة فاعمل الثاني وأضمر في الأول. والثاني منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك. وقيل : لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم ، وقيل : إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين.

وذهب الرضي تبعا لغيره أن رأى هنا بصرية. وقيل : قلبية بمعنى عرف. وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء. وفيه ـ على ما قال الكرماني ـ. وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له. وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب. وقول بعضهم : إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني لما قيل : إنه بالنظر إلى أصل الكلام. ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال : إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا : أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان بمعنى أخبرت. وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضا الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدا أراني زيد عمرا ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم ، وأخرجته أيضا عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) [الكهف : ٦٣] الآية. فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أما. والمعنى أما إذا أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا. وقد أخرجته أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا ، وإذا كان بهذا المعنى فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام. وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه ولم يوافق في جميع ذلك.

وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول. وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع. والكلام على ذلك مبسوط في محله. والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ) إلخ. وقوله سبحانه : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) متعلق بأ رأيتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، والتقدير ـ على ما قيل ـ إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة أو أن عبادتكم لها نافعة أو إن كنتم قوما من شأنكم الصدق فأخبروني أإلها غير الله تعالى تدعون إن أتاكم عذاب الله إلخ فإن صدقهم من موجبات أخبارهم بدعائهم غيره سبحانه.

وقيل : إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله ، واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند إتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه ، وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفا تقديره أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ، وجعلوا قوله سبحانه : (أَغَيْرَ اللهِ) إلخ استئنافا للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها ، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص.

وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص ، نعم التقديم في قوله تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) للتخصيص أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل ، والتخصيص مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق كأنه قيل : لا غير الله تدعون بل إياه تدعون ، وجعله في الكشف عطفا على (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) وأورد الزمخشري على كون (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه :


(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي ما تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى : (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) يأباه فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وأجاب بأنه قد اشترط في الكشف المشيئة بقوله جل شأنه : (إِنْ شاءَ) وهو عزوجل لا يشاء كشف هاتيك القوارع عنهم ، وخص الإيراد بذلك الوجه ـ على ما في الكشف ـ لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه : (أَغَيْرَ) إلخ وكان (بَلْ إِيَّاهُ) إلخ عطفا عليه إضرابا عنه والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا. ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفادا عنه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف. وأما في الوجه الآخر فلأن (أَغَيْرَ) إلخ لما كان كلاما مستقلا لم تتعلق به الشرطان لفظا بل جاز أن يقدرا أو هو الظاهران ساعد المعنى ، وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء المقام وذلك أنه سبحانه بكتهم بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا ترى إلى قوله جل شأنه : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣] فلا مانع من ذكر أمرين والتقريع على أحدهما دون الآخر لا سيما عند اختصاصه بالتقريع انتهى. وربما يقال : إن كشف القوارع الدنيوية والأخروية بدعاء المؤمن أو المشرك بل قبول الدعاء مطلقا مشروط بالمشيئة وبذلك تقيد آية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] لكن انتفاء المشيئة متحقق في بعض الصور كما في قبول دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما يلقونه من سواء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب طول الوقوف حين يشفع صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشفع في الفصل بين الخلائق يومئذ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء.

على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما يلاقونه بعد وإن لم يعلموا ذلك قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك اليوم لا تفارقهم أصلا وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد. فقول بعضهم إثر قول الزمخشري : فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الأحسن عندي أن هول القيامة يكشف أيضا ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث الشفاعة العظمى إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة وقد غفل عن هذا من اتبعه كلام خال عن التحقيق ، والمعتزلة على ما في مجمع البحار لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار.

هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره فمن تدعون ، وقيل : وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى ، وقيل : إنه مذكور وهو أرأيتكم ، وقيل : ونسب للرضي هو الجملة المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال ، ورده الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جوابا للشرط بدون فاء.

وبحث في ذلك الشهاب في حواشيه على شرح الكافية للرضي وقال أبو حيان وتبعه غير واحد الذي أذهب إليه أن يكون الجواب محذوفا لدلالة (أَرَأَيْتَكُمْ) عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله تعالى فأخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول : أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به فإن التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه. ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى فافهم ولا تغفل. وقوله تعالى : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) عطف على (تَدْعُونَ) والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركا كليا ، وقيل : يحتمل أن يكون على حقيقته فإنهم لشدة الهول ينسون ذلك حقيقة ، ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذ أن ينسى الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى ما سواه سبحانه ، وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن الدعاء لإظهار كمال العناية بشأنه والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة


(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف سيق لبيان أن من المشركين من لا يدعو الله تعالى عند إتيان العذاب لتماديه في الغي والضلال ولا يتأثر بالزواجر التكوينية كما لا يتأثر بالزواجر التنزيلية ، وقيل : مسوق لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتصدير الجملة بالقسم لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونها ، والمفعول محذوف لأن مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين وتنوين (أُمَمٍ) للتكثير و (مِنْ) ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناء على جواز زيادتها في الإثبات وضعف أي تالله لقد أرسلنا رسلا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك (فَأَخَذْناهُمْ) أي فكذبوا فعاقبناهم (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) أي البؤس والضر.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير أنه قال : خوف السلطان. وغلاء السعر. وقيل : البأساء القحط والجوع والضراء المرض ونقصان الأنفس والأموال وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كأحمر حمراء كما هو القياس فإنه لم يقل أضر وأبأس صفة بل للتفضيل (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي لكي يتذللوا فيدعوا ويتوبوا من كفرهم (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) أي فلم يتضرعوا حينئذ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به ، «ولو لا» عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : ٩٨] والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) وليست لو لا هنا تحضيضية كما توهم لأنها تختص بالمضارع ، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي. ولما كان التضرع ناشئا من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل : فما لانت قلوبهم ولكن قست ، وقيل : كان الظاهر أن يقال لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر ، ومعنى (قَسَتْ) إلخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله. والتزيين له معان ، أحدها إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله تعالى : (زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) [الصافات : ٦] والثاني جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس. والثالث جعله محبوبا للنفس مشتهى للطبع وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبه كالوسوسة والإغواء ، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسندا إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه : و (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] وتارة إلى البشر كقوله عزوجل : (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة ، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناء على المراد منه أولا ، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناء على المراد منه ثانيا فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة ، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك. وجاء أيضا غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) [يونس : ١٢] وحينئذ يقدر في كل مكان ما يليق به ، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي تركوا ما دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي عن ابن جريج ، وقيل : المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكرا بهم واستدراجا لهم.

فقد روى أحمد ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر مرفوعا «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَمَّا نَسُوا) الآية وما


بعدها». وروي عن الحسن أنه لما سمع الآية قال : «مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا» وقيل: المراد فتحنا عليهم ذلك إلزاما للحجة وإزاحة للعلة ، والظاهر أن (فَتَحْنا) جواب لما لأن فيها سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط.

واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير. وأجيب بأن النسيان سبب للاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير ، وسببية شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه. ويقال : إن الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه وتسببه عنه ظاهر ، وقيل : إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة. وقرأ أبو جعفر وابن عامر «فتّحنا» بالتشديد للتكثير (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) فرح بطر (بِما أُوتُوا) من النعم ولم يقوموا بحق المنعم جل شأنه (أَخَذْناهُمْ) عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا ، وهي نصب على الحالية من الفاعل أو المفعول أي مباغتين أو مبغوتين أو على المصدرية أي بغتناهم بغتة (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من النجاة والرحمة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال البلخي : أذلة خاضعون ، وعن السدي الإبلاس تغير الوجه. ومنه سمي إبليس لأن الله تعالى نكس وجهه وغيره ، وعن مجاهد هو بمعنى الاكتئاب.

وفي الحواشي الشهابية للإبلاس ثلاثة معان في اللغة ، الحزن ، والحسرة ، واليأس وهي معان متقاربة. وقال الراغب : هو الحزن المعترض من شدة اليأس ، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل : أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته و (إِذا) هي الفجائية وهي ظرف مكان كما نص عليه أبو البقاء وعن جماعة أنها ظرف زمان ، ومذهب الكوفيين أنها حرف ؛ وعلى القولين الأولين الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي آخرهم كما قال غير واحد ، وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي خلفه ، ومنه إن من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا أي في آخر الوقت.

وقال الأصمعي : الدابر الأصل ؛ ومنه قطع الله دابره أي أصله وأيّا ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما جرى عليهم من النكال والإهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك ، واختار الطبرسي أنه حمد منه عز اسمه لنفسه على ذلك الفعل (قُلْ) يا محمد على سبيل التبكيت والإلزام أيضا (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي أصمكم وأعماكم فأخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له ، والاستدلال بالآية على بقاء العرض زمانين محل نظر.

(وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقل وفهم أصلا. وقيل : يجوز أن يكون الختم عطفا تفسيريا للأخذ فإن البصر والسمع طريقان للقلب منهما يرد ما يرده من المدركات فأخذهما سد لبابه بالكلية وهو السر في تقديم أخذهما على الختم عليها. واعترض بأن من المدركات ما لا يتوقف على السمع والبصر ، ولهذا قال غير واحد بوجوب الإيمان بالله تعالى على من ولد أعمى أصم وبلغ سن التكليف ، وقيل في التقديم : إنه من باب تقديم ما يتعلق بالظاهر على ما يتعلق بالباطن. ووجه تقديم السمع وافراده قد تقدمت الإشارة إليه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي بذلك على أن الضمير مستعار لاسم الإشارة المفرد لأنه الذي كثر في الاستعمال التعبير به عن أشياء عدة وأما الضمير المفرد فقد قيل فيه ذلك. ونقل عن الزجاج أن الضمير راجع إلى المأخوذ والمختوم عليه في ضمن ما مر أي المسلوب منكم أو راجع إلى السمع وما بعده داخل معه في القصد ولا يخفى بعده.


وجوز أن يكون راجعا إلى أحد هذه المذكورات ، و (مَنْ) مبتدأ و (إِلهٌ) خبره و (غَيْرُ) صفة للخبر و (يَأْتِيكُمْ) صفة أخرى ، والجملة ـ كما قال غير واحد ـ متعلق الرؤية ومناط الاستخبار أي أخبروني أن سلب الله تعالى مشاعركم من إله غيره سبحانه يأتيكم به وترك كاف الخطاب هنا قيل : لأن التخويف فيه أخف مما تقدم ومما يأتي.

وقيل : اكتفاء بالسابق واللاحق لتوسط هذا الخطاب بينهما ، وقيل : لما كان هذا العذاب مما لا يبقى القوم معه أهلا للخطاب حذفت كافه إيماء لذلك ورعاية لمناسبة خفية (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نكررها على أنحاء مختلفة ، ومنه تصريف الرياح. والمراد من الآيات ـ على ما روي عن الكلبي ـ الآيات القرآنية وهل هي على الإطلاق أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل هذا أقوال أقربها عندي الأقرب وفيها الدال على وجود الصانع وتوحيده وما فيه الترغيب والترهيب والتنبيه والتذكير. وهذا تعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : لمن يصلح للخطاب من عدم تأثرهم بما مر من الآيات الباهرات.

(ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي يعرضون عن ذلك : وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنشد لهذا المعنى قول أبي سفيان بن الحارث :

عجبت لحكم الله فينا وقد بدا

له صدفنا عن كل حق منزل

وذكر بعضهم أنه يقال : صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه. وأصله من الصدف الجانب والناحية ومثله الصدفة وتطلق على كل بناء مرتفع. وجاء في الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بصدف مائل فأسرع.

والجملة عطف على «نصرف» داخل معه في حكمه وهو العمدة في التعجيب. و (ثُمَ) للاستبعاد أي أنهم بعد ذلك التصريف الموجب للإقبال والإيمان يدبرون ويكفرون (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) تبكيت آخر لهم بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) أي العاجل الخاص بكم كما أتى أضرابكم من الأمم قبلكم (بَغْتَةً) أي فجأة من غير ظهور أمارة وشعور. ولتضمنها بهذا الاعتبار ما في الخفية من عدم الشعور صح مقابلتها بقوله سبحانه : (أَوْ جَهْرَةً) وبدأ بها لأنها أردع من الجهرة. وإنما لم يقل : خفية لأن الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى.

وزعم بعضهم أن البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها بالجهرة وأنها مكنية من غير تخييلية. ولا يخفى أنه على ما فيه تعسف لا حاجة إليه فإن المقابلة بين الشيء والقريب من مقابله كثيرة في الفصيح. ومنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «بشروا ولا تنفروا». وعن الحسن أن البغتة أن يأتيهم ليلا. والجهرة أن يأتيهم نهارا. وقرئ «بغتة أو جهرة» بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة أي إتيانا بغتة أو إتيانا جهرة. وفي المحتسب لابن جني أن مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرك إلا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد والطرد. ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردا كالبحر والبحر ، وما أرى الحق إلا معهم ، وكذا سمعت من عامه عقيل. وسمعت الشجري يقول : أنا محموم بفتح الحاء. وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء. وقالوا : اللحم يريد اللحم. وسمعته يقول تغدوا بمعنى تغدوا. وليس في كلامهم مفعل بفتح الفاء وقالوا : سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلا اه. وهي ـ كما قال الشهاب ـ فائدة ينبغي حفظها. وقرئ «بغتة وجهرة» بالواو الواصلة.

(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي إلا أنتم. ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الإيمان والإعراض موضع الإقبال. وهذا ـ كما قال الجماعة ـ متعلق


الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريرا لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه جل شأنه حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه ، وقيل : المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا. واعترض بأنه يأباه تخصيص الإتيان بهم ، وقيل : الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي ، ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل : أخبروني إن أتاكم عذابه عزوجل بغتة أو جهرة ما ذا يكون الحال. ثم قيل : بيانا لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم إلا أنتم.

وقيد الطبرسي وغيره الهلاك بهلاك التعذيب والسخط توجيها للحصر إذ قد يهلك غير الظالم لكن ذلك رحمة منه تعالى به ليجزيه الجزاء الأوفى على ابتلائه ، ولعله اشتغال بما لا يعني. وقرئ «يهلك» بفتح الياء.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) إلى الأمم (إِلَّا مُبَشِّرِينَ) من أطاع منهم بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) من عصى منهم بالعذاب ، واقتصر بعضهم على الجنة والنار لأنهما أعظم ما يبشر به وينذر به ، والمتعاطفان منصوبان على أنهما حالان مقدرتان مفيدتان للتعليل. وصيغة المضارع للإيذان بأن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الإلهية ، والآية مرتبطة بقوله سبحانه : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس : ٢٠] أي ما نرسل المرسلين إلا لأجل أن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويسخر بهم (فَمَنْ آمَنَ) بما يجب الإيمان به (وَأَصْلَحَ) ما يجب إصلاحه والإتيان به على وفق الشريعة ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصولة ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في قوله سبحانه : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب الذي أنذر الرسل به (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات الثواب الذي بشروا به ، وقد تقدم الكلام في هذه الآية غير مرة ، وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة إلى من باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار لفظها.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي التي بلغتها الرسل عليهم الصلاة والسلام عند التبشير والإنذار ، وقيل : المراد بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزاته ؛ والأول هو الظاهر ، والموصول مبتدأ وقوله تعالى : (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) خبره والجملة عطف على «من آمن» إلخ. والمراد بالعذاب العذاب الذي أنذروه عاجلا أو آجلا أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم لذلك انتظاما أوليا ؛ وفي جعله ماسا إيذان بتنزيله منزلة الحي الفاعل لما يريد ففيه استعارة مكنية على ما قيل. وجوز الطيبي أن يكون في المس استعارة تبعية من غير استعارة في العذاب ، والظاهر أن ما ذكر مبني على أن المس من خواص الأحياء ، وفي البحر أنه يشعر بالاختيار ، ومنع ذلك بعضهم ، وادعى عصام الملة أنه أشير بالمس إلى أن العذاب لا يأخذهم بحيث يعدمهم حتى يتخلصوا بالهلاك وله وجه (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم.

نعم أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن كل فسق في القرآن معناه الكذب ، ولعله في حيز المنع وخروجهم المستمر عن حظيرة الإيمان والطاعة ، وقد يقال : الفاسق لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه غير مناسب هاهنا.

(قُلْ) أيها الرسول البشير النذير للكفرة الذين يقترحون عليك ما يقترحون : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي مقدوراته جمع خزينة أو خزانة وهي في الأصل ما يحفظ فيه الأشياء النفيسة تجوز فيها عما ذكر ، وعلى ذلك الجبائي وغيره ، ولم يقل : لا أقدر على ما يقدر عليه الله قيل : لأنه أبلغ لدلالته على أنه لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة حاضرة عنده ، وقيل : إن الخزائن مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزوم ؛ وقيل : الكلام على حذف مضاف أي خزائن رزق الله تعالى أو مقدوراته ، والمعنى لا أدعي أن هاتيك الخزائن مفوضة


إلي أتصرف فيها كيفما أشاء استقلالا أو استدعاء حتى تقترحوا علي تنزل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عطف على محل (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) فهو مقول (أَقُولُ) أيضا ، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه يؤدي إلى أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح. وأجيب بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب بإضمار القول بين لا وأعلم لا بين الواو (وَلا) ، وقيل : لا في ـ لا أعلم ـ مزيدة مؤكدة للنفي.

وقال أبو حيان : الظاهر أنه عطف على (لا أَقُولُ) لا معمول له فهو أمران يخبر عن نفسه بهذه الجمل فهي معمولة للأمر الذي هو (قُلْ) ، وتعقب بأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لادعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أدعي الإلهية.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ولا أدعي الملكية ، ويكون تكرير (لا أَقُولُ) إشارة إلى هذا المعنى. وقال بعض المحققين : إن مفهومي (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ). و (إِنِّي مَلَكٌ) لما كان حالهما معلوما عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبريا عن دعوى الباطل ، ومفهوم إني لا أعلم الغيب لما لم يكن معلوما احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا فائدة في الاخبار بذلك منظور فيها. والذي اختاره مولانا شيخ الإسلام القول الأول وأن المعنى ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب من أفعاله عزوجل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت إنزال العذاب أو نحوهما.

وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون إليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضا الملكية حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما ينبئ عنه قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ) [الفرقان : ٧] يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت ردا على الكفار في قولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ) إلخ وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء. ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى المتنازع فيه وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك إلا جماد.

وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب التواضع وإظهار العبودية نظير قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تفضلوني على ابن متى» في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى. وقيل : إن الأفضلية مبنية على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن ، وقيل : حيث كان معنى الآية لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي ، وبذلك تهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] على تفضيل الملك على البشر إذ لا يتصور الترقي من الألوهية إلى ما هو أعلى منها إذ لا أعلى ليترقى إليه. وتعقب بأنه لا هدم لها مع إعادة (لا أَقُولُ) الذي جعله أمرا مستقلا كالإضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية ، ولذا كرر لا أقول.

وقال بعضهم في التفرقة بين المقامين : إن مقام نفي الاستنكاف ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلى لئلا يلغو ذكره ، ومقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد


استبعادا ، نعم في كون المراد من الأول نفي دعوى الألوهية والتبري منها نظر وإلا لقيل لا أقول لكم إني إله كما قيل (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) وأيضا في الكناية عن الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة ، وإضافة الخزائن إليه تعالى منافية لها. ودفع المنافاة بأن دعوى الألوهية ليس دعوى أن يكون هو الله تعالى بل أن يكون شريكا له عز اسمه في الألوهية فيه نظر لأن إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة اللهم إلا أن يكون خزائن مثل خزائن أو تنسب إليه وهو كما ترى. ومن هنا قال شيخ الإسلام : إن جعل ذلك تبريا عن دعوى الألوهية مما لا وجه له قطعا.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا. وحاصله أني عبد يمتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه ولا أدعي شيئا من تلك الأشياء حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة. ولا يخفى أن هذا أبلغ من أني نبي أو رسول ولذا عدل إليه.

ولا دلالة فيه لنفاة القياس ولا لمانعي جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى. وذهب البعض إلى أن المقصود من هذا الرد على الكفرة كأنه قيل : إن هذه دعوى وليست مما يستبعد إنما المستبعد ادعاء البشر الألوهية أو الملكية ولست أدعيهما. وقد علمت آنفا ما في دعوى أن المقصود مما تقدم نفي ادعاء الألوهية والملكية (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الضال والمهتدي على الإطلاق كما قال غير واحد.

والاستفهام إنكاري ، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ومن يعلمها مع الإشعار بكمال ظهورها والتنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء ، وتكرير الأمر لتثبيت التبكيت وتأكيد الإلزام (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه أو أتسمعونه فلا تتفكرون. والاستفهام للتقرير والتوبيخ. والكلام داخل تحت الأمر. ومناط التوبيخ عدم الأمرين على الأول وعدم التفكر مع تحقق ما يوجبه على الثاني.

وذكر بعضهم أن في (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) ثلاث احتمالات إما أن يكونا مثالا للضال والمهتدي أو مثالا للجاهل والعالم أو مثالا لمدعي المستحيل كالألوهية والملكية. ومدعي المستقيم كالنبوة. وإن المعنى لا يستوي هذان الصنفان أفلا تتفكرون في ذلك فتهتدوا أي فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه. والجملة تذييل لما مضى إما من أول السورة إلى هنا أو لقوله سبحانه (إِنْ أَتَّبِعُ) إلخ أو لقوله عز شأنه (لا أَقُولُ). ورجح في الكشف الأول ثم الثاني ولا يخفى بعد هذا الترجيح. واعترض القول بإحالة الملكية بأنها من الممكنات لأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها.

وأجيب بعد تسليم ما فيه أن البشر حال كونه بشرا محال أن يكون ملكا لتمايزهما بالعوارض المتنافية ـ بلا خلاف. وإقدام آدم عليه الصلاة والسلام بعد سماع (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠] على الأكل ليس طمعا في الملكية حال البشرية على أنه يجوز أن يقال : إنه لم يطمع في الملكية أصلا وإنما طمع في الخلود فأكل (وَأَنْذِرْ) أي عظ وخوف يا محمد (بِهِ) أي بما يوحى أو بالقرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والزجاج ، وقيل : أي بالله تعالى. وروي ذلك عن الضحاك.

وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما حكى سبحانه وتعالى له أن من الكفرة من لا يتعظ ولا يتأثر قد التحق بالأموات وانتظم في سلك الجمادات فما ينجع فيه دواء الإنذار ولا يفيده العظة والتذكار إذ ينذر من يتوقع في


الجملة منهم الانتفاع ويرجى منهم القبول والسماع وهم المشار إليهم بقوله سبحانه : (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) فالمراد من الموصول المجوزون للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين أو المترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقا ، وأما المنكرون للحشر رأسا. والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم كذا قال شيخ الإسلام.

وروي عن ابن عباس ، والحسن رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموصول المؤمنون. وارتضاه غير واحد إلا أنهم قيدوا بالمفرطين لأنه المناسب للإنذار ورجاء التقوى. وتعقبه الشيخ بأنه مما لا يساعده السباق ولا السياق بل فيه ما يقضي بعدم صحته وبينه بما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ، وقيل : المراد المؤمنون والكافرون. وعلله الإمام الرازي بأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل وبأنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الكل فكان مأمورا بالتبليغ إليه ولا يخفى ما فيه ، والمفعول الثاني للإنذار إما العذاب الأخروي المدلول عليه بما في حيز الصلة ، وإما مطلق العذاب الذي ورد به الوعيد. والتعرض لعنوان الربوبية بتحقيق المخافة إما باعتبار أن التربية المفهومة منها مقتضية خلاف ما خافوا لأجله الحشر. وإما باعتبار أنها منبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي كما قيل. والمراد من الحشر إليه سبحانه الحشر إلى المكان الذي جعله عزوجل محلا لاجتماعهم وللقضاء عليهم فلا تصلح الآية دليلا للمجسمة.

وقوله سبحانه : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) في حيز النصب على الحالية من ضمير (يُحْشَرُوا) والعامل فيه فعله. ونقل الإمام عن الزجاج أنه حال من ضمير (يَخافُونَ) والأول أولى. و (مِنْ دُونِهِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من اسم ليس لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب على الحالية ، والحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن ما نيط به الخوف تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في عدم الخوف الذي يدور عليه أمر الإنذار والحال الثانية لتحقيق مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إنما هو غيره سبحانه كما في قوله جل شأنه : (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) [الأحقاف : ٣٢] وليست لإخراج الولي الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لاستلزامه ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله سبحانه : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٠٧] وذلك فاسد. والمعنى أنذر به الذين يخافون حشرهم غير منصورين من جهة أنصارهم بزعمهم قاله شيخ الإسلام ، ثم قال : ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي ولا شفيع سواه عزوجل ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته سبحانه انتهى. وهو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه ما في التفسير الكبير ، ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم لم يثبت عنهما فتدبر.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو على هذا تعليل للأمر بالإنذار ، وجوز أن يكون حالا عن ضمير الأمر أي أنذرهم راجيا تقواهم أو من الموصول أي أنذرهم مرجوا منهم التقوى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ).

لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نهى عليه الصلاة والسلام عن كون ذلك


بحيث يؤدي إلى طردهم ؛ ويفهم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معا ولا يفهم ذلك من البعض الآخر ، فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «مر الملأ من قريش على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صهيب ، وعمار ، وبلال ، وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء منّ الله تعالى عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرآن (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ) إلى قوله سبحانه : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ).

وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل ، وغيرهم عن خباب رضي الله تعالى عنه قال : جاء الأقرع ابن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعدا مع بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا : نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال : نعم قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فدعا بالصحيفة ودعا عليا كرم الله تعالى وجهه ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل بهذه الآية (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) إلخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة» فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الكهف : ٢٨] إلخ فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال : مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم : وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله سبحانه : (وَأَنْذِرْ بِهِ) إلى قوله سبحانه : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وكانوا بلالا ، وعمار بن ياسر ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وصبيحا مولى أسيد ، والحلفاء ابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، وواقد بن عبد الله الحنظلي ، وعمرو بن عبد عمرو ، ومرثد بن أبي مرثد ، وأشباههم ، ونزل في أئمة الكفر من قريش ، والموالي ، والحلفاء (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) الآية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) الآية. والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وأصل العشي عشوى قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وفاء بالقاعدة ، والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات ، وقيل : هو جمع عشية وفيه بعد ، ومعنى الأول لغة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس ، ومعنى الثاني آخر النهار ، والمراد بهما هاهنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحا إذا داوم عليه ، والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أقوال.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيرا ما يذكر ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها ، وقد يراد بها مكانها كما قيل في قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] أن المراد بالصلاة المساجد ، وخصا بالذكر لشرفهما. والأقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني ، وقرأ ابن عامر هنا وفي الكهف «الغدوة» بالواو وهي قراءة الحسن ، ومالك بن دينار ، وأبي رجاء العطاردي ، وغيرهم ، وزعم أبو عبيد أن من قرأ بالواو فقد أخطأ لأن غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام ، ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو


كالصلاة والزكاة وقد أخطأ في هذه التخطئة لأن غدوة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيئها اسم جنس أيضا منكرا مصروفا فتدخلها أل حينئذ ، وقد نقل ذلك سيبويه عن الخليل ، وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير إليه كلام الإمام النووي في شرح مسلم وذكره جم غفير من أهل اللغة.

وذكر المبرد أيضا عن العرب تنكير غدوة وصرفها وإدخال اللام عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكفى بوروده في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة ـ كما قيل ـ إلى التزام أنها علم لكنها نكرت فدخلتها أل لأن تنكير العلم وإدخال أل عليه أقل قليل في كلامهم بل إن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد في قوله :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضا ، والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في الآية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة ، والذي تحكيه الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين المتقين وقتا خاصا ولأشراف قريش وقتا آخر ليتألفوا فيقودهم إلى الإيمان ؛ وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة والسلام.

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) في موضع الحال من ضمير (يَدْعُونَ). وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل ـ وهو المشهور ـ إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى ، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مرادا لذاته سبحانه وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه ، وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد ، وقيل : المراد به الجهة والطريق ، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج ، وقيل : إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا جعل كناية عنها قاله الإمام وهو كما ترى.

وجوز أيضا أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال : هذا وجه الرأي وهذا وجهه الدليل ، والمعنى يريدونه (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين.

وجوز في ما أن تكون تميمية وحجازية. وفي (شَيْءٍ) أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي و (مِنْ حِسابِهِمْ) وصف له قدم فصار حالا ، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما له و «من» زائدة للاستغراق ، وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره ، والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرا له ودفعا لما عسى أن يتوهم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه‌السلام حيث قالوا : (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] ، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير ، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي من فقرهم ، والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم.

(وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) عطف على ما قبله ، وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا وهو انتفاء كون حسابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم


عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: ٣٤] في رأي.

وقال الزمخشري : إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه ، وحينئذ لا بد من الجملتين ، وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل وتقديم خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموضعين ـ قيل ـ للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول ، وقيل : إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم.

وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والمعنى أنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين ، والضمير في قوله سبحانه (فَتَطْرُدَهُمْ) للمؤمنين على كل حال ، والفعل منصوب على أنه جواب النفي ، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل : ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا ، وقوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب للنهي ، وجوز الإمام والزمخشري أن يكون عطفا على (فَتَطْرُدَهُمْ) على وجه التسبب لأن الكون ظالما معلول طردهم وسبب له. واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتبا على الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفيا بانتفائه يفوت وجود سببية العطف. وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الطرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضا فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة. واعترض أيضا بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطردهم لكان ظلما وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وأجيب بأنه على حد ـ نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ـ. وفي الكشف في بيان مراد صاحب الكشاف أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل : ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلما وذلك لأن الطرد جعل سببا للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد ـ نعم العبد ـ إلخ بل هو خروج عن الحد ، وجوز بعضهم أن يكون الأول جوابا للنهي كما جاز أن يكون جوابا للنفي ، ونقل عن الدر المصون وقال : الكلام عليه بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى ، وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلا إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان طرده إياهم حسنا وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لأعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيما فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقا كما في قوله :

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لما ذا أتى بها علمت ما في هذا الكلام فافهم ؛ وأيّا ما كان فالمراد فتكون من


الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم (وَكَذلِكَ فَتَنَّا) أي ابتلينا واختبرنا (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) والمراد عاملناهم معاملة المختبر وذلك إشارة إلى الفتن المذكور في النظم الكريم ، وعبر عنه بذلك إيذانا بتفخيمه كقولك : ضربت ذلك الضرب. والكاف مقحمة بمعنى أن التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم. والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا ، ويؤول إلى أن هذا الأمر العظيم متحقق منا. ومن ظن أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه. وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي ، وقيل : المراد مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم ، ولا يخفى أن الأول أدق نظرا وأعلى كعبا وقد سلف بعض الكلام على ذلك (لِيَقُولُوا) أي البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) بأن وفقهم لإصابة الحق والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه (مِنْ بَيْنِنا) أي من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن رأسا على حد قولهم : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه سبحانه ، وذكر الإمام أنه سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كلّا من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الإسلام متسارعين إلى قبوله فقالوا : لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر : ٢٥] و (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة فكانوا يقولون : كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا في الشدة والضيق والقلة ، وأما المحققون المحقون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول المعتزلة انتهى. وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار معترفون بوقوع المن للمشار إليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو مناف لتنظيره بقولهم : (لَوْ كانَ خَيْراً) إلخ. وأيضا كلامه كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأيضا مقابلة فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر.

واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له. والسلف ـ كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي. وغيرهما ـ على إثبات العلة لأفعاله تعالى استدلالا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك. واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في المحتبر ، وذكر الأول في مسلك السداد ما يعلم منه ردها ، وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه ، وقال غير واحد : هي لام العاقبة ، ونقل عن شرح المقاصد ما يأبى ذلك وهو أن لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه ولا يتصور هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وإن وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره سبحانه كقوله عزوجل : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) إذ ترتب


فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام ، نعم إن ابن هشام وكثيرا من النحاة لم يعتبروا هذا القيد ، وقالوا : إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقا فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه. ومن الناس من قال : إنها للتعليل مقابلا به احتمال العاقبة على أن (فَتَنَّا) متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من إطلاق المسبب على السبب.

واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازا عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة. وأجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة ، واعترض بأن العاقبة أيضا استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر ، وقد يقال : في الفرق أن في التعليل المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال : إن أفعال الله تعالى لا تعلل : وحينئذ يصح أن يقال : إن اللام على تقدير تضمين (فَتَنَّا) معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازا لأن هناك تسببا واقتضاء فقد من دون بعث ، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضا لكن ليس فيه إلا التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلا. والحاصل أن كلّا من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق ، والبحث بعد محتاج إلى تأمل فتأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) رد لقولهم ذلك وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الأنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم. والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك ، والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة بأعلم ويكفي أفعل العمل في مثله. وفي الدر المصون العلم يتعدى بالباء لتضمنه معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به ، والمعنى أليس الله تعالى عالما على أتم وجه محيطا علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا أنعامه عزوجل عليهم ، وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا يخفى.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، والمراد بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا ، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها. وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل ، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فما سبق هو المداومة على العبادة ، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه ، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر.

وأخرج عبد بن حميد ، ومسدد في مسنده ، وابن جرير ، وآخرون عن ماهان قال : أتى قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها عليهم. وروي عن أنس مثل ذلك ، وقيل : لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان.


(فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أمر منه تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكراما لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة ، واختاره الجبائي ، وقيل : أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى اقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه. وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية وهو أيضا مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه ، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمرا له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم.

وقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلا وإحسانا بالذات لا بتوسط شيء. أصلا وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى. ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضا قيل لأنها دعائية إنشائية ، وقيل : إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم. وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب. وقوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بدل من (الرَّحْمَةَ) كما قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل : إنه مفعول (كَتَبَ) والرحمة مفعول له ، وقيل : إنه على تقدير اللام ، وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه إلخ ودل على ذلك ما قبله. وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف النحوي أو البياني كأنه قيل : وما هذه الرحمة؟ والضمير للشأن. ومن موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ و (مِنْكُمْ) في موضع الحال من ضمير الفاعل. وقوله سبحانه : (بِجَهالَةٍ) حال أيضا على الأظهر أي من عمل ذنبا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة.

وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل (ثُمَّ تابَ) عن ذلك (مِنْ بَعْدِهِ) أي العمل أو السوء (وَأَصْلَحَ) أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدا (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له. فإن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف ، والجملة خبر (مَنْ) أو جواب الشرط ، والخبر حينئذ على الخلاف ، وقدر بعضهم فله أنه إلخ أو فعلية إنه إلخ ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية ، وقيل : إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه إلخ ، وقيل : إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد ، وقيل : بدل منه ، قال أبو البقاء : وكلاهما ضعيف لوجهين الأول أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف ، والثاني أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها ، والتزام الحذف بعيد ، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر.

وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية ، وهي قراءة الأعرج ، والزهري ، وأبي عمرو الداني ، ولم يطلع ـ على ما قيل ـ أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال : إنه محتمل أعرابي وإن لم يقرأ به ، وليس كما قال : ومن الناس من قال : إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر ، ولذا قيل : إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذرا : ما أردت إلا خيرا. وأورد


عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال.

وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاما وخطاب (مِنْكُمْ) لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال. وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول : لا نسلم تلك الرواية. فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية. ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به. فحينئذ يمكن أن يقال : إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهمه فإنه دقيق.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ) أي دائما (الْآياتِ) أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين. والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفا (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل. وهي قراءة ابن كثير ، وابن عامر ، وأبي عمرو ، ويعقوب ، وحفص عن عاصم ، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها ، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفا أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر. وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) قال ابن عطاء : أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب. وأخبر أن الآخرين هم الأموات. وقال غيره : المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافأة مع احتجابهم ، وقيل : الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) حيث فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عزوجل وتغريد باسمه عز اسمه. قيل : إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء. وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد برسالته أنشأ يقول :

ألا يا رسول الله إنك صادق

فبوركت مهديا وبوركت هاديا

وبوركت في الآزال حيا وميتا

وبوركت مولودا وبوركت ناشيا

وإن فيهم أيضا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلا (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ) أي كتاب أعمالهم (مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) في عين الجمع (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم (بِآياتِنا) وهي تجليات الصفات (صُمٌ) فلا يسمعون بآذان القلوب (وَبُكْمٌ) فلا ينطقون بألسنة العقول (فِي الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ


بإسبال حجب جلاله (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بإشراق سبحات جماله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) من المرض وسائر أنواع الشدائد (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) الصغرى أو الكبرى (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) لكشف ما ينالكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) لكشف ذلك. قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف. وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ) فلم تسمعوا خطابه (وَأَبْصارَكُمْ) فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي) أي من حيث أنا (خَزائِنُ اللهِ) أي مقدوراته (وَلا أَعْلَمُ) أي من حيث أنا أيضا (الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب (إِنْ أَتَّبِعُ) أي من تلك الحيثية (إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) من الله تعالى. وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقام (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). و (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الأنفال : ١٧] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه بشيء من المظاهر (وَالْبَصِيرُ) بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال (وَلا تَطْرُدِ) أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال (بِالْغَداةِ) أي وقت تجلي الجمال (وَالْعَشِيِ) أي وقت تجلي العظمة والجلال (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عزوجل لقلوبهم (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ) أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، وقول تعالى : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة. ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات (فَتَطْرُدَهُمْ) عن الجلوس معك (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن المؤولين من قال : إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائما بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ) فيما يعملون (مِنْ شَيْءٍ) إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه (فَتَطْرُدَهُمْ) عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) لتشويشك عليهم أوقاتهم. والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ) أي الناس وهم المحجوبون (بِبَعْضٍ) وهم العارفون (لِيَقُولُوا) أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالهداية والمعرفة (مِنْ بَيْنِنا) أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده.


وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥٤) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٥٧) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (٦٦) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ


الْعَالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) أي بواسطتها (فَقُلْ) لهم أنت أيها الوسيلة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وباقي الآية ظاهر.

وقال الإمام الرازي : إن قوله سبحانه : (وَإِذا جاءَكَ) إلخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات. وهذا شرح إجمالي لا نهاية لتفاصيله. ثم إن العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة : وقوله سبحانه : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغيرات والتبدلات ، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال انتهى.

وقال آخر : الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفا عن كل ما فات (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور (وَأَصْلَحَ) أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة (فَأَنَّهُ) عز شأنه (غَفُورٌ) يسترها عنه (رَحِيمٌ) يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى الموفق للصواب.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجوع إلى خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعا لأطماعهم الفارغة عن ركونك إليهم وبيانا لكون ما هم عليه هوى محضا وضلالا صرفا إني صرفت ومنعت بالأدلة الحقانية والآيات القرآنية (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ) أي عن عبادة الآلهة الذين (تَدْعُونَ) أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) سواء كانوا ذوي عقول أم لا.


وقد يقال : إن المراد بهم الأصنام إلا أنه عبر بصيغة العقلاء جريا على زعمهم (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا باختلاف القولين من حيث إن الأول حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني لما من جهته عليه الصلاة والسلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون. وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعار بما يوجب النهي والانتهاء. وفيه ـ كما قيل ـ إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب ، وقيل وهو في غاية البعد : إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال.

وقرأ يحيى بن وثاب «ضللت» بكسر اللام وهو لغة فيه ، والفتح كما قال أبو عبيدة ـ هو الغالب ـ.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) عطف على ما قبله ، والعدول إلى الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار ، والمراد ـ كما قيل ـ ، وما أنا إذا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم ، وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) تبيين للحق الذي عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة ـ كما قال الراغب ـ الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال ، وأيا ما كان فالمراد بها القرآن ـ كما قال الجبائي ـ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها ، والتنوين للتفخيم أن بينة جليلة الشأن (مِنْ رَبِّي) أي كائنة من جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين.

وجوز أن تكون (مِنْ) اتصالية ، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي ، وقيل : هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.

وقوله سبحانه : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) ـ كما قال أبو البقاء ـ جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم ، والضمير للبينة ، والتذكير باعتبار المعنى المراد ، وقال الزجاج : لأنها بمعنى البيان ، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم.

وقوله تعالى : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام زعمهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، وقال الإمام : إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك فقال لهم : (ما عِنْدِي) إلخ وكأن الكلام مبين أيضا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضا إلي (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما الحكم في تأخير ذلك (إِلَّا لِلَّهِ) وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه خل ما فيه بوجه من الوجوه.


واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيرا أو تعجيلا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ؛ ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ) إلخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط (يَقُصُ) أي يتبع (الْحَقَ) والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنا ما كان أو يبينه بيانا شافيا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك : ١]. وقرأ الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب (الْحَقَ) إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي. مسرودتان قضاهما داود. وفي الكلام على هذا استعارة تبعية ، واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده.

واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه : (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين. وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص هاهنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق : ١٣] (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) [التوبة : ١١] على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القصص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء. وفي إرشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه ، وجملة (وَهُوَ خَيْرُ) إلخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هاهنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم.

واحتج بعض أهل السنة بقوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ) إلخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم ، وكذلك في جميع الأفعال. وقالت المعتزلة : إن قوله سبحانه : «يقضي الحق» معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق ، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق ولا يخفى ما فيه (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي في قدرتي وإمكاني (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي بأن ينزل عليكم إثر استعجالكم ، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذي هو الله جلت عظمته وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى.

وقال الزمخشري ومن تبعه : المعنى لو كان ذلك في مكنتي لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي عزوجل وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعا ، ولا يساعده المقام ، ومثله حمل ما يستعجلون به على الآيات المقترحة وقضاء الأمر على قيام الساعة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) أي بحالهم وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ، ولذلك لم يفوض الأمر إلي ولم يقض بتعجيل العذاب ، والجملة مقررة لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه عليه الصلاة والسلام والمستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له.

وقيل : هي في معنى الاستدراك كأنه قيل : لو قدرت أهلكتكم ولكن الله تعالى أعلم بمن يهلك عن غيره وله حكمة في عدم التمكين منه ، وأيا ما كان فلا حاجة إلى حذف مضاف ، وزعم بعضهم ذلك ، والتقدير وقت عقوبة الظالمين وهو كما ترى والله تعالى أعلم.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) أي مفاتيحه كما قرئ به فهو جمع مفتح بكسر الميم وهو كمفتاح آلة الفتح.


وقيل : إنه جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب ، والكلام على الاستعارة حيث شبه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالإقفال وأثبت له المفاتيح تخييلا وهي باقية على معناها الحقيقي ، وجعلها بمعنى العلم قرينة المكنية بناء على أنه لا يلزم أن تكون حقيقة بعيد ، وأبعد منه تكلف التمثيل. وقيل : الأقرب أن يعتبر هناك استعارة مصرحة تحقيقية بأن يستعار العلم للمفاتح وتجعل القرينة الإضافة إلى الغيب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن المراد من المفاتح الخزائن فهي حينئذ جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن.

وجوز الواحدي أن يكون مصدرا بمعنى الفتح وليس بالمتبادر. وفي الكلام استعارة مكنية تخييلية ، وتقديم الخبر لإفادة الحصر. والمراد بالغيب المغيبات على سبيل الاستغراق ، والمقصود على كل تقدير أنه سبحانه هو العالم بالمغيبات جميعها كما هي ابتداء (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) في موضع الحال من مفاتح ، والعامل فيها ـ كما قال أبو البقاء ـ ما تعلق به الظرف أو نفسه إن رفعت به ، ويجوز أن يكون تأكيدا لمضمون ما قبله ، والكلام إما مسوق لبيان اختصاص المقدورات الغيبية به سبحانه من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة ، والمعنى أن ما تستعجلون به من العذاب ليس مقدورا لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوما لدي حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به جل شأنه قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم ، وإما لإثبات العلم العام له سبحانه وهو علمه بكل شيء بعد إثبات العلم الخاص وهو علمه بالظالمين ، وذكر الإمام أن معنى الآية على تقدير أن يراد بالمفاتح الخزائن أنه سبحانه القادر على جميع الممكنات كما في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [الحجر : ٢١].

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : مفاتح الغيب خمس وتلا (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] الآية ، وروي نحوه عن ابن مسعود ، وأخرج أحمد ، والبخاري ، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا نحو ذلك ، ولعل الحمل على الاستغراق أولى ، وما في الأخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه أيضا إلا الله تعالى.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) عطف على جملة (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ) إلخ أو على الجملة قبله وهو ظاهر على تقدير حاليتها ، وأما على تقدير كونها تأكيدا فقد منعه البعض لأن المعطوف لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه سبحانه بالمغيبات عند المحقين على وجه التفصيل والاختصاص لأن علم الغيب والشهادة متغايران فلا يؤكد أحدهما الآخر. نعم قيل : من لم يجعلها مؤكدة جوز العطف عليها فيكون الجملتان مستأنفتين لتفصيل علمه سبحانه وشموله لا غير ، وجوز أن يكون المجموع مؤكدا لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيدا اصطلاحيا ، والمراد من هذه الجملة ـ كما قال غير واحد ـ بيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء ، والمراد من من البر الصحراء ومن البحر خلافه ، وفي القاموس أنه الماء الكثير أو الملح فقط ويجمع وجمعه أبحر وبحوز وبحار وتصغيره أبيحر لا بحير. وعن مجاهد أن المراد بالبر القفار وبالبحر كل قرية فيها ماء وهو خلاف الظاهر ، وأيا ما كان فالمعنى يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي وما تسقط ورقة من أي شجرة كانت إلا عالما بها ، فمن زائدة في الفاعل ، والجملة بعد إلا في موضع الحال منه ، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي ، والتفريغ في الحال شائع سائغ.


وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة ، والكلام مسوّق ـ كما قيل ـ لبيان تعلق علمه تعالى بأحوال المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق الحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها ، قيل : ولعل الاكتفاء بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما سيأتي إن شاء الله تعالى في آية التوفي ، ولأن التغيير فيها أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية ، وقيل : لأن العلم بالسقوط لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره من الأحوال المعتنى بها فتدبر ، فكأنه قيل : وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها (وَلا حَبَّةٍ) عطف على (وَرَقَةٍ).

وقوله سبحانه : (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى. والمراد من ظلمات الأرض بطونها ، وكني بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء ، وقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على «ورقة» أيضا داخل معها في حكمها ، والمراد بالرطب واليابس رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلا لاقتضاء العطف ذلك ؛ وقوله سبحانه : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرير لقوله سبحانه (إِلَّا يَعْلَمُها) لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه ، وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد : إنه تكرير من جهة المعنى ، وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أن (إِلَّا يَعْلَمُها) صفة لورقة. وأورد عليه بأن صفة شيء كيف تكون تكريرا لصفة شيء آخر معنى. وأجيب بأنه غير وارد لأن الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما ذكر ، وقيل : إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب بالعلم وبدل الاشتمال إن فسر باللوح وفيه تأمل. وقرئ «ولا حبة» ، «ولا رطب ولا يابس» بالرفع على العطف على محل (وَرَقَةٍ) وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين.

وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر (إِلَّا فِي كِتابٍ) قيل وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط. وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام كلها لا تخلو من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار والبارد ، والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الأطباء كما لا يخفى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرطب ما ينبت وباليابس ما لا ينبت. وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء والثاني الثرى. وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم ، ولعله الأولى بالقبول ، وقيل : الرطب الحي واليابس الميت.

وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يحيا واليابس ما يغيض ، وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا التفسير إذ هو خلاف الظاهر جدا ، ومثله في عدم التبادر ما أخرجه أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال : إن لله تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده ، وذلك قوله سبحانه : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) ثم إن تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم الزجاج فقد قال : إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال سبحانه : (إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢]. وفي رواية لمسلم «أن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة».


وفائدة ذلك أمور : أحدها اعتبار الملائكة عليهم‌السلام موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية. وثانيها وعليه اقتصر الحسن تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب. وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب ، ولذا جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» ، وهذا الكتاب يسمى اللوح المحفوظ لحفظه عن التحريف ووصول الشياطين إليه أو من المحو والإثبات بناء على أنهما إنما يكونان في صحف الملائكة دونه. والبلخي اختار أن معنى قوله تعالى : (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه ، كما يقول القائل لغيره ما تصنعه مسطور مكتوب عندي فإنه إنما يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه. وأنشد ذلك :

إن لسلمى عندنا ديوانا

وذكر الإمام هاهنا ما سماه دقيقة ، وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) من تلك القضايا وحيث أريد إيصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل واحد فذكر (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ليكشف به عن حقيقة عظمة ذلك المعقول. وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه.

وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال معلومات البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير من جنب ما دخل في دائرة عموم ، و (عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) يصير ذلك مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت ذلك ، ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر بقوله عزوجل : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) ، وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى والمفاوز والمهالك ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر. ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها ، ثم ذكر مثالا أشد هيبة وهو (وَلا حَبَّةٍ) إلخ.

وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر ، و (ظُلُماتِ الْأَرْضِ) يخفى فيها أكبر الأجسام وأعظمها فإذا سمع العاقل أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ الأوفر من المعنى المشار إليه في صدر الآية ، ثم إنه تعالى لما قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عزّ اسمه (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ) فإنه عين ما تقدم ، وهذا مبني على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل ، وفيها دليل على أن الله تعالى عالم بالجزئيات.

ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة ، والحق أنهم لا ينكرون ذلك. وإنما ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل. وكذا بحث علمه تعالى من حيث هو. وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم فيه كما نقل عن الزجاج ، والجبائي ، ففيه استعارة تبعية حيث استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس الظاهرة والتمييز ، قيل : والباطنة أيضا ، وأصله قبض الشيء بتمامه ، ويقال : توفيت الشيء واستوفيته بمعنى (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ما كسبتم


وعملتم فيه من الإثم كما أخرج ذلك ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقتادة وهو الذي يقتضيه سياق الآية فإنه للتهديد والتوبيخ ، ولهذا أوثر (يَتَوَفَّاكُمْ) على ينيمكم ونحوه و (جَرَحْتُمْ) على كسبتم إدخالا للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع ، وبعضهم يجعل الخطاب عاما والمراد من الليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد من أفرادهما ؛ إذ بالتوفي والبعث الموجودين فيهما متحقق قضاء الأجل المسمى المترتب عليهما ، والباء في الموضعين بمعنى في كما أشرنا إليه.

والمراد بعلمه سبحانه ذلك كما قيل : علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أي يعلم ما تجرحون ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار للجري على السنن المعتاد وإلا فقد يعكس (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي يوقظكم في النهار ، وهل هي حقيقة في هذا المعنى أو مجاز فيه قولان.

والمتبادر منه في عرف الشرع إحياء الموتى في الآخرة وجعلوه ترشيحا للتوفي وهو ظاهر جدا على المتبادر في عرف الشرع لاختصاصه بالمشبه به. ويقال على غيره : إنه لا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به بل أن يكون أخص به بوجه كما قرروه في قوله :

له لبد أظفاره لم تقلم

والبعث في الموتى أقوى لأن عدم الإحساس فيه كذلك فإزالته أشد. وقد صرحوا أيضا أن الترشيح يجوز أن يكون باقيا على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها.

ويجوز أن يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له ، والجملة عطف على (يَتَوَفَّاكُمْ) وتوسيط (وَيَعْلَمُ) إلخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أن ما يكسبونه من الإثم مع كونه مما يستأهلون به إبقاءهم على التوفي بل إهلاكهم بالمرة يفيض سبحانه عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبئ عنه كلمة التراخي كأنه قيل : هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس الأنهار مع علمه جل شأنه بما يرتكبون فيها (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) معين لكل فرد وهو أجل بقائه في الدنيا ، وتكلف الزمخشري في تفسير الآية فجعل ضمير «فيه» جاريا مجرى اسم الإشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين و «في» بمعنى لام العلة كما في قولك : فيم دعوتني ، والأجل المسمى هو الكون في القبور أي ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله ليقضي الأجل الذي سماه سبحانه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ، وما ذكرناه هو الذي ذهب إليه الزجاج ، والجبائي ، وغالب المفسرين وهو عري عن التكلف الذي لا حاجة إليه.

وزعم بعضهم أن الداعي إليه هو أن قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) دال على حال اليقظة وكسبهم فيها ، وكلمة ـ ثم ـ تقتضي تأخير البعث عنها فلهذا عدل الزمخشري إلى ما عدل إليه ، وقال بعض المحققين : إن قوله سبحانه : (وَيَعْلَمُ) إلخ إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل والواو للحال ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي وأن قولنا : يفعل ذلك التوفي لتقضي مدة الحياة المقدرة كلام منتظم غاية الانتظام ، ولا يخفى أن فيه تكلفا أيضا مع أن واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذا أو ضرورة في المشهور» ووجه سنان التراخي المفاد بثم بأن حقيقة الإماتة في الليل تتحقق في أوله والإيقاظ متراخ عنه وإن لم يتراخ عن جملته.

واعترض بأنه حينئذ لا وجه لتوسيط (وَيَعْلَمُ) إلخ بينهما وفيه نظر يعلم مما ذكرنا (ثُمَّ إِلَيْهِ) سبحانه لا


إلى غيره أصلا (مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم ومصيركم بالموت (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم داومتم على عملها في الدنيا.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول بينه سبحانه وبين ما يريده فيهم ، و (فَوْقَ) نصب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر ، وقد تقدم الكلام مبسوطا فيما للعلماء في هذه الآية (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) من الملائكة وهم الكرام الكاتبون المذكورون في قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١] أو المعقبات المذكورة في قوله سبحانه : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] ، وقيل : المراد ما يشمل الصنفين ، ويقدر المحفوظ الأعمال والأنفس والأعم. وعن قتادة يحفظون العمل والرزق والأجل.

والذي ذهب إليه أكثر المفسرين المعنى الأول في الحفظة ، وهم عند بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها كما يشعر بذلك (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وجاء في الأثر تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك و (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وقال آخرون : لا يكتبون المباحات إذ لا يترتب عليها شيء.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار : لتنتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والمشهور أنهما على الكتفين ، وقيل : على الذقن ، وقيل : في الفم يمينه ويساره. واللازم الإيمان بهما دون تعيين محلهما والبحث عن كيفية كتابتهما ، وظواهر الآيات تدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال كقوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ، إلخ ، وقوله سبحانه : (يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٢] وأما على صفات القلوب كالإيمان والكفر مثلا فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها ، والأخبار بعضها يدل على الاطلاع كخبر «إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة» فإن الهم من أعمال القلب كالإيمان والكفر ، وبعضها يدل على عدم الاطلاع كخبر «إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه : «إن عمله كان لغيري وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي» وفي رواية مرسلة لابن المبارك «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين» الحديث. والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة يقول : معنى ـ كتبت ـ في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف الملائكة. والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه به عمل المرائي بعد كتابته إما في الآخرة أو في الدنيا زيادة في تنكيله وتفظيع حاله ، ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده إلى النار بعد تقريبه من الجنة.

فقد روى أبو نعيم ، والبيهقي ، وابن عساكر ، وابن النجار أنه يؤمر بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون : ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال : ذلك أردت بكم يا أشقياء كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراءون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس


ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب ، والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر.

واختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا؟ فقيل : إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائما إلى الموت ، وقيل : إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم وهكذا ، وقيل : إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى. واختلف في مقرهم بعد موت المكلف فقيل : يرجعون مطلقا إلى معابدهم في السماء ، وقيل : يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره. وصحح غير واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث رأيت كذا وكذا يبتدرونها أيهم يكتبها أول ، والحكمة في هؤلاء الحفظة أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه ، وقول الإمام : يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن بخلاف وزن الصحائف فإنه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى ، والقول بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم ، هذا (وَيُرْسِلُ) إما مستأنف أو عطف على في (الْقاهِرُ) لأنه بمعنى الذي يقهر ، وعطفه كما زعم أبو البقاء على (يَتَوَفَّاكُمْ) وما بعده من الأفعال المضارعة ليس بشيء كاحتمال جعله حالا من الضمير في (الْقاهِرُ) أو في الظرف لأن الواو الحالية كما أشرنا إليه آنفا لا تدخل على المضارع ، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح. و (عَلَيْكُمْ) متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء ، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقيل : هو متعلق بمحذوف وقع حالا من حفظه إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم.

وقيل : متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب ، و «حتى» في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل : ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) الآخرون المفوض إليهم ذلك وانتهى هناك حفظ الحفظة ؛ والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت ، ونحوه ما أخرجاه عن قتادة قال : إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح ثم يدفعونها إلى ملك الملك.

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يلي ذلك ثم يدفع الروح إن كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وإن كانت كافرة إلى ملائكة العذاب. والأكثرون على أن المباشر ملك الموت وله أعوان من الملائكة ، وإسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معا مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم ، وقد جاء إسناد الفعل إلى ملك الموت فقط باعتبار أنه المباشر وإلى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي. وقد أشرنا فيما تقدم أن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم قال : إن المتوفى تارة يكون هو الله تعالى بلا واسطة وتارة الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى. وعن الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجيء الممات. وقرأ حمزة «توفاه» بألف ممالة. وقرئ في الشواذ «تتوفاه» (وَهُمْ) أي الرسل (لا يُفَرِّطُونَ) بالتواني والتأخير.

وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف من الإفراط. وهو مجاوزة الحد وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان ، والجملة حال من (رُسُلُنا) وقيل : مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به (ثُمَّ رُدُّوا)


عطف على «توفته» والضمير ـ كما قيل ـ للكل المدلول عليه بأحد وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات ، والإفراد أولا والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد والرد على الاجتماع.

وذهب بعض المحققين أن فيه التفاتا من الخطاب إلى الغيبة ومن التكلم إليها لأن الرد يناسبه الغيبة بلا شبهة وإن لم يكن الرد حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه سبحانه طرفة عين. ونقل الإمام القول بعود الضمير على الرسل أي أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ، والأول هو الذي عليه غالب المفسرين. والمراد «ثم ردوا» بعد البعث والحشر أو من البرزخ (إِلَى اللهِ) أي إلى حكمه وجزائه أو إلى موضع العرض والسؤال (مَوْلاهُمُ) أي مالكهم الذي يلي أمورهم على الإطلاق ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] لأن المولى فيه بمعنى الناصر (الْحَقِ) أي العدل أو مظهر الحق أو الصادق الوعد.

وذكر حجة الإسلام قدس‌سره أن الحق مقابل الباطل وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا وإما حق مطلقا وإما حق من وجه باطل من وجه ، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا والواجب بذاته هو الحق مطلقا والممكن بذاته الواجب بغيره حق من وجه باطل من وجه ، فمن حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ومن جهة غيره مستفيد للوجود فهو حق من الوجه الذي يلي مفيد الوجود ، فمعنى الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يؤخذ كل حقيقة وليس ذلك إلا الله تعالى ، وهذا هو مراد القائل إن الحق هو الثابت الباقي الذي لا فناء له ، وفي التفسير الكبير أن لفظ المولى والولي مشتقان من القرب وهو سبحانه القريب ويطلق المولى أيضا على المعتق وذلك كالمشعر بأنه جل شأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله سبحانه «سبقت رحمتي غضبي» وأيضا أضاف نفسه إلى العبيد وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة ، وأيضا قال عز اسمه : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس ، والشهوة ، والغضب كما قال سبحانه : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى. وهو كما ترى.

وادعى أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريحها يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله تعالى والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله تعالى لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لتعاليه سبحانه عنهما بل يجب أن يكون مفسرا بكونه منقادا لحكم الله تعالى مطيعا لقضائه وما لم يكن حيا لا يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل هاهنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فتبقى الحياة نصيب الروح ولما قال سبحانه : (رُدُّوا) وثبت أن المردود هو الروح ثبت أن الإنسان ليس إلا هي وهو المطلوب ، وكذا تشعر بكون الروح موجودة قبل التعلق بالبدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو كانت موجودة كذلك ، ونظيره قوله سبحانه : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) ولا يخفى ما في ذلك فتدبر. وقرئ «الحق» بالنصب على المدح.

وجوز أن يكون على أنه صفة للمفعول المطلق أي الرد الحق فلا يكون حينئذ المراد به الله عزوجل والأول أظهر (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ صورة ومعنى لا لغيره بوجه من الوجوه. واستدل بذلك على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله تعالى حكم وهو أخذ الثواب وهو ينافي ما دلت عليه الآية من الحصر (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب جميع الخلائق بنفسه في أسرع زمان وأقصره ، ويلزم هذا أن لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن. وفي الحديث أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة. وفي بعض الأخبار في مقدار نصف يوم. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يحاسب الخلق بنفسه بل يأمر سبحانه الملائكة عليهم‌السلام فيحاسب كل واحد منهم واحدا من العباد. وذهب آخرون إلى أنه عزوجل إنما يحاسب


المؤمنين بنفسه وأما الكفار فتحاسبهم الملائكة لأنه تعالى لو حاسبهم لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفتهم : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) وأجاب الأولون عن هذا بأن المراد أنه تعالى لا يكلمهم بما ينفعهم فإن ظواهر الآيات ومنها ما تقدم في هذه السورة من قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٢٢] وقوله سبحانه (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنعام : ٣٠] تدل على تكليمه تعالى لهم في ذلك اليوم ، ثم إن كيفية ذلك الحساب مما لا تحيط بتفصيلها عقول البشر من طريق الفكر أصلا وليس لنا إلا الإيمان به مع تفويض الكيفية وتفصيلها إلى عالم الغيب والشهادة. وادعى الفلاسفة أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في ذلك وحينئذ يقال : إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكأن ذلك الصدور جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس. وأما الحساب فالمقصود منه استعلام ما بقي من الدخل والخرج ، ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح حسب حسن العمل وقبحه ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا بالبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فيقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب ، وزعم من نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية ، وأنا أقول :

راحت مشرقة ورحت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي قل لهم تقريرا بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية ، والمراد من ظلمات البر والبحر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شدائدهما وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول. والعرب ـ كما قال الزجاج ـ تقول لليوم الذي يلقى فيه شدة : يوم مظلم حتى أنهم يقولون : يوم ذو كواكب أي أنه يوم قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته ، وأنشد :

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

ومن الأمثال القديمة ـ رأى الكواكب ظهرا ـ أي أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارا ، ومن ذلك قول طرفة :

أن تنوله فقد تمنعه

وتريه النجم يجري بالظهر

وقيل : المراد ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر ، وقيل : ظلمة البر بالخسف فيه وظلمة البحر بالغرق فيه ، والظلمات على الأول ـ كما قيل ـ استعارة وعلى الأخيرين حقيقة. ومنهم من جعلها كناية عن الخسف والغرق والكلام في الكناية معلوم. ومن جوز جمع الحقيقة والمجاز فسر الظلمات بظلمة الليل ، والغيم ، والبحر ، والتيه ، والخوف ، وقرأ يعقوب وسهل «ينجيكم» بالتخفيف من الإنجاء والمعنى واحد ، وقوله تعالى : (تَدْعُونَهُ) في موضع الحال من مفعول (يُنَجِّيكُمْ) كما قال أبو البقاء ، والضمير لمن أي من ينجيكم منها حال كونكم داعين له.


وجوز أن يكون حالا من فاعله أي من ينجيكم منها حال كونه مدعوا من جهتكم (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي إعلانا وإسرارا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فنصبهما على المصدرية ، وقيل : بنزع الخافض ، والإعلان والإسرار يحتمل أن يراد بهما ما باللسان ، ويحتمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب ، وجوز أن يكونا منصوبين على الحال من فاعل «تدعون» أي معلنين ومسرين.

وقرأ أبو بكر عن عاصم «خفية» بكسر الخاء وهو لغة فيه كالأسوة والأسوة ، وقوله سبحانه (لَئِنْ أَنْجانا) في محل النصب على المفعولية لقول مقدر وقع حالا من فاعل تدعون أيضا أي قائلين : لئن أنجيتنا ، والكوفيون يحكون بما يدل على معنى القول كتدعون من غير تقدير والصحيح التقدير ، وقيل : إن الجملة القسمية تفسير للدعاء فلا محل لها. وقرأ أهل الكوفة «أنجانا» بلفظ الغيبة مراعاة لتدعونه دون حكاية خطابهم في حالة الدعاء غير أن عاصما قرأ بالتفخيم والباقون بالإمالة ، وقوله سبحانه (مِنْ هذِهِ) إشارة إلى ما هم فيها المعبر عنها بالظلمات (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة الجليلة أو جميع النعم التي هذه من جملتها (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) أي غم يأخذ بالنفس ، والمراد به إما ما يعم ما تقدم والتعميم بعد التخصيص كثير أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام ، وأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بظهوره وتعينه أو للإهانة لهم مع بناء قوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه ومن غيره ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تعودون إلى الشرك في عبادته سبحانه ولا توفون بالعهد. ووضع (تُشْرِكُونَ) موضع لا تشكرون الذي هو الظاهر المناسب لوعدهم السابق المشار إليه بقوله تعالى : (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) للتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده رأسا إذا التوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة ، وقيل : لعل المقصود التوبيخ بأنهم مع علمهم بأنه لم ينجهم إلا الله تعالى كما أفاده تقديم المسند إليه أشركوا ولم يخصوا الله تعالى بالعبادة فذكر الإشراك في موقعه ، وكلمة ـ ثم ـ ليس للتراخي الزماني بل لكمال البعد بين إحسان الله تعالى عليهم وعصيانهم ، ولم يذكر متعلق الشرك لتنزيله منزلة اللازم تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه.

وقرأ أهل الكوفة ، وأبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر «ينجّيكم» بالتشديد والباقون بالتخفيف.

(قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (هُوَ الْقادِرُ) لا غيره سبحانه (عَلى أَنْ يَبْعَثَ) أي يرسل (عَلَيْكُمْ) متعلق بيبعث. وتقديمه على المفعول الصريح وهو قوله سبحانه : (عَذاباً) للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر ، والكلام استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم في المهالك إثر بيان أنه سبحانه هو المنجي لهم منها ، وفيه وعيد ضمني بالعذاب لإشراكهم المذكور ، والتنوين للتفخيم أي عذابا عظيما (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من جهة العلو كالصيحة ، والحجارة ، والريح ، وإرسال السماء (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) أي من جهة السفل كالرجفة ، والخسف ، والإغراق ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : من فوقكم أي من قبل أمرائكم وأشرافكم ومن تحت أرجلكم أي من قبل سفلتكم وعبيدكم وفي رواية أخرى عنه تفسير الأول بأئمة السوء والثاني بخدم السوء والمتبادر ما قدمنا وهو المروي عن غير واحد من المفسرين. والجار والمجرور متعلق بيبعث أيضا ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لعذاب. وأو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام.

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ) أي يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر ، وخلط أمرهم عليهم يجعلهم مختلفي الأهواء ،


وقيل : المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض فلا تقدير ، وعليه قول السلمي :

وكتيبة لبستها بكتيبة

حتى إذا التبست نفضت لها يدي

وقرئ «يلبسكم» بضم الياء وهو عطف على (يَبْعَثَ) وقوله تعالى : (شِيَعاً) جمع شيعة كسدرة وسدر وهم كل قوم اجتمعوا على أمر نصب على الحال ، وقيل : إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه ، وجوز على هذا أن يكون حالا أيضا أي مختلفين ، وقوله سبحانه : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) عطف على «يبعث» كما نقل عن السمين ، ويفهم من كلام البعض أنه عطف على يلبس وهو من قبيل عطف التفسير أو من عطف المسبب على السبب. وقرئ «نذيق» بنون العظمة على طريق الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة في التحذير. والبعض الأول على ـ ما قيل ـ الكفار والثاني المؤمنون ففيه حينئذ وعد ووعيد ، وقيل : كلا البعضين من الكفار أي نذيق كلّا بأس الآخر ؛ وقيل البعضان من المؤمنين فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله سبحانه : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) هذا للمشركين وفي قوله تعالى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ) إلخ هذا للمسلمين ولا يخفى أنه تفكيك للنظم الكريم ، ولعل مراد الحسن أن هذا يكون للمسلمين ويقع فيهم دون الأول ، وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال : «لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوضأ فسأل ربه عزوجل أن لا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل فهبط إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إنك سألت ربك أربعا فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة استجمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسون شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء عليهم‌السلام» وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة والحاكم وصححه واللفظ له عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وإن أمتي سيبلغ ملكا ما زوى لي منها وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا عن غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم عامة ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضا وبعضهم هو يسبي بعضا» الحديث.

وأخرج أحمد ، والطبراني وغيرهما عن أبي بصرة الغفاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت ربي أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت الأمم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» والأخبار في هذا المعنى كثيرة. وفي بعضها دلالة على عد اللبس والإذاقة أمرا واحدا وفي بعضها دلالة على عد ذلك أمرين ، ومن هنا نشأ الاختلاف السابق في العطف ، وأيد بعضهم العطف على يلبس لا على (يَبْعَثَ) بكونه بالواو دون أو. ولا يعارض ما روي عن الحسن من عدم وقوع الأولين في هذه الأمة ما أخرجه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية : أما أنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ، وكذا ما أخرج الأول في مسنده من طريق أبي العالية عن ابن كعب أنه قال في الآية : هن أربع وكلهن واقع لا محالة لجواز أن يراد بالوقوع وقوع لا على وجه الاستئصال وبعدم الوقوع عدمه على وجه الاستئصال وكلام الحسن كالصريح في هذا فافهم.


(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نحولها من نوع إلى آخر من أنواع الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم أو نصرفها بالوعد والوعيد (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي كي يعلموا جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد ، واستدل بعض أهل السنة بالآية على أن الله تعالى خالق للخير والشر ، وقال بعض الحشوية والمقلدة : إنها من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال لما أن في ذلك فتح باب التفرق والاختلاف المذموم بحكم الآية وليس بشيء كما لا يخفى (وَكَذَّبَ بِهِ) أي القرآن كما قال الأزهري وروي ذلك عن الحسن وقيل : الضمير لتصريف الآيات ، واختاره الجبائي ، والبلخي ، وقيل : هو للعذاب واختاره غالب المفسرين (قَوْمُكَ) أي قريش ، وقيل : هم وسائر العرب ، وأيا ما كان فالمراد المعاندون منهم ، قيل : ولعل إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية عتوهم ومكابرتهم ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا.

(وَهُوَ الْحَقُ) أي الكتاب الصادق في كل ما نطق به لا ريب فيه أو المتحقق الدلالة أو الواقع لا محالة. والواو حالية والجملة بعدها في موضع الحال من الضمير المجرور ، وقيل : الواو استئنافية (١) وبعدها مستأنفة. وأيّا ما كان ففيه دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي بموكل فوض أمركم إلى أحفظ أعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر ولم آل جهدا في الإنذار والله سبحانه هو المجازي قاله الحسن.

وقال الزجاج : المراد أني لم أؤمر بحربكم ومنعكم عن التكذيب. وفي معناه ما نقل عن الجبائي. والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منسوخة بآية القتال ولا بعد في ذلك على المعنى الثاني.

(لِكُلِّ نَبَإٍ) أي لكل شيء ينبأ به من الأنباء التي من جملتها عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه (مُسْتَقَرٌّ) أي وقت استقرار ووقوع البتة أو وقت استقراره بوقوع مدلوله وليس مصدرا ميميا.

(وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا ، وسوف للتأكيد.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في أنديتهم وهم المراد بالموصول. وعن مجاهد أهل الكتاب فإن ديدنهم ذلك أيضا ، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق ، وهذا بخلاف النسيان الآتي ، وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا إذا تفاوضوا فيه ، وقال الطبرسي : الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين ، وقال بعض المحققين : أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور ، وأكثر ما ورد في القرآن للذم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي اتركهم ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ) أي كلام (غَيْرِهِ) أي غير آياتنا. والتذكير باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية ، وقيل : باعتبار كونها قرآنا ، والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء. وادعى بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر (يَخُوضُوا) للمشاكلة ، واستظهر عود الضمير إلى الخوض. واستدل بعض العلماء بالآية على أن (إِذا) تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كما خاض. ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق.

واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته زاعما أن ذلك

__________________

(١) قوله وبعدها مستأنفة كذا بخطه والأمر سهل


خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) بأن يشغلك فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء ، وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها.

وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمراد غيره ، وقيل: «لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع» والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منزه عن النسيان لقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] وإن غيرهم ذهب إلى جوازه. وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب الأحكام ، والجبائي ، وغيرهما ، وقال الأخير : إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك. والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان ، وكذا السهو على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا على سائر الأنبياء عليهم‌السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي. وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال بالدين.

وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به ، ثم قال الأكثرون : يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير ، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختاره إمام الحرمين ، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأقوال البلاغية ، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك. وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني ، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة ، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام.

وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده ، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه ، ثم قال : والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال : يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم‌السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب ، وحسبك في ذلك أن سيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتني بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] الآية.

وقرأ ابن عامر «ينسّينّك» بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى ، وقال ابن عطية : نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد ، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة ، وقيل : لا يلزم فيه ذلك ، وعليه قول ابن دريد :


أما ترى رأسي حاكى لونه

طرة صبح تحت أذيال الدجى

(فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين. وقال أبو مسلم: المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء.

وجوز الزمخشري أن تكون (الذِّكْرى) بمعنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه ، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين ، ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقا ، وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال ـ وإن أنساك ـ دون (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر ، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك ، وفي الآية ـ كما قال غير واحد ـ إيذان بعدم تكليف الناسي ، وهذه من المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسألة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي. وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلا بخلاف التكليف بالمحال.

ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة ، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم ، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل. وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون واردا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون واردا قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف.

وأجيب : بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بتكليفه وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم ذلك وإن لم يصدق به. وصاحب المنهاج تبعا لصاحب الحاصل أجاب بأن التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع ، وتمام البحث يطلب من كتب الأصول. (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) قال أبو جعفر عليه الرحمة : لما نزلت (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) إلخ قال المسلمون : لئن كنا نقول كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت : أي وما يلزم الذين يتقون قبائح إعمال الخائضين وأحوالهم.

(مِنْ حِسابِهِمْ) أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر (مِنْ شَيْءٍ) أي شيء ما على أن من زائدة للاستغراق و «شيء» في محل الرفع مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية و (مِنْ حِسابِهِمْ) كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا. وليست (مِنْ) بمعنى الأجل خلافا لمن تكلفه.

و (عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبرا للمبتدإ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقا أو منصوب وقع خبرا لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر.

(وَلكِنْ ذِكْرى) استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما


أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير ، ومحل (ذِكْرى) عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرا أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى ، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة ، وفي الثاني ، هذه ذكرى ، وإلى ذلك يشير كلام البلخي ، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل «من شيء» لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى «ولكن ذكرى» من حسابهم وهو كما ترى.

واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف ، والعلامة الثاني يقول : إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول : ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم البتة ولم يجىء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب ، قالوا : والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك ، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزءا من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] على ما في شرح المفتاح ، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش.

وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين ما يقتضيه الذوق ، ومنهم من عمها كما قال الحلبي : إن أهل اللسان والأصوليين يقولون : إن العطف للتشريك في الظاهر. فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت : ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيدا بيوم الجمعة. وإذا قلت : وعمرا يوم السبت لم يشاركه في قيده. والآية من القبيل الأول. فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع. وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر.

ومن منع العطف على محل (مِنْ شَيْءٍ) لما تقدم منع العطف على «شيء» لذلك أيضا ولأن من لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقا عند الجمهور (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك. وهذه الآية ـ كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير ـ منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) [النساء : ١٤] إلخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه : (وَما عَلَى الَّذِينَ) إلخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الذي فرض عليهم وكلفوه وأمروا بإقامة مواجبه وهو الإسلام (لَعِباً وَلَهْواً) حيث سخرا به واستهزءوا ، وجوز أن يكون المعنى اتخذوا الدين الواجب شيئا من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك أو اتخذوا ما يتدينون به وينتحلونه بمنزلة الدين لأهل الأديان شيئا من اللعب واللهو. وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو دينا ، وقيل : المراد بالدين العيد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله تعالى كعيد المسلمين أو بالوجه الذي لم يشرع من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأن أصل معنى الدين


العادة والعيد معتاد كل عام» ونسب ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والمعنى على سائر الأقوال لا تبال بهؤلاء وامض لما أمرت به.

وأخرج ابن جرير وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] و (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) [الحجر : ٣] ، وقيل : المراد الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم. والآية عليه منسوخة بآية السيف ، وهو مروي عن قتادة. ونصب (لَعِباً) على أنه مفعول ثان لاتخذوا وهو اختيار السفاقسي ، ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول و «دينهم» ثان ، وفيه أخبار عن النكرة بالمعرفة. ويفهم من كلام الإمام أنه مفعول لأجله واتخذ متعد لواحد فإنه قال بعد سرد وجوه التفسير في الآية : والخامس وهو الأقرب أن المحق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرئاسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا ، وقد حكم الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله سبحانه : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا) إلخ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية اه.

ولا يفى أنه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائله (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزءوا بآيات الله تعالى. وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة. وعليه قوله :

ولما التقينا بالعشية غرني

بمعروفه حتى خرجت أفوق

(وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن. وقد جاء مصرحا به في قوله سبحانه : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] والقرآن يفسر بعضه بعضا. وقيل : الضمير لحسابهم ، وقيل : للدين. وقيل : إنه ضمير يفسره قوله سبحانه : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) فيكون بدلا منه واختاره أبو حيان. وعلى الأوجه الأخر هو مفعول لأجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة أن تبسل. ومنهم من جعله مفعولا به لذكر. ومعنى «تبسل» تحبس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنشد له قول زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع وقلبي مبسل علقا

وفي رواية ابن أبي حاتم عنه تسلم. وروي ذلك أيضا عن الحسن ، ومجاهد ، والسدي واختاره الجبائي والفراء ، وفي رواية ابن جرير وغيره تفضح. وقال الراغب : (تُبْسَلَ) هنا بمعنى تحرم الثواب. وذكر غير واحد أن الإبسال والبسل في الأصل المنع ، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع ، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه ، وجاء البسل بمعنى الحرام وفرق الراغب بينهما بأن الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع بالقهر ، ويكون بسل بمعنى أجل ونعم ، واسم فعل بمعنى اكفف وتنكير (نَفْسٌ) للعموم مثله في قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب عملها السوء أو ذكر بحبس أو حبس كل نفس بذلك ، وحمل النكرة على العموم مع أنها في الإثبات لاقتضاء السياق له ، وقيل : إنها هنا في النفي معنى ، وفيما اختاره أبو حيان من التفخيم وزيادة التقرير ما لا يخفى.

وقوله تعالى : (لَيْسَ لَها) أي النفس (مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) إما استئناف للأخبار بذلك أو في محل رفع صفة (نَفْسٌ) أو في محل نصب على الحالية من ضمير (كَسَبَتْ) أو من نفس فإنه في قوة نفس


كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية. ومن دون الله متعلق بمحذوف وقع حالا من «ولي» ، وقيل : خبرا لليس ، و (لَها) حينئذ متعلق بمحذوف على البيان ، ومن جعلها زائدة لم يعلقها بشيء ، والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع (وَإِنْ تَعْدِلْ) أي إن تفد تلك النفس (كُلَّ عَدْلٍ) أي كل فداء. و «كل» نصب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به ، وقيل : إنه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك : هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية. والتقدير عدلا كل عدل. ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم التبعية والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيدا كما في التسهيل ولا يجوز حذف موصوفه.

وقوله تعالى : (لا يُؤْخَذْ مِنْها) جواب الشرط ، والفعل مسند إلى الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافه في قوله تعالى : (لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] فإنه فيه بمعنى المفدى به ، وجوز كون الإسناد إلى ضميره مرادا به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور ، وبذلك يستغنى أيضا عن القول بكونه راجعا إلى المعدول به المأخوذ من السياق.

وقيل : معنى الآية وإن تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا (أُولئِكَ) أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا (الَّذِينَ أُبْسِلُوا) أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو بأحد المعاني الباقية للإبسال (بِما كَسَبُوا) أي بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. واسم الإشارة مبتدأ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجة المشار إليهم في سوء الحال ، وخبره الموصول بعده ، والجملة استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك.

وقوله سبحانه (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : ما ذا لهم حين أبسلوا؟ فقيل : لهم شراب من حميم أي ماء حار يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) بنار تشتعل بأبدانهم كما هو المتبادر من العذاب (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا ، ويطلق الحميم على الماء البارد فهو ضد كما في القاموس. وجوز أبو البقاء أن تكون جملة (لَهُمْ شَرابٌ) حالا من ضمير (أُبْسِلُوا) وأن تكون خبرا لاسم الإشارة ويكون (الَّذِينَ) نعتا له أو بدلا منه. وأن تكون خبرا ثانيا. واختار كما يشير إليه كلامه أن تكون الإشارة إلى النفس المدلول عليها بنفس وجعلت الجملة لبيان تبعة الإبسال. واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه.

وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله سبحانه (بِما كَسَبُوا) لأنه العمدة في أسباب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد ـ كما قيل ـ : بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الله تعالى : (قُلْ) إلخ.

وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام. وفي توجيه الأمر إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه ، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك. وفاعل «ندعو» وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه : (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) عام لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغيره وليس مخصوصا بالصديق رضي الله تعالى عنه


بناء على أنه سبب النزول. وفي الآية تغليب إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك. والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال : رجع على عقبه إذا انثنى راجعا. ويكنى به ـ كما قيل ـ عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال ؛ وقيل : الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركا أو غيره. والجمهور على الأول. والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر. وإيثار (نُرَدُّ) على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين وقطعا لأطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل. والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال : بعد إذ اهتدينا كأنه قيل : أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه. وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر. ولا أن جملة «نرد» في موضع الحال من ضمير «ندعو» أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء.

وقوله سبحانه : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) نعت لمصدر محذوف أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته إلخ. وقدر الطبرسي أندعو دعاء مثل دعاء الذي إلخ وليس بشيء كما لا يخفى ، وقيل : إنه في موضع الحال من فاعل «نرد» أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك. واعترضه صاحب الفرائد بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك : جاء زيدا راكبا أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب.

وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] فلا يلزم ذلك ولا يخفى أنه في حيز المنع. والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة والقفار. والكلام من المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمة وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة. وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين. وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقط يقال : هوى يهوي هويا بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل. والمقصود تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة. ونظير ذلك قوله تعالى : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) [الحج : ٣١] وفيه بعد وإن قال الإمام : إنه أولى من المعنى الأول مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذا المعنى ، وجوز أبو البقاء في «الذي» أن يكون مفردا أي كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنسا. والمراد الذين.

وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة مع التذكير (فِي الْأَرْضِ) أي جنسها. والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائنا في الأرض. وكذا قوله سبحانه : (حَيْرانَ) حال منه أيضا على أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من «الذي» أو من المستكن في الظرف. وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالا من (حَيْرانَ) وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع.

(لَهُ) أي للمستهوي (أَصْحابٌ) أرى رفقة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد ـ زيد عدل ـ والجار الأول متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و (أَصْحابٌ) مبتدأ ، والجملة إما في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها. وإما


لا محل لها على أنها مستأنفة ، وجملة (يَدْعُونَهُ) صفة لأصحاب. وقوله سبحانه : (ائْتِنا) يقدر فيه قول على أنه بدل من (يَدْعُونَهُ) أو حال من فاعله. وقيل : محكي بالدعاء لأنه بمعنى القول. وهذا مبني على الخلاف بين البصريين والكوفيين في أمثال ذلك. والمشهور التقدير أي يقول ائتنا. وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق.

وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الأنباري عن أبي إسحاق «بينا» على أنه حال من الهدى أي واضحا (قُلْ) لهؤلاء الكفار (إِنَّ هُدَى اللهِ) الذي هدانا إليه وهو الإسلام (هُوَ الْهُدى) أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه ضلال محض وغي صرف. وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الأوامر بعده (وَأُمِرْنا) عطف على (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) داخل معه تحت القول ، واللام في قوله سبحانه : (لِنُسْلِمَ) للتعليل ومفعول أمرنا الثاني محذوف أي أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقيل : هي بمعنى الباء أي «أمرنا» بالإسلام. وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة ، وقيل : زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء ، وقال الخليل ، وسيبويه ، ومن تابعهما : الفعل في هذا وفي نحو (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] مؤول بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للإسلام ، وهو نظير ـ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ـ ولا يخفى بعده.

وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل : وأمرنا أن نسلم ، والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به.

وقوله تعالى : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي الرب في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار والمجرور السابق ، وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه وجماعة ، وجوز أن يعطف (أَنْ أَقِيمُوا) على موضع (لِنُسْلِمَ) كأنه قيل : أمرنا أن نسلم وأن أقيموا. وقيل : العطف على مفعول الأمر المقدر أي أمرنا بالإيمان وإقامة الصلاة ، وقيل : على قوله تعالى : (إِنَّ هُدَى اللهِ) إلخ. أي قل لهم إن هدى الله هو الهدى وأن أقيموا ، وقيل : على (ائْتِنا) ، وقيل : غير ذلك.

وذكر الإمام أنه كان الظاهر أن يقال : أمرنا لنسلم ولأن نقيم إلا أنه عدل لما ذكر للإيذان بأن الكافر ما دام كافرا كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغيب وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون.

وقوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة ، وتقديم المعمول لإفادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي هذين الأمرين العظيمين. ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا ، وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات. وقوله سبحانه : (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (خَلَقَ) أي قائما بالحق ، ومعنى الآية حينئذ كما قيل كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧] وجوز أن يكون حالا من المفعول أي متلبسة بالحق ، وأن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أي خلقا متلبسا بالحق (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) تذييل لما تقدم ؛ والواو للاستئناف. واليوم بمعنى الحين متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و (قَوْلُهُ) مبتدأ و (الْحَقُ) صفته. والمراد


بالقول المعنى المصدري أي القضاء الصواب الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الإخبار عنه بظرف الزمان أي وقضاؤه سبحانه المعروف بالحقية كائن حين يقول سبحانه لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت كما قيل ، ونفي السعد كونه للحصر لعدم مناسبته وجعل التقديم لكونه الاستعمال الشائع. وتعقب بأن المعروف الشائع تقديم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ نكرة غير موصوفة أو نكرة موصوفة أما إذا كان معرفة فلم يقله أحد. وقيل : إن (قَوْلُهُ الْحَقُ) مبتدأ وخبر و (يَوْمَ) ظرف لمضمون الجملة والواو بحسب المعنى داخلة عليها والتقديم للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية ، وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره. والمراد بالقول كلمة (كُنْ) تحقيقا أو تمثيلا والمعنى وأمره سبحانه المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية ، وقيل : إن الواو للعطف و (يَوْمَ) إما معطوف على (السَّماواتِ) فهو مفعول لخلق مثله ، والمراد به يوم الحشر أي وهو الذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما وأوجد يوم الحشر والمعاد ، وإما على الهاء في «اتقوه» فهو مفعول به مثله أيضا ، والكلام على حذف مضاف أي اتقوا الله تعالى واتقوا هول ذلك اليوم وعقابه وفزعه. وإما متعلق بمحذوف دل عليه «بالحق» أي يقوم بالحق يوم إلخ ، وهو إعراب متكلف كما قال أبو حيان. وقيل : إنه معطوف على «بالحق» وهو ظرف لخلق أي خلق السماوات والأرض بعظمها حين قال كن فكان. والتعبير بصيغة الماضي إحضار للأمر البديع. وفيه أنه يتوقف على صحة عطف الظرف على الحال بناء على أن الحال ظرف في المعنى وهو تكلف. «وقوله الحق» مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون. والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين يقوم القيامة فيكون التكوين إحياء الأموات للحشر. وقيل غير ذلك فتدبر.

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي استقر الملك له في ذلك اليوم صورة ومعنى بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للمالكية في الجملة فلا يدعيه غيره بوجه. والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث والله تعالى أعلم بحقيقته. وقد فصلت أحواله في كتب السنة. وصاحبه إسرافيل عليه‌السلام على المشهور. وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن ملكين موكلين بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان. وقرأ قتادة «في الصّور» جمع صورة والمراد بها الأبدان التي تقوم بعد نفخ الروح فيها لرب العالمين (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي كل غيب وشهادة (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في كل ما يفعله (الْخَبِيرُ) بجميع الأمور الخفية والجلية. والجملة تذييل لما تقدم وفيه لفّ ونشر مرتب هذا.

ومن باب الإشارة في الآيات : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ). اعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب ، أولاها غيب الغيوب وهو علم الله تعالى المسمى بالعناية الأولى. وثانيتها غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق. وثالثتها غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ. ورابعتها غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه. وذلك العالم هو الذي يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه ، وذكروا أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته سبحانه بالكل حضورا فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو


سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عزوجل وقد يفتح منها ما شاء لمن يشاء.

هذا وقد يقال : حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصورة مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا ، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال : إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا ، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ) أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها (وَالْبَحْرِ) أي بحر القلوب من لآلئ الحكم ومرجان العرفان. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب (إِلَّا يَعْلَمُها) في سائر أحوالها. (وَلا حَبَّةٍ) من بذر الجلال والجمال (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وهو عالم الطبائع والأشباح (وَلا رَطْبٍ) من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج (وَلا يابِسٍ) من الوساوس والخطرات التي تفزع منها النفس حين ترد عليها (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو علمه سبحانه الجامع ، وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها ، ويمكن أن يقال : إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة ، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم وقيل : يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت.

وقيل : يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي كسبتم (بِالنَّهارِ) من الأعمال مطلقا ، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات.

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة ، وقيل الحسنة ، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي ، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي معين عنده (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) في عين الجمع المطلق (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠].

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وهي للقوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) قيل : هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) في عين الجمع المطلق (مَوْلاهُمُ) أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به (الْحَقِ) وكل ما سواه باطل. وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى


أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا ، ولا شك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ) وهي الغواشي النفسانية (وَالْبَحْرِ) وهي حجب صفات القلب (تَدْعُونَهُ) إلى كشفها (تَضَرُّعاً) في نفوسكم (وَخُفْيَةً) في أسراركم (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) الغواشي والحجب (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن يمن عليكم بالفناء (ثُمَّ أَنْتُمْ) بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك (تُشْرِكُونَ) به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف (لِكُلِّ نَبَإٍ) أي ما ينبأ عنه (مُسْتَقَرٌّ) أي محل وقوع واستقرار (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) حين يكشف عنكم حجب أبدانكم (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لأنهم محجوبون مشركون (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) وهم المتجردون عن صفاتهم (مِنْ حِسابِهِمْ) أي من حساب هؤلاء المحجوبين (مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى) أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن الخوض.

وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو إلخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم عن سماع الإنذار وتأثيره فيهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن كراهة (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي تحجب بكسبها بأن يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) وهو شدة الشوق إلى الكمال (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) أي أنعبد من ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) بالشرك (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) إلى التوحيد الحقيقي (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) من الوهم والتخيل (فِي الْأَرْضِ) أي أرض الطبيعة ومهامه النفس (حَيْرانَ) لا يدري أين يذهب (لَهُ أَصْحابٌ) من الفكر والقوى النظرية (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) الحقيقي يقولون (ائْتِنا) فإن الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) وهو طريق التوحيد (هُوَ الْهُدى) وغيره غيره (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمحو صفاتنا (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) الحقيقية وهو الحضور القلبي.

قال ابن عطاء : إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار (وَاتَّقُوهُ) أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالفناء فيه سبحانه (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أي سماوات الأرواح (وَالْأَرْضَ) أي أرض الجسم (بِالْحَقِ) أي قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ)


وهو وقت تعلق إرادته سبحانه القديمة بالظهور في التعينات (قَوْلُهُ الْحَقُ) لاقتضائه ما اقتضاه على أحسن نظام وليس في الإمكان أبدع مما كان (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وهو وقت إفاضة الأرواح على صور المكنونات التي هي ميتة بأنفسها بل لا وجود لها ولا حياة. (عالِمُ الْغَيْبِ) أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت (وَالشَّهادَةِ) أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أفاض على القوابل حسب القابليات (الْخَبِيرُ) بأحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) نصب ـ عند بعض المحققين ـ على أنه مفعول به لفعل مضمر خوطب به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معطوف على (قُلْ أَنَدْعُوا) لا على (أَقِيمُوا) لفساد المعنى أي واذكر يا محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من شئونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه‌السلام الذي يدعون أنهم على ملته موبخا (لِأَبِيهِ آزَرَ) على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم. وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه‌السلام وكان من قرية من سواد الكوفة ، وهو بدل من «إبراهيم» أو عطف بيان عليه. وقال الزجاج : ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه‌السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ويروى بالخاء المعجمة. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارح.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأزر واسم أمه مثلى. وإلى كون آزر ليس اسما له وهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما. واختلف الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال : إن آزر لقب لأبيه عليه‌السلام. ومنهم من قال : اسم جده ومنهم من قال : اسم عمه والعم والجد يسميان أبا


مجازا. ومنهم من قال : هو اسم صنم. وروي ذلك عن ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من قال : هو وصف في لغتهم ومعناه المخطئ. وعن سلمان التيمي قال : بلغني أن معناه الأعوج. وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوارزمية. وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الاعلام الأعجمية. وقيل : الأولى أن يقال : إنه غلب عليه فالحق بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم. ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل. وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر.

وقرأ يعقوب «آزر» بالضم على النداء ، واستدل بذلك على العلمية بناء على أنه لا يحذف حرف النداء إلا من الإعلام وحذفه من الصفات شاذ أي ياء آزر (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) أي أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيراد صيغة الجنس باعتبار الوقوع وقرئ «أأزرا» بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة ومكسورة وهي إما أصلية أو مبدلة من الواو. ومن قرأ بذلك قرأ «تتخذ» بإسقاط الهمزة وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد آزرا على أنه اسم صنم ويكون (تَتَّخِذُ) إلخ بيانا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الإنكار أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أي الأجل القوة تتخذ أصناما آلهة. والكلام إنكار لتعززه بها على طريقة قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) [النساء : ١٣٩] وجوز أن يكون حالا أو مفعولا ثانيا لتتخذ.

وأعرب بعضهم (آزَرَ) على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو بمعنى الصنم أيضا أي أتعبد آزر. وجعل قوله سبحانه (أَتَتَّخِذُ) إلخ تفسيرا وتقريرا بمعنى أنه قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها وما لا يعمل لا يفسر عاملا كما تقرر عندهم. والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه‌السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام : «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات والمشركون نجس». وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه. والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا ، والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع ، وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه‌السلام. وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا.

وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال : الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية. وفي الخبر «ردوا على أبي العباس» وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه‌السلام الحقيقي لم يكن كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم عليه‌السلام في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى إن كانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلك قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل فلما ألقوه قال الله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩] فكانت فقال عمه من أجلي دفع عنه فأرسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته.

وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة ، ومجاهد ، والحسن ، وغيرهم أن إبراهيم عليه‌السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو الله فلم يستغفر له ثم هاجر بعد موته وواقعة النار إلى الشام ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها إسماعيل إلى مكة فنقلهما


ودعا هناك فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٣٧ ـ ٤١] فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرآن بالكفر هو عمه حيث صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه‌السلام هذا الاستغفار له أصلا ؛ فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالأب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت وأن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر ، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة.

ومن الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه‌السلام بأن هذه دالة على أنه عليه‌السلام شافهه بالغلظة والجفاء لقوله تعالى فيها : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) أي الذين يتبعونك في عباداتها (فِي ضَلالٍ) عظيم عن الحق (مُبِينٍ) أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا ، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء. وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب الكافر والمسلم. وأيضا أن الله تعالى لما بعث موسى عليه‌السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه. والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم. وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فإن الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه‌السلام مع الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم. وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام إلا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه‌السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو الإنسان أحيانا على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

وقال أبو العلاء المعري :

اضرب وليدك وادلله على رشد

ولا تقل هو طفل غير محتلم

فرب شق برأس جر منفعة

وقس على شق رأس السهم والقلم

وقال ابن خفاجة الأندلسي :

نبه وليدك من صباه بزجره

فلربما أغفى هناك ذكاؤه

وانهره حتى تستهل دموعه

في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه

فالسيف لا يذكو بكفك ناره

حتى يسيل بصفحتيه ماؤه

وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات متفاوتة كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام تارة : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وأخرى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] نعم لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لإبراهيم عليه‌السلام لربما قبل وحيث ادعى أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر. والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول. والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم. فقد نقل عنه الإمام أنه قال : إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون بالسماوات عندهم فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة ، وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال


الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في الطوالع ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فبالغوا في تعظيم الكواكب. ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذاتها. ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا : إنها مع ذلك هي المدبرة لأحوال العالم. وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها. ولما رأوها قد تغيب عن الأبصار اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها. ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] بعد أن بين أن الكواكب مسخرة. وعلى أنها لو قدر صدور فعل منها وتأثير في هذا العالم لا تخلو عن دلائل الحدوث وكونها مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالا محضا. ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن حكى توبيخ إبراهيم عليه‌السلام لأبيه على اتخاذها أقام الدليل على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للإلهية. وأنا أقول : لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولا وأما سبب عبادة العرب لها فغير ذلك. قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن الحي وهو أول من غير دين إبراهيم عليه‌السلام خرج من مكة إلى الشام في بعض أسفاره فلما قدم من أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة أولاد عملاق ويقال عمليق بن لاود بن سام بن نوح عليه‌السلام رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه التي أراكم تعبدون؟ فقالوا : هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها فتنصرنا فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته. وقال ابن إسحاق : يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه‌السلام. وذلك أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خلفهم الخلف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الأمم قبلهم من الضلالات ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه ، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارا لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة ، وقيل : إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء. والإشارة إلى مصدر «نري» لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى (إِنِّي أَراكَ) ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة. وجوز كل ، وقيل : يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من حيث إنه مدلول اللفظ ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع ، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول السابق ، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه‌السلام (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيرا آخر أدنى منه ، فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك. وغيره من أهل اللغة ، وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر ، وهو ـ كما قال الراغب ـ مختص به تعالى خلافا لبعضهم. وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات ، وقيل : العجائب التي في السماوات والأرض فإنه عليه‌السلام فرجت له السماوات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على


معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث ، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه ، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح. وإما أن أقبضه إليّ فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وروي نحوه موقوفا ومرفوعا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافا لمن توهمه ، وقيل : ملكوت السماوات الشمس ، والقمر ، والنجوم وملكوت الأرض ، الجبال ، والأشجار ، والبحار.

وهذه الأقوال ـ على ما قيل ـ لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه‌السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بلا اطلاعه عليه‌السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شئونه عزوجل ، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبئ عنه التشبيه السابق.

وقرئ «ترى» بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه‌السلام دلائل الربوبية (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى ، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى ، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر ، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور ، والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته ، وبعضهم لم يلاحظ ذلك فقدر الفعل مقدما لعدم انحصار العلة فيما ذكر.

وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق ، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل وليكون. واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببا للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء ، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السماوات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية ، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها ، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجها كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) يحتمل أن يكون عطفا على (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق ، فإن تعريفه عليه‌السلام ربوبيته ومالكته تعالى للسماوات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه ، واختاره بعض المحققين ، ويحتمل أن يكون تفصيلا لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه‌السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان ، والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر ، ومعنى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) سترة بظلامه ، وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر ، وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال : جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره.

وقوله سبحانه : (رَأى كَوْكَباً) جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا ـ كما قال شيخ الإسلام ـ صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس ، والتحقيق عنده أنه كان قريبا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك ، والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم المشتري. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنه الزهرة (قالَ هذا رَبِّي) استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق ، وهذا منهعليه‌السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول


يحكيه ثم بكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول. وقيل : إن في الكلام استفهاما إنكاريا محذوفا ، وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم ، ومنه قوله :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا ،

وقوله :

فقلت وأنكرت الوجوه : هم هم

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١] إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] وقيل: إنه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما : هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء ، وقيل : إنه عليه‌السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه‌السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان ، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا ، وقرر الإمام هذا بأنه عليه‌السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق وكان مأمورا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان ، وإذا جاء ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى ، فكلام إبراهيم عليه‌السلام كان من باب الموافقة ظاهرا للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل ، ثم قال : ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٨ ، ٨٩] وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام ، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك ، وقيل : إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه‌السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال : (هذا رَبِّي) على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ، وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لا سيما ما قرره الإمام ، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك.

وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلها وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلها وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى. وزعم أنه عليه‌السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفا بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرا مما لا يلتفت إليه أصلا ، فقد قال المحققون المحقون : إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء ، وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه‌السلام خصوصا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير. ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام ـ كما قيل ـ لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون ، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام


على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى. وقيل : إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضا ، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الإلهية في الأصنام والربوبية فيها. وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري «رأي» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى عن أبي بكر «رئي» بكسر الراء والهمزة (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب : (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال ، ونفي المحبة قيل : إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية.

وقيل كني بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى ، وقدر بعضهم في الكلام مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين ، وأيّا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء ، ولعله ـ كما قال الأزهري ـ مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال : بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها ، ويقال : بزغ الدم أي سال ، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبها بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه ، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكوكب.

وقوله سبحانه : (قالَ هذا رَبِّي) جواب لما وهو على طرز الكلام السابق (فَلَمَّا أَفَلَ) كما أفل الكوكب (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فإن شيئا مما رأيته لا يصلح للربوبية ، وهذا مبالغة منه عليه‌السلام في النصفة ، وفيه ـ كما قال الزمخشري ـ تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال ، والتعريض بضلالهم هنا ـ كما قال ابن المنير ـ أصرح وأقوى من قوله أولا (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وإنما ترقى عليه‌السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض لهم عليه‌السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره. والدليل على ذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته.

وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه‌السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه ، وكذا ما سيأتي.

وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان بربه عزوجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدا ، على أنه قيل : إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم ، ثم الظاهر ـ على ما قال شيخ الإسلام ـ إنه عليه‌السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقي مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور ، وقال آخر : إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع. بل كان


وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى.

وأنت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظاهر لا سيما على قول شيخ الإسلام لأن هذا الاحتجاج كان في نواحي بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الأثر وليس هناك اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل ، واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الأعوام بعيد ، وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم : إن واقعة إبراهيم عليه‌السلام كانت قريبا من حلب لأنه أيضا ليس هناك جبل شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والأفول البزوغ من الأفق الحقيقي لذلك الموضع والأفول عنه لا مطلق البزوغ والأفول.

وقال الشهاب : إن الذي ألجأهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن أن يكون تعقيبا عرفيا مثل تزوج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالا أو وضعا واستدراجا لا أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان كوكبا مخصوصا وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمل انتهى. ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو الذي يميل إليه القلب ، ودعوى إمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب حقيقة وقبل طلوع الشمس وأفوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لا سيما على ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في آخر الشهر. نعم قد يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامه فيح ، ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل (قالَ) أي على المنوال السابق (هذا رَبِّي) إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلا عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر اسم الإشارة.

وقال أبو حيان يمكن أن يقال : إن أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فأشير في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكي كلام إبراهيم عليه‌السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث «ببازغة». «وأفلت» أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.

وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكي كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب ، وقد صرح غير واحد بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى أنه لو قال أحد : الكوكب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت : الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته ، وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعى فيه الحكاية على أن القول بأن محاورة إبراهيمعليه‌السلام كانت بالعجمية دون العربية مبني على أن إسماعيل عليه‌السلام أول من تكلم بالعربية والصحيح خلافه.

وقيل : التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الإشارة مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط الفائدة في الكلام وما مضى فات ، وفي الكشاف بعد جعل التذكير لتذكير الخبر وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله تعالى : علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث ، واعترض عليه بأن هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك. وأجيب بأن ذلك على تقدير أن يكون مسترشدا ظاهر ، والمراد على المسلك الآخر إظهار صون الرب ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما


كان سببا لعدم إصغائهم ، وقوله تعالى : (هذا أَكْبَرُ) تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة مع إشارة خفية ـ كما قيل ـ إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر ، وكون الشمس أكبر مما قبلها مما لا خفاء فيه ، والآثار في مقدار جرمها مختلفة. والذي عليه محققو أهل الهيئة أنها مائة وستة وستون مثلا وربع وثمن مثل الأرض وستة آلاف وستمائة وأربعة وأربعون مثلا وثلثا مثل للقمر ، وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلا وخمس وعشر مثل للقمر ، وتحقيق ذلك في شرح مختصر الهيئة للبيرجندي (فَلَمَّا أَفَلَتْ) كما أفل ما قبلها (قالَ) لقومه صادحا بالحق بين ظهرانيهم : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي من إشراككم أو من الذي تشركونه من الاجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى المسخرة لمحدثها ، وإنما احتجعليه‌السلام بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب والأول حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها ، والثاني اختفاء يستتبع إمكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وإن كان انتقالا مع البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال. واعترض بأن البزوغ أيضا انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في الأول لاحق وفي الثاني سابق ، وكونه عليه‌السلام رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء ـ كما قيل ـ ولم يشاهد بزوغه فإنما يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجح الأفول بعمومه بخلاف البزوغ.

والأولى ما قيل : إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلّا منهما وإن كان في نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية قطعا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليه الحكم الأول أعني هذا ربي على الطريقة المذكورة ، وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب انتهى.

وبمعنى هذا ما قاله الإمام في وجه الاستدلال بالأفول من أن دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول ، ونقل عن بعض المحققين أن الهوي في حضيض الإمكان أفول ؛ وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطعا للحاجة فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال سبحانه : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] وأما الأوساط فهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل ، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوؤه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك لم يصلح للإلهية ثم قال : فكلمة لا أحب الآفلين مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين ، وهناك أيضا دقيقة أخرى وهو أنه عليه‌السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزا عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته.


ويظهر من هذا أن للأفول على قول المنجمين مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته ، ولا يخفى أن فهم الهوى في حضيض الإمكان من (فَلَمَّا أَفَلَ) في هذه الآية مما لا يكاد يسلم ، وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من الجسمية والتحيز مثلا قال إلخ لا يخفى ما فيه ، نعم فهم هذا المعنى من (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ربما يحتمل على بعد ، ونقل عن حجة الإسلام الغزالي أنه حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك ، والشمس على العقل المجرد الذي لكل فلك ، وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي عليها قاهر لها وهو خلاف الظاهر أيضا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة نظير ذلك ، وإنما لم يقتصر عليه‌السلام في الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى.

وفيه أيضا رعاية الإيجاز والاختصار ترقيا من الأدون إلى الأعلى مبالغة في التقرير والبيان على ما هو اللائق بذلك المقام ولم يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند الرؤية في أمارات الحدوث والإمكان اختيارا لما هو أوضح من ذلك في الدلالة وأتم ، ثم إنه عليه‌السلام لما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجدها فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ) أي أوجد وأنشأ (السَّماواتِ) التي هذه الأجرام من أجزائها (وَالْأَرْضَ) التي تلك الأصنام من أجزائها (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أصلا في شيء من الأقوال والأفعال ، والمراد من توجيه الوجه للذي فطر إلخ قصده سبحانه بالعبادة.

وقال الإمام : المراد وجهت عبادتي وطاعتي ، وسبب جواز هذا الجواز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة ، والظاهر أن اللام صلة وجه. وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك ، وظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى ، وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر ، وليس في القاموس تعرض لهذا الفرق. وادعى الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه لأنه متعال عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها. والاكتفاء باللام هاهنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة وفي القلب من ذلك شيء. فإن قيل : إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقا وإثبات التوحيد فلم جزم عليه‌السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل ، فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق. ثم إن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني.

والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل : هذا أو القمر أو هذه أفل أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربي. أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَتْ) في الموضعين ، وقوله سبحانه : (فَلَمَّا أَفَلَ) في الأخير ، وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لأنه يشير إلى قياس. وهو كل آفل لا يستحق العبودية. وكل من لا يستحق العبودية فلبس بإله ينتج من الأول كل آفل ليس بإله ، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة. ويصح جعل


الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الإله بآفل ، وهي إحدى الكبريين. ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية.

وقال الملوي : الأحسن أن يقال إن قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الإله بآفل القمر وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا شيء من القمر بإله ، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضا ا ه. فتأمل فيه ولا تغفل.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي خاصموه ـ كما قال الربيع ـ أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد (قالَ) منكرا عليهم محاجتهم له عليه‌السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه. وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان بتخفيف النون ففيه حذف إحدى النونين.

واختلف في أيهما المحذوفة. فقيل : نون الرفع وهو مذهب سيبويه. ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع لا تكسر. وبأنه جاء حذفها كما في قوله :

كل له نية في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا

أراد تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف تخفيفا كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويشعركم ويأمركم. وقيل نون الوقاية وهو مذهب الأخفش ، ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها الثقل. وقوله تعالى : (وَقَدْ هَدانِ) في موضع الحال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار. فإن كونه عليه الصلاة والسلام مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم المبالاة بها والالتفات إليها إذا وقعت. قيل : والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته عز شأنه ، وقيل هدان إلى الحق بعد ما سلكت طريقتكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه ، وعلى القولين لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة والسلام وجهل بمعرفة ربه جل وعلا. و (هَدانِ) يرسم ـ كما قال الأجهوري ـ بلا ياء.

(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) جواب كما روي عن ابن جريج عما خوفوه عليه‌السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما قال لهود عليه‌السلام قومه (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] وهذا التخويف قيل : كان على ترك عبادة ما يعبدونه ، وقيل : بل على الاستخفاف به واحتقاره بنحو الكسر والتنقيص. وقيل : ولعل ذلك حين فعل بآلهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا ، وفي بعض الآثار أنه عليه‌السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام فيعطيها له ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بارت ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رءوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه حينئذ وخوفوه. وما موصولة اسمية حذف عائدها ، والضمير المجرور لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه. وجوز أن يكون عائدا إلى الموصول والباء سببية. أي الذي تشركون بسببه ، وأن تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) بتقدير الوقت عند غير واحد غير مستثنى من أعم الأوقات استثناء


مفرغا. وقال بعضهم : إن المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت ، ومنع ذلك ابن الأنباري مفرقا بين المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز فيه ذلك. وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما على السواء ، والاستثناء متصل في رأي. و (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئته تعالى شيئا من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئا من مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه. وجوز بعضهم أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى ولكن أخاف أن يشأ ربي خوفي ما أشركتم به ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته تعالى.

(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علما فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب ، ونصب (عِلْماً) على التمييز المحول عن الفاعل ، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لوسع من غير لفظه ، وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم بمعزل عن القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري. وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير.

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لنفي الخوف عنه عليه‌السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر ؛ والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية ؛ وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فإذا انتفى جميع كيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني ، و (كَيْفَ) حال والعوامل فيها (أَخافُ) و (ما) موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف ، وجوز أن تكون مصدرية. وقوله تعالى : (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) في موضع الحال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ لمكان الواو. وقيل : لا حاجة إلى التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء ، ولا حاجة هنا إلى ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه‌السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه‌السلام في محل الأمن أولى وأحرى أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله تعالى الذي فطر السماوات والأرض ما هو من جملة مخلوقاته ، وعبر عنه بقوله سبحانه : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي حجة على طريق التهكم ـ قيل ـ مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى. وضمير (بِهِ) عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف أي بإشراكه. وجوز أن يكون راجعا إلى الإشراك المقيد بتعلقه بالموصول ولا حاجة إلى العائد ، وهو ـ على ما قيل ـ مبني على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه. وذكر متعلق الإشراك وهو الاسم الجليل في الجملة الحالية دون الجملة الأولى ـ قيل ـ لأن المراد في الجملة الحالية تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك.

وقال بعض المحققين : الظاهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية والترك في الأولى إنه لما قيل قبيل هذا (وَلا


أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) به كان ما هنا كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه‌السلام حذفه إشارة إلى بعد وحدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله تعالى ولا ذكر معه. ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه سبحانه عن ذلك صرح به ، وقيل : إن ذكر الاسم الجليل في الجملة الثانية ليعود إليه الضمير في «ما لم ينزل» وليس بشيء لأنه يكفي سبق ذكره في الجملة ، وقيل : لأن المقصود إنكاره عليه‌السلام عدم خوفهم من إشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد عند العقل السليم لا مطلق الإنكار ولا كذلك في الجملة الأولى فإن المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه‌السلام غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أو لا ؛ وليس بشيء أيضا لأن الجملة الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الإنكار إلا عند مدعي العطف وهو مما لا سبيل إليه أصلا لإفضائه إلى فساد المعنى قطعا لما تقدم أن الإنكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه‌السلام ونفي نفيه عنهم وأنه بين الفساد ، وأيضا أن (ما أَشْرَكْتُمْ) كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك أن هذا لا شيء عجاب ثم إن الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به سلطان. وهل يمتنع عقلا حصول السلطان في ذلك أم لا؟ ظاهر كلام بعضهم. وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثانية والذي اختاره الأول ، وقول الإمام : إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء ليس من محل الخلاف كما لا يخفى على الناظر فانظر.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) كلام مرتب على إنكار خوفه عليه‌السلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه‌السلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه ، وبهذا يعلم ما في دعوى أن الإنكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع ، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الإنصاف ، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف ، فإيثار ما في النظم الكريم ـ كما قيل ـ على أن يقال : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاء إلى الجواب بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربما تدعو إلى اللجاج والعناد مع الإشارة بما في النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه‌السلام بل تشمل كل موحد ترغيبا لهم في التوحيد (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم من أولي العلم فأخبروني بذلك. وقرئ «سلطانا» بضم اللام ، وهي لغة اتبع فيها الضم الضم (الَّذِينَ آمَنُوا) استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه.

وروي ذلك عن محمد بن إسحاق ، وابن زيد ، والجبائي ، ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه‌السلام. وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، واستشكل كونه استئنافا بأنه لا يمكن جعله بيانيا لأنه ما كان جواب سؤال مقدر ، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحويا لما قال ابن هشام : إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعا عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما.

وأجيب باختيار كونه نحويا. ومعنى كونه منقطعا عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر ، وقيل : المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقا أو تقديرا أي الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به (وَلَمْ يَلْبِسُوا) أي لم يخالطوا (إِيمانَهُمْ) ذلك (بِظُلْمٍ) أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وإن عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما ينبئ عنه قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس


رضي الله تعالى عنهما ، وابن المسيب ، وقتادة ، ومجاهد ، وأكثر المفسرين. ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين.

ويدل عليه ما أخرجه الشيخان ، وأحمد ، والترمذي ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه‌السلام لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ولا يقال : إنه لا يلزم من قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ) إلخ أن غير الشرك لا يكون ظلما لأنهم قالوا : إن التنوين في (بِظُلْمٍ) للتعظيم فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم ، ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل افراده ، وقيل : المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي ، والبلخي ، وارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور المعتزلة.

واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي الخلط إذ هو لا يجامع الإيمان للضدية وإنما يجامع المعاصي ، والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي ، والقول بأن الفسق أيضا لا يجامع الإيمان عندهم أيضا فلا يتم لهم الاستدلال لكونه اسما لفعل الطاعات واجتناب السيئات حتى أن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع ـ كما قيل ـ بأنه كثيرا ما يطلق الإيمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في غير ما آية. وأجيب بأنه أريد بالإيمان تصديق القلب وهو قد يجامع الشرك كأن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا إليه آنفا ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦] وكذا إذا أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال : إنه لا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مرارا ، وبعد تسليم جميع ما ذكر نقول : إن قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) إنما يدل على اختصاص الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين البتة بل خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع. وقيل المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقا ، والموصول مبتدأ واسم الإشارة مبتدأ ثان والإشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بما فيه معنى البعد بعد وصفه بما ذكر ما لا يخفى ، وجملة (لَهُمُ الْأَمْنُ) من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الموصول أو عطف بيان له و (لَهُمُ) هو الخبر و (الْأَمْنُ) فاعلا للظرف لاعتماده على المبتدأ ، وأن يكون «لهم» خبرا مقدما و (الْأَمْنُ) مبتدأ مؤخرا والجملة خبر الموصول ، وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ محذوف وقال : التقدير هم الذين ولا يخلو عن بعد والأكثرون على الأول (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين ، وقدر بعضهم إلى طريق توجب الأمن من خلود العذاب (وَتِلْكَ) إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه‌السلام من قوله سبحانه : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) [الأنعام : ٧٦] إلخ ، وقيل من قوله سبحانه : (أَتُحاجُّونِّي ـ إلى ـ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وتركيب حجة اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه ، وهو مبتدأ وقوله عزّ شأنه : (حُجَّتُنا) خبره ، وفي إضافته إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى ، وقوله تعالى :

(آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها في موضع الحال من حجة والعالم فيه معنى الإشارة أو


في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر و (حُجَّتُنا) بدل أو بيان للمبتدإ ، وجوز أن تكون جملة (آتَيْناها) إلخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده ، و (إِبْراهِيمَ) مفعول أول لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميرا.

وقوله سبحانه : (عَلى قَوْمِهِ) متعلق بحجتنا إن جعل خبرا لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلا لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه ، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه بحجتنا أصلا للمصدرية والفصل ، ولعل المجوز لا يرى المصدرية مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفرا ، وقيل : يصح تعلقه بآيتنا لتضمنه معنى الغلبة. وقوله عزّ شأنه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) أي رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من الإعراب مقرر لما قبله ، وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب على أنه حال من فاعل (آتَيْناها) أي حال كوننا رافعين ، ونصب «درجات» إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول نرفع قوله تعالى : (مَنْ نَشاءُ) وتأخيره على الأوجه الثلاثة الأخيرة لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة ، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه‌السلام. وقرئ «يرفع» بالياء على طريقة الالتفات وكذا (نَشاءُ) وقرأ غير واحد من السبعة «درجات من» بالإضافة على أنه مفعول (نَرْفَعُ) ورفع درجات الإنسان رفع له ، وجوز بعضهم جعله مفعولا أيضا على قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد.

وقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) أي في كل ما يفعل من رفع وخفض (عَلِيمٌ) أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة ، وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولا أوليا تعليل لما قبله ، وفي وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم عليه‌السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا وقد ذكر الإمام في هذه الآيات الإبراهيمية عدة أحكام ، الأول أن قوله سبحانه : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) يدل على أنه عزوجل ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا فيكون آفلا والأفول ينافي الربوبية ، ولا يخفى أن عد تلك الغيبة المفروضة أفولا لا يخلو عن شيء لأن الأفول احتجاب مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب فيما يظهر. نعم إنه ينافي الربوبية أيضا لكن الكلام في كونه أفولا ليتم الاحتجاج بالآية ، لا يقال قد جاء في حديث الإسراء ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا نقول : الحجاب الوارد ـ كما قال القاضي عياض ـ إنما هو في حق العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس ، ونص غير واحد أن ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه سبحانه الخلق عن رؤيته. وقال السيد النقيب في الدرر والغرر : العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه : بيني وبينك حجاب ويقولون لما يستصعب طريقه : بيني وبينه كذا حجب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك. والظاهر على هذا أن فيما ذكر مجاز في المفرد فتدبر. الثاني أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول. وأنت تعلم أن الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن رسولهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقولون : إنه حركة وانتقال كما هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه إلى الله تعالى بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه في معنى الأفول الممتنع على الرب جل جلاله.


الثالث : أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلا للصفات المحدثة كما تقول الكرامية وإلا لكان متغيرا وحينئذ يحصل معنى الأفول وهو ظاهر. الرابع أن ما ذكر يدل على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن للاستدلال فائدة البتة. الخامس أنه يدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم عليه‌السلام إلى الاستدلال. السادس أنه يدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه‌السلام إلى هذه الطريقة ، ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين. السابع أن قوله سبحانه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلخ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه‌السلام بإيتاء الله تعالى وإظهارها في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ؛ ويتأكد ذلك بقوله سبحانه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) إلخ الثامن أن قوله سبحانه (نَرْفَعُ) إلخ. يدل على فساد طعن الحشوية في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل ، وفيها أحكام أخر لا تخفى على من يتدبر.

ومن باب الإشارة فيها : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) حين رآه محتجبا بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء معتقدا تأثير الأكوان والأجرام ذاهلا عن الملكوت جل شأنه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً) أي أشباحا خالية بذواتها عن الحياة (آلِهَةً) فتعتقد تأثيرها (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر عند من كشف عن عينه الغين (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية ، وذلك عند الصوفية في صباه وأول شبابه (رَأى كَوْكَباً) وهو كوكب النفس المسماة روحا حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الإنساني ـ فقال ـ حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال (هذا رَبِّي) وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي (فَلَمَّا أَفَلَ) بطلوع نور القلب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ) أي قمر القلب (بازِغاً) من أفق النفس ووجد فيضه بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه (قالَ هذا رَبِّي) وكان الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى نور وجهه (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ) أي شمس الروح (بازِغَةً) متجلية عليه (قالَ) إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها (هذا رَبِّي) وكان سبحانه يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم (هذا أَكْبَرُ) من الأولين (فَلَمَّا أَفَلَتْ) بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات الوجه (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إذ لا وجود لغيره سبحانه (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي أسلمت ذاتي ووجودي (لِلَّذِي فَطَرَ) أوجد (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي سماوات الأرواح وأرض النفس (حَنِيفاً) مائلا عن كل ما سواه حتى عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في شيء (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) في ترك السوي (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) إلى وجوده الحق وتوحيده (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) الحقيقي (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) حقيقة إلى الحق.

وقال النيسابوري : قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه‌السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها آفلة في أفق الإمكان


فلم يبق إلا الواجب ، وقيل : غير ذلك ، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه‌السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبرا طويلا وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة ، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ


لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١٠)

(وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم عليه‌السلام (إِسْحاقَ) وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة. وفي نديم الفريد أن معنى إسحاق بالعربية الضحاك (وَيَعْقُوبَ) وهو ابن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة ، والجملة عطف على قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلخ ، وعطف الفعلية على الاسمية مما لا نزاع في جوازه ، ويجوز على بعد أن تكون عطفا على جملة (آتَيْناها) بناء على أنها لا محل لها من الإعراب كما هو أحد الاحتمالات.

وقوله تعالى : (كُلًّا) مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما (هَدَيْنا) لا أحدهما دون الآخر ، وقيل : المراد كلّا من الثلاثة ، وعليه الطبرسي. واختار كثير من المحققين الأول أن هداية إبراهيم عليه‌السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي إليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم عليه‌السلام فإنهما متعبدان به.

وقال الجبائي : المراد هديناهم بنيل الثواب والكرامات (وَنُوحاً) قال شيخ الإسلام : منصوب بمضمر يفسره (هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) ولعله إنما لم يجعله مفعولا مقدما للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلو التقديم عن الفائدة السابقة أعني القصر ولا يخلو ذلك عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه‌السلام.


ونوح ـ كما قال الجواليقي ـ أعجمي معرب زاد الكرماني ، ومعناه بالسريانية الساكن ، وقال الحاكم في المستدرك : إنما سمي نوحا لكثرة بكائه على نفسه واسمه عبد الغفار ، والأول أثبت عندي ، وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ـ كما قال الحاكم ـ أنه عليه‌السلام كان قبل إدريس عليه‌السلام ـ وذكر النسابون أنه ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن أخنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو إدريس فيما يقال. وروى الطبراني عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : «قلت يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال : آدمعليه‌السلام قلت : ثم من؟ قال نوح عليه‌السلام : وبينهما عشرة قرون» وهذا ظاهر في أن إدريس عليه‌السلام لم يكن قبله.

وذكر ابن جرير أن مولده عليه‌السلام كان بعد وفاة آدم عليه‌السلام بمائة وستة وعشرين عاما. وذكره سبحانه هنا قيل لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع ثني بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل فإن شرف الوالد سار إلى الولد ، إنما ذكره سبحانه لأن قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة ، وأما أنه ذكر لما مر فلا إذ لا دلالة على علاقة الأبوة ليقبل. ودلالة (مِنْ قَبْلُ) على ذلك غير ظاهرة. وقنع بعضهم بالشهرة عن ذلك (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير عند جمع لإبراهيم عليه‌السلام لأن مساق النظم الجليل لبيان شئونه وما من الله تعالى به عليه من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته من المشركين واليهود ، واختار آخرون كونه لنوح عليه‌السلام لأنه أقرب ولأنه ذكر في الجملة لوطا عليه‌السلام وليس من ذرية إبراهيم بل كان ابن أخيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى آمن به وشخص معه مهاجرا إلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم ، وكذلك يونس عليه‌السلام لم يكن من ذريته فيما ذكر محيي السنة فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها ، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على ـ نوحا ـ ولا يجب أن يعتبر في المعطوف ما هو قيد في المعطوف عليه ، ولا يضر ذكر إسماعيل هناك وإن كان من ذرية إبراهيم عليهما‌السلام لأن السكوت عن إدراجه في الذرية لا يقتضي أنه ليس منهم وإنما لم يعد ـ كما قال بعض المحققين ـ : في موهبته كإسحاق لأن هبة إسحاق كانت في كبره وكبر زوجته فكانت في غاية الغرابة ، وذكر يعقوب لأن إبقاء النبوة بطنا بعد بطن غاية النعمة ، ولم يعطف «كلا هدينا» لأنه مؤكد لكونه نعمة.

ومن الناس من ادعى أن يونس عليه‌السلام من ذرية إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرح في جامع الأصول أنه كان من الأسباط في زمن شعيا ، وحينئذ يبقى لوط فقط خارجا ولا يترك له إرجاع الضمير على إبراهيم وجعله مختصا بالمعدودين في الآيات الثلاث لأنه لما كان ابن أخيه آمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب كما قال الطيبي. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطا ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] مع أن إسماعيل عم يعقوب. والجار والمجرور متعلق بفعل مضمر مفهوم مما سبق ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من المذكورين في الآية واختير الأول أي وهدينا من ذريته (داوُدَ) هو ـ كما قال الجلال السيوطي ـ ابن ايشا بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة التحتية وبالشين المعجمة ابن عوبر بمهملة وموحدة بوزن جعفر بن عابر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يخشون ابن عمي بن يا رب ـ بتحتية وآخره باء موحدة ـ ابن رام بن حضرموت بمهملة ثم معجمة بن فارض بفاء وآخره مهملة بن يهوذا بن يعقوب.


قال كعب : كان أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت والخلق وجمع له بين النبوة والملك ؛ ونقل النووي عن المؤرخين أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وله اثنا عشر ابنا.

(وَسُلَيْمانَ) ولده ، قال كعب : كان أبيض جسيما وسيما وضيئا جميلا خاشعا متواضعا وكان أبوه يشاوره في كثير من أموره في صغر سنه لوفور عقله وعلمه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ملك الأرض ، وعن المؤرخين أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ بناء بيت المقدس بعد ملكه بأربع سنين وتوفي وله ثلاث وخمسون سنة ، وتقديم المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم (وَأَيُّوبَ) قال ابن جرير : هو ابن موص بن روم بن عيص بن إسحاق. وقيل : ابن موص بن تارخ بن روم إلخ ، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه‌السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فهو قبل موسى عليه‌السلام ؛ وقال ابن جرير : إنه كان بعد شعيب ، وقال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان ، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة (وَيُوسُفَ) وهو على الصحيح المشهور ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ؛ ويشهد له ما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. عاش مائة وعشرين سنة وفيه ست لغات تثليث السين مع الياء والهمز والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له (وَمُوسى) وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوي بن يعقوب ولا خلاف في نسبه وهو اسم سرياني.

وأخرج أبو الشيخ من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء فالماء بالقبطية مو والشجر شا ، وفي الصحيح وصفه بأنه آدم طوال جعد كأنه من رجال شنوءة وعاش ـ كما قال الثعلبي ـ مائة وعشرين سنة (وَهارُونَ) أخوه شقيقه ، وقيل : لأمه ، وقيل : لأبيه فقط حكاهما الكرماني في عجائبه مات قبل موسى عليهما‌السلام وكان ولد قبله بسنة وفي بعض أحاديث الإسراء صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته أبيض ونصفها أسود تكاد تضرب سرته من طولها فقلت : يا جبرائيل من هذا؟ قال : المحبب في قومه هارون بن عمران. وذكر بعضهم أن معنى هارون بالعبرانية المحبب (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قيل : أي نجزيهم مثل ما جزينا إبراهيم عليه‌السلام برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوة فيهم ، والمراد مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافآت بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأن اختصاص إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة النبوة في عقبه أمر مشهور.

واختار بعض المحققين كون التشبيه على حد ما تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ونظائره ، وال في (الْمُحْسِنِينَ) للعهد ، والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي ، وقد فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والجملة اعتراض مقرر لما قبلها.

(وَزَكَرِيَّا) هو ابن ازن بن بركيا كان من ذرية سليمان عليهما‌السلام وقتل بعد قتل ولده وكان له يوم بشر به اثنتان وتسعون ، وقيل : تسع وتسعون ، وقيل : مائة وعشرون سنة وهو اسم أعجمي وفيه خمس لغات أشهرها المد والثانية القصر وقرئ بهما في السبع وزكري بتشديد الياء وتخفيفها وزكر كقلم.

(وَيَحْيى) ابنه وهو اسم أعجمي ، وقيل : عربي ، وعلى القولين ـ كما قال الواحدي ـ لا ينصرف ، وسمي بذلك على القول الثاني لأنه حيي به رحم أمه ، وقيل : غير ذلك (وَعِيسى) ابن مريم وهو اسم عبراني أو سرياني وفي الصحيح أنه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس وفي ذكره عليه‌السلام دليل على أن الذرية يتناول أولاد البنات لأن


انتسابه ليس إلا من جهة أمه وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم.

وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية ، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية وبها احتج موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه على ما رواه البعض عن الرشيد. وفي التفسير الكبير أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية المباهلة حيث دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) [آل عمران : ٦١].

وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة ، والذي أميل إليه القول بالدخول (وَإِلْياسَ) قال ابن إسحاق في المبتدأ : هو ابن يس بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم‌السلام. وحكى القتبي أنه من سبط يوشع ، وقيل : من ولد إسماعيل عليه‌السلام. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إدريس وهو ـ على ما قال ابن إسحاق ـ ابن يرد بن مهلائيل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وهو جد نوح كما أشرنا إليه وروي ذلك عن وهب بن منبه ، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بين نوح وإدريس ألف سنة وعلى القول بأنه قبل نوح يكون البيان مختصا بمن في الآية الأولى ، ونص الشهاب أن قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا) وما بعده حينئذ معطوفا على مجموع الكلام السابق (كُلٌ) أي كل واحد من أولئك المذكورين (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي وهو مقول بالتشكيك فيوصف بما هو من أعلى مراتب الأنبياء عليهم‌السلام والجملة اعتراض جيء بها للثناء عليهم بمضمونها (وَإِسْماعِيلَ) هو ـ كما قال النووي ـ أكبر ولد إبراهيم عليه‌السلام ويقال ـ كما نقل عن الجواليقي ـ بالنون آخره قيل ومعناه : مطيع الله (وَالْيَسَعَ) قال ابن جرير : هو ابن أخطوب بن العجوز. وقرأ حمزة. والكسائي «الليسع» بوزن ضيغم وهو أعجمي دخلت عليه اللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب كما قاله التبريزي ونص على أن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس فليس كاليزيد في قوله :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

ومن جميع الوجوه ، وهو على القراءة الأولى أعجمي أيضا ، وقيل : إنه معرب يوشع وقيل : عربي منقول من يسع مضارع وسع (وَيُونُسَ) وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور كحتى ويقال متى بالفك وهو اسم أبيه كما قاله ابن حجر وغيره من الحفاظ ، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه وهو مردود ولم نقف كغيرنا على اتصال نسبه عليه‌السلام ، وقد مر ما في جامع الأصول. وقيل : إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو مثلث النون ويهمز.

وقرأ أبو طلحة «يونس» بكسر النون قيل : أراد أن يجعله عربيا من أنس وهو شاذ (وَلُوطاً) قال ابن إسحاق : هو ابن هاران بن آزر ، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ابن أخي إبراهيم ولم يصرح باسم أبيه (وَكلًّا) أي كل واحد من هؤلاء المذكورين لا بعضهم دون بعض (فَضَّلْنا) بالنبوة (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي عصرهم ، والجملة اعتراض كأختيها ، وفيها دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ (١) وَإِخْوانِهِمْ) يحتمل ـ كما قيل ـ أن يتعلق بما تعلق به من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي

__________________

(١) في اصل المصنف بدل وذرياتهم وأبنائهم وهو سبق قلم وجرينا على ما في المصحف العثماني تنبه.


وهدينا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم جماعات كثيرة أو معطوف على (كلًّا فَضَّلْنا) ومن تبعيضية أي فضلنا بعض آبائهم إلخ.

وجعله بعضهم عطفا على نوحا ، ومن واقعة موقع المفعول به مؤولا ببعض. واعتبار البعضية لما أن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا قيل : وهذا في غير الآباء لأن آباء الأنبياء كلهم مهديون موحدون ، وأنت تعلم أن هذا مختلف فيه نظرا إلى آباء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثير من الناس من وراء المنع فما ظنك بآباء غيره من الأنبياء عليهم‌السلام.

ولا يخفى أن إضافة الآباء والأبناء والإخوان إلى ضمير هم لا يقتضي أن يكون لكل منهم أب أو ابن أو أخ فلا تغفل (وَاجْتَبَيْناهُمْ) عطف على (فَضَّلْناهُمْ) أي اصطفيناهم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ومتأخر بالزمان على متقدم به وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي) إلخ وثانيا بقوله سبحانه : و (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.

(ذلِكَ) أي الهدى إلى الطريق المستقيم أو ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة أو ما دانوا به ، ما في ذلك من معنى البعد لما مر مرارا (هُدَى اللهِ) الإضافة للتشريف (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) هدايته (مِنْ عِبادِهِ) وهم المستعدون لذلك ، وفي تعليق الهداية بالموصول إشارة إلى علية مضمون الصلة ويفيد ذلك أنه تعالى متفضل بالهداية (وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي أولئك المذكورون (لَحَبِطَ) أي لبطل وسقط (عَنْهُمْ) مع فضلهم وعلو شأنهم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثواب أعمالهم الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم‌السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل. واقتصر الإمام على المذكورين من الأنبياء. وعن ابن بشير قال: سمعت رجلا سأل الحسن عن أولئك فقال له : من في صدر الآية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي جنسه. والمراد بإيتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء وبالإيراث بقاء فإن ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين. (وَالْحُكْمَ) أي فصل الأمر بين الناس بالحق أو الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء (وَالنُّبُوَّةَ) فسرها بعضهم بالرسالة. وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في المحاكمات لمولانا أحمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه‌السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصا. وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه‌السلام ليس برسول أيضا. ويوسف في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام وإنما هو يوسف بن أفرائيم بن يوسف ابن يعقوب وهو غريب. وأغرب منه القول بأنه كان من الجن رسولا إليهم. وقال الشهاب : قد يقال إنما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين (هؤُلاءِ) أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الإشارة والمقام على ما قيل. وقيل : المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا ، وأيّا ما كان فكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم مما يصدقه جميعا. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غيره مرة (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي أمرنا برعايتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها (قَوْماً) فخاما (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها ، والمراد بهم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى


عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار. وقيل : أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا ، وقيل : كل مؤمن من بني آدم عليه‌السلام. وقيل : الفرس فإن كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا. وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي نور فرقها القرآن ، ورجح واختار هذا الزجاج. ورجحه الزمخشري بوجهين ، الأول أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم‌السلام فإن لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي. الثاني أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك ، واستبعده بعضهم فإن الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايرا لمن أوتيها.

وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها ، واستبعده الإمام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم ، وأيّا ما كان فتنوين (قَوْماً) للتفخيم كما أشرنا إليه. وهو مفعول (وَكَّلْنا) و (بِها) قبله متعلق بما عنده ، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولا ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف. والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة (فَقَدْ وَكَّلْنا) إلخ أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للإيمان قوما مستمرين على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء ، ومن هذا يعلم أن الأرجح ـ كما قال شيخ الإسلام ـ تفسير القوم بإحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ولا كذلك إيمان الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام (أُولئِكَ) أي الأنبياء المذكورون كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي ، وابن زيد ، وقيل : الإشارة إلى المؤمنين الموكلين. وروي ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه ، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : (الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي هديناهم إلى الحق والصراط المستقيم ، والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي إليه اعتمادا على غاية ظهوره (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أي اجعل هداهم منفردا بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصورا عليه ، والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضا مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعا ، ومعنى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث إنه طريق أولئك الفخام بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق لدليل العقل والسمع ، وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالا من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقلد غيره فما معنى أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء. وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة والسلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء بذلك. واعترض أيضا بأن الأخذ بأصول الدين حاصل له قبل نزول الآية فلا معنى للأمر بأخذ ما قد أخذ قبل ، اللهم إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه. وحقق القطب الرازي في حواشيه على الكشاف أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم ، والصبر ، والزهد ، وكثرة الشكر ، والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهم قطعا لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم‌السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بهداهم جميعا امتنع للعصمة أن يقال : إنه لم يمتثل فلا بد أن يقال: إنه عليه


الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقا فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعا كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن.

واستدل بعضهم بها على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء ، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أرباب الذوق ، والهاء في (اقْتَدِهْ) هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة ، وقد تثبت في الدرج ساكنة أيضا إجراء للوصل مجرى الوقف ، وبذلك قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم. ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة ، والكسائي ، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاسا وهي رواية هشام عنه. وروى غيره إشباعها وهو كسرها ووصلها بياء ، وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللا ذلك بأن الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال. وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها. وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي» اقتد الاقتداء» ومثله كما قال أبو البقاء قوله :

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب

فإن الهاء فيه ضمير الدرس لا مفعول لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن. وقال بعضهم : إن هاء السكت قد تحرك تشبيها لها بهاء الضمير ، والعرب كثيرا ما تعطي الشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه ، وقد روي قول أبي الطيب :

وأحر قلباه مما قلبه شبم

بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت. واستحسن صاحب الدر المصون جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها. وزعم الإمام أن إثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالإمام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط هو وهم (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) أي لا أطلب (عَلَيْهِ) أي على القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما (أَجْراً) أي جعلا قل أو أكثر كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم‌السلام أممهم قيل : وهذا من جملة ما أمرنا بالاقتداء به من هداهم عليهم‌السلام ، وهو ظاهر على ما قاله القطب لأن الكف عن أخذ أجر في مقابلة الإحسان من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، وأما على قول من خص الهدى السابق بالأصول فقد قيل : إن بين القول به والقول بذلك الاختصاص تنافيا. وأجيب بأن استفادة الاقتداء بالأصول من الأمر الأول لا ينافي أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بأمر آخر كالتبليغ. وتقديم المتعلق هناك إنما هو لنفي اتباع طريقة غيرهم في شيء آخر.

واستدل بالآية على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. وفيه كلام للفقهاء على طوله مشهور غني عن البيان.

(إِنْ هُو) أي القرآن (إِلَّا ذِكْرى) أي تذكير فهو مصدر ، وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأويله بمذكر (لِلْعالَمِينَ) كافة فلا يختص به قوم دون آخرين واستدل بالآية على عموم بعثتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما قَدَرُوا اللهَ) لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه‌السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك ، وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير أمر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد،


والنبوة ، والمعاد. وبهذا ترتبط الآية بما قبلها ـ كما قال الإمام ـ وأولى منه ما قيل : إنه سبحانه (١) شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية ؛ وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه ، وقال الواحدي : يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن غم عليكم فاقدروا له» أي فاطلبوا أن تعرفوه ، ثم قيل : لمن عرف شيئا هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره.

واختلف التفسير هنا. فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى (حَقَّ قَدْرِهِ) أي حق معرفته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه. وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته والكل محتمل.

واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا عظيما (إِذْ قالُوا) منكرين لبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترءوا على إنكار ذلك بقولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا من الأشياء فمن للتأكيد ونصب (حَقَ) على المصدرية وهو ـ كما قال أبو البقاء ـ في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه. و (إِذْ) ظرف (٢) للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا؟ احتمالان ، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين. وقرئ «قدره» بفتح الدال.

واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع ، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش. والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الإلزام : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه‌السلام فكيف يقولون : «ما أنزل الله على بشر من شيء» وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزه ، وقيل : إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته ، فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك ابن الصيف من أحبار اليهود (٣) قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال : إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية ، واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه‌السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم. ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود

__________________

(١) قوله «سبحانه شأن القرآن كذا بخطه وتأمله.

(٢) قوله للزمان الزمان كذا يخطه ولعله للزمان الماضي. وجل من لا يسبق قلمه.

(٣) قوله قال لرسول إلخ كذا بخطه ولعل الاولى قال له رسول الله إلخ.


لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية ، واستشكل أيضا قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم. ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٧] حسن إلزامهم بما ذكر ، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول. ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم : و (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية.

وقال الإمام : تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة فقال : إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وواحد من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئا ينتج أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس لا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ) إلخ فوجب القول بأنها كاذبة وفي ذلك تأمل فليتأمل. ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقرير وتشديد التبكيت ، وكذا تقييده بقول سبحانه : (نُوراً وَهُدىً) فإن كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد ، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل (أَنْزَلَ) أو من ضمير (بِهِ) والعامل جاء ، والظاهر تعلق الظرف بجاء ، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الفاعل ، واللام في قوله سبحانه : (لِلنَّاسِ) إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائنا للناس ، والمراد بهم بنو إسرائيل ، وقيل : هم ومن عداهم ، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم. وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل.

وقال أبو علي الفارسي : المراد تجعلونه ذا قراطيس ، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس ، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة ، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه : (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس ، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيرا منها ، والمراد من الكثير نعوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن. وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه ، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم ، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الالتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة ، وضمير الجمع لليهود أيضا إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) وهذا أحسن ـ كما قيل ـ من الالتفات على القول الأول لأن فيه نقلا من الكلام مع جماعة


هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل إتمام الكلام الأول لأن إتمامه بقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ) إلخ بخلاف الالتفات على القول الثاني ، والجملة ـ على ما قال أبو البقاء ـ في موضع الحال من فاعل (تَجْعَلُونَهُ) بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين ، وعليه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل : ٧٦] لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافا مقررا لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن ، ولا سبيل ـ كما قال ـ إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ١٥] فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما.

وجوز أن تكون الجملة معطوفة على (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين. وروي عنه أنه قرأ «وعلمتم معشر العرب ما لم» إلخ وهو عند قوم اعتراض للامتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. وقال بعضهم : إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود ، و (عُلِّمْتُمْ) عطف على (تَجْعَلُونَهُ) والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي (عُلِّمْتُمْ) لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف.

وقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ) أمر لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم ، وإشعارا بتعين الجواب وإيذانا بأنهم أفحموا ، ولم يقدروا على التكلم أصلا ، والاسم الجليل إما فاعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزله الله أو الله تعالى أنزله ، والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي دعهم (فِي خَوْضِهِمْ) أي باطلهم فلا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر (يَلْعَبُونَ) في موضع الحال من ـ هم ـ الأول ، والظرف صلة (ذَرْهُمْ) أو (يَلْعَبُونَ) أو حال من مفعول (ذَرْهُمْ) أو من فاعل (يَلْعَبُونَ).

وجوز أن يكون في موضع الحال من ـ هم ـ الثاني. وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه ، والظرف متصل بما قبله إما على أنه لغو أو حال من ـ هم ـ ولا يجوز حينئذ جعله متصلا بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضا لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى. والآية عند بعض منسوخة بآية السيف ، واختار الإمام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعا للمدلول فلم يحصل النسخ فيه (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما يشير به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب ، وتنكير (كِتابٌ) للتفخيم ، وجملة (أَنْزَلْناهُ) في موضع الرفع صفة له.

وقوله سبحانه : (مُبارَكٌ) أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة. قال الإمام : جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة ، ولقد شاهدنا والحمد لله عزوجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم.


وقوله جل وعلا : (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) صفة أخرى ، والإضافة ـ على ما نص عليه أبو البقاء ـ غير محضة ، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود ، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية. وروي ذلك عن الحسن ، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك ، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه. فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) قيل : عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار. واختار العلامة الثاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار ، وادعى أنه لا حاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير ، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه ، والأولى ما يقال : إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه ، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) [الأنعام : ١٩] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد ، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية. فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى ، ومنه يعلم الداعي اللفظي.

وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرا أو مقدما أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلنا لتنذر ، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي ، وأن يكون عطفا على مقدر أي لتبشر ولتنذر ، وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى ، والمراد بها مكة المكرمة ، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضا تعظيم الأم ، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي ، ولأنها أعظم القرى شأنا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل. وقيل : لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. ونقل ذلك عن السدي.

وقرأ أبو بكر عن عاصم «لينذر» بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادع بها القرآن في غير آية ، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل للعرب خاصة ، على أنه يمكن أن

يقال : خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وبما فيها من الثواب والعقاب ، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالكتاب ، قيل : أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازا أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازا كقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كالذين قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) من جهته تعالى : (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ) أي والحال أنه لم يوح إليه (شَيْءٌ) كمسيلمة والأسود العنسي (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] وتفسير الأول بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا ، وتفسير الثاني ذهب إليه الزمخشري وغيره. وتفسير الثالث ذهب إليه الزجاج ومن وافقه. وأخرج عبد بن حميد


وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نزلت في مسيلمة الكذاب والأخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف (أَوْ قالَ) الأول على (افْتَرى) إلخ من عطف التفسير.

وتعقب بأنه لا يكون بأو ، واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وأو للتنويع يعني أنه تارة ادعى أن الله تعالى بعثه نبيا وأخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الإيحاء ويلزم الإيحاء النبوة ، ويفهم من صنيع بعضهم أن أو بمعنى الواو ، وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحا القدرة ولكن قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات ، وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد ، فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فكتب له شيئا فلما نزلت الآية في المؤمنين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] فقال رسول الله : هكذا أنزلت علي فشك حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ، وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدرة على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا اعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلا كما لا يخفى. واعتبر الإمام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعا من الأشياء التي وصفت بكونها افتراء ثم قال : والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الثاني أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة والسلام فكان جمعا بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود انتهى. وفيه عدول عن الظاهر حيث جعل ضمير (إِلَيْهِ) راجعا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والواو في (وَلَمْ يُوحَ) للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى ، وربما يقال لو قطع النظر عن سبب النزول : إن المراد بمن افترى على الله كذبا من أشرك بالله تعالى أحدا بحمل افتراء الكذب على أعظم أفراده ، وهو الشرك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى وبمن قال : (أُوحِيَ إِلَيَ) والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذبا وبمن قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل : من أظلم ممن أشرك بالله عزوجل أو ادعى النبوة كاذبا أو طعن في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر.

(وَلَوْ تَرى) أي تبصر ، ومفعوله محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى : (إِذِ الظَّالِمُونَ) عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والأصل لو ترى الظالمين إذ هم ، و (إِذِ) ظرف لترى و (الظَّالِمُونَ) مبتدأ ، وقوله تعالى : (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) خبره وإذا ظرف لترى ، وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر ، وقيل : المفعول (إِذِ) والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه ، وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا ، والمراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة من الافتراء والقولين الأخيرين ، والغمرة كما قال الشهاب في الأصل : المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة. ومنه قول المتنبي :

وتسعدني في غمرة بعد غمرة

سبوح لها منها عليها شواهد

والمراد هنا سكرات الموت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (وَالْمَلائِكَةُ) الذين يقبضون


أرواحهم وهم أعوان ملك الموت (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالعذاب ، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب ، والأمر للتوبيخ والتعجيز ، وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك ، وفي الكشف أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك ، واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية ، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها.

(الْيَوْمَ) المراد به مطلق الزمان لا المتعارف ، وهو إما حين الموت وما يشمله وما بعده (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي المشتمل على الهوان والشدة والإضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الاختصاص الذي تفيده الإضافة أقوى من اختصاص التوصيف ، وجوز أن تكون الإضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي. ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فإنها وإن كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة إلا أنها استعملت فيها تقريبا للإفهام ، وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار بمقامع من حديد والإخراج بالإخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ) مفترين (عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) من نفي إنزاله على بشر شيئا وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك إليه ودعوى النبوة كذبا ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك. وفي التعبير بغير الحق عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول (تَقُولُونَ) ، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا غير الحق (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) للحساب (فُرادى) أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا. أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهما عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت ، والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) [البقرة : ١٧٤] ، آل عمران : ٧٧] لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب ، وقيل : معطوفة على قول : الملائكة (أَخْرِجُوا) إلخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى. ونصب (فُرادى) على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في الصحاح ، والألف للتأنيث ككسالى ، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب الدر المصون وحكي بصيغة التمريض سكونها ، ونقل عن الراغب أنه جمع فريد كأسير وأسارى ، وفي القاموس يقال : جاءوا فرادا وفرادا وفرادى وفرادا وفردى كسكرى أي واحد وفراد بعد واحد والواحد فرد وفرد وفريد وفردان. ولا يجوز فرد في هذا المعنى ، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية. وقرى «فرادا» كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة. ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص ، نعم هو شائع فيما ذكر. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدل من (فُرادى) بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور ، والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة ، التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالا ثانية على رأي من يجوز تعدد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالا من الضمير في (فُرادى) فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه أيضا في الانفراد ، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما ، وجوز أن يكون صفة مصدر (جِئْتُمُونا) أي مجيئا كخلقنا لكم.


أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت : يا رسول الله وا سوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.

(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) ما قدمتم منه شيئا لأنفسكم. أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى : أين ما جمعت؟ فيقول : يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول : أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا وتلا هذه الآية ، والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد (وَما نَرى) أي نبصر وهو ـ على ما نص عليه أبو البقاء ـ حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى : (مَعَكُمْ) وليس حالا من مفعول (نَرى) أعني قوله سبحانه : (شُفَعاءَكُمُ) ولا مفعول ثانيا ، والرؤية علمية. وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عزوجل : (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) في الدنيا (أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي شركاء الله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم ، والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه ، ومن ذلك قوله :

تقول هلكنا إن هلكت وإنما

على الله أرزاق العباد كما زعم

(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بنصب ـ بين ـ وهي قراءة عاصم ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، واختلف في تخريج ذلك فقيل : الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم ، وقيل : إن الفاعل ضمير المصدر ، وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس.

ورد بأنه سمع بدا بداء ، وقد قدروا في قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] بدا البداء.

وقال السفاقسي : إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال : المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعا معرف بلام الجنس و (تَقَطَّعَ) منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه.

ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل : إن ـ بين ـ هو الفاعل وبقي على حاله منصوبا حملا له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش ، وقيل : إنه بني لإضافته إلى مبني ، وقيل غير ذلك.

واختار أبو حيان أن الكلام من باب التنازع سلط على (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقطع وضل عنكم فأعمل الثاني وهو (ضَلَ) وأضمر في (تَقَطَّعَ) ضميره. والمراد بذلك الأصنام ، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦] أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم.

وقرأ باقي السبعة «بينكم» بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل ، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم ، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين بمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية. وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن ـ بين ـ يستعمل بين الشيئين


المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة. على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد ، فإن أبا عمرو ، وأبا عبيدة ، وابن جني ، والزجاج ، وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سندا فيه ، فكونه منتزعا من هذه الآية غير مسلم ، وعليه فيكون مصدرا لا ظرفا. وقيل : إن ـ بين ـ هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع.

وقرأ عبد الله «لقد تقطع ما بينكم» وما فيه موصوفة أو موصولة (وَضَلَّ عَنْكُمْ) ضاع وبطل (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد ، وفي ذلك تنبيه على أن المقصود من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه. والفالق الموجد والمبدع كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك ، والحب معلوم ، والنوى جمع نواة التمر كما في القاموس وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها. وفسره الإمام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره ، والمشهور أن النوى إذا أطلق فالمراد منه ما في القاموس وإذا أريد غيره قيد فيقال : نوى الخوخ ونوى الإجاص ونحو ذلك. وأصل الفلق الشق. وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه ، وعن الحسن ، وقتادة ، والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى.

وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح أطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم. وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك : ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وضعف بأنه لا دلالة على كمال القدرة كما في سابقه.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو من النطفة ، والحب ، والنوى ، والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل : خبر ثان ولم يعطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على عظمة الله تعالى : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) كالنطفة وأخويها (مِنَ الْحَيِ) كالحيوان وأخويه ، وهذا عند بعض عطف على (فالِقُ) لا على (يُخْرِجُ الْحَيَ) إلخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه.

واختار ابن المنير كونه معطوفا على (يُخْرِجُ) قال : وقد وردا جميعا بصيغة المضارع كثيرا وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع ، فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال : كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصور إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] كيف عدل فيه عن الماضي المطابق لأنزل لذلك ، وقوله :

بأني قد لقيت الغول يسعى

بسهب كالصحيفة صحصحان


فآخذه وأضربه فخرت

صريعا لليدين وللجران

فإنه عدل فيه إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة ، وهو إنما ينتحي فيما تكون العناية فيه أقوى ، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أظهر في القدرة من عكسه وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ثان عنه فكان الأول جديرا بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع ، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه.

وقال الإمام في وجه ذلك الاختلاف : إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان ، وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة ، ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز من أن قوله سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) [فاطر : ٣] قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة ، وقوله عزّ شأنه (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨] قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة ، وإذا ثبت ذلك يقال : لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي ، فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بيانا لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه.

وأيّا ما كان فلا بد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا : إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفا بالحياة وهي صفة توجب صحة الإدراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك. وإن إطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والحب والنوى مجاز. وبهذا يشعر كلام الإمام فإنه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجوه المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن (ذلِكُمُ) القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو (اللهَ) الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلا. وتمسك الصاحب ابن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الإفك لم يلق به عز شأنه أن يقول : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر (فالِقُ الْإِصْباحِ) خبر لمبتدإ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لأن. و (الْإِصْباحِ) بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح ، قال امرؤ القيس :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال. وأنشد قوله :

أفني رياحا وبني رياح

تناسخ الإمساء والإصباح

بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسى وصبح والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقتادة ، والضحاك ، وقال غير واحد : الشاق. واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح. وأجيب بأن الصبح صبحان ، صادق وهو المنتشر ضوؤه معترضا بالأفق. وكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه


وتعقبه ظلمة. وعلى الأول يراد فلقه عن بياض النهار أو يقال : في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح بالإصباح. وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه. وعلى الثاني فإيراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه. وما ذكر من تقسيم الصبح إلى صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه اثنان إلا أن في سبب ذلك كلاما لأهل الهيئة حاصله أن الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب.

وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكاثف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كريتهما بتسخين الشمس وغيرها إياها وأن شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالأرض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الأرض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وأنها مختلفة القوام لأن ما كان منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لأن الألطف يتصاعد ويتباعد أكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ في التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه. وأن هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلا تقريبا وأن للأرض ظلا على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها. وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين. أحدهما أكبر مستضيء مواجه للشمس والآخر مظلم مقابل لها. ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود. وأن شعاع الشمس محيط بمخروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الأفلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الأرض لكن الأفلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولا ينعكس عنها فلذلك لا نراها مضيئة. وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءا.

وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لأن ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والأكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وأن النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الأفق والليل مدة كونه فوقه. وحيث تحقق كل ذلك يقال : إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الأقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر بمركز الشمس عمودا على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولا مرتفعا عن الأفق عند موقع العمود مستطيلا كخط مستقيم وما بينه وبين الأفق يرى مظلما لبعده وإن كان مستنيرا في الواقع ولكثافة الهواء عند الأفق مدخل في ذلك أيضا وهو الصبح الكاذب ، ثم إذا قربت من الأفق الشرقي رئي الضوء معترضا منبسطا يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوي كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الأول قد عدم وهو الصبح الصادق.

وتوضيح ما ذكر على ما في التذكرة وشرح سيد المحققين أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر بمركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الأفق وضلعاه على سطح المخروط. أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثا. وأما حدة الزوايا فلأن رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض. وحينئذ إما أن يكون المخروط قائما على سطح الأفق. وذلك إذا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلا إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده عن جهة المشرق والمغرب. وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم.


وأيّا ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين أما على التقدير الأول فظاهر. وأما على التقدير الثاني فلتساوي بعد رأس المخروط عن جانبي المشرق والمغرب فيكون زاويتا قاعدة المثلث حادتين لوجوب تساويهما وامتناع وقوع قائمتين أو منفرجتين في مثلث. وإذا مال رأس المخروط عن نصف النهار المغرب فوق الأرض بسبب انتقال الشمس عنه إلى جانب المشرق تحت الأرض تضايقت الزاوية الشرقية من ذلك المثلث فتصير أحد مما كانت واتسعت الزاوية الغربية حتى تصير منفرجة لكن المقصود لا يختلف. ولا شك أن الأقرب من الضلع الذي يلي الشمس إلى الناظر يكون موقع العمود الخارج من النظر الواقع على ذلك الضلع لا موضع اتصال الضلع بالأفق ، وذلك أنه إذا خرج من البصر إلى الضلع الشرقي عمود فلا يمكن أن يقع على موضع اتصال هذا الضلع بالأفق وإلا انطبقت القائمة على بعض الحادة ولا أن يقع تحت الأفق بأن يقطع العمود قاعدة المثلث ويصل إلى الضلع المذكور بعد إخراجه تحته وإلا لزم في المثلث الحادث تحت الأفق من القدر المخرج من بعض القاعدة وبعض العمود قائمة ومنفرجة ولا أن يقع في جهة رأس المثلث على موضع اتصال أحد ضلعيه بالآخر ولا خارجا عنه في تلك الجهة لما ذكرنا بعينه فوجب أن يقع داخل المثلث فيما بين طرفي الضلع الشرقي وقد تبين أن موضع أقرب إلى الناظر من موضع اتصاله بالأفق. ولا شك في أن ما وقع من هذا الضلع فيما كثف من كرة البخار يكون مستنيرا بتمامه حال قرب الشمس من أفق المشرق إلا أن ما كان أقرب منه إلى الناظر يكون أصدق رؤية. وهو موقع العمود. ومن هنا يتحقق الصادق والكاذب. انتهى كلامهم.

والإمام الرازي أنكر كون الصبح الكاذب من أثر قرص الشمس وإنما هو بتخليق الله تعالى ابتداء قال : لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع الذي يكون فلك الدائرة أفقا لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم. وفي ذلك الموضع أضاء نصف كرة الأرض. وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدنا وذلك الضوء يكون منتشرا مستطيرا في جميع أجزاء الجو ويجب أن يزداد لحظة فلحظة. وحينئذ يمتنع أن يكون الصبح الأول خطا مستطيلا فحيث كان كذلك علم أنه ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره. ويفهم من كلامه أيضا أن الصبح الثاني كالصبح الأول ليس إلا بتخليق الفاعل المختار ويمتنع أن يكون من تأثير قرص الشمس ، وبين ذلك بأن من المقدمات المتفق عليها أن المضيء شمسا كان أو غيره لا يقع ضوؤه إلا على الجرم المقابل له دون غير المقابل والشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلا لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير القرص ، ثم قال فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل لها وذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصير ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا.

وعلى هذا عول أبو علي بن الهيثم في المناظر فالجواب : أن هذا باطل من وجهين ، الأول أن الهواء شفاف عديم اللون فلا يقبل النور واللون في ذاته. وما كان كذلك يمتنع أن ينعكس منه النور إلى غيره فيمتنع أن يصير ضوؤه سببا لضوء هواء آخر مقابل له. فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يقال : إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم يفيض على الهواء المقابل له؟ فنقول : لو كان كذلك لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى وليس الأمر كذلك بل بالعكس ، الثاني أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين. وإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا


وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام ، وإذا ثبت هذا فنقول : إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العالم هناك ، والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة ، وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محازيا لهواء الربع الذي هو الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل النور في هذا الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء هذا الربع في غاية الإنارة حينئذ وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم انتهى المراد منه. ولا أراه أتي بشيء يتبلج به صبح هذا المطلب كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه. وذكر أفضل المتأخرين العلامة أحمد بن حجر الهيثمي أن لأهل الهيئة في تحقيق الصبح الكاذب كلاما طويلا مبنيا على الحدس المبني على قاعدة الحكماء الباطلة كمنع الخرق والالتئام على أنه لا يفي ببيان سبب كون أعلاه أضوأ مع أنه أبعد من أسفله عن مستمده وهو الشمس ولا ببيان سبب انعدامه بالكلية حتى تعقبه ظلمة كما صرح به الأئمة وقدروها بساعة. والظاهر أن مرادهم مطلق الزمن لأنها تطول تارة وتقصر أخرى وهذا شأن الساعات الزمانية المسماة بالمعوجة ويقابلونها بالساعات المستوية المقدر كل منها دائما بخمس عشرة درجة. وزعم بعض أهل الهيئة عدم انعدامه وإنما يتناقص حتى ينغمر في الصادق وقد تقدم لك ذلك فيما نقلناه لك عنهم ولعله بحسب التقدير لا الحس ، وفي خبر مسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العمود في نواحي الأفق» ويؤخذ من تسميته عارضا للثاني شيئان ، أحدهما أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الصبح ، الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله سبحانه : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٨] فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة ، والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره ، وهذا لكون كلام الصادق قد يدل عليه ولإنبائه عن سبب طوله وإضاءة أعلاه واختلاف زمنه وانعدامه بالكلية الموافق للحس أولى مما ذكره أهل الهيئة القاصر عن كل ذلك.

ثانيهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار بالعارض إلى أن المقصود بالذات هو الصادق وأن الكاذب إنما قصد بطريق العرضية لينبه الناس به لقرب ذلك فينتبهوا ليدركوا فضيلة أول الوقت لاشتغالهم بالنوم الذي لو لا هذه العلامة لمنعهم إدراك أول الوقت ، فالحاصل أنه نور يبرزه الله تعالى من ذلك الشعاع أو يخلقه حينئذ علامة على قرب الصبح ومخالفا له في الشكل ليحصل التميز وتتضح العلامة العارضة من المعلم عليه المقصود فتأمل ذلك فإنه غريب مهم. وفي حديث عند أحمد «ليس الفجر الأبيض المستطيل في الأفق ولكن الفجر الأحمر المعترض» وفيه شاهد لما ذكر آخر. ومما يؤيد ما أشير إليه من الكوة ما أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن للشمس ثلاثمائة كوة تطلع كل يوم من كوة فلا بدع أنها عند قربها من تلك الكوة ينحبس شعاعها ثم يتنفس كما مر. وللقرافي المالكي وغيره كالأصبحي من الشافعية فيه كلام يوضحه ويبين صحة ما ذكر من الكوات ويوافق الاستشكال لكونه يظهر ثم يغيب. وحاصله وإن كان فيه طول لمس الحاجة إليه أنه بياض يطلع قبل الفجر ثم يذهب عند أكثر الأبصار دون الراصد المجد القوي النظر.

وذكر ابن بشير المالكي أنه من نور الشمس إذا قربت من الأفق فإذا ظهرت أنست به الأبصار فيظهر له أنه غاب وليس كذلك. ونقل الأصبحي أن بعضهم ذكر أنه يذهب بعد طلوعه ويعود مكانه ليلا وهو كثير من الشافعية ، وإن أبا جعفر البصري بعد أن عرفه بأنه عند بقاء نحو ساعتين يطلع مستطيلا إلى نحو ربع السماء كأنه عمود وربما لم ير إذا


كان الجو نقيا شتاء وأبين ما يكون إذا كان الجو كدرا صيفا أعلاه دقيق وأسفله واسع ولا ينافي هذا ما تقدم من أن أعلاه أضوأ لأن ذلك عند أول الطلوع وهذا عند مزيد قربه من الصادق وتحته سواد ثم بياض ثم يظهر بياض يغشي ذلك كله ثم يعترض رده بأنه رصده نحو خمسين سنة فلم يره غاب وإنما ينحدر ليلتقي مع المعترض في السواد ويصيران فجرا واحدا. وزعم غيبته ثم عوده وهم أو رآه يختلف باختلاف الفصول فظنه يذهب ، وبعض المؤقتين يقول : هو المجرة إذا كان الفجر بالسعود ، ويلزمه أن لا يوجد إلا نحو شهرين في السنة قال القرافي : وقال آخرون هو شعاع يخرج من طباق بجبل قاف ثم أبطله بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل ، وأخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كتفا السماء ، وعن مجاهد مثله ، وكما اندفع بذلك قوله : لا وجود له اندفع قوله أثره : ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه لأنه إن أراد بالدليل مطلق الأمارة فهذا عليه أدلة أو الأمارة العقلية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي ، ثم نقل عن القرافي عن أهل الهيئة أنه يظهر ثم يخفى دائما ، ثم استشكله وأطال في جوابه بما لا يتضح إلا لمن أتقن علمي الهندسة والمناظر فأولى منه أن يختلف باختلاف النظر لاختلافه باختلاف الفصول والكيفيات العارضة لمحله فقد يدق في بعض ذلك حتى لا يرى أصلا وحينئذ فهذا عذر من عبر بأنه يغيب ثم تعقبه ظلمة ، هذا ولا يخفى أن القول بحدوث ضوء الصبح بمجرد خلق الله تعالى لا عن سبب عادي كما يشير إليه كلام الإمام أهون من القول بأنه من شعاع يخرج من طباق جبل قاف. والقول بخروج الشعاع من هذا الطباق أهون من القول بخروج الشمس التي هي على ما بين في الأجرام مائة وستة وستون مثلا للأرض مع كسر تقدم على ما هو المشهور أو ثلاثمائة وستة وعشرون مثلا لها على ما قاله غياث الدين جمشيد الكاشي في رسالته سلم السماء أو ما يقرب من ذلك على ما في بعض الروايات من كوة من جبل محيط بالأرض.

والخبر في ذلك إن صح وقلنا : إن له حكم المرفوع مما ينبغي تأويله وباب التأويل أوسع من تلك الكوة فإن كثيرا من الناس قد قطعوا دائرة الأرض على مدار السرطان مرارا ولم يجدوا أثرا لهذا الجبل المحيط الشامخ. وإثبات سبعة جبال وسبعة أبحر على الوجه السابق مما لا يخفى ما فيه أيضا. وكون الله تعالى لا يعجزه شيء مما لا يشك فيه إلا ملحد لكن الكلام في وقوع ما ذكر في الخارج. والذي تميل إليه قلوب كثير من الناس في أمر الصبح ما ذكره أهل الهيئة.

وقد بين أرسطوخس في الشكل الثاني من كتابه في جرم النيرين أن الكرة إذا اقتبست الضوء من كرة أعظم منها كان المضيء منها أعظم من نصفها. وقد بين أيضا في الشكل الأول من ذلك الكتاب أن كل كرتين مختلفتين أمكن أن يحيط بهما مخروط مستدير رأسه يلي أصغرهما ويكون المخروط مماسا لكل منهما على محيط دائرة ، ولا شك أنه محيط بالشمس والأرض مخروط مؤلف من خطوط شعاعية رأسه يلي الأرض فيكون هذا المخروط مماسا للأرض على دائرة فاصلة بين المضيء والمظلم منها وهي دائرة صغيرة لأن الجزء المضيء من الأرض أصغر.

وقد حققوا أن المستنير من الهواء كرة البخار سوى ما دخل في ظل مخروط الأرض وهي مستنيرة أبدا لكثافتها وإحاطة أشعة الشمس بها لكنها لا ترى في الليل لبعدها عن البصر وأن سهم المخروط أبدا في مقابلة جرم الشمس كما أشرنا إليه. ففي منتصف الليل يكون على دائرة نصف النهار وبعد ذلك يميل إلى جانب الغروب لحظة فلحظة إلى أن


يرى البياض في جانب المشرق على ما تقدم تفصيله وعلى هذا لا يلزم في الصورة التي ذكرها الإمام من مجاوزة مركز الشمس دائرة نصف الليل وطلوعها على أولئك الأقوام. واستنارة نصف العالم عندهم استنارة الربع الشرقي عندنا لاختلاف الوضع كما لا يخفى على المتأمل ، والتزام القول بالكروية والمخروط ونحو ذلك مما ذكره أهل الهيئة لا بأس به ، نعم اعتقاد صحة ما يقولونه مما علم خلافه من الدين بالضرورة أو علم بدليل قطعي كفر أو ضلال فتدبر. وقرئ «فالق» بالنصب على المدح.

وقرأ النخعي «فلق الإصباح» (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي يسكن إليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب يقال له : سكن ، ومنه قيل للنار : سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة. وروي نحوه عن ابن عباس ، ومجاهد ، رضي الله تعالى عنهم ، فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونا فيه أخذا له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [يونس : ٦٧] وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين «جاعل» بالرفع. وقرئ شاذا بالنصب و «الليل» فيهما مجرور بالإضافة ، ونصب (سَكَناً) عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الماضي كما يشهد به قراءة (جَعَلَ).

وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله بمعنى الماضي مطلقا حملا له على الفعل الذي تضمن معناه. وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت عليه أل. وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعروف باللام ، وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف ، واختار بعضهم كونه الناصب أيضا لكن باعتبار أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك ـ كما قال بعض المحققين ـ فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل.

وجوز أن يكون (جَعَلَ) بمعنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصبا على الحال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) معطوفان على (اللَّيْلَ) وعلى قراءة من جره يكون نصبهما بجعل المقدر الناصب لسكنا أو بآخر مثله ، وقيل : بالعطف على محل (اللَّيْلَ) المجرور فإن إضافة الوصف إليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضيء. وقرئ بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان (حُسْباناً) أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسبانا. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل. وعن أبي الهيثم أن (حُسْباناً) جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب ؛ وفي إرادته هنا بعد (ذلِكَ) إشارة إلى جعلهما كذلك.

وقال الطبرسي : إلى ما تقدم من فلق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ، والجمهور على الأول وهو الظاهر ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو منزلة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص (الْعَلِيمِ) المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية.


(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) أي أنشأ أو صير (لَكُمُ) أي لأجلكم (النُّجُومَ) قيل : المراد بها ما عدا النيرين لأنها التي بها الاهتداء الآتي ولأن النجم يخص في العرف بما عداهما. وجوز أن يدخلا فيها فيكون هذا بيانا لفائدتهما العامة إثر بيان فائدتهما الخاصة ، والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات والسيارات سبع بإجماع المتقدمين وثمان بزيادة هرشل عند المنجمين اليوم. والثوابت لا يعلم عدتها إلا الله تعالى. والمرصود منها كما قال عبد الرحمن الصوفي : ألف وخمسة وعشرون بإدخال الضفيرة. ومن أخرجها قال : هي ألف واثنان وعشرون ، ورتبوا الثوابت على ست أقدار وسموها أقدارا متزايدة سدسا سدسا ، وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب أعظم. وأوسط. وأصغر ؛ ولهم تقسيمات لها باعتبارات أخر بنوا عليها ما بنوا ولا يكاد يسلم لهم إلا ما لم يلزم منه محذور في الدين.

(لِتَهْتَدُوا بِها) بدل من ضمير (لَكُمُ) بإعادة العامل بدل اشتمال كأنه قيل جعل النجوم لاهتدائكم (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي في ظلمات الليل في البر والبحر ، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة ، وهذا افراد لبعض منافعها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وإلا فهي أجدى من تفاريق العصا ، وهي في جميع ما يترتب عليها كسائر الأسباب العادية لا تأثير لها بأنفسها ولا بأس في تعلم علم النجوم ومعرفة البروج والمنازل والأوضاع ونحو ذلك مما يتوصل به إلى مصلحة دينية.

قال العلامة ابن حجر عليه الرحمة : والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح. وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها ، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به إلى الكفر ، فأما من يقول : إن الاقتران أو الافتراق الذي هو كذا جعله الله تعالى علامة بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فلا إثم عليه بذلك ، وكذا الأخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعلم به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية ، وأما ما في حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال : «صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح في أثر ماء ـ أي مطر ـ كان من الليل فلما انصرف أقبل علينا فقال : أتدرون ما ذا قال ربكم؟ قالوا : الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله تعالى فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال : مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب».

فقد قال العلماء : إنه محمول على ما إذا قال ذلك مريدا أن النوء هو المحدث أما لو قال ذلك على معنى أن النوء علامة على نزول المطر ومنزله هو الله تعالى وحده فلا يكفر لكن يكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر انتهى. وأقول : قد كثرت الأخبار في النهي عن علم النجوم والنظر فيها ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وأخرج الخطيب عن ميمون بن مهران. قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أوصني قال أوصيك بتقوى الله تعالى وإياك وعلم النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة. وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : نهاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النظر في النجوم. وعن أبي هريرة ، وعائشة رضي الله تعالى عنهما نحوه ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن متعلم حروف أبي جاد وراء في النجوم ليس له عند الله تعالى خلاق يوم القيامة». وأخرج هو والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا» إلى غير ذلك من الأخبار ، ولعل ما تفيده من النهي


عن التعلم من باب سد الذرائع لأن ذلك العلم ربما يجر إلى محظور شرعا كما يشير إليه خبر ابن مهران. وكذا النهي عن النظر فيها محمول على النظر الذي كان تفعله الكهنة الزاعمون تأثير الكواكب بأنفسها والحاكمون بقطعية ما تدل عليه بتثليثها وتربيعها واقترانها ومقابلتها مثلا من الأحكام بحيث لا تتخلف قطعا على أن الوقوف على جميع ما أودع الله تعالى في كل كوكب مما يمتنع لغير علام الغيوب. والوقوف على البعض أو الكل في البعض لا يجدي نفعا ولا يفيد إلا ظنا المتمسك به كالمتمسك بحبال القمر والقابض عليه كالقابض على شعاع الشمس. نعم إن بعض الحوادث في عالم الكون والفساد قد جرت عادة الله تعالى بإحداثه في الغالب عند طلوع كوكب أو غروبه. أو مقارنته لكوكب آخر وفيما يشاهد عند غيبوبة الثريا وطلوعها وطلوع سهيل شاهد لما ذكرنا. ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب العادية وهي قد تتخلف مسبباتها عنها سواء قلنا : إن التأثير عندها كما هو المشهور عن الأشاعرة أم قلنا : إنها المؤثرة بإذن الله تعالى كما هو المنصور عند السلف ، ويشير إليه كلام حجة الإسلام الغزالي في العلة. فمتى أخبر المجرب عن شيء من ذلك على هذا الوجه لم يكن عليه بأس. وما أخرجه الخطيب عن عكرمة أنه سأل رجلا عن حساب النجوم وجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة : سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : علم عجز الناس عنه وددت أني علمته.

وما أخرجه الزبير بن بكار عن عبد الله بن حفص قال : خصت العرب بخصال بالكهانة ، والقيافة ، والعيافة ، والنجوم ، والحساب فهدم الإسلام الكهانة وثبت الباقي بعد ذلك ، وقول الحسن بن صالح : سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في النجوم : ذلك علم ضيعه الناس فلعل ذلك إن صح محمول على نحو ما قلنا. وبعد هذا كله أقول : هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بينا الآيات المتلوة المذكورة لنعمه سبحانه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شئونه تعالى فصلا فصلا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معاني الآيات المذكورة فيعملون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال ، وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي آدم عليه‌السلام وهو تذكير لنعمة أخرى فإن رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف. وفيه أيضا دلالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر ، وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده ، وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني ، وقيل : التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلّا منهما ليس بمقرهم الطبيعي.

وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب ، وجاء في رواية أن حبر تيماء كتب إليه يسأله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر.

ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) [الحج : ٥] وأما تفسير المستودع بالأصلاب فقال شيخ الإسلام : إنه ليس بواضح وليس كما قال ، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع ، ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي ـ عن ابن عباس رضي الله


تعالى عنهما ـ أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى زمانا طويلا ، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى. وأنا أقول : لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه‌السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك ، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحا. فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال : قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أتزوجت؟ قلت : لا وما ذلك في نفسي اليوم قال : إن كان في صلبك وديعة فستخرج.

وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد :

وما المال والأهلون إلا وديعة

ولا بد يوما أن ترد الودائع

وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى :

فجع الأحبة بالأحبة قبلنا

فالناس مفجوع به ومفجع

مستودع أو مستقر مدخلا

فالمستقر يزوره المستودع

وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل : وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع. ووجه كون الأول معلوما والثاني مجهولا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) معاني ذلك ، قيل : ذكر مع ذكر النجوم (يَعْلَمُونَ) ومع ذكر إنشاء بني آدم (يَفْقَهُونَ) لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له ، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم ، وقيل : هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيها على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم وافتنانا في البلاغة.

وذكر ابن المنير وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته. وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها ، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا. و (يَفْقَهُونَ) هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم ، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها. ثم ذكر أنه إذا قيل :


فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قولك : فلان لا يعلم شيئا وكان معنى قولك : لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم ، وأما قولك : لا يعلم شيئا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم. واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢٠ ، ٢١] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته عزوجل وسعة رحمته ، والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء. وقيل : الكلام على ظاهره والإنزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي ، واحتج على فساد قول من يقول : إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه. أحدها أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد. وذلك يبطل ما ذكر. ثانيها أن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء. ثالثها أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول. ثم قال : والقوام إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها. وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى. ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة. وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى. ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه. وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل القول بامتناع الخرق والالتئام أيضا ووجود كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحابا يمطر مع عدم مشاهدة ماء نازل من السماء إليه إلى غير ذلك. وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه وبعضه مما لم يقم الدليل عليه ولم يشهد بصحته الشرع لكن مشاهدة من على الجبل ما ذكر ونحوها يستدعي صحة قولهم في الجملة ولا أرى فيه بأسا ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما من قطرة تنزل إلا ومعها ملك ، وهو عند الكثير محمول على ظاهره. والفلاسفة يحملون هذا الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول ، وقيل : هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر للقطر حافظ إياه ، ويثبت أفلاطون هذا النور المجرد لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها على ما ذهب إليه صاحب الإشراق وهو أحد الأقوال في المثل الأفلاطونية ، ويشير إلى نحو ذلك كلام الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير الفاتحة ، ونصب (ماءً) على المفعولية لأنزل ، وتقديم المفعول غير الصريح عليه لما مر مرارا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بسبب الماء ، والفاء للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه. و (أُخْرِجْنا) عطف على (أَنْزَلَ) والالتفات إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله ، وذكر بعضهم نكتة خاصة لهذا الالتفات غير ما ذكر وهي أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى ما ينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى


يخاطب واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل صنف من أصناف النبات المختلفة في الكم ، والكيف ، والخواص ، والآثار. اختلافا متفاوتا في مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله سبحانه : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] والنبات كالنبت وهو ـ على ما قال الراغب ـ ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات ، ومتى اعتبرت الحقائق فإنه يستعمل في كل نام نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا. والمراد هنا عند بعض المعنى الأول. وجعل قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) شروعا في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم وضمير (مِنْهُ) للنبات. والخضر بمعنى الأخضر كأعور وعور ، وأكثر ما يستعمل الخضر فيما تكون خضرته خلقية ، وأصل الخضرة لون بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب ولذا يسمى الأخضر أسود وبالعكس ، والمعنى فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وجوز عود الضمير إلى الماء ومن سببية ، وجعل أبو البقاء هذا الكلام حينئذ بدلا من (فَأَخْرَجْنا) الأول ، وذكر بعض المحققين أن في الآية على تقدير عود الضمير إلى الماء معنى بديعا حيث تضمنت الإشارة إلى أنه تعالى أخرج من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان وإلى ذلك نظر القائل يصف المطر :

يمد على الآفاق بيض خيوطه

فينسج منها للثرى حلة خضرا

وقوله تعالى : (نُخْرِجُ مِنْهُ) صفة لخضر ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة بما فيها من الغرابة ، وجوز أن يكون مستأنفا أي نخرج من ذلك الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أي بعضه فوق بعض كما في السنبل وقرئ «يخرج منه حب متراكب» (وَمِنَ النَّخْلِ)(١) جمع نخل ـ كما قال الراغب ـ والنخل معروف ويستعمل في الواحد والجمع ، وهذا شروع في تفصيل حال الشجر إثر بيان حال النجم عند البعض ، فالجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه : (مِنْ طَلْعِها) بدل منه بدل بعض من كل بإعادة العامل.

وقوله سبحانه : (قِنْوانٌ) مبتدأ وحاصله من طلع النخيل قنوان ، وجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه وهو كون خاص وبه يتعلق الجار. والتقدير ومخرجه من طلع النخل قنوان. وعلى القراءة السابقة آنفا يكون (قِنْوانٌ) معطوفا على حب. وقيل : المعنى وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ومن النخل شيئا من طلعها قنوان ، وهو جمع قنو بمعنى العذق وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب. وتثنيته أيضا قنوان ولا يفرق بين المثنى والجمع إلا الإعراب ، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء هذا وصنو وصنوان. ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه. وحكى سيبويه شقد ، وشقدان ، وحش ، وحشان للبستان نقله الجلال السيوطي في المزهر. وقرئ بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من زنات التكسير (دانِيَةٌ) أي قريبة من المتناول كما قال الزجاج. واقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها ؛ وقيل : المراد دانية من الأرض بكثرة ثمرها وثقل حملها والدنو القولين حقيقة ، ويحتمل أن يراد به سهولة الوصول إلى ثمارها مجازا.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) عطف على نبات كل شيء أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب ، وجعله الواحدي عطفا على (خَضِراً). وقال الطيبي : الأظهر أن يكون عطفا على «حبا» لأن قوله سبحانه : (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)

__________________

(١) أصل المصنف ومن النخيل كذا بخطه لذلك قال بعده جمع نخل والتلاوة كما في المصحف العثماني ومن النخل تنبه.


مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي ، والنامي الحب والنوى وشبههما. وقوله سبحانه : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) إلخ تفصيل لذلك النبات ، وهو بدل من (فَأَخْرَجْنا) الأول بدل اشتمال ، وقيل: وهذا مبني على أن المراد بالنبات المعنى العام وحينئذ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه وإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه غير داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله سبحانه : (وَمِنَ النَّخْلِ) فعل آخر كما أشير إليه فتدبر.

وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن مسعود ، والأعمش ، ويحيى بن يعمر ، وأبو بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو نحو ذلك ، وجوز الزمخشري أن يكون على العطف على (قِنْوانٌ) قال في التقريب : وفيه نظر لأنه إن عطف ـ على ذلك فمن أعناب ـ حينئذ إما صفة (جَنَّاتٍ) فيفسد المعنى إذ يصير المعنى وحاصلة من النخيل جنات حصلت من أعناب ، وإما خبر لجنات فلا يصح لأنه يكون عطفا لها على مفرد ويكون المبتدأ نكرة فلا يصح ، وفي الكشف أن الثاني بعيد الفهم من لفظ الزمخشري وإن أمكن الجواب بأن العطف على المخصص مخصص كما قال ابن مالك ، واستشهد عليه بقوله :

عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا

والظاهر الأول لكنه عطف جملة على جملة. ويقدر ومخرجة من الخضر أو من الكرم أو حاصلة جنات من أعناب دون صلته لأن التقييد لازم كما حقق في عطف المفرد وحده ، ولا يخفى أن هذا تكلف مستغنى عنه ، ولعل زيادة الجنات هنا ـ كما قيل ـ من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا إلا عند اجتماع طائفة من أفراده (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على (نَباتَ).

وقوله سبحانه : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) إما حال من (الزَّيْتُونَ) لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه والتقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك ، وإما حال من (الرُّمَّانَ) لقربه ويقدر مثله في الأول. وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض أي بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها جل شأنه وإلا كان المعنى جميعه مشتبه وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح. ومن الناس من جوز كونه حالا منهما مع التزام التأويل. وافتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى. وقرئ متشابها (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا) نظر اعتبار واستبصار (إِلى ثَمَرِهِ) أي ثمر ذلك أي الزيتون والرمان والمراد شجرتهما وأريد بهما فيما سبق الثمرة ففي الكلام استخدام. وعن الفراء أن المراد في الأول شجر الزيتون وشجر الرمان وحينئذ لا استخدام ، وأيّا ما كان فالضمير راجع إليهما بتأويله باسم الإشارة. ورجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل بعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير.

وجوز رجوع الضمير إلى جميع ما تقدم بالتأويل المذكور ليشمل النخل وغيره مما يثمر (إِذا أَثْمَرَ) أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. وقرأ حمزة والكسائي «ثمره» بضم الثاء وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب (وَيَنْعِهِ) أي وإلى حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة. وهو في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت ، وقيل : جمع يانع كتاجر وتجر. وقرئ بالضم وهي لغة فيه. وقرأ ابن محيصن «ويانعه» ، ولا يخفى أن في التقييد بقوله تعالى : (إِذا أَثْمَرَ) على ما أشرنا إليه إشعارا بأن المثمر حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع. ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. وعن الزمخشري أنه قال فإن قلت هلا قيل : إلى غض ثمره وينعه؟ قلت : في هذا الأسلوب فائدة وهي أن الينع وقع فيه معطوفا على الثمر على سنن


الاختصاص نحو قوله سبحانه : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] للدلالة على أن الينع أولى من الغض وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين.

(إِنَّ فِي ذلِكُمْ) إشارة إلى ما أمروا بالنظر إليه. وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مر غير مرة (لَآياتٍ) عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يطلبون الإيمان بالله تعالى ـ كما قال القاضي ـ أو مؤمنون بالفعل ، وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم ـ كما قيل ـ ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لا بد أن يكون بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه ، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعم الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه بقوله عز شأنه : (وَجَعَلُوا) في اعتقادهم (لِلَّهِ) الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات (شُرَكاءَ) في الألوهية أو الربوبية (الْجِنَ) أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا : إنهم بنات الله سبحانه وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن. وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية.

وروي هذا عن قتادة ، والسدي ، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة. وقيل : المراد بهم الشياطين وروي عن الحسن ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم. ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله تعالى خالق الناس ، والدواب ، والأنعام ، والحيوان ، وإبليس خالق السباع ، والحيات ، والعقارب والشرور. فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية ، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس.

وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية ، ومفعولا ـ جعل ـ قيل : لله ، وشركاء ، و (الْجِنَ) إما منصوب بمحذوف وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل : من جعلوه شركاء؟ فقيل : الجن ، أو منصوب على البدلية من (شُرَكاءَ) والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير. وقيل : هما (شُرَكاءَ) و (الْجِنَ) ، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنا ما كان ، و (لِلَّهِ) متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضا على ما اختاره الزمخشري.

وقرئ «الجن» بالرفع كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين : (وَخَلَقَهُمْ) حال من فاعل (جَعَلُوا) بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة ، وقيل : الضمير للجن أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له. ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب ، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال المذهب الباطل. وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» على صيغة المصدر عطفا على (الْجِنَ) أي وما يخلقونه من الأصنام أو على (شُرَكاءَ) أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا : الله أمرنا بها (وَخَرَقُوا لَهُ) أي افتعلوا وافتروا له سبحانه ، قال الفراء : يقال : خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى.


ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله. وقال الراغب : أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر. ومنه قوله تعالى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) [الكهف : ٧١] وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ) أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع. وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء للتكثير. وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم «وحرفوا» من التحريف أي وزوروا له (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقالت اليهود. عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت العرب : الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالوا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بحقيقته من خطأ أو صواب ولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد.

وأيّا ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل ، وقيل : إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلوما ولا يقام عليه دليل ، ولا حاجة إليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقا وافتراء ومن قوله عزوجل : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) من أن له جل شأنه شريكا أو ولدا ، وقد تقدم الكلام في سبحانه وما يفيده من المبالغة في التنزيه ، و (تَعالى) عطف على الفعل المضمر الناصب لسبحان.

وفرق الإمام بين التسبيح والتعالي بأن الأول راجع إلى أقوال المسبحين والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره والمراد بالبنين فيما تقدم ما فوق الواحد أو أن من يجوز الواحد يجوز الجمع.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان قاله الراغب ، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول ، ومنه قيل : ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما. وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سماواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثبت الغدر أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتا في قتال أو كلام. والمراد من بديع في السماوات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما.

ومعنى ذلك ـ على ما قال بعض المحققين ـ أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقا ، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما. واختار غير واحد التفسير الأول ، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالكلية ، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟.

وقرئ «بديع» بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في (سُبْحانَهُ) على رأي من يجوزه ، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه ـ كما قال أبو البقاء ـ ، الأول أنه خبر مبتدأ محذوف ، الثاني أنه فاعل ، (تَعالى) وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم ، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه ، والثالث أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه. وقوله تعالى : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والده أصلا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو


كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها. وقرأ إبراهيم النخعي «لم يكن» بتذكير الفعل ؛ وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله :

لقد ولد الأخيطل أم سوء

على قمع استها صلب وشام

قال ابن جني : تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها. قيل : إن اسم «يكن» ضميره تعالى. والخبر هو الظرف و (صاحِبَةٌ) مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم و (صاحِبَةٌ) مبتدأ والجملة خبر (يَكُونُ) وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة ، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم. وقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أن يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه. ويفهم من التفسير الكبير أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلا رد بأن خلقه للسماوات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدا له تعالى وهو باطل بالاتفاق ، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولا بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف. وثانيا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقا لكل الممكنات وكان قادرا على كل المحدثات فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة. وإن أراد مفهوما ثالثا فهو غير متصور (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من شأنه أن يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبئ عنه ترك الإضمار إلى الإظهار (عَلِيمٌ) مبالغ في العلم أزلا وأبدا حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الاسمية ، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيا عن غيره فامتنع كونه ولدا للغير فتعين كونه حادثا ، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فأما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا أو نفعا أو يعلم أنه ليس كذلك ، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبله وهو يوجب كونه أزليا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الأوقات. وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضا ، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد ، والجملة إما حالية أو مستأنفة ، واقتصر بعضهم على الثاني فقال : إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم. والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلفون ، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه : لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه. وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة إقناعية ، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر (ذلِكُمُ) إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت ، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا. والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الالتفات.

وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس ، وهو مبتدأ وقوله سبحانه : (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شيء مما كان وسيكون ، والمعتبر في عنوان الموضوع حسبما اقتضته الإشارة إنما هو خالقيته


سبحانه لما كان فقط كما ينبئ عنه صيغة الماضي ، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلا من اسم الإشارة و (رَبُّكُمْ) صفته وما بعده خبر ، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه ، وأن يكون بدلا والبواقي أخبار ، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ ، وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد ، وأن يكون (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بدلا من الضمير ، وجوز غير ذلك. وقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كما هو المستحق للعبادة خاصة ، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها في نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغني عن أن يقال : فلا تعبدوا إلا إياه ، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص ، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] إياه (١) لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) [الجاثية : ٣٦] ونحوه ، وإنما قال سبحانه هنا : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) وفي سورة المؤمن (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [غافر : ٦٢] فقدم سبحانه هنا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) على (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وعكس هناك قال بعض المحققين لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) إلخ فلما قال جل شأنه. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أتى بعده بما يدفع الشركة فقال عز قائلا : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ثم خالق كل شيء وتلك جاءت بعد قوله سبحانه : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية ، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى.

وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. واستدل أصحابنا بعموم (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد.

والمعتزلة قالوا : عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين. أحدها تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه :

(فَاعْبُدُوهُ) فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر. ثانيها أن (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا. ثالثها أنه تعالى قال بعد : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) وهو تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك وأنه لا مانع له. رابعها أن هذه الآية أتى بها بعد (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) محمولا على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا : إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقا فتدبر (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة. وهي قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به ، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة. وقيل : هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والافهام كما قال أمير

__________________

(١) هو مفعول إفادة اه. منه.


المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه التوحيد أن لا تتوهمه وقال أيضا : كل ما أدركته فهو غيره.

ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة ، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في قوله : يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته. واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى.

وتقرير ذلك على ما في المواقف وشرحها أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه ، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات. لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكر ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه ، وإنما قيل : من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام فإن الأول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى. وحاصله أن المراد بالإدراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الإحاطة ، وأن (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس‌سره. والجواب عنه من وجوه ، الأول أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره ـ على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه ، ففي الدر المنثور وأخرج ابن جرير عن ابن عباس «لا تدركه الأبصار» لا يحيط بصر أحد بالله تعالى انتهى. وإليه ذهب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة ـ أخص مطلقا من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فظهر صحة أن يقال : رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه. الثاني أن (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولا دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم أولا ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها فتكون لسلب العموم وكل ما احتمل سلب العموم لم يكن نصا في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الأكثر وكل ما كان كذلك لم يبق فيه حجة على امتناع الرؤية مطلقا وهو ظاهر ، وهذا إذا كان أل في (الْأَبْصارُ) للاستغراق فإن كان للجنس كان (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الأبصار وهو متفق عليه. الثالث أنا لو سلمنا أن الإدراك هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره.

ويدل عليه ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فقال : قال الله تعالى : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم» قولهم : بل هي دائمة لأن قولك : فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله ، قلنا : هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الأبصار و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقليا ولا لغويا ولا شرعيا : أما الأول فلأنا إذا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وأن يقابلها سالبة


دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعا لكن كذب المطلقة هاهنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مرادا بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور ، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام البتة بل يختلف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدا ، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعا فنحن نقول : إنها صادقة شرعا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة ، وكل ما كان كذلك لزم أن لا يكون (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة ، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره». وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما.

فقد روي أنه قال : «رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه فقال له عكرمة : أليس الله تعالى يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فقال : لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» الحديث. وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك؟ فقال في أحد جوابيه «نور أنى أراه» وفي الجواب «رأيت نورا» فيقال : النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر ، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار.

وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله تعالى عنهما من زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عزوجل الفرية ، واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال : أرادت من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عزوجل الفرية ؛ ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه ، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلا.

وقد يقال أيضا : المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك ، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب.

ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وقع بعد قوله سبحانه : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره ، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في أي وقت شاء كيف شاء ، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره.


وذهب بعض المحققين أن الآية لم تسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر ، وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل. الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة بالشروط التسعة العادية على ما يشير إليه آخر الآية ، ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآية نفي الرؤية مطلقا. الخامس ما قيل : إنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول : إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الأبصار يدركونه ، والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بأنه إنما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر.

السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بأبصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضا لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي ، فقد نقل عنه أنه كان يقول : إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها سبحانه له يوم القيامة ، واحتج عليه بهذه الآية فقال : إنها دلت على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزا في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه اه.

ومن الناس من استدل بالآية على أن الاطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الأبصار جمع بصر بمعنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية. وفيه ما فيه. نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى ، ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها ، وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان. ولعل النوبة تفضي إلى تسريح يعملات الأقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لإدراك أبصار الافهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي يراها على وجه الإحاطة أو يحيط بها علما أو علما ورؤية كما قيل ، وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن إدراك الله تعالى بمعنى الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية ، والمراد بالأبصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى. ولعل هذا هو السر في الإظهار في مقام الإضمار ، وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار ، فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه : (وَهُوَ) إلخ.

وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فإن اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركا بالكسر. واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة من الشيء الخفي.

ويفهم من ظاهر كلام البهائي ـ كما قال الشهاب ـ أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله تعالى الحسنى : اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨] وقيل : اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف.

ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالإضافة ، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن


يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلا عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلا عن الأفكار ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال ، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف إليه بالكثافة انتهى. والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) استئناف وارد على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقل مقدرة كما قاله بعض المحققين. والبصائر جمع بصيرة وهي للقلب كالبصر للعين ، والمراد بها الآيات الواردة هاهنا أو جميع الآيات ويدخل ما ذكر دخولا أوليا ، و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة لبصائر ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمال اللطف بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم (فَمَنْ أَبْصَرَ) أي الحق بتلك البصائر وآمن به (فَلِنَفْسِهِ) أي فلنفسه أبصر كما نقل عن الكلبي وتبعه الزمخشري أو فإبصاره لنفسه كما اختاره أبو حيان لما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى.

والمراد على القولين أن نفع ذلك يعود إليه (وَمَنْ عَمِيَ) أي ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه ، وإنما عبر عنه بالعمى تنفيرا عنه (فَعَلَيْها) عمى أو فعماه عليها أي وبال ذلك عليها ، وهما قولان لمن تقدم. وذكر أبو حيان أن تقدير المصدر أولى لوجهين : أحدهما أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة. والثاني أنه لو كان المقدر فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت «من» شرطية أو موصولة لامتناعها في الماضي. وتعقب بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة ، وأيضا أن في تقديره تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص ، وأيضا ما ذكر في الوجه الثاني غير لازم لأنه لم يقدر الفعل موليا لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدما ولا بد فيه من الفاء فلو قلت : من أكرم زيدا فلنفسه أكرمه لم يكن بد من الفاء. نعم لم يعهد تعدية (عَمِيَ) بعلى وهو لازم التقدير السابق في الجملة الثانية وكأنه لذلك عدل عنه بعضهم بعد أن وافق في الأول إلى قوله : فعليها وباله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها : (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التصريف البديع (نُصَرِّفُ الْآياتِ) الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه.

وقيل : المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات. وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول. وأصل التصريف ـ كما قال علي بن عيسى ـ إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال.

وقال الراغب التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر.

(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السياق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور. وبعضهم قدر الفعل ماضيا والأمر في ذلك سهل ، واللام لام العاقبة.

وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء وهداية السعداء قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦]. والواو اعتراضية. وقيل : هي عاطفة على علة محذوفة واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا إلخ. وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا إلخ. وقيل : اللام لام الأمر ، وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل : وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنهم لا


احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم ، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث. ورده في الدر المصون بأن ما بعده يأباه فإن الام فيه نص في أنها لام كي ، وتسكين اللام في القراءة الشاذة لا دليل فيه لاحتمال أن يكون للتخفيف. ومعنى (دَرَسْتَ) قرأت وتعلمت ، وأصله ـ على ما قال الأصمعي ـ من قولهم : درس الطعام يدرسه دراسا إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه.

وقال أبو الهيثم : يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم : درست الثوب أدرسه درسا فهو مدروس ودريس أي أخلقته ، ومنه قيل للثوب الخلق : دريس لأنه قد لان ، والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها. وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى التذليل والتليين. وقال الراغب : يقال درس الدار أي بقي أثره وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء ، وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته ، وأرادوا بذلك نحو ما أرادوا بقولهم (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣]. قال الإمام ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان : ٤] وقرأ ابن عامر ، ويعقوب ، وسهل «درست» بفتح السين وسكون التاء ، ورويت عن عبد الله بن الزبير ، وأبيّ ، وابن مسعود ، والحسن رضي الله تعالى عنهم.

والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥ ، وغيرها]. وقرئ «درست» بضم الراء مبالغة في درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها ، و «درّست» على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعديا كمجيئه لازما ، و «دارست» بتاء التأنيث أيضا. والضمير إما لليهود لاشتهارهم بالدراسة أي دارست اليهود محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما للآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمدا عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب ، و «دورست» على مجهول فاعل. و «درست» بالبناء للمفعول والإسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد ، ونسبت إلى ابن زيد. و «ادارست» مشددا معلوما ونسبت إلى ابن عباس ، وفي رواية أخرى عن أبي «درس» على إسناده إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ونحوه و «درسن» بنون الإناث مخففا ومشددا. و «دارسات» بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس كعيشة راضية [القارعة : ٧] وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دارسات (وَلِنُبَيِّنَهُ) عطف على (لِيَقُولُوا) واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة. ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف. والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالأغراض مشهور وقد أشرنا إليه فيما تقدم. والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو لمصدر (نُصَرِّفُ) كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر. وهم ـ على ما روي عن ابن عباس ـ أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد. ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي دم على ما أنت عليه من التدين بما أوحي إليك من الشرائع والأحكام التي عمدتها التوحيد. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطف بهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بأوحي. وأن يكون حالا من ضمير المفعول المرفوع فيه. وأن يكون حالا من مرجعه.


وقوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يحتمل أن يكون اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه أكد به إيجاب الاتباع لا سيما في أمر التوحيد. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا مؤكدة (مِنْ رَبِّكَ) أي منفردا في الألوهية (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تعتد بأقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا ولا تبال بها ولا تلتفت إلى أذاهم وعلى هذا فلا نسخ في الآية. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف فيكون الإعراض محمولا على ما يعم الكف عنهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم إشراكهم (ما أَشْرَكُوا) وهذا دليل لأهل السنة على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده. والجملة اعتراض مؤكد للإعراض. وكذا قوله تعالى : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم. وكذا قوله سبحانه : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) من جهتهم تقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وقيل : المراد ما جعلناك عليهم حفيظا تصونهم عما يضرهم وما أنت عليهم بوكيل تجلب لهم ما ينفعهم. و (عَلَيْهِمْ) في الموضعين متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح ، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كإن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها. والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم.

والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام. وقيل : إن سب الآلهة سب لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) تجاوزا عن الحق إلى الباطل ، ونصبه على أنه حال مؤكدة. وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له ، وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل ، و (فَيَسُبُّوا) منصوب على جواب النهي. وقيل : مجزوم على العطف كقولهم : لا تمددها فتشققها.

ومعنى سبهم لله عزوجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن يأمره ، وقد فسر (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر.

ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثر الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظه ذلك جدا فسب عليا كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم ، وقال الراغب : إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحا ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه ، وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا وهو سب فعلي ، قال الشاعر :

وما كان ذنب بني مالك

بأن سب منهم غلام فسب

بأبيض ذي شطب قاطع

يقد العظام ويبري العصب

ونبه به على ما قال الآخر :

ونشتم بالأفعال لا بالتكلم


وقيل : المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] الآية. وقرأ يعقوب «عدوا» يقال : عدا فلان يعدو عدوا وعدوا وعدوانا. أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ذا تريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتكم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم. قال أبو جهل : نعم لنعطينكها وأبيك وعشر أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم ، وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] نزلت (وَلا تَسُبُّوا) إلخ ، واستشكل ذلك بأن وصف آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا. وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة.

وقال في الكشف : المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سبا لسبهم. وقيل : ما في الآية لا يعد سبا لأنه ذكر المساوي لمجرد التحقير والإهانة وما فيها إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية وفيه تأمل ، وقريب منه ما قيل إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل : لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عزوجل. واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبهان ، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلا : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما.

ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر ، وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي منصور أنه قال : كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر ، وكذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه ، وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض. وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه ؛ وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات


منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ المتولد منه ، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه اه. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين القوي (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (عَمَلَهُمْ) من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا ، وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفر إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم ، والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم ، واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الإيمان.

وأنكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ) مالك أمرهم (مَرْجِعُهُمْ) أي رجوعهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت (فَيُنَبِّئُهُمْ) من غير تأخير (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر ، وذلك بالثواب على الأول والعقاب على الثاني ، فالجملة للوعد والوعيد. وفسر بعضهم ما بالسيئات المزينة لهم وقال : إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت (وَأَقْسَمُوا) أي المشركون (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي جاهدين فيها. فجهد مصدر في موضع الحال.

وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشقة ، وقيل : بالفتح المشقة وبالضم الوسع ، وقيل : ما يجهد الإنسان ، والمعنى هنا على ما قال الراغب : إنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من مقترحاتهم أو من جنس الآيات. ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات القاهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات. والباء صلة الإيمان ، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بك بسببها خلاف الظاهر.

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ) أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولا أوليا (عِنْدَ اللهِ) أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء ؛ وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح.

وقيل : إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو آتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها. واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر. روي أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا : نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزلها طمعا في إيمانهم فهم عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت. وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال : كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى عليه‌السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر وأن عيسى عليه‌السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فائتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : تحول لنا الصفا ذهبا قال : فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه‌السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى (يَجْهَلُونَ).


(وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون ـ كما قال الفراء وغيره ـ إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في إسلامهم ، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضا كالهم بالدعاء ، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وإن أجيبوا إلى ما سألوه.

وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر. ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين : إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم إلخ وهو تكلف لا داعي إليه. وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين. وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات و (أَنَّها) إلخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وما استفهامية إنكارية ـ على ما قاله غير واحد ـ لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل ، وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد ، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا آية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعا في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول ، فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه كأنهم قالوا : ربنا أنزل للمشركين آية فإنه لو نزلت يؤمنون ، وحينئذ يقال في الإنكار : ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون.

ويتضح هذا بمثال ، وذلك أنه إذا قال لك القائل : أكرم فلانا فإنه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافأة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت : وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فأنكرت عليه إثبات المكافأة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك : لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافأة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت : وما يدريك أنه لا يكافئني فأنكرت عليه عدم المكافأة وأنت تعلم ثبوتها.

والآية كما لا يخفى من قبيل المثال الأول فكان الظاهر حيث ظنوا ايمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال : وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون. وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم ، والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة ، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم ، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان لم ولا فإن كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم إنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك؟ وإن كان بمعنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم ، وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه. وأجاب آخرون بأن (لا) زائدة كما في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] و (حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا. وعن الخليل أن أن بمعنى لعل كما في قولهم ائت السوق أنك تشتري لحما ؛ وقول امرئ القيس:

عرجوا على الطلل المحيل لأننا

نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وقول الآخر :

هل أنتم عائجون بنا لأنا

نرى العرصات أو أثر الخيام

ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى. وكثيرا ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)


[عبس : ٣] وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه «وما أدراك لعلها» والكلام على هذا قد تم قبل (أَنَّها) والمفعول الثاني ليشعركم محذوف. والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم. ومن الناس من زعم أن (أَنَّها) إلخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفى بعده. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب «إنها» بالكسر على الاستئناف حسبما سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم. قال في الكشف : وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا؟ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون. ولك أن تبنيه على قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزما بالطرف المحالف وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة «لا تؤمنون» بالفوقانية. والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف. وقرئ «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون» فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن. وقرئ «وما يشعركم» بسكون خالص واختلاس. وضمير (بِها) على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم. وزعم بعضهم أن عوده للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) عطف على (لا يُؤْمِنُونَ) داخل معه في حكم (وَما يُشْعِرُكُمْ) مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق. فلا يدركونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه. وهذا على ما قال الإمام تقريرا لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون. وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بما جاء من الآيات بالله تعالى. وقيل : بالقرآن. وقيل : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يجر لذلك ذكر. وقيل : بالتقليب وهو كما ترى.

(أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي عند ورود الآيات السابقة. والكاف في موضع النعت لمصدر منصوب بلا يؤمنون وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة. وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم. وقال أبو البقاء : إن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه. والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره.

وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من (وَنُقَلِّبُ) إلخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا. والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم


على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وهكذا غالب كلام المعتزلة (وَنَذَرُهُمْ) أي ندعهم : (فِي طُغْيانِهِمْ) أي تجاوزهم الحد في العصيان (يَعْمَهُونَ) أي يترددون متحيرين وهذا عطف على «لا يؤمنون» مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة (يَعْمَهُونَ) في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم. وقرئ «يقلب. ويذر» على الغيبة والضمير لله عزوجل. وقرأ الأعمش «وتقلّب» على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال الجنيدقدس‌سره : أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي (وَلَوْ أَشْرَكُوا) بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس‌سره بقوله :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري سهوا حكمت بردتي

(لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لعظم ما أتوا به إن الشرك لظلم عظيم (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) وهم المحجوبون (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم العارفون بالله عزوجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان.

وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك» (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ) وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة (اقْتَدِهْ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك ـ على ما قيل ـ في منازل الوسائط ، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٠٣] مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي». وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣] حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون.

(مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي القلب (وَمَنْ حَوْلَها) من القوى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عزوجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كمن تفرعن وادعى الألوهية (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الطبيعي (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) تغليظا وتعنيفا عليهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)


والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيئاتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عند أخذ الميثاق.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف (وَالنَّوى) أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي العالم به من الجاهل (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الربا وقال الإمام فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات ، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها وجاعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت (سَكَناً) تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم :

زدني بفرط الحب فيك تحيرا

وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحيانا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل (وَالشَّمْسَ) أي شمس تجلي الصفات (وَالْقَمَرَ) أي قمر تجلي الأفعال «حسبانا» أي على حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدا بهما. أو علمي حساب الأوقات والأحوال (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) أي المرشدين أو نجوم الحواس (لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ) وهو علم الآداب (وَالْبَحْرِ) وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي أظهركم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي النفس الكلية (فَمُسْتَقَرٌّ) في أرض البدن حال الظهور (وَمُسْتَوْدَعٌ) في عين جمع الذات (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي من سماء الروح ماء العلم (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل صنف من الأخلاق والفضائل (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي النبات (خَضِراً) زينة النفس وبهجة لها (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها (وَمِنَ النَّخْلِ) أي نخل العقل (مِنْ طَلْعِها) أي من ظهور تعلقها (قِنْوانٌ) معارف وحقائق (دانِيَةٌ) قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة

ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم

(وَالزَّيْتُونَ) أي زيتون التفكر (وَالرُّمَّانَ) أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة (مُشْتَبِهاً) كما في أفراد نوع واحد (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) كنوعين وفردين منهما مثلا (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال (وَيَنْعِهِ) وهو كماله عند الوصول بالحضور (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم وانقادوا لهم (وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا) افتروا (لَهُ بَنِينَ) من العقول (وَبَناتٍ) من النفوس


يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) من تقيده بما قيدوه به جل شأنه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة : يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها ، وورد في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر ، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال ، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد :

من رأى الحق كفاحا علنا

إنما أبصره خلف حجاب

وهو لا يعرفه وهو به

إن هذا لهو الأمر العجاب

كل راء لا يرى غير الذي

هو فيه من نعيم وعذاب

صورة الرائي تجلت عنده

وهو عين الراء بل عين الحجاب

فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحا فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجميع القوى إلخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد :

قد استوى الميت والحي

في كونهم ما عندهم شيء

مني فلا نور ولا ظلمة

فيهم ولا ظل ولا في

رؤيتهم لي معدومة

فنشرهم في كونهم طي

وفهمهم إن كان معناهم

عنه إذا حققته غي

إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رأى إلا نفسه ولو لا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلي الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول : قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول : رأينا من مضي من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم


إنسانا لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأينا وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال. وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لغاية ظهوره سبحانه (وَهُوَ اللَّطِيفُ) إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس‌سره من هوية تكون عين بصر العبد (الْخَبِيرُ) أي العليم خبرة أنه بصر العبد (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠]. و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] وعن الجنيد قدس‌سره للطيف من نور قلبك بالهدى وربب جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى. ويدخلك جنة المأوى. وقال غيره : اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته أواك ، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافأك. وإن أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين : إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية (فَمَنْ أَبْصَرَ) واهتدى (فَلِنَفْسِهِ) ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه (وَمَنْ عَمِيَ) واحتجب عن الهدى (فَعَلَيْها) عماه واحتجابه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شئونكم به موجودون (١)(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه ، وقال آخر : المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قيل : وهو إشارة إلى وحي خاص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ثم قال جل شأنه (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) المحجوبين بالكثرة عن الوحدة (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي من شأننا أن لا نرد طالبا (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) لسبق الشقاء عليهم (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) لاقتضاء استعدادهم ذلك (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم (يَعْمَهُونَ) يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣]

تم طبع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي بحول الله وقوته ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن منه وأول قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا) الآية

__________________

(١) قوله (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) كذا بخطه وأسقط المصنف كلمات من هذه الآية كما أنه أسقط بعض ألفاظ ـ من هذه الصحيفة كما هو عادته في نظائر ما هنا


روح المعاني

الجزء الثامن



بسم الله الرحمن الرحيم

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ


أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١٢٨)

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) تصريح بما أشعر به قوله عزوجل : (وَما يُشْعِرُكُمْ) إلخ من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه هاهنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١] وقولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [الحجر : ٧] (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم : (فَأْتُوا بِآبائِنا) [الدخان : ٣٦] (وَحَشَرْنا) أي جمعنا وسوقنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد ، وعنه : يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله بمعنى واحد وهو المواجهة. ونقل الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم ، وقيل : هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك : قبلت الرجل وتقبلت به إذا تكفلت به ، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك. وروي ذلك عن الفراء. وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب. ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء: ٩٢] أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منهم (١) الكفالة والشهادة بحقية الإيمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان ، وانتصاب (قُبُلاً) على هذه الأقوال على أنه حال من «كل» وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة :

جادت عليه كل عين ثرة

فتركن كل حديقة كالدرهم

إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل : إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي : وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة ، ونصبه على الحال كما قال الفراء ، والزجاج ، وكثير ، وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم : لي قبل فلان كذا. وقرئ «قبلا» بضم فسكون. و (ما كانُوا) إلخ جواب لو وهو إذا كان منفيا لا تدخله اللام خلافا لمن وهم فقدرها.

وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس

__________________

(١) قوله كل شيء تتأتى منهم كذا بخطه والأمر في دلك سهل.


الأمر وعلله البعض لسبق القضاء عليهم بالكفر. واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده ، وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم ، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وتعقب ذلك الشهاب قائلا : إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده ، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول. ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه ، وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي ، وتحقيقه كما قيل : إن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] انتهى. وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول : إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد ، وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها ، فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة. ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى ، ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلا وإن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر. ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلا ، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى ، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم ، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين ، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثّرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية. كما يقوله الجبرية ، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير ، وليس غرضنا هنا سوى


تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من أعم الأحوال فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعا أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده أبو حيان ، وقيل : هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظاهر ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم ، والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على استحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحاق (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) استثناء من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء ، وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين ، والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون أو ولكن المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد أيمانهم على ما لا يكاد يوجد أصلا. فالجملة على الأول ـ كما قال بعض المحققين ـ مقررة لمضمون قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) إلخ على القراءة المشهورة ، وعلى الثاني بيان لمنشإ خطأ المقسمين ومناط أقسامهم على تلك القراءة أيضا وتقرير له على قراءة «لا تؤمنون» بالفوقانية ، وكذا على قراءة «وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى إيمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء ايمانهم بل كفرهم.

وأجاب عنه المعتزلة بأن المراد إلا أن يشاء مشيئة قسر وإكراه ، وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقا. واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى وإلا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه. وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة فتأمل جميع ذلك : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يشاهده من عداوة قريش وما بنوا عليها من الأقاويل والأفاعيل ، وذلك إشارة إلى ما يفهم مما تقدم ، والكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده ، والتقديم للقصر المفيد للمبالغة ، و (عَدُوًّا) بمعنى أعداء كما في قوله :

إذا أنا لم أنفع صديقي بوده

فإن عدوي لم يضرهم بغضي

أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء أيضا دونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويجهدون في إبطال أمرك جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلا أنقص منه.

وجعله الإمام على هذا الوجه عطفا على معنى ما تقدم من الكلام ، ولعله ليس المراد منه العطف الاصطلاحي ، وجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه : و (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي كما فعلنا ذلك جعلنا لكل نبي عدوا وفيه بعد.

وأيا ما كان فالآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة من أنه تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير ، وحملها على أن المراد بها وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر. ومثله قول أبي بكر الأصم إن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الأنبياء عليهم‌السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سببا للعداوة القوية ، ونظير ذلك قول المتنبي :


فأنت الذي صيرتهم حسدا

وقيل : المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الأنبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء ، وهكذا غالب تأويلات المعتزلة.

(شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أي مردة النوعين كما روي عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد على أن الإضافة يعني من البيانية ؛ وقيل : هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين ، وقيل : هي بمعنى اللام أي الشياطين للإنس والجن. وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده فإنه روي عنه أنه قال : إن إبليس عليه اللعنة جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا آخر إلى الجن. وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين الشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر ، وهو نصب على البدلية من (عَدُوًّا) والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة ، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالا من (عَدُوًّا) قدم عليه لنكارته ، وجوز أن يكون متعلقا به وقدم عليه للاهتمام ، وأن يكون نصب (شَياطِينَ) بفعل مقدر.

وقوله سبحانه : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من شياطين أو صفة لعدو ، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق ، وأصل الوحي ـ كما قال الراغب ـ الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة أيضا ، والمعنى هنا يلقي ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي المزوق من الكلام الباطل منه. وأصل الزخرف الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، وقال بعضهم : أصل معنى الزخرف الذهب ، ولما كان حسنا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة ، وقد يخص بالباطل (غُرُوراً) مفعول له أي ليغروهم ، أو مصدر في موقع الحال أي غارين ، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل (يُوحِي) أي يغرون غرورا ، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة ، ونسب للراغب أنه قال : يقال غره غرورا كأنما طواه على غره ـ بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء ـ وهو طيه الأول.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) رجوع كما قيل إلى بيان الشئون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم‌السلام وبين أممهم كما ينبئ عنه الالتفات ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية ، والضمير المنصوب في (فَعَلُوهُ) عائد إلى عداوتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمره عليه الصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الإفراد سهل ، وقيل : إنه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم‌السلام ، وإيحاء الزخرف أعم من أن تكون في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمور إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيه أن قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هو عائد إلى الإيحاء أو الزخرف أو الغرور ، وفي أخذ ذلك عاما أو خاصا احتمالان لا يخفى الأولى منهما ، ومفعول المشيئة محذوف أي عدم ما ذكر ولا إشكال في جعل العدم الخاص متعلق المشيئة ، وقدره بعضهم إيمانهم.

واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطا يكون مضمون الجزاء كما في علم المعاني وهو هنا (ما فَعَلُوهُ) وتعقب بأنه هاهنا المشيئة فيما تقدم متعلقا بشيء وهو الإيمان كما أشير إليه ثم ذكر في


حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقه مضمون الجزاء وأن يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقا ، ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال. والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فإنه بديع ، والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقا ، وإنما قال سبحانه هنا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) وفيما يأتي (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١٣٧] فغاير بين الاسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلا يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته ، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل هاهنا : إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكائد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة البتة.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي إلى زخرف القول ، وقيل : الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى التعادي ، والواو للعطف وما بعدها عطف على (غُرُوراً) بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للإيحاء وما في البين اعتراض ، وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إذ الغرور فعل الموحي وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه. وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا. وأصل الصغو ـ كما قال الراغب ـ الميل يقال : صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغت الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه ، وحكي صغوت إليه أصغو وأصغي صغوا وصغيا ، وقيل : صغيت أصغي وأصغيت أصغي. وفي القاموس صغا يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل : يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل : يصغو ويصغي ؛ ويقال : في مصدره صغيا بالفتح والكسر. وزاد الفراء صغيا وصغوا بالياء والواو مشددتين ، ويقال : إن أصغى مثله.

والمراد هنا ولتميل إليه (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي على الوجه الواجب. وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون ـ قال مولانا شيخ الإسلام ـ إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل ، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها اه. والآية حجة على المعتزلة في وجه. وأجاب الكعبي بأن الكلام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر. وقال غيره : إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون ، واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحها كقوله :

لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم

ليعلم ربي أن بيتي واسع

بفتح لام ليعلم ، نعم حكي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله :

لتغني عني ذا إنائك أجمعا


وهو غير مجمع عليه أيضا فإن أناسا أنكروا ورود ذلك ، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني. واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي.

وقال الرضي : لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة. وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر ، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير.

واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة. وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)(١)(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ)(٢) فليكن هذا كذلك. ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرئ بحذف حرف العلة.

وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده. فدعوى أن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة. واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطا للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة ، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم ، وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء ، والإسناد هنا مجازي (وَلِيَرْضَوْهُ) لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم (وَلِيَقْتَرِفُوا) أي ليكتسبوا ، قال الراغب : أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قرف ، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنى أو سوأى وفي الإساءة أكثر استعمالا ، ولهذا يقال : الاعتراف يزيل الاقتراف ، ويقال : قرفت فلانا بكذا إذا عبته به واتهمته ؛ وقد حمل على ذلك ما هنا وفيه بعد. ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي الذي هم مقترفون من القبائح التي لا يليق ذكرها. وجوز أن تكون (ما) موصوفة ، والعائد محذوف أيضا. وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) كلام مستأنف على إرادة القول. والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل لهم يا محمد : أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل. وقيل : إن مشركي قريش قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت. وإسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) [آل عمران : ٨٣] مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما ، و «غير» مفعول (أَبْتَغِي) و (حَكَماً) حال منه ، وقيل : تمييز لما في «غير» من الإبهام كقولهم : إن لنا إبلا غيرها ، وقيل : مفعول له ، وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الإنكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم ، وقيل : تقديمه للتخصيص. وحمل على أن المراد تخصيص الإنكار لا إنكار التخصيص ، وقيل : في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما.

وجوز أن يكون «غير» حالا من (حَكَماً) وحكما مفعول (أَبْتَغِي) والتقديم لكونه مصب الإنكار ، والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب ، وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة ، وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم.

__________________

(١) سورة : يوسف ، الآية : ١٢.

(٢) سورة : يوسف ، الآية : ٩٠.


(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) جملة حالية مؤكدة للإنكار ، ونسبة الإنزال إليه خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإيهام قوة نسبته إليهم وقيل : لأن ذلك أوفق بصدر الآية بناء على أن المراد بها الإنكار عليهم وإن عبر بما عبر إظهارا للنصفة ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٢٢].

ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب.

(مُفَصَّلاً) أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم ، ثم قال : وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله ؛ وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى.

ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) الآية ، وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه ، ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين ، الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته ، فمعنى الآية قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما؟ فإن كل أحد يقول : إن ذلك غير جائز ثم قل : إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز. الثاني اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى. ووجه بعضهم مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغني عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال : إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال : الجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه ، وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكما في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك ، وهو إنما يحكم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدق مدعاه بالإعجاز ، فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ) إلخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحكم وألزمكم الحجة فكفى به سبحانه حاكما بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم ، ويؤول هذا إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب ، وعلى هذا فكونه معجزا مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه ، وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) إلخ لا يخلو عن حسن إلا أن


دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي ، ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء ، وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر. ومن الناس من قال : يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى ، والحق ما تقدم.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عزوجل ، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يلوح من كلام الإمام ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز ، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا ، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة ، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم ، وقيل : المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب.

وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية. و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمنزل ، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في (مُنَزَّلٌ) أي متلبسا بالحق. وقرأ غالب السبعة «منزل» بالتخفيف من الإنزال. والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري ، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق ، وليس إشارة إلى المغنين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المترددين في أنهم يعملون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة ، فالفاء لترتيب النهي على الاخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الامتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤ ، يونس : ١٠٥ ، القصص : ٨٧] ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة ، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) [السجدة : ١٢] والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عزوجل بكونه منزلا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به ، وتمام الشيء ـ كما قال الراغب ـ انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه. والمراد بالكلمة الكلام وأريد به ـ كما قال قتادة وغيره ـ القرآن ، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق ، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر. وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم. وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) [التوبة : ٤٠].


وقيل : المراد بها حجته عزوجل على خلقه والأول هو الظاهر وقرأ بالتوحيد عاصم ، وحمزة ، وعلي ، وخلف ، وسهل ، ويعقوب ، وقرأ الباقون «كلمات ربك» : (صِدْقاً وَعَدْلاً) مصدران نصبا على الحال من (رَبِّكَ) أو من (كَلِمَةُ) كما ذهب إليه أبو علي الفارسي. وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة ؛ والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والأحكام (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها. وقال بعض المحققين : إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالبا كما قيل :

إذا تم أمر بدا نقصه

توقع زوالا إذا قيل تم

ذكر هذا احتراسا وبيانا لأن تمامها ليس كتمام غيرها. وجوز أن يكون حالا من فاعل (تَمَّتْ) على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حالا من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو (صِدْقاً وَعَدْلاً) إلا أن يجعلا حالين منه أيضا. والمعنى لا أحد يبدل شيئا من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى. والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقا فلا يراد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق وإلا فكذب.

وذكر الكرماني في حديث «أصدق الحديث» إلخ أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك ، وقيل : المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعا كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضمانا منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] أو لا نبي ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها. وعيسى عليه‌السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئا كما حقق في محله.

وقيل : المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول. وزعم الإمام أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر ، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيدا فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأنا أقول : لا يخفى أن الشقي في العلم لا يكون سعيدا والسعيد فيه لا يكون شقيا أصلا لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم. وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم. ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير إليه قوله سبحانه : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) [طه : ٥٠] نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئا وأفاض عليها عز شأنه ضده والله سبحانه أجل وأعلى من ذلك (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل ما يتعلق به السميع (الْعَلِيمُ) بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا أوليا.

ثم إنه تعالى ـ على ما ذكر الإمام ـ لما أجاب عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة النبوة أرشد إلى أنه بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال فقال سبحانه : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وقال شيخ الإسلام : إنه لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجب ذلك من إنزال الكتاب الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدله في أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده سبحانه بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون


بنقائض تلك الكمالات من النقائض التي هي الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشئ من الجهل والكذب على الله تعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرمونه وتحذيرا عن الركون إليهم والعمل بآرائهم فقال سبحانه ما قال. ويحتمل أن يكون هذا من باب الإرشاد إلى اتباع القرآن والتمسك به بعد بيان كماله على أكمل وجه خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته.

وقيل : خوطب عليه الصلاة والسلام وأريد غيره. والمراد بمن في الأرض : الناس ، وبأكثرهم الكفار وقيل: ما يعمهم وغيرهم من الجهال واتباع الهوى. وقيل : أهل مكة والأرض أرضها وأكثر أهلها كانوا حينئذ كفارا.

ومن الناس من زعم أن هذا نهي في المعنى عن متابعة غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم والكرام قليل أقل الناس عددا. وقد قال سبحانه : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] وهو كما ترى. ومثله احتمال أنه نهى عن متابعة غير الله سبحانه لأنه لو أطيع أكثر من في الأرض لأضلوا فضلا عن إطاعة قليل أو واحد منهم. والمعنى إن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرع لك وأودعه كلماته المنزلة من عنده إليك يضلوك عن الحق أو إن تطع الكفار بأن جعلت منهم حكما يضلوك عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال (إِلَّا الظَّنَ) وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئا ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به. وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلا فإنه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية ، والفرق بينهما على ـ ما قاله العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى ـ أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فإذا ظن صفة من صفات الإله عز شأنه فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز النقص عليه سبحانه بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراما أو الحرام حلالا لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا عليه عزوجل فدار تجويزه بين أمرين كل منهما كمال بخلاف الصفات. وقال غير واحد : المراد ما يتبعون إلا ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق وجهالاتهم وآراءهم الباطلة ، ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقا فلا متمسك لنفاة القياس بها ، والإمام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال : والجواب لم يجوز أن يقال : الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل ظن الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إليها فلا يسمى ظنا وهو كما ترى (وَإِنْ هُمْ) أي وما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون. وأصل الخرص القول بالظن وقول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري ، ومنه خرص النخل خرصا بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة ، والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه.

وقال الإمام : المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خرّاصون كاذبون في ادعاء القطع ، ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع. وقال غير واحد : المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه سبحانه وتحليل الميتة والبحائر ونظير ذلك. ولعل ما ذهبنا إليه أولى وأبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وأن شأنهم أنفسهم الظن أيضا ، وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جدا.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تقرير ـ كما قال بعض المحققين ـ لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين.


و (مَنْ) موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه (أَعْلَمُ) ـ كما ذهب إليه الفارسي ـ أي يعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافا لبعض الكوفيين لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله ، وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل ، فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في التسهيل ، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجرورا بالباء أو اللام. ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية. ولا يجوز أن يكون أفعل مضافا إلى من لفساد المعنى.

وجوز أن تكون استفهامية مبتدأ والخبر (يَضِلُ) والجملة معلق عنها الفعل المقدر ، وإلى هذا ذهب الزجاج ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا إليه من الاعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الأولين. وقرئ «من يضلّ» بضم الياء على أن (مَنْ) مفعول لما أشير إليه من الفعل المقدر وفاعل (يَضِلُ) ضمير راجع إليه ومفعوله محذوف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيدا للتحذير عن طاعة الكفرة ، وجوز أن تكون مجرورة بالإضافة أي أعلم المضلين من قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) [النساء : ٨٨ وغيرها] أو من قولك : أضللته إذا وجدته ضالا كأحمدته إذا وجدته محمودا ، وأن تكون استفهامية معلقا عنها الفعل أيضا ، وأن يكون فاعل (يَضِلُ) ضمير الله تعالى ، ومن منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أي يعلم من يضله الله تعالى ، قيل : وكان الظاهر أن يقال : بالمهديين. وكأن وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل لقوله «عليه الصلاة والسلام» كل مولود يولد على الفطرة : بخلاف الضلال فإنه أمر طار أوجده فيهم فتأمل.

والتفضيل في العلم إما بالنظر إلى المعلومات فإنها غير متناهية أو إلى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها ، وإما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فقد ذكر الواحدي أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قبلها فقال عليه الصلاة والسلام : الله تعالى قتلها قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة : إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل سبحانه الآية.

وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية ، والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف أنفه ، والحصر ـ كما قيل ـ مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط ولو لا ذلك لكان هذا الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ساكتا عما يحتاج إليه ، وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم أعني قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا) إلخ وهو مخالف لما عليه الجمهور (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ) التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن (مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى واجتناب ما حرم ، وقيل : المعنى إن صرتم عالمين حقائق الأمور التي هذا الأمر من جملتها بسبب إيمانكم ، وقيل : المراد إن كنتم متصفين بالإيمان وعلى


يقين منه فإن التصديق يختلف ظنا وتقليدا وتحقيقا ، والجار والمجرور متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل ؛ وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه ، فما للاستفهام الإنكاري وليست نافية كما قيل وهي مبتدأ و (لَكُمْ) الخبر وأن تأكلوا بتقدير حرف الجر أي في أن تأكلوا ، والخلاف في محل المنسبك بعد الحذف مشهور.

وجوز أن يكون ذلك حالا ، ورد بأن المصدر المؤول من أن والفعل لا يقع حالا كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة حرف الاستقبال المنافية للحالية إلا أن يؤول بنكرة أو يقدر مضاف أي ذوي أن لا تأكلوا ومفعول (تَأْكُلُوا) كما قال أبو البقاء : محذوف أي شيئا مما إلخ ، قيل : وظاهر الآية مشعر بأنه يجوز الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وغيره معا وليست من التبعيضية لإخراجه بل لإخراج ما لم يؤكل كالروث والدم وهو خارج بالحصر السابق فلا تغفل ، وسبب نزول الآية ـ على ما قاله الإمام أبو منصور ـ أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات تقشفا وتزهدا فنزلت وقد فضّل لكم ما حرّم عليكم بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل ، وقيل بقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة : ٣] واعترضه الإمام بأن سورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه مكية كما علمت فلا يتأتى ذلك وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول فلا يضر تأخر (قُلْ لا أَجِدُ) إلخ عن هذه الآية في هذه السورة ، وقيل : التفصيل بوحي غير متلو ، والجملة حالية مؤكدة للإنكار السابق.

وقرأ أهل الكوفة غير حفص «فصل ما حرم» ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقرأ أهل المدينة ، وحفص ، ويعقوب ، وسهل «فصل وحرم» كليهما بالبناء للفاعل. وقرأهما الباقون بالبناء للمفعول.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة ، وظاهر تقرير الزمخشري ـ كما قال العلامة الثاني ـ يقتضي أن ما موصولة فلا يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعا أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو حرام عليكم حلال لكم حال الضرورة ، وجوز عليه الرحمة جعله استثناء من ضمير (حَرَّمَ) وما مصدرية في معنى المدة أي فصّل لكم الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها ، واعترض بأنه لا يصح حينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر كأنه قيل : حرمت عليكم كل وقت إلا وقت إلخ ، ومن الناس من أورد هنا شيئا لا أظنه مما يضطر إليه حيث قال بعد كلام : والمهم في هذا المقام بيان فائدة (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) وقد أعني عنه قوله سبحانه : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) لأن تفصيل ما حرم يتضمن قوله تعالى. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وكأن الفائدة فيه والله تعالى أعلم المبالغة في النهي عن الامتناع عن الأكل بأن ما حرم يصير مما لا يؤكل بخلاف ما حل فإنه لا يصير مما لا يؤكل فكيف يجتنب عما يؤكل فتأمل (وَإِنَّ كَثِيراً) من الكفار (لَيُضِلُّونَ) الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحي وأضرابه الذين اتخذوا البحائر والسوائب وأحلوا أكل الميتة ، وعن الزجاج أن المراد بهذا الكثير الذين ناظروا في الميتة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلّون» بفتح الياء (بِأَهْوائِهِمْ) الزائغة وشهواتهم الباطلة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مقتبس من الشريعة مستند إلى الوحي أو بغير علم أصلا ـ كما قيل ـ وذكر ذلك للإيذان بأن ما هم عليه محض هوى وشهوة ، وجوز أن يكون من قبيل قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢].

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام فيجازيهم على ذلك،


ولعل المراد بهم هذا الكثير ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم لو سمحهم بصفة الاعتداء (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب ـ كما قاله الجبائي ـ أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالأجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا من الحوانيت واتخاذ الأخدان كما روي عن الضحاك ، والسدي ، وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثما وإذا استسر به صاحبه فلا إثم فيه.

قال الطيبي : وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الاتباع ، وعلى الأول معترض توكيدا لقوله سبحانه : (فَكُلُوا) أولا (وَلا تَأْكُلُوا) ثانيا وهو الوجه ، ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يعملون المعاصي التي فيها الإثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي يكسبون من الإثم كائنا ما كان فلا بد من اجتناب ذلك ، والجملة تعليل للأمر (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي من الحيوان كما هو المتبادر ، والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا وإليه ذهب داود.

وعن أحمد ، والحسن ، وابن سيرين ، والجبائي مثله ، وقال الشافعي بخلافه لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر. وعن مالك وهي الرواية المعول عليها عند أئمة مذهبه أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونا أو غير تهاون ، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه. وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي ، وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه ، وما ذكرناه هو الموجود في كتب المالكية وأهل مكة أدرى بشعابها. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك ، قال العلامة الثاني : إن الناسي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن متروك التسمية ناسيا فقال عليه الصلاة والسلام : كلوه فإن تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة ، وإما لأنه ترك التسمية عمدا فكأنه نفي ما في قلبه ، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقا وبأنا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره ، ثم قال : فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون (لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وهو الترك لكونه الأقرب ، ومعلوم أن الترك نسيانا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد.

واعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقا لا سيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب إليه أحد ولا يلائم قوله تعالى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥] مع أن القرآن يفسر بعضه بعضا سيما في حكم واحد وبأن ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن ترك التسمية عليها ليس بفسق ، وبعضهم أرجع الضمير إلى ما بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لا بد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمدا إذ لا فسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضا ومما تقدم يعلم ما فيه. وذكر العلامة للشافعية في دعوى حل متروك التسمية عمدا أو نسيانا وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوها الأول أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمنا فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهلّ به لغير الله تعالى.

الثاني أن قوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا كان أو سهوا إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد. الثالث أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا


يحسن عطف الخبر على الإنشاء ، وقد بين الفسق بقوله عز شأنه : (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فيكون النهي عن الأكل مقيدا بكون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل ، وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة. وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جلة الأئمة الحنفية. وعليه لا حاجة للشافعية إلى دليل خارجي في تخصيص الآية.

واعترض بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول. وبأن التأكيد بأن واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصده الإعلام بتحققه البتة والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا على ما بين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل : لا تأكلوا منه إن كان فسقا فلا يحسن (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) بل وهو فسق. ومن هنا ذهب كثير إلى أن الجملة مستأنفة. وأجيب عن الأول بأنه دخل في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ما أهل لغير الله وبقوله جل شأنه : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ) إلخ الميتة فيتحقق قولهم : إن النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه. وأجاب العلامة عن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسبا كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه ، ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى.

واستظهر رجوع الضمير إلى الأكل الذي دل عليه (وَلا تَأْكُلُوا) والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن ما لم يذكر اسم الله عليه عاما لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمدا أو سهوا ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية. والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه. وأنه لا بد لمبيح منسي التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور.

ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوي تناوله للسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصا إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط من أعالي الظواهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفى به منه لو لا السبب انتهى.

ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبرا بما ذكره العلامة قبل. وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للإجماع إذ لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسيا فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامدا ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم‌الله تعالى : إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضي القاضي بجواز بيعه لا ينفّذ لكونه مخالفا للإجماع وأن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا إلا أن الشرع جعل الناسي ذاكرا لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فإن الإنسان كثير النسيان.

وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة : إن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة مفض إلى التسوية بين العمد والنسيان ، وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام ، وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذابح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة.

والحق عندي أن المسألة اجتهادية وثبوت الإجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي رحمه‌الله


تعالى ، واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو من متانة ، وقول الأصفهاني ـ كما في المستصفى ـ أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام ، الأولى (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، والثانية (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، والثالثة (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وثلاث في سورة الحج ، الأولى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] ، والثانية (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) [الحج : ٣٤] ، والثالثة (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] وآية (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤] من الفحش في حق هذا الإمام القرشي ، ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره ، وبالجملة ، الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الأقوال. وعن عطاء وطاوس أنهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيوانا كان أو غيره حرام ، وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ) أي إبليس وجنوده (لَيُوحُونَ) أي يوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الذين اتبعوهم من المشركين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : المراد بالشياطين مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا إلى قريش حسبما حكيناه عن عكرمة (لِيُجادِلُوكُمْ) أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال الحرام (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ضرورة أن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واستحل الحرام واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه.

ونقل الإمام عن الكعبي أنه قال : الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفة لله عزوجل وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله تعالى شأنه شريكا بدليل أنه سبحانه سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا ، ثم قال : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك هاهنا اعتقاد أن لله تعالى شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا القدر يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط انتهى. والظاهر أن التعبير عن هذه الإطاعة بالشرك من باب التغليظ ونظائره كثيرة والكلام هنا كما قال أبو حيان وغيره على تقدير القسم وحذف لام التوطئة أي ولئن أطعتموهم والله إنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده. وجعل أبو البقاء وتبعه بعضهم المذكور جواب الشرط ولا قسم وادعى أن حذف الفاء منه حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي كما هنا واعترض بأن هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفق الكل على وجوب الفاء في الجملة الاسمية ولم يجوزوا تركها إلا في ضرورة الشعر وفيه أن المبرد أجاز ذلك في الاختيار كما ذكره المرادي في شرح التسهيل.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له ، فالآية ـ كما قال الطيبي ـ متصلة بقوله سبحانه ، (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) والهمزة للإنكار. والواو ـ كما قال غير واحد ـ لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أنتم مثلهم ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة (وَجَعَلْنا لَهُ) مع ذلك من الخارج (نُوراً) عظيما (يَمْشِي بِهِ) أي بسببه (فِي النَّاسِ) أي فيما بينهم آمنا من جهتهم ، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فما ذا يصنع بذلك النور؟ فقيل : يمشي إلخ أو صفة له. ومن اسم موصول مبتدأ : وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ) أي صفته


العجيبة. ومن فيه اسم موصول أيضا و (مَثَلُهُ) مبتدأ. وقوله سبحانه : (فِي الظُّلُماتِ) خبر هو محذوف. وقوله سبحانه : (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) في موضع الحال من المستكن في الظرف ، وهذه الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية بمعنى إذا وصف يقال له ذلك ، وجملة (مَثَلُهُ) مع خبره صلة الموصول.

وإن شئت جعلت من في الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون (فِي الظُّلُماتِ) خبرا عن (مَثَلُهُ) لأن الظلمات ليس ظرفا للمثل. وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن «في الظلمات» هو الخبر وليس هناك هو مقدرا ، ولا يلزم ـ كما نص عليه بعض المحققين ـ حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية ؛ نعم ما ذكر أولا أولى لأن خبر (مَثَلُهُ) لا يكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدي مؤدى ذلك.

وجوز كون جملة (لَيْسَ بِخارِجٍ) حالا من الهاء في (مَثَلُهُ) ومنعه أبو البقاء للفصل ، قيل : ولضعف مجيء الحال من المضاف إليه. وقرأ نافع ويعقوب «ميّتا» بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو أعلّت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور.

ثم إن هذا الأخير ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مثل أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينات إلى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز إلى آخر ما قال ، ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان ، ورد ـ كما قال الشهاب ـ بأن الظاهر بأن من كان ميتا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحا ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب؟ أي الشجاع كالجبان وهو من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالأحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة ، والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه ، وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن مثله في الظلمات ليس بخارج ، وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها في حمزة وأبي جهل ، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وأيّا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من انقاد لأمر الله تعالى ومن بقي على ضلاله وعتوه (كَذلِكَ) إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إيحاء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الإيمان للمؤمنين (زُيِّنَ) من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة (لِلْكافِرِينَ) كأبي جهل وأضرابه (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من القبائح : (وَكَذلِكَ) قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) من سائر القرى (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية إلخ ، وإلى الاحتمالين ذهب الإمام الرازي. وجعل غير واحد جعل بمعنى صير المتعدية لمفعولين واختلف في تعيينهما


فقيل (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) مفعول ثان ، و (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) بالإضافة هو الأول ، وقيل : (أَكابِرَ) مفعول أول و (مُجْرِمِيها) بدل منه ، وقيل : (أَكابِرَ) مفعول ثان و (مُجْرِمِيها) مفعول أول لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل ، والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل.

واعترض أبو حيان كون (مُجْرِمِيها) بدلا من (أَكابِرَ) أو مفعولا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم إفراده وتذكيره إذا كان بمن ظاهرة أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنية لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة و (أَكابِرَ) في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بال ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز. وتعقبه الشهاب فقال : إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجري مجرى الأسماء لكونه بمعنى الرؤساء ـ كما نص عليه الراغب ـ وما ذكره إنما هو إذا بقي على معناه الأصلي. ويؤيده قول ابن عطية : أنه يقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة كما قال :

إن الأحامرة الثلاث تعولت

وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر. وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه. وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و «أكابر» أول المفعولين مضاف لمجرميها و «ليمكروا» المفعول الثاني.

وجوز بعضهم كون جعل متعديا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) بالإضافة ، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة. وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال : والذي يقتضيه النظر الصائب أن (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) لغو و (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) مفعول أول و (لِيَمْكُرُوا) هو الثاني ؛ ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما. وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور ، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه : و (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ٩٤] والأول (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) ، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أن جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه. ولا يخفى بعده.

وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وقرئ «أكابر مجرميها» وهذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله سبحانه : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير (يَمْكُرُونَ) أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام.

(قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال شيخ الإسلام : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه‌السلام فيخبرنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا (أَوْ تَأْتِيَ


بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢]. وعن الحسن البصري مثله ، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم‌السلام هو إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه‌السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه‌السلام بالوجه المذكور ، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك ، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه‌السلام إليه الأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف ، وفيه من التمحل ما لا يخفى.

وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلا مثلا إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل ، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد ، ولعل الأمر فيه سهل. ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه‌السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابا بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين ، وفيه ما فيه. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل حين قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي كما يأتيه. وقال الضحاك : سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢] قال الشيخ : ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس ، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين. حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه ، فالمعنى لن نؤمن رسالته أصلا حتى نؤتى نحن من النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء رسل الله ، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لا قفو الأثر بالائتمار ، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس ذلك نصا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع.

ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية ؛ ويمكن أن يدعي أيضا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركا له في أصل الرسالة فليفهم ، وقيل : إن الوليد ابن المغيرة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا فنزلت هذه الآية. وتعقبه الشيخ قدس‌سره أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا : لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله : «لو كانت النبوة حقا» إلخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق ، ومآله تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا.

وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم (رُسُلُ اللهِ) ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى ،


فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ابن جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية.

و (مِثْلَ ما أُوتِيَ) نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله ، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام ، و «حيث» مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره. والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها ، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفا. وقال الرضي : الأولى أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة ، وبحث فيه ، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه. ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع.

وجملة (اللهُ أَعْلَمُ) إلخ استئناف بياني ، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده ، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل ، وما في المواقف من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب ، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة ، وتمام البحث في موضعه.

وقرأ أكثر السبعة «رسالاته» بالجمع ، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على (رُسُلُ اللهِ) وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد ما نعي عليهم حرمانهم مما أملوه ، والسين للتأكيد ، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع ، وقيل : إشعارا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة (صَغارٌ) أي ذل عظيم وهوان بعد كبرهم (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة.

وقيل : من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء ، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول : جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد ، وقيل : المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة أو في الدنيا (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته ، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان ، وقالت المعتزلة : المراد يهديه إلى الثواب أو إلى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قيل له : «كيف الشرح يا رسول الله؟ فقال : نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل : هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره ، وقيل : المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الإيمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد


يكون فيه للخير منفذ وقرأ ابن كثير «ضيقا» بالتخفيف ، ونافع وأبو بكر عن عاصم «حرجا» بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفا بالمصدر للمبالغة ، وأصل معنى الحرج ـ كما قال الراغب ـ مجتمع الشيء ، ومنه قيل : للضيق حرج ، وقال بعض المحققين : أصل معناه شدة الضيق فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها.

وأخرج ابن حميد ، وابن جرير ، وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ (حَرَجاً) بفتح الراء وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حرجا» بكسرها فقال عمر : ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا وليكن مدلجيا فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر ، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة ، وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود ، والامتناع في ذلك عادي. وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه ، وأصل (يَصَّعَّدُ) يتصعد وقد قرئ به فأدغمت التاء في الصاد.

وقرأ ابن كثير (يَصَّعَّدُ) وأبو بكر عن عاصم «يصاعد» وأصله أيضا يتصاعد ففعل به ما تقدم.

(كَذلِكَ) إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجا على الوجه المذكور (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي العذاب أو الخذلان.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال : (الرِّجْسَ) ما لا خير فيه. وقال الراغب : (الرِّجْسَ) الشيء القذر ، وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. وأصله ـ على ما قيل ـ من الارتجاس وهو الاضطراب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي عليهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل (وَهذا) أي ما جاء به القرآن كما روي عن ابن مسعود أو الإسلام كما روي عن ابن عباس أو ما سبق من التوفيق والخذلان كما قيل (صِراطُ رَبِّكَ) أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته وطريقته التي اقتضها حكمته. ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب من اللطف (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه ولا زيغ أو عادلا مطردا وهو إما حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا أو مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو ها التي للتنبيه (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) بيناها مفصلة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل الحوادث بقضائه سبحانه وقدره وأنه جل شأنه حكيم عادل في جميع أفعاله ، وتخصيص هؤلاء القوم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك التفصيل (لَهُمْ) أي لهؤلاء القوم (دارُ السَّلامِ) أي الجنة كما قال قتادة ، والسلام هو الله تعالى كما قال الحسن ، وابن زيد ، والسدي ، وإضافة الدار إليه سبحانه للتشريف. وقال الزجاج والجبائي : (السَّلامِ) بمعنى السلامة أي دار السلامة من الآفات والبلايا وسائر المكاره التي يلقاها أهل النار. وقيل : هو بمعنى التسليم أي دار تحيتهم فيها سلام (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في ضمانه وتكفله التفضلي أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنه ذلك غيره. والجملة مستأنفة ، وقيل صفة لقوم (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي محبهم أو ناصرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم متلبسا بجزائها بأن يتولى إيصال الثواب إليهم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) لتفاوت مراتب أرواحهم في الصفاء والكدورة والنور والظلمة والقرب والبعد. ومن هنا قيل : والجاهلون لأهل العلم أعداء. وكلما اشتد التفاوت اشتدت العداوة وزاد الإيذاء الناشئ منها. ولهذا ورد في بعض الآثار «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت». وتسبب هذه العداوة مزيد


التوجه إلى الحق جل شأنه والإعراض عن الملاذ والحرص على الفضيلة التي يقهر بها العدو والاحتراز عما يوشك أن يكون سببا للطعن إلى غير ذلك (وَلِتَصْغى) أي تميل إليه (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وهم المحجوبون لوجود المناسبة (وَلِيَرْضَوْهُ) بمحبتهم إياه وليقترفوا ما هم مقترفون من اسم التعاضد والتظاهر (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) المعجز الجامع (مُفَصَّلاً) فيه الحق والباطل بحيث لا يبقى معه مقال لقائل فطلب ما سواه مما لا يليق بعاقل ولا يميل إليه إلا جاهل (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر (صِدْقاً) مطابقا لما يقع (وَعَدْلاً) مناسبا للاستعداد ، وقيل : صدقا فيما وعد وعدلا فيما أوعد (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لأنها على طرز ما ثبت في علمه والانقلاب محال (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأنهم لا يدعون إلا للشهوات المبعدة عن الله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون لكونهم محجوبين في مقام النفس بالأوهام والخيالات (إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) بقياس الغائب على الشاهد (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ) من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح (وَباطِنَهُ) من العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة.

وقال سهل : ظاهر الإثم المعاصي كيف كانت وباطنه حبها ، وقال الشبلي : ظاهر الإثم الغفلة وباطنه نسيان مطالعة السوابق ، وقال بعضهم : ظاهر الإثم طلب الدنيا وباطنه طلب الجنة لأن الأمرين يشغلان عن الحق وكل ما يشغل عنه سبحانه فهو إثم ، وقيل : ظاهر الإثم حظوظ النفس وباطنه حظوظ القلب ، وقيل : ظاهر الإثم حب الدنيا وباطنه حب الجاه ، وقيل : ظاهر الإثم رؤية الأعمال وباطنه سكون القلب إلى الأحوال.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ) وهم المحجوبون بالظاهر عن الباطن (لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي من يواليهم من المنكرين (لِيُجادِلُوكُمْ) بما يتلقونه من الشبه (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) وتركتم ما أنتم عليه من التوحيد (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) مثلهم (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالجهل وهو النفس أو الاحتجاب بصفاتها فأحييناه بالعلم ومحبة الحق أو كشف حجب صفاته (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالمجاهدات (فَأَحْيَيْناهُ) بروح المشاهدات أو ميتا بشهوات النفس فأحييناه بصفاء القلب أو ميتا برؤية الثواب فأحييناه برؤية المآب إلى الوهاب وجعلنا له نور الفراسة أو الإرشاد ، وقال جعفر الصادق : المعنى أومن كان ميتا عنا فأحييناه بنا وجعلناه إماما يهدي بنور الإجابة ويرجع إليه الضلّال ، وقال ابن عطاء : أومن كان ميتا بحياة نفسه وموت قلبه فأحييناه بإماتة نفسه وحياة قلبه وسهلنا عليه سبل التوفيق وكحلناه بأنوار القرب فلا يرى غيرنا ولا يلتفت إلى سوانا (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمات نفسه وصفاته وأفعاله (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) لسوء استعداده (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ) المحجوبين (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فاحتجبوا به (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) ويكون ذلك سببا لمزيد كمال العارفين حسبما تقدم في جعل الأعداء للأنبياء عليهم‌السلام. ويمكن أن يكون إشارة إلى ما في الأنفس أي «وكذلك جعلنا في كل قرية» وجود الإنسان التي هي البدن (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) من قوى النفس الأمارة «ليمكروا فيها» بإضلال القلب (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن عاقبة مكرهم راجع إليهم آفاقا وأنفسا (وَإِذا جاءَتْهُمْ) على يد الرسول عليه الصلاة والسلام (آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من الرسالة إليهم (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وذلك حيث خزينة الاستعداد عامرة والنفس قدسية (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالاحتجاب عن الحق (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) أي ذلك بذهاب قدرهم حين خراب أبدانهم (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) بحرمانهم الملائم ووصول المنافي إليهم في المعاد الجسماني (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) إليه


ويعرفه به (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بأن يقذف فيه نورا من أنواره فيعرفه بذلك (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) لا يدخل فيه شيء من أنوار شمس العرفان (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) نبوا وهربا عن قبول ذلك لأنه خلاف استعداده ، وقيل : المعنى فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره لقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله سبحانه بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس فينفسح لقبول نور الحق ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلاء النفس عليه وضغطها له كما يصعد في سماء روحه مع تلك الهيئات البدنية المظلمة وذلك أمر محال ، وقيل غير ذلك (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي رجس التلوث بنتن الطبيعة (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وهم المحجوبون عن الحق و (هذا) أي طريق التوحيد أو الجعل (صِراطُ رَبِّكَ) أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته التي اقتضتها حكمته (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) المعارف والحقائق المركوزة في استعدادهم (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هي ساحة جلاله وحضائر قدس صفاته ومساقط وقوع أنوار جماله المنزهة عن خطر الحجاب وعلة العتاب وطريان العذاب وهو وليهم بنعت رعايتهم وكشف جماله لهم أو وليهم يحفظهم عن رؤية الغير في البين. ويجوز أن يكون المعنى لهم دار السلامة من كل خوف وآفة حيث يكون العبد فيها في ظل الذات والصفات وريف البقاء بعد الفناء ؛ والكثير على أن السلام من أسمائه تعالى فما ظنك بدار تنسب إليه جل شأنه :

إذا نزلت سلمى بواد فماؤه

زلال وسلسال وأشجاره ورد

نسأل الله تعالى أن يدخلنا هاتيك الدار بحرمة نبيه المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو نقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته ، وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم ، والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين ، وقيل : للكفار. وقرأ حفص عن عاصم. وروح عن يعقوب «يحشر» بالياء والباقون بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما


يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٤٢)

وقوله سبحانه : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) على إضمار القول ، والمعشر الجماعة أمرهم واحد ، وقال الطبرسي : الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد ، والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين ، وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين ، أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين ، وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة ، وقال آخرون: إن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار ، وأيا ما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل للخطاب بقوله سبحانه : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومجاهد ، والزجاج ، فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال : استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع.

قيل : وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الانس لما أن الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون ، وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) أي الذين أطاعوهم واتبعوهم (مِنَ الْإِنْسِ) أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم ، فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فأدخلوا عليهم السرور بذلك.

وعن الحسن ، وابن جريج ، والزجاج ، وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي. واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم.

وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته له. وقال البلخي : يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن.


(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) وهو يوم القيامة على ما قاله غير واحد ، وعن الحسن ، والسدي ، وابن جريج أنه الموت والأول أولى ، وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهار للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له.

قيل : ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.

وقرئ «آجالنا» بالجمع و (الَّذِي) بالتذكير والإفراد ، قال أبو علي : هو جنس أو وقع الذي موقع التي.

(قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل قال : (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر (خالِدِينَ فِيها) حال من ضمير الجمع والعامل فيها «مثوى» إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبوءون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل. وقال أبو البقاء : إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الإضافة ، وردوه بأن النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من ، ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شمول ما نقدم للمستثنى ، وقيل : إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر ، المراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي ، وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت إليه الضرورة ، وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة لإمكان غير هذا التأويل. مع أن قوله سبحانه : (مَثْواكُمْ) يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر ، وقيل : إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب ، وذلك أنه روي أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٣٤].

وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما تشيب منه النواصي ، ولعل الخبر في ذلك غير صحيح ، والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث.

وقيل : المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ، ورده أبو حيان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإن معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضربته ؛ وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فإنه يسوغ كقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] أي لكن الموتة الأولى فإنهم ذاقوها فلعل القائل بأن المستثنى زمان إمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر ، وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال : المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل ، قال ابن المنير : ونحن نبينه فنقول : العذاب والعياذ بالله عزوجل على درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من


زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال :

ولجدت حتى كدت تبخل حائلا

للمنتهى ومن السرور بكاء

فكان هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده انتهى. ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإذعان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عزوجل ، وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك ، ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، وفي معناه ما قيل : المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله تعالى وهو مما لا يكون مع إيراده في صورة الخروج وأطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم ومن أفاضل العصريين الأكابر من ادعى ذلك الوجه له وأنه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ).

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في التعذيب والإثابة أو في كل أفعاله (عَلِيمٌ) بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا (وَكَذلِكَ) أي مثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم أو مثل ما سبق (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ) من الإنس (بَعْضاً) آخر منهم أن نجعلهم بحيث يتولونهم ويتصرفون فيهم في الدنيا بالإغواء والإضلال وغير ذلك ، واستدل به على أن الرعية إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم ، وفي الحديث «كما تكونوا يولىّ عليكم» أو المعنى نجعل بعضهم قرناء بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي إليه من القبائح كما قيل ، وروي مثله عن قتادة (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) في الدنيا (رُسُلٌ) من عند الله عزوجل كائنة (مِنْكُمْ) أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم ولا على أن أولئك الرسل عليهم‌السلام من جنس الفريقين معا بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الإنس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء ، ونظيره في هذا قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

والفراء قدر هنا مضافا لذلك أي من أحدكم ، وقال غير واحد : المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إلى قوله عزوجل : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩]. وعن الضحاك. وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلا منهم وصرح بعضهم أن رسولا منهم يسمى يوسف ، وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل إليهم من الإنس وهل كان ذلك قبل بعثة


نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال : كان الرسل يرسلون إلى الانس حتى بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الانس والجن (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) التي أوحيتها إليهم ، والحج ملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينوا (قالُوا) استئناف بياني ، والمقصود منه حكاية قولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي بإيتاء الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب ، وقوله سبحانه : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجأهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم‌السلام واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه (وَشَهِدُوا) في الآخرة (عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (كافِرِينَ) بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب ، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه.

(ذلِكَ) إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه : (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها ، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك ، وجوز أن يكون (أَنْ لَمْ) إلخ بدلا من اسم الإشارة ، وقوله تعالى : (بِظُلْمٍ) متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من (رَبُّكَ) أو من ضميره في (مُهْلِكَ) ، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولا يأباه قوله تعالى : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره.

واعترض شيخ الإسلام على جعل (بِظُلْمٍ) حالا من (رَبُّكَ) أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد ، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد ، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه ، واختار قدس‌سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال : والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لو لا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده.

ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد : إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم


السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع ، وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب ، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم ، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا. والمعتزلة يقولون : يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة (وَلِكُلٍ) من المكلفين جنا كانوا أو إنسا (دَرَجاتٌ) أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبا (مِمَّا عَمِلُوا) أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها ، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب.

وقرأ ابن عامر «تعملون» بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول (يَعْمَلُونَ) بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) أي لا غنى عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم ، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من اللطف الجزيل ، والكلام مبتدأ وخبر. وقوله سبحانه : (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر آخر ، وجوز أن يكون هو الخبر و (الْغَنِيُ) صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء ، وفي ذلك تنبيه على أن ما تقدم ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالإهلاك ، وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أي وينشئ من بعد إذهابكم (ما يَشاءُ) من الخلق ، وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه‌السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم ، وما في (كَما) مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشئ إنشاء كإنشائكم أو يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم ، و (مِنْ) لابتداء الغاية ، وقيل : هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) أي إن الذي توعدونه من القيامة ، والحساب ، والعقاب ، والثواب ، وتفاوت الدرجات والدركات ، وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي ، و (ما) اسم أن ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه : (لَآتٍ) يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء ، وهو خبر أن ، والمراد أن ذلك لواقع لا محالة ، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين ، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه ، وله نظائر في الكتاب الكريم.

(قُلْ يا قَوْمِ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلا أثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار. (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ


التمكن ؛ وجوز أن يكون ظرفا بمعنى المكان كالمقام والمقامة ، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها.

وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» على الجمع في كل القرآن ، وزعم الواحدي أن الوجه الإفراد وفيه نظر ، والمعنى اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي أي ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم.

والأمر للتهديد وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد ـ مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عازما عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه. وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لا بد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي إنكم لتعلمون ذلك لا محالة. فسوف لتأكيد مضمون الجملة. والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد ، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء. والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم.

والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل ، وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة.

وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول (تَعْلَمُونَ) أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار ، وفيه مع الإنذار المستفاد من التهديد إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره. وقرأ حمزة ، والكسائي «يكون» بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفروا بمطلوبهم ، وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم افراد الظلم (وَجَعَلُوا) أي مشركو العرب (لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) أي خلق قال الراغب : الذرء ، إظهار الله تعالى ما أبدعه يقال : ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم ، وقال الطبرسي : الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه. ومن متعلقة بجعل وما موصولة وجملة (ذَرَأَ) صلته والعائد محذوف. وقوله سبحانه : (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ) متعلق بذرأ.

وجوز أبو البقاء أن يكون «مما» متعلقا بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : (نَصِيباً) وأن يكون (مِنَ الْحَرْثِ) حالا أيضا من ما أو من العائد المحذوف. و (نَصِيباً) على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد ، وجوز أن يكون متعديا لاثنين أولهما (مِمَّا ذَرَأَ) على أن من تبعيضية وثانيهما (نَصِيباً) ، وقيل : الأمر بالعكس.

واعترض بأنه لا يساعده سداد المعنى ، وأيا ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة ، أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءا وجزءا للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئا مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوا لله تعالى وإن سبقهم الماء الذي سموا لله تعالى فسقي ما سموا للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي فيجعلونه للأوثان


ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه. وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها ويذبحون عندها فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له ، واختار هذه الرواية الزجاج وغيره.

وأصل النظم الكريم وجعلوا لله إلخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه ـ على ما قيل ـ أمر محقق عندهم وأشير إلى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي الأوثان ، وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم فيها ؛ ويحتمل أن الإضافة لأدنى ملابسة حيث إنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى. وقرأ الكسائي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش «بزعمهم» بضم الزاي وهو لغة فيه ، وجاء الكسر أيضا فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه ، وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس بجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى ، وقيل : للإيذان بأن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به. ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني.

وجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على أن معنى قولهم. (هذا لِلَّهِ) مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله سبحانه : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم ، و (ساءَ) يجري مجرى بئس ، فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا ، وقيل : إن (ساءَ) هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فإن فاعل الجارية يجب أن يكون معرفا باللام أو مضافا في الأشهر ، واختاره بعض المحققين.

(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات من الحرث والإنعام بين الله تعالى وبين شركائهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي مشركي العرب (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنونهن أحياء ، وكانوا في ذلك ـ على ما قيل فريقين. أحدهما يقول : إن الملائكة بنات الله سبحانه فألحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها. والآخر يقتلهن خشية الإنفاق ، وقيل : خشية ذلك والعار وهو المروي عن الحسن ، وجماعة ، وقيل : السبب في قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم وكانت فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا تولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم ، وقيل : إنهم كانوا ينذر أحدهم إذا بلغ بنوه ، عشرة نحر واحد منهم كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة ، وإليها أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أنا ابن الذبيحين» و (قَتْلَ) مفعول (زَيَّنَ) مضاف إلى (أَوْلادِهِمْ) من إضافة المصدر إلى مفعوله.

وقوله سبحانه : (شُرَكاؤُهُمْ) فاعل له ، والمراد بالشركاء إما الجن أو السدنة ، ووسموا بذلك لأنهم شركاء في أموالهم كما مر آنفا أو لإطاعتهم له كما يطاع الشريك لله عز اسمه. ومعنى تزيينهم لهم ذلك تحسينه لهم وحثهم عليه. وقرأ ابن عامر «زيّن» بالبناء للمفعول الذي هو القتل ، ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما


بمفعوله. وعقب ذلك الزمخشري بأنه شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج. ورد زج القلوص أبي مزادة. فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في الكلام المعجز ، ثم قال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف (شُرَكاؤُهُمْ) مكتوبا بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب اه.

وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء ، فقد تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا كما ذهب إليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه ، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فإن القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل تغليط الله عزوجل نعوذ بالله سبحانه من ذلك. قال أبو حيان : عجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت ، وأعجب بسوء هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله تعالى شرقا وغربا ، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم اه. وقد شنع عليه أيضا غير واحد من الأئمة ، ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول.

وقد يقال : إنه لم يفرق بين المضاف الذي لم يعمل وبين غيره. ومحققو النحاة قد فرقوا بينهما بأن الثاني يفصل فيه بالظرف ، والأول إذا كان مصدرا أو نحوه يفصل بمعموله مطلقا لأن إضافته في نية الانفصال ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ ذلك فيه ولم يخص بالشعر كغيره. وممن صرح بذلك ابن مالك ، وخطأ الزمخشري بعدم التفرقة وقال في كافيته :

وظرف أو شبيهه قد يفصل

جزأي إضافة وقد يستعمل

فصلان في اضطرار بعض الشعرا

وفي اختيار قد أضافوا المصدرا

لفاعل من بعد مفعول حجز

كقول بعض القائلين للرجز

بفرك حب السنبل الكنافج

بالقاع فرك القطن المحالج

وعمدتي قراءة ابن عامر

وكم لها من عاضد وناصر

انتهى. وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية لوجب قبولها أيضا بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير ، وما ألطف قول الإمام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي ، وكثيرا ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى ، ومما ذكرنا يعلم ما في قول السكاكي : لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف ، ونحو قوله :

بين ذراعي وجبهة الأسد

محمول على حذف المضاف إليه من الأول ، ونحو قراءة من قرأ (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) لاستنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها ، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني كما في قراءة من قرأ (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] بالجر أي عرض الآخرة ، وما ذكر وإن كان فيه نوع بعد إلا أن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد اه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ببناء «زيّن»


للمفعول ورفع «قتل» وجر «أولادهم» ورفع «شركائهم» بإضمار فعل دل عليه (زَيَّنَ) كما في قوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

كأنه لما قيل : زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه؟ فقيل : زينه شركاؤهم (لِيُرْدُوهُمْ) أي ليهلكوهم بالإغواء : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه‌السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك أو دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل : المعنى ليوقعوهم في دين ملتبس ، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين لأن مقصودهم من إغوائهم ليس إلا ذلك ، وللعاقبة إن كان من السدنة إذ ليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبته (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي عدم فعلهم ذلك (ما فَعَلُوهُ) أي ما فعل المشركون ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو ما فعل الشركاء من التزيين أو الإرداء واللبس أو ما فعل الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير المفرد مجرى اسم الإشارة (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الفاء فصيحة أي إذا كان ما كان بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو ما يفترونه من الكذب ولا تبال بهم فإن في ما يشاء الله تعالى حكما بالغة وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (وَقالُوا) حكاية لنوع آخر من أنواع كفر أولئك الكفار ، وقيل : تتمة لما تقدم (هذِهِ) أي ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) أي زرع (حِجْرٌ) أي ممنوع منها وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث.

وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء ، وقرأ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا. ويحتمل في هذا أن يكون مصدرا كالحلم ، وأن يكون جمعا كسقف ورهن. وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم أي ضيق وأصله «حرج» بفتح الحاء وكسر الراء ، وقيل : هو مقلوب من حجر كعميق ومعيق (لا يَطْعَمُها) أي يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) يعنون كما روي عن ابن زيد ـ الرجال دون النساء ، وقيل : يعنون ذلك وخدم الأوثان ، والجملة صفة أخرى لأنعام وحرث ، وقوله سبحانه : (بِزَعْمِهِمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (قالُوا) أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة (وَأَنْعامٌ) خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله سبحانه : (هذِهِ أَنْعامٌ) أي قالوا مشيرين إلى طائفة من أنعامهم وهذه أنعام. وقيل : إن الإشارة أولا إلى ما جعل لآلهتهم السابق وما بينهما كالاعتراض وهذا عطف على (أَنْعامٌ) المتقدم إدخاله فيما تقدم لأن المراد به السوائب ونحوها وهي بزعمهم تعتق وتعفى لأجل الآلهة (حُرِّمَتْ) أي منعت (ظُهُورُها) فلا تركب ولا يحمل عليها (وَأَنْعامٌ) أي وهذه أنعام على ما مر.

وقوله سبحانه : (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) صفة لأنعام مسوق من قبله تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧] في رأي لا أنه واقع في كلامهم المحكي كنظائره كأنه قيل : وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر اسم الله تعالى عليها وإنما يذكر عليها اسم الأصنام. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وائل أن المعنى لا يحجون عليها ولا يلبون. وعن مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا ولا (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي على الله سبحانه وتعالى ، ونصب (افْتِراءً) على المصدر إما على أن قولهم المحكي بمعنى الافتراء ، وإما على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء أو على الحال من فاعل (قالُوا) أي مفترين أو على العلة أي للافتراء وهو بعيد معنى ، و (عَلَيْهِ) قيل : متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر على الاحتمالين الأولين وبافتراء على الاحتمالين الأخيرين. ولا يخفى بعد تعلقه بقالوا ، والذي دعاهم إليه ومنعهم من تعلقه بالمصدر ـ على ما قيل ـ أن


المصدر إذا وقع مفعولا مطلقا لا يعمل لعدم تقديره بأن والفعل ، وفيه نظر لأن تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجار به فإنه مما يكفيه رائحة الفعل.

وجوز أبو البقاء أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لافتراء أي افتراء كائنا عليه (سَيَجْزِيهِمْ) ولا بد (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي بسببه أو بدله ، وأبهم الجزاء للتهويل (وَقالُوا) حكاية لفن آخر من فنون كفرهم (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) يعنون به أجنة البحائر والسوائب كما روي عن مجاهد والسدي ، وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يعنون به الألبان ، و (ما) مبتدأ خبره قوله سبحانه : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) أي حلال لهم خاصة لا يشركهم فيه أحد من الإناث ، والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة كرواية الشعر أي كثير الرواية له أو لأن الخالصة مصدر ـ كما قال الفراء ـ كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في كلام العرب تقول : فلان خالصتي أي ذو خلوصي ، قال الشاعر:

كنت أميني وكنت خالصتي

وليس كل امرئ بمؤتمن

نعم قيل : مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعلة قليل ، وقيل : إن التاء للتأنيث بناء على أن «ما» عبارة عن الأجنة.

والتذكير في قوله تعالى : (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي على جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ ، واستبعد ذلك بأن فيه رعاية المعنى أولا واللفظ ثانيا وهو خلاف المعهود في الكتاب الكريم من العكس ، وادعى بعض أن له نظائر فيه ، منها قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء : ٣٨] إذ أنث فيه ضمير (كُلُ) أولا مراعاة للمعنى ثم ذكر حملا على اللفظ ، وقيل : إن ما هنا جار على المعهود من رعاية اللفظ أولا لأن صلة «ما» جار ومجرور تقدير متعلقه استقر لا استقر لا استقرت ولا وجه لذلك لأن المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين. والذي يقتضيه الإنصاف أن الحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل ، وذكر بعضهم أن ارتكاب خلاف المعهود هاهنا لا يخلو عن لطف معنوي ولفظي ، أما الأول فموافقة القول الفعل حيث إن المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب الإناث لضعفهن. ولذا يندب للرجل إذا أعطي شيئا لولده أن يبدأ بأنثاهم ، وأما الثاني فمراعاة ما يشبه الطباق بوجه بين (خالِصَةٌ) و (لِذُكُورِنا) وبين (مُحَرَّمٌ) و (أَزْواجِنا) وهو كما ترى.

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) عطف على ما يفهم من الكلام أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيا وإن ولدت ميتة (فَهُمْ) أي الذكور والإناث (فِيهِ) أي فيما في بطون الأنعام ، وقيل : الضمير للميتة إلا أنه لما كان المراد بها ما يعم الذكر والأنثى غلب الذكر فذكر الضمير كما فعل ذلك فيما قبله (شُرَكاءُ) يأكلون منه جميعا ، وهذا الذي ذكر في هذه الشرطية إنما يظهر على القول الأول في تفسير الموصول ، وأما على القول الثاني فيه فلا. ولعل الذي يقول به يقرأ الآية بإحدى الأوجه الآتية أو يتأول الضمير ، وقرأ الأعرج. وقتادة «خالصة» بالنصب وخرج ذلك على أنه مصدر مؤكد وخبر المبتدأ (لِذُكُورِنا) ، وقال القطب الرازي : يجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف الواقع صلة أي في حال خلوصه من البطون أي خروجه حيا ، والتزم جعلها حالا مقدرة ولعله ليس باللازم ، ومنع غير واحد جعله حالا من الضمير فيما بعده أو من ذكورنا نفسه لأن الحال لا تتقدم على العامل المعنوي كالجار والمجرور واسم الإشارة وهاء التنبيه العاملة بما تضمنته من معنى الفعل ولا على صاحبها المجرور كما تقرر في محله ، وقرأ ابن جبير «خالصا» بدون تاء مع النصب أيضا ؛ والكلام فيه نظير ما مر ، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، والأعمش «خالصة» بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «وإن


تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع ، وابن كثير «يكن» بالياء وميتة بالرفع. وأبو بكر عن عاصم «تكن» بالتاء كابن عامر «ميتة» بالنصب.

قال الإمام : وجه قراءة ابن عامر أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثا في اللفظ ، ووجه قراءة ابن كثير أن «ميتة» اسم «يكن» وخبره مضمر أي إن يكن لهم أو هناك ميتة ، وذكر لأن الميتة في معنى الميت.

وقال أبو علي : لم يلحق الفعل علامة التأنيث لأن تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ولا تحتاج كان إلى خبر لأنها بمعنى وقع وحدث ، ووجه القراءة الأخيرة أن المعنى وإن تكن الأجنة أو الأنعام ميتة (سَيَجْزِيهِمْ) ولا بد (وَصْفَهُمْ) الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) [النحل : ٦٢] وهو ـ كما قال بعض المحققين ـ من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر أي ساحر ، وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له ، قال المعري :

سرى برق المعرة بعد وهن

فبات برامة يصف الملالا

ونصب (وَصْفَهُمْ) على ما ذهب إليه الزجاج لوقوعه موقع مصدر «يجزيهم» فالكلام على تقدير المضاف أي جزاء وصفهم ، وقيل : التقدير سيجزيهم العقاب بوصفهم أي بسببه فلما سقط الباء نصب (وَصْفَهُمْ).

(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تعليل للوعد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة. واستدل بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف لأن ذلك من فعل الجاهلية ، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة ، وأخرج البخاري في التاريخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا إلا كما قال الله تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) وهم العرب الذين كانوا يقتلون أولادهم على ما مر ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من ربيعة ومضر أي هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك العقاب أو ذهب دينهم ودنياهم.

وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتّلوا» بالتشديد لمعنى التكثير أي فعلوا ذلك كثيرا (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لخفة عقلهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه ، ونصب (سَفَهاً) على أنه علة لقتلوا أو على أنه حال من فاعله ، ويؤيده أنه قرئ «سفهاء» أو على المصدرية لفعل محذوف دل عليه الكلام ، والجار والمجرور إما صفة أو حال.

(وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من البحائر والسوائب. ونحوهما (افْتِراءً عَلَى اللهِ) نصب على أحد الأوجه المذكورة ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم (قَدْ ضَلُّوا) عن الطريق السوي (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو ما كانوا مهتدين من الأصل ، والمراد المبالغة في نفي الهداية عنهم لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن فأردف ذلك بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال وأن ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض ، وصرح بعض المحققين بأن الجملة عطف على (ضَلُّوا) على الأول واعتراض على الثاني ، وقرأ ابن رزين «قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين».

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. وقال الإمام : إنه عود إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد أي وهو الذي خلق وأظهر تلك الجنات من غير شركة


لأحد في ذلك بوجه من الوجوه ، والمعروشات من الكرم ما يحمل على العريش وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) وهي الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا ، وهذا قول من قال: إن المعروشات وغيرها كلاهما للكرم ، وعن أبي مسلم أن المعروش ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه من الكرم وما يجري مجراه ، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعروش ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس وغير المعروش ما نبت في البراري والجبال ، وقيل : المعروش العنب الذي يجعل له عريش وغير المعروش كل ما نبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ ، وقال عصام الدين : ولا يبعد أن يراد بالمعروش المعروش بالطبع كالأشجار التي ترتفع وبغير المعروش ما ينبسط على وجه الأرض كالكرم ويكون قوله سبحانه : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) تخصيصا بعد التعميم وهو عطف على (جَنَّاتٍ) أي أنشأهما (مُخْتَلِفاً) في الهيئة والكيفية (أُكُلُهُ) أي ثمره الذي يؤكل منه ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكله» بسكون الكاف وهو لغة فيه على ما يشير إليه كلام الراغب ، والضمير إما أن يرجع إلى أحد المتعاطفين على التعيين ويعلم حكم الآخر بالمقايسة إليه أو إلى كل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الإشارة ، وعن أبي حيان أن الضمير لا يجوز إفراده مع العطف بالواو فالظاهر عوده على أقرب مذكور وهو (الزَّرْعَ) ويكون قد حذف حال النخل لدلالة هذه الحال عليها ، والتقدير والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله ، وجوز وجها آخر وهو أن في الكلام مضافا مقدرا والضمير راجع إليه أي ثمر جنات ، والحال المشار إليها على كل حال مقدرة إذ لا اختلاف وقت الإنشاء.

وزعم أبو البقاء أنها كذلك إن لم يقدر مضاف أي ثمر النخل وحب الزرع وحال مقارنة إن قدر.

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي أنشأهما (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي يتشابه بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة ولا يتشابه في بعضها ، وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن ابن جريح أنه قال : متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم ، والنصب على الحالية (كُلُوا) أمر إباحة كما نص عليه غير واحد (مِنْ ثَمَرِهِ) الكلام في مرجع الضمير على طرز ما تقدم آنفا (إِذا أَثْمَرَ) وإن لم ينضج وينيع بعد ففائدة التقييد إباحة الأكل قبل الإدراك ، وقيل : فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو اختيار الجبائي وغيره.

(وَآتُوا حَقَّهُ) الذي أوجبه الله تعالى فيه (يَوْمَ حَصادِهِ) وهو على ما في رواية عطاء عن ابن عباس العشر ونصف العشر ، وإليه ذهب الحسن ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وطاوس ، وغيرهم ، والظرف قيد لما دل عليه الأمر بهيئته من الوجوب لا لما دل عليه بمادته من الحدث إذ ليس الأداء وقت الحصاد والحب في سنبله كما يفهم من الظاهر بل بعد التنقية والتصفية. وادعى علي بن عيسى أن الظرف متعلق بالحق فلا يحتاج إلى ما ذكر من التأويل.

وفي رواية أخرى عن الحبر أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ثم نسخ بالزكاة ، وإلى ذلك ذهب سعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وغيرهما. قيل : ولا يمكن أن يراد به الزكاة المفروضة لأنها فرضت بالمدينة والسورة مكية ، وأجاب الإمام عن ذلك بأنا لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة وكون آيتها مدنية لا يدل على ذلك ، على أنه قد قيل : إن هذه الآية مدنية أيضا ، وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة ، وأخرج ابن منصور ، وابن المنذر ، وغيرهما عن مجاهد أنه قال في الآية : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم فإذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي (حَصادِهِ) بكسر الحاء وهي لغة فيه ، وعدل عن حصده وهو المصدر المشهور لحصد


إليه لدلالته على حصد خاص وهو حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه كما صرح به سيبويه وأشار إليه الراغب (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تتجاوزا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى ذلك ، وروي مثله عن أبي العالية.

وعن أبي مسلم أن المراد ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب أن المعنى لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ، وقال الزهري : المعنى لا تنفقوا في معصية الله تعالى. ويروى نحوه عن مجاهد.

فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. وقال مقاتل : المراد لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام.

والخطاب على جميع هذه الأقوال لأرباب الأموال ، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن الخطاب للولاة أي لا تأخذوا ما ليس لكم بحق وتضروا أرباب الأموال. واختار الطبرسي أنه خطاب للجميع من أرباب الأموال والولاة أي لا يسرف رب المال في الإعطاء ولا الإمام في الأخذ والدفع (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذبهم عليه إن شاء جل شأنه (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل ، وهو عطف على (جَنَّاتٍ) والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما. والجار والمجرور متعلق بأنشأ. والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة.

والمراد به ما يحمل الأثقال من الأنعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره ، وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس. وإلى الثاني ذهب الجبائي ، وقيل : الحمولة الكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها ، وروي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الإبل وصغارها وهو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية أخرى الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال ، فمن تبعيضية.

والرزق شامل للحلال والحرام ، والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذه الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلا منطقيا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو ظاهر والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فالحرام ليس برزق.

وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا ، والآية لا تدل عليه ، أما إذا كانت تبعيضية فظاهر ، وأما إن كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع ، وقيل : معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا) في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طرقه فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم عليه‌السلام من الجنة وقال : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره إنه الرحمن الرحيم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) في عين الجمع المطلق قائلا يا معشر الجن أي


القوى النفسانية (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم بإغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) وانتفع كل منا في صورة الجمعية الإنسانية بالآخر (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) بالموت أو المعاد على أقبح الهيئات وأسوأ الأحوال (قالَ النَّارُ) أي نار الحرمان ووجدان الآلام (مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي نجعل بعضهم ولي بعض أو وليه وقرينه في العذاب (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي حسب استعدادهم.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) وهي عند كثير من أرباب الإشارة العقول وهي رسل خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لإرسال الرسل الأخر وهي رسل خارجية.

وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) على العقل أيضا. وهذه الأسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي الأبدان أو القلوب (بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) بل ينبههم بالعقل وإرشاده إقامة للحجة ولله تعالى الحجة البالغة (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) مراتب في القرب والبعد (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) لذاته عن كل ما سواه (ذُو الرَّحْمَةِ) العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم ، والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لغناه الذاتي عنكم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) من أهل طاعته برحمته (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي جهتكم من الاستعداد (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي من ذلك (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) في قلوب عباده (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) ككرم العشق والمحبة (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء ، والوفاء ، والعفة ، والحلم ، والشجاعة. (وَالنَّخْلَ) أي نخل الإيمان (وَالزَّرْعَ) أي زرع إرادات الأعمال الصالحة (وَالزَّيْتُونَ) أي زيتون الإخلاص (وَالرُّمَّانَ) أي رمان شجر الإلهام ، وقيل في كل غير ذلك وباب التأويل واسع (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) وهو المشاهدات والمكاشفات (إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا) المريدين (حَقَّهُ) وهو الإرشاد والموعظة الحسنة (يَوْمَ حَصادِهِ) أوان وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة وَلا تُسْرِفُوا) بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل أوانها (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) لا يرتضي فعلهم (وَمِنَ الْأَنْعامِ) أي قوى الإنسان (حَمُولَةً) ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع (وَفَرْشاً) ما هو مستعد لإصلاح القالب وقيام البشرية (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان. ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالميل إلى الشهوات الفانية والاحتجاب بالسوى (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ


وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١٤٧)

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما ، والمراد به هنا الأول ، وإلا كانت أربعة. وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام و (ثَمانِيَةَ) على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين ـ بدل من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء.

وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على (جَنَّاتٍ) وحذف الفعل وحرف العطف ، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى. وأن يكون مفعولا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج (وَلا تَتَّبِعُوا) جملة معترضة. وأن يكون حالا من ما مرادا بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانا للهيئة وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقا أو مؤولا به ظاهر. وتعقب ذلك شيخ الإسلام بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة انتهى. وفيه منع ظاهر ، وقوله سبحانه : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة. ونصب «اثنين» قيل : على أنه بدل من «ثمانية أزواج» بدل بعض من كل أو كل من كل أن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به.

وقال العلامة الثاني : الظاهر أن (مِنَ الضَّأْنِ) بدل من الأنعام و (اثْنَيْنِ) من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) أو من ثمانية أزواج أن جوزنا أن يكون للبدل بدل ، وجوز أن يكون البدل «اثنين» ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها.

وقرئ «اثنان» على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب ، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر ، وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه (وَمِنَ الْمَعْزِ) زوجين (اثْنَيْنِ) التيس والعنز. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس. وقرأ أبي «ومن المعزى» وهو اسم جمع معز ، وهذه الأزواج الأربعة ـ على ما


اختاره شيخ الإسلام ـ تفصيل للفرش قال : ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى (قُلْ) تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن الجواب (آلذَّكَرَيْنِ) ذكر الضار وذكر المعز (حَرَّمَ) الله تعالى (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أنثى ذينك الصنفين ، ونصب (آلذَّكَرَيْنِ) و (الْأُنْثَيَيْنِ) بحرم (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى. (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئا ما ذكر أو نبئوني ببينة متلبسة بعلم صادرة عنه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى ، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الانقطاع (وَمِنَ الْإِبِلِ) زوجين (اثْنَيْنِ) الجمل والناقة ، وهذا عطف على قوله سبحانه : و (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) والإبل ـ كما قال الراغب ـ يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع ـ كما في القاموس ـ على آبال والتصغير أبيلة.

(وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) هما الثور وأنثاه (قُلْ) إفحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الله تعالى منهما (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من ذينك النوعين ، والمعنى ـ كما قال كثير من أجلة العلماء ـ إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه ، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.

وبيانه ـ على ما قال الكسائي ـ أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة ، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل الذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت.

ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما ؛ وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما. وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكر والإناث.

وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول : هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا : إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر. وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى. ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون ، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما.


ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبختي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه ، وقول الطبرسي : إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم ، وقوله سبحانه : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) تكرير للإفحام والتبكيت ، وأم منقطعة ، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ) أي أمركم وألزمكم (بِهذا) التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولا بخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه. والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم ، والمراد به ـ على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ عمرو بن لحي بن قمئة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى ، وقيل : كبراؤهم المقررون لذلك ، وقيل : الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى ، والمراد فأي فريق أظلم ممن إلخ ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء. ومن تابع عمرا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به ، والفاء لترتيب ما بعد على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم ، ونصب (كَذِباً) قيل على المفعولية ، وقيل : على المصدرية من غير لفظ الفعل ، وجعله حالا أي كاذبا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافا لمن زعمه.

(لِيُضِلَّ النَّاسَ) متعلق بالافتراء (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير (افْتَرى) أي افترى عليه سبحانه جاهلا بصدور التحريم عنه جل شأنه ، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور.

وجوز كونه حالا من فاعل يضل على معنى متلبسا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم. وقيل : معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلا بذلك غير عالم به ، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من (النَّاسَ) وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم. واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم ، وفيه أنه ليس كل ما كان مذموما من الخلق كان مذموما من الخالق.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الحق ، وقيل : إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي ، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضا. وقيل : إلى ما فيه صلاحهم عاجلا وآجلا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول ، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى (قُلْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم.

وقوله سبحانه : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلخ كناية عن عدم الوجود ، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى ، وتنبيه ـ كما قيل ـ على أن الأصل في الأشياء الحل ، و


(مُحَرَّماً) صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني (فِي ما أُوحِيَ) قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف ، وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى «أوحي» أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها (عَلى طاعِمٍ) أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم : (مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) وقوله تعالى : (يَطْعَمُهُ) في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه : (طائِرٍ يَطِيرُ) [الأنعام : ٣٨] قطعا للمجاز. وقرئ «يطعمه» بالتشديد وكسر العين ، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى ، والمراد بالطعم تناول الغذاء ، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم الكلام عليه ، والمتبادر هنا الأول ، وقد يراد به مطلق النفع ، ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا إلا عجازا صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به ، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به ، نعم قيل : المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك ، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس ، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم : رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء (يَطْعَمُهُ) على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه.

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ) ذلك الطعام أو الشيء المحرم (مَيْتَةً) المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها. وقرأ ابن كثير. وحمزة «تكون» بالتاء لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «يكون ميتة» بالياء ورفع «ميتة». وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة (أَوْ دَماً) عطف على (مَيْتَةً) أو على أن مع ما في حيزه. وقوله سبحانه : (مَسْفُوحاً) أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال. وفي الحديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال» وقد رخص في دم العروق بعد الذبح ، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء. وعن عكرمة أنه قال : لو لا هذا القيد لا تبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود.

(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أي اللحم ـ كما قيل ـ لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا. وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى ، وقيل ـ وهو خلاف الظاهر ـ : الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور (رِجْسٌ) أي قدر أو خبيث مخبث (أَوْ فِسْقاً) عطف على (لَحْمَ خِنزِيرٍ) على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة له موضحة. وأصل الإهلال رفع الصوت. والمراد الذبح على اسم الأصنام. إنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق. وجوز أن يكون (فِسْقاً) مفعولا له لأهلّ وهو عطف على (يَكُونَ) و (بِهِ) قائم مقام الفاعل. والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في (يَكُونَ).

قال أبو حيان : وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ «إلا أن يكون ميتة» بالرفع لأن ضمير (بِهِ) ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر اه. وعنى بذلك ـ كما قال الحلبي ـ أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام ـ من ـ التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه ـ من ـ كان ضرورة كقوله :

ترمى بكفي كان من أرمى البشر


أراد بكفي رجل كان إلخ. وهذا ـ كما حقق في موضعه ـ رأي بعض ، وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة ـ كما قال السفاقسي ـ فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك ، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك (غَيْرَ باغٍ) أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين.

وقال الحسن : أي غير متناول للذة ؛ وقال مجاهد : (غَيْرَ باغٍ) على إمام (وَلا عادٍ) أي متجاوز قدر الضرورة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه.

ونصب (غَيْرَ) على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة.

وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه. وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والفسق الذي أهلّ لغير الله تعالى به ، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له.

فإن قلت : المستثنى ليس (مَيْتَةً) بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلو لا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الأشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة [النحل : ١١٥] : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وإنما تفيد الحصر ، وقال سبحانه في سورة [المائدة : ١] : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عزوجل : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.

وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو


حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر (١) المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة. واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا. ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال. وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة. وبعضهم قال لاتصال الاستثناء : إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من (مُحَرَّماً) وفيه تكلف ظاهر ، وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة. والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة.

وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار. وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر هاهنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية. أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أبى ذلك البحر ـ يعني ابن عباس ـ وقرأ قل (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) الآية.

وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت : (قُلْ لا أَجِدُ) إلخ. وأخرج عن ابن عباس قال : ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه (قُلْ لا أَجِدُ) الآية. وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام. فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ؛ ثم قال : ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما استخبثته العرب فهو حرام» وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال : «يعافه طبعي» ولم يكن ذلك سببا لتحريمه. وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم انتهى. ولا يخفى ما فيه.

واستدل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله سبحانه : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ ، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إنما قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما

__________________

(١) قوله فالمصدر المتحصل من ان يكون إلخ كذا بخطه ولعله من ان يكون إلخ.


على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به».

واستدل الشافعية بقوله سبحانه : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل ، والنعام ، والإوز ، والبط قاله ابن عباس ، وابن جبير وقتادة ، ومجاهد ، والسدي وعن ابن زيد أنه الإبل فقط. وقال الجبائي : يدخل فيه كل السباع والكلاب ، والسنانير ، وما يصطاد بظفره ، وعن القتبي. والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا مجازا. واستبعد ذلك الإمام ، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراما قبله.

ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة (حَرَّمْنا) وهذا ـ كما قيل ـ تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيها فصل بإبطال ما يخلفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون : لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح ، وإبراهيم ، ومن بعدهما عليهم‌السلام حتى انتهى التحريم إلينا ، وقال بعض المحققين : إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبا عليهم : وقرأ الحسن «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء. وقرأ أبو السماك بكسرهما. وقرئ كما قال أبو البقاء «ظفر» بضم الظاء وسكون الفاء.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) لا لحومهما فإنها باقية على الحل ، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى. وقيل : هو عام استثني منه ما سيأتي. و (مِنَ الْبَقَرِ) متعلق بحرمنا بعده. وكان يكفي حينئذ أن يقال : الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال : أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم ، وجوز أبو البقاء ـ وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر ـ أن (مِنَ الْبَقَرِ) عطف على (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) على معنى وبعض البقر وجعل (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) تبيينا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه.

(إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي ما علق بظهورهما. والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم. وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحما يحنث بشحم البطن فقط وخالفه في ذلك صاحباه فقالا : يحنث بشحم الظهر أيضا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار. وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال. وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاما لا شحاما. والاتصال وإن كان أصلا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى : (أَوِ الْحَوايا) فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما أو المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والأمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة. وللقائل بالاتصال أن يقول : العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر (الْحَوايا) بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء. وجوز غير واحد أن يكون العطف على (ظُهُورُهُما) وأن يكون على (شُحُومَهُما) وحينئذ يكون ما ذكر محرما وإليه ذهب بعض السلف. وهو يعطف قوله تعالى : (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص ، وقيل : هو المخ ولا يقول أحد إنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضا. و (الْحَوايا) قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل


وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة إلفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا ؛ وقيل : جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضا وإعلاله كما علمت ، وقيل : جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام الفا فصار حوايا.

وجوز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضا. و (أَوِ) بمعنى الواو.

وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] وقال الزجاج : هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا. و (أَوِ) بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت : لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم ولا تطع الجماعة ، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب. واختاره العلامة الثاني وقال : الوجه أن يقال إن كلمة (أَوِ) في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل. وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم ، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال : وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط. وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن ، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في «أو» هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثني منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم و (أَوِ) على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع (ذلِكَ) إشارة إلى الجزاء أو التحريم : فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده. وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم (جَزَيْناهُمْ) وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره. وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والحلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارا به إلى المصدر غير متبوع به.

وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه (بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم.

وقيل : المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن ابراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضا. ولا بعد


في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي. وعد منها ـ واقتصر عليهم بعضهم ـ الوعد والوعيد.

وقوى الإمام بهذه الآية ما ذهب إليه الإمام مالك ، وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها. وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين : الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا. والثاني أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال : إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذا وجب حمله على المخلب. والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين. الأول إفادة التركيب الحصر لغة ، والثاني أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع. وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصا باليهود. وحينئذ فما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي اليهود كما قال مجاهد ، والسدي ، وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد بعنوان الإشراك ، وقيل: الضمير للمشركين فالمعنى على الأول إن كذلك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) عظيمة (واسِعَةٍ) لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي لا يدفع عذابه بالكلية (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا. وعلى الثاني فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم : ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال.

وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد ، وقيل : المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى : (وَلا يُرَدُّ) إلخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لاحق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى


يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٦٥)

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) حكاية لفن آخر من أباطيلهم والأخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥] صريح في أنه من عند الله تعالى ، وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الإعجاز لكلامه ولم يكن الإعجاز به فقط كما في قوله مضعف (لَوْ شاءَ اللهُ) عدم إشراكنا وعدم تحريمنا شيئا (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم


إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عزوجل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والإرادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عزوجل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى. وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عزّ من قائل : (كَذلِكَ) أي مثل ما كذب هؤلاء (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم أسلافهم المشركون. وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم‌السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم. ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم‌السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع مرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول ، وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا. وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي ، ويجوز أيضا أن يقال مقصود المشركين من قولهم ذلك : رد دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذكور في كثير من الكتب الكلامية. وحاصله حينئذ أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطا بالاستطاعة فينتج أن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم‌السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب ، ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنها لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة. وسيأتي توجيه آخر إن شاء الله تعالى قريبا للآية.

وعطف (آباؤُنا) على الضمير المرفوع في (أَشْرَكْنا) وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان ، وقد فصل بلا هاهنا ، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وإن لم يفصل حرف العطف. وادعى الإمام أن في الكلام تقديرا لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الإشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا إشكال. (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم ، وفيه ـ على ما قيل ـ إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء.

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم (فَتُخْرِجُوهُ) أي فتظهروه (لَنا) على أتم وجه وأوضح بيان ، وقيل : المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما ادعيتهم أن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان ، وجعل إمام الحرمين في الإرشاد هذا وما بعده دليلا على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزءون بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم‌السلام حيث قرع


مسامعهم من شرائع الرسل عليهم‌السلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزءين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق.

(إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تكذبون على الله تعالى ، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر (قُلْ فَلِلَّهِ) خاصة (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية ، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان ، وقال شيخ مشايخنا الكوراني : (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جودا ورحمة لا وجوبا. وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد به إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور ، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم جميعا (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.

وقال الكوراني : المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول. وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به ، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر. وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عزوجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم ، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع ، واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون.

المقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وإن أقامتهم الحجة بذلك خاصة ، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان. والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين.

ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم‌السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة.

وقوله سبحانه : (فَلَوْ شاءَ) إلخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب


بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة ، ثم قال : وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النخل يجب أن يكون عندكم حقا لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة ، وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه ، ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلو عن دغدغة فتدبر (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أي احضروهم للشهادة وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم. وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال.

وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال. وعلى هذا تكون (هَلُمَ) اسم فعل مطلقا كما في شرح التسهيل وعليه الرضي حيث قال : وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظرا إلى أصله. وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس ، واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر. ودفع بما نقله الرضي عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به ما فعل. ويكون متعديا بمعنى احضر وائت ولازما بمعنى أقبل كما في قوله تعالى : (هَلُمَّ إِلَيْنا) [الأحزاب : ١٨] (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم. والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم وإظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم. وهذا إشارة إلى ما حرموه من الأنعام على ما حكته الآيات السابقة.

وقال مجاهد : إشارة إلى البحائر والسوائب (فَإِنْ شَهِدُوا) أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالرضا ، وإرادة هذا المعنى من «لا تشهد» إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة ، ومن الناس من زعم أن ضمير (شَهِدُوا) للمشركين أي فإن لم يجدوا شاهدا يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد ، وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فإن لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من وضع المظهر موضع المضمر للإيماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها ، والخطاب ـ قيل ـ لكل من يصلح له. وقيل : لسيد المخاطبين والمراد أمته.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس ، وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الإقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع إنكار الآخرة ولا يخفى ما فيه (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له عديلا أي شريكا فهو كقوله تعالى : (هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل : ١٠٠] وقيل : يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عزوجل ، وقيل : (يَعْدِلُونَ) بعبادتهم عنه تعالى ، والجملة عطف على (لا يُؤْمِنُونَ) والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بالآيات والكفر بالآخرة والإشراك بربهم عزوجل لكن لا على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها ، وقيل : الجملة في موضع الحال من


ضمير (لا يُؤْمِنُونَ قُلْ تَعالَوْا) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات ، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم ، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا ، ويحتمل هنا ـ كما قيل ـ أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم تراقوا إلى ذروة العلم وقمة العز.

وقوله سبحانه : (أَتْلُ) جواب الأمر أي إن تأتوني أتل ، و «ما في» قوله تعالى : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه ، والمراد الآية الدالة عليه ، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل ، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم ، والجملة مفعول «أتل» لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه.

والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم ، وقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ) متعلق على كل حال بحرم ، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة ، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي من الإشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمفعولية ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب (أَلَّا). وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي أحسنوا بهما (إِحْساناً) كاملا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما ، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عزوجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان. وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بالوأد (مِنْ إِمْلاقٍ) من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] وقيل : الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه : (مِنْ إِمْلاقٍ) من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل ، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عزوجل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل : «نحن نرزقهم وإياكم» وهو كلام حسن.

وأيا ما كان فجملة (نَحْنُ) إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي الزنا ، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، وقيل : المراد بها المعاصي كلها.

وفي المراد ـ بما ظهر منها وما بطن ـ على هذا أقول تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة. ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات ، ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن


القتل مطلقا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل : «ذاك وأد خفي» وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه ، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها. وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي ، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله (إِلَّا بِالْحَقِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها ، وذلك كما ورد في الخبر بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا إلا قتلا كائنا وهو القتل بأحد المذكورات (ذلِكُمْ) أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي طلبه منكم طلبا مؤكدا ، والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه. وقال الإمام : جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره ، وقيل : المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد ؛ والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل : احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] والأشد ـ على ما قال الفراء ـ جمع لا واحد له. وقال بعض البصريين : هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما. وقيل : هو جمع شدة كنعمة وأنعم ، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح.

وقال ابن الأنباري : إنه جمع شد بضم الشين كود وأود. وقيل : جمع شد بفتحها. وأيا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. ومنه قول عنترة :

عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي. وجماعة بلوغ الحلم. وقيل : أن يبلغ ثماني عشرة سنة ، وقال السدي : أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) [النساء : ٦] وقيل : غير ذلك. وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر (وَأَوْفُوا) أي أتموا (الْكَيْلَ) أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول (وَالْمِيزانَ) كذلك ـ كما قال أبو البقاء ـ وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير (أَوْفُوا) أي مقسطين. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من المفعول أي تاما. ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد.

وفي التفسير الكبير فإن قيل : إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا : أمر الله تعالى المعطى بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء


الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل : عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل : جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق (وَإِذا قُلْتُمْ) قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما (فَاعْدِلُوا) فيه وقولوا الحق (وَلَوْ كانَ) المقول له أو عليه (ذا قُرْبى) أي صاحب قرابة منكم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. والجار والمجرور متعلق بما بعده ، وتقديمه للاعتناء بشأنه (ذلِكُمْ) أي ما فصل من التكاليف الجليلة (وَصَّاكُمْ بِهِ) أمركم به أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم «تذكرون» بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد.

وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهذه بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك. وقتل الأولاد. وقربان الزنا ، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم. وإيفاء الكيل. والعدل في القول. والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان ؛ قاله القطب الرازي : ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول؟ قلت : أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.

وقال الإمام : السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى. ويمكن أن يقال : إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأخر فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي فيكون الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي) إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي ، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي ، وقيل : إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.

وقرأ حمزة والكسائي «إن» بالكسر. وابن عامر. ويعقوب بالفتح والتخفيف ، والباقون به مشددة.

وقرأ ابن عامر «صراطي» بفتح الياء ، وقرئ و (هذا صِراطِي). «وهذا صراط ربكم» (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٢٦] وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه ، ونصبه على الحال (فَاتَّبِعُوهُ) أي اقتفوا أثره واعملوا به (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية ، وأخرج ابن المنذر ، وعبد ابن حميد ، وغيرهما عن مجاهد


أنها البدع والشبهات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه (عَنْ سَبِيلِهِ) أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام ، وقيل : هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان ، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه‌السلام عين سبيل الله تعالى ، وقد أخرج أحمد. وجماعة عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا بيده ثم قال «هذا سبيل الله تعالى مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبيل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) إلخ ، وإنما أضيف إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عزوجل (ذلِكُمْ) إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه. قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويا لها من وصية ما أعظم شأنها ، وأوضح برهانها.

وأخرج الترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعالَوْا) إلى (تَتَّقُونَ) وأخرج ابن حميد ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث» ثم تلاهنّ إلى آخرهن ثم قال «فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه».

وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال : سمع كعب رجلا يقرأ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلخ فقال : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.

هذا وأن في قوله سبحانه (أَلَّا تُشْرِكُوا) يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية قال العلامة الثاني : وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرم بدلا من ما أو عائده المحذوف. وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على لا تشركوا وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرما فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب ، وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام ؛ وإن جعلت أن مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان ، أحدهما عطف (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) على (أَلَّا تُشْرِكُوا) مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل. وثانيهما عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بيانا لتلاوة المحرمات بل الواجبات ، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه ، ولا سبيل حينئذ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت.

وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي) ليس عطفا على (أَلَّا تُشْرِكُوا) بل


هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام ، وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.

فإن قيل : فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لا تشركوا ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم ، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم ، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا : ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع في الكلام مثل (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فإن أبيت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقا بمحذوف والمذكور بالفاء عطفا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه.

وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل : اتلوا ما حرم أن لا تسيئوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد ، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف ، وأما جعل الوقف على قوله تعالى : (رَبُّكُمْ) وانتصاب (أَلَّا تُشْرِكُوا) بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي. وقال أبو حيان : لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فإنه لا يصح عطف «وبالوالدين إحسانا» على «تعالوا» ويكون ما بعده عطف عليه.

واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، ثم قال : وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ان التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه : (أَتْلُ ما حَرَّمَ) أمرهم أولا بأمر ترتب عليه ذكر مناه ، ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح ، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم أن التفسيرية ، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه ، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ما نهاكم ربكم عنه ، فالمعنى قل تعالوا اتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما ، ويجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرئ القيس :

لا تهلك أسى وتجمل

ولا نعلم في هذا خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا مشهورا اه. وأنت تعلم أن العطف على (تَعالَوْا) في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه ، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن ، ونقل الطبرسي جواز كون (أَلَّا تُشْرِكُوا) بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين ، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك (ثُمَّ آتَيْنا) إلخ. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس‌سره ، وقيل : عطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة


كأنه قيل : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه‌السلام ، وقيل : عطف على (قُلْ) وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب.

وعن أبي مسلم ، واستحسنه المغربي ، أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه‌السلام : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم‌السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه‌السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته ، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن. وثم ـ كما قال الفراء ـ للترتيب الأخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب. وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلا بد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله : أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة ، وبعضهم وجه الترتيب الأخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد. وقيل : إنه باعتبار توسط جملة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بين المتعاطفين.

وقال بعضهم : إن (ثُمَ) هنا بمعنى الواو ، وقد جاء ذلك كثيرا في الكتاب (تَماماً) للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له ، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماما ، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا لقول (آتَيْنا) من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماما فهو كنباتا في قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وأن يكون حالا من الكتاب أي تاما (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي من أحسن القيام به كائنا من كان فالذي للجنس. ويؤيده قراءة عبد الله «على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين». وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد

وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه‌السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه‌السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم. وعن ابن زيد أن المراد تماما على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم‌السلام ، وظاهره أن (الَّذِي) موصول حرفي ، وقد قيل به في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] وضمير أحسن حينئذ لله تعالى ، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه‌السلام من النبوة وغيرها ، وكلاهما خلاف الظاهر. وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه‌السلام ، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيمعليه‌السلام.

وقرأ يحيى بن يعمر «أحسن» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و (الَّذِي) وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تاما كاملا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب ، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه‌السلام خلافا لمن زعم ذلك ، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة [يوسف: ١١١] عليه‌السلام : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا (وَهُدىً) أي دلالة إلى الحق (وَرَحْمَةً) بالمكلفين. والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية


والمصدرية والحالية والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما ألقى موسى عليه‌السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل (لَعَلَّهُمْ) أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه‌السلام وإيتاء الكتاب ، ولا يجوز عود الضمير على الذي بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه : (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) بل كان المناسب حينئذ أن يقال : لعلهم يرحمون مثلا ، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل ، والمراد من اللقاء قيل الجزاء ، وقيل : الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا. وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

(وَهذا) الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن (كِتابٌ) عظيم الشأن لا يقادر قدره (أَنْزَلْناهُ) بواسطة الروح الأمين مشتملا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها ، والجملة صفة (كِتابٌ) وقوله سبحانه : (مُبارَكٌ) أي كثير الخير دينا ودنيا صفة أخرى ، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال ، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضا ؛ والفاء في قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره (وَاتَّقُوا) مخالفته أو نواهيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لترحموا جزاء ذلك ، وقيل : المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى.

(أَنْ تَقُولُوا) علة لمقدر دل عليه (أَنْزَلْناهُ) المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافا للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا. وقيل : يحتمل أن يكون مفعول (اتَّقُوا) وعليه الفراء ، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخا لهم على بعدهم عن السعادة ، والمتبادر ما ذكر أولا أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) الناطق بالأحكام القاطع للحجة (عَلى طائِفَتَيْنِ) جماعتين كائنتين (مِنْ قَبْلِنا) وهما ـ كما قال ابن عباس ، وغيره : اليهود ، والنصارى. وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.

(وَإِنْ كُنَّا) إن هي المخففة من أن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر ، لا ثابت ولا محذوف أي وانه كنا (عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي قراءتهم (لَغافِلِينَ) غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكننا أن نتلقى منها ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد ، وقيل : تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا) إلخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار. وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال : وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.

(أَوْ تَقُولُوا) عطف على (تَقُولُوا). وقرئ كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب «فاتبعوه واتقوا» ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتا أيضا ولا يخفى موقعه. قال القطب : إنه تعالى خاطبهم أولا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو


التفات في غاية الحسن (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) كما أنزل عليهم (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانا وأثقب فهما (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم إلخ أو إن صدقتم فيما تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم (بَيِّنَةٌ) حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة (مِنْ رَبِّكُمْ) على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة (بَيِّنَةٌ) ويصح تعلقه بجاءكم.

وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) عطف على (بَيِّنَةٌ) وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم ، والمراد بجميع ذلك القرآن ، وعبر عنه بالبينة أولا إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة. ثانيا تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة وفي التفسير الكبير فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير؟ قلنا : القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف ولا يخفى ما فيه.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه ، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون ، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب ، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلا للأمر. وقرئ «كذب» بالتخفيف ، والجار الأول متعلق بما عنده ، والثاني يحتمل ذلك وهو الظاهر.

ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا ، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال ، والفعل على الأول لازم وعلى الثاني متعد وهو الأكثر استعمالا (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا) وعيد لهم ببيان جزاء إعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم ، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ الشديد (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف على التجدد والاستمرار ، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له (هَلْ يَنْظُرُونَ) استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار ، و (هَلْ) للاستفهام الإنكاري ، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال : إنها للتقرير في الإثبات ، والجمهور على الأول ، والضمير لكفار أهل مكة.

وزعم الجبائي أنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود : وقتادة ، ومقاتل ، وقيل : إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل ، وقيل : المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث ، وحاصل ذلك


أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد ، وأين التراب من رب الأرباب.

وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس ، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم ، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل. والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة ، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة ، وصح من طرق عن حذيفة بن أسيد قال : «أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علية ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون؟ قلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، والدجال ، وعيسى ابن مريم ، ويأجوج وماجوج ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا» وببعضها على ما قيل : الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضا في قوله سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) وروى مسلم ، وأحمد ، والترمذي ، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعا ما هو صريح في ذلك. واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه‌السلام بعد الدجال عليه اللعنة وهو عليه‌السلام يدعو الناس إلى الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي ، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر. والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده : طلوع الشمس من مغربها.

فقد روى الشيخان «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية» بل قد روي هذا التعيين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير ما خبر صحيح ، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لا يخفى على المتأمل ، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة ، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه.

وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه. وقول العراقي : إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة ، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث ، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها : ارجعي من مطلعك ، والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قبل. وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير.

وروى البخاري في تاريخه ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها ، وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون : إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه ، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار. وقال الكرماني : إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع في ذلك أيضا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا انتهى. وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول : قال في


التذكرة وشرحها للسيد السند : الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئا واحدا بل كان مما وجده القدماء أكثر ما وجده المحدثون ، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءا ونصف جزء.

ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقا يجب أن يثبت فلكا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك أما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله ، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قبل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها ، وعلى التقديرات الخمس الأول يتبادل نصفا سطح البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل ، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور ، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئا واحدا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة ، وعلى التقدير الثاني لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لا جزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصا.

ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشئ عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك ، وليس صيرورة المشرق مغربا والمغرب مشرقا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلا ، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر. والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبعض


الآخر إلى بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه. وقيل : المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] وبقولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٢] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم ، وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إن صح الحديث فهو مذهبي ، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك ، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف. وتنكير (نَفْساً) للتعميم. وجملة «لم تكن آمنت» في موضع النصب صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل ، وجوز كونها استئنافية و «يوم» منصوب بلا ينفع. وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنما هو عند وقوعها جواب القسم.

وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي. وقرئ «يوم» بالرفع على الابتداء. والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه. وقرأ أبو العالية. وابن سيرين «لا تنفع» بالتاء الفوقانية ، وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه لكونه شبيها بما يستغنى عنه ، وقال أبو حيان : إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة.

وقوله سبحانه : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على (آمَنَتْ) والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة. والمعتزلة يقولون : إن الترديد بين النفيين ، والمراد نفي العموم لا عموم النفي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا. وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه. ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغي ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام أيضا.

وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال : لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما


في ضمن التحذير من تركهما ؛ ولا سبيل إلى أن يقال : كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل. وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كما وكيفا.

ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا إرشادا إلى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة عن أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة. ثم قال : ولك أن تقول : المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله سبحانه : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣٠ ، ٣١] تسجيلا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] انتهى.

وقيل في دفع اللغوية غير ذلك ، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل : لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى ، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل ، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام ، وقال مولانا ابن الكمال : إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة لا تنفع بالتاء وبكسب الخير الإذعان ؛ ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر ، ولو سلم فنقول : الإيمان النافع لا بد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه : (آمَنَتْ) وعن الثاني بقوله تعالى : (أَوْ كَسَبَتْ) فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى.

ولا يخفى عليك أن الألفاظ المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرينة ، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر ، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي إن هذا الحكم ـ أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه ـ مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أن لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات ، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل ، ولا يلزم من عدم نفع ما حدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه. ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في


ذلك اليوم به أيضا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالاتفاق. ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصا في الحكم والمحكوم به فتأمل ، وبأن له أيضا صرف قوله سبحانه : (كَسَبَتْ) عن أن يكون معطوفا على (آمَنَتْ) إلى عطفه إلى (لَمْ تَكُنْ) لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الإيمان في (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد ، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب (أَنْ) أو بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة : فو الله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي ـ والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون ، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢]. (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] في رأي. وقول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعا ، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر ، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيّا والتي ، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد الخير ولو واحدا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم.

(قُلِ) لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد (انْتَظِرُوا) ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون ، وقيل : في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بمعاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب ، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) استئناف لسان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين بناء على ما روي عن ابن عباس وقتادة أن الآية نزلت في اليهود والنصارى أي بددوا دينهم وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وحمزة ، والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض آخر منه ترك الكل أو مفارقة له (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا تشيع كل فرقة إماما وتتبعه أو تقويه وتظهر أمره. أخرج أبو داود. والترمذي وصححه. وابن ماجة. وابن حبان وصححه الحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم. ومن


غريب ما وقع أن بعض متعصبي الشيعة الإمامية من أهل زماننا واسمه حمد روى بدل إلا واحدة في هذا الخبر إلا فرقة وقال : إن فيه إشارة إلى نجاة الشيعة فإن عدد لفظ فرقة بالجمل وعدد لفظ شيعة سواء فكأنه قال عليه الصلاة والسلام : إلا شيعة ، والمشهور بهذا العنوان هم الشيعة الإمامية فقلت له بعد عدة تزييفات لكلامه : يلزم هذا النوع من الإشارة أن تكون كلبا لأن عدد كلب وعدد حمد سواء فألقم الكلب حجرا.

(لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي من السؤال عنهم والبحث عن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم ، وقيل : يحتمل أن يكون هذا وعدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعصمة عنهم أي لست منهم في شيء من الضرر ، وعن السدي أنه نهى عن التعرض لقتالهم ثم نسخ بما في سورة براءة ، و (مِنْهُمْ) في موضع الحال لأنه صفة نكرة قدمت عليها (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وآخرتهم ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة ، وقيل : المفرقون أهل البدع من هذه الأمة ، فقد أخرج الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، والطبراني ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا) إلخ «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة».

وأخرج الترمذي ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها : «يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليس لهم توبة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء فإنهم ليس لهم توبة وأنا منهم بريء وهم مني برآء» فيكون الكلام استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين إشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد ، ولعل جملة (إِنَّما أَمْرُهُمْ) إلخ على هذا ليست للتعليل وإنما هي للوعيد على ما فعلوا أي إن رجوعهم إليه سبحانه (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) يوم القيامة (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) في الدنيا على الاستمرار بالعقاب عليه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم أي من جاء من المؤمنين بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة أي خصلة كانت ، وقيل : التوحيد ونسب إلى الحسن وليس بالحسن (فَلَهُ عَشْرُ) حسنات (أَمْثالِها) فضلا من الله تعالى.

وقرأ يعقوب «عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع على الوصف ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة. وأبو الشيخ عن ابن عباس ، وعبد بن حميد ، وغيره عن ابن عمر أن الآية نزلت في الأعراب خاصة ، وأما المهاجرون فالحسنة مضاعفة لهم بسبعمائة ضعف ، والظاهر العموم.

وتجريد (عَشْرُ) من التاء لكون المعدود مؤنثا كما أشرنا إليه لكنه حذف وأقيمت صفته مقامه ، وقيل : إنه المذكور إلا أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) كائنا من كان من العالمين (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) بحكم الوعد واحدة بواحدة ، وإيجاب كفر ساعة عقاب الأبد لأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ذلك منه تعالى لا يعد ظلما إذ له سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي ، وقيل : المعنى لا ينقصون في الحسنات من عشر أمثالها وفي السيئة من مثلها في مقام الجزاء.

ومن المعتزلة من استدل بهذه الآية على إثبات الحسن والقبح العقليين ، واختلف في تقريره فقيل : إنهم لما رأوا


أن أحد أدلة الأشاعرة على النفي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله كما بين في محله فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليه قالوا : إن قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلخ صريح في أن العبد مستبد مختار في فعله الحسن والقبيح ، وإذا ثبت ذلك يثبت الحسن والقبح العقليان. وأجيب عنه بأن الآية لا تدل على استبداد العبد غاية ما فيها أنها تدل على المباشرة وهم لا ينكرونها ، وقيل : إن الآية دلت على أن لله تعالى فعلا حسنا ولو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة أو مأذونا فيها لما كان فعل الله تعالى حسنا إذ هو غير مأمور ولا مأذون ، وأيضا لو توقف معرفة الحسن والقبح على ورود الشرع لما كانت أفعاله تعالى حسنة قبل الورود وهو خروج عن الدين.

وأجيب أما عن الأول فبأنا لا ندعي أنه لا حسن إلا ما أمر به أو أذن في فعله حتى يقال : يلزم أن تكون أفعال الله تعالى غير حسنة إذ يستحيل أن يكون مأمورا بها أو مأذونا فيها بل ما أمر الشارع بفعله أو أذن فيه فهو حسن ولا ينعكس كنفسه بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقة الغرض أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله ، وبهذا الاعتبار كان فعل الله تعالى حسنا سواء وافق الغرض أو خالف ، وأما عن الثاني فبأن الحسن والقبح وإن فسرا بورود الشرع بالمنع والإطلاق لكن لا نسلم أنه لا حسن ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ذلك بل الحسن والقبح أعم مما ذكر كما عرف في موضعه ، ولا يلزم من تحقق معنى الحسن والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال ، ولا يخفى على المطلع أن قولهم : لو كان حسن الأفعال إلخ. وقولهم : لو توقف معرفة الحسن والقبح إلخ شبهتان مستقلتان من شبه عشر إلزامية ذكرها الآمدي في إبكار الأفكار وأن كلا من التقريرين السابقين لا يخلو عن بعد نظر فتدبر.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية ، وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة : أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الحق.

وقوله سبحانه : (دِيناً) بدل من محل (صِراطٍ) إذ المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا ، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور. وقوله سبحانه : (قِيَماً) مصدر كالصغر والكبر نعت به مبالغة. وجوز أن يكون التقدير ذا قيم ، والقياس قوما كعوض وحول فاعل تبعا لإعلال فعله أعني قام كالقيام. وقرأ كثير «قيما» وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد ـ وهو على ما قيل ـ أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة ، وقيل : أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه ، ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير ، وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد ، وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر ، وقيل : المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من إبراهيم ، وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه. والعامل في هذه الحال هو العامل في المضاف. وقيل : معنى الإضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر ، وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها.

وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما عليه المبطلون ، وقيل : عطف على ما تقدم. وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة


والسلام من أهل مكة القائلين : الملائكة بنات الله واليهود القائلين : عزير ابن الله والنصارى القائلين : عيسى ابن الله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها. وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء ، وقيل : لأن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها (وَنُسُكِي) أي عبادتي كلها كما قال الزجاج ، والجبائي ، وهو من عطف العام على الخاص. وعن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة. وعن قتادة الأضحية ، وجمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] على المشهور. وقيل : المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان والعمل الصالح.

وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهر والأول هو المناسب لقوله تعالى : (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر. وقيل : المراد به نظرا لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكا وقدرة (لا شَرِيكَ لَهُ) أي في عبادتي أو فيها وفي الإحياء والإماتة. وقرأ نافع «محياي» بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف ، وفي رواية أنه كسر الياء ، وعلى الرواية الأولى إنما جاز التقاء الساكنين لنية الوقف وفيه يجوز ذلك فطعن بعضهم في ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين وهو لا يجوز ليس في محله ، وقد روى هذه القراءة عن نافع جماعة ، وما قيل : إنه رجع عنها وأنه لا يحل لأحد نقلها عنه ليس بشيء.

(وَبِذلِكَ) أي القول أو الإخلاص (أُمِرْتُ) لا بشيء غيره (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أو المنقادين إلى امتثال ما أمر الله تعالى به ، وقيل : المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره ، والمراد مسلمي أمته كما قيل ، وهذا شأن كل نبي بالنسبة إلى أمته ، وقيل : هذا إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام «أول ما خلق الله تعالى نوري» (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) إنكار لبغية غيره تعالى ربا لا لبغية الرب ولهذا قدم المفعول ، وليس التقديم للاختصاص إذ المقصود أغير الله أطلب ربا وأجعله شريكا له ، وعلى تقدير الاختصاص لا يكون إشراكا للغير بل توحيد ، وقال بعض المحققين : لا يبعد أن يقال التقديم للاختصاص. وذكر في رد دعوته إلى الغير رد الاختصاص تنبيها على أن إشراك الغير بغية غير الله تعالى إذ لا بغية له سبحانه إلا بتوحيده عزوجل ، وما في النظم الكريم أبلغ من أغير الله أعبد ونحوه كما لا يخفى (وَهُوَ) سبحانه (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) جملة حالية مؤكدة للإنكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب فكيف يتصور أن يكون شريكا له (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) يروى أنهم كانوا يقولون للمسلمين : «اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم» فرد عليهم بما ذكر أي إن ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها حتى يصح قولكم ، وعلى هذا يكون قوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي نفس آثمة (وِزْرَ أُخْرى) تأكيدا لما قبله ، وقيل : إن قولهم ذلك يحتمل معنيين : الأول ، اتبعوا سبيلنا وليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم. والثاني اتبعوا لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا.

وقوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ) إلخ رد له بالمعنى الأول ، وقوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ) إلخ رد له بالمعنى الثاني ، وقيل : إن جواب قولهم هو الثاني ، وأن الأول من جملة الجواب عن دعواهم إلى عبادة آلهتهم يعني لو أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه لم أكن معذورا بأنكم سبقتموني إليه وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله تعالى لأن كسب كل أحد وعمله عائد عليه ، ورجحه بعضهم على الأول بأن التأسيس خير من التأكيد (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ببيان الرشد من الغي وتمييز الحي من اللي.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة


ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر ، وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها ـ كما قيل ـ والخطاب عليهما عام ، وقيل : الخطاب لهذه الأمة ، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل (دَرَجاتٍ) كثيرة متفاوتة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ما ذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه (إِنَّ رَبَّكَ) تجريد الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَرِيعُ الْعِقابِ) أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات.

وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي.

وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك ، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الإنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام.

ومن باب الإشارة في الآيات : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده (لَوْ شاءَ اللهُ) تعالى (ما أَشْرَكْنا) به سبحانه شيئا (وَلا) أشرك (آباؤُنا) من قبلنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهم‌السلام (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وقالوا مثل قولهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) فتخرجوه لنا بالبيان (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) لأنكم محجوبون في مقام النفس (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك.

وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي الروح والقلب أحسنوا (إِحْساناً) برعاية حقوقهما (وَلا تَقْتُلُوا) أي تهلكوا (أَوْلادَكُمْ) قواكم باستعمالها في غير ما هي له (مِنْ إِمْلاقٍ) أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم إلينا (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) الأعمال الشنيعة (ما ظَهَرَ مِنْها) كأفعال الجوارح (وَما بَطَنَ) كأفعال القلب (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) تعالى قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهي التصديق بذلك إجمالا وعدم إنكاره (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فيقوى على قبول أنواع التجليات ، وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم.


ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي كيل الشرع بمراعاة الحقوق الظاهرة (وَالْمِيزانَ) أي ميزان الحقيقة بمراعاة الحقوق الباطنة (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي لا تقولوا إلا الحق (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) وهو التوحيد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) غير مائل إلى اليمين والشمال (فَاتَّبِعُوهُ) لتصلوا إلى الله تعالى ولا تتبعوا السبل التي وصفها أهل الاحتجاب «فتفرق بكم عن سبيله» فتضلوا ولا تصلوا إليه سبحانه (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لتوفي أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو الكشف عن ساق (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو الكشف المذكور (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) حينئذ لانقطاع التكليف.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي جعلوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) في جزاء تفرقهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من السيئات واتباع الهوى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة ، وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذ كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير إليه النصوص (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو طريق التوحيد الذاتي (دِيناً قِيَماً) ثابتا لا تنسخه الملل والنحل (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) التي أعرض بها عن السوي (حَنِيفاً) مائلا عن كل دين فيه شرك (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) حضوري وشهودي بالروح (وَنُسُكِي) تقربي بالقلب (وَمَحْيايَ) بالحق (وَمَماتِي) بالنفس (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لا نصيب لأحد مني في ذلك (لا شَرِيكَ لَهُ) في شيء أصلا إذ لا وجود سواه (وَبِذلِكَ) الإخلاص وعدم رؤية الغير (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين للفناء فيه سبحانه (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) فاطلب مستحيلا (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) إلا عليها إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) بأن جعلكم له مظهر أسمائه ورفع بعضكم فوق بعض درجات في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه وبمن لا يقوم (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن لم يراع (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن يراعي ذلك ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه. (١)


سورة الأعراف

أخرج أبو الشيخ ، وابن حبان ، عن قتادة قال : هي مكية إلا آية (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) [الأعراف: ١٦٣] ، وقال غيره : إن هذا إلى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) [الأعراف : ١٧٢] مدني : وأخرج غير واحد عن ابن عباس. وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا ، وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي ـ فالمص. وبدأكم تعودون ـ كوفي و (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف : ٢٩] بصري شامي و (ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] و (الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الأعراف : ١٣٧] مدني وكلها محكم ، وقيل : إلا موضعين ، الأول (وَأُمْلِي لَهُمْ) [الأعراف : ١٨٣] فإنه نسخ بآية السيف والثاني (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد ، وادعى أيضا أن (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] كذلك وفيما ذكر نظر ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢] وقال سبحانه في بيان القرون (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦ ، ص : ٣] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام: ١٦٥] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة ، وقال سبحانه في قصة عاد : (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] وفي قصة ثمود (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الأعراف : ٧٤] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] إلخ ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٥] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب ، وأيضا لما تقدم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام : ١٠٨] قال جل شأنه في مفتتح هذه : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) [الأعراف : ٦] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عزّ من قائل : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)

__________________

(١) في اصل المؤلف رحمه‌الله تعالى من الجزء الثاني من تقسيمه دعاء لسلطان وقته وزمانه فحذفناه لعدم الحاجة اليه الآن واسأل الله تعالى ان يقوي شوكة المسلمين وان يوفقهم للعمل بالشرع ويهديهم.


[الأعراف : ٨] ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاته.

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. المص) سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الإعادة خلا أنه قيل هنا : إن معنى المصور وروي ذلك عن السدي ، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير ، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق ، وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد ، وقيل : المراد به (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت ـ بالم ـ إلا وهي مشتملة على ثلاثة أمور : بدء الخلق. والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش وإليها الإشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين. وزيد في هذه الصورة على ذلك الصاد لما فيها مع ما ذكر من شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم بمراده.

وقوله سبحانه : (كِتابٌ) على بعض الاحتمالات خبر لمبتدإ محذوف أي هو أو ذلك كتاب ، وقوله سبحانه : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي من عنده تعالى صفة له مشرّفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال ، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر. وإن كان المجموع فلتحققه جعل


كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا : إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قوله : ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل (كِتابٌ) مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هدا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز ـ كما في الأساس ـ علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.

وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) [هود : ١٢] الآية. وللأول قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٧ ، الأنعام : ١١٤ ، يونس : ٩٤] وقد يقال : إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.

وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل : إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له بالمرة كما في قوله سبحانه : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢ ، ٨] وليس هذا من قبيل ـ لا أرينك هاهنا ـ فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى.

والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل ـ لا أرينك هاهنا ـ في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه. ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.

والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة ـ كما يفهمه كلام الكشاف ـ كناية عن عدم المبالاة بالأعداء. وأيّا ما كان فالتنوين في (حَرَجٌ) للتحقير ، ومن متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أو لا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل : إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ.

وقال الفراء إنها اعتراضية ، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا ، ولترتيب ما ذكر على الأخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابا منزلا إليك. وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في


القيام بحقه فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول. ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر.

(لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بالكتاب المنزل. والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم ، وقد يقال : إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه. واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير قيل : وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبا. ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك ـ على ما قيل ـ من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج. أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب. وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلا عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم‌السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله ، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرا في صدرك لأجل الإنذار. وقيل : إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح ، وقيل : يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون. وقال العلامة الثاني : إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي ـ كما قيل ـ لفساد المعنى. وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي ، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشعر بأن المنهي عنه ليس بمحذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده ، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه ؛ وأنت خبير بأن كون المنهي عنه محذورا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه. والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناء على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرا للتفسير الثاني ، سلمنا أنها نص لكنا نقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الفتح : ١ ، ٢] الآية (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) نصب بإضمار فعله عطفا على «تنذر» أي وتذكر المؤمنين تذكيرا. ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل (لِتُنْذِرَ) معللا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحد حتى يجوز حذف اللام منه.

ويمكن ـ كما في الكشف ـ أن يقال : لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير. نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير. ويحتمل الرفع على أنه معطوف على «كتاب» أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى ، والفرق بين الوجهين ـ على ما في الكشف ـ أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابا كاملا في شأنه بالغا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى لفظا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)


خطاب لكافة المكلفين ، والمراد بالموصول الكتاب المنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلا إليهم لتأكيد وجوب الاتباع ؛ وقيل : المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر. وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الأنمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فإنه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون ادعى لانشراح صدره عليه الصلاة والسلام ورحب ذراعه.

ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد. نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة ، ومن متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) الضمير المجرور عائد إلى (رَبِّكُمْ) والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة.

ويجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من (أَوْلِياءَ) قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى ، وأن يكون متعلقا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره. ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي ، وقيل : الضمير لما أنزل على حذف مضاف في (أَوْلِياءَ) أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء ، وكأنه قيل : ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء ، وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم ، وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء أتباعا من دون اتباعكم ما أنزل إليكم وفيه بعد.

وقرأ مجاهد «تبتغوا» بالغين المعجمة من الابتغاء (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره. فقليلا نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر ، و «ما» مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي هاهنا قلة على قلة ، والظاهر من القلة معناها ، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] وأجيز أن يكون (قَلِيلاً) نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعا قليلا ، قيل : ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه : (تَذَكَّرُونَ) وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني ، وأن يكون حالا من فاعل (لا تَتَّبِعُوا) وما مصدرية أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [الذاريات : ١٧] والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه ، وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ ، و (قَلِيلاً) على معنى زمانا قليلا خبره ، وقيل : إن ما نافية و (قَلِيلاً) معمول لما بعده ، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها ، والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص «تذكرون» بحذف إحدى التاءين وذال مخففة. وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة ، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين. وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة ، والجملة ـ على ما قاله غير واحد ـ اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين ، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم ، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى (وَكَمْ


مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم ، و (كَمْ) خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء ؛ والجملة بعدها خبرها و (مِنْ) سيف خطيب و (قَرْيَةٍ) تمييز.

ويجوز أن يكون محل (كَمْ) نصبا على الاشتغال ، وضمير (أَهْلَكْناها) راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها ، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازا كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه : (فَجاءَها بَأْسُنا) أي عذابنا ، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالا أصوليا ، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها ، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم.

وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر ، وقيل : إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب ، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال : معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا ، وقيل : المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها ، وقيل : الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه إلخ. وقيل : إن الفاء للترتيب الذكري. وقال ابن عصفور : إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال ، وقال الفراء : الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر ، وقيل : الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها (بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجيء البأس في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين ، ويأباه ما بعد إباء ظاهرا فإنه يدل على أن العذاب في الدنيا ، وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافا أي فجاء أهلها.

وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازا ، ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضا مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب. والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيته وبياتا وبيتوتة ، وذكر الراغب : أن البينات وكذا التبييت قصد العدو ليلا. وقال الليث : البيتوتة الدخول في الليل ، ونصبه على الحال بتأويله ببائتين.

وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر ، واحتمال النصب على المفعولية له ـ كما زعم أبو البقاء ـ مما لا يلتفت إليه. وأو للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضا وأضمرت فيه الواو ـ كما قال ابن الأنباري ـ لوضوح المعنى ومن أجل أن أو حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني ، ونقل ذلك عن الفراء أيضا. وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالا وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال. وقال ابن المنير : إن هذه الواو لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الاسمية بعد الفعلية ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين أو لكان الأفصح خلافه وحيث رأيناها تتوسط والكلام هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما. وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية فإما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه وتجامع أو كما تجامع الواو لكن في الفصيح لما فيها من زيادة معنى الاستدراك وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية ، فلو قلت : سبح الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة خلافا لأبي حيان


مدعيا أن النحويين نصوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية فالمثال على هذا غير صحيح ، وظاهر كلام الزمخشري أن هذه الواو واو العطف في الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط فقد خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام ذينك الإمامين وهذا مذهب لهما ولمن اتبعهما.

وقال بعض النحاة : إن الضمير هنا مغن عن إضمار الواو والاكتفاء به غير شاذ كما قيل بل هو أكثر من رمل يبرين ومها فلسطين ، وقد نقل عن الزمخشري الرجوع إلى هذا القول والمسألة خلافية وفيها تفصيل. ففي البديع : الاسمية الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو تقول : جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من قولهم : كلمته فوه إلى فيّ وإن كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد. وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضمير كما فيّ قوله :

ثم انتصينا جبال الصفد معرضة

عن اليسار وعن إيماننا جدد

فإن جبال الصفد معرضة حال بلا واو ولا ضمير : وعن الشيخ عبد القاهر جعل ذلك على قسمين ما يلزمه الواو مطلقا وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأن إعادة ضميره تقتضي أن الجملة مستأنفة لئلا تلغو الإعادة فإذا لم يقصد الاستئناف فلا بد من الواو وما عداه تلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فإنه حينئذ قد تترك الواو وجوازا ، وقيل ـ ولم يسلم ـ : إن الضابط في ذلك أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو وإلا فإن كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى في و «بعضكم لبعض عدو» أو خبرا نحو وجدته حاضراه الجود والكرم فلا يحكم بضعفه لكونه الرابط في أول الجملة وإلا فضعيف قليل.

وقال ابن مالك وتبعه ابن هشام ونقل عن السكاكي : إنه إذا كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه و (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] ، واختار ابن المنير أن المصحح لوقوع هذه الجملة هنا حالا من غير واو هو العاطف إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحالية فيستغنى عن واو الحال كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو نحو (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢] وقوله سبحانه : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) [التكوير : ١٥ ـ ١٧] ويستغني عن تكرار حرف القسم بنيابة العاطف منابه فليفهم. وأيّا ما كان فحاصل المعنى أتاهم عذابنا تارة ليلا كقوم لوط عليه‌السلام وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب عليه‌السلام. والقيلولة من قال يقيل فهو قائل ويقال قيلا وقائلة ومقالا ومقيلا ، وهي ـ كما في القاموس ـ نصف النهار أو هي الراحة والدعة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم كما في النهاية ، واستدل بقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] إذ الجنة لا نوم فيها.

وقال الليث : هي نومة نصف النهار ، ودفع الاستدلال بأن ذلك مجاز ، وإنما خص إنزال العذاب عليهم في هذين الوقتين لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة ، وفي التعبير في الحال الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات وفي الحال الثانية بالجملة الاسمية المفيدة في المشهور للثبوت مع تقديم المسند إليه المفيد للتقوى ما لا يخفى من المبالغة ، وكذا في وصف الكل بوصف البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما إيذان بكمال الأمن والغفلة ، وفي هذا ذم لهم بالغفلة عما هم بصدده ، وإنما خولف بين العبارتين على ما قيل وبنيت الحال الثانية على تقوى الحكم والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لأن


القيلولة أظهر في إرادة الدعة وخفض العيش فإنها من دأب المترفين والمتنعمين دون من اعتاد الكدح والتعب. وفيه إشارة إلى أنهم أرباب أشر وبطر.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي دعاؤهم واستغاثتهم كما في قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) [يونس : ١٠] وقول بعض العرب : فيما حكاه الخليل. وسيبويه : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أو ادعاءهم كما هو المشهور في معنى الدعوى (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) عذابنا وشاهدوا أماراته (إِلَّا أَنْ قالُوا) جميعا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا وندامة وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة. وفي جعل هذا الاعتراف عين ذلك مبالغة على حد قوله :

تحية بينهم ضرب وجيع

و (دَعْواهُمْ) يجوز فيه ـ كما قال أبو البقاء ـ أن يكون اسم كان والخبر (إِلَّا أَنْ قالُوا) وأن يكون هو الخبر و (إِلَّا أَنْ قالُوا) الاسم ، ورجح الثاني بأن جعل الأعرف اسما هو المعروف في كلامهم. والمصدر هنا يشبه المضمر لأنه لا يوصف وهو أعرف من المضاف. وأورد عليه أن الاسم والخبر إذا كانا معرفتين وإعرابهما غير ظاهر لا يجوز تقديم أحدهما على الآخر فتعين الأول. وأجيب عنه بأن ذلك عند عدم القرينة والقرينة هنا كون الثاني أعرف وترك التأنيث ، وأيضا ذاك إذا لم يكن حصر فإن كان يلاحظ ما يقتضيه. ورجح في الكشف الثاني بأنه الوجه المطابق لنظائره في القرآن.

والمعنى عليه أشد ملاءمة لأن الفرض أن قولا آخر لم يقع هذا الموقع ، فالمقصود الحكم على القول المخصوص بأنه هو الدعاء وزيد تأكيدا بإدخال أداة القصر ، وليس من التقديم في شيء لأن حق المقصور عليه التأخير أبدا فتأمل وتذكر (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) ـ بيان ـ كما قال الطبرسي ـ لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي خلا أنه تعرض كما قيل لبيان مبادئ أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل في التهويل. والفاء عند البعض لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها عليها وجودا. وذكر العلامة الطيبي أن الفاء فصيحة على معنى فما كان دعواهم في الدنيا إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا فقطعنا دابرهم ثم لنحشرنهم فلنسألنهم ، ووضع على هذا الظاهر موضع الضمير لمزيد التقرير.

وقال في الكشف : لعل الأوجه أن يجعل هذا متعلقا بقوله تعالى : (اتَّبِعُوا وَلا تَتَّبِعُوا) ويجعل قوله سبحانه : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) إلخ معترضا حثا على الاعتبار بحال السابقين ليتشمروا في الاتباع اه. والأمر عند من جعل الكلام السابق على التقديم والتأخير وادعى أن مجيء البأس في الآخرة سهل كما لا يخفى ، أي لنسألن الأمم قاطبة أو هؤلاء قائلين : ما ذا أجبتم المرسلين؟ (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) ما ذا أجيبوا ، والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم ، والمنفي في قوله تعالى : يوم (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) سؤال الاستعلام فلا منافاة بين الآيتين ، وجمع آخرون بينهما بأن للمثبت موقفا وللمنفي آخر. وقال الإمام : إنهم لا يسألون عن الأعمال أي ما فعلتم ولكن يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال والصوارف التي صرفتم عنها أي لم كان كذا ، وقيل : معنى (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] لا يعاقب بذنبه غيره ، وقيل : المراد من الذين أرسل إليهم الأنبياء ومن المرسلين الملائكة الذين بلغوهم رسالات ربهم.

وروي ذلك عن فرقد وهو كما ترى ، وقيل : لا حاجة إلى التوفيق فإن المنفي هو السؤال عن الذنب لا مطلق


السؤال. ورد بأن عدم قبول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ذنب وأي ذنب فسؤالهم عنه ينافيه وفيه نظر.

وتخصيص سؤال المرسلين عليهم‌السلام بما ذكرنا هو الذي يشهد به الأخبار وتدل عليه الآثار ، وفي القرآن ما يؤيد ذلك فقد قال سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] وتخصيص سؤال الذين أرسل إليهم بما تقدم هو الذي جرى عليه جماعة من المفسرين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه يقال للذين أرسل إليهم : هل بلغكم الرسل؟ ويقال. للمرسلين : ما ذا ردوا عليكم. وأخرج أيضا عن القاسم أبي عبد الرحمن أنه تلا هذه الآية فقال : يسأل العبد يوم القيامة عن أربع خصال يقول ربك ألم أجعل لك جسدا ففيم أبليته؟ ألم أجعل لك علما ففيم عملت بما عملت؟ ألم أجعل لك مالا ففيم أنفقته في طاعتي أم في معصيتي؟ ألم أجعل لك عمرا ففيم أفنيته؟. وأخرج هو وغيره عن طاوس أنه قرأ ذلك فقال الإمام : يسأل عن الناس والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسئل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده ، ولعل الظاهر أن سؤال كل من المرسل إليهم والمرسلين هنا عن أمر يتعلق بصاحبه ، ولا يأبى هذا أن المكلفين يسألون عن أمور أخر والمواقف يوم القيامة شتى ويسأل السيد ذو الجلال عبادة فيها عن مقاصد عديدة فطوبى لمن أخذ بعضده السعد فأجاب بما ينجيه.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) قيل أي على الرسل حين يكلون الأمر إلى علمه تعالى ويقولون (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩] أو عليهم وعلى المرسل إليهم جميعا جميع أحوالهم. وعن ابن عباس أنه ينطق عليهم كتاب أعمالهم (بِعِلْمٍ) أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم ، والباء على الأول للملابسة ؛ والجار والمجرور حال من فاعل «نقص» ، وعلى الثاني الباء متعلق بنقص (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم في حال من الأحوال ، والمراد الإحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم بحيث لا يشذ منها شيء عن علمه سبحانه ، والجملة إما حال أو استئناف لتأكيد ما قبله. (وَالْوَزْنُ) أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء. وهو مبتدأ وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ) متعلق بمحذوف خبره ، وقوله تعالى (الْحَقُ) صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص. واختار هذا بعض من المعربين ، وقيل : الظاهر أن (الْحَقُ) خبر و (يَوْمَئِذٍ) ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف.

ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل. وفي الكشف ليس المعنى على أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧]. وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن (الْحَقُ) بدل من الضمير المستتر في الظرف ، وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدإ لا سيما والظرف يتوسع فيه. وجوز أبو البقاء أن يكون (الْحَقُ) خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ما ذلك الوزن؟ فقيل : هو الحق أي العدل السوي. وأن يكون (الْوَزْنُ) خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا الوزن. وهو كما ترى. وقرئ (الْقِسْطَ) والوزن ـ كما قال الراغب ـ معرفة قدر الشيء يقال : وزنته وزنا وزنة ، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان. واختلف في كيفيته يوم القيامة. والجمهور ـ كما قال القاضي ـ على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة كما يسألون من أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم. ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها.

ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم عن عبد الله بن


عمرو بن العاص : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون لا يا رب فيقول : فيقول سبحانه أفلك عذرا أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول لا يا رب فيقول جل شأنه : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء» وهذه الشهادة ـ على ما قاله القرطبي نقلا عن الحكيم الترمذي ـ ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معا فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات. وأيد ذلك بقوله جل وعلا في الحديث : «إن لك عندنا حسنة» دون أن يقول سبحانه : إيمانا. وجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا. وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد ، ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر. وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا. والنميري في كتاب الإعلام عن عبد الله أيضا قال : إن لآدم عليه‌السلام من الله عزوجل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه‌السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة والسلام : لبيك يا أبا البشر فيقول : هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول : يا رسل ربي قفوا فيقولون : نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما أمرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول : يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطاقة بيضاء كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي. قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول : بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة والسلام : أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون إليها انتهى.

ولعل فعل مثل هذا ـ إذا صح الخبر ـ مبالغة في إظهار كرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه عزوجل بين الأولين والآخرين.

وقيل : توزن الأشخاص ، واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «إنه ليؤتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى من الميزان إذا وضع المذنب في إحداهما ، ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى ، والخبر ليس نصا في الدعوى كما لا يخفى ، وقيل : إن هذه الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال : إن عليه الاعتقاد ، وفي الآثار ما يؤيده. فقد أخرج ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له : أتدري ما هذا؟ فيقول : لا فيقال له : هذا أفضل العلم الذي كنت تعلمه الناس ، وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه.


وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية وبه قال مجاهد ، والأعمش ، والضحاك ، وإليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز الوزن بالمعنى المتعارف عقلا وإن لم يقض بثبوته كالعلاف. وبشر بن المعتمر ، ومنهم من أحاله لأن الأعمال أعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن إعادتها ، سلمنا بقاءها أو إمكان إعادتها لكنها إعراض والإعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة ، سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك وما لا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح ، وجوابه يعلم مما قدمنا.

وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والإنصاف. واعترض الآمدي على ذلك بأن الميزان موصوف بالثقل والخفة والعدل والإنصاف لا يوصفان بذلك ، وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسع فتقول الملائكة : يا رب من يزن هذا؟ فيقول الله تعالى : من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال : يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة : من يزن هذا؟ الحديث.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خلق الله تعالى كفتي الميزان مثل السماوات والأرض فقالت الملائكة : يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال : أزن به من شئت» وفي بعض الآثار «أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه‌السلام فرأى من الميزان ما هاله حتى أغمي عليه فلما أفاق قال : يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه : يا داود إذا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فالأولى ـ كما قال الزجاج ـ اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضى للعدول عن ذلك ، فإن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن. والموازين إما جمع ميزان ، وجمعه ـ مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقا واحد ـ باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات ، وكذا إذا قلنا بأن ميزان كل شخص واحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه ، وإما جمع موزون وإضافته للعهد لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات ، والجمع على هذا ظاهر ، وكذا لو قلنا إن لكل عمل ميزانا (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة ، والجمعية باعتبار معناه كما أن إفراد ضمير «موازينه» العائد إليه باعتبار لفظه ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة ، وهو مبتدأ و (هُمُ) إما ضمير فصل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه و (الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنجاة والثواب خبر ، وإما مبتدأ ثان و (الْمُفْلِحُونَ) خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ، وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم.


(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة.

وقوله تعالى : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) متعلق بخسروا ، وإما مصدرية و (بِآياتِنا) متعلق بيظلمون ؛ وقدم عليه للفاصلة ، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود ، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا. وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض. وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب. وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين. وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت ، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء ، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي : إن المعتمد أنه مخصوص به ، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية ، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول. ومن هنا استدل بعضهم على عدم وجود هذا القسم ، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٢] وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترغيب.

وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣] على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم ، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا.

وقيل : أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك ، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة ، والجمهور على التصريح بالياء فيها ، وروي عن نافع معايش بالهمز وغلّطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال : إن نافعا لم يكن يدري بالعربية ، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته ، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضا.

وقول سيبويه : إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس ، وكثيرا ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى ، والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له ؛ وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه ـ كما قال بعض المحققين ـ للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن ، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم ، وقيل : إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول ، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر ، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تلك النعمة الجسمية ، وهو تذييل مسوق لبيان سوء المخاطبين وتحذيرهم. قال الطيبي : والتذييل بذلك


لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل ، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) تذكير لنعمة أخرى ، وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة. وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة ، والمراد خلق آدم عليه‌السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه‌السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب.

وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف ، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه‌السلام ، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه‌السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم. وجوز أن يكون التجوز في الفعل ، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه ، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أول أفراده. فهو نظير قوله تعالى : (خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) [السجن : ٧] وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وزعم الأخفش أن (ثُمَ) هنا بمعنى الواو ، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره ، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه‌السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا إلخ ، وقيل : إن (ثُمَ) لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه ، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة إلخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي. وغيرهما ، وقال الطيبي : يمكن أن تحمل (ثُمَ) على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال : إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم ، وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة. ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم.

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه‌السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا إلخ. وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود ، وكذا الكلام في المراد بالسجود.

وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال : ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الآمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه‌السلام على ما نطق به قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩] والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل ، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له ، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه‌السلام (فَسَجَدُوا) أي الملائكة عليهم‌السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في «سجدوا» ثم استثنى استثناء واحد منهم. وقيل : منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب ، والأول هو المختار.


وذكر قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي ممن سجد لآدم عليه‌السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم ، والمراد الثاني أي إنه لم يصدر منه السجود مطلقا لا معهم ولا منفردا. وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل ، ونظر فيه بأن التنصيص المذكور لا يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر ، وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال : إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا ، فقال الشافعي : نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة ، ويوافقه ظاهر عبارة الهداية.

وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة. وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه ، وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة. واختار صاحب البحر أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى.

وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب : إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به ، وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من شرح المغني ، وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة ، وعلى كل فالمقام يا بني الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم.

وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الإتيان بها ضائعا لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله. ولا يخفى ما فيه على من أحاط علما بما ذكرنا. واعترضه البعض أيضا بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل ، ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا ، ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم.

(قالَ) استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل : فما ذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه ـ كما قيل ـ يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة. وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين. (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) [ص : ٧٥] وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] أي ليعلم ، وهي في ذلك ـ كما قال غير واحد ـ لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه.

واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه. قال الشهاب : والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به. ومن هنا قالوا : إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل : إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازا عن الإلجاء والاضطرار. فالمعنى ما اضطرك إلى أن لا تسجد. وجعله السكاكي مجازا عن الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد؟ وليس بين الجعلين كثير فرق.

وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين ، وقال الراغب : المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل ويقال في الحماية ، ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه. والمنع في الآية من الثاني أي ما حماك عن عدم السجود (إِذْ أَمَرْتُكَ) بالسجود ، و (إِذْ) ظرف لتسجد ، وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن


الأمر للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولو لا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد. وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩] وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ ، وقال آخرون : إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه : (إِذْ أَمَرْتُكَ) ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر ، وفي حكاية التوبيخ هاهنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣٢] وفي سورة ص بقوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وبطلان ما ارتكبه ، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل.

(قالَ) استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل : فما ذا قال اللعين عند ذلك؟ فقيل : قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير؟ وفيه دعوى شيء بين الاستلزام المقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به؟ فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقليين.

وقوله تعالى : حكاية عنه (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه ، عليه‌السلام ، وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشراف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه ، وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل ، على أن من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين ، وأيضا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع :

إنما الورد من الشوك ولا

ينبت النرجس إلا من بصل

ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن ، وأيضا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرّف بمادته وعنصره يشرّف بفاعله وغايته وصورته ، وهذا الشرف في آدم عليه‌السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه ، وأيضا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاط لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى ، وإلى هذا أشار ظافر الإسكندري بقوله :

أنت المراد بنظم كل قصيدة

بنيت على الافهام في تبجيله

كسجود أملاك السماء لآدم

وسجودهم لله في تأويله

ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم. وقال بعضهم : إنه لم يسلم أنه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم


بالقياس. واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس. وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل.

وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال : أنا خير منه» إلخ. قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقا.

وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله. وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه‌السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما ، وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنارية لما تركب منهما ما تركب ، وعلى أن إبليس. ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة ، قيل : ولعل إضافة خلق آدم عليه‌السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب ، وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع.

(قالَ) استئناف كما سلف ، والفاء في قوله تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) لترتيب الأمر على ما ظهر منه من الباطل ، وضمير (مِنْها) قيل للجنة ، وكونه من سكانها مشهور ، والمراد بها عند بعض الجنة التي يسكنها المؤمنون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها روضة بعدن وفيها خلق آدم عليه‌السلام وكانت على نشز من الأرض في قول. وأصل الهبوط الانحدار على سبيل القهر كما في هبوط الحجر. وإذا استعمل في الإنسان ونحوه فعلى سبيل الاستخفاف كما قال الراغب.

ولم يشترط بعضهم فيه سوى الانتقال من شريف إلى ما دونه لقوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة: ٦١] والأمر عليه واضح وإن لم نقل : إن تلك الجنة كانت على نشز ، وقيل : الضمير لزمرة الملائكة أي اخرج من زمرة الملائكة المعززين ، فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط. وفي سورة (فَاخْرُجْ مِنْها) [الحجر : ٣٤] وقيل : الضمير للسماء ، وإليه ذهب جماعة. ورد بأن وسوسته لآدم عليه‌السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين السابقين قطعا ، ويكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك الجنة أو زمرة الملائكة أيضا بناء على أن الأولى ومعظم الثانية في السماء أو يقال : إن القصة وقعت في الأرض وكانت الجنة فيها وبعد العصيان حجب اللعين من السماء التي هي مقره ومعبده ، ومعنى أمره بالخروج منها أمره بقطع علائقه عنها واتخاذها مأوى له بعد. وهذا كما تقول لمن غصب دارك مثلا عند نحو القاضي : أخرج من داري مع أنه إذ ذاك ليس فيها تريد لا تدخلها واقطع علائقك عنها ؛ وقيل : الضمير للأرض.

فقد روي أنه أخرج منها إلى الجزائر وأمر أن لا يدخلها إلا خفية ، ويبعده أنه لا يظهر للتخصيص في قوله تعالى :

(فَما يَكُونُ لَكَ) أي فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) على هذا وجه إلا على بعد.

وأما على الأوجه السابقة فالوجه ظاهر وهو مزيد شرافة المخرج منه وعلو شأنه وتقدس ساحته. ومن هنا يعلم أنه لا دلالة في الآية على جواز التكبر في غير ذلك عند القائلين بالمفهوم ، والجملة تعليل للأمر بالهبوط ولا يخفى لطافة التعبير به دون الخروج في مقابلة قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) المشير إلى ارتفاع عنصره وعلو محله ، والتكبر ـ على ما قيل ـ كالكبر وهو الحالة التي يختص بها الشخص من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من


غيره وأعظم ، والمراد بالتكبر هاهنا إما التكبر على الله تعالى وهو أعظم التكبر. ويكون بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة.

وفسره بعضهم بالمعصية. وإما التكبر على آدم عليه‌السلام بزعمه أنه خير منه وأكبر قدرا. وقيل : المراد ما هو أعم منه ومن التكبر على الملائكة حيث زعم أن له خصوصية ميزته عليهم وأخرجته من عمومهم وفيه تأمل. وزعم البعض أن في الآية تنبيها على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة فكما يمنع من القرار فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه ، وهو ظاهر على أحد الاحتمالات كما لا يخفى. والظرف إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا. وقوله تعالى : (فَاخْرُجْ) تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. وقوله سبحانه : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك.

أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : من تواضع لله رفعه الله تعالى ، ومن تكبر وضعه الله عزوجل» ومن حديثه رضي الله تعالى عنه «من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال : انتعش نعشك الله ومن تكبر وعدا طواره ، وهصه الله تعالى إلى الأرض» وقيل : المراد من الأذلاء في الدنيا بالذم واللعن. وفي الآخرة بالعذاب بسبب ما ارتكبه من المعصية والتكبر ، وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار.

أخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له : بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار» وفسر بعضهم الصاغر بالراضي بالذل كما هو المشهور فيه. والمراد وصفه بأنه خسيس الطبع دنيء وأنه رأى نفسه أكبر من غيره وليس بالكبير. ولقد أبدع أبو نواس بقوله خطابا له :

سوأة يا لعين أنت اختلست الن

اس غيظا عليهم أجمعينا

تهت لما أمرت في سالف الده

ر وفارقت زمرة الساجدينا

عند ما قلت لا أطيق سجودا

لمثال خلقته رب طينا

حسدا إذ خلقت من مارج الن

ار لمن كان مبتدا العالمينا

ثم صيرت في القيادة تسعى

يا مجير الزناة واللائطينا

وله أيضا من أبيات فيه :

تاه على آدم في سجدة

وصار قوادا لذريته

(قالَ) استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فما ذا قال اللعين بعد ما سمع ما سمع؟ فقيل : قال : (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي آدم عليه‌السلام وذريته وهو وقت النفخة الثانية ، وأراد بذلك أن يجد فسحة في الإغواء وأخذ الثأر ونجاة من الموت إذ لا موت بعد البعث (قالَ) استئناف كما مر (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ظاهره إلى يوم يبعثون حيث وقع في مقابلة كلامه لكن في سورة الحجر وص التقييد بيوم الوقت المعلوم ، واختلف في المراد منه فالمشهور أنه يوم النفخة الأولى دون يوم البعث لأنه ليس بيوم موت ، وجوز بعضهم أن يكون المراد منه يوم البعث ولا يلزم أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه :


وفي كتاب العرائس عن كعب الأحبار أن إبليس إنما يذوق طعم الموت يوم الحشر وذكر في كيفية موته وقبض عزرائيل روحه ما يقتضي منه العجب ، ولم يرتض ذلك الفاضل السفاريني وقال في كتابه البحور الزاخرة : أخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا يلبثون ـ يعني الناس ـ بعد يأجوج وماجوج حتى تطلع الشمس من مغربها فتجف الأقلام وتطوى الصحف فلا يقبل من أحد توبة ويخر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت وتجتمع إليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من نفزع؟ فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث فانظرني إلى يوم الوقت المعلوم وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا يوم الوقت المعلوم وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل : هذا قريني الذي كان فالحمد لله الذي أخزاه ولا يزال إبليس ساجدا باكيا حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد انتهى.

ومنه يعلم أن المراد باليوم المعلوم ما صرح به اللعين وهو قبل يوم النفخة الأولى بكثير ، وهذا قول لم نر أحدا من المفسرين ذكره وهو الذي ارتضاه هذا الفاضل وقال : إن الخبر في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي وليس ابن مسعود ككعب الأحبار ممن يتلقى من كتب أهل الكتاب.

وأنت تعلم أنه إن صحت نسبة هذا الخبر إلى ابن مسعود ينبغي أن لا يعدل إلى القول بما يخالفه ولكن في صحة نسبته إليه رضي الله تعالى عنه عندي تردد. وقيل : المراد به وقت يعلم الله تعالى انتهاء أجله فيه وقد أخفى عنا وكذا عن اللعين ، وأوجب على هذا أن يكون قبل النفخة الثانية. واستدل له بعضهم بأن اللعين كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحا. وأجيب بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء عليهم‌السلام أو على الكفر والمعاصي كإبليس وأشياعه فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام ، وظاهر النظم الكريم عند غير واحد أن هذه إجابة لدعائه كلا أو بعضا ، وفي ذلك دليل لمن قال : إن دعاء الكافر قد يستجاب وهو الذي ذهب إليه الدبوسي وغيره من الفقهاء خلافا لما نقله في البزازية عن البعض من أنه لا يجوز أن يقال : إن دعاء الكافر مستجاب لأنه لا يعرف الله تعالى ليدعوه ، والفتوى على الأول للظاهر ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كافرا».

وحمل الكفر على كفران النعمة لا كفران الدين خلاف الظاهر ، ولا يلزم من الاستجابة المحبة والإكرام فإنها قد تكون للاستدراج. وقال بعض المحققين : الجملة إخبار عن كونه من المنظرين في قضاء الله تعالى من غير ترتب على دعائه ، وادعى أن ورودها اسمية مع التعرض لشمول ما سأله اللعين الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أن ذلك إخبار بأن الإنظار المذكور لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به إجابة لدعائه ، ويعلم من ذلك أيضا أن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ولا يخلو عن حسن ، والحكمة في أنظاره ذلك الزمن الطويل مع ما هو عليه اللعنة من الإفساد مما ينبغي أن يفوض علمها إلى خالق العباد.

وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة وقد ذكرت في التوراة ، وهي أن اللعين قال للملائكة : إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمه أسئلة ، الأول : ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار. الثاني : ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله


لهم من غير واسطة التكليف. الثالث : هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم. الرابع : لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه عظم الضرر. الخامس : أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم. السادس : لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ، ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا ، قال شارح الأناجيل : فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل انتهى.

وفي السؤال السادس ما يؤيد القول الأول في الجملة. ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الإمام : إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما. ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال : قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا إن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا فقيل له : ما هو؟ فقال قولي :

لك جسمي تعله

فدمي لم تطله

فابتدر أبو فراس قائلا :

قال إن كنت مالكا

فلي الأمر كله

وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظم الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده. وتعقبه العلامة الثاني كغيره بأنه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم إسناد خلق القبائح والشرور إليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه لا يدفع السؤال ، ولأن ما في متابعته من أليم العقاب أضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الإنظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة. ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد : والأولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مما نقول به لأن معرفة ذلك في غاية الصعوبة على أرباب القال وأهل الجدل. هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر فيهما.

فإن قلت : لا ريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه ونقول حينئذ : لا نخفي أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) [الحجر : ٣٦ ، ص : ٧٩] حسبما حكي عنه في السورتين فما حكي عنه هاهنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز.


«قلت» : أجاب مولانا شيخ الإسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بأن مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الأخبار بالإنظار على الاستنظار. وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين وفى كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه ، وأما هاهنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب. ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام. فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الإفادة فقد تراعى وقد لا تراعى حسب الاقتضاء. ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات لم يراعها المتكلم أصلا بل قد لا يقدر على مراعاتها. وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل وإلا لما كان الكثير منها معجزا ، وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فإن كان مقتضاه موافقا لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا فليفهم.

(قالَ) استئناف كنظائره (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الأنظار. والباء أما للقسم أو للسببية. وما على التقديرين مصدرية ، والجار والمجرور متعلق بأقسم ؛ وقيل : إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام ، وفيه أن لها الصدد على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي. وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته ، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم : ٢] وبمعنى الخيبة كما في قوله :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

ومنه قوله تعالى : «وعصى آدم ربه فغوى» واستعمل بمعنى العذاب مجازا بعلاقة السببية. ومنه قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عزوجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢ ، الرعد : ١٦ ، الزمر : ٦٢] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة : إنه قول الشيطان فليس بحجة ، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الآمر بالسجود.

وقال بعضهم : إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له ، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحانه لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى ، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين.

ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر ، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي لآدم عليه‌السلام وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك.


أخرج أحمد ، والنسائي ، وابن حبان ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان عن سبرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقا على الله تعالى أن يدخله الجنة» ولعل الاقتصار منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر. ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما. وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل ، ونصب الصراط إما على أنه مفعول به بتضمين «أقعدن» معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفية وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلا ، ومن ذلك في المشهور قوله :

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها ، والمراد لأسوّلن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية و (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) على ما قيل ترشيح لها ، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش ، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وروي أيضا عن عكرمة. والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضا ، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمها في الممثل.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) من جهة حسناتهم وسيئاتهم ، وتفسير الإيمان بالحسنات والشمائل بالسيئات لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال :

بثين أفي يمنى يديك جعلتني

فأفرح أم صيرتني في شمالك

وقال الأصمعي : يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك ، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات. ونظير هذا ما قيل : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من حيث لا يعلمون و (عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك ، وقال بعض حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعا : القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ). والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ). والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن


يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ). والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله : (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة ، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى ، وقيل : غير ذلك ، وإنما عدي الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ، ونظيره قولهم : جلست عن يمينه ، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن الانفصال ، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل ، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها ، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين (مِنْ) الاتصالية وفي الآخرين (عَنْ) الانفصالية ، وقيل : خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى ، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة ؛ وحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» من باب التمثيل. وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي مطيعين ، وإنما قال ذلك ظنا كما روي عن الحسن. وأبي مسلم لقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب. والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وأنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد :

أرى ألف بان لا يقوم بهادم

فكيف يبان خلفه ألف هادم

وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع ، وقيل : إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ.

ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولا واحدا وهو (أَكْثَرَهُمْ) وشاكرين حال ، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما (شاكِرِينَ) والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة ، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضا لا بمجرد إغوائه ، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر (قالَ) استئناف كما مر غير مرة : (اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق (مَذْؤُماً) أي مذموما كما روي عن ابن زيد أو مهانا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وفعله ذأم. وقرأ الزهري «مذوما» بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها ، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم. مكول في مكيل مع أنه من الكيل ، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى : (مَدْحُوراً) وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد ، وجوز في هذا أن يكون صفة ، واللام في قوله سبحانه : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) على ما في الدر المصون موطئة للقسم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عزّ اسمه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) جواب القسم وهو سادّ مسد جواب الشرط ، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور ، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها (تَبِعَكَ) والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم «لمن» بكسر اللام فقيل : إنها متعلقة بلأملأن. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وقيل : إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك ، وقيل : إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخرا أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل عليه قوله سبحانه : (لَأَمْلَأَنَ) إلخ ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله : أن (لَأَمْلَأَنَ) في محل المبتدأ و (لَمَنْ تَبِعَكَ)


خبره كما يرشد إليه بيان المعنى. و (مِنْكُمْ) بمعنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه : (أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل : ٥٥] ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لإبليس عليه اللعنة كانت منه عزوجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف ، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (المص) الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام. وقد يقال : الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفا كرى الشكل قابلا لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس‌سره : فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصورة المتعددة أوله وآخره سواء ، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس‌سره في فتوحاته من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفا فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) من قرى القلوب (أَهْلَكْناها) أفسدنا استعدادها (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) تحت ظلال الأمل في نهار المشيب (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال. وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم وهلاكه (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) إذ جعلناكم خلفاء فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) متعددة دون غيركم فإن له معيشة واحدة. وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان. وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود. ومعيشة السر بالكشوف. ومعيشة سر السر بالوصال (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ولو شكرتم ما رضيتم بالدون.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه‌السلام وتصويره (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فإنه المظهر الأعظم ، وفي الخبر خلق الله آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن (فَسَجَدُوا) وانقادوا للحق (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لنقصان بصيرته (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه‌السلام ليس كذلك (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي من تلك الحضرة (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) لأن الكبر ينافيها (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوبا عنها بل كان محجوبا عن الذات الأحدية (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) وهو طريق التوحيد (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي لأجتهدن في إضلالهم ، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك ، وفي تأويلات النيسابوري كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب ، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي


الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية ونحو ذلك ، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١) مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) حقيرا (مَدْحُوراً) مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) فتبقون محبوسين في سجن الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(٣١)

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ) اي وقلنا كما وقع في سورة البقرة فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه : (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) على ما ذهب إليه غير واحد من المحققين ، وإنما لم يعطفوه على ما بعد

__________________

(١) الى هنا ربع القرآن ولله الحمد اه منه.


(قالَ) أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم ، ولا على ما بعد (قُلْنا) لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم.

وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد (قالَ) وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر ، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به ، وتخصيص الخطاب بآدم عليه‌السلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به. و (اسْكُنْ) من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة ، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه : (أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه‌السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحا ، والمعنى : فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة ، ولم يذكر (رَغَداً) [البقرة : ٣٥ ، ٥٨] هنا ثقة بما ذكر هناك.

وقوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرئ «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت. قال ابن جني : ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر : ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى الياءين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي.

(فَتَكُونا) أي فتصيرا (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم ، وتكونا يحتمل الجزم على العطف على (تَقْرَبا) والنصب على أنه جواب النهي (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي : وسوسة ، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة ، وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال : رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي. وقال غيره : يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة.

(لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما ، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه. وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها ، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة ، ويكون هذا مبينا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح. قيل : وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.

(ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وجمع السوءات على حد (صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] واعتبار الاجزاء بعيد ، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته : وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه ، و (وُورِيَ) بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة.

وقرأ عبد الله «أورى» بالهمزة لأن القاعدة إذ اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظيرا متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة. وقرئ «سوأتهما» بالإفراد والهمزة على الأصل و «سوتهما» بإبدال الهمزة واوا


وإدغام الواو في الواو ، وقرئ «سواتهما» بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و «سوأتهما» بالطرح وقلب الهمزة واوا الإدغام (وَقالَ) عطف على وسوس بطريق البيان (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) أي الأكل منها (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة.

وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير (مَلَكَيْنِ) بكسر اللام. قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث إن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه ، وارتكب آدم عليه‌السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلو لا أنه أفضل لم يرتكبه ، وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه ، وأيضا قد يقال : إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل ، واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة ، ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له : إن آدم وحواء هل صدقا قول الشيطان : معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين ، وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ.

وادعى بعضهم أن المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر. وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال : إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك ، وهو كما ترى (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أقسم لهما ، وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه ، وقيل : المفاعلة على بابها ، والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقه فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول.

وتعقب بأن هذا إنما يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال : سمي قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى) [الأعراف: ١٤٢] أنه سمي التزام موسى عليه‌السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعادا فأسند التعبير بالمفاعلة ، وقيل : قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين؟ وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة. وعلى هذا فيكون ـ كما قال ابن المنير ـ في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما‌السلام لا يقسمان بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب ، وقيل : إنه إلى التغليب أقرب ، وقيل : إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما : إني لكما لمن الناصحين (فَدَلَّاهُما) أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره. وعن الأزهري أن معناه أطمعهما. وأصله من تدلية العطشان شيئا في البئر فلا يجد ما يشفي غليله. وقيل : هو من الدالة وهي الجرأة في كما قال :

أظن الحلم دل على قومي

وقد يستجهل الرجل الحليم


فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء (بِغُرُورٍ) أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به ، فالباء للمصاحبة أو الملابسة. والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول. وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه ، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا. وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه.

وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا. وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال : ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية ، وقال القطب : يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله : (ما نَهاكُما) إلخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه (وَقاسَمَهُما) فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] وجعل العتاب الآتي عى ترك التحفظ فتدبر (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي أكلا منها أكلا يسيرا (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) قال الكلبي : تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا (وَطَفِقا) أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال (يَخْصِفانِ) أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بإلصاق بعضها ببعض. وقيل أصله الضم والجمع (عَلَيْهِما) أي على سوآتها أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر. وقيل : الضمير عائد على «سوءاتهما».

(مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة. وقيل : الموز وقرأ الزهري (يَخْصِفانِ) من أخصف ، وأصله خصف إلا أنه ـ كما قال الجاربردي ـ نقل إلى أخصف للتعدية ، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير. وجوز بعضهم كون خصف واخصف بمعنى. وقرأ الحسن «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال ، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ يعقوب بفتحها وقرئ «يخصّفان» من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق (وَناداهُما رَبُّهُما) بطريق العتاب والتوبيخ (أَلَمْ أَنْهَكُما) تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا : ألم أنهكما (عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها ، والتثنية لتثنية المخاطب.

(وَأَقُلْ لَكُما) عطف على «أنهكما» أي ألم أقل لكما (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ، وهذا ـ على ما قيل : عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي. ولم يحك هذا القول هاهنا ، وقد حكي في سورة بقوله سبحانه : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [طه : ١١٧] الآية و (لَكُما) متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه.

واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي. والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أي ضررناها بالمعصية ، وقيل : نقصناها حظها


بالتعرض للإخراج من الجنة ، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر.

(وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) ذلك بعدم العقاب عليه (وَتَرْحَمْنا) بالرضا علينا ، وقيل : المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قبل. واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى. وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها ، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيئات وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما ، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه. وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة ، وكان قبل نبوة آدم عليه‌السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة ، والكلام في هذه المسألة مشهور (قالَ) استئناف كما مر مرارا (اهْبِطُوا) المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما‌السلام وإبليس عليه اللعنة ، وكرر الأمر له تبعا لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] وقيل : إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس.

واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم ، وقيل : إنه لهما فقط لقوله سبحانه : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه : ١٢٣] والقصة واحدة ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال : إن مختار الفراء هو هذا ، وقيل : إنه لهما ولإبليس والحية. واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة ، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه‌السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء ، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه‌السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له : أي شيء تريد يا آدم؟ قال : أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له : في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى هاهنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة ، ومثله ما روي عن محمد بن قيس قال : إنه عليه‌السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال : أطعمتني حواء فقال سبحانه : يا حواء لم أطعمتيه؟ قالت أمرتني الحية فقال للحية : لم أمرتها؟ قالت : أمرني إبليس فقال الله تعالى : أما أنت يا حواء فلأدمينّك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك. وأما أنت يا إبليس فملعون.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال من فاعل «اهبطوا» وهي حال مقارنة أو مقدرة ، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا؟ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو ، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر ، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما‌السلام فقد قيل : إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفى بذكرهما عنهم ، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان. وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه. ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف


والإيصال ، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه : (وَمَتاعٌ) أي بلغة (إِلى حِينٍ) يريد به وقت الموت ، وقيل : القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال : معنى «لكم» لجنسكم ولمجموعكم ، والظرف قيل : متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدرا ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع.

(قالَ) أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله. وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) عند البعث يوم القيامة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم (تُخْرَجُونَ) بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل (يا بَنِي آدَمَ) خطاب للناس كافة. واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام.

(قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن ، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول : رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو ، وقيل : المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ. وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز. ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد.

وقوله سبحانه : (يُوارِي) أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات. وعن الجبائي أن الكلام على حقيقة مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا. نعم أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أهبط آدم وحواء عليهما‌السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها : يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبرائيل عليه‌السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه.

وجاء في خبر آخر أنه عليه‌السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته.

وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه‌السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان. وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري (سَوْآتِكُمْ) أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روي غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية ، وقيل : إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام ، ولعل ذكر قصة آدم عليه‌السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم.

وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى (وَرِيشاً) أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له. وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة. ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره.

أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش. وتفسير الريش


بالزينة مروي عن ابن زيد. وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر. وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول ، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش ، وقال الطبرسي : إنه جميع ما ويحتاج إليه.

وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه «ورياشا» وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب.

(وَلِباسُ التَّقْوى) أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير. أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة. والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي. فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة ، ورفعه بالابتداء وخبره جملة (ذلِكَ خَيْرٌ) والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير.

وجوز أن يكون الخبر (خَيْرٌ) و (ذلِكَ) صفة لباس ، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما. واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه. ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل : إن «ذلك» بدل أو بيان لا نعت. وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل : إنه أنقص من ذي اللام ، وقيل : إنهما في مرتبة واحدة ، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير. وقرئ «ولباس» التقوى بالنصب عطفا على «لباسا» قال بعض المحققين : وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر (لِباسُ التَّقْوى) بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة ، وذكر على القراءة المشهورة أن «ذلك» إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة ، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل ـ لجين الماء ـ وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل.

(ذلِكَ) أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح (يا بَنِي آدَمَ) تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرئ «يفتننكم» بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة ، وقرئ «يفتنكم» بغير توكيد ، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب ، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم ، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه وكذا نسبه النزع إليه في قوله سبحانه. (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) والجملة حال من (أَبَوَيْكُمْ) أو من فاعل (أَخْرَجَ) ولفظ المضارع ـ على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقيا.

وقوله جل شأنه : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بأن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف ، والضمير في (إِنَّهُ) للشيطان.

وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في (يَراكُمْ) وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا


يصلح للتأكيد. وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر و (مِنَ) لابتداء الغاية و (حَيْثُ) ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة (لا تَرَوْنَهُمْ) في محل جر بالإضافة : وعن أبي إسحاق أن (حَيْثُ) موصولة وما بعد صلة لها. ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة. والمراد بهم هنا جنوده من الجن. وقرأ اليزيدي «وقبيله» بالنصب وهو عطف على اسم إن ، ويتعين كون الضمير للشيطان ، ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع.

والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون.

ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمقدّمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه‌السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول ـ كما قال البعض ـ على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف. وفيه دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشئ من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة. وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبرائيل عليه‌السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته. ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان. واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة. وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الأنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم ، بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة. وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة. على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر.

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم ، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة. وقوله سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب. وجوز عطفها على الصلة. والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح. والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية. والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك.


وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية ـ على ما قاله الطبرسي ـ حذف ، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها (قالُوا) جواب للناهين (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) محتجين بأمرين : تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه. وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير (أَمَرَنا) كما قيل لهم ولآبائهم. وحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف ، وقال الإمام : لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه ، وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ) إلخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه ، وقيل : إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم؟ قالوا وجدنا آباءنا فقيل : ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا : الله أمرنا بها والكلام حينئذ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا ؛ وقيل : لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا.

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تمام القول المأمور به ، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون ، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة ، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر ، وقيل : المراد بالعلم ما يشمل الظن (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها ؛ والقسط على ما قال غير واحد العدل ، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.

وقال الراغب : هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. ويقال : القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والأقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال : قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل. وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فإن كان إلى جهة الحق فعدل. ومنه قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة : ٤٢ ، الحجرات : ٩ ، الممتحنة : ٨] وإن كان إلى جهة الباطل فجور ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] والمراد به هنا ـ على ما نقل عن أبي مسلم ـ جميع الطاعات والقرب.

وروي عن ابن عباس ، والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله ، ومجاهد ، والسدي ، وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي ، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة ، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله ، والسجود مجاز عن الصلاة. وقال غير واحد : المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة ، والأمر على القولين للوجوب.


واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ، والأمر على هذا للندب. والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد. ومثله ما قيل : إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند آخرين. والواو للعطف وما بعده قيل : معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا. والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر ، وقال الجرجاني : إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى. وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية.

وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره. و (أَقِيمُوا) مقول له. وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا (وَادْعُوهُ) أي اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له. والدين بالمعنى اللغوي. وقيل : إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين (كَما بَدَأَكُمْ) أي أنشأكم ابتداء (تَعُودُونَ) إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله. وقال الزجاج : إنه متصل بقوله تعالى : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ولا يخفى بعده. ولم يقل سبحانه : يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء. وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقال قتادة : المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) [طه : ٥٥] وقيل : المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة.

وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة. ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا الكتاب (١) من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل (٢) على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال أي أشار ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيديه فنبذهما ثم قال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير».

وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى : كما كتب عليكم تكونون. وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] وعليه يكون قوله سبحانه : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) بيانا وتفصيلا لذلك ، ونظيره قوله تعالى : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٩٥] بعد قوله عزّ شأنه : «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» قيل وهو الأنسب بالسياق.

__________________

(١) الظاهر ان هذا صادر عن طريق التمثيل اه منه.

(٢) هو من قولهم : أجمل الحساب إذا تم ورد من التفصيل الى الجملة فاثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته وقوله : «فرغ ربكم» فذلكة الكلام ونتيجته.


وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال : إنه تعالى قدم في قوله سبحانه : «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشئون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول (هَدى) للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول : إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.

وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به ، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا) على هذا تعليل لقوله سبحانه : «وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرئ «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا ـ الحق أحق بالاتباع ـ مع القائل : إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون : إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع ، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه (وَفَرِيقاً حَقَ) خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.

واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان ، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير (تَعُودُونَ) بتقدير قد أو مستأنفتان ، وجوز نصب (فَرِيقاً) الأول و (فَرِيقاً) الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما ، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث ـ لحق ـ للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي ، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه : «ضلوا» (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.

ولعل الكلام من قبيل ـ بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه ، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك ، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة ، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل ، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي طواف أو صلاة ، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما ، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب


يطوفون بالبيت عراة حتى كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

فأنزل الله تعالى هذه الآية : وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه ، وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأحب أن ألبس أجمل ثيابي ، ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب ، وقيل : إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده ، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل : تمشطوا عند كل صلاة ، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر. ومثل ذلك ما أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا زينة الصلاة قالوا : وما زينة الصلاة؟ قال : البسوا نعالكم فصّلوا فيها».

وأخرج ابن عساكر. وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : في قوله سبحانه : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) إلخ «صلوا في نعالكم» (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما طاب لكم. قال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله من أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية ، ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا (وَلا تُسْرِفُوا) بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير ، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.

وقيل : المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين ، فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت» وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت : «رآني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف». وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص ، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع إليه سوى الشهوة ، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا ، وروي ذلك عن عكرمة ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل :

نصحته نصيحة قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبس ما تشتهيه الناس

فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي


ابن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له : قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال : وما هي؟ قال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطب في ألفاظ يسيرة قال : وما هي؟ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طلبا انتهى. وما نسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الإحياء مرفوعا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جسد ما اعتاد». وتعقبه العراقي قائلا : لم أجد له أصلا.

وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالقسم».

وتعقبه الدارقطني قائلا : لا نعرف هذا من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر.

وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها : «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد» ولم أر من تعقبه ، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحارث بن كلدة ما الدواء؟ قال : الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض ، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل ، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم. والجملة في موضع التعليل للنهي ، وقد جمعت هذه الآية ـ كما قيل ـ أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا


بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ(٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من الثياب وكل ما يتجمل به (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن ، والكتان ، والحيوان كالحرير ، والصوف ، والمعادن كالخواتم والدروع (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي المستلذات ، وقيل : المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في «من» لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. ونقل عن ابن الفرس أنه قال : استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال. وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و «يقول» قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.


وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز. وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا : يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليه ذلك ، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم.

وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم ، وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك ، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول : إن لي نساء وجوار فأزين نفسي كيلا ينظرن إلى غيري. وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل لقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه ، وقيل لبعضهم : أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال : فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين. نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها.

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشاركهم فيها غيرهم. وعن الجبائي أن المعنى : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب (خالِصَةً) على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقه. وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر و (لِلَّذِينَ) متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر احكام (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.

وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ونظائره مما تقدم تحقيقه.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل : ما يتعلق بالفروج (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل من (الْفَواحِشَ) أي جهرها وسرها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا.

وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل : الأول طواف الرجال بالنساء. والثاني طواف النساء بالليل عاريات (وَالْإِثْمَ) أي ما يوجب الإثم. وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب. وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش. وقيل : إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس ، والحسن البصري. وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر :

نهانا رسول الله أن نقرب الزنا

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وقول الآخر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع. والمشهور أن ذلك


من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم. وقال أبو حيان وغيره : إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر.

(وَالْبَغْيَ) الظلم والاستطالة على الناس. وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك.

وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل : جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة وبرهانا. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله :

لا ترى الضب بها ينجحر

وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم المهلكة (أَجَلٌ) أي وقت معين مضروب لاستئصالهم ـ كما قال الحسن ـ : وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل ، وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض.

وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا. وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب ، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا : التقدير ولكل أحد من أمة ، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الضمير ـ كما قال بعض المحققين ـ إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة ، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها. وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير. والإضافة لإفادة أكمل التمييز. وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بصيغة الجمع ، واستظهرها ابن جني وجعل الأفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة والفاء قيل : فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك. والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (ساعَةً) قطعة من الزمن في غاية القلة. وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا. ويستعمل الأول أهل الحساب غالبا. والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم. وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا. سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا. ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار. والمراد لا يتأخرون أصلا. وصيغة الاستغفار للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي ولا يتقدمون عليه.

والظاهر أنه عطف على «لا يستأخرون» كما أعربه الحوفي وغيره. واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الأخبار بالضروري كقولك : إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فما مضى ،


وقيل : إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط. فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه. وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى : «لا يستأخرون» فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم. وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] الآية. ولعل هذا مراد من قال : إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى : (لا يَسْتَأْخِرُونَ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ) [الأنعام : ٥٩] وقولهم : كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل ، أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) والحق العطف على الجملة الشرطية ، وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية ، وعليه لا محذور في العطف على (لا يَسْتَأْخِرُونَ) لعدم المشاركة في القيد ؛ وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة ، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران : الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه. والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا ، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه ، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بني العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك ، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار ـ كما قيل ـ لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب ، وأما في قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر : ٥ ، المؤمنون : ٤٣] من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله سبحانه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٣] فالأهم هناك بيان انتفاء السبق (يا بَنِي آدَمَ) خطاب لكافة الناس. ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه. وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال : إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) ـ حتى بلغ. فاتقون ثم بثهم. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم. وقيل : المراد ببني آدم أمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خلاف الظاهر. ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل. و «أما» هي إن الشرطية ضمت إليها ـ ما ـ لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط ، وقيل : إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه.

ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة. ومن ذلك قوله :

فأما تريني ولي لمة

فإن الحوادث أودى بها

ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة. ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه ، وقيل : إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد. وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم. وفي الإتيان


بأن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة وقالت المعتزلة : إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح.

وقوله سبحانه : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) صفة أخرى لرسل. وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جواب الشرط. ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط. والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ. وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) منكم (بِآياتِنا) التي تقص (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) ولم يقبلوها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لتكذيبهم واستكبارهم.

وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة. وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه. وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أو كذب ما قاله جل شأنه. والاستفهام للإنكار وقد مر تحقيق ذلك (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول. والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ. وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب (يَنالُهُمْ) أي يصيبهم (نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب. وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين. وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد.

وعن أبي صالح ما قدر من العذاب ، وعن الحسن مثله. وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية. وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من «نصيبهم» أي كائنا من الكتاب (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي حال كونهم متوفين لأزواجهم وحتى غاية نيلهم. وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله :

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

وقيل : إنها جارة. وقيل : لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء. وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر. وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى : (قالُوا) أي الرسل لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات (قالُوا ضَلُّوا) أي غابوا (عَنَّا) لا ندري أين مكانهم. فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقيق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي و (ما) وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلاة لاتصلت.

(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي اعترفوا على أنفسهم. وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف (أَنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (كافِرِينَ) عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا


حيث اتضح لهم حاله ، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على (قالُوا) وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام ـ على ما ذهب إليه غير واحد ـ غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب. وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في الآية وقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى (قالَ) أي الله عزوجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي مع أمم ، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني كفار الأمم من النوعين ، وقدم الجن لمزيد شرّهم (فِي النَّارِ) متعلق بادخلوا ، وجوز أن يتعلق (فِي أُمَمٍ) به ويحمل (فِي النَّارِ) على البدلية أو على أنه صفة (أُمَمٍ) ؛ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) من الأمم تابعة أو متبوعة في النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها ، وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون : أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى.

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار. وأصل (ادَّارَكُوا) تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل.

وعن أبي عمرو أنه قرأ «اداركوا» بقطع ألف الوصل وهو ـ كما قيل : مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل ، وقرأ «إذا أدركوا» بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل (قالَتْ أُخْراهُمْ) منزلة وهم الاتباع والسفلة (لِأُولاهُمْ) منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك ، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل ، واللام في (لِأُولاهُمْ) للتعليل لا للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أي مضاعفا كما روي عن مجاهد (مِنَ النَّارِ) والضعف ـ على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا ـ مثل الشيء مرة واحدة ، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد.

وقال الراغب : الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالثني والثني وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف ؛ وعلى ذلك قول الشاعر :

جزيتك ضعف الود لما اشتكيته

وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي

وإذا قيل : أعطه ضعفي واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه ، هذا إذا كان الضعف مضافا فإذا لم يكن مضافا فقلت : الضعفين فقد قيل : يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه.


ونصب (ضِعْفاً) على أنه صفة لعذاب ، وجوز أن يكون بدلا منه و (مِنَ النَّارِ) صفة العذاب أو الضعف (قالَ) سبحانه وتعالى : (لِكُلٍ) منكم ومنهم عذاب (ضِعْفٌ) من النار ، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق ، وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض ، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) [الجن : ٦] ، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال : إنه مخصوص ببعضهم ؛ وقيل : الأحسن أن يقال : إن ضعف الاتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : و (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ : ٣٢] وفيه ما فيه. والأولى أن يقال : إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب ، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعفت ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن ، واختار أن المعنى لكن منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه.

(وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر.

وقيل : إنه على الأول للاتباع ، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم «لا يعلمون» بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدراجه في الجواب ، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال : إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب.

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) حين سمعوا جواب الله تعالى لهم ، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه ، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخباره سبحانه بقوله جل وعلا : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وقيل : إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم «فما كان» إلخ وليس بشيء.

وأيا ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب ، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى. وقيل : المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه ، وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والمضاعف (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه. والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي. وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور. وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على (فَضْلٍ) : وقيل : هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا إلخ وهو خلاف الظاهر جدا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها


وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ) أي لأرواحهم إذا ماتوا (أَبْوابُ السَّماءِ) كما تفتح لأرواح المؤمنين. أخرج أحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوءا قالت اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان. فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» والأخبار في ذلك كثيرة وقيل : لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء.

وروي ذلك عن الحسن ، ومجاهد ، وقيل : لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل : المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة. وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله. وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا. وظاهر كلام أهل الهيئة الجديد جواز الخرق والالتئام على الأفلاك. وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى. والتاء في (تُفَتَّحُ) لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف ، وحمزة ، والكسائي به وبالياء التحتية ، وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل.

وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك. وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) يوم القيامة (حَتَّى يَلِجَ) أي يدخل (الْجَمَلُ) هو البعير إذا بزل. وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : هو زوج الناقة.

وعن الحسن أنه قال : ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل : حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم (فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي ثقبة الإبرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يئوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا. وقرأ ابن عباس وابن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي (الْجَمَلُ) بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.

وقرأ عبد الكريم ، وحنظلة ، وابن عباس ، وابن جبير في رواية أخرى (الْجَمَلُ) بالضم والفتح مع التخفيف كنغر.


وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ (الْجَمَلُ) بضم الجيم وسكون الميم كالقفل و (الْجَمَلُ) بضمتين كالنصب ، وقرأ أبو السمال «الجمل» بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل ، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل : هو حبل السفينة. وقرئ «في سم» بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر ، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل : أصله ما كان في عضو كأنف وأذن ، وقرأ عبد الله «في سم الخياط» بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا ، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ، ويقال : أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر ، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه ، ولا يكاد يقال للكسب المحمود.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) أي فراش من تحتهم ، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ ، والجملة إما مستأنفة أو حالية ، ومن تجريدية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من (مِهادٌ) لتقدمه (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي أغطية جمع غاشية ، وعن ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية ـ على ما قيل ـ مثل قوله تعالى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] والمراد أن النار محيطة به من جميع الجوانب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية ثم قال : «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح» وتنوين (غَواشٍ) عوض عن الحرف المحذوف أو حركته ، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا ، ولذا قرئ «غواش» بالرفع كما في قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) [الرحمن : ٢٤] في قراءة عبد الله.

(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الجزاء الشديد (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام. ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بآياتنا ولم يكذبوا بها (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) ولم يستكبروا عنها (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعا ، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله.

وقيل : المعنى لا نكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السماوات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضا. وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف.

وجوز أيضا أن تكون جملة (لا نُكَلِّفُ) إلخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) حال من (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، وجوز كونه حالا من (الْجَنَّةِ) لاشتماله على ضميرها أيضا. والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة ، وقيل. خبر لأولئك على رأي من جوزه. و (فِيها) متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة.


(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل»

وقيل : المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.

وقيل : إن هذا النزع إنما كان في الدنيا ، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا ، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.

ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير منهم ، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبئ بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة و (مِنْ غِلٍ) على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) حال أيضا إما من الضمير في (صُدُورِهِمْ) لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف ، وإما من ضمير (نَزَعْنا) على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.

وقيل : المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) وفقنا له ، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول (لِنَهْتَدِيَ) و (هَدانا) الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه ، والجملة حالية أو استئنافية ، وفي مصاحف أهل الشام (ما كُنَّا) بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى ، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك ؛ وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة ، وقوله سبحانه : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم‌السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء ، وقيل : تعليل لهدايتهم.

والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل ، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك ، ودونك


فأعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه. ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه ، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية (وَنُودُوا) أي نادتهم الملائكة ، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله ، والآثار تؤيد الأول.

(أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي أي تلكم على أن (أَنْ) مفسرة لما في النداء من معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم ، وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا ، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك ، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها ، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد ، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج.

والظاهر أن (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : (أُورِثْتُمُوها) حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون (الْجَنَّةُ) نعتا لتلكم أو بدلا و (أُورِثْتُمُوها) الخبر ، ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من ـ كم ـ كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر ؛ والتزم بعضهم في توجيه البعد أن (تِلْكُمُ) خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه.

والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له ، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من الأعمال الصالحة ، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له ، والباء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما في بعض الكتب : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر «لن ينجو أحد منكم بعمله» للسبب التام فلا تعارض ، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم ، وقيل : تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين ، فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم ، وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز.

وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية ، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل ، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلو لا فضله لم يكن ذلك ، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانه هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح.


(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر ، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع ، والمعنى ينادي ولا بد كل فريق من أهل الجنة (أَصْحابَ النَّارِ) أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار والاستخبار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) على ألسنة رسله عليهم‌السلام من النعيم والكرامة (حَقًّا) حيث نلنا ذلك (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب (حَقًّا) وحذف المفعول تخفيفا وإيجازا واستغناء بالأول ، وقيل : لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث ، والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم.

وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا ، فالوجه الحمل على ما تقدم ، ونصب (حَقًّا) في الموضعين على الحالية ، وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم ، والتعبير بالوعد قيل : للمشاكلة ، وقيل : للتهكم. ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف ـ نا ـ وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم. وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وأن بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى.

(قالُوا) في جواب أصحاب الجنة (نَعَمْ) قد وجدنا ذلك حقا. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل ، ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به وإثبات أهل اللغة له بالنقل الصحيح.

نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر : أما النعم فالإبل قولوا :نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه‌السلام ، وقيل : مالك خازن النار. وقيل : ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك. ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس (بَيْنَهُمْ) أي الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل ، ولا يراد أن الظاهر أن يقال : بينهما لأنه غير متعين (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بأن المخففة أو المفسرة ، والمراد الإعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن.

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب : وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه ، فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الإعراض لازم لكل ظالم ، وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر ، وفسر الإمام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير ، والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها أو يطلبون لها تأويلا وإمالة إلى الباطل ، فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والإمالة ونصبه قيل : على الحالية. وقيل : على المفعولية. وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقرى واشتمل الصماء ، وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر ، وقال الراغب : العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه. والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش ، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.


(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أي غير معترفين بالقيامة وما فيها ، والجار متعلق بما بعده ، والتقديم لرعاية الفواصل ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي بين الفريقين كقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الحديد : ١٣] أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وإن لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ) أي أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما أجمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه. وقيل : ذاك جبل أحد.

فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحد يحبنا ونحبه ـ و ـ أنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة». وقيل : هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل ، وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال : المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار (رِجالٌ) والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربهم فقال لهم : قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم. أخرجه أبو الشيخ ، والبيهقي ، وغيرهما عن حذيفة ، وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف : ما تنتظرون؟ قالوا : ننتظر أمرك فيقال : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي». وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم.

وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وقيل : إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهو من كل أمة حكاه الزهري ، وأخرج البيهقي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وغيرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال : «هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله». وقيل : هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر.

وقال الحسن البصري : إنهم قوم كان فيهم عجب. وقال مسلم بن يسار : هم قوم كان عليهم دين ، وقيل : هم أهل الفترة ، وقيل : أولاد المشركين ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا ، وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة.

وعن أبي مسلم أنهم ملائكة ويرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. وقيل وقيل وأرجح الأقوال ـ كما قال القرطبي ـ الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله.

ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرغ هي عليه لا تليق بغيرهم (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض


الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار. ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى ، ويقال : سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء. وقال الشاعر :

له سيمياء ما تشق على البصر

ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة. وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة. ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة (وَنادَوْا) أي رجال الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) حين رأوهم وعرفوهم (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره (لَمْ يَدْخُلُوها) حال من فاعل (نادَوْا) أو من مفعوله.

وقوله سبحانه : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) حال من فاعل (يَدْخُلُوها) أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم.

وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) [الشعراء : ٨٢]. وفي الكشاف أن جملة (لَمْ يَدْخُلُوها) إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ). وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات همزته وهمزة «أصحاب» وحذف الأولى وإثبات الثانية. وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار ـ كما قال غير واحد ـ بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه. فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء (قالُوا) متعوذين بالله سبحانه من سوء ما رأوا من حالهم (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي إليه من الظلم. وفي الآية ـ على ما قيل ـ إشارة إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء. وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين. وقرأ الأعمش «وإذا قلبت أبصارهم». وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير. وقيل : لم يكتف بالإضمار للفرق بين المراد منهم هنا. والمراد منهم فيما تقدم فإن المنادى هناك الكل وهنا البعض. وفي إطلاق أصحاب الأعراف على أولئك الرجال بناء على أن مآلهم إلى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض (رِجالاً) من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى. وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده ـ ويفهم من كلام


بعضهم ، وفيه بعد ، أنه متعلق بنادى. والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات.

(قالُوا) بيان لنادى أو بدل منه (ما أَغْنى عَنْكُمْ) استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه (جَمْعُكُمْ) أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب مما بعده.

وقرئ «تستكثرون» من الكثرة. و (ما) على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال.

ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك. والمراد بها حينئذ الأصنام. ومعنى استكبارهم إياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا : ما أغنى وقالوا : أهؤلاء ، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان ، وصهيب ، وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبئ عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤].

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) من كلام أصحاب الأعراف أيضا أي فالتفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.

وقيل : هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الأعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة.

وقال غير واحد : إن قوله سبحانه : (أَهؤُلاءِ) إلخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف ، والمشار إليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول ، وقيل : المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار ، و (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول : ادخلوا الجنة ، ولا يخفى بعده ، وقيل : لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة اليوم مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم وجه الخطاب إليهم فقيل : ادخلوا الجنة إلخ ؛ وقرئ «ادخلوا». و «دخلوا» بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم ، وعليها فلا بد أن يكون (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) إلخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف إلخ.

وقرئ أيضا «ادخلوا» بأمر المزيد للملائكة. والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار : (أَنْ أَفِيضُوا) أي صبوا (عَلَيْنا) شيئا (مِنَ الْماءِ) نستعين به على ما نحن فيه ، وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الأطعمة كما روي عن السدي ، وابن زيد ، ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه


من العذاب لا يمنعهم عن طلب أكل وشرب. وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه ـ فيما يروي ـ على هارون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك.

واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض (قالُوا) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قالوا؟ فقيل قالوا : في جوابهم : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) أي منع كلا منهما أو منعهما منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا ، ولا يحمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به (لَهْواً وَلَعِباً) فلم يتدينوا به أو فحرموا ما شاءوا واستحلوا ما شاءوا ، واللهو ـ كما قيل ـ صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه ، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب ، وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل ، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة أو مجازا مرسلا ، وعن مجاهد أنه قال : المعنى نؤخرهم في النار ، وعليه ، فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى (فَالْيَوْمَ) فصيحة ، وقوله عزّ وعلا.

(كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) قيل : في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي أن ينسى. وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم إخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه.

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى ، وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إذ يمنع منه قوله تعالى : (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) لأنه عطف على ما نسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله.

وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر ، ومن ادعاه قال : المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا. وقال القطب : الجحود في معنى النسيان ، وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمهما على الكافرين فقط. وقال بعضهم : إنه ذلك لا غير ، وعليه فيجوز أن يكون (الَّذِينَ) مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره ، والفاء فيه مثلها في قولك : الذي يأتيني فله درهم كما قيل.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) بينا معانيه من العقائد ، والأحكام ، والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة ، وقيل : لهم وللمؤمنين ، والمراد بالكتاب الجنس ، وقيل : للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين. والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم. وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الأنواع بقوله :

حلال حرام محكم متشابه

بشير نذير قصة عظة مثل

والمراد منع الخلو كما لا يخفى (عَلى عِلْمٍ) منا بوجه تفصيله وهو في موضع الحال من فاعل (فَصَّلْناهُ) وتنكيره للتعظيم أي عالمين على أكمل وجه بذلك حتى جاء حكيما متقنا ، وفي هذا ـ كما قيل ـ دليل على أنه سبحانه


يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال ، ويجوز أن يكون موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير. وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بالضاد المعجمة ، وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك ، وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر ؛ وقيل : إن (عَلى) للتعليل كما في قوله سبحانه : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] وهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتماله على علم يشتمل عليه غيره منها ، وقيل : إن (عَلى) في القراءتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول (جِئْناهُمْ) أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذوي العلم القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل.

(هُدىً وَرَحْمَةً) حال من مفعول (فَصَّلْناهُ) وجوز أن يكون مفعولا لأجله وأن يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف ، والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور. وقرئ بالجر على البدلية من (عِلْمٍ) وبالرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئا (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد ، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة ، وحينئذ فلا يقال : كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟.

وقيل : إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل ـ بنو فلان قتلوا زيدا (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة ، وقيل : هو ويوم بدر (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إتيان تأويله (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق ، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه (أَوْ نُرَدُّ) عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام ، و (مِنْ) مزيدة في المبتدأ.

وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل : هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا ، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول. ابتداء : هل يضرب زيد ، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري ، وأراد ـ كما في الكشف ـ لفظا لأن الظرف مقدر بجملة ، وهل مما له اختصاص بالفعل ، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظا. وقرأ ابن أبي إسحاق (أَوْ نُرَدُّ) بالنصب عطفا على (فَيَشْفَعُوا لَنا) المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن (أَوْ) بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهارا لمعنى السببية ، قال القاضي : فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة. والرد إلى الدنيا ، وعلى النصب المسئول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت (أَوْ) عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد ، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد (فَنَعْمَلَ) بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على (نُرَدُّ) مسبب عنه على قراءة ابن أبي إسحاق.


وقرأ الحسن بنصب «نردّ» ورفع «نعمل» أي فنحن نعمل (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي في الدنيا من الشرك والمعصية (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي (وَضَلَّ عَنْهُمْ) غاب وفقد (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة ، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا.

ومن باب الإشارة في الآيات : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الآدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف آدم عليه‌السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحبة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال : إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه‌السلام كما خمر طينته بيده لها :

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها

وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع ، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل (قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أو همهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذات ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورئاسة على القوى بغير زوال إن قرئ «ملكين» بكسر اللام.

(فَدَلَّاهُما) فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها (بِغُرُورٍ) بما غرهما من كأس القسم الترعة من حميا ذكر الحبيب (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) والقليل منهما بالنسبة إليهما كثير (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي يكتمان هاتيك السوءات والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما) بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات (عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها عليها (وَتَرْحَمْنا) بإفاضة المعارف الحقيقية (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي (قالَ اهْبِطُوا) إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية.


وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) وهو لباس الشريعة (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره (وَرِيشاً) زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات (وَلِباسُ التَّقْوى) أي صفة الورع والحذر من صفات النفس (ذلِكَ خَيْرٌ) من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال : لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوأة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوأة التعلق بالسوي. ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سورة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع بالبقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوأة هوية ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل : وهذا إشارة إلى الحقيقة ، وربما يقال : اللباس المواري للسوءات إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوي وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون (١) عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) الفطري النوري (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل وهو الصراط المستقيم (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي مقام سجود أو وقته ، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوء ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور ، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعبير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة.

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه (كَما بَدَأَكُمْ) أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم (تَعُودُونَ) إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) كما ثبت ذلك في علمه (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ) من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) للمناسبة التامة بين الفريقين (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) لقوة سلطان الوهم (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة الاستقامة ولكل مقام مقال (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم.

__________________

(١) قوله لعلكم تذكرون كذا بخطه والتلاوة لعلهم يذكرون اه.


(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي منع عنها وقال : لا يمكن التزين بها (وَ (١) الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) كعلوم الإخلاص. ومقام التوكل ، والرضا ، والتمكين (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) رذائل القوة البهيمة (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) رذائل القوة السبعية (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) ينتهون عنده إلى مبدئهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لأن وقوع ما يخالف العلم محال (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم ، وقيل : هي العقول ، وقال النيسابوري : التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم ، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته (فَمَنِ اتَّقى) في الفناء (وَأَصْلَحَ) بالاستقامة عند البقاء (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لوصولهم إلى مقام الولاية (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) بالاتصاف بالرذائل (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) نار الحرمان و (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لسوء ما طبعوا عليه (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن قال : أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر.

وقيل : الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة علينا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) أي جمل أنفسهم المستكبرة (فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق ، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا ، وقد يقال : الخياط إشارة إلى خياط الشريعة ، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ) الحرمان (مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي إن الحرمان أحاط بهم ، وقيل : لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم. (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) المرحومون (أَصْحابَ النَّارِ) المحرمون (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد (حَقًّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) وهو مؤذن العزة والعظمة (بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الموصلة إليه سبحانه ، وقيل : يصدون القلب والروح عن ذلك (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق ، وقيل : يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى (كافِرُونَ) لمزيد احتجابهم بما هم فيه (وَبَيْنَهُما) أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه (وَعَلَى الْأَعْرافِ) أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب (رِجالٌ) وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته. قيل : وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عزوجل تصرف الرجل بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) لما أعطوا من نور الفراسة (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي جنة ثواب الأعمال (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار ، وقيل : إن سلامهم على أهل الجنة


بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم (لَمْ يَدْخُلُوها) أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في كل وقت بما هو أعلى وأغلى ، وقيل : هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) ليعتبروا (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) من رؤساء أهل النار ، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه‌السلام. (أَهؤُلاءِ) إشارة إلى أهل الجنة (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي الحياة التي أنتم فيها (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم (قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) في الأزل (عَلَى الْكافِرِينَ) لسوء استعدادهم ، وقيل : إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا (فَصَّلْناهُ) أي أظهرنا منه ما أظهرنا (عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي ما يؤول إليه عاقبة أمره ، وقيل : الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه «سيجزيهم وصفهم» وكما قال سبحانه : «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» انتهى.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ


مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)(٧٢)

ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة ، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام (إِنَّ رَبَّكُمُ) أي خالقكم ومالككم (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) السبع (وَالْأَرْضَ) بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة على ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [الأنفال : ١٦] أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ ، نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات ، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي ، وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا ـ وهو قول عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، والضحاك ، ومجاهد ، واختاره ابن جرير الطبري ـ أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق أخذا له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمي تلك الأيام بأبوجاد وهواز وحطى وكلمون وسعفص وقريشات. وقال محمد بن إسحاق وغيره : إن ابتداء الخلق في يوم السبت ، وسمي سبتا لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قال ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل ، واستدل لهذا القول بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال : «أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وفي آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين


العصر إلى الليل» ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وإن رواه مسلم وإما مؤول ، وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق فافهم ، وإلى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا : كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم ، وفي خلقه سبحانه الأشياء مدرجا على ما روي عن ابن جبير للخلق التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث «التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان» وقال غير واحد : إن في خلقها مدرجا مع قدرته سبحانه على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار. واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون الفاعل موجبا ويكون وجود المعلول مشروطا بشرائط توجد وقتا فوقتا ، وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السماوات والأرض وليس ذلك بالمحقق.

وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على إبداعها دفعه وبيانه أن الفاعل إذا كان مختارا ـ كما يقوله أهل الحق ـ يتوقف وجود المعلول على تعلق الإرادة به فهو جزء العلة التامة حينئذ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الإرادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول ، وأما إذا كان الفاعل موجبا مقتضيا لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فإن كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه وإلا لزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذ قدمه ، والأجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فإنه ما لم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم ، ولهذا أثبتوا برزخا بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمبادئ القديمة ؛ ففي صورة كون الفاعل موجبا مشروطا وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الإبداع دفعه. فإمكان وجود هذه الأشياء المنبئ عن عدم التوقف على شيء آخر أصلا دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لا يجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت ، بأن الإيداع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والإرادة والقدرة بكل منها تفصيلا بخلاف الإيجاد الدفعي لها فإنه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع إجمالا ، واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فإنك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفا فحرفا وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر ، فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وإرادته وقدرته للأشياء تفصيلا قائلين : سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وأيضا قالوا : إنا إذا فعلنا شيئا تصورناه أولا ثم اعتقدنا له فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الإرادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للأعضاء نحو إيجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الأمور دخل في وجود ذلك الشيء ، ثم قالوا : فكما لا بد في صدور الأفعال الاختيارية فينا من هذه الأمور كذلك لا بد في صدور الأفعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لا يمتنع عليه سبحانه فأثبتوا له تعالى علما ، وإرادة ، وقدرة ، وفائدة لأفعاله ، واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختارا فالخلق التدريجي لما كان دالا على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتبارا للنظار.

وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسماوات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل : إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين.

وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه


سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضا ، وقيل : إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة ، وقيل : إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه ، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال : فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله :

إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم

وأودت كما أودت إياد وحمير

وقوله :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعيينة بن الحارث بن شهاب

وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك ، وليس كما قال قوم. إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر ، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون. فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور ، وفسر الاستواء بالاستقرار. وروي ذلك عن الكلبي ، ومقاتل ، ورواه البيهقي في كتابه : الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها. وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل : وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله : غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول ومن قوله : والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة.

ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذه الرحضاء ثم قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] كما وصف نفسه ولا يقال له : كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين ، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال ، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجها الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضا بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف ، ولما انتهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي وتقوله أهل الغرور علي زعموا أني أسمع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي ومحمولا علي إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد عنه فصلا ولا بالمطبق له حملا أوجدني منه رحمة وفضلا ولو محقني لكان حقا منه وعدلا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اه.


وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه واستوى بمعنى استولى. واحتجوا عليه بقوله:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وخص العرش بالأخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال : استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ونسب ذلك للأشعرية. وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال : إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي. وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش ، ويبعده تعدى الاستواء بعلى ، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض وهو كما ترى. وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم ، قيل : ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة [يونس : ٣] (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فإن (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) جرى مجرى التفسير لقوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول ، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويا عليه قبل خلق السماوات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال : شبع زيدا إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال : إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السماوات والأرض ، ومنهم من يجعل الإسناد مجازيا ويقدر فاعلا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه ، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء. ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة.

ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال ، وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن (اسْتَوى) بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه. وهو على هذا من صفات الذات وكلمة (ثُمَ) تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين.

وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون : استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن ، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لا بد أن يقول : هو استيلاء لائق به عزوجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا.

وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافا لبعضهم. ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يغطي سبحانه النهار بالليل ، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطي وجودا وذلك لا يتصور هنا قالوا : المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له ؛ وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس لملابسة. وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار.


ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا. وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا ، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ «يغشى الليل النهار» بفتح الياء ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما.

وبأن قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] يعلم منه ـ على ما قال المرزوقي ـ أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولي ، وبأن قوله سبحانه : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر ، وقد قالوا : إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم :

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى

نطير غرابا ذا قوادم جون

ولبعض المتأخرين من أبيات :

وكأن الشرق باب للدجى

ماله خوف هجوم الصبح فتح

وحديث أن التغشية أنسب بالليل قيل. مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه ، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله ـ على ما قيل ، وقال بعض المحققين : إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية. وجملة (يُغْشِي) ـ على ما قاله ابن جني ـ على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى) والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه ، وقوله جل وعلا : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) بدل من (يُغْشِي) إلخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من (اللَّيْلَ) أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا ، و (حَثِيثاً) حال من الضمير في (يَطْلُبُهُ) وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من (النَّهارَ) على تقدير قراءة حميد أيضا.

وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم : يجوز في (حَثِيثاً) أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا ، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا ، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار ـ على ما قال الإمام وغيره ـ إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوة بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسماوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى


وكيف شاء ، وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره. إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون ، وفسر ـ فيما نقل عنه ـ قوله سبحانه : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بيجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال : ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات ، وإن صح هذا فما أصح قولهم : الليلة حبلى وما ألطفه ، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن وثبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا ، ويقرب من هذا قوله :

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشى

وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى ، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء ـ على ما نقل عن القفال ـ إنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات ، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا ، وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد هو الليل ، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال : والنكتة في ذلك أن تسخير الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهاهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيدا لقوله سبحانه : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل ، وللجمع بين القراءتين أيضا اه فتدبر ولا تغفل.

وقرئ «يغشّى» بالتشديد للدلالة على التكرار (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيه والاستعارة ، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته. ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال : إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصص إلى حيث شاء. ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكا وفهما لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقا ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكا لغير ما ذكر ، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات. وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكانا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى ، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على أنحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعا لجواز أن يكون نصفه مضيئا من ذاته ونصفه مظلما ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرا ثم يميل نصفه المظلم شيئا فشيئا إلى أن يؤول إلى المحاق. وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلا. وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر. والنصب بالعطف على (السَّماواتِ) والحالية كما أشرنا إليه ، وجوز تقدير جعل وجعل (الشَّمْسَ) مفعولا أولا.


(مُسَخَّراتٍ) مفعولا ثانيا (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كالتذييل للكلام السابق أي إنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السماوات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه : (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف.

وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضا ، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال : إن الله تعالى فرّق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة من خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك ، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه في القاموس. وقال الإمام : إن البركة لها تفسيران : أحدهما البقاء والثبات ، والثاني كثرة الآثار الفاضلة. فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى ، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا. واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا ، وقال البيضاوي : المعنى تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية ، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عزّ من قائل : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) الذي عرفتم شئونه الجليلة والمراد من الدعاء ـ كما قال غير واحد ـ السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى غير ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات.

وقيل : المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه (ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر. أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا.

وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى (تَضَرُّعاً) أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل ، وجوز نصبه على المصدرية. وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان ، وقال الزجاج : التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا ، وقيل : التضرع مقابل الخفية. واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية (وَخُفْيَةً) أي سرا.

أخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] وفي رواية عنه أنه قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقوم يجهرون : «أيها


الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء.

ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي الانتصاف حسبك في تعين الاسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار بصحبه ، وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد.

وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم. وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به ، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم‌السلام والصعود إلى السماء. وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتبني ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). وفصل آخرون فقالوا : الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه ، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي ، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك ، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة. وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأمون عندهم.

وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال : لا بأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول. والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيها المعتدون في الدعاء دخولا أوليا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشرّ كالخزي واللعن. وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتي به عدم الكفر. وذكروا للدعاء آدابا كثيرة ، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه ، وتحري ساعات الإجابة ، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي. ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن ، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) نهي عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس ، والأموال ، والأنساب ، والعقول ،


والأديان (بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الإجابة وطمع في إجابته تفضلا منه ، وقيل : خوفا من عقابه وطمعا في جزيل ثوابه.

وقال ابن جريج : المعنى خوف العدل وطمع الفضل. وعن عطاء خوفا من الميزان وطمعا في الجنان. وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر ، وقيل : توقع مكروه يحصل فيما بعد ، والطمع توقع محبوب يحصل به ، ونصبهما على الحالية كما أشير إليه.

وجوز أن يكون على المفعولية لأجله. قيل : ولما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره وقيده أولا بالأوصاف الظاهرة وآخرا بالأوصاف الباطنة ، وقيل : الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته ، وقيل : لا تكرار فما تقدم أمر بالدعاء بمعنى السؤال وهذا أمر بالدعاء بمعنى العبادة ، والمعنى اعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبية وهو كما ترى ، ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع ، والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ، وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أعمالهم ، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع ، وقد كثر الكلام في توجيه تذكير (قَرِيبٌ) مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث ، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا ما لها وما عليها. الأول أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم ، وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف ، ومعنى الآية عندهم نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة ، والثاني أن ذلك على حذف مضاف أي إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر ، ونظير ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشيرا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام» فإن الإخبار بالمفرد لأن التقدير أن استعمال هذين. وقول حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفق بالرحيق السلسل

فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال : يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده. والثالث أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر :

قامت تبكيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة

قد ذل من ليس له ناصر

أي شخصا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم : امرأة حائض أي شخص ذو حيض. وقول الشاعر أيضا :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزع كلام الله تعالى عنه ، على أنه لا فصاحة في قولك : رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام


مستهجن ، ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص وسيبويه وإن كان جوادا في مثل هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبو. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك. ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه وقد علمت أيضا أن الأصل عدم الحذف. الرابع أن العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه وهو أمر مشهور فالرحمة لإضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الأخبار عنها بالمذكر. وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر. وقال الروذراوري : أن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به. وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد. ومن ادعى الجواز فعليه البيان. الخامس أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل جريح وامرأة جريح. وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل. واعترض أيضا بأن هذا لا ينقاس خصوصا من غير الثاني. السادس أن فعيلا بمعنى فاعل قد يشبه بفعيل بمعنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء. فالأول كقوله تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] ومنه الآية الكريمة. والثاني كقولهم : خصلة ذميمة ، وصفة حميدة حملا على قولهم : قبيحة وجميلة ولم يتعقب هذا بشيء. وتعقبه الروذراوري بأنه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون. ويرد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم والآخر من متعد فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه. وفيه نظر. السابع أن العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف كقوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] فإن (خاضِعِينَ) خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق. ألا ترى أنك إذا قلت : الأعناق خاضعون لا يجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون. وتعقب بأنه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه. وقد قيل : إن المراد بالأعناق الرؤساء والمعظمون. وقيل : الجماعة كما يقال : جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة. وقال الروذراوري : إنه لو ساغ الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه لساغ أن يقال : كان صاحب الدرع سابغة. ومالك الدار متسعة وليس فليس. الثامن أن الرحمة والرحم متقاربان لفظا وهو واضح المعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطى أحدهما حكم الآخر. وتعقب بأنه ليس بشيء ، لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال : موعظة نافع ، وعظة حسن. وكذلك الذكر والذكرى فينبغي أن يقال : ذكرى نافع كما يقال : ذكر نافع. التاسع أن فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض : إنه بمعنى ذات حيض. وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة. وهي فعال ، وفعل ، وفاعل.

العاشر : ما قاله الروذراوري : أن فعيلا مطلقا يشترك فيه المؤنث والمذكر. وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع من كلام العرب فإنهم يقولون : امرأة ظريفة ، وعليمة ، وحليمة ، ورحيمة. ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك. ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] أن (بَغِيًّا) فعول والأصل بغوي ثم قلبت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء ، وأما قوله :

فتور القيام قطيع الكلام

تفتر عن در عروب حصر

فالجواب عنه من أوجه : أحدها أنه نادر. الثاني أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للإضافة كقوله تعالى : (وَأَقامَ


الصَّلاةَ) [الأنبياء : ٧٣ ، النور : ٣٧] والإضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين. وقد نص على ذلك غير واحد من القراء. الثالث أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول. وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث. الحادي عشر أنهم يقولون في قرب النسب : قريب وإن أجري على مؤنث نحو فلانة قريب مني ويفرقون بينه وبين قرب المسافة. وتعقب بأنه مبني على أن يقال في القرب النسبي : فلان قرابتي. وقد نص جمع على أن ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال :

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذو قرابته في الحيّ مسرور

الثاني عشر : من تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى. واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر أن إحسان الله قريب ، ومنهم من يقدر لطف الله قريب. ومن ذلك قوله :

أرى رجلا منهم أسيفا كأنما

يضم إلى كشحيه كفا مخضبا

فأول الكف على معنى العضو. وتعقب بأنه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر. وقد تقدم أنه لا يقال : موعظة حسن مع أن الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضا. وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى ، على أن بعضهم قال : إن الكف قد يذكّر.

الثالث عشر : أن المراد بالرحمة هنا المطر ـ ونقل ذلك عن الأخفش ـ والمطر مذكر. وأيد بأن الرحمة فيما بعد بمعنى المطر. واعترض عليه من أوجه ، أحدها أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظاهر إذ الموضع للضمير. ثانيها أنه إذا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لا يخفى ، ثالثها أن الرحمة التي هي المطر لا تختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي. وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب.

والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان ليس بشيء عندي. رابعها أنك لو قلت :مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة مما تمجها الأسماع وتنبو عنها الطباع بخلاف إن رحمة الله فدل على أنه ليس بمنزلته في المعنى.

وأجيب عنه بأن مجموع (رَحْمَةِ اللهِ) استعمل مرادا به المطر ، وبأن الإضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى ، وهذا كما يحسن أن يقال : كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال : قرآن الله سبحانه ، والإنصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري. وقال ابن هشام : لا بعد في أن يقال : إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة. واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير. وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتفاء اعتباره مع غيره اه. ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة بمعنى المطر يفسد الزرع ، وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب ، وفي نقل ذلك ما يورث السآمة. وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث وهو كما ترى.


وقيل : التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور ، وقيل : إن فعيلا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فإنه للمؤنث والمذكر كفعيل بمعنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو صوت الرجل ونحوه والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب. وأنت تعلم أن حمله على فعيل بمعنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه ، نعم ربما يدعي أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لا يسلم. والذي اختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه ، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة ، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر ، والقول بأن في ذلك ترغيبا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم ، وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير :

أتنفعك الحياة وأم عمرو

قريب لا تزور ولا تزار

وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليم إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان لمكان المحسنين و (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] ولعله يعتبر شاملا للإحسان الدنيوي والأخروي. ووجه القرب ـ على ما قيل ـ وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية. وفسرها ابن جبير بالثواب ، والمتبادر منه الإحسان الأخروي.

ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة ، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب.

وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) [طه : ٨٢] إلخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن «من تاب وآمن» إلخ تفسير للمحسنين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة.

وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦] فهو محسن بمجرد الإيمان ، والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر (الْمُحْسِنِينَ) بالمؤمنين.

وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السماوات والأرض. وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، «الريح» على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير. وخبر «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» مخرج على قراءة الأكثرين (بُشْراً) بضم الموحدة وسكون الشين مخفف (بُشْراً) بضمتين جمع بشيء كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم. وروي عنه أيضا «بشرا» على الأصل. وقرئ بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد. والمراد باشرات أو للبشارة. وقرئ «بشرى» كحبلى وهو مصدر أيضا من البشارة. وقرأ أهل


المدينة والبصرة «نشرا» بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر ، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر ، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ.

واختلف في معنى ناشر ففي الحواشي الشهابية قيل : هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الإحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله :

إني لأرجو أن تموت الريح

فأقعد اليوم وأستريح

كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض. ومما يحكي النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر :

أظن نسيم الروض مات لأنه

له زمن في الروض وهو عليل

وقيل : هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله :

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر

قيل : ناشر بمعنى أي محيي ، وقيل : فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه. وقرأ ابن عامر «نشرا» بضم النون وسكون الشين حيث وقع. والتخفيف في فعل مطرد ، وقرأ حمزة ، والكسائي «نشرا» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الأنباري ، والمراد بالرحمة كما ذهب إليه غالب المفسرين المطر. وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع. ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فإطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه. وكونه فردا من أفراد ذلك العام فهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص وغيره.

وادعى الشهاب إثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة ، وقول ابن هشام في رسالته التي ألفها في بيان وجه تذكير «قريب» المار عن قريب. إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون : ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود ، ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمقام ظاهر في إرادة هذا المعنى ، وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل : إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية : أربع منها عذاب وهي القاصف ، والعاصف ، والصرصر ، والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات.

والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده ، وعن كعب الأحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض ، وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض ، وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح ، فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال : أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله : ما بلغكم في الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله تعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها» ولا منافاة بين


الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لا يرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فإن العذاب بالريح نادر ، وقيل : ما في الخبر إنما هو الإيتاء بالرحمة والإيتاء بالعذاب لا الإرسال بين يدي كل (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) غاية لقوله سبحانه (يُرْسِلُ) والإقلال ـ كما في مجمع البيان ـ حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله ـ كما قال بعض المحققين ـ جعله قليلا أو وجده قليلا ، والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جعله كاذبا في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلا ، ومن ذلك قولهم : جهد المقل أي الحامل (سَحاباً) أي غيما سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحدة بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع.

وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعا فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره ، وجاء في الجمع سحب وسحائب (ثِقالاً) من الثقل كعنب ضد الخفة يقال : ثقل ككرم ثقلا وثقالة فهو ثقيل ، وثقل السحاب بما فيه من الماء (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي لأجله ومنفعته أو لإحيائه أو لسقيه كما قيل.

وفي البحر أن اللام للتبليغ كما في قلت لك ، وفرق بين سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا بأن الأول معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه. والثاني لا يلزم منه وصوله إليه ، والبلد ـ كما قال الليث ـ كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد ، وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الأعشى :

وبلدة مثل ظهر الترس موحشة

للجن بالليل في حافاتها زجل

(فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الأنباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل ، والتذكير بتأويل المذكور. وكذلك قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر لقربه لفظا ومعنى ، ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لا بأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة.

وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللإلصاق في الأول لأن الإنزال ليس في البلد بل المنزل ، وجوز الظرفية أيضا كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر ، وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة.

(مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من كل أنواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع ، وهذا أبلغ في إظهار القدرة المراد ، وقيل : إن الاستغراق عرفي والظاهر أن المراد التكثير ، وجوز بعضهم أن تكون (مِنْ) للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) إشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوى النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا ، وهو إشارة ـ كما قيل ـ إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما إيجاد البدن بعد عدمه ثم إحياؤه وضم بعض أجزائه إلى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم إحياؤه.

واستظهر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم ، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الإحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به ، وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الإحياء برد النفوس إلخ إلى الأول ، وأنت تعلم أنه لا مانع من الإخراج من كتم العدم ، وأدلة استحالة ذلك مما لا تقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة ، وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول بأي كان منهما ، وكون إخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فإن لها أصلا في الجملة على أن إخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول إعادة وليس إخراج الثمرات كذلك إذ لم يكن لها وجود قبل ، نعم كون الأظهر أن التشبيه بين الإخراجين


مما لا مرية ، فيه ، وفي الخازن اختلفوا في وجه التشبيه فقيل : إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا ، فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون في قبورهم ويجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيناديهم المنادي : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس : ٥٢].

وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها ، فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.

وقيل : إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الإيمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة. والأصل «تتذكرون» فطرحت إحدى التاءين ، والخطاب قيل : للنظار مطلقا ، وقيل : لمنكري البعث.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة ، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار ، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بمشيئته وتيسيره ، وهو في موضع الحال ، والمراد بذلك أن يكون حسنا وافيا غزير النفع لكونه واقعا في مقابلة قوله : (وَالَّذِي خَبُثَ) من البلاد كالسبخة والحرة (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) أي قليلا لا خير فيه ، ومن ذلك قوله :

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن

أعطيت أعطيت تافها نكدا

ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف ، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعا مستترا ، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث ، والتعبير أولا بالطيب وثانيا بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض. وقرئ «يخرج نباته» ببناء «يخرج» لما لم يسم فاعله ورفع «نبات» على النيابة عن الفاعل ، و «يخرج نباته» ببناء «يخرج» للفاعل من باب الإخراج ، ونصب «نباته» على المفعولية ، والفاعل ضمير البلد ، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء ، وكذا قرئ في «يخرج» المنفي ؛ ونصب (نَكِداً) حينئذ على المفعولية. وقرأ أبو جعفر «نكدا» بفتحتين على زنة المصدر ، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجا نكدا. وقرأ «نكدا» بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله :

فقال لي قول ذي رأي ومقدرة

مجرب عاقل نزه عن الريب

(كَذلِكَ) مثل ذلك التصريف البديع (نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها. وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها ، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك.

وقال الطيبي : ذكر (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) بعد (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر ، وهذا ـ كما قال غير واحد ـ مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك.

أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) إلخ مثل ضربه الله تعالى


للمؤمنين يقول : هو طيب وعمله طيب والذي خبث إلخ مثل للكافر يقول : هو خبيث وعمله خبيث.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه‌السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث.

أخرج أحمد ، والشيخان ، والنسائي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشف ، ولقربه من الاعتراض جيء بالواو في قوله سبحانه وتعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) وفيه إشارة إلى معنى ما ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته عن الله عزوجل : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه ، ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية. وفي ذلك أيضا تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلخ ، واطّرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي ـ على ما قال الزمخشري ـ وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صالي

والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد ، ونقل عن النحاة أنهم قالوا : إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا فإما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين ، ولم يؤت هنا بعاطف وأتي به في هود والمؤمنين. على ما قال الكرماني. لتقدم ذكر نوح صريحا في هود وضمنا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون : ٢٢] وهو عليه‌السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا. ونوح بن لمك بفتحتين. وقيل : بفتح فسكون ، وقيل : ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره. قيل : لامك كمهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد. وقيل : بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة ـ ابن ـ أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضا ، ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء. وقيل : خنوخ بإسقاط الهمزة. وهو إدريس عليه‌السلام. أخرج ابن إسحاق. وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بعث نوح عليه‌السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه‌السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول. وأخرجا عن مقاتل وجويبر أن آدمعليه‌السلام حين كبر ودق عظمه قال : يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشر أبطن. وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس أربعمائة سنة ، وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة. وقيل : وهو ابن


خمسين سنة. وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة.

وبعث ـ كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة ـ من الجزيرة. وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه. وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم‌السلام.

واختلف في عموم بعثته عليه‌السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة ، ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس. وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] إذ العالم ما سوى الله تعالى ، وخبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة يؤيد ذلك بل قال البارزي : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة.

وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه‌السلام : والفرق مثل الصبح ظاهر. وهو ـ كما في القاموس ـ اسم أعجمي صرف لخفته ، وجاء عن ابن عباس ، وعكرمة ، وجويبر ، ومقاتل أنه عليه‌السلام إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه. واختلف في سبب ذلك فقيل : هو دعوته على قومه بالهلاك. قيل مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان : وقيل: إنه مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح. فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقيل : هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم. قيل : وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه‌السلام. وقيل : عبد الجبار ، وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد ، وليس مشتقا من النياحة. وأنه كما قال صاحب القاموس (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحده ، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ) أي مستحق للعبادة (غَيْرُهُ) عليه ، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها و (مِنْ) صلة و (غَيْرُهُ) بالرفع ـ وهي قراءة الجمهور ـ صفة (إِلهٍ) أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية.

وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه ، وقرئ شاذا بالنصب على الاستثناء ، وحكم غير ـ كما في المفصل ـ حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي ما لكم إله إلا إياه كقوله : ما في الدار أحد إلا زيدا وغير زيدا ، و (إِلهٍ) أن جعل مبتدأ ـ فلكم ـ خبره أو خبره محذوف و (لَكُمْ) للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تعبدوا حسبما أمرت به. وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه‌السلام : (أَخافُ) ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابا لهم بلطف.

(عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا ، والجملة ـ كما قال شيخ الإسلام ـ تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها أثر تعليلها ببيان الداعي إليها ، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه‌السلام ونصحه لقومه كأنه قيل : فما ذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك؟ فقيل : قال إلخ. والملأ ـ على ما قال الفراء ـ الجماعة من الرجال خاصة. وفسره غير واحد بالإشراف الذين يملئون القلوب بجلالهم والأبصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم ، وقيل : سموا ملأ


لأنهم مليون قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) أي ذهاب عن طريق الحق ، والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف ؛ وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال (مُبِينٍ) أي بين كونه ضلالا (قالَ) استئناف على طراز سابقه : (يا قَوْمِ) ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلا عن الضلال المبين ، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع ، وكفاك لا رجل شاهدا فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عاما لا يلحظ ذلك. ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام.

وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية ، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك : ضل يضل ضلالا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت ، وإنما بالغ عليه‌السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقرا في الضلال الواضع كونه ضلالا ، وقوله سبحانه وتعالى : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه ، وذلك ـ على ما قيل ـ أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكا لذلك ، وقيل : هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل : ليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية ، وحاصل ذلك ـ على ما قرره الطيبي ـ أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك : جاءني زيد لكن عمرا غاب ، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفي الضلالة كذلك ، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) كان كافيا فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحا عليه‌السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد ؛ ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرا انتهى.

ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور. وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها سواء تغاير إثباتا ونفيا أو لا ، وفسره صاحب البسيط وجماعة برفع ما توهم ثبوته ، وتمام الكلام فيه في المغني ، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد


يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه ، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه‌السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم الخاطب انتفاء الرسالة أيضا كما انتهى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك : زيد ليس بفقيه لكنه طبيب ، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولا فليس بشيء ، وقيل : إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به ، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلا يقال : زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال : لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدا ، وقال بعض فضلاء الروم : النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وقوله :

هو البدر إلا أنه البحر زاخرا

سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

كأنه قيل : ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين ، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم : تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك ، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل.

و (مِنْ) فيها لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل : إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها. وجوز أبو البقاء وغيرها أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في (إِنِّي) وهذا كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر :

أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظرة

أو فيهم بالصاع كيل السندره

حيث لم يقل سمته حملا له على المعنى لا من اللبس ، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعما منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني : لو لا شهرته لرددته ، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل : ٥٥] وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعاني ، على أن ما ذكره في الصلة أيضا مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين ، وهذا ـ كما قال الشهاب ـ إذا لم يكن الضمير مؤخرا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبا.

وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه‌السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه‌السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وشيث عليه‌السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة ، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه‌السلام بعد بيان عمومها


للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناء على أن النصح تحري ذلك قولا أو فعلا ، وقيل: هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه ، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال : نصحت العسل إذا خلصته من الشمع ، ويقال : هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوص له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب ، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه ، وعلى ذلك حمل ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ويقال : نصحته ونصحت له كما يقال : شكرته وشكرت له ، قيل : وجيء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه‌السلام كقوله : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [الفرقان : ٥٧ ، وغيرها] وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة ، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة : وفيه خفاء.

وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه‌السلام لهم كما يفصح عنه قوله : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [نوح : ٥]. وقوله تعالى : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه‌السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية. فمن لابتداء الغاية مجازا أو أعلم من شئونه عزوجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه. فمن إما للتبعيض أو بيانية لما ، ولا بد في الوجهين من تقدير المضاف ، قيل : كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه‌السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) رد لما هو منشأ لقولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) والاستفهام للإنكار أي لم كان ذلك ولا داعي له. والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ، ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل : استبعدتم وعجبتم. ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال : إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظا. وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت». وتحقيقه في محله و «أن جاءكم» بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها ، والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة. ومن للابتداء والجار والمجرور متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم.

(عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل. و «على» متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته ، وقيل : على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير ، وقيل : تعلقه به لأن معناه أنزل كما يشير إليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه. وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من (ذِكْرٌ) أي نازلا على رجل منكم (لِيُنْذِرَكُمْ) علة للمجيء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي (وَلِتَتَّقُوا) عطف على «لينذركم» وكذا قوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على ما هو الظاهر فالمجيء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فإن الإنذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم ، وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده


ولو أريدت السببية لجيء بالفاء. وبعضهم اعتبر عطف (لِتَتَّقُوا) على لينذركم (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على لتتقوا مع ملاحظة الترتيب أي لتتقوا بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى والتأمل.

وجيء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه (فَكَذَّبُوهُ) أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا (فَأَنْجَيْناهُ) من الغرق ، والإنجاء في الشعراء من قصد أعداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه‌السلام (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين. وكانوا على ما قيل : أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل : كانوا عشرة أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه‌السلام ، والفاء للسببية باعتبار الإغراق لا فصيحة ، وقوله سبحانه وتعالى : (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة متعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي استقروا معه في الفلك.

وجوز أن يكون هو الصلة (مَعَهُ) متعلق بما تعلق به. وأن يكون متعلقا بأنجينا وفي ظرفية أو سببية. وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من (الَّذِينَ) نفسه أو من ضميره (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استمروا على تكذيبها ، والمراد به ما يعم أولئك الملأ وغيرهم من المكذبين المصرّين. وتقديم الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبارية والإيذان بسبق الرحمة على الغضب (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي عمي القلوب عن معرفة التوحيد ، والنبوة ، والمعاد كما روي عن ابن عباس أو عن نزول العذاب بهم كما نقل عن مقاتل. وقرئ «عامين» والأول أبلغ لأنه صفة مشبهة فتدل على الثبوت وأصله عميين فخفف ، وفرق بعضهم بين عم وعام بأن الأول لعمى البصيرة والثاني لعمى البصر. وأنشدوا قول زهير :

واعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمي

وقيل : هما سواء فيهما (وَإِلى عادٍ) متعلق بمضمر معطوف على (أَرْسَلْنا) فيما سبق وهو الناصب لقوله تعالى : (أَخاهُمْ) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، وقيل : لا إضمار والمجموع معطوف على المجموع السابق والعامل الفعل المتقدم. وغير الأسلوب لأجل ضمير (أَخاهُمْ) إذ لو أتى به على سنن الأول عاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة. وعاد في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز فيه الصرف وعدمه كما ذكره سيبويه ، وقوله تعالى : (هُوداً) بدل من (أَخاهُمْ) أو عطف بيان له. واشتهر أنه اسم عربي ، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي وأيد بما قيل. إن أول العرب يعرب. وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وعليه محمد بن إسحاق. وبعض القائلين بهذا قالوا : إن نوحا ابن عم أبي عاد ، وقيل : ابن عوص بن ارم سام بن نوح ، وقيل : ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم به سام بن نوحعليه‌السلام.

ومعنى كونه عليه‌السلام أخاهم أنه منهم نسبا وهو قول الكثير من النسابين. ومن لا يقول به يقول : إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم وهو كما يقال يا أخا العرب. وحكمة كون النبي يبعث إلى القوم منهم أنهم أفهم لقوله من قول غيره وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل : قال إلخ. ولم يؤت بالفاء كما أتي بها في قصة نوح لأن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير مؤخر لجواب شبهتهم لحظة واحدة وهود عليه‌السلام لم يكن مبالغا إلى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح ولم يجىء هنا. وذكر صاحب الفرائد في التفرقة بين القصتين أن قصة نوح عليه‌السلام ابتداء كلام فالسؤال غير مقتضى الحال وأما قصة هود فكانت معطوفة على قصة نوح فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هود ما قال نوح أم قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ما ذا قال لقومه؟ فقيل : قال إلخ.


وقيل : اختير الفصل هنا لإرادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث إن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث إنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا. ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر.

(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وجده كما يدل عليه قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر كأنه قيل : خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه.

وقرئ «غير» بالحركات الثلاث كالذي قبل (أَفَلا تَتَّقُونَ) إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح عليه‌السلام ، وقيل : الاستفهام للتقرير والفاء للعطف ، وقد تقدم الكلام فيه آنفا وفي سورة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [هود : ٥١] ولعله عليه‌السلام ـ كما قال شيخ الإسلام ـ خاطبهم بكل منهما واكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر هاهنا ما ذكر هناك من قوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) [هود : ٥٠] وقس على ذلك حال بقية ما ذكروا ما لم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة.

وقال غير واحد : إنما قيل هاهنا : (أَفَلا تَتَّقُونَ) وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليه‌السلام قومه (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليه‌السلام واقعة ، وقيل : لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليه‌السلام وهذا دون (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إلخ في التخويف ، ويرشد إلى ذلك ما تقدم مع قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر وأطلق هناك ، وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليه‌السلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن بهعليه‌السلام منهم لم يكن من الأشراف كما هو الغالب في اتباع الرسل عليهم‌السلام ، وقيل : إنه وقت مخاطبة نوح عليه‌السلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله ـ كما قال الشهاب ـ يحتاج إلى نقل. واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتى هذه التفرقة ، وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم هاهنا للإشارة إلى التفرقة. وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن الوصف هنا للذم أيضا ومقتضى المقام يقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذبا كما مرت الإشارة إليه. والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل ، وذلك لأنه قالوا ما قالوا ما قالوا مع كونه عليه‌السلام معروفا بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليه‌السلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصة سبحانه وتعالى هناك (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون : ٢٥] وقال بعضهم : إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليه‌السلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين (قالَ) عليه‌السلام مستعطفا لهم أو مستميلا لقلوبهم : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أي شيء منها فضلا عن تمكني فيها كما زعمتم (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق ، ولم يصرح عليه‌السلام بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك.


وقيل : الكذب نوع من السفاهة فيلزم من نفيها نفيه ، و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. وقوله تعالى : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) على طرز ما في قصة نوح عليه‌السلام.

وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بالتخفيف من الأفعال (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك فما حقي أن أتهم بشيء مما ذكرتموه ؛ وعلى هذا لا يقدر للوصفين متعلق ، ويحتمل تقديرهما أي ناصح لكم فيما أدعوكم إليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه ، وعلى الأول ـ كما قال الطيبي ـ فالجملة مستأنفة وقعت معترضة ، وعلى الثاني حالية ، وفي العدول عن الفعلية إلى الاسمية ما لا يخفى. ولعل التعبير بها هنا وبالفعلية فيما تقدم لتجدد النصح من نوح دون هود عليهما‌السلام.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) الكلام فيه الكلام في سابقه. وفي إجابة الأنبياء عليهم‌السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكي عنهم والإعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة ، وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم ، وفي الآية دلالة على جواز مدح الإنسان نفسه للحاجة إليه.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها ، وإذا على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل ، واختار غير واحد تبعا للزمخشري أنه مفعول لا ذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذا النعم الجسام ، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله ، وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين ، والواو للعطف وما بعده قيل : معطوف على قوله تعالى : (اعْبُدُوا) ولا يخفى بعده.

وقال شيخ الإسلام : لعله معطوف على مقدر كأنه قيل : لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالإسناد على هذا مجاز ، وفي ذكر نوح على ما قيل إشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحا وإرساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي اذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ) أي الإبداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم (صْطَةً) قوة وزيادة جسم ، قال الكلبي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا.

وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال : كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا ، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة.

وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.

وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطا لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن إدراك يد القدرة.


وأخرج إسحاق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هودا عليه‌السلام كان أصبحهم وجها وكان في مثل أجسامهم أبيض جعدا بادي العنفقة طويل اللحية صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونصب (بَصْطَةً) على أنه مفعول به للفعل قبله ، وقيل : تمييز و (فِي الْخَلْقِ) متعلق بالفعل ، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من (بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع ـ إلى ـ بكسر فسكون كحمل وإحمال أو ـ ألى ـ بضم فسكون كقفل وأقفال أو ـ إلى ـ بكسر ففتح مقصورا كمعى وأمعاء أو بفتحتين مقصورا كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون إلا

وقيل : إن ما في البيت إلا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد ، وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم أثر تخصيص أي اذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالأركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر. ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر.

(قالُوا) مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتضمنة للإنذار على ما أشير إليه : (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) أي لنخصه بالعبادة (وَنَذَرَ) أي نترك (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان ، وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه‌السلام بذلك ومنشؤه انهماكهم في التقليد والحب لما ألفوه ألفوا عليه أسلافهم ، ومعنى المجيء إما مجيئه عليه‌السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء ، وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لا يكون إلا ملكا من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والشروع فيه فإن جاء ، وقام ، وقعد ، وذهب ـ كما قال جماعة ـ تستعملها العرب لذلك تصويرا للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني ، ونصب (وَحْدَهُ) على الحالية ، وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيحاد الموضوع موضع الحال أعني موحدا. واختلف هؤلاء فيما إذا قلت : رأيت زيدا وحده مثلا فالأكثرون يقدرون في حال إيجاد له بالرؤية فيجعلونه حالا من الفاعل ، والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالا من المفعول.

ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالا من الفاعل وأوجب كونه حالا من المفعول لا غير لأنهم إذا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر :

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيدا وحده فإن المعنى يصح معهما ، ومنهم من يقول : إنه مصدر موضوع موضع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم.

وحكى الأصمعي وحد يحد ، وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب ، وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد ، ولعل القائل بما ذكر يقول : إنه مصدر وضع موضع الظرف. وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال : زيد إقبالا وإدبارا هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام ، وإذا أحطت به خبرا


فاعلم أن (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل ، والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحدا هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي ، والمعنى في التقادير الثلاثة لا يختلف إلا يسيرا ، والكلام الذي هو فيه متضمن للإيجاب والسلب وله احتمالات نفيا وإثباتا وتفصيل ذلك في رسالة في مولانا تقي الدين السبكي المسماة بالرفدة في معنى وحده وفيها يقول الصفدي :

خل عنك الرقدة وانتبه للرفدة

تجن منها علما فاق طعم الشهدة

وأراد ـ بما ـ في قوله تعالى : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) العذاب المدلول عليه بقوله تعالى : (أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بالإخبار بنزوله ، وقيل : بالإخبار بأنك رسول الله تعالى إلينا ، وجواب «إن» محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي وجب وثبت. وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام واستعماله هنا فيما ذكر مجاز من إطلاق السبب على المسبب. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم ، واختار بعضهم أن (وَقَعَ) بمعنى قضي وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر ، وفي الكشف أن الوقوع بمعنى الثبوت وحرف الاستعلاء إما لأنه ثبوت قوي آكد ما يكون (١) واجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى. موصوف بالنزول من السماء فتدبر. والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى. والجار والمجرور قيل : متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعد ، والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله ، وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهى ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم ، وكذا تقديمهما على الفاعل وهو قوله تعالى : (رِجْسٌ) مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى : (وَغَضَبٌ) فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم ، والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرآن عند ابن زيد من الارتجاس وهو الارتجاز بمعنى حتى قيل : إن أصله ذلك فأبدلت الزاي سينا كما أبدلت السين تاء في قوله :

ألا لحى الله بني السعلات

عمرو بن يربوع شرار النات

ليسوا بأعفاف ولا أكيات

فإنه أراد الناس وأكياس. وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به ، وعليه فالعطف في قوله :

إذا سنة كانت بنجد محيطة

وكان عليهم رجسها وعذابها

للتفسير والغضب عند كثير بمعنى إرادة الانتقام. وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء. والذاهبون إلى ما تقدم إنما لم يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله ، ولا يبعد أن يفسر «الرجس» بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذ إشارة إلى حالهم في الأولى والأخرى. ويمكن إرجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا وإلا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك : وقع عليهم عذاب وإرادة انتقام على ظاهر كلامهم. وأيا ما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل

__________________

(١) قوله واجبة كذا بخط المؤلف وتأمل.


(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه‌السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام.

والأسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة. وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم. والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي بمعزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى : (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه. والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة بمزيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم ، وقيل : إنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك. والضمير المنصوب في (سَمَّيْتُمُوها) راجع لأسماء وهو ـ على ما قيل ـ المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسبما أشير إليه. وقيل : المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها.

وقيل : المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين ، وحمل الآية على ما ذكر أولا في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي أسماء.

وادعى آخرون جواز أن يكون فيه صنعة الاستخدام. واستدل بالآية من قال إن الاسم عين المسمى. ومن قال : إن اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الإنكار والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطانا ، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف. (فَانْتَظِرُوا) نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم : «فأتنا بما تعدنا» لما وضح الحق وأنت مصرون على العناد والجهالة (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لنزوله بكم. والفاء في «فانتظروا» للترتيب على ما تقدم وفي قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ) فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي متابعيه في الدين (بِرَحْمَةٍ) عظيمة لا يقادر قدرها (مِنَّا) أي من جهتنا والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتا لرحمة مؤكدا لفخامتها على ما تقدم غير مرة (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) كناية عن الاستئصال. والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم.

(ما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على (كَذَّبُوا) داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلا. وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم. وبيانه ـ على ما قال الطيبي ـ إنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده ، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) [غافر : ٧] الآية ، وقال بعضهم : فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [يونس : ١٣] فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم.

وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم. وقصتهم ـ على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق. وغيرهما ـ أن عادا قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي : صداء ، وصمود ، والهباء فبعث الله تعالى إليهم هودا عليه‌السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا وقالوا : من أشد


منا قوة فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم ، وأهل مكة يومئذ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كلهدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال ، ولقمان بن عاد الأصغر ، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه ، وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجا من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أحواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما : الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال : هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا : هل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يسقينا غماما

فتسقى أرض عاد إن عادا

قد أمسوا ما يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو

به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير

فقد أمست نساؤهم عياما

وإن الوحش تأتيهم جهارا

ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم

ولا لقوا التحية والسلاما

فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال :

عصت عاد رسولهم فأمسوا

عطاشا ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود

يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد

فأبصرنا الهدى وخلا العماء

وإن إله هود هو إلهي

على الله التوكل والرجاء

فقالوا لمعاوية : احبسن عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول : اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وقال القوم : اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ثم نادى مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء. فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا تبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منا ريح عقيم ، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا : ما رأيت قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها


فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع منهم أحدا إلا أهلكته واعتزل هود عليه‌السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ به الأنفس ، ثم إنه عليه‌السلام أتى هود ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه‌السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم ، وفيها ـ كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط ـ قبور تسعة وسبعين نبيا منهم أيضا نوح ، وشعيب ، وصالح ، وإسماعيلعليهم‌السلام ، وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه‌السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة ، وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال : قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه‌السلام ، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات : على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أي سماوات الأرواح (وَالْأَرْضَ) أي أرض الأبدان (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وهي ستة آلاف سنة وإن يوما عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه‌السلام إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات. وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا ـ الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب ـ. وتمام الكلام عليها في شمس المعارف للإمام البوني قدس‌سره (يُغْشِي اللَّيْلَ) أي ليل البدن (النَّهارَ) أي نهار الروح (يَطْلُبُهُ) بالتهيؤ والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه (حَثِيثاً) أي سريعا (وَالشَّمْسَ) أي شمس الروح (وَالْقَمَرَ) أي قمر القلب (وَالنُّجُومَ) أي نجوم الحواس (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي اعبدوه (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي أرض البدن (بَعْدَ إِصْلاحِها) بالاستعداد (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) أي رياح العناية (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي تجلياته (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) حملت (سَحاباً ثِقالاً) بأمطار المحبة (سُقْناهُ لِبَلَدٍ) قلب (مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) ماء المحبة (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من المشاهدات والمكاشفات (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) القلوب الميتة من قبور الصدور (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) وهو ما طاب استعداده (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) حسنا غزيرا نفعه (وَالَّذِي خَبُثَ) وهو ما ساء استعداده (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) لأخير فيه (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) أي نوح الروح (إِلى قَوْمِهِ) من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) كالقلب وأعوانه (فِي الْفُلْكِ) وهو سفينة الاتباع (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) في بحار الدنيا ومياه الشهوات (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى ، وعلى هذا المنوال ينسج الكلام في باقي الآيات.

ولمولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى الفصوص يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.


(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٧)

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) عطف على ما سبق من قوله تعالى : «وإلى عاد أخاهم» موافق له في تقديم المجرور على المنصوب ، و (ثَمُودَ) قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ، وقيل : ابن عاد بن عوص بن إرم إلخ وهو المنقول عن الثعلبي.

وقال عمرو بن العلاء : إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل ، والثمد الماء القليل وورد فيه


الصرف وعدمه ، أما الأول فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسما للجد أو للقليل من الماء كان مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله ، وأما الثاني فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث.

وصالح عليه‌السلام من ثمود فالأخوة نسبية ، وهو على ما قال محيي السنة البغوي بن عبيد بن أسف بن ماشح ابن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخو طسم. وجديس فيما قيل ، وقال وهب : هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلا أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاما. وقال الشامي : إنه بعث شابا فدعا قومه حتى شمط وكبر ، ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قد مر الكلام في نظائره (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الأفراد والجمع ، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم ، و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا أو للتبعيض أن قدر من بينات ربكم ، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه عليه‌السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبئ عن ذلك ما في سورة هود. وقوله تعالى : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة وجوز أن يكون استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر تقديره أين هي؟ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب. وجوز أن يكون بدلا من (بَيِّنَةٌ) بدل جملة من مفرد للتفسير. ولا يخفى بعده ، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال : بيت الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية. وقيل : لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه. وقيل : لأنها كانت حجة الله على قوم صالح. وانتصاب (آيَةً) على الحالية من (ناقَةُ) والعامل فيها معنى الإشارة وسماه النحاة العامل المعنوي و (لَكُمْ) بيان لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر. وجوز أن يكون (ناقَةُ) بدل من (هذِهِ) أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا و (لَكُمْ) خبرا فآية حينئذ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقة (فَذَرُوها) تفريغ على كونها آية من آيات الله تعالى. وقيل : على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) العشب وحذف للعلم به والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر.

وقرأ أبو جعفر في رواية عنه (تَأْكُلْ) بالرفع فالجملة حالية أي أكلة. والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما متنازعان. وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعا لعذرهم في التعرض كأنه قيل : الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من أنباتكم فأي عذر لكم في منعها. وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل. وقيل : لتعميمه له أيضا كما في قوله :

علفتها تبنا وماء باردا

وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥] (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل

لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الأنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤]. والجار والمجرور متعلق بالفعل. والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلا كالطرد والعقر وغير ذلك. وقيل : الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل. والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها فضلا عن الإصابة فهو كقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣].


(فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) منصوب في جواب النهي. والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم. والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه من صنيعهم.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) أي خلفاء في الأرض أو خلفاء لهم قيل : ولم يقل : خلفاء عاد مع أنه أخصر إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا (وَبَوَّأَكُمْ) أي أنزلكم وجعل لكم مباءة (فِي الْأَرْضِ) أي أرض الحجر بين الحجاز والشام (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي تبنون في سهولها مساكن رفيعة. فمن بمعنى في كما في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ويجوز أن تكون ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل كاللبن والآجر المتخذين من الطين ـ والجار والمجرور ـ على ما قال أبو البقاء ـ يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده. وأن يكون مفعولا ثانيا لتتخذون. وأن يكون متعلقا به وهو متعد لواحد. والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال. والجملة استئناف مبين لكيفية التبوئة فإن هذا الاتخاذ بأقداره سبحانه (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ) أي تنجرونها ، والنحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء.

وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق ، وفي القاموس عنه أنه قرأ «تنحاتون» بالإشباع كينباع ، وانتصاب (الْجِبالَ) على المفعولية ، وقوله سبحانه : (بُيُوتاً) نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم تكن حال النحت بيوتا كخطت الثوب جبة ، والحالية ـ كما قال الشهاب ـ باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها ، وقيل : انتصاب (الْجِبالَ) ينزع الخافض أي من الجبال ، ويرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك ، ونصب (بُيُوتاً) على المفعولية ، وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا فيها ونحتوا من الجبال بيوتا ليشتّوا فيها ، وقيل : إنهم نحتوا الجبال بيوتا لطول أعمارهم وكانت الأبنية تبلى قبل أن تبلى أعمارهم (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعمه التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا ، وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإن حق آلائه تعالى أن تشكروا ولا يغفل عنها فكيف بالكفر ، والعثي الإفساد فمفسدين حال مؤكدة كما في (وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [النمل : ٨٠ ، والروم : ٥٢] أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا ، والجملة استئناف كما مر غيره مرة. وقرأ ابن عامر «وقال» بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ) إلخ ، واللام في قوله سبحانه : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) [البقرة : ٣٣ ، يوسف : ٩٦ ، القلم : ٢٨] ، وقوله تعالى : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك. والضمير المجرور راجع إلى قومه. وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين ، ولا يخفى بعده ، والاستفهام في قوله جل شأنه. (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى. ومن هنا قال غير واحد إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون.

واختار في الانتصاف أن ذلك ليس إخبارا عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا : العلم بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسأل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا (قالَ


الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) استئناف كما تقدم ، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) عدول عن مقتضى الظاهر أيضا وهو أنا بما أرسل به كافرون ، وفائدته ـ كما قالوا ـ الرد جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما كأنهم قالوا : ليس ما جعلتموه معلوما مسلما من ذلك القبيل ، وقال في الانتصاف : عدلوا عن ذلك حذرا مما في ظاهره من إثابتهم لرسالته وهم يجحدونها ، وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطا للكفر وغلوا في الإصرار (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أن نحروها. قال الأزهري : أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره ؛ وإسناده إلى الكل مع أن المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم به كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] ، وقيل : إن العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء.

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه‌السلام من الأمر السابق فالأمر واحد الأوامر ، وجوز أن يكون واحد الأمور أي استكبروا عن شأن الله تعالى ودينه وهو بعيد.

وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن (عَتَوْا) معنى التولي أي تولوا عن امتثال أمره عاتين أو معنى الإصدار أي صدر عتوهم عن أمرهم ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله : (فَذَرُوها) إلخ ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولو لا الأمر ما ترتب العقر والداعي للتأول بتولوا أو صدر أن عتا لا يتعدى بعن فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف : ٨٢] وبعضهم لا يقول بالتضمين بناء على أن عتا بمعنى استكبر كما في القاموس وهو يتعدى بعن فافهم (وَقالُوا) مخاطبين له عليه‌السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم الفاسد : (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب وأطلق للعلم به (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فإن كونك منهم يقتضي صدق ما تقول من الوعد والوعيد (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قال الفراء والزجاج : أي الزلزلة الشديدة.

وقال مجاهد والسدي : هي الصيحة ، وجمع بين القولين بأنه يحتمل أنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم ، وقال بعضهم : الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع ، وجاء في موضع آخر الصيحة وفي آخر بالطاغية ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض الملاحدة فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن الطغيان مجاوزة الحد ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) أو يقال : إن الإهلاك بذلك بسبب طغيانهم وهو معنى بالطاغية وهذا الأخذ ليس أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادئ العذاب في الأيام الثلاث كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك.

(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) هامدين موتى لا حراك بهم ، وأصل الجثوم البروك على الركب.

وقال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل ، وأصبح يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وأن تكون ناقصة فجاثمين خبر ، والظرف على التقديرين متعلق به. وقيل : وهو خبر و (جاثِمِينَ) حال وليس بشيء لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم في دارهم مقصودا بالذات ، والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار الإسلام وقد جمع في آية آخري بإرادة منزل كل واحد الخاص به ، وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وجدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات لا من الأرض كما قبل فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به فتدبر.


(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) بعد أن جرى عليهم ما جرى على ما هو الظاهر مغتما متحسرا على ما فاتهم من الإيمان متحزنا عليهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بالترغيب والترهيب ولم آل جهدا فلم يجد نفعا ولم تقبلوا مني. وصيغة المضارع في قوله سبحانه : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم ، وخطابه عليه‌السلام لهم كخطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر حين نادى يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما عدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم وذلك مبني على أن الله تعالى برد أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويحتمل أنه عليه‌السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال ، وجوز عطف (فَتَوَلَّى) على (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر ، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها : فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق. وغيره أن عادا لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح عليه‌السلام من أوسطهم نسبا وبعث إليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم : أية آية تريدون؟ فقالوا : تخرج غدا معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح : نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة ـ الصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ـ ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظما وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة قال لهم : هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاءوا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاءوا ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لإحداهما عنيزة بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل ، وبقر ، وغنم ويقال للأخرى : صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح : عليه‌السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما


أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلا يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع ابن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون إنه لزانية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزا منيعا في قومه فرضي وانطلق وهو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه‌السلام قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوا على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.

وعن ابن إسحاق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فأصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح : انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزءون به ويقولون متى هو وما آيته؟ فقال : تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فأتوه ليلا فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم : بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال : ليس لكم إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه‌السلام ومن معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه‌السلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له : أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن. وروي أنه عليه‌السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار. وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.

وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال : إن صالحا لما نجا هو والذين معه قال : يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها فأظعنوا وألحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربي الكعبة. وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه‌السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بني الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء ، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه ، وجاء أن أشقى


الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه. وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين. والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة. وقد أشارت الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلا قتله بل معتقدا الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه :

يا ضربة من تقى ما أراد بها

ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البرية عند الله ميزانا

ولله در من قال :

يا ضربة من شقي أوردته لظى

فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا

كأنه لم يرد شيئا بضربته

إلا ليصلى غدا في الحشر نيرانا

إني لأذكره يوما فألعنه

كذاك ألعن عمران بن حطانا

وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضربا من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجيا من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال ، وما ألطف قول عمارة اليمني :

لا تعجبا لقدار ناقة صالح

فلكل عصر ناقة وقدار

وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصارا على ما تقدم لأنه أشهر (وَلُوطاً) نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به من غير حاجة إلى تقدير ، وإنما لم يذكر المرسل إليهم على طرز ما سبق وما لحق لأن قومه ـ على ما قيل ـ لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه‌السلام مضافا إليهم كما في القصص من قبل ومن بعد وهو ابن هاران بن تارخ. وابن إسحاق ذكر بدل تاريخ آزر وأكثر النسابين على أنه عليه‌السلام ابن أخي إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورواه في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه‌السلام عم إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل : إن لوطا كان ابن خالة إبراهيم وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع إبراهيم فهاجر إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهو كرة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص.

وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : أرسل لوط إلى المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم ، وأمورا ، وعامورا ، وصبوير وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة ، وهذا اللفظ ـ على ما قال الزجاج ـ اسم أعجمي غير مشتق ضرورة أن العجمي لا يشتق من العربي وإنما صرف لخفته بسكون وسطه ، وقيل : إنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين ، ويقال : هذا لوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه. وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف لأرسلنا كما قال غير واحد. واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية ، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتدا كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما قرره القطب ، وجوز أن يكون (لُوطاً) منصوبا باذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة ، و (إِذْ) بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية ، وقال أبو البقاء : إنه ظرف الرسالة محذوفا أي واذكر رسالة لوط إذ قال : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته (ما


سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في الكشاف من قولك : سبقته بالكرة (١) إذا ضربتها قبله ، ومنه ما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبقك بها عكاشه» وتعقبه ابن حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء المعدية في الفعل المعدي إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت : صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا وملتبسا بها ، ودفع بأن المعنى على التعدية ، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف ، وقال القطب الرازي : إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقا على ضربه الكرة. ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال ، و (مِنْ) الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض ، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ ، وجوز أن يكون بيانا كأنه قيل : لم لا نأتيها؟ فقال : ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد ، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة. ووجه كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الأصنام مثلا بقولهم : إنا وجدنا آباءنا.

وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل ، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم ، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير بها فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط ، والذي حملهم على ذلك ـ كما أخرج ابن عساكر. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وأنهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض : إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا : بأي شيء نمنعها؟ قالوا : اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبا وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم. وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرءوا على ذلك. وجاء من رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولا النساء في أدبارهن ثم أتوا الرجال. وفي قوله : (مِنَ الْعالَمِينَ) دون من الناس مبالغة لا تخفى.

وقوله سبحانه : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) يحتمل الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة ، والإتيان هنا بمعنى الجماع ، وقرأ ابن عامر. وجماعة أإنكم بهمزتين صريحتين ، ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد ، ومنهم من مد وهو حينئذ تأكيدا للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ ، وفي الإتيان بأن واللام مزيد تقبيح وتقريع كأن ذلك أمر لا

__________________

(١) قوله كرة بخطه والصواب كورة وهي معروفة حاكمها الآن الأمير عبد الله بوساطة الانكليز.


يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا ، وفي إيراد لفظ (الرِّجالَ) دون الغلمان والمردان ونحوهما ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مبالغة في التوبيخ كأنه قال : لتأتون أمثالكم (شَهْوَةً) نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لا غير أو على الحالية بتأويل مشتهين ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية وناصبة تأتون لأنه بمعنى تشتهون ، وفي تقييد الجماع الذي لا ينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس غرضهم قضاء الشهوة ، وفيه تنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لإقضاء الشهوة ، وجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبئ عنه قوله تعالى : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير تأتون ، وجوز أن يكون حالا من الرجال ـ على ما قاله أبو البقاء ـ أي تأتونهم منفردين عن النساء ، وأن يكون في موضع الصفة لشهوة ـ على ما قيل ـ واستبعد تعلقه به ، و «بل» للإضراب وهو إضراب انتقالي عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد الإسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها.

ويحتمل أن يكون إضرابا عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في ذلك أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف والخروج عن الحدود ، وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل إلا أنه عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رءوس الآي المتقدمة في كل والله تعالى أعلم بأسرار كلامه (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي المستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابهم شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض معرضين عن مخاطبته عليه‌السلام (أَخْرِجُوهُمْ) أي لوطا ومن معه (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها. والنظم الكريم من قبيل :

تحية بينهم ضرب وجيع

والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن ما ذكر في حيز الاستثناء لا تعلق له بكلامه عليه‌السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ووسمهم بما هو أصل الشر كله. ولو قيل : وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الإفادة.

وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) تعليل للأمر بالإخراج. ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقرئ برفع «جواب» على أنه اسم كان ، و «إلا أن قالوا» إلخ خبر قيل : وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعة لأن الأعراف أحق بالاسمية. وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.

وأيا ما كان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط عليه‌السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى الذهن بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينه عليه‌السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة ، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكي عنهم في غير موضع من الكتاب الكريم ؛ وكذا يقال في نظائره ، قيل : وإنما جيء بالواو في (وَما كانَ) إلخ دون الفاء كما في النمل. والعنكبوت لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل.

ولعل ذكر (أَخْرِجُوهُمْ) هنا و (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) في [النمل : ٥٦] إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى


ذاك أو أن بعضا قال كذا وآخر قال كذا. وقال النيسابوري : إنما جاء في النمل (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) ليكون تفسيرا لهذه الكناية ، وقيل : إن تلك السورة نزلت قبل الأعراف. وقد صرح في الأولى ، وكني في الثانية اه. ولعل ما ذكرناه أولى فتأمل (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي من اختص به واتبعه من المؤمنين سواء كانوا من ذوي قرابتهعليه‌السلام أم لا؟. وقيل : ابنتاه ريثا ويغوثا. وللأهل معان ولكل مقام مقال. وهو عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف. ولقوله سبحانه : «قال لأهله امكثوا. وسار بأهله» فتدفع الوصية لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة. وعند الإمامين أهل الرجل كل من في عياله ونفقته غير مماليكه وورثته ، وقولهما ـ كما في شرح التكملة ـ استحسان. وأيده ابن الكمال بهذه الآية لأنه لا يصح فيها أن يكون بمعنى الزوجة أصلا لقوله سبحانه : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنه استثناء من أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء ، وأنت تعلم أن الكلام في المطلق على القرينة لا في الأهل مطلقا واسم امرأته عليه‌السلام وأهله. وقيل : وآلهة (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي بعضا منهم فالتذكير للتغليب ولبيان استحقاقهما لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا.

وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب والغابر بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي :

فغبرت بعدهم بعيش ناصب

ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول الأعشى : في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح. وغيره ، ويكون بمعنى الهالك أيضا. وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم روايتان ثانيتهما أنه عليه‌السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن الالتفات فالتفتت هي فأصابها حجر فهلكت. والآية هنا محتملة للأمرين. والحسن وقتادة يفسران الغبور هنا بالبقاء في عذاب الله تعالى. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام. والجملة استئناف وقع جوابا نشأ عن الاستثناء كأنه قيل : فما كان حالها؟ فقيل : كانت من الغابرين.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله سبحانه : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر : ٧٤]. وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار. وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم. وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم حتى إن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب ، وفي الصحاح عن أناس أن مطرت السماء وأمطرت بمعنى ، وفي القاموس لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب. وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح لكنه قال : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال : مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال : أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر. وحاصل الفرق ـ كما في الكشف ـ ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا عدّي بعلى ، وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول : إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعا من الخير لجاز أن يقال فيه : أمطرت السماء خيرا أي أرسلته إرسال المطر فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا مقصود في الوضع وليس به انتهى. ويعلم منه ـ كما قال الشهاب ـ أن كلام أبي عبيدة. وإضرابه مؤول وأن رد بقوله تعالى : (عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] فإنه عنى به الرحمة. ولا يخفى أنه لو قيل : إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في ذلك ، ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم إن مطرا إما مفعول به أو مفعول مطلق (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي مآل أولئك الكافرين


المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء. وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من أفعالهم. وقد مكث لوط عليه‌السلام فيهم ـ على ما في بعض الآثار ـ ثلاثين سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه‌السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول : سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك.

ثم إن لوطا عليه‌السلام ـ كما أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن الزهري ـ لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه‌السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى إليه. وفي هذه الآيات دليل أن اللواطة من أعظم الفواحش. وجاء في خبر أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سماوات فردد لعنة على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة فقال : ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط» الحديث. وجاء أيضا أربعون يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل. وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن مجاهد رضي الله تعالى عنه إن الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجسا أي إن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم الذي بعده عن ربه. والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة.

وألحق بها بعضهم السحاق وبدا أيضا في قوم لوط عليه‌السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه‌السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال.

وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي : عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال : الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء. وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر : سلوني؟ فقال ابن الكواء : تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال كرم الله تعالى وجهه : سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الآية. ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت. نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة.

ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره. واختلاف في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر. وفي التتارخانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكة أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولا واحدا. وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في الشرنبلالية لئلا يتجرأ الفسقة عليهم بظنهم حله.

واختلف في حد اللواطة فقال الإمام : لا حد بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. والظاهر على ما قال البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه وقال الإمامان : إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد إجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده. وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك الإخصاء والجب والجلد أصح. وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعا ، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة. قال في الفتح : وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون. وعن علي كرم الله


تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط عليه‌السلام بإمطار الحجارة عليهم. وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك. وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة ، وقيل : سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد. وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقا لاسم السبب على المسبب أي إن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع. وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال : جرت هذه المسألة بين أبي علي ابن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد : لا يمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للأذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه. الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد : هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ انتهى. وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فإن رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي. وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعبير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له : يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعيّر ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى ؛ ولا ينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار. وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا ، وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها. ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين ، ومنهم يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بإعجازهم ؛ نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا : إنه لا يجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر أخذا من المجتبي. وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة عليها عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا. هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه‌السلام ، وذكر بعضهم في قصة قوم صالحعليه‌السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه‌السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونه مأمورة بأمره عزوجل مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل : إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة النظرية. وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علوم الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع. وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه‌السلام. وقال آخرون : إن الناقة كانت معجزة صالح عليه‌السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم. ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) أي مستعدين للخلافة (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض القلب (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها) وهي المعاملات بالصدق (قُصُوراً) تسكنون


فيها (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ) وهي جبال أطوار القلب (بُيُوتاً) هي مقامات السائرين إلى الله.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهي الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) من أوصاف القلب والروح (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) ليدعو إلى الأوصاف النورانية (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) بسكاكين المخالفة (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) لضعف قلوبهم وعدم قوة علمه (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) موتى لا حراك بهم إلى حظيرة القدس.

وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقه من قبيل ذبح يحيى عليه‌السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم القيامة. وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعدادا وأتمهم حرمانا. ويدل على سوء حالهم. أن الشيخ الأكبر قدس‌سره لم ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه‌السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره. وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه‌السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم. والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) عطف على ما مر. والمراد أرسلنا إلى مدين إلخ. ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة ، وقيل : هو عربي اسم لماء كانوا عليه ، وقيل : اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذ أي أهل مدين مثلا أو المجاز. والياء على هذا عند بعض زائدة. وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل.

وقال آخرون : إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام. عند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل. واختير أنه وضع مرتجلا هكذا. والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل : ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب ، وبعضهم يقول : ميكائيل بدل ميكيل ، ونقل ذلك عن خط الذهبي في اختصار المستدرك. وآخر يقول ملكاني بدله.

وذكر ابن أم ميكيل بنت لوط عليه‌السلام. وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي ابن القطامي ـ وكان نسابة ـ أن شعيبا هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب ـ بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر ـ بن إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل في نسبه غير ذلك ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ ذكر شعيب يقول : «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه» أي محاورته لهم ، وكأنه ـ كما قيل ـ عنى عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه. وبعث رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة ، قال السدس : وعكرمة رضي الله تعالى عنهما. ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله تعالى بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة.

وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أن قوم مدين. وأصحاب الأيكة آيتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا. وهو ـ كما قال ابن كثير ـ غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة ، واحتج له بأن كلا


منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى. ومن الناس من زعم أنه عليه‌السلام بعث إلى ثلاث أمم ، والثالثة أصحاب الرس. والقول بأنه عليه‌السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليما من منفر ومثلوه بالعمى ، والبرص ، والجذام ، ولا يرد بلاء أيوب. وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروئه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه ، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته. وقد يقال : إن صح ذلك فهو من هذا القبيل.

(قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل : فما ذا قال لهم؟ فقيل قال: (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) مر تفسيره (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم. ولم تذكر معجزته عليه‌السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء عليهم‌السلام فيه.

والقول بأنه لم يكن له عليه‌السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) لترتيب الأمر على مجيء البينة ، واحتمال كونها عاطفة على (اعْبُدُوا) بعيد ، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل : قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا إلخ ؛ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب. ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس (فَأَوْفُوا) إلخ وليس بشيء كما لا يخفى. وقال الزمخشري : إن من معجزاته عليه‌السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه‌السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم. الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه‌السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه‌السلام فكانت معجزات لشعيب اه.

وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه ، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسىعليه‌السلام أو إرهاصا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليه‌السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي.

وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة ، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه‌السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليهم‌السلام لمريم. إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسىعليهما‌السلام ، والمراد بالكيل ما يكاد به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به. ويؤيده أنه قد وقع في سورة (الْمِكْيالَ) [هود : ٨٤ ، ٨٥] ، وكذا عطف (الْمِيزانَ) عليه هنا ، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد ، وقيل : إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس. وتعدى إلى مفعولين أولهما (النَّاسَ) والثاني (أَشْياءَهُمْ) أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع ، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده ، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه.

وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس. وروي أنه يعطونه أيضا بدلها زيوفا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء قيل : ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه


للسائل عنه. وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفا وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبدأ عليه‌السلام بذكر هذه الواقعة ـ على ما قال الإمام ـ لأن عادة الأنبياء عليهم‌السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدءوا بمنعهم عن ذلك النوع ، وكان قومهعليه‌السلام مشغولين بالبخس والتطفيف أكثر من غيره ، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضا (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالجور أو به وبالكفر (بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع ، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف ، والفاعل الأنبياء وأتباعهم.

وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها ، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان ، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها. ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأيا ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر.

ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم ، وقيل : ليس المراد من (خَيْرٌ) هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : المراد بالإيمان معناه اللغوي ، وتخص الخيرية بأمر الدنيا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي ، ومثل هذا الشرط ـ على ما قال الطيبي ـ إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد ، ويعلم من هذا أن شعيبا عليه‌السلام كان مشهورا عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهورا عند قومه بالأمين ، وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر : إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقا.

وقال القطب الرازي : إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل : فأتوا بهم إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. قيل : المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلكم خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا ، وشرط الإيمان لأنّ الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر ، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيرا لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى ، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جدا.

وزعم الخيالي أن الأظهر أن (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي ، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه. وقد فر من هرة وقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) أي طريق من الطرق الحسية (تُوعِدُونَ) أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم : إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم.

ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجا مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان ، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضا. والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود. وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع


في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل. وقيل : كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك. وروي عن أبي هريرة. وعبد الرحمن بن زيد. ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل : إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل.

(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الموصلة إليه وهي الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بيانا لكل صراط دلالة على عظم ما تصدق عليه وتقبيحا لما كانوا عليه ، وقوله سبحانه : (مَنْ آمَنَ بِهِ) مفعول (تَصُدُّونَ) على أعمال الأقرب لا (تُوعِدُونَ) خلافا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذ إظهار ضمير الثاني. ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال: تصدونهم وإذا جعل (تَصُدُّونَ) بمعنى تعرضون يصير لازما ولا يكون مما نحن فيه. وضمير (بِهِ) لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل ، وجملة (تُوعِدُونَ) وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير (تَقْعُدُوا) أي موعدين وصادين : وقيل : هي على التفسير الأول استئناف بياني ، والأظهر ما ذكرنا (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الاعوجاج : وهذا أخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكما بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لا يعوج. وفي الكلام ترق كأنه قيل : ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل. وعلى ما روي عن أبي هريرة. وابن زيد جاز أن يراد يبتغونها عوجا عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها.

وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذ معنى اللام في قوله سبحانه : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] سائر الأوجه في الكلام الحذف والإيصال.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) عددكم (فَكَثَّرَكُمْ) فوفر عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس. وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا.

وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين ، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. و (إِذْ) مفعول (اذْكُرُوا) أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي اذكروا ذلك الوقت أو ما فيه (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود واعتبروا بهم (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) من الشرائع والأحكام (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) به أو لم يفعلوا (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) خطاب للكفار ووعيد لهم أي تربصوا لترواحكم الله تعالى بيننا وبينكم فإنه سبحانه سينصر المحق على المبطل ويظهره عليه أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من الطيب ، والظاهر الاحتمال الأول. وكان المقصود إن أيمان البعض لا ينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية السداد. (١)

__________________

(١) تم والحمد لله رب العالمين الجزء الثامن من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوله (قال الملأ)


فهرس المجلد الثالث

من

روح المعاني

تتمة تفسير سورة المائدة

الآيات : ٨٢ ـ ٩٦.............................................................. ٣

الآيات : ٩٧ ـ ١٢٠........................................................... ٣٤

تفسير سورة الأنعام

الآيات : ١ ـ ١٢.............................................................. ٧٤

الآيات : ١٣ ـ ٣٥........................................................... ١٠٣

الآيات : ٣٦ ـ ٥٣........................................................... ١٣٤

الآيات : ٥٤ ـ ٧٣........................................................... ١٥٨

الآيات : ٧٤ ـ ٨٣........................................................... ١٨٣

الآيات : ٨٤ ـ ١١٠......................................................... ١٩٩

الآيات : ١١١ ـ ١٢٩........................................................ ٢٤٧

الآيات : ١٣٠ ـ ١٤٢........................................................ ٢٧٠

الآيات : ١٤٣ ـ ١٤٧........................................................ ٢٨٣

الآيات : ١٤٨ ـ ١٦٥........................................................ ٢٩٢

تفسير سورة الأعراف

الآيات : ١ ـ ١٨............................................................. ٣١٦

الآيات : ١٩ ـ ٣١........................................................... ٣٣٨

الآيات : ٣٢ ـ ٥٣........................................................... ٣٥٠

الآيات : ٥٤ ـ ٧٢........................................................... ٣٧١

الآيات : ٧٣ ـ ٨٧........................................................... ٤٠٠

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - ٤

المؤلف:
الصفحات: 416