
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ.)
اعلم أنّ جمعا من
المفسرين صرّحوا بأنّ هذا مقول على ألسنة العباد ، ومعناه تعليم عباده كيف
يتبرّكون باسمه ، وكيف يحمدونه ويمجّدونه ، ويسألون من فضله وهو واضح كما يشهد به
إيّاك نعبد إلخ ، وتسميتها تعليم المسئلة.
إذا تمهّد هذا
فنقول : في التصدير بالبسملة دلالة على استحباب الابتداء بها في الأمور كلّها ،
خصوصا الدّعاء ، سيّما مع كون متعلّق الباء الابتداء فعلا أولا حتّى قال الشيخ أبو
على الطبرسيّ «معناه استعينوا في الأمور باسم الله بأن تبدؤا بها في أوائلها كما
فعله في القرآن» وفي الوصف بالرّحمن الرّحيم المشتمل على أنواع الرحمة كلّها تنبيه
على هذا العموم كما لا يخفى.
قال القاضي إنّما خصّ التسمية بهذه الأسماء ، ليعلم العارف أنّ
المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور ، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم
كلّها ، عاجلها وآجلها ، جليلها وحقيرها ، فيتوجّه إليه بشراشره ، ويشتغل
بالاستمداد به عن غيره. وفيها تنبيه أيضا على قدرته تعالى واختياره وعلمه وعمومه
فيها وترغيب للعباد ، وتغليب للرجاء ، وترهيب ما على تركها ، فيكره.
ويستفاد استحباب
الدّعاء والسؤال والتوبة إليه تعالى وكراهة الترك بل وجوب
__________________
التوبة وحرمة
تركها وكراهة الاستعانة بغيره ، سيّما بالابتداء باسمه ، وربما حرم وكذلك السؤال
ويستفاد أيضا أنها أحبّ أفراد التسمية سيّما من «بسمك اللهم» ونحوه ممّا كان شائعا
في زمان النزول.
وقيل : يمكن
الاستدلال بها على وجوب التّسمية فيما لم يدلّ دليل على عدمه مثل الذبح بأنّ الآية
كالخبر المشهور [وهو قوله صلىاللهعليهوآله «كلّ أمر ذي بال
إلخ] دلّت
__________________
على وجوب التسمية
، وضع عنه المتّفق على عدمه فيبقى الباقي تحته فيجب في الذبح وفيه تأمل.
__________________
ثمّ التحميد قريب
من ذلك في الدلالات كما لا يخفى ، وفي تعلّق الحمد به تعالى دليل على أنه تعالى
قادر مختار لأن الحمد إنما يكون على الجميل الاختياريّ كما
__________________
هو المشهور ، وكذا
في ربّ العالمين ، إذ فيه أنه خالق ما سواه جميعا ، ومنه الحوادث والموجب القديم
لا يكون أثره إلّا قديما ، ويلزم من اختياره حدوث جميع العالم ، لأن
__________________
أثر المختار لا
يكون إلّا حادثا كما هو مذكور في الكتب.
وفي اختصاص الحمد
به دلالة على كونه تعالى قادرا مختارا مفيدا للقدرة والاختيار
__________________
عالما حكيما عدلا
مريدا منزّها عن النقائص ، فلا قبيح في فعله ولا جور في قضيّته ولا عبث في صنعه ،
وكذلك في ربّ العالمين.
وأيضا قد استدلّ
به على الحسن والقبح العقليّين ووجوب الشكر عقلا قبل مجيء
__________________
الشرع ، لأن كون
حقيقة الحمد أو جميع أفراده حقه وملكه على الإطلاق ، يدلّ على ثبوت هذا الاستحقاق
قبل مجيء الشرع ، ولأنّ ترتّب الحكم على الوصف المناسب يدلّ على كون الفعل معلّلا
به ، فالظاهر استحقاقه الحمد للأوصاف المذكورة وهي
__________________
ثابتة سواء قبل
مجيء الشرع أو بعده.
وقيل في (رَبِّ الْعالَمِينَ) دليل على أنّ الممكن مفتقر في البقاء كما في الحدوث
__________________
وقد يتأمل فيه.
وفي (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نحو ما تقدّم فيهما في البسملة ، وتنبيه على وجه
__________________
تخصيص الحمد
والعبادة والاستعانة به تعالى ، وفي التكرار تنبيه على مزيد العناية بالرحمة.
وفي (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إثبات للقيامة والمعاد وترغيب وترهيب وتنبيه على الانقطاع
__________________
عن غيره إليه
تعالى كما أوضح ذلك بما بعده مع غلبة الرجاء كما نبّه عليه قبله على أنّ المالك لا
يضيع مملوكه ولا الملك رعيّته.
__________________
وفي تقديم إيّاك على نعبد إخبارا أو
إنشاء تخصيص له تعالى بالعبادة وهي أعلا مراتب الخضوع والتذلّل الذي لا يكون [يليق]
إلا للخالق ، ولذلك لا يطلق إلا بالنسبة
__________________
إلى من اتّخذه
الخاضع إلها ومنها العبادات الشرعيّة. وفيه تنبيه على قصده تعالى بها دون غيره ،
وقد ينبّه على وجوبه لأنه تعالى لا يوجب على العبد قولا من غير
__________________
مصداق ، وقد أوجب
ذلك في الصّلاة وأنزله على لسانهم تعليما ، وأوجب اتّباع القرآن وتدبّره فتأمل.
__________________
ويدلّ على وجوب
الإخلاص وترك الرياء أيضا قوله (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فان في تخصيص الاستعانة به تعالى دلالة على أنه يحرم أو
يكره الاستعانة بغيره في العبادة بل
__________________
في الأمور كلّها
إلّا ما أخرجه دليل وربّما احتمل احتمالا مرجوحا ـ كما يدل عليه سياق الكلام ـ تخصيص
الاستعانة بالعبادة به تعالى فتأمل فيه.
__________________
وحينئذ فيدلّ على
ترك التولية في العبادات مثل الوضوء والغسل وغيرهما ، وترك التوكيل وترك الاستعانة
في الصّلاة بالاعتماد على الغير مثل الآدمي والحائط
__________________
قياما أو قعودا أو
ركوعا أو سجودا أو غير ذلك مما هو استعانة فيها مطلقا.
وعلى إطلاق
الاستعانة يدلّ عليها وعلى ترك الاستعانة بغيره تعالى في شيء من
__________________
الأمور ، سيّما
بالسؤال فإنّ قبحه معلوم عقلا ونقلا من غير هذه الآية أيضا.
وبالجملة يحمل هذه
على مرجوحيّة الاستعانة مطلقا أو في العبادة إلّا ما أخرجه
__________________
الدليل والتفصيل
بالكراهة والتحريم يفهم من غيرها ، أو يحمل على الكراهة إلّا ما
__________________
يعلم تحريمه أو
جوازه ، أو على التحريم حتى تعلم الكراهة والجواز.
__________________
(الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) أى الطريق القويم إلى الحق في جميع الأمور ، وفيه بيان
__________________
للمعونة المطلوبة
أو دين الإسلام كما قاله الأكثر ، أو عبادته تعالى كما قال تعالى (وَأَنِ
__________________
اعْبُدُونِي
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فافراد لما هو المقصود الأعظم.
وقيل : إنّه
النبيّ والأئمّة القائمون مقامه عليهمالسلام وكانّ المراد صراطهم ، فهو عبارة أخرى لبعض ما تقدّم ،
ويناسبه (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أو أطلق عليهم مبالغة لأنهم فلك النجاة الّتي من ركبها نجا
ومن تخلّف عنها غرق ، والحق دائر معهم حيث داروا.
ونحوه قول من قال
إنه القرآن وكأنه من قوله تعالى (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وفيه دلالة على أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم أهمّ ما
يطلب منه تعالى وأليق ، فيستحب الدعاء وطلب الخير من الله خصوصا الهداية.
وقد يستفاد الوجوب
على بعض الوجوه وأن يسأل الله مثل ما يرى على غيره من الخير والنعماء ، وأن يستعيذ
به من مثل ما يرى على غيره من النقمة والبلاء ، وفي ذلك ترغيب وترهيب وتحريص على
الانقطاع إلى الله وطلب التوفيق منه في الأمور كلّها ، واعتقاد أنه لا يملك لنفسه
ضرّا ولا نفعا إلّا بالله تعالى.
هذا وقد يستدلّ
على عصمة الأنبياء بأنهم لو لا عصمتهم لكانوا ضالّين ، لقوله تعالى (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا
الضَّلالُ) فلا يجوز الاقتداء بهم ، فينا في الترغيب في الاقتداء بهم
مطلقا وطلب التوفيق فيه ، وهو قريب.
ثمّ لا يخفى ما في
نظم السورة من الدلالة على طريق الدّعاء ، وهو كونه بعد التسمية والتحميد والثّناء
والتوسّل بالعبادة ، والتعميم فيه كما هو المشهور ، ودلّت عليه الروايات ولذلك
سمّيت تعليم المسئلة.
__________________
آيات الطهارة
الاولى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تخصيصهم بالخطاب إمّا لعدم صحّة الوضوء والغسل بل الصّلاة
من غيرهم ، أو لعدم إتيان غيرهم بهما ، أو لأنّ هذا بيان للحكم عند تحقق إرادتهم
الصّلاة ، فناسب التخصيص بهم ، لأنهم هم المقبلون إلى الامتثال المستأهلون لهذا
البيان ، وأيضا فإنّهم استحقّوا ذلك بايمانهم ، فناسب خطابهم به تشريفا لهم
وتنشيطا.
(إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) أي أردتم الصلاة أو أردتم القيام إليها (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الغسل مفسّر بإجراء الماء ولو بآلة ، وهو المفهوم عرفا ولم
يعلم خلافه لغة ، فلا حاجة فيه إلى الدّلك خلافا لمالك ، والوجه العضو المعلوم
عرفا ، وحدّ في بعض الأخبار المعتبرة بما دارت عليه الإبهام والوسطى مستديرا وقيل : هذا تحديد عرضا.
وكيف كان طوله من
قصاص الشعر إلى أسفل الذقن ، كلّ ذلك من مستوي الخلقة لكن بعض هذا المحلّ لما كان
مسطورا بشعر اللحية غالبا ، صار عرفا أعمّ من البشرة ، وممّا سترها من الشعر وأعطى
ما عليها من الشعر حكمها ، كما يقال رأيت وجهه كلّه ولم ير ما تحت الشعر ، وربّما
كان ذلك لوقوع المواجهة به وتسميته وجها بهذا الاعتبار فافهم.
(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرافِقِ) المرفق مجتمع طرفي عظمي الذراع والعضد (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) في القاموس الكعب كلّ مفصل للعظام ، والعظم الناشز فوق
القدم ، والناشزان من جانبيها ، وظاهره أن الأول أشهر أو أثبت ، ثمّ الثاني وحمل
ما في الآية على الأوّل هو الذي ذهب إليه بعض من محقّقي أصحابنا المتقدّمين
والمتأخّرين كابن الجنيد والعلّامة ورواة زرارة وبكير ابنا أعين في الصحيح عن
الباقر
__________________
عليهالسلام .
وذهب آخرون إلى
حمله على الثاني لروايات عنهم عليهمالسلام تناسب ذلك مع الثبوت والوضوح لغة ، وانتفاء الثالث بنصّ من
الأئمة عليهمالسلام وإجماع من الأصحاب ، وإنكار ما من بعض أهل اللغة ولهذا قال
به بعض من العامّة أيضا.
والأنسب في الجمع
بين الروايات عنهم عليهمالسلام قطعا للخلاف حمل الكلّ على الأوّل ، والعلامة قده قد صبّ
عليه عبارات الأصحاب أيضا ، وجعل اعتقاد خلاف ذلك
__________________
فيها اشتباها على
غير المحصّل ، لكن كلام كثير من الأصحاب في المعنى الثاني أصرح من أن يصح فيه ذلك
، والحكم به مشهور بين الأصحاب حتّى ادّعى الشهيد في الذكرى إجماعنا عليه ، وهو
ظاهر جماعة أيضا. نعم الروايات يحتمل ذلك وربّما أمكن الجمع بين الروايات وعبارات
الأصحاب بالحمل على أنّه العظم الناتئ على ظهر القدم عند المفصل حيث يدخل تحت عظم الساق بين الظنبوبتين غالبا ، فيتّحد
الإشارة إليه وإلى المفصل كما في الرواية عن الباقر عليهالسلام لكن يخالفه صريح عبارات جمع فتأمل.
وأما الثالث فقد
ذهب إلى حمل ما في الآية عليه جمهور العامة إلّا محمّد بن الحسن ومن تبعه من
الحنفيّة وبعض الشافعيّة واستدلّوا بما لو تمّ لدلّ على صحة إطلاقه عليه واحتجّوا
أيضا بقول أبى عبيد «الكعب هو الذي في أصل القدم ينتهى الساق إليه بمنزلة كعاب
القنى» ولا يخفى أن قوله في أصل القدم نصّ في المعنى الثاني ولهذا استدلّ به عليه
بعض أصحابنا.
وفي لباب التأويل
بعد نقله المسح عن ابن عباس وقتادة وأنس وعكرمة والشعبيّ أنّ الشيعة ومن قال بمسح
الرجلين ، قالوا الكعب عبارة عن عظم مستدير على ظهر القدم ، ويدلّ على بطلان هذا
أن الكعب لو كان ما ذكروه لكان في كلّ رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقول «إلى
الكعاب» كما قال (إِلَى الْمَرافِقِ).
وفيه أنه كما صحّ
جمع المرفق بالنظر إلى أيدي المكلّفين وتثنية الكعب بالنظر
__________________
إلى كلّ رجل على
تقدير صحّة إطلاق الكعب على الظنبوبتين وإرادتهما كما ذكرتم كذلك يصحّ الجمع في
الكعب بالنظر إلى أرجلهم والتثنية بالنظر إلى رجلي كلّ شخص والإفراد بالنظر إلى
كلّ رجل على ما قلنا ، وكذلك في المرافق ولا يمنع وقوع شيء منها في أحد الموضعين
وقوع شيء آخر منها في الموضع الآخر ولا يعيّنه فيه.
على أنّ ما ذكره
قياس لو قلنا به فليس هذا من مجاريه كيف والتفنّن أفيد وأبلغ ، ومعدود من المزايا
، على أنّ القياس في هذا المقام على ما ذهبتم في الكعب يقتضي خلاف ذلك ، فان لكل
شخص حينئذ أربع كعاب فيكون على ضعف المرافق فكان أولى بأن يجمع ولو أريد التفنّن
حينئذ لكان الأوّل عكس ما وقع فافهم ، وأيضا فإنّ قياسهم بأنّ ضرب الغاية للأرجل
يدلّ على أنها مغسولة كالأيدي يقتضي لا أقل أن يكون الغايتان على وجه واحد ليتّحد
الحكمان ، فالاختلاف يبطل قياسهم مع بطلانه في نفسه ، بل يقال حينئذ الاختلاف في
الغاية دليل المخالفة في الحكم ، فيقتضي نقيض المطلوب على أنا نقول التثنية بعد
الجمع ينبه على التخفيف ، وهو المناسب للتخفيف من الغسل إلى المسح كما قلنا.
ثمّ إذا ثبت المسح
بالدلائل القطعيّة كما يأتي يعيّن خلاف ذلك في الكعب إذ لم يقل به أحد ممّن قال
بالمسح كما هو صريح كلام المخالف والمؤالف.
(وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) إنّما لم يقل «إذا» لئلا يتوهّم العطف على (إِذا قُمْتُمْ) وليس ، بل على ما اعتبر هناك من كونهم محدثين ، كأنه قال
إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم محدثين فاغسلوا كما ينبّه عليه قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلخ كما سيتّضح ، وفيه دلالة على أنّ الوضوء إن لم يكونوا
جنبا ، وفيه تنبيه على أن لا وضوء مع غسل الجنابة كما دلّت عليه رواياتنا ، وإنّما
لم يذكر موجب الوضوء صريحا كموجب الغسل لأنّ المؤمنين في ابتداء تكليفهم بالوضوء
كان حدثهم يقينا دون الجنابة ، فكأنه قيل إذا قمتم على ما أنتم عليه ، وأيضا في
قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) تنبيه على هذا ، ولما كان هذا المقدار كافيا في حسن هذا
الخطاب ، ترك الباقي إلى البيان النبوي.
وأما الإشارة إلى
موجبات الغسل جميعا كتركها كلا ، فربما نافى الإيجاز والاعجاز
فوكّل على البيان
، على أنه لا يبعد أن لا يكون غيرها يوجب الغسل بعد.
(وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) فيشقّ عليكم الوضوء أو الغسل لمرض أبدانكم أو خلل أحوالكم
وإن وجدتم الماء.
(أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) وإن لم تكونوا مرضى أو على سفر فإنه لا مانع للجمع.
ولئلا يتوهم
اختصاص الغسل بوقوع التيمم بدلا منه مع العذر لوقوعه بعده جاء بذكر موجب ظاهر
مناسب كثير الوقوع لكلّ من الوضوء والغسل.
وفي وقوع (لامَسْتُمُ النِّساءَ) في موقع (كُنْتُمْ جُنُباً) مع التفنّن والخروج عن ركاكة التكرار تنبيه على أنّ الأمر
هنا ليس مبنيا على استيفاء الموجب في ظاهر اللفظ ، فلا يتوهّم أيضا حصر موجب
الوضوء في المجيء من الغائط مع احتمال إرادة الباقي استتباعا فافهم ، وعلى كلّ حال
فيه تنبيه على أنّ كونهم محدثين ملحوظ في إيجاب الوضوء كما قدّمنا.
(فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً) هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره بالنقل عن فضلاء اللغة ذكر
ذلك الخليل وثعلب عن ابن الأعرابيّ ونقله في الكشاف عن الزجاج ولم يذكر خلافه ،
ويؤيده قوله تعالى (صَعِيداً زَلَقاً) أي أرضا ملساء مزلقة ، وقوله عليهالسلام يحشر الناس يوم القيمة عراة على صعيد واحد أي أرض واحدة وقوله عليهالسلام جعلت لي
__________________
الأرض مسجدا
وطهورا ونحو ذلك كثير في الروايات عن الأئمة أيضا وحجة الخصم لا
تفيد إلّا كون التراب صعيدا ولا منافاة ولو سلم ظاهرا فليكن للقدر المشترك حذرا من
الاشتراك فافهم.
(طَيِّباً) طاهرا بل مباحا أيضا.
(فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي من ذلك التيمّم أو من ذلك الصعيد المتيمّم أي مبتدئين
منه ، ولعلّ التبعيض هنا ليس بلازم ، وإن كان لا يفهم أحد من العرب من قول القائل
مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلّا معنى التبعيض كما قاله في الكشاف ،
فان ذلك قد يكون للغرض المعروف عندهم من التدهين والتنظيف ونحو ذلك مع إمكان المنع
عند الإطلاق في قوله من ، التراب على أنه يمكن أن يقال أنّ «من» في الأمثلة كلها
للابتداء كما هو الأصل فيها ، وأما التبعيض فإنّما جاء من لزوم تعلّق شيء من الدهن
والماء باليد ، فيقع المسح به ، ونحوه التراب إن فهم ، فلا يلزم مثله في الصعيد
الأعمّ من التراب والصخر.
ويؤيّده ما روى
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله نفض يديه من
التراب ، لأنه تعريض لإزالته وهو عندنا في الصحيح عن الأئمة عليهمالسلام فعلا وقولا ، وأيضا لو كان «من» هنا للتبعيض لأوهم أنّ
المراد أن يؤخذ بعض الصعيد ويمسح به بعض الوجه والأيدي وهو ليس بمراد قطعا ، وإذا
كان للابتداء دلّ على أنّ المراد مسح الوجه واليدين بعد مسح الصعيد أو تيممه وليس
بعيدا من المراد ، وموهما خلافه فتدبر.
(ما يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ) أي أن يجعل ، فاللام زائدة (عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ) في باب الطهارة حتّى لا يرخّص في التيمم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء كما في الكشاف ، أو أن
يجعل عليكم من حرج في الدين أصلا خصوصا
__________________
في باب الطهارة ،
ولذلك لم يوجب على المحدث الغسل ، واكتفى عند عدم وجدان الماء من غير حرج أو حصول
حرج في استعماله بالتيمم ولم يوجب فيه إيصال الصعيد إلى جميع البدن ، ولا إلى جميع
أعضاء الوضوء ، ولا جميع أعضاء التيمّم ، ولكن يريد أن يطهّركم من الذنوب أو من
الأحداث ، أو منهما ، أو وغيرهما بما يليق بكم ، ولا يضيق عليكم ، كما أمركم علي
الوجه المذكور.
قال القاضي أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمّم
تضييقا عليكم ، ولكن يريد ذلك لينظّفكم أو يطهّركم من الذنوب ، فان الوضوء تكفير
للذنوب ، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهّر بالماء ، فمفعول يريد في الموضعين
محذوف واللام للعلّة ، قال : وقيل مزيدة أي اللّام وهو ضعيف ، لأنّ أن لا يقدّر
بعد المزيدة وهو سهو منه ، فإنّه قال في تفسير قوله (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أنّ يبيّن مفعول يريد ، واللام مزيدة لتأكيد معنى
الاستقبال اللازم للإرادة ، وهو تناقض.
وقال المحقق الرضى
قدس الله سره : إن اللام زائدة في لا أبا لك عند سيبويه
__________________
وكذا اللام
المقدّر بعدها «أن» بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
و (لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي ليتمّ بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم أو مكفّر لذنوبكم
نعمته عليكم في الدين ، أو ليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه ، وربما كان في هذا
تنبيه على أن الصلاة بلا طهارة غير تامة ، فربما احتمل أن يراد بالنعمة الصلاة أو
شرعها.
__________________
(لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعمته أو إتمام النعمة أو هما بالعمل بما شرع لكم ،
فيثيبكم ويزيدكم من فضله ، وفيه كما قيل إيماء إلى كون العبادات تقع شكرا وهو قول
البلخيّ وتحقيقه في الكلام.
هذا ولنعد إلى ما
بقي من الأبحاث والتنبيه على الأحكام.
فاعلم أنّ ظاهر
الأمر الوجوب ، وإذا تفيد العموم عرفا ، فقد يلزم وجوب الوضوء لكلّ صلاة ، لكن
الحقّ أنه هنا مقيّد بالمحدثين ، لما قدّمنا ، وللإجماع والاخبار ، وقيل : كان
الوضوء واجبا لكلّ صلاة أوّل ما فرض ، ثمّ نسخ وهو مع ما ضعّف به من أنّه
__________________
لا يظهر له ناسخ
وإطباق الجمهور على أنّ المائدة ثابتة لا نسخ فيها ، وما روي عنه عليهالسلام «إنّ المائدة من
آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» يدفعه اعتبار الحدث في التيمم في الآية ، فإنّه لا يكون إلّا مع
اعتباره في الوضوء كما لا يخفى.
وقيل للندب
مستشهدا بما روي في استحباب الوضوء لكلّ صلاة من فعله عليهالسلام وغيره ، ويدفعه مع ما تقدّم من اعتبار الحدث في التيمّم في
الآية قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) إذ لا مجال للندب فيه مع أنّ الظاهر اتحاد الأمرين في
الوجوب أو الندب ، وأيضا الوضوء على المحدثين للصلاة واجب فكيف يصحّ الندب مطلقا
ولو أريد بالصلاة مطلقها فاستحباب الوضوء لكلّ صلاة سنّة أو مستحبّة للمتوضّئ غير
واضح ، وكأنّ الباعث على هذين القولين الفرار من محذور العموم ، وقد عرفت أنّ
التقيد بالمحدثين أوضح.
وما يقال من حمل
الأمر على ما يعمّ الوجوب والندب من الرجحان المطلق
__________________
ويكون الندب
بالنسبة إلى المتوضّئين والوجوب بالنسبة إلى المحدثين ، فيقال : إن قصد ذلك بالأمر
فلا ريب أنه استعمال له في معنيي الوجوب والندب ، وهذا وإن كان
__________________
مجازا جائزا مع
البيان النبويّ ، لكن بدون قرينة في الكلام بعيد جدا ، وإن لم يقصد به ذلك فلا
يكون المنع من الترك مطلوبا به ، وهو مع كونه خلاف الظاهر من كون الأمر للوجوب لا
يناسب حمل بقية الأوامر على الوجوب ، كما لا يخفى.
وينافي سياق الآية
، فإنّ الظاهر كما يدلّ عليه عجز الآية أنّه مسوق لأمر عظيم ولذلك لم يذكر فيها
إلّا ما هو واجب في الوضوء ، وبالجملة لا ريب في كون الأمر هنا للوجوب ، وأنّه
مخصوص بالمحدثين ففي الآية دلالة على وجوب الوضوء بل الطهارة مطلقا للصلاة ، وأنّه
شرط فيها ، لأنه مأمور بالطهارة قبل الصلاة ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ،
وقد يفهمه العرف أيضا فكأنّه قال لا تصلّوا إلّا بطهارة.
فإن قلنا : الصلاة
على إطلاقها فيلزم من أشراطها فيها استحبابها للمستحبّة منها ، ووجوبها للواجبة
منها ، ولكن لمّا كان الأمر مشروطا بإرادة منتهية إلى فعل الصلاة مع كونه للوجوب ،
وجب أن يجب للصلاة عند ذلك ، فيجب للصلاة الواجبة لهذا وللاشتراط ، وللصلاة
المندوبة أيضا كما قيل عند ذلك ، فيعاقب على تركه أيضا يعاقب على فعلها بمقتضى
الاشتراط ، وإنّما يستحبّ لها قبل ذلك فتأمل.
وقد يستدلّ
بالاشتراط على وجوب قصد إيقاعه للصلاة مستشهدا بالعرف ، وفيه نظر ، ثمّ فيها دلالة
على وجوب أمور في الوضوء :
الف ـ غسل الوجه ،
وأنّه أوّل أفعال الوضوء ، فلا يجوز تأخير النيّة عنه ، ولا تقديمها مع عدم بقائها
عنده إلّا بدليل ، ولا يدلّ على تعيين مبدء ولا على ترتيب بين أجزاء الوجه ، نعم
نقل أنّ فعلهم عليهمالسلام كان من الأعلى إلى الأسفل وهو المأنوس يسرا وعادة ، فهو الاحتياط ، لكن يكتفى بما
يصدق ذلك معه عرفا ، ولا على وجوب
__________________
المسّ باليد ولا
الدلك ، ولا على وجوب التخليل بعد غسل الظاهر من البشرة ، أو الوجه مطلقا خفيفة
كانت اللحية أو كثيفة كما دلّت عليه روايات صحيحة ، ولا على التكرار ، ولا عدمه بل
حكمه ثانيا وثالثا معلوم من الاخبار.
ويدلّ على تعيين
الماء للغسل للعرف ، ويكشف عنه قوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ويجب ان يكون مباحا ، فان استعمال غيره غصب ، وهو منهيّ
يستلزم الفساد في العبادة على أنّ الشيء الواحد عندنا لا يكون منهيّا مأمورا به
كما تقرّر في الأصول.
ب ـ غسل الأيدي
فالظاهر وجوب غسل اليد الزائدة ، سواء فوق المرفق أو تحته وإن تميّزت عن الأصليّة
لتسميتها يدا وما لم يسمّ يدا يغسل ما كان منه تحت المرفق أو فيه على ما يأتي ، و
«إلى» ههنا إمّا بمعنى «مع» فيجب غسل المرفق كما هو المشهور ، أو لانتهاء غاية
المغسول لا الغسل على موضوعها اللغوي ، فإنّ إجماع الأمة على جواز الابتداء من
المرفق ، فقيل إنّها تفيد الغاية مطلقا ، ودخولها في الحكم أو خروجها منه لا دلالة
لها عليه ، وإنّما ذلك بدليل من خارج ، فلما كانت الأيدي متناولة لها ، حكم
بدخولها احتياطا.
وقيل إلى من حيث
أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها ، وإلّا لم يكن غاية كقوله (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لكن لمّا لم تتميّز الغاية هاهنا عن ذي الغاية ، وجب
إدخالها احتياطا.
وقيل إنّ الحدّ
إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل كما في الأمثلة المتقدمة وإذا كان من جنس
المحدود دخل فيه كما في الآية ، وإذ لم يؤخذ في القيل الأوّل كون الأيدي متناولة
لها كما في الكشاف ، كان وجها رابعا أو ثالثا فافهم.
ثمّ إن قلنا إنّها
بمعنى «مع» أو أنّ الغاية داخلة لا من باب المقدّمة ، وجب إدخال ما يتوقف عليه غسل
جميع المرفق من باب المقدّمة كما لا يخفى ، ثمّ لو لم يكن هناك مرفق واحتمل اعتبار
ما لو كان له مرفق ، لكان الظاهر غسله ، واعتبار ما لو كان
__________________
كذلك لكان غسله
تعينا أو أنه لا يزيد عليه تعيّنا ولو إلى العضد إن كان ، أو من غير اعتبار أنه لا
يزيد عليه تعيّنا لأنّه أمر بغسل اليد ، ولم يوجد له ما يخرج شيئا من يده من الحكم
، فيبقى داخلا تحت الحكم فتأمل.
ويكفي في الغسل
مسمّاه كما في الوجه ، ويجب تخليل الخاتم ونحوه والشعر أيضا ، وإن كثف ظاهرا ، ولا
يدلّ على ترتيب بين اليدين وهو ظاهر ، وأما بالنسبة إلى الوجه فيمكن أن يفهم من
الفاء ، لأنّها للتعقيب بلا فصل.
فان قيل عطف بقيّة
الأعضاء على مدخول الفاء يدلّ على فعل المجموع بعد القيام ، فكأنه قيل إذا قمتم
إلى الصلاة فتوضّؤا ، قلنا : بل عطف كلّ منها على مدخول الفاء يفيد التعقيب لكلّ
منها ، فلما لم يكن ذلك مطلوبا شرعا ولا معلوما عرفا أكثر من الترتيب الذكري ،
روعي فيه ذلك ، ويؤيده الأمر في الأخبار بمراعاة ترتيب القرآن ومنه يستفاد الموالاة أيضا.
وما يقال عليه من
أنّ المراد مجرّد التعقيب لا بلا مهلة ، وعلى تقدير ذلك فلا يفهم إلّا غسل الوجه
بلا مهلة ، فمحلّ نظر.
ج ـ مسح الرأس
بمسمّاه مطلقا مقبلا أو مدبرا ، قليلا أو كثيرا ، كيف كان ، نعم إجماع الأصحاب على
ما نقل وفعلهم عليهمالسلام بيانا وغير بيان خصّصه بمقدّم الرأس ببقيّة البلل لا
بالماء الجديد اختيارا ، وجوّزه بعض نادر لروايتين صحيحتين دلّتا
__________________
على عدم جواز
المسح بفضلة الوضوء من الندى ، بل بالماء الجديد ، وحملتا على التقيّة لذلك ، وعلى
الاضطرار ، وذهب بعض إلى وجوب مسح مقدار ثلاث أصابع ، ولا دليل عليه إلّا مفهوم
بعض الاخبار ، وعموم الآية والاخبار بل خصوص كثير منها ينفيه.
د ـ مسح الرّجلين
إلى الكعبين بالمسمّى كالرأس ، وهو صريح القرآن ، فإنّ قراءة الجرّ نصّ في ذلك ،
لانّه عطف على (بِرُؤُسِكُمْ) لا محتمل غيره ، وهو ظاهر ، وجرّ الجوار مع ضعفه ربما يكون
في الشعر لضرورته مع عدم العطف ، وأمن اللبس ، أما في غيره خصوصا مع حرف العطف
والاشتباه ، بل صراحته في غيره ، فلا نحمل القرآن العزيز عليه ، مع ذلك كلّه خطأ
عظيم ، ولذلك لم يذكره في الكشّاف ، ولا احتمالا لكن ذكر ما هو مثله بل أبعد وهو
أنّه لما كان غسلها بصبّ الماء كان مظنّة للإسراف فعطفت على الرؤس الممسوحة لا
لتمسح بل لينبّه على ترك الإسراف وقال (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرينة على ذلك إذا لمسح لم يضرب له غاية في الشريعة.
ولا يخفى أنّ بناء
هذا وسياقه على أنّ وجوب غسل الرجلين في الوضوء وكونه مرادا من الآية معلوم شرعا
لا يحتمل سواه وكيف يجوز ذلك مع إطباق أهل البيت عليهمالسلام وإجماع شيعتهم الإماميّة وجميع كثير من الصحابة والتابعين
وغيرهم منهم أيضا والاخبار الكثيرة المتواترة خصوصا من طرق أهل البيت عليهمالسلام على المسح وأنّه المراد بالاية مع صراحتها فيه والاخبار من
طرقهم على الغسل غير بالغ حدّ التواتر ولا تفيد علما مع عدم المعارض فكيف في هذا
المقام.
ثمّ إنّه لا يتم
نكتة بعد الوقوع أيضا ، فان إرادة الغسل المشابه للمسح ينافيها استحباب غسلها
ثلاثا وكونها سنّة كما هو مذهبهم ، وأيضا لم يثبت إطلاق المسح بمعنى الغسل الخفيف
، وأما قول العرب تمسّحت للصلاة أو أتمسّح بمعنى الوضوء ، فان صحّ فهو إطلاق لاسم
الجزء على الكلّ فإنّه إمّا مسح أو ما يشتمل عليه عادة ، فلم يطلق على
__________________
خصوص الغسل الخفيف
، ثمّ لو صحّ فلا يصحّ في الآية ، فإنّه على هذا التوجيه مقابل للغسل الخفيف ، فان
الإسراف في ماء الوضوء ممنوع مطلقا.
ثمّ لا ريب أنّ
إرادة غسل مثل غسل الوجه واليدين على وجه لا إسراف فيه مع ذلك إلغاز وتعمية غير
جائز في القرآن سيّما مع عدم القرينة على شيء من ذلك لا صارفة ولا معيّنة ولا
علاقة مصحّحة ، أما قوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فالحقّ أنّه يقتضي خلاف ما ذكره ، لتكون الفقرتان على أبلغ
النظم وأحسن النسق من التقابل والتعادل لفظا ومعنى ، كما هو المنقول عن أهل البيت عليهمالسلام فأين هذا من التنبيه على ما قال.
ثمّ لا يخفى أنّ
المراد لو كان هذا المعنى ، لنقل عنه عليهالسلام بيانا لكونه ممّا يعمّ به ، ولا استدلّ به على عدم الإسراف
، وليس شيء من ذلك ، بل هذا توجيه لم يذكره الصدر الأوّل ولا الثاني ، ولم ينقل
عنهم ، وأيضا فإنّ هذا إنّما يتصوّر بأن يراد بقوله (وَامْسَحُوا) حقيقة المسح بالنسبة إلى الرؤس ، ومثل هذا المجاز بالنسبة
إلى الأرجل ، ولا ريب أنه أبعد من إرادة معنيي الوجوب والندب في الأمر ، وقد قال
في
__________________
اغسلوا أنه إلغاز
وتعمية فليتأمل.
وأما قراءة النصب فلأنّه معطوف على محلّ (بِرُؤُسِكُمْ) ومثله معروف شائع كثير في القرآن وغيره ، وعطفه على وجوهكم
مع تماميّة ما تقدّم وانقطاع هذا عنه بالفصل بقوله (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) والعدول عن العامل والمعطوف عليه القريبين إلى البعيدين في
جملة أخرى بعيد جدّا غير معروف ولا مجوّز ، سيّما مع عدم المقتضي كما هنا ، وقد
عرفت فتذكّر.
ثمّ ظاهر الآية
عدم الترتيب بينهما ، كما عليه أكثر الأصحاب ، ويؤيّده الأصل.
تنبيه : الظاهر أنّه لا يشترط في المسح عدم تحقّق أقلّ الغسل معه
أي جريان الماء في إمرار اليد لصدق الاسم المذكور في الكتاب والسنّة والإجماع
حينئذ لغة وعرفا وللزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة لو كان شرطا ، إذ لم يبين ،
ولأنه تكليف شاقّ
__________________
منفيّ خصوصا هنا ،
فإيجابه بعيد ، نعم هو أحوط وقد تكون المقابلة باعتبار النيّة أو باعتبار غالب
الأفراد.
وقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) في حيّز (إِذا قُمْتُمْ) كما عرفت ، ونقيضه ما بعده ، فلا يلزم وجوب غسل الجنابة
لنفسه ، بل هو كباقي الطهارات للصلاة ونحوها كما هو الظاهر ، ونقيضه بعض الأخبار
وظاهر السياق كما قدّمنا.
وتبيّن في السنّة
أنّ المراد بالمرض ما يستلزم الوضوء أو الغسل معه حرجا
__________________
وعسرا في الحال أو
المآل وكذلك السفر ، لكن قد يتحقّق مثل أعذار السفر في الحضر ويوجب التيمّم كما هو
مبيّن في السنّة وينبّه عليه عجز الآية ، فلا يبعد دخوله تحت قوله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) على أنّ المراد به مطلق الأحوال الّتي يشقّ معها الوضوء
والغسل غير المرض ، وعدم وجدان الماء ، ولو على طريق الاستتباع منبّها على ذلك
بعجز الآية معتمدا على البيان النبوّي ، مع احتمال كون غير السفر معلوما حكمه عن
محض السنّة أو العجز.
__________________
وقريب من ذلك
الأمر في (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فإنّه يحتمل أن يكون المراد مطلق الحدث الأصغر ومطلق
الجنابة بقرينة ما تقدّم كما نبّهنا ـ وأن يكون الغائط أو ما يخرج من السبيلين من
البول والغائط بل الريح ومجامعة النساء كما قاله كثير من المفسّرين فتأمّل.
__________________
فيدلّ على أنّ
الغائط أو البول بل الريح أيضا أحداث موجبة للوضوء والتيمّم وكون الجماع حدثا أكبر
موجبا للغسل والتيمّم ، وعدم اشتراط حصول المني في الجنابة فيكفي غيبوبة الحشفة
لصدق الملامسة.
وفي قوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) دلالة على أنّ الغسل والوضوء إنّما يكون بالماء لا غير ،
وعلى طلب الماء في مثل رحله وحواليه مع اجتهاد ما من غير حرج ، وأما غلوة سهم في
الحزنة وغلوتين في السهلة كما قيل ، فلا دلالة عليه فيها ، ولا في الخبر بل سياق بعض الأخبار
كالأصل ينفيه. نعم لا بأس بمراعاة ذلك على حسب الاحتياط.
ويدلّ أيضا على
وجوب الشراء مع التمكّن من غير حرج لأنّه واجد بل على قبول بذله كذلك ، ونحوه بذل
قيمته فتأمل.
وفي قوله (فَتَيَمَّمُوا) إلخ دليل على وجوب التيمّم مع العذر واشتراطه وعدم جواز التيمّم
بغير الأرض ، واشتراط طهارته بل إباحته أيضا ، وأنّ المسح ببعض الوجه وبعض الأيدي
، لأنّ الباء للإلصاق أو التبعيض ، وعلى التقديرين يصدق بمسح البعض ، ويشعر بأنّ
مسح الوجه أوّل أفعال التيمّم إلّا أن يريد بتيمّم الصعيد وضع اليد عليه أيضا ،
أمّا الترتيب والموالاة فنحو ما تقدّم في الوضوء ومراعاة العلوق أحوط وربما كان في
الروايات إشارة إليه وإلى عدمه ، فليتأمل.
وفيها دلالة أيضا
على أنّ تيمّما واحدا يكفي مع اجتماع الحدث والجنابة وأنّ التيمّم عن الجنابة مثل
التيمّم عن الحدث الأصغر ، وأنه يكفي فيهما ضربة واحدة ، وهو في أخبار صحيحة أيضا
وروي ضربتان مطلقا وللغسل فالأولى حمل الزائد على الاستحباب كما قاله علم
الهدى ، وكأنه في الغسل آكد فتأمل.
وفي العجز دلالة
على عدم الحرج في أمر الطهارة أصلا ، فلا يبلغ في الطلب حدّ
__________________
الحرج ، ولا في
استعمال الماء ، فلا يجزى مع العذر إلّا في مثل ما إذا أفرط في الطلب فوجد ، لأنّه
يجب بعد الوجدان.
ودلالة على أنّ
التيمم طهارة ورافع في الجملة ، فينبغي أن يباح به عند العذر ما يباح بالمائيّة ،
ويؤيّده ما في الاخبار نحو «يكفيك الصعيد عشر سنين ، والتراب أحد الطهورين ، وربّ
الماء وربّ الأرض واحد» وليس رافعا بالكلّيّة ، فان حكمه يزول بزوال العذر ،
والتمكّن من المبدل.
وقال شيخنا
المحقّق دام ظلّه يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو يوجد القدرة على
استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة ، فإنّه مجرّد حكم
الشارع ، فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظي فليتأمل فيه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً).
تخصيص الخطاب
بالمؤمنين لنحو ما تقدّم ، وقد يتوهّم دلالة الآية على عدم خروج المؤمن بشرب الخمر
عن الايمان ، فيكون الفاسق مؤمنا ، وفيه نظر من وجوه لا يخفى
ثمّ المراد إمّا
النهى عن فعل الصلاة والقيام إليها في حال السكر من خمر ونحوه
__________________
أو من النوم أو
أعمّ كما هو ظاهر القاضي فإنّ الصلاة مع زوال العقل لا يصحّ ، فيجب القضاء إذا
فاتته ، والمخاطب بذلك المكلّف به المؤمنون العاقلون إلى أن يذهب عقلهم ، فيجب ما
يأمنون معه من فعل الصلاة حال السكر.
(وَلا جُنُباً) يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنّث ، وهو عطف على (وَأَنْتُمْ سُكارى) لأنّ محل الجملة مع الواو النصب على الحال (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء من عامّة أحوال المخاطبين وانتصابه على الحال ، أو
صفة لقوله (جُنُباً) أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلّا مسافرين أي معذورين أو غير
مسافرين أي غير معذورين (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).
وعلى التقديرين
يدلّ على أنّ التيمم لا يرفع الحدث ، والتعبير عن مطلق المعذورين بعابري سبيل
حينئذ كأنه لتحقق الأعذار غالبا في السفر ، وأما النهي عن مواضع الصلاة ، أي
المساجد حال السكر من خمر ونحوه وجنبا إلّا مجتازين بأن تدخلوا من باب وتخرجوا من
آخر ، وفي مجمع البيان وهو المرويّ عن ابى جعفر عليهالسلام .
فان صحّت الرواية
وإلّا فينبغي النظر إلى ما في كلّ من التكلف والترجيح فالأوّل إنما يحتاج إلى حمل (عابِرِي سَبِيلٍ) على المعذورين بقرينة ما يأتي في التيمّم ، فان حمله على
المسافرين منهم فقط مع الحصر غير مناسب ، وهذا إلى حمل القرب من الصلاة على حضور
مواضعها من المسجد ، أو تقدير مواضع مضافا بقرينة عابري سبيل محمولا على ظاهره ،
أما ما يرجح به هذا من احتياج الأوّل إلى قيده بالتيمم ولزوم التكرار ففيهما نظر.
نعم يؤيده أن ذكر
الصلاة بالتيمم في المائدة يوجب على الأول دون الثاني ، أما ذكر كون الصلاة
بالتيمم بعده كما يقتضيه قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فيؤيد الأوّل لأنّ المحدث يجوز له دخول المسجد ، فلا يراد
بالاية منعه إجماعا فهو بالأول
__________________
أنسب ، ولو أريد
على الثاني المنع من الصلاة أيضا فافهم.
وذكر ذلك [أي (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) إلخ] إشارة إلى كون السكر ناقضا للوضوء ، فمع كونه بعيدا ،
كذلك كما لا يخفى ، وقد يقال يؤيده أيضا أنّ القول بتحريم دخول السكران المسجد غير
معروف ، ولا معلوم إلّا باعتبار الصلاة فيرجع إلى تحريمها ، وفيه تأمل.
وقد يؤيّده أيضا
ظاهرا عدم جواز اجتياز الجنب في المسجدين ، فإنه يقتضي ظاهرا تقييد الاستثناء أو
الصفة على الثاني فيؤيّد الأول لكن لا يبعد أن يكون نزول الآية قبل حرمة الاجتياز
فيهما كما قيل على أنّ الدلالة على جواز الاجتياز بالمفهوم على تقدير الصفة ولا
نسلم عمومه هنا ، فربّما يقال نحو ذلك على الاستثناء أيضا فتأمل.
وقال شيخنا المحقّق
دام ظله بعد تضعيف الثاني : فالظاهر أنّ المراد بصدر الاية الدخول في الصلاة وإن
أمكن جعل (وَلا جُنُباً) باعتبار المساجد بارتكاب تقدير ويحتمل أن يكون المنهيّ
القرب إلى الصلاة مطلقا ومجملا : بالنسبة إلى السكران فعلها ، وبالنسبة إلى الجنب
الدخول إلى مواضعها ويكون معلوما بالبيان ، ولا يخلو عن بعد والأول أبعد انتهى.
وعن الشهيد الثاني
: قال أهل البديع إنّ الله سبحانه استخدم في هذه الآية
__________________
لفظ الصلاة في
معناها الحقيقي ، وفي موضع الصلاة ، فإنّ قرينة (حَتَّى تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ) دلت على الصلاة ، وقرينة (إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ) على المسجد انتهى.
والظاهر أن ارتكاب
الاستخدام في قربها أقرب والأظهر أن القرب أعم من التلبّس بفعلها والتعرض له
كالعزم والقيام إليها والحضور في مواضعها المعدّة لفعلها بلا استخدام ، فان هذا هو
الظاهر من القرب منها كما لا يخفى.
وبالجملة ففي
الآية دلالة على وجوب ما يؤمن به من التلبس بالصلاة أو حضور
__________________
المسجد حال السكر
من ترك ما يستلزمه وفعل ما يستلزم عدمه حتّى قبل شرب المسكر ، فلو كان الشرب
مستلزما لحرم لهذا ، فلا يكون التكليف مخصوصا بمن شرب أو بالثمل الذي لم يزل عقله
بعد كما توهّم ، وكذا من شرب ولم يذهب عقله قبل الخروج ، فلو كان فيها أو في
المسجد فخاف ذهاب العقل قبل الخروج وجب المسارعة إلى الخروج ونحو ذلك الجنابة
فافهم.
ثم لا يخفى أنّ في
تعيين التيمم للمعذور بدلا من الغسل بعد قوله (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) دلالة على كونه كافيا للمعذور في دخول المسجد الحرام ،
والصلاة فيه والطواف ، لا يشترط فيه أكثر ممّا يشترط فيها ، فلا وجه لمنع فخر
المحقّقين من جواز الطواف بالبيت
__________________
للجنب المتيمم ،
لأنه جنب ولا يجوز دخوله المسجد إلّا عابرا لهذه الآية ، وأيضا فإنّه ينافي
الأخبار العامّة المستفيضة ، وربما استلزم الحرج ، على أنّ حمل الآية على النهي عن
قرب المسجد محل تأمل كما عرفت.
ثمّ لا يخفى أن
ترك «منه» هنا يؤيد عدم اشتراط إيصال شيء من الصعيد إلى محل المسح ، وأما باقي
الأحكام فكما تقدّم في الاولى.
(إِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا غَفُوراً) أي كثير الصفح والتجاوز كثير المغفرة والستر على ذنوب
عباده.
__________________
سورة
البيّنة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) المأمورون أما أهل الكتاب ، أو يعمّ المشركين ويحتمل مطلق
المكلفين أي ما أمروا في التورية والإنجيل كما روى عن ابن عباس ، وذهب إليه كثير ،
أو في القرآن.
(إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي العبادة أو ما يوجب الدين ، أي الجزاء والأجر ، فهي
العبادة أيضا ، بأن لا يعبدوا إلّا الله ولا يشركوا في عبادته شيئا ، وفيه إشارة
إلى أنّ الرياء نوع شرك فافهم.
__________________
فان قلنا إنّ
اللام في ليعبدوا زائدة أي «إلّا أن يعبدوا»
دل على أن كل مأمور به عبادة ، وأنه يجب إيقاعها مخلصا فمثل قضاء الدين ودفع الظلم
والنوم عند الضرورة إليه إذا لم يقع على وجه الإخلاص لم يحصل به الامتثال ، وكان
المكلّف به آثما بتركه ، وإن حصل براءة الذمة من حق الناس وبعض المصالح المتعلّقة
بالمأمور فيسقط التكليف لعدم بقاء المحل لا لوقوع الامتثال فلا يكون الإخلاص في
مثله شرطا لحصول الثواب فقط ، بل لعدم العقاب أيضا فتأمل.
وإن قلنا اللام
للتعليل كما في الكشاف والبيضاوي : احتمل ذلك أيضا أي ما أمروا بما أمروا إلّا
لأجل أن يعبدوا الله بذلك حال كونهم مخلصين له تلك العبادة ولا يبعد أن لا يعتبر
كون تعبّدهم بذلك المأمور به ، أى ما أمروا بما أمروا إلّا لأجل أن يعبدوا الله
مخلصين له العبادة ، فالأمر حينئذ إمّا بالعبادة مخلصين ، أو بما يؤدّى العمل به
إليها.
ويحتمل على الوجوه
كلّها أن يكون الحصر إضافيّا كما لا يخفى ، فلا يأتي بعض ما قلنا. نعم لا ريب في
كون العبادة على وجه الإخلاص مأمورا بها على الوجوه كلّها.
(حُنَفاءَ) حال آخر ، أى مستقيمين على طريق الحق والصواب أو مائلين
إليه عن الاعتقادات الزائفة والطرق الباطلة ، فهو تأكيد لحصر العبادة في الله ،
المفهوم من قوله إلّا إلخ بعد تأكيده بالإخلاص ، وعطف «يقيموا ويؤتوا» يدلّ على
زيادة الاهتمام
__________________
بالصلاة والزكاة (وَذلِكَ) أي عبادة الله على الوجه المذكور ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء
الزكاة دين الملّة القيّمة ، أي عبادة الملّة المستقيمة الحقّة ، وهي شريعة نبينا عليهالسلام الآن.
أو المراد بالدين
الملّة كما في قراءة : «وذلك الدين القيمة» فتكون من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، وتأنيث القيّمة
إما للردّ إلى الملّة أو الهاء للمبالغة وهذه الإضافة قد جوّزها الكوفيّون ومن لم يجوّز فإنّما لم يجوّز مع إفادة الصفة لا مطلقا ،
وهو مصرّح ، ولهذا يجوز الإضافة البيانيّة بالاتفاق ، أو صفة للكتب الّتي جرى
ذكرها كذلك أى ذلك ملّة الكتب القيّمة أو ملّة أصحابها كما قيل فتأمل.
وعلى الوجهين يمكن
أن يراد به العبادة كما لا يخفى ، بل في القراءة أيضا.
[وقد يتأمّل في
دلالة الآية على اعتبار الإخلاص في العبادة لاحتمال أن يراد بإخلاص الدين له
اختيار دين الإسلام مثلا خالصا لله ، وفيه أنه خلاف أقوال العلماء لم ينقل من
أحدهم ذلك ، وأيضا الأظهر في إخلاص الدين لله أن يوقع الأعمال الدينية خالصا لله ،
ولم سلّم فحنفاء ، فيه ما يكفي في هذا المعنى كما قدّمنا].
وبالجملة لا ريب
في دلالة الآية على اعتبار الإخلاص في العبادة ، وأشراطه فيها ، ولو من قوله (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ولعلّ إخلاصها هو أن توقعها لله وحده ، فلا ترجو بها إلّا
من عنده ، وإن كان الكمال التام أن يكون معرفتك بجلال ربّك وكرمه واعتقادك بفيّاض
فيض جوده وفضله ، فوق أن ترجو ما عنده بامتثاله ، ورسوخك في محبّته وطريق مودّته
وشوقك إلى متابعة مراده وتحصيل مرضاته أكثر من أن يكون شيء من ذلك ملحوظا لك في
عبادته ، كما هو المفهوم من قول مقتداك وهاديك ، وباب علم نبيّك عليهالسلام : «ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك
أهلا
__________________
للعبادة فعبدتك ».
ولا يخفى أنّ
الفعل لا تقع هكذا إلّا باعتبار قصده كذلك ، وهو النيّة الّتي يستدلّ الأصحاب
بالآية عليها ، والإخلاص هو المراد بالقربة الّتي يذكرونها في النيّات لتلازمهما
في العبادة الصحيحة ، وترتّبها عليه ، ولاعتبار صفة القربة في الآيات والروايات
كثيرا.
إذا تقرّر ذلك ،
فلا تصحّ مع قصد الرياء أو التبرّد أو إزالة الكسل أو الوسخ أو نحوها ، لكونه
منافيا للإخلاص فيكون مفسدا لها ، وتصحّ مع رجاء الفوز بالجنّة ، والخلود فيها ،
والخلاص من النار والأمن منها بالامتثال بها ، فان هذا غير مناف بل مؤيّد ومؤكّد
إلّا لنادر ، ولذلك تضمّن بعض الآيات والأخبار الأمر به ، والمدح عليه فافهم.
ثم لا يخفى أنّ
قوله (حُنَفاءَ) ظاهره على ما تقدّم عدم صحّة عبادة الفاسق سيّما مع إصراره
على الكبائر لأنّه غير مستقيم على طرق الحقّ والصواب ، وغير مائل إليه عن
الاعتقادات الزائفة والطرق الباطلة ، اللهم إلّا أن يراد بهم المائلون إلى الإسلام
عن الأديان كلّها ، كما في اللباب أو المتّبعون لملّة إبراهيم عليهالسلام ، وقيل حنفاء أي حجّاجا وإنما قدّمه على الصلاة والزكاة
لأنّ فيه صلاة ، وإنفاق مال ، وهو غير مناسب كما لا يخفى.
وكظاهر هذه الآية
قوله تعالى في نبأ ابني آدم (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فان ظاهر إطلاقه كما قاله القاضي أنّ الطاعة لا تقبل إلّا
من مؤمن متّق ، وفيه : إلّا على قول من يقول بأن فاعل الكبيرة غير مؤمن ، على أنّ
فيه ما فيه من الإشكال فإنّ الفقهاء لم يذكروا ذلك ، بل ظاهرهم أنّ الفسق لا يمنع
من صحة العبادة إذا فعلها على وجهها.
فلعلّ المراد أنّ
الله لا يقبل القربان بإرسال نار تأكلها إلّا من المتّقين أو أنه
__________________
لا يقبل عبادة
إلّا من المتّقين فيها ، بأن يأتي بها على وجه لا يكون عصيانا ، مثل أن يقصد بها
الرياء أو غير ذلك من المبطلات ، أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة ، فتكون
إشارة إلى أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، فهو موجب للفساد ، فلا يلزم
الاشتراط عدم كونها معصية ، أو عدم استلزامها للمعصية ، والله أعلم.
ثمّ اعلم أنه إذا
كان المراد بدين القيّمة الملّة المستقيمة أي شريعة الإسلام كما تقدّم ، يجب أن
يكون ذلك إشارة إمّا إلى الدين الكائن أوامره ، أو عبادته على الوجه المخصوص
المفهوم التزاما وإمّا إلى الأوامر المخصوصة ، أو العبادة المخصوصة أو إلى كون
الأوامر على الوجه المخصوص أو العبادة كذلك ، ومعلوم أنّ شيئا من ذلك ليس عين
شريعة الإسلام فإن شريعة الإسلام أوامر ونواه وغيرهما ، وكذلك عبادة وغيرها ، فلا
بدّ من ارتكاب مجاز في الإسناد ، أو في ظرف أو تقدير مضاف ونحوها.
وحينئذ فلا يرد ما
قيل من أنّ ظاهره دخول الأعمال خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام ، وهو
مذهب الخوارج ، فان من أخلّ بالعمل فاسق عند الكلّ ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن
الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، لاعتبارهم الأعمال في الايمان فبعض كلّا
، وبعض الفرائض ، وبعض مجرّد الكبائر.
فمنهم من استدلّ
بذلك كالخوارج بأنّ الايمان إن كان هو الإسلام ، فظاهر وإلّا فكلّ ما يعتبر في
الإسلام يعتبر في الايمان ، ولا يرد حينئذ هذا أيضا مع ما فيه كما لا يخفى.
الواقعة (إِنَّهُ) أي المتلوّ (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) صفة قرآن ، أي حسن مرضىّ أو عزيز مكرّم ، أو كثير النفع (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مصون عن الباطل ، أو مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ ،
ومتعلّق الجارّ إما صفة بعد اخرى لقرآن أو خبر بعد خبر ، وكذلك (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لأنّه لو كان صفة لكتاب كان كالتأكيد والبيان لمكنون ،
والتأسيس التام أتمّ وأولى ، ولأنّ السياق لإظهار شرف القرآن وفضله ، وينبّه عليه
قوله (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أى القرآن أو المتلوّ ، لا الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ ،
ولا الذي فيه.
في
الكشاف (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة للقرآن أي منزّل (مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أو وصف بالمصدر ، لأنه نزل نجوما بين كتب الله تعالى فكأنه
في نفسه تنزيل ، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به
التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدء ، وقرئ «تنزيلا» على «نزل تنزيلا» انتهى ،
وأيضا اطّلاع الملائكة على ما في اللوح المحفوظ ومسّهم إيّاه غير واضح ، فان مفاد
بعض الاخبار وكلام بعض الأخيار خلافه ، وكذلك قيل في تفسير (مَكْنُونٍ) : مستور عن الخلق [ولم يقل مستور عن الناس ونحو ذلك] كما
تقدّم.
وفي
التبيان ومجمع البيان
وعندنا أنّ الضمير يعود إلى القرآن ، فلا يجوز لغير الطاهر مسّه حملا للنفي على
معنى النهي ونحوه ، ويؤيّد ذلك ما روى عن الصادقين عليهمالسلام أنّ المراد المطهّرون من الأحداث والجنابات ، وأن أخبارهم عليهمالسلام متفقة في المنع لغير الطاهر من المسّ ، وفي بعضها الذي
ينبغي أن يعدّ من الصحاح نسب ذلك إلى الآية الشريفة ، فيحرم مسّ كلّ ما صدق عليه
أنه قرآن ، سواء في مصحف أو لوح أو جدار أو جلد أو ورق ولو مسودة أو غير ذلك كما
هو المشهور عندنا.
نعم قد يتأمل في
التشديد والاعراب ونحوه ، وربّما فرق بينهما ، وفيه نظر لا يخفى.
ثمّ لو كان صفة ل (كِتابٍ) للقرب مع بعده
فالأظهر إرادة الخطّ والكتابة القرآني مطلقا ، كلا كان أو بعضا ومصحّح الظرفيّة
حينئذ استفادة القرآن منه ، ودلالته عليه وهو في المآل كالأوّل أولا مطلقا بل كلا
، وحينئذ فيدلّ على تحريم مسّ كتابة القرآن في المصحف ونحوه ، ولا أعرف منّا
قائلاً بهذا الخصوص لكن ربما أمكن أن يقال لا فرق بين ذلك وبين غيره ، إذ الظاهر
أنّ المقتضى لذلك كونه خطّ القرآن وكتابته فتأمل.
__________________
أما أن يراد به
المصحف ، أعنى مجموع الأوراق أو الألواح المكتوبة فيها القرآن جميعا ، أو والجلد
إذا كان ، أو والكيس ونحوه ، كما ذهب إليه الشافعيّة فبعيد جدا لكن ربّما كان اعتمادهم
في ذلك على إطلاق منع مسّ المصحف في الخبر فليتأمل فيه.
وقد أورد في
المقام أنّ استفادة التحريم من الآية على ما ذكر يتوقّف على كون النفي بمعنى النهى
بتقدير مقول فيه ، وهو تكلّف ، وكونه صفة ل (كِتابٍ) أي اللوح والمطهّرون الملائكة المقربون المطهّرون عن الذنوب
وغيرها محتمل واضح خال عن التكلّف ، فلا يجوز العدول عنه ، وإن ثبت الحكم بالأخبار
أو الإجماع إلّا أن يدلّ دليل على أنه مراد منها.
ويمكن أن يجاب
بأنّ هذا الاحتمال مدفوع بما قدّمنا ، ومعه ارتكاب نحو هذا التكلّف سهل وأولى ،
لكن قد ذهب جماعة من الأصحاب إلى كراهة مسّ خطّ القرآن للمحدث.
وفي الكشاف : «وإن
جعلته صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسّه إلّا من هو على الطهارة من الناس» ولا
يخفى أن «لا ينبغي» ظاهره الاخبار والكراهة دون التحريم ، وأنه قريب ، وأن المحذور
الذي هو لزوم الكذب يندفع بهذا المقدار فلا يلزم ارتكاب ما يلزم منه التحريم ، بل
لا يجوز إلّا بما يقتضيه بخصوصه.
وتبيّن أيضا انه
لا يتوقّف استفادة الحكم على كون النفي بمعنى النهي خصوصا على التقدير المذكور ،
فيجوز التقدير إخبارا على التحريم أيضا كلا يجوز ونحوه ، وأيضا لم سلّم وجوب كون
النفي هنا بمعنى النهي في الجملة ، فلا يلزم كونه للتحريم بل جاز كونه بمعنى نهي
التنزيه.
لا يقال النهى
ظاهره التحريم وإن احتمل التنزيه ، لأنّا نقول ذلك في صيغة النهي لا مطلق طلب
الترك ، فإن للنفي في هذا المقام معنيين مجازيين : أحدهما معنى نهى التحريم ،
والآخر نهى التنزيه ، بل ثالث هو طلب الترك مجملا ، فاذا تعذر
الحقيقة وجب الحمل
على المجاز ، لكن لا يجوز التخصيص إلّا بمخصّص خصوصا في التحريم ، لمزيد مخالفته
للأصل ، على أنه لو تساوى الجميع فلا ريب أن الكراهة تثبت على كل من المعنيين
الأخيرين ، فيكون أقوى وأرجح.
وقد يقال التحريم
وإن كان خلاف الأصل ، إلّا أنه أقرب المجازات إلى النفي لدلالته على الانتفاء شرعا
حتما ، وفيه نوع تأمّل فليتدبّر.
وفي
الكشاف : «ومن الناس من حمله على القراءة أيضا ، ولا يخفى بعده ،
ولهذا لم يذهب إليه أحد من الفقهاء ، وفي بعض التفاسير عن محمّد بن الفضل : لا يقرء
القرآن إلّا موحّد ، وعن حسين بن الفضل لا يعلم تفسيره وتأويله إلّا المطهّرون من
الكفر والنفاق ، وعن أبي العباس بن عطا لا يعرف حقائق القرآن إلّا المطهّرون
بأنوار العصمة عن أقذار المعصية ، وعن جنيد المطهّرون أسرارهم عمّا سوى الله ،
وقيل المراد المطهّرون من الحدث الأكبر نحو الجنابة والحيض والاستحاضة والنفاس ،
وأما المس فقيل اختص بالملاقاة بباطن الكف وقيل بل هو اسم للملاقاة مطلقا ، وهو
الأقرب من حيث اللّغة.
التوبة
: (فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) المرويّ عندنا عن الباقر والصادق عليهماالسلام وهو الأشهر عند العامة أيضا انها نزلت في أهل قباء ، فروي لجمعهم في الاستنجاء من
الغائط بين الأحجار والماء ، وروي لاستنجائهم بالماء ، والجمع ممكن ، وفيها دلالة
على استحباب الجمع في الاستنجاء من الغائط وأولوية الماء من مجرد الأحجار ، فإنه
أتمّ ، وربما دل على استحباب المبالغة في الاجتناب من النجاسات ، ولا يبعد فهم
استحباب النورة وأمثالها ، واستحباب الكون على الطهارة.
__________________
وتأييد لدلائل
الأغسال المستحبّة ، واستحباب المبالغة في الاجتناب عن المحرمات والمكروهات ،
والاجتناب عن محالّ الشبهات ، وكلّ ما فيه نوع خسّة ودناءة ، والحرص على الطاعات
والحسنات ، فإنهنّ يذهبن السيئات ، فإنّ الطهارة إن كانت لها شرعا حقيقة فهي رافع
الحدث ، أو المبيح للصلاة ، وهنا ليست مستعملة فيه اتّفاقا فلم يبق إلّا معناها
اللغوي العرفيّ أي النزاهة والنظافة ، وهو يعمّ الكل ، كما لا يخفى.
ويؤيّد هذا العموم
قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) قال القاضي أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار والإتيان في
غير المأتي ، وحينئذ يكون لكلّ من الأقوال الباقية وجه.
قال في الكشاف وقيل : هو عامّ في التطهّر من النجاسات كلّها ، وقيل كانوا
لا ينامون اللّيل على الجنابة ، ويتبعون الماء على أثر البول ، وعن الحسن هو
التطهر من الذنوب بالتوبة ، وقيل يحبّون أن يتطهّروا بالحمّى المكفّرة لذنوبهم ،
فحمّوا عن آخرهم ، ومحبّتهم للتطهّر حرصهم عليه حرص المحبّ للشيء المشتهى له ،
ومحبة الله إيّاهم أنّه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يقول المحبّ لمحبوبه هذا.
[وقيل : يفهم من
الآية أن من فعل حسنا مع عدم أخذه بدليل شرعي كان ممدوحا مثابا حيث وقع هذا الثناء
العظيم من الله سبحانه لهم ، مع عدم علمهم كما يفهم من شأن النزول ، وفيه منع ظاهر
، على أن كفاية الماء وحده والأحجار كذلك على بعض الوجوه كما هو المقرر ، كاف في
افادة أولوية الجمع ، والماء عند العقل ، لظهوره أن المقصود هو النظافة كما لا
يخفى].
الفرقان
(وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) قيل أى مطهّرا ؛ عنه عليهالسلام طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا إحداهن
بالتراب أى مطهره وعنه عليهالسلام
__________________
جعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا ، وعنه عليهالسلام أيضا وترابها طهورا ، ولو أراد الطاهر لم يكن فيه مزيّة ،
وعنه عليهالسلام وقد سئل عن الوضوء بماء البحر : هو الطهور ماؤه الحلّ
ميتته ولو لم يرد مطهرا لم يصلح جوابا.
وقال اليزيدي الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية ، وهو المطهر غيره ،
وأيضا
__________________
يقال ماء طهور ولا
يقال ثوب طهور ولا شيء يختص به الماء يقتضي ذلك الّا التطهير ، وأيضا فعولا
للمبالغة ، ولا يتحقق إلّا مع إفادة التطهير.
وفي الكشّاف طهورا بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى : هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره ، فان كان ما قاله
شرحا لبلاغته في الطهارة ، كان سديدا و
__________________
يعضده قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وإلّا فليس فعول من التفعيل في شيء.
والطهور في
العربيّة على وجهين صفة واسم غير صفة ، فالصفة ماء طهور كقولك طاهر ، والاسم كقولك
لما يتطهّر به طهور ، كالوضوء والوقود لما يتوضأ به وتوقد به النار ، وقولهم
تطهّرت طهورا حسنا كقولك وضوء حسنا ذكره سيبويه ومنه قوله صلىاللهعليهوآله : لا صلاة إلّا بطهور ، أي بطهارة انتهى.
واعترضه
النيشابوريّ بأنه حيث سلم أنّ الطهور في العربيّة على الوجهين اندفع النزاع ، لأنّ
كون الماء ممّا يتطهر به هو كونه مطهرا لغيره ، فكأنه سبحانه قال وأنزلنا من
السماء ما هو آلة للطهارة ، ويلزم أن يكون طاهرا في نفسه ، قال ومما يؤيد هذا
التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الانعام ، فوجب حمله على الوصف الأكمل ، وظاهر أنّ
المطهر أكمل من الطاهر ، ونظيره قوله (وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) انتهى ، ولا يخفى ان تسليمه ذلك على وجه لا يصح كون ذلك
مرادا هنا إذ قد صرّح بكونه حينئذ اسما غير صفة أي لا يوصف به ، وذلك لأنّ أسماء
الآلة كأسماء الزمان والمكان لا يوصف بها من المشتقّات كما هو المصرّح به في النحو
، فكيف يستلزم ذلك التسليم اندفاع النزاع ، على أنّ نزاعه هو في كون التطهير من
مفهومه الموضوع له كما هو صريح قوله «فان كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان
سديدا» وحينئذ لو صحّ التوصيف به وكان هو مرادا كان النزاع باقيا لتغاير مفهومي
المطهّر وآلة الطهارة ، وإن تلازما هنا ، ولذلك لم يلزم مثل هذا التلازم في في
نظيرهما كليا ، ولا صحّت نسبة الفعل إلى الآلة كذلك حقيقة ، بل ولا مجازا تدبر.
وأيضا إذ قد تبين
أنّ المطهريّة لازم على التقديرين ، من غير أن يكون من المفهوم الموضوع له ، فلا
يلزم كون الوصف بالآليّة أكمل ، بل الظاهر حينئذ أنّ البالغ في شدّة الطهارة إلى
هذا الحدّ أبلغ من آلة الطهارة ، كيف لا؟ وطهارته في نفسه حينئذ من مفهومه الموضوع
له ، بخلافه على ذلك ، بل قد ينظر في استلزامه عقلا أو شرعا ،
وهذا أيضا أنسب
ببقيّة الآية خصوصا على إرادة ماء المطر : كما هو الظاهر ، وصرّح به عامة
المفسّرين فليتدبّر.
وفي معالم البغويّ
: وذهب بعضهم إلى أنّ الطهور ما يتكرر منه التطهير ، كالصبور لمن يتكرّر منه الصبر
، والشكور لمن يتكرّر منه الشكر ، وهو قول مالك حتّى جوّزوا الوضوء بما توضّي به
مرة ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنّ الطهور هو الطاهر حتّى جوّزوا إزالة النجاسة
بالمائعات الطاهرة ، مثل الخلّ وماء الورد والمرق.
وقال النيشابوري :
هذا القول علم بين الفقهاء في الاستدلال على طهارة الماء في نفسه ، وعلى مطهريّته
لغيره ، ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذا على طهوريّة الماء مطلقا مشكل لما عرفت من
ظهوره في ماء المطر ، وهو أنظف المياه وأطهره ، فوصفه بذلك خصوصا للفائدة المذكورة
في بقيّة الآية لا يستلزم اتصاف غيره من المياه بذلك ، إلّا باعتبار الإجماع على
طهوريّة مطلق الماء من غير فرق أو النصّ كقوله عليهالسلام «خلق الماء طهورا » والدليل حينئذ ذلك لا ما في الآية.
__________________
نعم يمكن أن
يستدلّ به على مزيّة قوّة التطهير لماء المطر أما الاستدلال بها على اختصاص
الطهوريّة بالماء كما هو ظاهر جماعة من الشافعيّة ، فلا ، إلّا أن يقال : حيث ثبت
في الشريعة أن الماء مطلقا طهور ، علم أنّ المراد هنا وصفه بالطهوريّة بحسب حقيقته
ونوعه ، فينتفى عن غيره بالمفهوم ، فليتدبر.
ثمّ هذا عامّ يأتي
على المعاني المعتبرة كلّها ، سواء البليغ في الطهارة ، والطاهر في نفسه المطهّر
لغيره ، وغيره ، فلا ينفع في الفرار عن ذلك الحمل على البليغ في الطهارة كما ذهب
إليه الحنفيّة ، وكأنّهم غفلوا عن مقتضى المبالغة فحملوه على الطاهر في الجملة [مع
أنّ الماء يصحّ به إزالة النجاسة لوصفه بالطهورية قطعا] فلا يأتي حينئذ الاختصاص
بالمفهوم ، للإجماع على طهارة غير الماء أيضا فليتأمل.
ثمّ لا يخفى مع
ذلك أنّ الطهارة حكم شرعي لا بد فيه من دليل شرعي ليحكم بها بعد ثبوت النجاسة شرعا
، وذلك واضح ، مع استعمال الماء على وجهه للإجماع وغيره أما في غير الماء فلا ،
وما يستدلّ به من الأمر المطلق بالغسل والتطهير المطلق من غير تقييد بالماء ففيه
أنّ الظاهر من التطهير والغسل عرفا وشرعا إنّما هو بالماء فينصرف إليه.
على أنّه قد ورد
التقييد في بعض الأخبار بالماء ، فينبغي حمل المطلق على المقيّد وإن لم يثبت عرف
في ذلك ، فيعلم الشرع به ، على أنّ ذلك خلاف الاحتياط وكاد أن يكون خلاف الإجماع
في ذلك الزمان على ما قيل فليتأمل.
ثم الأظهر أنّ
المفسّرين لمّا وجدوا المقام مناسبا للبحث عن معنى الطهور وكون الماء طهورا بحثوا
عنه ، وأوردوا مذاهب الفقهاء على حسب ما ناسب ذلك من غير أن يكون مدار مذهب كلّ في
هذه المسائل على المراد بما في الآية ، هذا ، ولا يخفى أنّ الظاهر على الأقوال
كلّها أنّه يصحّ استعماله للطهارة ، وأنه يفيدها ، فهو طاهر مطهّر يصح الطهارة به
عن الحدث الأصغر والأكبر ، وإزالة الخبث به عن كلّ شيء إلّا ما أخرجه الدليل ، وأنّ
الظاهر بقاء الطهارة والطهورية مع بقاء الاسم ، وإن استعمل أو تغيّر من نفسه ، أو
بالامتزاج ، أو المجاورة ، حتّى يثبت المزيل ، والله أعلم.
الأنفال (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).
كأنّ المراد
بتطهير الله إيّاهم توفيقهم للطهارة ، وقيل : الحكم به بعد استعمال الماء على
الوجه المعتبر ، و (لِيُطَهِّرَكُمْ) إما إشارة إلى إزالة الخبث (وَيُذْهِبَ) إمّا إلى إزالة الحدث ، أو إلى نوع منه ، أو منهما ،
والأوّل إلى الكلّ ، غير ذلك أو مع ذلك فيكون الثاني تصريحا بما علم ضمنا أو الأمر
على عكس الأوّل أو الأوّل إشارة إلى الكلّ كملا ، والثاني إلى رفع الوسوسة
، وعلى كلّ حال دلالتها على أنّ الماء طاهر مطهّر يتطهّر به من الأحداث والأخباث
ظاهرة. [خصوصا على مقتضى سبب النزول كما يأتي.
أما الاستدلال على
نفى إفادة غير الماء الطهارة لا من الحدث ولا من الخبث بدلالتها على الامتنان
بإنزال الماء لتطهيرهم ، فلا يكون غير الماء مفيدا ذلك ، وإلا لكان ذكر الأعمّ
أولى.
ففيه أن ذكر الماء
ربّما كان تنصيصا للواقع ، مع كون الماء أقوى في هذا المعنى وأظهروا عمّ نفعا
وأكثر. بل لم يكن يستجمع تلك الفوائد المقصودة المهمة إلّا الماء ، بل إنّما كان
مطلوبهم خصوص الماء كما لا يخفى. وأيضا لو سلّم المفهوم حينئذ فغاية ما يلزم منه
أن لا يكون غير الماء مطهرا مطلقا فتدبر].
وفي الكشّاف : رجز
الشيطان وسوسته إليهم وتخويفه إيّاهم من العطش ، وقيل الجنابة لأنّها من تخييله
، وقرئ «رجس الشيطان» وذلك أنّ إبليس تمثّل
__________________
لهم ، وكان
المشركون قد سبقوهم إلى الماء ، ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الاقدام على
غير ماء ، وناموا ، فاحتلم أكثرهم ، فقال أنتم يا أصحاب محمّد تزعمون أنكم على
الحق وإنّكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة ، وقد عطشتم ، ولو كنتم على الحقّ
ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلّا أن يجهدكم العطش ، فاذا قطع العطش
أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبّوا وساقوا بقيّتكم إلى مكّة ، فحزنوا حزنا شديدا
، وأشفقوا.
فأنزل الله المطر
فمطروا ليلا حتّى جرى الوادي ، واتخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله وأصحابه الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا
وتوضّؤا ، وتلبّد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتّى ثبتت عليه الاقدام ،
وزالت وسوسة الشيطان ، وطابت النفوس.
وعلى القيل وقد
ذهب إليه كثير فمع دلالته على رفع حدث الجنابة بخصوصه يدلّ أيضا على كون الاحتلام
من الشيطان ويحتمل أن يراد به المنيّ لأنّ الظاهر من الرجز النجاسة العينيّة
ويؤيّده قراءة رجس الشيطان.
البقرة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.)
المحيض جاء مصدرا
كالمجيء والمبيت ، واسم زمان واسم مكان ، فالأوّل إمّا اسم مكان موافقا للثاني كما
يأتي أو مصدر أريد به دم الحيض ، أو معناه المصدريّ لقوله (قُلْ هُوَ أَذىً) أى مستقذر يؤذي من يقربه نفرة منه وكراهة ، وفي الإتيان
باسم الظاهر أوّلا ثمّ بضميره ثمّ بالأخبار عنه بالأذى ، تنبيه على غلظة نجاسته ،
وتوضيح للحكم ، وللتفريع في قوله (فَاعْتَزِلُوا
النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ).
اعلم أنّه قد أجمع
العلماء على جواز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرّة وتحت الركبة ، وجواز مضاجعتها
وملامستها ، وهذا يقتضي أن يكون المحيض الثاني اسم
مكان ، وإلّا
لاشتمل إطلاق الاعتزال على خلاف ما أجمع عليه كما لا يخفى.
ويؤيّده ما روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم
يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت ، كفعل اليهود والمجوس ، فلما نزلت ، أخذ
المسلمون بظاهر اعتزالهنّ فأخرجوهنّ من بيوتهم ، فقال ناس من الأعراب : يا رسول
الله البرد شديد ، والثياب قليلة ، فان آثرناهنّ بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن
استأثرنا بها هلكت الحيّض! فقال صلىاللهعليهوآله : إنّما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم يأمركم
بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم.
وقيل : إنّ
النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كلّ
شيء ، فأمر الله في الاقتصاد بين الشيئين ، وما رواه مسلم من أن اليهود كانوا يعتزلون النساء في زمان الحيض ، فسأل
أصحاب النبيّ عن ذلك فنزلت ، فقال اصنعوا كلّ شيء إلّا النكاح.
ويؤيّد ذلك أيضا
قوله (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) من وجوه كما يأتي وقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ) فان إتيانهنّ جماعهنّ ، فيكون المراد النهى عن مجامعتهنّ
في القبل ، وهو مذهب الأكثر منّا ومن العامة ، إلّا أن بعضا ـ مع حملهم المحيض على
المصدر بتقدير أو اسم زمان ـ قالوا بذلك للروايات وبقيّة الآية وغيرها ، وأبو
حنيفة وأبو يوسف أوجبا اعتزال ما اشتمل عليه الإزار ، وهو قول للمرتضى منّا ويؤيّد
__________________
ما قدّمناه الأصل
، والاستصحاب ، والشهرة ، وروايات أخر من طرقنا ، وسهولة الجمع حينئذ بينها وبين
ما يخالفها من بعض الروايات الدالّة على اجتناب ما اشتمل عليه الإزار ، بالحمل على
الكراهة أو شدّتها ، كما هو المشهور عندنا.
وفي الكشاف أنّ محمّد بن الحسن لم يوجب إلّا اعتزال الفرج ، وروى حديث
عائشة أنّ عبد الله بن عمر سألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت : تشدّ
إزارها على سفلتها ثمّ ليباشرها إن شاء ، وما روى زيد بن أسلم أنّ رجلا سأل النبيّ
صلىاللهعليهوآله ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : لتشدّ عليها إزارها
ثمّ شأنك بأعلاها.
ثمّ قال محمّد :
وهذا قول أبي حنيفة ، وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة أنّها قالت يجتنب موضع شعار الدم ، وله ما سوى ذلك انتهى.
وعلى خلاف المشهور
لا يمكن مثل هذا ، بل لا بدّ من طرح الروايات ، وظواهر الكتاب ، مع ضعف رواياتهم وقلّتها
، على أنها لا تدلّ أيضا على أنّ ذلك هو المراد بالآية ، بخلاف رواياتنا فينبغي
حمل رواياتهم على السنّة كما لا يخفى ، وأيضا على قولهم مع قطع النظر عن ظهور
الآية فيما قلنا ، وعدم صلوح رواياتهم مؤوّلا لظاهر القرآن ، يلزم الإجمال في
القرآن ، مع كونه تبيان كلّ شيء ، وهو خلاف الأصل على كلّ حال ، وأيضا يلزم تأخير
البيان عن وقت الحاجة إذ مع رجحان رواياتنا دلالة
__________________
وصحّة وكثرة ـ إن
لم يترجّح ما قلنا ـ فلا أقلّ أن يتساويا فيتعارضان فيتساقطان فافهم.
وقوله (لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) بالتخفيف أي حتّى ينقطع حيضهنّ تأكيد للاعتزال ، وبيان
لغاية وقته وتأييد للمشهور كما قلنا من وجوه :
منها أنّ الظاهر
من مقاربتهنّ عرفا مجامعتهنّ ، فلا يوافق المعنى الثاني ، فلو أريد كان خلاف
الظاهر ، مع ما تقدم.
ومنها أنّ الحكم
بالاعتزال على الثاني لا يشمل ما بعد زمان الحيض بوجه ، فكان منتهاه معلوما فيلغو
قوله (حَتَّى يَطْهُرْنَ) وعلى ما قلناه ليس كذلك ولو سلم أنّ في التعبير بالمحيض
نوع إشعار إلى المدّة لكن ليس بصريح الكلام كما في قولهم.
ومنها أنّ هذا مع
إفادته التأكيد يفيد نوع توضيح للمدّعى على قولنا لا على ما قالوا ، وذلك لاحتمال
الخلاف لفظا فافهم.
وقرئ «يطهّرن»
بالتشديد أي يغتسلن ، والجمع بحمل هذا النهي على الكراهة كما هو المشهور عندنا وجه
واضح ، لقرب النهي من الكراهة ويدلّ عليه بعض رواياتنا ، وفيه الجمع بين الروايات
أيضا وحينئذ فيحتمل أن يراد التحريم قبل الانقطاع بقرينة ما تقدم ، والكراهة بعده
حتّى يغتسلن ، وأن يراد المرجوحيّة المطلقة أو غير الواصل إلى حدّ التحريم أي
الكراهة باعتبار الانتهاء إلى الاغتسال نظرا إلى أنّ المجامعة جائزة في الجملة ولو
بعد الانقطاع ، ويكفي ذلك ، فلا يجب قصد خصوص التحريم بوجه فافهم.
وحينئذ ينبغي حمل (فَأْتُوهُنَّ) على الإباحة بمعنى رفع التحريم والكراهة ، بقرينة ما تقدم
، أو الإباحة بالمعنى الخاصّ.
ومن أصحابنا من قال بالجمع بحمل تطهّر على طهر كتكبّر في صفاته تعالى
بمعنى كبر ، وتطعّمت الطعام بمعنى طعمته ، وقد يجمع بحمل قراءة التخفيف على قراءة
التشديد ، إما بترك مفهوم الغاية بقرينة قوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) وهو ظاهر
__________________
الكشاف ، حيث قال
: التطهّر الاغتسال ، والطهر انقطاع دم الحيض ، وكلتا القراءتين ممّا يجب العمل به
، ثمّ قال : وذهب الشافعي إلى أنّه لا يقربها حتّى تطهر وتتطهر فيجمع بين الأمرين
، وهو قول واضح ، ويعضده قوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ) انتهى ولا يخفى ما فيه.
أو بحمل يطهرن
مخفّفا على معنى ينظفن بالاغتسال بعد الانقطاع بقرينة القراءة الأخرى ، وقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ). أو على معنى نفس الاغتسال بعد الانقطاع ، وهو ظاهر
القاضي. وفي مجمع البيان : ومنهم من قال إذا توضّأت أو غسلت فرجها حلّ وطؤها ، عن
عطاء وطاوس ، وهو مذهبنا انتهى.
ولا نعرف كون
الوضوء غاية التحريم مذهبا لأحد من أصحابنا سواه في هذا الكتاب أمّا غسل الفرج
فالمعروف المشهور أنّه غاية لشدّة الكراهة أو أصلها عند الشبق ، وهو مقتضى الجمع
بين الروايات عندنا ، ولا نعرف كونه غاية للحرمة قولا لأحد منّا إلّا هذا ، وما
قاله في المعتبر إنّ من الأصحاب من أورد ذلك بلفظ الوجوب فلا يبعد أن يكون أراد
هذا ، والله أعلم.
ثمّ الظاهر أنّ
ذلك بحمل قراءة التشديد على ما يعمّ الاغتسال والوضوء وغسل الفرج ، وحينئذ فاما أن
تحمل القراءة الأخرى على نحو ذلك أو على ظاهرها باعتبار أنّ المجامعة قد حلّت وصار
المحلّ صالحا ، وإن توقّف على شرط فتأمّل وتنبّه ره لما هو أحسن الوجوه لو لا بعض
الروايات ، والشهرة ، حتّى كاد أن يكون إجماعا عندنا.
وكلام ابن بابويه
ليس صريحا في الخلاف ذهابا إلى ما قاله الشافعيّ ، ولا يبعد كونه مراد الكشّاف ،
ووجها للجمع على قول الشافعيّ أما ما ذهب إليه أبو حنيفة كما في الكشّاف من أنّ له
أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم ، وإن لم تغتسل وفي أقلّ الحيض لا يقربها
حتّى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل ، فهو أبعد الوجوه ، لا شاهد له في العقل
والنقل ما يعتدّ به.
ثمّ قوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) أي جامعوهنّ ، وفيه من تأييد كون الاعتزال
عن المجامعة لا
غير ، ما لا يخفى ، فالأمر للإباحة بمعنى رفع التحريم على قول الشافعي وابن بابويه
إن صحّ عنه ذلك ، وكذا على قول من لا يستفيد الكراهة من الكتاب من أصحابنا ، لكن
ظاهرا وعلى المشهور عندنا بمعنى رفع المرجوحيّة المطلقة الشاملة للتحريم والكراهة
مطلقا ، أو رفع خصوص الكراهة والتحريم مطلقا ، أو على قراءة التشديد فقط ، وعلى
التخفيف رفع التحريم وفيه تأمل أو بمعنى الإباحة بالمعنى الأخصّ مطلقا على المذاهب
فتأمل.
قيل : الأمر ليس
هنا للوجوب مطلقا بل قد يكون له كما لو كان قد اعتزلها أربعة أشهر آخرها أوّل زمان
الانقطاع والغسل ، وكذا لو وافق انقضاء مدّة التربّص في الإيلاء والظهار ، وقد
يكون للندب كما في اقتضاء الحال ذلك ، فهو إذن لمطلق الرجحان ، وفيه نظر من وجوه
لا يخفى.
(مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ) أي من قبل الطهر لا من قبل الحيض ، عن السدّي والضحّاك ،
وقيل : من قبل النكاح دون الفجور عن ابن الحنفية وقال الزّجاج ، معناه من الجهات
الّتي يحلّ منها ، ولا تقربوهنّ من حيث لا يجوز من كونهنّ صائمات أو محرمات أو
معتكفات ، وقال الفرّاء ولو أراد الفرج لقال «في حيث» فلما قال (مِنْ حَيْثُ) علمنا أنه أراد من الجهة الّتي أمركم الله منها كذا في
مجمع البيان.
وفي الكشاف
والقاضي من المأتي الذي أمركم الله به وحلّله لكم ، وهو القبل ، وقيل من حيث أمركم
الله بتجنّبه ، وهو محلّ الحيض أعنى القبل ، وما في مجمع البيان أوضح وأنسب كما لا
يخفى.
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ) ممّا وقع منهم من المناهي نهى تحريم أو تنزيه سيّما عمّا
نهاه هنا بقرينة المقام ، ولا يوجب التخصيص ، فكذا (وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنزّهين عمّا اجتنابه نزاهة ونظافة ، فيدخل فيه كلّ
مكروه وحرام ، وترك كلّ مستحبّ وواجب ، خصوصا ما تقدّم في المقام ، وهنا أقوال أخر
عامّتها تخصيص وتقييد.
التوبة
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.)
النجس : القذر ، قيل في الأصل مصدر ، ولذلك لا يثنّى ولا يجمع ،
ولا يؤنّث وفيه نظر ، وإذا استعمل مع الرجس كسر أوّله ، يقال رجس نجس ـ بكسر
أوّلهما وسكون الجيم ـ وهو تخفيف ، نحو كبد في كبد قاله الفراء وقرئ به شاذا قال
في الكشاف على تقدير حذف الموصوف كأنّه قيل : إنّما المشركون جنس رجس
أو ضرب نجس ، وأكثر ما جاء تابعا لرجس.
لا يخفى أنّ هذا
وما تقدّم يقتضي أن يقدّر له الموصوف رجس فكأنّه قيل إنّما المشركون رجس نجس ،
فيكون أبلغ وأفيد وأظهر ، وظاهر «إنّما» الحصر ، فكأنّه قيل : ليس المشركون إلّا
نجسا ، والغرض المبالغة في نجاستهم ، أو الحصر إضافيّ بالنسبة إلى الطهارة ،
والأوّل أبلغ ، وإن كان كلاهما غير خارج عن مقتضى اللفظ والمقام.
وقال فخر الدين
الرازي : حصر الله تعالى في هذه الآية الشريفة النجاسة في
المشركين ، أي لا نجس غيرهم ، وعكس بعض الناس ذلك ، وقال لا نجس إلّا المسلم حيث
ذهب إلى أنّ الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس ،
بخلاف الماء الذي استعمله المشرك ، فإنّه طاهر لعدم إزالة حدثه ، وأراد به أبا
حنيفة فإنّه الذي ذهب الى ذلك كما هو المشهور ، وفيه تعريض عظيم عليه ، حيث قال :
إنّه عكس قول الله سبحانه.
لكن لا يخفى أنّ
كلامه هو ، أظهر في عكس قوله تعالى ، لأنه سبحانه حصر المشركين في النجاسة ، وقد
جعله هو حصر النجاسة في المشركين ، فهو أولى بهذا التشنيع ، وإن توجّه نحوه على
ابى حنيفة على أبلغ وجه ، خصوصا على القول بأنّ الحصر إضافيّ ، فإنّ مفاده أنّ
المشرك بصفة الشرك ليس له من صفتي الطهارة و
__________________
النجاسة إلّا
النجاسة ، وقد عكس هو ذلك ويقول : ليس له منهما إلّا صفة الطهارة. حيث يقول
بطهارته وطهارة ما استعمله مع قوله بنجاسة ما استعمله المسلم في وضوء أو غسل ،
ولعلّ هذا أوضح.
وكلام الفخر هذا
يدلّ على أنّ مذهبه نجاسة المشركين نجاسة عينيّة كما هو الظاهر المتبادر لغة وعرفا
فهو صريح القرآن ، مع ما في قوله (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) من تأييد ذلك. وكذا قراءة نجس التابع غالبا لرجس ، كما
تقدّم ، حتّى صار بمنزلة النصّ ، خصوصا عند عدم دليل على خلافه ، فيجب الحمل عليه
، وهو المرويّ عن أهل البيت عليهمالسلام ومذهب شيعتهم الإماميّة ، ويروى عن الزيديّة أيضا.
وفي الكشاف :
معناه ذو نجس ، لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهّرون ولا
يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنّهم النجاسة بعينها
مبالغة في وصفهم بها ، وعن ابن عباس أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن
من صافح مشركا توضّأ أي غسل يده ، وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين ، أي قول
ابن عباس والحسن ، وإن كان مفادهما واحدا.
ولا يخفى أنّه لا
يجوز العدول عن صريح القرآن إلّا بما هو مثله أو أقوى منه عقلا ونقلا ، وظاهره أن لا دليل عليه إلّا اتّفاق أهل المذاهب الأربعة على خلاف
صريح القرآن ، وإلّا كان ينبغي أن يشير إليه.
أما قوله لأنّ إلخ
يريد به بيان وجه التجوّز وعلاقة المجاز ، فكأنه لما رأى كلام أهل المذاهب لا يقبل
التأويل ، ولا يجوز الحكم ببطلانه عنده ، فاحتيج إلى إبطال صريح القرآن ، فلما
أبطله بتأويله بما لا يخالف مذهب الأئمّة أراد بيان صحّة
__________________
هذا التجوّز حذرا
من إبطاله بالكليّة وتصحيحا لما ذهب إليه من التجوّز بعد إبطال الحقيقة ، فقال
لأنّ إلخ.
وفي البيضاوي : أو لأنّهم لا يتطهّرون ولا يجتنبون عن النجاسات ، فهم
ملابسون لها غالبا ، وفيه دليل على أنّ ما الغالب نجاسته نجس ، انتهى.
اعلم أنّ ظاهر
القاضي حيث لم يفسّر «نجس» بذي نجس ، وقال فلا يقربوا المسجد الحرام لنجاستهم ،
أنّ لفظة نجس عنده باق على حقيقته ، وأنّ المشركين نجس حقيقة لكن توهّم هذه الوجوه
دلائل للنجاسة ، وعللا لها ويدلّ على الأمرين قوله «وفيه دليل» إلخ ، وأنت خبير
بأنّ نجاستهم تخالف قول أئمّتهم الأربعة وأنّ هذه وجوه التجوّز وطاهر أنّها لا
تصلح عللا للحكم ، ولا دلائل له ، فايرادها في مقام التعليل للحكم خطأ.
ثمّ ظاهر أنّ
تسميتهم بالنجاسة مبالغة للغلبة ، لا يوجب كونهم نجسا حقيقة فضلا عن نجاسة غيرهم
لغلبتها فيهم ، بل لا يلزم صحّة الإطلاق على غيرهم مجازا ، لعدم اطّراد المجاز.
نعم إذا قيل
بالنجاسة حقيقة ولم يعلم لها مقتض إلّا الغلبة ، بل علم أن لا مقتضى غيرها وقيل
بصحّة القياس ، أمكن الاستدلال به على نجاسة الغير إذا وجد فيه تلك الغلبة أو أقوى
منها ، إذ ربّما يكون مرتبة خاصة منها علّة دون ما دونها ، وأين ذلك عمّا قال.
وأيضا يلزم أن
يكون المسلم الغالب نجاسة بدنه نجسا ، فيجب اجتنابه مطلقا ويصحّ تنجيسه حقيقة ،
وليس كذلك وإلّا لزم أن يكون المسلم أنجس من المشرك وأسوأ حالا ، لأنه يطهر
بالإسلام ، وليس الإسلام يطهّره ، لأنه نجس مع كونه مسلما وتحصيل الحاصل محال ،
وإيجاب الكفر لتجديد الإسلام أقبح شيء ، خصوصا إذا كان عن فطرة فتأمّل ، فلعلّه
توهّم النجس أعمّ من المتنجّس ، ومع فساد ذلك يأتي
__________________
فيه بعض ما تقدّم
فتفكّر.
ثمّ الظاهر من
المشرك من أثبت لله شريكا ، فهو غير الموحّد ، فلا يدخل الموحّد الكتابيّ ، ويحتمل
كون الجميع مشركين لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله (سُبْحانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ) كما قاله كثير من الأصحاب ، وصاحب الكشّاف أيضا في غير هذا
الموضع فتأمل ، فيكون الجميع نجسا فينجس ما يباشرونه من المائعات الّتي تنجس
بملاقاة النجاسة وغيرها مع الرطوبة.
فقوله «طعامهم حلّ
لكم» يراد به الحبوب كما هو المشهور ، ووردت به الرواية أو يراد به أنّ طعامهم من
حيث أنّه طعامهم غير حرام ، بل انّما يحرم منه ما تنجّس بالملاقاة للنجاسة ، فإن
قبل الطهارة حلّ أيضا أو عندها فافهم.
ولا يجوز لهم دخول
المسجد الحرام كما هو صريح قوله (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) إن كان تعلّق النهي بالقرب للمبالغة والتأكيد ، وإلّا
فيحرم دخولهم الحرم أيضا ، وهو أقرب من قول عطاء أنّ المراد بالمسجد الحرام الحرم
، وإن أيّده بقوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
وصاحب اللّباب خلط
بينهما وأبعد شيء قول أبي حنيفة أنّ النهى عن الحجّ والعمرة لا عن
الدخول مطلقا ، لقول عليّ عليهالسلام حين نادى ببراءة «ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك» حتّى
أنّه جوز للمشركين دخول المسجد الحرام لغير الحجّ والعمرة ، وغير خفيّ على ذي مسكة
أنّ الخبر غير مناف لتحريم دخولهم المسجد الحرام الذي هو صريح الآية ، فلا يجوز
العدول عنه.
ولو قلنا إنّ ظاهر
الحال يقتضي أن يكون ذلك من مقتضى الآية ، فإنّه لا يستلزم ما قاله ، بل لعلّه
لقطع تعلّقهم من دخول المسجد أو الحرم أيضا ، لاستلزام الحجّ والعمرة دخول المسجد
والحرم ، أو لأنّ الحاجّ والمعتمر يقربان من دخول
__________________
المسجد والحرم ،
لاقتضاء حالهما ذلك فافهم.
وهنا أحكام أخر
منها أنّ الكافر مكلّف بالفروع ، ومنها عدم جواز إدخال مطلق النجاسة المسجد الحرام
للتفريع كما ذهب إليه العلّامة في المساجد مطلقا ، ويؤيّده وجوب تعظيم شعائر الله
وما روى عنه صلىاللهعليهوآله جنّبوا مساجدكم النجاسة .
وما يقال من أنّ
الآية ليست صريحة لاختصاص الحكم بنجاسة الشرك ولم يثبت وجوب تعظيم الشعائر إلى هذه
المرتبة ، والرواية لا يعرف سندها فضلا عن صحّتها.
ففيه أنّ الظاهر
أنّ وصف النجاسة هو علّة حرمة القرب من المسجد ، ويؤيّده أصل قلّة الحذف في الكلام
، وأنّ تعليق الحكم بالوصف المناسب يدلّ على علّيته ، والظاهر عدم انضمام علّة
العلّة في التفريع على العلّة والتعليل بها على أنّ الأصل عدم مدخليّة غير ما علم
من التعليق.
وأما الخبر فمشهور
جدا معمول عليه عند الخاصّة والعامّة مع روايات أخر يعضدها.
وأكثر الأصحاب على
اختصاص الحرمة بالمتعدّي حملا لما تقدّم على ذلك لبعض الروايات ، وأنّ ذلك يتحقّق
به تعظيم الشعائر وتجنيب المسجد النجاسة فتأمّل فيه.
ومنها عدم تمكين
المسلمين لهم من ذلك ، بمعنى منعهم ، حتّى قيل : هو المراد بالنهي ، ويقتضي ذلك
تصدير الآية بيا أيّها الّذين آمنوا ، وبيان كون المشركين نجسا لهم ، وقوله تعالى
بعد ذلك (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً).
ومنها إزالة
النجاسة عنه مطلقا كما ينبّه عليه ما تقدّم في الحكمين المتقدّمين.
ومنها منع الكلب
والخنزير من دخول المسجد الحرام كذلك ووجوب الإخراج وكذلك المرتدّ وغيره من الكافر
الموحّد على القول بنجاستهم.
__________________
ومنها تعميم الحكم
لباقي المساجد كما ذهب إليه مالك ، وهو غير صريح الآية فيحتاج إلى دليل ، وذهب
الشافعيّ إلى الاختصاص بالمسجد الحرام ، وأجاز دخولهم في غيره ، ثمّ قوله (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) في الكشّاف بعد حجّ عامهم هذا ، ولا يخفى عدم الاحتياج إلى
هذا التقدير مع كونه خلاف الأصل ، وذلك العام قيل سنة حجّة الوداع والأصحّ أنّه
سنة تسع من الهجرة ، حين بعث النبيّ صلىاللهعليهوآله أبا بكر ببراءة ثمّ أمر الله بعزله وألّا يؤدّيها عنه إلّا
هو أو رجل منه ، فبعث عليّا عليهالسلام.
المائدة
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ).
في المجمع : الخمر
عصير العنب المشتدّ ، وهو العصير الذي يسكر كثيره ، وعن ابن عباس أنّ المراد جميع
الأشربة الّتي تسكر ، وهذا هو الذي تقتضيه روايات أهل البيت عليهمالسلام ، والميسر القمار ، والأنصاب أحجار أصنام كانوا ينصبونها
للعبادة ويذبحون عندها ، والأزلام هي القداح الّتي كانوا يستقسمون بها ، والرّجس
بالكسر القذر والمأثم ، وكلّ ما استقذر من العمل ، والعمل المؤدّي إلى العذاب ،
قاله في القاموس.
والظاهر أنّه
حقيقة في الأوّل دون البواقي وإفراده هنا لأنه جنس ، أو لأنه خبر للخمر ، وخبر
البواقي محذوف من جنسه ، لدلالته عليه ، أو خبر للمضاف المحذوف أي تعاطى الخمر إلخ
، واحتمل كونه خبرا عن كلّ واحد من عمل الشيطان لأنه نشأ من تسويله وتزيينه ، وهو
صفة أو خبر آخر.
(فَاجْتَنِبُوهُ) أي ما ذكر ، أو تعاطيها ، أو الرجس ، أو عمل الشيطان ، أو
كلّ واحد (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) سبب الاجتناب.
وفي الآية في
تحريم الخمر والميسر وجوه من المبالغة من مخاطبتهم أولا ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والإتيان بانّما الدالّ على حصر الأوصاف بل الحقيقة أيضا ،
والمقارنة للانصاب المشعر بالكفر المحض ، والأزلام الّتي هي من شعار الكفّار ،
والتقديم عليهما وتسميتها رجسا ، وجعلها من عمل الشيطان المؤذن بأنّها شرّ محض.
ثمّ الأمر
بالاجتناب عن عينها ظاهرا وجعله سببا يرجى منه الفلاح ، مشعرا بأنّ مباشرها لا
يفلح مع إمكان أن يقال إنّ في لعلّ أيضا نحو تأكيد وإيماء بأنهم لما تقدّم منهم من
ذلك ، صاروا بعيدين عن الفلاح فافهم.
ثم أكّد ذلك ببيان
ما فيهما من المفاسد الدنيويّة والدينيّة ثمّ قرّر كلّ ذلك فقال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) بصيغة الاستفهام مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف ،
إيذانا بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية ، وأنّ الاعذار قد انقطعت.
ثمّ أمر بإطاعة
الله ورسوله وحذّر عن المخالفة وهدّد على التولّي عن ذلك وغير ذلك.
وفي اللباب فروى أبو ميسرة أنّ عمر بن الخطّاب قال : اللهمّ بيّن لنا
في الخمر بيان شفاء ، فأنزل الله الآية الّتي في سورة البقرة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) الاية فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بيّن لنا في
الخمر بيان شفاء ، فنزلت الّتي في النساء (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان
شفاء فنزلت الّتي في المائدة «إِنَّما يُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ ـ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ» فدعي عمر فقرئ عليه ، فقال : انتهينا انتهينا. أخرجه
الترمذي من طريقين ، وقال هذا أصحّ ، وأخرجه أبو داود والنسائي انتهى والعاقل
يكفيه إشارة.
ثمّ في الآية
أحكام لكن إيرادها هنا باعتبار الاستدلال لها على نجاسة الخمر وهو من وجهين :
الف ـ أنّه وصفه بالرجس ، وهو وصف بالنجاسة لترادفهما ، ولذلك
يؤكّد
__________________
بالنجس فيقال «رجس
نجس».
ب ـ أنه أمر باجتنابه ، وهو موجب للتباعد المستلزم للمنع من
الاقتراب بسائر أنواعه ، وكون كلّ منهما في جانب ، وهو يستلزم الهجران من كلّ وجه.
والجواب أنّ الرجس
وإن كان حقيقة في القذر ، لكن القذر أعمّ من النجس فان الظاهر منه كلّ ما تنفّر
منه النفس ، ولم سلّم فلا يراد به هنا ذلك حقيقة بالنسبة إلى أعيان هذه الأشياء ،
وإلّا لزم أن يكون الأنصاب والأزلام أقذارا نتنجّس بملاقاتها برطوبة ، كما هو شأن
كلّ نجس قذر ، ولا يعرف به قائل لا منّا ولا من غيرنا ، وظاهر الكلّ الإجماع على
خلاف ذلك ، فلا بدّ من حمله على معنى غير ذلك يصحّ في الجميع ، فلا يستلزم قذارة
العين نجاستها.
ولهذا قال جماعة
من الفحول رجس خبر للمضاف المحذوف وهو تعاطي هذه الأشياء فإنّ الذي تستخبثه العقول
ويعاف منه يقينا من هذه الأشياء ، تعاطيها على الوجوه المقتضية للمفاسد الظاهرة
المشهورة المتعلّقة بها ، كشرب الخمر ، وما يتعلّق به من حفظها وبيعها وشرائها
وغير ذلك للشرب ولو من الغير ، كما روي عنه صلىاللهعليهوآله «لعن الله الخمر
وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» .
__________________
ولعب الميسر وما
يتعلّق به ، وعبادة الأنصاب وتعظيمها ، وما يتعلّق بذلك ، والاستقسام بالأزلام ،
وما يتعلّق به ، حتّى لا يبعد أن يقال إنّ قبح تعاطي هذه الأشياء واصل إلى حدّ إذا
نسب إليها جميعا النجاسة والقذارة يتبادر هو لا غير ، خصوصا مع قرينة عدم قائل
بنجاستها جميعا فتأمّل.
لا يقال : القائل
بنجاسة الخمر كثير بل أكثر ، ولا ريب أنّ مراعاة الحقيقة مع الإمكان أولى والمجاز
معها أقرب ، فينبغي أن يحمل الرجس بالنسبة إلى الخمر على حقيقته ، وفي البواقي على
غيرها.
لأنّ هذا وإن كان
مجازا لكنّه استعمال في الحقيقة والمجاز جميعا ، ويحتاج فيه إلى وضع ثالث ،
واعتبار عين كلّ من المعنيين في الوضع والاستعمال ، ومؤنة ذلك كثيرة غير لائق
بأوضاع الألفاظ ، واستعمالاتها ، بل كاد أن لا يحتمله الوضع ولا
__________________
الاستعمال ، ولذلك
صار أبعد المجازات ، حتّى منع منه بعض بالكلّية ، خصوصا بالنسبة إلى أمور مع تخصيص
كلّ ببعض ، ولا ريب فيه مع عدم قرينة مفهمة لشيء من ذلك كما هنا ، ومع جميع ذلك
فلا ريب أنّه يحتاج في نوع المجاز إلى النقل ولا يجوز بدونه ، ولم ينقل مثله ، فهو
غير جائز البتّة.
وأما جعل رجس خبرا
عن الخمر على حقيقته وكون خبر البواقي من جنس لفظه في ما يناسبها من المجاز أو
يكون قوله (مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ) خبرا عن البواقي فهذا كلّه خلاف الظاهر ، وخروج عن مقتضى
اللفظ ، وقوانين الاستعمال من غير دليل وهو ظاهر.
لكن بقي في المقام
شيء وهو أن يراد بالرجس حقيقته ويكون التجوّز في الاسناد ، ولا ريب أنّه بالنسبة
إلى البعض فقط أقرب إلى الأصل والحقيقة منه بالنسبة إلى الكلّ ، فمع المقتضي
للتجوّز في البعض من الإجماع أو غيره لا ينبغي أن يصار إليه بالنسبة إلى الجميع ،
اللهمّ إلّا أن يقال : مقتضى اللفظ والتركيب أنّ المعنى والإسناد بالنسبة إلى
الجميع واحد ، ولا يفهم للخمر مزيّة في ذلك فليتأمّل فيه.
وأما الاجتناب في
الوجه الثاني فعمّا أخبر عنه بأنّه رجس ، فان كان التعاطي فلا يدلّ على اجتناب
الغير من جميع الوجوه ، على أنّ الظاهر كونه في الجميع على نسق واحد ، فلو كان
المراد عمّا ذكر أو نحوه ، لم يلزم نجاسة عين الخمر أيضا فتأمّل.
واعلم أنّ الأخبار
في نجاسة الخمر مع ضعفها مختلفة وأكثر العامّة على النجاسة فلا يمكن حمل أحاديث
الطهارة على التقيّة ، فالجمع بالحمل على استحباب غسل الثوب منها إذا لم يفهم من
الآية تنجيس متوجّه ، وطريق الاحتياط غير خفيّ.
الْمُدَّثِّرُ (وَثِيابَكَ
فَطَهِّرْ.)
المتبادر الذي ذهب
إليه الأكثر : تطهير الثياب من النجاسات ، مؤيّدا بأنّ الكفّار لم يكونوا يتطهّرون
منها ، ويجب بالماء لأنّه المفهوم عرفا ، أما اعتبار العصر والورود والعدد ،
فبدليل من إجماع أو خبر ، وتحقيقه في موضعه ، وإن أريد تقصير الثياب كما قيل ونقل
عن الصادق عليهالسلام أيضا ، فيمكن فهم الطهارة أيضا لأنّها
المقصود كما علّل
القائل به ، وفي الرواية تشمير الثياب طهور لها ، قال الله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي فشمّر.
ويحتمل أن يكون
المراد التنظيف الذي هو التطهير لغة ، فان النظافة مطلوبة للشارع بإزالة الوسخ
ونحوه أيضا ، ففهم وجوب الطهارة الشرعية محلّ تأمّل ، ولكن ظاهر الأمر الوجوب ،
ووجوب غير الشرعية غير معلوم ، بل قيل معلوم عدمه ، ولهذا على تقدير الحمل على
الشرعيّ خصّ بالتطهير للصلاة فتأمل.
وفي اللباب وقيل : فطهّر عن أن يكون مغصوبة أو محرمة ، وقيل : المراد
نفسك فطهّر من الرذائل ، يقال : فلان طاهر الثياب ، طاهر الجيب ، أو نقيّة ، ومنه
قول عنترة «وشككت بالرّمح الأصمّ ثيابه » كنى عنه بما يشتمل عليه.
قيل وسئل ابن
عبّاس عن قوله (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فقال : لا تلبسها
على معصية ولا غدر ، أما سمعت قول غيلان بن سلم الثقفيّ :
وإنّى بحمد الله
لا ثوب فاجر
|
|
لبست ولا من
غدرة أتقنّع
|
(وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ) أى خصّ الرجز بلزوم الهجران ، والحصر إضافيّ أو التقديم
لغيره ، وقرئ الرّجز بالضم أيضا فقيل : هو ـ بهما ـ الصنم ، والمراد الثبات على
عدم عبادته ، وعدم تعظيمه فإنّه صلىاللهعليهوآله كان بريئا منه وقيل : هو ـ بهما ـ العذاب والمراد اجتناب
موجبه من الشرك وعبادة الأصنام ، وغيره من المعاصي مطلقا ، وقيل بالكسر العذاب ،
وبالضمّ الصنم ، وفي القاموس الرجز بالضمّ والكسر القذر ، وعبادة
__________________
الأوثان ، والعذاب
، والشرك فلا يبعد كونه بمعنى القذر كما وقع في بعض استدلالات الأصحاب ، واحتمله
جماعة ، وهو مناسب لتكبير الصلاة وتطهير الثياب ، قيل : فيكون تأكيدا لقوله (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وتفسيرا وهو محتمل ، والتأسيس خير ، واختصاصه بطهارة البدن
ممكن ، وكذا التعميم بعد التخصيص وغير ذلك فتأمل.
البقرة (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
أي اختبره ربّه
بأوامر ونواه ، واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختياره ما يريد الله ومشتهى
نفسه ، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتّى يجازيه على حسب ذلك وعن ابن عباس رفع إبراهيم
ونصب ربّه ، والمعنى أنّه دعاه بكلمات من الدعاء شبه المختبر يجيبه إليهنّ أولا؟
والمستكن في (فَأَتَمَّهُنَّ) على الاولى لإبراهيم أي فقام بهنّ حقّ القيام وأدّاهنّ
أحسن التأدية ، وعلى الأخرى لله أي فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا ويعضده ما روي
عن مقاتل أنّه فسّر الكلمات بما سأل إبراهيم ربّه في قوله (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ،
وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ، وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً ، رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا).
والفاء للتعقيب
وعامل «إذ» أمّا «قال» فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها وإمّا مضمر نحو واذكر
كما هو المشهور ، أو وإذ ابتلاه كان كيت ، فموقع قال استيناف ، كأنّه قيل فما ذا
قال ربّه حين أتمّ الكلمات؟ فقيل : قال إلخ ويجوز أن يكون بيانا لقوله : ابتلى ،
وتفسيرا له.
ففي الكشاف
والبيضاوي فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ورفع قواعده ،
والإسلام قبل ذلك في قوله (إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ) وفيه نظر ، وقيل هي السنن الحنيفية العشر : خمس في الرأس : الفرق ، وقصّ الشارب ، والسواك ،
والمضمضة ، والاستنشاق ، وخمس في البدن : الختان ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار
ونتف الإبطين ، والاستنجاء بالماء.
__________________
وقيل هي الخصال
الثلاثون المحمودة المذكورة : عشرة منها في براءة (التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ) وعشر في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ) وعشر في كلّ من المؤمنين وسأل سائل إلى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ).
وقيل هي مناسك
الحجّ ، وقيل ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس والختان وذبح ابنه والنار والهجرة.
و (لِلنَّاسِ) إمّا متعلق بجعل أو بإماما لما فيه من معنى الفعل ، فلا
يحتاج إلى تقدير ما يكون به حالا عنه ، والامام اسم من يؤتمّ به كالإزار لما يؤتزر
به أي يأتمّون بك في دينهم ، وفي الكشاف والبيضاوي (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف ، كأنّه قال : وجاعل بعض ذرّيّتي ، وكأنه
على الادّعاء بطريق الدعاء ، أو على مسامحة ومبالغة منهما .
(لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) وقرئ الظالمون ، والمعنى متقارب ، فان النيل الإدراك
والوصول ، فكلّما نالك فقد نلته ، ولكن قراءة الأكثر أحسن وأليق ، ومقتضى العرف
واللّغة كظاهر المفسّرين أنّ العهد هنا هو التقدم إلى المرء في الشيء ، أي تفويض
أمر إليه وتوليته إياه إلّا أنّ ظاهر الكشّاف تخصيصه هنا بالوصيّة بالإمامة بقرينة
السؤال ، وفي إيجابه ذلك نظر ، فان العموم لا ينافيه ، بل ربما كان العموم معه
أبلغ كما يلائمه كلام القاضي.
وما يقال من أنّ
كون العهد هنا هو الإمامة مرويّ عن أبى جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام فلعلّه على وجه لا ينافي ما قلناه ، فان صحّ في الخصوص فهو
المتبع ، فإنهما أعلم بكلام الله ، ومراده سبحانه.
ثمّ اعلم أنّ
المرويّ أنّ من الأنبياء من كان مبعوثا إلى قبيلة ، ومنهم من كان مبعوثا إلى أهل
بيته وخدمه ، ومنهم من اختصّ ذلك بنفسه ، وإنّما كان عليه أن يعمل بما يوحى أو
يلهم دون غيره ، والظاهر شمول العهد للكلّ كما هو ظاهر القاضي حيث استفاد الدلالة
على عصمة الأنبياء جميعا قبل البعثة.
__________________
إما الإمامة
فالظاهر أنّه لا يتحقق إلّا أن يكون الغير مأمورا بالايتمام به ، ومن هنا جاء «أنّ
مرتبة الإمامة أجلّ من مرتبة النبوّة إنّ الله سبحانه ابتلى إبراهيم بعد نبوّته
للإمامة ، ثمّ منّ عليه بها».
إذا عرفت ذلك ففي
البيضاوي أنّ قوله سبحانه (لا يَنالُ) إلخ إجابة إلى ملتمسه وتنبيه على أنّه قد يكون من ذرّيته
ظلمة ، وأنهم لا ينالون الإمامة ، لأنّها أمانة من الله وعهد ، والظالم لا يصلح لها
، وإنّما ينالها البررة الأتقياء منهم ، وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر
قبل البعثة ، وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة انتهى.
وفيه أبحاث :
الف ـ انّ قوله «وإنّما ينالها البررة الأتقياء منهم» ينافي
تخصيص عصمة الأنبياء بكونها من الكبائر ، لأنّ فاعل الصغيرة أيضا لا يعدّ برا تقيا
، كيف وأيسر ما قيل في التقوى أنه «أن لا تجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك».
ب ـ إنّ وجه الدلالة على العصمة كون الظالم بمعنى من وقع منه
ظلم ، ولو من قبل ، ومن هنا يقال كان الاولى أن يقول قبل البعثة أيضا لكن الظاهر
أنّ هذا منه لعدم اعتباره خلاف من أجاز الكبيرة حين النبوّة ، وذلك على تقدير عدم
اعتبار بقاء المعنى المشتقّ منه فيه كما هو الحقّ واضح ؛ إلّا أنه خلاف ما ذهب
إليه الأشاعرة.
ويمكن أن يقال إنّ
الحقيقة ليست بمرادة على كلّ حال ، لانّ الخطاب لإبراهيم بالنسبة إلى ذرّيّته حتى
الّذين لم يوجدوا بعد ، فلا بدّ أن يراد من كان يتّصف بظلم في الجملة ، وفيه نظر ،
على أنّ اللازم حينئذ كونهم معصومين من أوّل عمرهم إلى الآخر على زعمه أيضا ، وهو
خلاف مذهب الأشاعرة ، بل خلاف معتقده أيضا لوقوع الكفر ممّن يعتقد إمامته ، إلّا
أن يخصّ الآية بالنبوّة وهو بعيد جدا فان العهد فيها كما عرفت إن لم يكن يخصّ
الإمامة فلا بدّ أن يعمّها البتة ، لأنّ الكلام فيها.
أو يقال : إنّ
الخلافة والإمامة لأئمتّهم ليست من الله ولا بعد البيعة لهم لأنّهم لا يصلحون لذلك
كما هو ظاهر الآية ، وصريح قوله «والظالم لا يصلح لها» كيف و
لو كانوا يصلحون
لذلك عند الله ، لما ردّ أفضلهم عن تأدية آيات من كتابه بأمر نبيّه صلىاللهعليهوآله أنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك.
ويؤكّد ذلك ويكشف
عن كون البيعة والايتمام منهم أيضا معصية قوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) فلا وجه لتخصيصه أيضا الأنبياء بالعصمة بل الأئمة كذلك.
ج ـ أنه قد استدلّ
بعض الأصحاب بكلّ من الآيتين على عصمة الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام نظرا إلى أنّ الظلم إمّا انتقاص الحقّ أو وضع الشيء في غير
موضعه ، أو التعدي عن حدود الله كما قال سبحانه (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ولا شكّ أنّ فعل الصغيرة خروج عن الاستقامة والطاعة ، ونقص
للحقّ ووضع للشيء في غير موضعه ، وتعدّ عن حدود الله ، لأنّ حدود الله هي أوامره
ونواهيه.
وأيضا الظاهر أنّ
تارك حكم الله يكون ظالما عاصيا ، سيّما لو كان من الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام ، وانه لا يتفاوت الحال في ذلك بين الصغيرة والكبيرة ، على
انّ جماعة قالوا : الذنوب كلّها كبيرة وإن كان بعضها أكبر من بعض فافهم ومن ذلك
يتبيّن انّ تخصيص العصمة بكونها من الكبائر أيضا لا وجه له.
وفي الكشاف : أي
من كان ظالما من ذرّيتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة ، وإنّما ينال من
كان عادلا بريئا من الظلم ، وقالوا في هذا دليل على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة ؛
وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ؛ ولا يجب طاعته ؛ ولا يقبل خبره ، ولا
يقدّم للصلاة ، وكان أبو حنيفة يفتي سرّا بوجوب نصرة زيد بن علىّ وحمل المال إليه
والخروج على اللصّ المتغلّب المتسمّى بالإمام والخليفة كالدوانيقىّ وأشباهه ؛
وقالت له امرأة أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمّد ابني عبد الله بن الحسن
حتّى قتل ، فقال : ليتني مكان ابنك ؛ وكان يقول في المنصور وأشياعه لو أرادوا بناء
مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت ؛ وعن ابن عيينة لا يكون الظالم إماما قطّ ؛
وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والامام إنّما هو لكفّ الظلمة ؛
فإذا نصب من كان
ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر من استرعي الذئب ظلم انتهى .
وهذا وإن احتمل ما
فهمه القاضي من العصمة قبل العهد أيضا لكن الظاهر أن يكون مراده انتفاء العهد عن
الظالم ما دام على حكم الظلم من الفسق ، أما إذا تاب وأصلح وصار عدلا فلا ، وفيه
ما لا يخفى ، بعد ما قدّمنا.
ثمّ على هذا
التقدير إذا حمل العهد على عمومه فلا يبعد أن يفهم أنّ الفاسق لا يصلح أيضا للقضاء
، ولا للفتوى ولا لتولّي غير ذلك من مصالح المسلمين ، حتّى لولايته على أطفاله
والمجانين من أولاده.
آيات الصلاة
الأولى
: النساء (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً).
أي فرضا محدودا
بأوقات معيّنة لا يجوز الإخلال بها ، أو بحدود معيّنة كذلك كما يقال وقت موقوت ،
وفي تخصيص المؤمنين فيه تحريص وترغيب لهم في حفظها وحفظ أوقاتها ، حالتي الأمن
والخوف ، ومراعاة جميع حدودها في حال الأمن وإيماء بأنّ ذلك من مقتضى الايمان
وشعار أهله ولا يجوز أن يفوتهم ، وبأنّ المتساهل فيها في إيمانه نظر ، وإشعار
بأنّهم هم المنتفعون لعدم صحّتها من غيرهم ، أو لعدم إتيان غيرهم بها ، فلا يدلّ
على عدم وجوبها على غير المؤمنين ، فإنّ المفهوم على تقدير اعتباره إنّما يعتبر
إذا لم يكن للوصف فائدة أخرى ، على أنه لا نزاع في وجوبها على المنافقين وهو ينافي
اعتبار المفهوم هنا.
وفيه أيضا تنبيه
للمنافقين بما فيه من الإيماء بقصور إيمان من يتساهل فيها على كشف حالهم ، ووضوح
أمرهم عند الله ، وأنه لا يبعد مع إصرارهم أن يظهر ذلك للمؤمنين ، فينبغي لهم حيث
يحامون عن ذلك ان يؤمنوا على التحقيق كما يظهرون
__________________
وأيضا فإنّ الخطاب
هنا للمؤمنين ، والكلام في تحريصهم ، وبيان مقتضى أحوالهم كما سيأتي إن شاء الله
تعالى فلا يناسب التعميم.
على أنّه لا يبعد
أن يراد بالموقوت الواقعة في أوقات معيّنة لا يتعدّاها ولو بامداد اقتضاء الايمان
ذلك ، والتعليق به ، فلو فهم منه عدم الوجوب على غيرهم بهذا الوجه فلا محذور
فتدبّر.
البقرة
(حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.)
قيل : بالأداء
لوقتها والمداومة عليها ، وقيل : بالمواظبة على فعلها في أوقاتها بجميع شروطها
وحدودها ، وإتمام أركانها ، وكأنّ الأمر بذلك في تضاعيف أحكام الأزواج والأولاد
لئلّا يلهيهم الاشتغال بهم عنها ، ومن ظاهر عمومها يستفاد وجوب المحافظة على جميع
الصلوات إلّا ما أخرجها الدليل ، فلا يبعد الاستدلال بها على وجوب الجمعة والعيدين
والآيات ، لكن في بعض الروايات أنّ المراد هو الصلوات الخمس وهو قريب.
وخصّ الصلاة
الوسطى بذلك بعد التعميم لشدّة الاهتمام بها ، لمزيد فضلها أو لكونها معرضة للضياع
بينها على قول ، فهي الوسطى بين الصلوات أو الفضلي من قولهم للأفضل الأوسط .
فقيل هي الصبح لتوسّطها بين صلاتي اللّيل وصلاتي النهار ، وبين الظلام
والضياء ، ولأنّها لا تجمع مع أخرى ، فهي منفردة بين مجتمعين ، ولمزيد فضلها لحضور
__________________
ملائكة اللّيل
وملائكة النهار كما قال الله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ولأنّها تأتي في وقت مشقّة من برد الشتاء وطيب النوم في
الصيف ، وفتور الأعضاء ، وكثرة النعاس ، وغفلة الناس ، واستراحتهم ، فكانت معرضة
للضياع فخصّت لذلك ، بشدّة المحافظة وبه قال مالك والشافعي ، وقال : ولذلك عقّبه
بالقنوت ، فإنّه لا يشرع عنده في فريضة إلّا الصبح إلّا عند نازلة فتعمّ.
وقيل : الظهر في المجمع : وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهماالسلام وهو مذهب
__________________
أسامة وزيد بن
ثابت ، روى عنه في لباب التأويل أنّه قال كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يصلّى الظهر بالهاجرة ، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحابه منها
، فنزلت (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فذلك إمّا لأنها في وسط النهار ، أو في أشدّ الحرّ فكانت
أشق ، فكانت أفضل ، لقوله عليهالسلام أفضل العبادة أحمزها ولأنها أوّل صلاة فرضت ، ولأنها في الساعة الّتي تفتح فيها
أبواب السماء فلا تغلق حتّى تصلى الظهر ، ويستجاب فيها الدعاء ، قيل : ولأنها بين
البردين أي صلاة الصبح وصلاة العصر ، وعن بعض أئمّة الزيديّة أنّها الجمعة في
يومها ، والظهر في غيرها.
وقيل : العصر
لأنّها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار ، وعنه صلىاللهعليهوآله أنّه قال يوم الأحزاب : «شغلونا عن صلاة الوسطي صلاة العصر»
وهي واردة من طرق وفي الكشاف عن حفصة أنّها قالت لمن كتبت لها المصحف إذا
بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتّى امليها عليك كما سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقرء ، فأملت عليه «والصلاة الوسطى صلاة العصر» ولأنّها خصّت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة ، فعنه صلىاللهعليهوآله «الذي تفوته صلاة
العصر فكأنّما وتر أهله وماله» أى سلب أهله وماله ، وأيضا عنه صلىاللهعليهوآله
__________________
«من ترك صلاة
العصر فقد حبط عمله» وهو يقتضي مزيد الاهتمام بها ، ولأنها تقع في حال اشتغال
الناس بمعاشهم ، فيكون الاشتغال بها أشقّ فيكون أفضل.
وقيل : المغرب
لأنّها تأتي بين بياض النهار وسواد الليل ، ولأنّها أزيد من ركعتين وأقلّ من أربع
فهو متوسّطة بين رباعيّ وثنائي ، ولأنّها لا تتغيّر فلا تنقص في السفر مع زيادته
على الركعتين فيناسب تأكيد الأمر بالمحافظة عليها ، ولانّ الظهر هي الأولى إذ قد
وجبت أولا فيكون المغرب هي الوسطى.
وقيل : العشاء
لأنّها متوسطة بين صلاتين لا يقصران : الصبح والمغرب ، أو بين ليليّة ونهاريّة ،
ولأنّها أثقل صلاة على المنافقين.
وقيل هي مخفيّة
مثل ليلة القدر ، وساعة الإجابة ، واسم الله الأعظم ، لئلّا يتطرّق التساهل إلى
غيرها ، بل تحصل غاية الاهتمام بكل منها فيدرك كمال الفضل في الكلّ ، قيل فهي تدلّ
على جواز العمل المعيّن لوقت من غير جزم بوجوده ، مثل
__________________
عمل ليلة القدر
والعيد ، وأوّل رجب وغيرها ـ مع عدم ثبوت الهلال ، وقد صرّح بذلك في الاخبار ، فلا
يشترط الجزم في النيّة ، ولهذا أجاز الترديد فيها ليلة الشكّ ، فافهم ، وفيه نظر
نعم فهمه من الروايات قريب.
[ثمّ لا يخفى أنه
يحتمل أن يراد بالصلوات ما يشمل السنن والمندوبات ، فان حمل الأمر على الوجوب كان
المراد بالمحافظة ضبطها وضبط أحكامها ومراعاتها على حسب ما هو اللازم في الدين ،
وإن حمل على الندب ، فلا إشكال بوجه ، ويدخل مراعاة الأمور المندوبة للفرض والندب
أيضا فتدبر]
وفي
الكشاف
(قُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ) ذاكرين الله في قيامكم ، والقنوت أن يذكر الله قائماً ،
وعن عكرمة كانوا يتكلّمون في الصلاة فنهوا ، وعن مجاهد هو الركود وكف الأيدي
والبصر ، وروى أنه إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره أو
يلتفت أو يقلب الحصى أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا ، وفي المجمع قال ابن عبّاس معناه داعين ، والقنوت هو الدعاء في الصلاة
حال القيام ، وهو المرويّ عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام وقيل : طائعين ، وقيل : خاشعين ، وقيل : ساكتين أي عما لا
يجوز التكلّم به في الصلاة ، كما صرّح به في اللباب.
واعلم أنّ المرويّ
عنهما عليهماالسلام في القنوت يعمّ الذكر والدعاء ، ويؤيّده ما فيه من إطلاق الدعاء على الذكر ، وأنّ الظاهر
شمول الذكر للدعاء ، فيكون لفظ الدعاء في المجمع للأعمّ. والذكر في الكشاف على
عمومه. ويؤيّد هذا عدّ صاحب اللّباب كونه ذكرا ودعاء ، قولا واحدا ، وهو صريح كلام الأصحاب في القنوت ، بل
غيرهم أيضا تأمل.
__________________
ثمّ لا يبعد إرادة
السكوت عمّا لا يجوز في ضمن ذلك ، كما لا يخفى ، ولعلّ ذلك مقتضى القيام طائعين أو
خاشعين ، فيحتمل إرادة الذكر والدعاء المقرونين بالخشوع والطاعة إلّا أنّ الظاهر
أنّه مجاز فتدبر.
وقد استدلّ بها
على وجوب القنوت في الصلوات كلّها ، وشرعيّته فيها ، وفيه نظر لاحتمال الاختصاص
بالوسطى كما قيل ، واحتمال إرادة طائعين أو خاشعين ، أو إرادة الأذكار الواجبة في
الصلاة كما قيل أيضا ، ومع إطلاقه أيضا تبرئ الذمة بها ، كما لا يخفى فكونه
بالمعنى الشائع عند الفقهاء محلّ تأمل فوجوبه في الصبح على تقديره الوسطى أيضا محل
نظر.
قيل ولأنّه أمر
بالقيام فهو إمّا قيام حقيقي أو كناية عن الاشتغال بالعبادة لله في حال القنوت ،
فالواجب حينئذ هو القيام حال القنوت لا القنوت ، وإن احتمل حينئذ وجوب القنوت أيضا
، إذ على تقدير تركه لم يوجد المأمور به ، وهو القيام حال القنوت ، فوجوبه يستلزم
وجوبه لكن وجوبه غير معلوم القائل وعلى تقديره يكون مشروطا أى إن قنتّم فقوموا.
وفيه نظر أما أولا
، فلأنّ الواجب حينئذ هو القيام قانتا ، ووجوب المقيد يستلزم وجوب القيد ، فإنّه
منتف عند انتفائه وثانيا أنّ الظاهر أنّ كلّ من قال بوجوب القنوت يوجبه قائماً مع
الإمكان ، نعم فهم وجوبه حينئذ مع عدم وجوب القيام لعذر مشكل وثالثا شتّان ما بين
الشرط والحال ، خصوصا على تقدير كون القيام مقيدا بالقنوت كما فرضه فتدبر.
قال شيخنا دام ظله : الأصل عدم الوجوب ، وهو مذهب الأكثر ، وأنه ليس
في روايتي تعليم النبيّ صلىاللهعليهوآله الصلاة الأعرابيّ والصادق عليهالسلام حمّاد بن عيسى و
__________________
غيرهما من
الروايات ، فالاستحباب غير بعيد ، ويمكن حمل الآية عليه فتأمل.
طه
(وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى.)
الظاهر نظرا إلى
ما قبل وما بعد أنّ أمره تعالى له صلىاللهعليهوآله بذلك بل أمره لهم أيضا كفّا لهم وتنزيها عن مدّ النظر إلى
زهرات الدنيا وزخارفها ، بل فعلهم أيضا كذلك ينبغي فلا يبعد أن يفهم طلب مزيد
عناية ومواظبة عليه ، كما يقتضيه الأمر بالاصطبار على وجه المبالغة.
وما روي عن عروة
بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الاية ثمّ ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله ، وعن بكر بن
عبد الله المزني أنّه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلّوا ، بهذا
أمر الله رسوله ،
__________________
ثمّ قرأ هذه
الآية.
وفي المجمع روى
أبو سعيد الخدريّ قال : لمّا نزلت هذه الآية ، كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يأتي باب فاطمة وعلىّ عليهماالسلام تسعة أشهر عند كلّ صلاة فيقول : الصلاة الصلاة يرحمكم الله
، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا.
ورواه ابن عقدة بإسناده بطرق كثيرة عن أهل البيت عليهمالسلام وغيرهم مثل أبي برزة وأبى رافع وقال أبو جعفر عليهالسلام أمر الله تعالى أن يخصّ أهله دون الناس ليعلم الناس أنّ
لأهله عند الله منزلة ليست للناس فأمرهم مع الناس ، ثمّ أمرهم خاصّة ، وهذا يدلّ
على أنّ المراد من يختصّ به من أهل بيته ، لا أهل دينه مطلقا كما قيل.
ثمّ الظاهر وجوب
أمره صلوات الله عليه أهله بذلك ، فالوجوب عليهم بأمره ـ إن قلنا إنّ الأمر بالأمر
بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء ـ لما علم من وجوب اتّباع أمره ؛ وإلّا فبهذا الأمر ،
قيل فيجب علينا أيضا أمر أهالينا بدلالة التأسّي به عليهالسلام ؛ ويؤيّده قوله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقد ينظر فيه لبعض ما تقدّم مما قد يقتضي تخصيص أهله عليهالسلام ونحوه مما يأتي ؛ وحينئذ فقد يستحبّ لغيره فليتأمل.
(وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) بالمداومة عليها واحتمال مشاقّها بل الأمر بها واحتمال
مشاقّة أيضا فهو عليهالسلام مأمور بها على أبلغ وجه.
(لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً) لا نكلّفك شيئا من الرزق لا لنفسك ولا لغيرك ؛ نحن نرزقك
__________________
ما يكفيك وأهلك ؛
أو كلّ ما تحتاج اليه فيحتمل أن يكون المراد ترك التوجّه الى تحصيل الرزق وكسب
المعيشة بالكلية ؛ ويكون من خصائصه صلوات الله عليه وآله ولهذا قيل ففرّغ بالك
لأمر الآخرة من العبادة وأداء الرسالة ؛ وقد يفهم منه الأمر بكلّ ما أمر به ،
والصبر على تكاليفه كلّها ؛ وعدم جعل الرزق مانعا أصلا كما هو المناسب لشأن
النبوّة ومنزلة الرسالة.
وينبّه عليه قوله
تعالى (وَالْعاقِبَةُ
لِلتَّقْوى) لدلالته على عدم الاعتداد بالدنيا لعدم العاقبة أو عدم
عاقبة محمودة ؛ وانحصار العاقبة أو المحمودة في التقوى الذي هو العمل بمقتضى أوامر
الله ونواهيه تعالى ؛ فمع كفاية الرزق في الدنيا لا وجه للتوجّه إليها وعدم
التفرّغ للتقوى ؛ إلّا أنّ الإنسان كالمجبول على هذا.
ثمّ لا يخفى أنّ
اللازم حينئذ اختصاص وجوب الاصطبار أيضا لأنّ هذا كالتعليل للأمرين خلافا لكنز
العرفان ؛ نعم قد يستحبّ لغيره ، ويحتمل العموم ، ولهذا ورد «من كان لله كان الله
له ومن أصلح أمر دينه أصلح الله أمر دنياه ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله
ما بينه وبين الناس» وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ويكون توجّه الأمر إلى خصوصه مثل توجّهه إليه في آيات أخر
، ولعلّ الأولى حينئذ أن يراد ترك الاعتناء والاهتمام ، لكون ذلك مظنّة للوقوع في
خلاف الأولى كما روي عن عبد الله بن قسيط عن رافع «قال : بعثني رسول
الله صلىاللهعليهوآله إلى يهوديّ وقال قل له يقول لك رسول الله أقرضني إلى رجب ،
فقال والله لا أقرضته إلّا برهن ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله إنّى لأمين في السماء وإنّى لأمين في الأرض احمل إليه درعي
الحديد ، فنزلت (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ) وهذا كالتتمة لها كما لا يخفى.
__________________
ولا يبعد أن يكون
بالنسبة إلى غيره عليهالسلام مظنّة للحرام فيجوز أن يحرم عليهم لهذا وعليه تنزيها
لمرتبة الرسالة ، وتكميلا لأمر التبليغ ، ويجوز عموم تكفّل الرزق وتخصيص وجوب ترك
التوجّه به عليهالسلام لما تقدّم فافهم.
المؤمنون
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ.)
«قد» حرف تأكيد
يثبت المتوقّع كما ينفيه «لمّا» وتفيد الثبات في الماضي والفلاح الظفر بالمراد ،
وقيل البقاء في الخير ، وأفلح دخل في الفلاح كأبشر ، ويقال أفلحه أصاره إلى الفلاح
، وعليه قراءة أفلح على البناء للمفعول وقرئ «أفلحوا» على أكلونى البراغيث ، أو على الإيهام
والتفسير «وأفلح» اجتزاء بالضمّة عن الواو وقرأ ورش عن نافع بإلقاء فتح الهمزة على الدال وحذفها.
والايمان في
اللّغة التصديق وشرعا تصديق الرسول صلىاللهعليهوآله فيما علم مجيئه به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا
فيما علم إجمالا كما قاله الأشعرية وبعض الإماميّة فهو تصديق خاصّ أو هو مع
الإقرار به كما قال بعض الإماميّة ونادر من الأشعرية ويروى عن أبي حنيفة. أو هما
مع العمل بمقتضاه ، وهو مذهب جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج وعند قوم من
الآخرين أنّه أعمال الجوارح ، فقيل الطاعات بأسرها فرضا ونفلا ، وقيل المفترضة من
الأفعال والتروك دون النوافل وعند الكرّاميّة أنّه الإقرار بالشهادتين.
وممّا يدل على
أنّه التصديق وحده إضافة الايمان إلى القلب الدالّة على محلّيّة القلب له في آيات
مثل (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (وَلَمْ تُؤْمِنْ
قُلُوبُهُمْ) (وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ويقربها الآيات الدالّة على الختم والطبع على القلوب ،
وكونها في أكنّه في مقام امتناع الايمان منهم ، وعطف
__________________
العمل الصالح على
الايمان في آيات ، واقتران الايمان بالمعاصي في مثل قوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا) (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) و (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) وظاهر أنّه لا يجوز الخروج عن ظاهر القطعي إلّا بأقوى أو
مثله.
على أنّ مثل ذلك
في الروايات كثيرة أيضا ، وأيضا فإنّه أوفق للأصل من عدم اعتبار أمر زائد ، وأقرب
إلى معناه اللغوي لقلّة التغيّر وإلى الاستصحاب لبقائه في أفراد معناه اللغوي ،
ويقال أيضا لو لا ذلك لزم كفر من صدق بقلبه ويمّم بالإقرار فمنعه مانع من خرس أو
خوف من مخالف ، وهو خلاف الإجماع.
واستدلّ على
اعتبار الإقرار بثبوت الكفر مع المعرفة كما في قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ) و (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ) وفيه نظر واضح وفي البيضاوي : لعلّه الحق في المتمكن منه ،
لأنّه تعالى ذمّ المعاند أكثر من ذمّ الجاهل المقصّر ، وللمانع أن يجعل الذمّ
للإنكار لا لعدم الإقرار ، وأما أنّه لا يجوز مع التمكّن منه تركه ، فان سلّم فلا
يستلزم اعتباره شطرا ولا شرطا وأما أنّ الإسلام قد اعتبر فيه الإقرار والايمان
إمّا مرادف له أو أخصّ ففيه ما فيه ، والمذكور من حجج المعتزلة لا يخلو من ضعف.
إلّا أنه ظاهر
أخبار كثيرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام خصوصا الرضا عليهالسلام حتّى كاد أن يبلغ التواتر ، وقد يفهم تأييده من أخبار
كثيرة أيضا حيث يدلّ على خروج المؤمن بالفسق عن الايمان ، ثمّ إذا تاب صار مؤمنا ،
وقد حمل الجميع جماعة على الايمان الكامل الكائن للمتّقين المخلصين جمعا بين
الأدلّة.
ولعلّ كون الايمان
التصديق بطريق الانقياد على وجه يستتبع مقتضاه شرعا من عدم ما يخرجه من الدين أو
من اجتناب الكبائر فعلا أو تركا أقرب ، ولا تأويل حينئذ إلّا فيما دلّ على اعتبار
الإقرار والأعمال شطرا أو شرطا مطلقا ، وهو لازم ، وإلّا لزم
__________________
الحرج المنفيّ
بقوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيمن منعه عن الإقرار والأعمال لزوم قبله أو نحوه وأيضا لا
بدّ من اعتبار نحو ذلك وإلّا يكون سابّ النبيّ مع التصديق المذكور مؤمنا ، مع أنه
خلاف الإجماع ، وكذا غير ذلك ممّا يوجب الارتداد ، ويمكن اجتماعه مع التصديق
المذكور ، والقول بكونه مؤمنا فيما بينه وبين الله مع كونه محكوما بالكفر بعيد.
ثمّ أصول الإيمان
عند الإماميّة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ، وعند الأشعريّة ما عدا
العدل والإمامة ، وعند المعتزلة التوحيد والعدل والنبوّة والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر والوعد والوعيد ، وقالوا من لم يقرّ ببعض هذه لم يكن مسلما ، ومن أقرّ
وفعل كبيرة لم يكن مؤمنا ولا كافرا بل هو منزلة بين المنزلتين.
والخشوع الخضوع
والتذلّل (خاشِعُونَ) أي خاضعون متواضعون متذلّلون لا يرفعون أبصارهم عن مواضع
سجودهم ، ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا وروي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال : أما إنّه لو خشع
قلبه لخشعت جوارحه ، وفي هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح
: أمّا بالقلب فهو أن يفرّغ قلبه بجميع همّه بها والاعراض عمّا سواها ، فلا يكون
فيه غير العبادة والمعبود ، وأما بالجوارح فبغضّ البصر ، والإقبال إليها ، وترك
الالتفات والعبث ، قاله في مجمع البيان.
والظاهر أنّ
المراد بغضّ البصر خفضه وترك التوجّه وطلب الأبصار به كما روى زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : اخشع بصرك ولا ترفعه إلى السماء ولذلك
__________________
قيل : المراد صرف
النظر حال القيام إلى موضع سجوده ، وحال الركوع إلى ما بين رجليه ، وحال السجود
إلى طرف أنفه ، وحال التشهّد إلى حجره ، وحال القنوت إلى باطن كفّيه.
وقال الشيخ في
الجمع بين ما في رواية حمّاد من غمض العين حال الركوع وما في رواية زرارة من النظر
إلى ما بين رجليه حينئذ أنّه إذا لم ينظر إلّا إلى ما بين رجليه ، فكأنه غضّ بصره
، فان ظاهره أنّ الغرض من الغمض والنظر الخاصّ غمض البصر بالمعنى المذكور المتحقّق
معهما ، فكلّ حينئذ مستحبّ تخييريّ.
نعم قوله «لا
يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم» مقيّد بحال القيام ، وأهمل لظاهر الحال ، وشهرته
رواية وفتوى ، وأمّا غمض العين حينئذ فالظاهر عدم استحبابه ، فقد روي عن أبي عبد
الله عليهالسلام أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله نهى أن يغمض الرجل عينيه في الصلاة ويؤيد ذلك إضافه النظر والبصر إلى موضع السجود في الروايات
الكثيرة.
أما ما في رواية
حمّاد من الغمض في الركوع فالوجه تقديمه لوجوب تقديم الخاصّ على العام ، ولأنها
أصحّ مع اختصاص تأييد تلك الرواية بالروايات المشار إليها ظاهرا بحال القيام ،
وقيل باستحبابه حينئذ تخييرا وكأنه لاستضعاف الرواية بالقطع ، وحصول غضّ البصر
وإلباده كما روى عن قتادة مع الغمض أيضا ، فإنّه الذي ينبغي أن يراد بالنظر إلى
موضع السجود وعدم رفع البصر عنه ، مع عدم منافاته للإقبال بالقلب ، بل ربما كان
أعون عليه كما نقل عن هذا القائل ، لكنّه موضع تأمّل.
وعن عليّ عليهالسلام لا تجاوز بطرفك في الصلاة موضع سجودك في الصلاة ومن ثمّ قال ابن بابويه ينظر الراكع ما بين قدميه إلى موضع
سجوده ، وربما احتمل أن يكون عدم الرفع في كلام الطبرسيّ بهذا المعنى ، وإن كان
خلاف الظاهر ، وعلى هذا
__________________
لا يبعد الجمع بين
الروايات بكون النظر الى موضع السجود قائماً والى ما بين رجليه راكعا آكد استحبابا
والله اعلم.
وأما الإقبال
بالجوارح ، فظاهر أنّ المراد به حفظها عمّا لا يناسب الصلاة أو ينافي التوجّه
إليها بالقلب ، مفسّر بقوله «وترك الالتفات والعبث» فكأنّه أذلّها بعبادته فلم
يشتغل بغيرها ، وفي الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال إذا قمت في الصلاة فعليك بالاكباب على صلاتك ، فإنّما
يحسب لك منها ما أقبلت عليه ، ولا تعبث فيها بيدك ولا برأسك ولا بلحيتك ، ولا
تحدّث نفسك ، ولا تتثاءب ولا تتمطّ ولا تكفّر ، فإنّما يفعل ذلك المجوس ، ولا تلثم
ولا تحتقن ، وتفرّج كما يفرّج البعير ، ولا تقع على قدميك ، ولا تفرش ذراعك ، ولا
تفرقع أصابعك ، فإنّ ذلك كلّه نقصان من الصلاة ولا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا
متناعسا ولا متثاقلا ، فإنّها من خلال النفاق ، فان الله نهى المؤمنين أن يقوموا
إلى الصلاة وهم سكارى ، يعني سكر النوم ، وقال للمنافقين (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا
كُسالى).
هذا وظاهر البعض
اعتبار ترك جميع المكروهات ، وفعل جميع المندوبات المتعلّق بالجوارح المبيّنة في
الفروع الواردة في الأصول في الخشوع ، حتّى لو انتفى البعض انتفى ، وفيه تأمل لأنه
يمكن أن يكون استحباب بعض تلك المستحبّات لكون الخشوع معه أتم ، أو لأمر آخر كما
في التكفير مثلا ، ويؤيد ذلك أنّ الخشوع في الأعضاء السكون كما صرّح به جماعة من
أهل اللغة وأهل التفسير حتّى في تفسير الآية وعليه ما روي في هذا الباب عن سيّد العابدين عليهالسلام أنه إذا قام في الصلاة كان كأنّه
__________________
ساق شجرة لا يتحرك
منه إلّا ما حركت الريح منه ، وربّما كان في الرواية النبويّة أيضا إيماء إليه ،
فإنّ ظاهرها اعتبار خشوع القلب والذمّ على عدمه المفهوم من عبث اليد.
وأمّا ما تضمّن من
فوت الخشوع المعتبر عند فوت خشوع بعض الجوارح ، فذلك لا ينافي كون الخشوع من
الجوارح سكونها ، ولا يوجب كونها على الهيآت المستحبّة المذكورة كما لا يخفى ،
وأيضا لما دلّ على أنّ خشية القلب خشوع ، فالظاهر صدق الخاشع باعتبارها على
المصلّي فيكون كافيا في المقام ، فلا يعتبر شيء من الهيآت معه ، إلّا بدليل.
وأما فوت خشوع
القلب عند عدم خشوع الجوارح ، فقد عرفت أنّه لا ينافي ذلك ، فلا دلالة في الآية
ولا في الحديث على اعتبار الهيآت المخصوصة جميعا في الخشوع نعم خشوع الجوارح بمعنى
السكون يفهم من الحديث اعتباره ، ولذلك فسّر الطبرسيّ خشوع الجوارح بترك الالتفات
وترك العبث ، لكن هل يستفاد حينئذ استحباب تسكين الجوارح جميعا بحيث يثاب عليه
بخصوصه؟ أو المطلوب إنّما هو خشوع القلب الذي يلزمه ذلك أو مع ما يتوقّف عليه من
ذلك كغضّ البصر مثلا؟
هذا هو الذي
يقتضيه ما في الكشاف أنّ الخشوع في الصلاة خشية القلب وإلباد البصر ، وربّما كان
ترك العبث من هذا القبيل أيضا ، وأما قوله : ومن الخشوع أن يستعمل الآداب فيتوقّى
إلخ أي نوع من الخشوع أو من آثاره كما قد يشعر استشهاده بالرواية النبويّة ، أو
باعتبار أنّ ترك العبث وما يخلّ بخشوع القلب معتبر أيضا ولذلك عدّ تروكا من هذا
القبيل.
ثمّ ظاهر الآية
اعتبار الخشوع من أوّل الصلاة إلى آخرها ، وظاهر إطلاقها شمول الفرائض والنوافل
المرتّبة وغيرها ، ولهذا قيل إنّما أضيفت إليهم لأنّ المصلّي هو المنتفع بها وحده
، وهي عدّته وذخرته ، فهي صلاته ، وأما المصلّي له فغنيّ متعال عن الحاجة إليها ،
والانتفاع بها.
وإن خصّ بالفرائض
كما يشعر به بعض الروايات أمكن اعتبار مزيد الاختصاص وزيادة الانتفاع ، وعلى كلّ
حال فإنّما لم يهمل ويطلق ، إيماء إلى ذلك للتحريض والترغيب ، وفي ترتّب الفلاح
على الخشوع في الصلاة لا على الصلاة وحدها ولا عليهما جميعا من التنبيه على فضل
الخشوع ما لا يخفى.
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) :
اللغو ما لا يعنيك
من قول أو فعل ، وما توجب المروّة إلغاءه وإطراحه ، يعني أنّ بهم من الجدّ ما
شغلهم عن الهزل ، ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالاعراض عن اللغو
ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللّذين هما قاعدتا بناء التكليف ، كذا
في الكشاف والظاهر أنّ اللغو لا يختصّ بنحو اللعب والهزل كما قد
يتوهّم ، بل يعمّ جميع المعاصي والمكروهات ، أما المباحات كما زعمه شيخنا المحقّق فموضع نظر ، نعم عن الحسن أنه المعاصي.
ثمّ لا يخفى أنّ
الخشوع فيها حقيقة هو جمع الهمّ لها ، والإقبال والتوجّه إليها ، وهو فعل لا ترك ،
وان استلزم تروكا ، وأنّ اللغو لو كان منه تركا فالظاهر الممدوح عليه هنا المرغّب
فيه تركه ، ولو بفعل ، فلا ينبغي المناقشة بأنّ في كل جمعا بين الفعل والترك كما
لا ينبغي بأنّ الإعراض فعل وان استلزم ترك المعرض عنه ، فإنّه قد يراد من الترك
ذلك ، أو يراد بالاعراض عدم الالتفات ولو على طريق المبالغة أو المراد تركه
متوجّها الى ما يعنيه أو على وجه يبعد منه فعله.
ولعلّ في ذكر
الاعراض وتعليق الفلاح به تنبيها على أنّ موجب الفلاح أو علامته حقيقة هو ترك
اللّغو أو عدم الالتفات إليه قصدا ، وأنه الكمال لا مجرّد عدم وقوعه منهم فافهم.
قيل : يفهم من
الآية وجوب الاعراض عن اللّغو ، لأنّ له دخلا في الايمان أي في كماله ، وقارنه
بفعل الزكاة وترك الزناء ، وفيه أنّه إن أراد أنه من علامات كمال
__________________
الايمان ، فلا
نسلّم أن كلما كان كذلك كان واجبا ، وإن قارن فعل الزكاة ، وإلّا فلا نسلّم أنّ له
دخلا في حصول كمال الايمان ، بل هو من متفرعاته.
وأيضا فإنّ ظاهر
السياق في الجميع واحد ، فان فهم الوجوب فهم في الخشوع أيضا ، ولم يفهمه هذا
القائل ، بل صرّح بدلالتها على الاستحباب ولم يذكر احتمال الوجوب ، مع قوله
بدلالتها على الترغيب في الخشوع حتّى كاد أن يكون له دخل عظيم في الايمان أي كماله
، وكونه أقرب إلى فعل الزكاة غير موجب لاختصاصه بذلك كما لا يخفى.
نعم الآية قد دلّت
على المدح العظيم ، وثبوت الفلاح للمؤمن الموصوف بهذه الأوصاف أو أحدها ، وهذا لا
يستلزم عدم اشتمالها على المندوب أصلا ، ولو قلنا بحصر الفلاح أو المؤمنين فيهم
كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنّ في الآية دلالة على كراهة الميل إلى اللغو وحضوره وتسببه أيضا كما أشار
إليه القاضي حيث قال : وهو أبلغ من : الّذين لا يلغون ، من وجوه : جعل
الجملة اسميّة ، وبناء الحكم على الضمير ، والتعبير عنه بالاسم ، وتقديم الصلة
عليه ، وإقامة الاعراض مقام الترك ، ليدلّ على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسبّبا
وميلا وحضورا ، فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه.
وكذلك
قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) :
الزكاة اسم مشترك بين عين هو القدر المخرج من النصاب ، ومعنى هو
التزكية وهو المراد ، وما من مصدر إلّا وقد يعبّر عن معناه بالفعل ، ويقال لمحدثه
فاعله كما يقال للضارب فاعل الضرب ، ويجوز أن يراد العين على تقدير مضاف هو الأداء
، ولم يمتنع أن يتعلّق بها فاعلون من غير حذف لخروجها من صحّة أن يتناولها
__________________
الفاعل ، بل لأنّ
الخلق ليسوا بفاعليها.
ثمّ الزكاة
بإطلاقها تشمل الواجب والندب ، فمن لم يجب عليه يدخل فيهم باعتبار فعل مندوبها ،
وأما حملها على الواجب كما قيل ، فيخرج هذا فلم أعلم ما يوجبه نعم يحتمله المقام ،
ومنهم من قال المراد بها العمل الصالح وأما فهم وجوب الزكاة من هنا فكفهم وجوب
الخشوع والاعراض عن اللّغو ، والله أعلم.
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).
(إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ) في موضع الحال أي إلّا والين أو قوّامين عليهنّ ، من قولك
فلان كان على فلانة فمات فخلف عليها فلان ، نظيره كان فلان على البصرة أي واليا
عليها ، ومنه فلانة تحت فلان ، ومن ثمّ سمّيت المرأة فراشا والمعنى أنّهم لفروجهم
حافظون في كافّة الأحوال إلّا حال تزوّجهم أو تسرّيهم ، أو تعلّق بمحذوف يدلّ عليه
غير ملومين ، كأنه قيل يلامون إلّا على أزواجهم أي يلامون على كلّ مباشرة إلّا على
ما أطلق لهم ، فإنّهم غير ملومين عليه ، أو تجعله صلة لحافظين من قولك احفظ على
عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي كما ضمّن قولهم نشدتك بالله إلّا فعلت ؛
الكشاف.
ولا يخفى أنّ
استثناء حال تزوّجهم وتسرّيهم مطلقا غير مراد فلا بدّ من جعل ذلك كناية عن بذلها
لهنّ ، بل عمّا أطلق لهم من ذلك كما قال في الوجه الثاني أو تقدير ما يخصصه به ،
وحينئذ فتقدير ما يكون أقرب من المراد مع احتمال المقام أولى فلا يبعد تقدير «من
كل وجه إلّا ما يستحقّونه» أو «ما يحقّ لهم على أزواجهم» ونحو ذلك.
ثمّ اعلم أنه كما
يجوز تعلقه بمحذوف يدلّ عليه ما بعده ، كذلك يجوز تعلقه بما يدلّ عليه ما قبله ،
من حافظون لفروجهم ، فإنّه يدلّ على أنهم لا يتظاهرون بفروجهم ولا يعرضونها على
الغير بالمباشرة والملامسة ، وأن ينظر إليها ، فيجوز أن يتعلّق به باعتبار ذلك ،
وحيث يفهم منه جاز أن يقال بتضمينه ، وهذا هو المراد بقوله أو يجعله
صلة لحافظون إلخ.
ثم لا يخفى أنّ
ظاهر حفظ الفرج بإطلاقه يعمّ المباشرة وغيرها كما تقدّم فالتخصيص بها كما أورد في
الوجه الثاني محلّ نظر أيضا ، نعم روى عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى (وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) أنّ المراد في غيره بحفظ الفرج الحفظ من الزنا إلّا أنّ
فيه تأملا فتدبر.
ثم إنّ القاضي
قدّر النفي لا يبذلون ، والمعروف تعديته باللام ، فيقال بذل له ، وصحّة تعلق على
به محل نظر ، قال البغوي في المعالم : على بمعنى من أي من أزواجهم ومجيء على بمعنى
من في الكشاف أيضا ولكن إن ثبت فهو خلاف ظاهرها.
وعلى أى تقدير في
الآية دلالة على جواز التزويج وتملك الجارية ، وإباحة التسري ، فلا ينبغي اعتقاد
أنّه ليس بحسن لكونه غير لائق ، أو أنّ حصول الولد منها عار عليه أو على الولد ،
أو أنّ الولد منها لا يجيء قابلاً غالبا ، ولا تركه بهذا الاعتقاد كما يفعله بعض
الجهلة ، وهو ظاهر يدلّ عليه أيضا غير هذه من الآيات ، والأخبار ، بل فيها دلالة
على استحبابه ومدح الولد وردّا على الجهلة أكّد بقوله (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي غير مستحقّين للؤم ، أو خبر في معنى النهي فيكون لومهم
على ذلك حراما البتة.
قيل أي غير ملومين
على حفظهم من غيرهنّ وعلى عدم حفظهم منهنّ ، وفيه نظر لأنّ الحفظ وقع متعلّق مدح
عظيم هو علامة الفلاح ومع ذلك فهو معروف الحسن بيّن الرجحان ، فلا يليق توجيهه
بنفي اللوم أو تأكيده.
إن قيل : المقدمة
الاستثنائية أيضا متعلّق المدح لما تقرّر من أنّ الاستثناء من الموجب نفي ومن
النفي إيجاب ، فهما في ذلك سواء ، وحينئذ فيستفاد استحباب التزويج
__________________
والتسري وكراهة
الحفظ منهنّ.
قلنا ليس تعلّق
المدح في ظاهر الكلام بالاستثنائيّة كتعلّقه بما قبلها ، فإنّه صريح كالنص ،
والاستثناء كثيرا ما يكون لغرض آخر من تشخيص المراد كمتعلّق المدح هنا ، ودفع
توهّم غيره ، مثل أن يتوهّم المدح على الحفظ من الأزواج والإماء أيضا ، وتمهيد حكم
آخر كما هنا ، ولا في معروف الحسن بيّن الرجحان كما قبله ، وإذ لا بدّ لقوله (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) من متعلّق ، فليكن الاستثنائيّة ، وبعض محقّقي مشايخنا
بناء على ما قدمنا حكم باستحباب التزويج والتسرّي مع تعليق هذا القول
بالاستثنائيّة في ظاهر كلامه فليتأمل والتعلّق بالجميع على تقدير كونه بمعنى النهى
، وإن كان ممكنا إلّا أنه بعيد.
ثمّ قد يشعر قوله (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) بأن يكون تارك الحفظ من غيرهنّ ملوما ولا أقلّ يستشعر به
فيراد حكم فيحتاج إلى قوله.
(فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ.)
أي الكاملون في
العدوان المتناهون فيه تأكيدا وتوضيحا أو تبيينا ، فيحسن وإن كان المقام مقام
الاقتصار والكلام في المفلحين.
ثمّ لا يخفى أنّ
ما قدّر أو ضمّن لتصحيح «على» إن قيّد فيه المستثنى بالنسبة إلى الأزواج والإماء
بالحلّ ، لم يكن في الآية دلالة على حلّ شيء مما يحلّ منهن ، اللهمّ إلّا المعروف
المشهور ، ولا حرمة غيره منهنّ ، بل كانت مجملة ، فلا بدّ من فهم ذلك من غيرها ،
وإلّا دلّ على حل كل ما يمكن من المستثنى منه بالنسبة إلى الأزواج والإماء ، إلّا
ما خرج بعقلي أو نقلي ، كما يدل على حرمته بالنسبة إلى غيرهنّ كذلك ، حتّى كشف
الفرج ، والاستمناء باليد ، وسائر البدن.
في الكشاف فان قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت؟ لا لأنّ
المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح ، وهو واضح ، وانتفاء بعض
الأحكام مثل الإرث عند بعض ، والقسمة لا يقتضي خروجها عن الزوجيّة كما في بعض
__________________
الدائمات مثل
الناشزة والقاتلة.
ثمّ لا يخفي أنّ
إذا قد تشعر بوقوع الشرط ، ولعله باعتبار جواز المتعة وصحّتها شرعا في الجملة حتى
بعد الآية في عام الفتح عندهم وإن نسخ ، فلا دلالة فيه على جواز المتعة عنده ، ولا
على عدم جوازه ، فان جواز المباشرة لكونها من الأزواج بشرط الصحّة لا يستلزم
الصحّة ، ولا الجواز مطلقا ، كما في الواهبة نفسها فإنّه لما صحّت الهبة في حقّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله كانت زوجة ولما لم تصحّ في حق غيره لم تكن زوجة ، فلا تدلّ
الآية على حرمة المباشرة ووجوب الحفظ إلّا بعد ثبوت عدم الصحّة ، ولا على الجواز
إلّا بعد ثبوت الصحّة ، وكذلك المجيرة والمعيرة والمبيحة نفسها ، ونحوها ، فان
الظاهر أنّها لو صحت صارت هي زوجة ، فإنّما تدلّ الآية على حرمة المباشرة فيهنّ
لعدم كونها من الأزواج لعدم الصحّة ، فلا يكون تحليل الأمة كذلك مع الصحّة كما
دلّت عليه الأخبار الصحيحة والإجماع على ما نقل ، ففهم دلالة الآية على عدم صحّة
هذه الهبة والإجارة والتحليل وغيرها وهم.
إذا تقرر ذلك فهنا
أمور :
الف ـ ظاهر الآية
حصر سبب الحلّ في الزوجة ، وملك اليمين ، بحيث لا يرتفعان ولا يجتمعان ، فان
المستباح بهما خارج عن القسمين ، إذ التفصيل يقطع الاشتراك ، وأيضا فلا ريب في
وضوح احتماله للانفصال الحقيقي وذلك يوجب الشك في الإباحة بغيرهما فيرجع إلى أصل
المنع ، ولما ثبت عندنا صحّة تحليل الأمة وإفادته الإباحة كما تقدم وجب دخوله في
أحد الأمرين.
فقيل انّ التحليل
كالعقد المنقطع يفيد الزوجيّة ، واعترض بانتفاء لوازم المتعة من تعيين المدّة
والمبلغ والصيغة الخاصّة ، ويجاب بمنع لزومها مطلقا ، بل في قسم خاص منها أو منع
انحصار عقد المنقطع منها ، أو منع حصر العقد المفيد للزوجيّة في الدائم ، والمنقطع
الذي هو المتعة.
ويجاب أيضا عن
الاعتراض بأنّ عقد النكاح لازم ولا شيء من التحليل بلازم فليتأمل.
وقيل انه تمليك
يفيد ملك المنفعة ، فإنّ الملك أعمّ من ملك العين وملك المنفعة وملك المنفعة أعمّ
من أن يكون تبعا للأصل أو منفردا قيل : ولذلك قال (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) فإنّه لا يشترط في هذا الملك العقل ، ولو أراد ملك العين
لقال من ملكت أيمانهم ، فلا يقال ظاهر الآية ملك العين لا الأعمّ ، ولهذا لا يحلّ
بغير التحليل ممّا يفيد ملك المنفعة كالإجارة فإنّ الملك مطلق يعمّ القسمين ،
والتخصيص تقييد.
إذ قد عرفت أنّ
الآية تدلّ على الإباحة على تقدير الملك مطلقا ، فعدم افادة غير التحليل ملك منفعة
البضع كالإجارة وعدم دلالة الآية على الإباحة لذلك لا يقدح في دلالة الآية على
الإباحة فيما علم فيه ملك منفعة البضع ، ولعلّ عدم افادة نحو الإجارة ذلك لكونه
موضوعا شرعا لغير ذلك أو معروفا شائعا في الغير ، فلا يتبادر فيه ذلك ، مع كونه
ممّا يراعى فيه الصراحة للاحتياط فتأمل.
واما نحو القبلة
المحضة والمسّ بغير الفرج والنظر فقط ، فان لم يكن متعلق الفرج فلا دلالة في الآية
عليه لا حلًّا ولا حرمة ولا محذور فيه ، وانّما يعلم ذلك بغيرها وان كان ممّا
يتعلق به أو من أتباعه ، فإذا ثبت الحلّ فيها بالنصوص الصحيحة ، وجب القول بالملك
أو العقد بهذا الوجه الخاصّ.
وشيخنا المحقّق
بعد القول بأنه يفهم من الآية عدم جواز التحليل مع دلالة الأخبار الصحيحة ، ونقل
الإجماع قبل المخالف وبعده على الجواز ، وذكر اختلاف الأصحاب في كونه عقدا أو ملكا
، وتزييف القولين ببعض ما تقدّم ، قال : ولكن لما ثبت التحليل فلا بدّ من التأويل
، وان كان بعيدا ، فيمكن جعله قسما آخر بنفسه ، وتخصيص هذه الاية فتدبر.
ب ـ ظهر ممّا
ذكرنا أنّ البضع لا يتبعّض ، فلو ملك بعض أمة لم يحلّ له العقد على باقيها ، وإلّا
لزم التبعيض استباحة ، بعض بالملك وبعض بالعقد.
أمّا لو حلل أحد
الشريكين مثلا لصاحبه حصّته فذهب جماعة منهم ابن إدريس والشهيد إلى الجواز ، لأنّ
الإباحة تمليك منفعة ، فيكون حلّ جميعها بالملك ، ولا
يضرّ كون بعضه
للملك وبعضه منفردا ، ويؤيد ذلك صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام في جارية بين رجلين دبّراها جميعا ثمّ أحلّ أحدهما فرجها
لصاحبه ، قال : هو له حلال :
وأما قول الشهيد
الثاني أنّ الرواية ضعيفة السند فناظر إلى ما في التهذيب وإلّا فالصدوق في الفقيه رواه في الصحيح ، ولا يقدح فيها
ذلك بل يؤيّدها كما لا يخفى وقيل : بالمنع بناء على تبعيض السبب حيث إنّ بعضها
بالملك ، وبعضها بالتحليل ، وهو امّا عقد أو اباحة ، والكلّ مغاير للملك.
ج ـ في صحّة
التحليل بلفظ الإباحة قولان : إلحاقها به لمشاركتها له في المعنى ، فيكون كالمرادف
الذي يجوز إقامته مقام رديفه ، والأكثر على منعه وقوفا فيما خالف الأصل على موضع
اليقين ، وتمسكا بالأصل ، ومراعاة الاحتياط في الفروج المبنيّة عليه ، فيمنع
المرادفة أولا ثم الاكتفاء بالمرادفة مطلقا فان كثيرا من أحكام النكاح توقيفيّة ،
وفيه شائبة العبادة والاحتياط فيه مهم ، قال الشهيد الثاني : فإن جوّزناه بلفظ
الإباحة كفى : أذنت ، وسوّغت ، وملّكت ، ووهبت ، ونحوها فتدبر.
(وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ.) سمّى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا ، ومنه
قوله تعالى (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) وقال (وَتَخُونُوا
أَماناتِكُمْ) وإنّما تؤدى العيون لا المعاني ، وتخان المؤتمن عليه لا
الأمانة في نفسها ، والراعي القائم على الشيء لإصلاح وحفظ كراعي الغنم ، وراعي
الرعيّة ، ويقال من راعي هذا الشيء أي متولّيه وصاحبه ، ويحتمل العموم في كلما
ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله عزوجل ومن جهة الخلق ، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس
وعهودهم كذا في الكشاف
__________________
ونحوه في الجوامع
، وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» لأمن الإلباس ، أو لأنّها في الأصل مصدر ، وربما احتمل في
الآية الحمل على المعاني أي عاملون بمقتضاها فتأمل.
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ.)
بأن يقيموها في
أوقاتها ولا يضيّعوها ، فذكر الصلاة أولا وآخرا مختلفان ليس بتكرار : وصفوا أوّلا
بالخشوع في صلاتهم ، وآخرا بالمحافظة عليها ، وفي الكشاف وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدّوها في أوقاتها ويقيموا أركانها
ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها ، وبما ينبغي أن تتمّ به أوصافها ، وأيضا فقد وحدت
أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة ، أيّ صلاة كانت وجمعت آخرا ليفاد المحافظة على
إعدادها ، في الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتّبة مع كلّ صلاة وصلاة الجمعة
والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجّد وصلاة التسبيح
وغيرها من النوافل هذا.
واعلم أنّ الصلاة
المذكورة كلها مرغّب فيها إلّا صلاة الضحى ، فإنّها بدعة عندنا وقول المجمع إنّما
أعاد ذكر الصلاة تنبيها على عظم قدرها وعلوّ رتبتها ، يريد أنه ينبه على ذلك ، إذ
حينئذ صفتان من هذه الصفات العظيمة الموجبة لإرث الفردوس والخلود فيها باعتبارها ،
فكأنها تقتضي ذلك ، وتوجبه من جهتين.
وفي البيضاوي وفي تقدير الأوصاف بأمر الصلاة وفتحها به تعظيم لشأنها ،
وهذا جهة أخرى فتأمّلها.
ثم إنّ في الصحيح
عن الفضيل قال سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) قال هي الفريضة ، قلت (الَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) قال هي النافلة ، ويؤيده ظاهر روايات أخر ، بل ظاهر قوله
تعالى (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فان ظاهرها في الفرائض وقد دلّت عليه الرواية أيضا
__________________
وأيضا فإنه أقرب
عرفا من جميع النوافل والفرائض لمزيد اختصاص الفرائض ، وتفارقها وتبادرها عند
الإطلاق كثيرا.
وظاهر البغويّ في
المعالم أنّ المراد بالخشوع والمحافظة كليهما في الفرائض ، حيث قال : كرّر ذكر
الصلاة ليبيّن أنّ المحافظة عليها واجبة كما أنّ الخشوع فيها واجب.
وبالجملة فيهما
ترغيب وتحريص على الصلاة كما وكيفا ، جنانا وأركانا ، وشيخنا دام ظله فهم من كلام الكشاف أنّ المحافظة لا بدّ أن يكون جميعها
بخلاف الخشوع ، فإنّه يكفي في الواحدة أيّها كانت ، والظاهر أنّه لا يريد ذلك بل
إنه لا نظر فيه إلى النوع والشخص ، بل إلى الجنس فقط ، نعم على القول بإرادة
الفرائض مطلقا أو اليوميّة يمكن الاكتفاء بها أمّا بغيرها فلا ولا بواحدة نوعا أو
شخصا.
(أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)
أى من كان بهذه
الصفات واجتمعت فيه هذه الخلال ، هم الوارثون يوم القيمة منازل أهل النار من الجنّة
، فقد روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : «ما منكم من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في
النار ، فان مات ودخل النار ورث أهل الجنّة منزلة» وقيل : معنى الميراث هنا أنّهم
يصيرون إلى الجنة بعد الأحوال المتقدّمة ، وينتهي أمرهم إليها كالميراث الذي يصير
الوارث إليه ، والفردوس اسم من أسماء الجنّة وقيل اسم لرياض الجنّة : المجمع.
وفي الكشاف : أي
أولئك الجامعون بهذه الأوصاف الوارثون الأحقّاء بأن يسموا وراثا من دون من عداهم ،
ثمّ ترجم الوارثين بقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ) فجاء بفخامة
__________________
وجزالة لإرثهم لا
يخفى على الناظر ، ومعنى الإرث ما مرّ في سورة مريم ، أنّث الفردوس علي تأويل
الجنّة وهو البستان الواسع الجامع لأنواع الثمر.
وروي أنّ الله عزوجل بنى جنّة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل خلالها
المسك الأذفر وفي رواية لبنة من مسك ، وغرس فيها من جيّد الفاكهة وجيّد الريحان ،
وقد قال في سورة مريم «نورث» استعارة أي نبقي على الوارث مال الموروث ولأنّ
الأتقياء يلقون ربّهم يوم القيمة ، وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية ، وهي الجنّة
، وإذا أدخلهم الجنّة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من مال الموروث.
وقيل أورثوا من
الجنّة المساكن الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا ، هذا.
ثمّ اعلم أنّ ظاهر
العطف يقتضي أن يكون «أولئك» إشارة إلى المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات ، ولو بعض
ببعض ، لكن قد يتوهّم أنّ الظاهر شرعا أنّ الاتصاف بواحد منها غير كاف ، فلا بدّ
من الحمل على إرادة الاتّصاف بالجميع ، وفيه نظر ، لأنّ الاتصاف بالجميع ، أيضا
غير كاف ، إلّا بشرائط ، فلا مانع من الحمل على الظاهر ، واعتبار ما علم من الشرع
اعتباره فليتأمّل.
بنى
إسرائيل (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ
مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.)
معنى إقامة الصلاة
تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام العود
إذا قوّمه ، أو الدوام عليها والمحافظة ، كما قال عزّ وعلا (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ). (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) من قامت السوق إذا نفقت وأقامها ، قال :
__________________
أقامت غزالة سوق
الضراب
|
|
لأهل العراقين
حولا قميطا
|
لأنها إذا حوفظ
عليها ، كانت كالشيء النافق الذي يتوجّه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصّلون ،
وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه.
أو التجلد والتشمّر
لآدابها ، وأن لا يكون في مؤدّيها فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وقامت
الحرب على ساقها ، أو أداؤها ، فعبّر عن الأداء بالإقامة ، لأنّ القيام بعض
أركانها كما عبّر عنه بالقنوت وبالركوع وبالسجود ، وقالوا سبّح إذا صلّى لوجود
التسبيح فيها ، قاله في الكشاف ، ويبعد الأوّل لفوتها حينئذ بتفويت بعض آدابها أو
سننها ، ولهذا اقتصر الطبرسيّ في الجوامع فيه على تعديل أركانها ولم يرد بالأركان
المعروف عندنا كما لا يخفى.
وقال المقداد في
الكنز : تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في أفعالها ، وكأنه أراد ما لا بدّ منه
فيها ، وحينئذ فلا يبعد أن يكون إقامتها بمعنى أدائها أي الإتيان بها بجميع
شرائطها وواجباتها على ما اعتبر فيها من أقام العود إذا قوّمه أو قام بالأمر لا
لما قاله كما لا يخفى.
وأما الثاني فعنه
أنّ المحافظة كما ذكر في قوله (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)
__________________
يتضمّن المداومة ،
فلا احتياج إليها ، ولكن كأنه أراد بها التصريح بمغايرته ومقابلته للاوّل ، وربّما
يوهم كون عطفها على التفسير ، وأنّ المراد المواظبة ، لهذا قال المقداد وقيل :
المواظبة ، وبهذا المعنى يجوز كونه من أقام العود إذا قوّمه كما أنّ بالمعنى
الأوّل يجوز أخذه من قامت السوق أيضا.
واللام للتوقيت
مثلها في لثلاث خلون ونحوها ، وفي المجمع : قال قوم دلوك الشمس زوالها وهو المرويّ
عن أبى جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام وفي البيضاوي : لزوالها ، ويدلّ عليه قوله عليهالسلام أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ، وقيل لغروبها.
وفي المعالم بعد
نقل القول بكونه غروبها عن قائليه : وقال ابن عباس وابن عمر وجابر : هو زوال الشمس
، وهو قول عطا وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين ، ومعنى اللفظ يجمعهما ، لأن
أصل الدلوك الميل ، والشمس تميل إذا زالت أو غربت ، والحمل على الزوال أولى لكثرة
القائلين ، ولأنّا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها.
وفي المجمع : وقيل
: غسق الليل بدوّ الليل عن ابن عباس ، وقيل : هو انتصاف الليل عن أبي جعفر وأبي
عبد الله عليهماالسلام.
هذا وهو الصحيح ،
وعليه يحمل القول بأنّه شدّة ظلمته ، وعليه تتمّ دلالة الآية على أوقات الصلوات
الخمس كما في رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال : إن الله عزوجل افترض أربع صلوات
__________________
أوّل وقتها من
زوال الشمس إلى انتصاف اللّيل ، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى
غروبها إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلّا
أنّ هذه قبل هذه.
وصحيحة زرارة قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عمّا فرض الله من الصلاة فقال خمس صلوات في الليل والنهار
، قلت : هل سماهنّ الله وبيّنهنّ في كتابه؟ قال : نعم قال الله تبارك وتعالى
لنبيّه صلىاللهعليهوآله (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ودلوكها زوالها ، ففي ما بين دلوك الشمس إلى غسق اللّيل
أربع صلوات سمّاهنّ وبيّنهنّ وغسق الليل انتصافه ، ثمّ قال (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فهذه الخامسة الحديث.
وأمّا لو قلنا أنّ
غسق الليل ظلمته عند ارتفاع الشفق ، وهو وقت صلاة العشاء عندهم ، كما في الكشاف
والبيضاوي ، أو أوّل ظهور ظلمته كما في المعالم ، ونقله المجمع عن ابن عباس فيبقى
وقت العشاء أو المغرب أيضا خارجا كما هو ظاهر إلى فلا تدلّ عليها ، فقول القاضي :
والآية جامعة للصلوات الخمس ان فسّر الدلوك بالزوال ولصلوات الليل وحدها ان فسر
بالغروب ، محلّ نظر ، وكذلك قول المعالم فتأمل ، ولهذا قيل : المراد بالصلاة صلاة
المغرب وقوله (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) بيان لمبدء الوقت ومنتهاه ، واستدلّ به على أنّ الوقت يمتدّ
الى غروب الشفق ، ونقله القاضي أيضا.
ثم لا يخفى أنّ
ظاهر الآية توسعة أوقات الصلوات الأربع وامتدادها الى
__________________
الغسق ، وكون
الجميع وقتا في الجملة ، فلا بأس بالاستدلال به على ما هو المشهور ودلّت الروايات
أنّ آخر وقت العشاء نصف اللّيل ففيها إيماء إلى كون الظهر هي الصلات الأولى ، لأنّ
الانتهاء يستدعي ابتداء هو الدلوك ، وقرآن الفجر صلاته ، والعطف على الصلاة ، وأهل
البصرة على أنّ النصب على الإغراء أي عليك بصلات الفجر.
وفي الكشاف سمّيت
قرآنا وهي القراءة لأنّها ركن كما سمّيت ركوعا وسجودا وقنوتا ، وهي حجّة على ابن
عليّة والأصمّ في زعمهما أنّ القراءة ليست بركن انتهى.
وفيه أنّه إن أراد
بقوله كما سمّيت بيان مجرّد أنّ الركنيّة تصلح علاقة ووجها للتجوّز ، فهو بنفسه
أوضح من هذا ، ويبقى قوله سمّيت قرآنا لأنها ركن وأنها حجّة عليهما ، دعوى بلا ثبت
في المقام ، وهو غير مناسب به.
على أنّ قوله
وقنوتا حيث لم يكن القنوت عندهم فرضا بل سنّة في بعض الصلوات أو مستحبّا يدلّ على
جواز كون التسمية لغير الركنيّة أيضا ، فلا يتعين كونها للركنية ، فلا يتمّ حينئذ
الاحتجاج عليهما ، فايراده في هذا السلك لم يكن مناسبا بل مضرا ، ولذلك لم يورده
القاضي ، وإن أراد به بيان أنّ كونها ركنا هو الوجه فقوله قنوتا حينئذ أبعد من
المقام وأضرّ بالمرام كما لا يخفى ، اللهم إلّا أن يحمل القنوت على القيام هذا.
على أنّ الدعوى من
أصله موضع نظر لأنّ هذا التجوز يكفي فيه كون القراءة جزءا في الجملة وغير ذلك من
الملابسات فيحتمل وجوه كثيرة ، كأن يكون لأنّ القراءة مع الجهر بها مستغرقة لجميع
ركعاتها دون باقي الصلوات ، أو لوجوبها كذلك لا يجزي عنها غيرها ، بخلاف باقي
الصلوات ، أو لأنّ القراءة فيها أهمّ مرغب فيها أكثر منها في غيرها ولذلك كانت
أطول الصلوات قراءة أو لأن قراءتها على ما ينبغي فيها من الطول كأنها تغلب باقي
أجزائها ، فغلّب في الاسم تنبيها عليه وترغيبا فيه ، فلا تتعيّن الركنيّة لذلك ،
على أنّ بعض ما ذكرنا منفردا أو منضمّا ربما كان أظهر في المقام وأنسب من أن يكون
لكونها ركنا ، لو كان محقّقا ، فكيف إذا كان محلّ
النزاع يستدلّ
عليه بذلك.
هذا مع ما قيل :
إنّ هذا ليس بشيء لأنّ التسمية لغوية ، وكونها ركنا أو غير ركن شرعيّة ، والجزئية
في الجملة معنى معروف لغة كافية فيها ، فيكون لذلك لا للركنية ، وإن كان فيه نظرا.
وفي القاضي : سميت قرآنا لأنه ركن كما سميّت ركوعا وسجودا ، واستدلّ به على وجوب
القراءة فيها ، ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوّز لكونها مندوبة فيها ، نعم لو
فسّر بالقراءة في صلاة الفجر دلّ الأمر بإقامتها على الوجوب فيها نصا وفي غيرها
قياسا انتهى.
وتوجيه الكلام في
المقام في الاستدلال على الوجوب والركنيّة أن يقال : إنه قد أمر بالصلاة معبرا
عنها بالقرآن باعتبار اشتمالها على القراءة ، فيلزم الأمر بالقراءة ضمنا ، فيكون
واجبة وأيضا فيلزم عدم الإتيان بالمأمور به مع عدمها ، فلا يجزي ، ولا نريد
بالركنية هنا إلّا هذا المقدار.
نعم لا يمتنع أن
يثبت الاجزاء مع تركها سهوا بدليل ، لكن إذا لم يكن تعين ذلك ، وحينئذ فربما اتّضح
كون التسمية لأنها ركن بمعنى أنّه لو لم يكن ركنا لما صحّ الأمر بإقامتها معبرا
عنها بذلك ، لما قلنا ، لا لأنّ ظاهر اعتبار الاشتمال على طريق اللزوم في الواقع ،
وإلّا لما صحّ تعلّق الأمر به على الوجه المفيد لركنيّة هذا وبعد التأمّل فيما
قدّمنا لا يخفى مواضع النظر من هذا والله أعلم.
(إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام أخبرني عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر؟
قال : مع طلوع
الفجر إنّ الله تعالى يقول (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) يعني صلاة الفجر : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ،
فاذا صلّى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرّتين أثبتته ملائكة الليل
وملائكة النهار.
__________________
وهذا صريح في أن
كونه مشهودا مشروط بفعلها أول الوقت ، وإليه ذهب شيخنا المحقق لكنّ الرواية ضعيفة السند وما فيها من دلالة الآية أيضا على ذلك إن قلنا به
أمكن استفادة الوجوب من تعلّق الأمر بالمدلول ، فلا يتمّ حينئذ إلّا على القول
بأنّ وقت الفضيلة وقت الاختيار ، اللهمّ إلّا أن يقال المراد أنّ مراعاة القرب
لهذه النسبة أولى ، وفيه نظر لا يخفى.
في القاضي :
مشهودا تشهده ملائكة الليل والنهار ، أو شواهد القدرة من تبديل الظلمة بالضياء
والنوم الذي هو أخ الموت بالانتباه ، أو كثير من المصلّين أو من حقّه أن يشهده
الجمّ الغفير ، وكذا في الكشاف إلّا «شواهد القدرة».
(وَمِنَ اللَّيْلِ) وعليك بعض الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) التهجّد ترك الهجود أي النوم للصلاة ، ويقال أيضا في النوم
تهجّد ، وعن المبرد التهجّد عند أهل اللغة
__________________
السهر للصلاة أو
لذكر الله ، وضمير به إما للقرآن كما في القاضي أو لمن الليل بمعنى فيه (نافِلَةً لَكَ) عبادة زائدة لك على الصلاة ، وضع نافلة موضع تهجّدا ، لأنّ
التهجد عبادة زائدة ، فكأنّ التهجّد والنافلة يجمعهما معنى واحد ، أو المعنى أنّ
التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك ، لأنه تطوّع لهم.
الكشاف : أو فضلة
لك لاختصاص وجوبه بك. القاضي : روي أنّها فرضت عليه ولم تفرض على غيره ، فكانت
فضيلة له ذكره ابن عباس ، وأشار إليه أبو عبد الله عليهالسلام كذا ذكره الراونديّ وقيل : معناه نافلة لك ولغيرك ، وخصّ
بالخطاب لما في ذلك من صلاح الأمة في الاقتداء به ، ودعاء الخير إلى الاستنان
بسنّته.
وفي المعالم إنّ
صلاة الليل كانت واجبة على النبيّ صلىاللهعليهوآله والأمة لقوله (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ثمّ نزل فصار الوجوب منسوخا في الأمة بالصلوات الخمس وبقي
الاستحباب ، وبقي الوجوب في حق النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وذهب قوم إلى أنّ الوجوب صار منسوخا في حقّه كما في
الأمة فصارت نافلة وهو قول قتادة ومجاهد ، لأنّ الله
__________________
تعالى قال (نافِلَةً لَكَ) ولم يقل عليك.
فان قيل : فما
معنى التخصيص وهي زيادة في حق كافة المسلمين كما في حقه عليهالسلام قيل : التخصيص من حيث إنّ نوافل العباد كفّارة لذنوبهم ،
والنبيّ صلىاللهعليهوآله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر ، فكانت نوافله لا
تعمل في كفارة الذنوب ، فتبقى له زيادة في رفع الدرجات.
ثمّ بإسناده عن
المغيرة بن شعبة قال : صلّى رسول الله صلىاللهعليهوآله حتّى انتفخت قدماه ، فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر لك ما
تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا.
(مَقاماً مَحْمُوداً) نصب على الظرف إمّا بإضمار أي عسى أن يبعثك يوم القيمة
فيقيمك مقاما محمودا ، أو بتضمّن يبعثك معنى يقيمك ، ويجوز أن يكون حالا بمعنى أن
يبعثك ذا مقام محمود ، ومعنى المقام المحمود الذي يحمده القائم فيه ، وكلّ من رآه
وعرفه ، وهو مطلق في كلّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات.
وقيل : المراد
الشفاعة ، وهي نوع واحد ممّا يتناوله وعن ابن عباس مقاما يحمدك فيه الأوّلون
والآخرون ، وتشرف فيه على جميع الخلائق : تسئل فتعطى ، وتشفع فتشفّع ، ليس أحد
إلّا وهو تحت لوائك.
وعن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ، كذا في
__________________
الكشاف وفي القاضي
: المشهور أنّه مقام الشفاعة.
هود (أَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.)
(طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشيّة ، والانتصاب على الظرف (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ساعات منه قريبة من آخر النهار وهو جمع زلفة كظلم جمع ظلمة
، من أزلفه إذا قرّبه وازدلف إليه ، وصلاة الغدوة الفجر ، وصلاة العشيّة الظهر
والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشيّ ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء : الكشاف ، وهو
قول مجاهد والزجّاج ، وعن ابن عباس والحسن والجبائي أنّ طرفي النهار وقت صلاة
الفجر والمغرب ، وهو مرويّ عن أبي عبد الله عليهالسلام ثمّ بناء هذا القول ظاهرا على أنّ النهار من طلوع الفجر
إلى غروب الشفق ، أو أن بين الفجرين خارج فالنهار من طلوع الشمس إلى غروبها فتأمل.
وعلى كلّ حال
فكأنّ ترك الظهر والعصر لظهور أنّهما صلاتا النهار.
قيل : والتقدير
أقم الصلاة طرفي النهار مع الصلاتين المفروضتين ، وقيل : إنّهما ذكرا على التبع
للطرف الأخير لأنّهما بعد الزوال ، فهما أقرب إليه ، وقد قال (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ودلوكها زوالها.
وقيل وقت صلاة
الفجر والعصر ، لأنّ طرف الشيء من الشيء ، وصلاة المغرب ليست من النهار ، وعلى كلّ
تقدير دلالة الآية على توسعته لأوقات تلك الصلوات ظاهرة.
وقرئ «وزلفا»
بضمتين وزلفا بسكون اللام ، وزلفى بوزن قربى ، فالزلف
__________________
بالسكون نحو بسرة
وبسر ، وبضمّتين نحو بسر في بسر ، والزلفى بمعنى الزلفة كما أنّ القربى بمعنى
القربة ، وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل ، وقيل (وَزُلَفاً مِنَ
اللَّيْلِ) أي وأقم طاعات وصلوات تتقرّب بها إلى الله عزوجل في بعض الليل ، فيمكن أن يكون إشارة إلى صلاة الليل
المشهورة ، وحينئذ ينبغي إدخال العشائين في صلاة طرفي النهار لكن في التوجيه تأمل.
(إِنَّ الْحَسَناتِ) قيل أى الصلوات الخمس لتقدم ذكرها (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فيه وجهان تكفير الذنوب بالطاعات أي العفو عن الذنوب بها ،
وهو ظاهرها ، وظاهر غيرها من الآيات والاخبار في هذا الباب.
روى عن أبي حمزة عن أحدهما عليهماالسلام في حديث طويل عن عليّ عليهالسلام قال : سمعت حبيبي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : أرجى آية في كتاب الله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) إلخ والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا انّ أحدكم ليقوم في
وضوئه فيتساقط عن جوارحه الذنوب ، وإذا استقبل الله عزوجل بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته امه ،
فان أصابه شيء بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس.
ثمّ قال يا على
إنّما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في
جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات؟ أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله
الصلوات الخمس لأمتي.
وفي الكشاف : تكفر
الصغائر بالطاعات ، وفي الحديث إنّ الصلاة إلى الصلاة كفّارة ما بينهما ما اجتنب من
الكبائر.
والثاني اللطف أي
الطاعات موجبة لترك المعاصي بالخاصيّة أو بسبب لطفه تعالى كقوله (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ.)
__________________
في الكشاف : قيل نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزيّة الأنصاري كان يبيع
التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها إنّ في البيت أجود من هذا التمر ، فذهب بها
إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبّلها ، فقالت : اتّق الله فتركها وندم ، فأتى رسول
الله صلىاللهعليهوآله فأخبره بما فعل ، فقال أنتظر أمر ربّي ، فلمّا صلّى صلاة
العصر نزلت ، فقال نعم اذهب فإنّها كفّارة لما عملت.
وروي أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله قال له : توضّأ وضوءا حسنا وصلّ ركعتين ، إنّ الحسنات
يذهبن السيئات.
(ذلِكَ) إشارة إلى قوله (فَاسْتَقِمْ) وما بعده ، وقيل : إلى القرآن.
(ذِكْرى
لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتّعظين ،
وقيل «ذلك» إشارة إلى إقامة الصلاة فإنّه سبب لذكر الله ، بل هو ذكر الله على أحسن
وجه ، فيوجب ذكر الله له كما قال (فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ) فيفوز بفيض فضله وإحسانه ، وموجب لذهاب السيئات ، فينجى من
أليم عذابه وشديد عقابه ، فهو أولى ما يذكره الذاكرون.
الرّوم
(فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) قيل أخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه
في هذه الأوقات ، وقيل سبحان الله مصدر بمعنى الأمر أي سبّحوا وربّما جعلا وجها
واحدا وفي كلّ نظر ، والأظهر أنه تنزيه قصد به التنبيه والدلالة على أنّ ما يحدث
فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه واستحقاقه الحمد ممّن له تميز من أهل السموات
والأرض ، فينبغي العمل بمقتضاه ، وعدم التقصير فيه.
وتخصيص التسبيح
بالمساء والصباح لانّ آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر ،
__________________
وتخصيص الحمد
بالعشيّ الذي هو آخر النهار من عشي العين إذا نقص نورها ، والظهيرة الّتي هي وسطه
لانّ تجدد النعم فيها أكثر ، فعشيا عطف على السموات محلّا للقرب والأظهر أن يكون
قوله (وَعَشِيًّا) متصلا بقوله (حِينَ تُمْسُونَ) وقوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراضا بينهما.
وقيل : أريد
بالتسبيح الصلاة ، وقيل لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال نعم ، وتلا هذه
الآية ، فالتسبيح حين تمسون صلاتا المغرب والعشاء ، وتصبحون صلاة الصبح وعشيّا صلاة
العصر ، وتظهرون صلاة الظهر ، ولذلك زعم الحسن أنّ الآية مدنيّة ، لأنه كان يقول :
كان الواجب بمكّة ركعتين في أي وقت اتّفقت وإنما فرضت الخمس بالمدينة ، والأكثر
على أنّ الخمس إنّما فرضت بمكّة.
ويحتمل أن يراد
بتسبيح المساء المغرب وبعشيّا العشاء ، وبتظهرون الظهرين ، وأن يراد بعشيّا المغرب
والعشاء ، وبتمسون العصر ، وبتظهرون الظهر كالصبح بتصبحون.
قيل : ولم يأت
بحين في عشيّا لعدم مجيء الفعل منه فليتأمل.
واعلم أنّه يقال :
أمسى إذ دخل في المساء وكذا أصبح وأظهر ، فتقييد ذلك بحين يقتضي نوع اختصاص بأوّل
الوقت ، فلا يبعد حمل الطلب فيه على الاستحباب كما نبّهنا في قولنا الأظهر.
وقيل يمكن أن
يحتجّ بها من يجعل الوجوب مختصا بأوّل الوقت ، وفيه نظر من وجوه تظهر ممّا
قدّمناه.
ثمّ لا يخفى أنّ
الحمد كالتسبيح جاز أن يراد به الصلاة ، فيحتمل كون كليهما جميعا تنبيها على
الصلوات الخمس ، وكون كل منفردا أيضا ، مع احتمال أن يجعل الأول إشارة إلى الفرائض
والآخر إلى النوافل ووجه كل لا يخفى مع ما روى عن الصادق فيما قدمناه.
__________________
وعنه عليهالسلام : من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى ، فليقل (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) الآية.
وعنه عليهالسلام : من قال حين يصبح (فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ) ـ الى قوله ـ (وَكَذلِكَ
تُخْرَجُونَ) أدرك ، ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته
في ليله ، وقرئ «حينا تمسون وحينا
تصبحون» أي تمسون فيه وتصبحون فيه.
طه (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) اى الكفار من انك ساحر أو شاعر أو غير ذلك ، في المعالم
نسختها آية القتال وفيه تأمل ـ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى.) (١٣٠)
المراد بالتسبيح
إمّا ظاهره ، فيراد المداومة على التسبيح والتحميد في عموم الأوقات ، كما في
الجوامع أو الأوقات المعيّنة أو الصلاة كما هو المشهور ، و (بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال أي وأنت حامد لربّك على أن وفّقك للتسبيح ،
وأعانك عليه كما في الكشاف والجوامع أو على أعمّ من ذلك كما في ى وهو الأظهر.
ثمّ الأشهر أنّ
تسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل غروبها الظهر والعصر ، لأنهما واقعتان في
النصف الأخير من النهار ، قبل غروبها.
(وَمِنْ آناءِ
اللَّيْلِ) أي وتعمد من ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر وإناء بالفتح
والمدّ يعني المغرب والعشاء وأطراف النهار تكرير لصلاتي الصبح والمغرب على إرادة
الاختصاص كما في قوله (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس كقوله (صَغَتْ قُلُوبُكُما) وقول الشاعر «ظهراهما مثل ظهور الترسين»
__________________
ففيها دلالة على
وجوب الصلوات الخمس وسعة أوقاتها وعدم اختصاصها بأوائل أوقاتها كما لا يخفى ، لكن
مع نوع ضعف في المغرب باعتبار أطراف النهار لا في الصبح لتنصيص قبل على اعتبار
قبليّة الطلوع ، مع أن كون مجموع ما قبل الطلوع طرفا واضح.
وقيل أطراف النهار
إشارة إلى العصر تخصيصا لها ، لأنها الصلاة الوسطى. وربما كان جمع الأطراف باعتبار
أن كل جزء من أوقاتها كأنه طرف ، وقد يؤيّده قراءة (وَأَطْرافَ النَّهارِ) بالكسر عطفا على آناء الليل فان الظاهر أنّ من للتبعيض لا
بمعنى في ، ولا للابتداء ، وقيل إنه للابتداء وفيه تنبيه على أنّ ابتداء وقت
العشائين من أوّل الليل ، وفيه نظر فان ذلك ليس لكون من للابتداء بل لشمول آناء
اللّيل أوله مع ظاهر السياق.
ثمّ اعلم أنّ ظاهر
اتّساع الوقت المفهوم اشتراك الصلاتين في جميع الوقت ، وأنّ وقت العشائين جميع
الليل إلا أن يراد بمن آناء الليل بعض معين منه حملا على أنه كالإضافة للعهد.
وقيل قبل غروبها
صلاة العصر وأطراف النهار هو الظهر ، لأن وقته الزوال ، وهو آخر النصف الأوّل من
النهار ، وأوّل النصف الثاني ، وقيل المراد بآناء الليل صلاة العشاء ومن أطراف
النهار صلاة الظهر والمغرب لأنّ الظهر في آخر الطرف الأوّل من النهار ، وأوّل
الطرف الأخر فهو طرفان منه ، والطرف الثالث غروب الشمس فيها صلاة المغرب.
وقد يفهم من
الكشاف قول آخر : أن يكون آناء الليل العشاء ، وأطراف النهار
المغرب والصبح أيضا ، لكن على طريق الاختصاص ، وكأنه بناء على كونها الوسطى ويحتمل
آخر : أن يكون أطراف النهار كآناء الليل شاملا للمغرب والعشاء أيضا على طريق
الاختصاص فتأمل هذا.
__________________
وقد احتمل أن يكون
أطراف النهار باعتبار التطوّع في أجزائه فاما من دون فريضة أو معها ، كما نقل
الطبرسيّ عن ابن عباس في آناء الليل أنها صلاة الليل كلّه فركعتي سنّة الفجر فيه
وجهان ، ويحمل الأمر على معنييه أو الرجحان المطلق أو الاستحباب باعتبار جواز
الترك بالاقتصار على الفريضة أو باختصاص الأمر بالنوافل فإنّ إطلاق السبحة وإرادة
النافلة في رواياتنا شائعة.
وربما احتمل نحو
ذلك في قوله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب أيضا فتأمل.
و «لعلّ» للمخاطب أي أفعل ما أمرت به في هذه الأوقات طمعا ورجاء أن تنال عند
الله ما به ترضى نفسك ويسرّ قلبك ، وقرئ ترضى على بناء المفعول أي يرضيك ربّك ،
وقيل أي يرضاك الله كما قال تعالى (وَكانَ عِنْدَ
رَبِّهِ مَرْضِيًّا).
ق (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ.) (٣٩)
فاصبر على ما يقول
اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه ، وقيل : واصبر على ما يقول المشركون من
إنكارهم البعث ، فان من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم ، وقيل
هي منسوخة بآية السيف ، وقيل : الصبر مأمور به في كلّ حال.
(بِحَمْدِ رَبِّكَ) حامدا ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة أو
عليهما ، فالصلاة قبل طلوع الشمس الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ، وقيل العصر (وَمِنَ اللَّيْلِ) العشاءان ، وقيل : التهجّد وأدبار السجود التسبيح في آثار
الصلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة ، وقيل النوافل بعد المكتوبات.
وعن علىّ عليهالسلام الركعتان بعد المغرب ، وفي الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام
__________________
أيضا وروي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله من صلّى بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في علّيين ،
ونحوه عن أبى عبد الله عليهالسلام والظاهر أنّ المراد قبل أن يتكلّم بكلام أجنبيّ لا التعقيب
كما فسّر في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام.
والأدبار جمع دبر
وقرئ إدبار بكسر الهمزة من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمّت ، ومعناه وقت انقضاء
السجود كقولهم أتيتك خفوق النجم ، ويقرب من الآية ما في الطور :
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ).
(اصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ) بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقّة والكلفة (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) مثل أي بحيث نراك ونكلأك وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ
الجماعة ألا ترى إلى قوله (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) وللدلالة على شدّة الحفظ بكثرة أسبابه ، وقرئ بأعينّا بالإدغام (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قيل من أيّ مكان قمت ، وقيل : من منامك ، وقيل حين تقوم
إلى الصلاة المفروضة ، فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك ، وقيل حين تقوم من المجلس ، فقل
سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلا أنت اغفر لي وتب علىّ. وقد روي مرفوعا أنّه كفارة المجلس ، وروى عن عليّ عليهالسلام من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه من
مجلسه (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقيل اذكر الله بلسانك
__________________
حين تقوم إلى
الصلاة إلى أن تدخل في الصلاة وقيل وصلّ بأمر ربّك حين تقوم من منامك ، وقيل
الركعتان قبل صلاة الفجر.
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقرئ أدبار النجوم بفتح الهمزة أيضا
أي أعقابها فقيل المراد الأمر بقول سبحان الله وبحمدك في هذه الأوقات وقيل يعني
صلاة الليل ، وروى زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام في هذه الآية قالا : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يقوم من الليل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السماء فيقرء
خمس آيات من آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ إلى ـ (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) ثمّ يفتتح صلاة الليل الخبر.
وقيل يعني صلاة
المغرب والعشاء الآخرة ، وإدبار النجوم يعني الركعتين ، قبل صلاة الفجر ، وهو قول
الأكثر وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام وذلك حين تدبر النجوم إلى حين يغيب بضوء الصبح ، وقيل يعني
فريضة الصبح ، وقيل معنى الآية لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء ، ونزّهه في جميع
أحوالك ليلا ونهارا ، فإنه لا يغفل عنك وعن حفظك.
ويتصوّر في معنى
الآية وجوه أخر منها : وصلّ حامدا ربّك شاكرا له على ما هداك ، أو حفظك ، أو
عليهما ، أو مطلقا ، حين تقوم بأمر ربك لك بالصلوات المفروضات وتمتثله ، فيكون
مخصوصا بالفرائض ، وقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ) إشارة إلى النوافل اللّيليّة (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) إشارة إلى النوافل النهاريّة أو (حِينَ تَقُومُ) في خدمة ربك ، أو أمر ربك بالصلاة المفروضة ونوافلها ، ومن
الليل لصلاة الليل وادبار النجوم لركعتي سنة الفجر ، باعتبار أنها قد تقع في الليل
فتتبع صلاة الليل ، وقد تقع مرتبطا بفريضة
__________________
الفجر بعده قبلها
فلا بأس بالإشارة إليها بخصوصها ، وبيان وقتها.
وربما احتمل أن
يكون (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) إشارة إلى صلاة اللّيل مع ركعتي سنّة الفجر ، وإدبار
النجوم إشارة إلى آخر وقت الجميع ، أو صلّ حامدا ربك على ما تقدم حين تقوم من
منامك ، يعني بالنهار من الفرائض والسنن (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) يكون صلاة اللّيل من الفرائض وغيرها ، وإدبار النجوم مجموع
ركعات الفجر من السنّة والفريضة.
أو حين تقوم من
منامك يعني بالنهار إلى أن تنام باللّيل ، فيشمل جميع الفرائض وسننها والباقي لا
يخفى ، وعلى كلّ تقدير يمكن استفادة شيء من الأحكام ، والله أعلم بحقيقة الحال.
وعلى نسق هذه
الآيات قوله تعالى في سورة المؤمن : [٥٥] (فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.)
واستغفر لذنبك ،
تعبّد من الله تعالى له عليهالسلام ليزيد في درجاته ، وتصير سنّة لأمّته ، وسبّح شاكرا ربّك
بالعشيّ والأبكار ، قال الحسن : يعني صلاة العصر وصلاة الفجر ، وقال ابن عباس
الصلوات الخمس كذا في المعالم.
وفي تفسير القاضي واستغفر لذنبك ، وأقبل على أمر دينك ، وتدارك فرطاتك بترك
الأولى ، والاهتمام بأمر العدى بالاستغفار ، فإنّه تعالى كافيك في النصر وإظهار
الأمر (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ودم على التسبيح والتحميد لربك وقيل صلّ لهذين الوقتين أو
كان الواجب بمكّة ركعتان بكرة وركعتان عشيّة.
وفي الكشاف وأقبل على التقوى واستدراك الفرطات بالاستغفار ، ودم على
عبادة ربّك ، والثناء عليه بالعشيّ والأبكار ، وقيل هي صلاتا العصر والفجر
فليتأمل.
__________________
تذنيب :
(سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.) (الحديد : ٢١)
قيل : يدلّ على
أنّ المراد بالأمر الفور ، وذلك غير ظاهر ، فان إرادة استحباب المسارعة قريب كما
هو ظاهر سياقه ، ويؤيّده دخول المستحبّات فيه ، فيدلّ على استحباب فعل العبادات
أوّل وقتها كما هو المقرّر.
النوع الثاني في القبلة.
وفيها آيات :
الأول
(سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ.) (البقرة : ١٤٢) (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) الخفاف الأحلام من الناس ، قيل هم اليهود لكراهتهم التوجه
إلى الكعبة ، وأنّهم لا يرون النسخ. عن ابن عباس ، إنّ قوما من اليهود قالوا يا
محمّد ما ولّاك عن قبلتك ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك ، وأرادوا بذلك فتنته صلىاللهعليهوآله ، وقيل : المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء ، وقيل
المشركون قالوا رغب عن قبلة آبائه ثمّ رجع إليها ، والله ليرجعنّ إلى دينهم وقيل :
يريد المنكرين لتغيير القبلة من هؤلاء جميعا.
(ما وَلَّاهُمْ) صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعني البيت المقدس ، القبلة كالجلسة في الأصل للحال الّتي
عليها الإنسان من الاستقبال ، ثمّ صارت لما يستقبله في الصلاة ونحوها ، وفائدة
الاخبار به قبل وقوعه كما هو صريح حرف الاستقبال أنّ مفاجاة المكروه أشدّ ، والعلم
به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب ، إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن
يستعدّ للجواب ، فان الجواب العتيد قبل الحاجة إليه ، أقطع للخصم ، وأردّ لشغبه ،
وقبل الرمي يراش السهم.
بل ربما كان علم الخصم
بمعرفة ذلك منهم ، واستعدادهم للجواب رافعا لاهتمامه.
على أنه سبحانه
ضمّن هذا الاخبار من حقارة الخصوم ، وسخافة عقولهم وكلامهم ما فيه تسلية عظيمة ،
وعلّم الجواب المناسب وقارنه بألطاف عظيمة ، وفي كلّ ذلك تأييد وتعظيم له
وللمسلمين ، وحفظ لهم من الاضطراب وملاقاة المكروه.
(قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) له الأرض والبلاد والعباد فيفعل فيها ما يشاء ويحكم ما
يريد ، على مقتضى الحكمة ووفق المصلحة وانّما على العباد الانقياد والاتّباع
فبعد أمر الله
بذلك لا يتوجه الإنكار وطلب العلّة والمصلحة فلا يبعد أن يكون المقول في الجواب
هذا المقدار لا غير ، كما هو المناسب لترك تطويل الكلام مع السفهاء ، وعدم
الاشتغال ببيان خصوص مصلحة مصلحة.
فما بعد هذا خطاب
للنبيّ صلىاللهعليهوآله تسلية له عن عدم إيمانهم وامتنانا عليه وعلى المؤمنين
بهدايتهم لدين الإسلام ، أو بما هو مقتضى الحكمة والمصلحة ، وتأييدا وتنشيطا لهم
ويجوز دخوله في الجواب كما هو ظاهرهم توبيخا لهم ، وتبكيتا على عدم هدايتهم
والعناية بتحصيل استعدادها كما لا يخفى.
(يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو ما يقتضيه الحكمة ويستدعيه المصلحة قيل : من توجيههم
تارة إلى بيت المقدس ، واخرى إلى الكعبة ، والأوّل مثل توجّههم في تلك الأزمنة إلى
بيت المقدس وبعدها إلى الكعبة.
الثاني
(وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ.) (١٤٣) (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ليست صفة للقبلة ، بل ثاني مفعول جعل أي ما جعلنا القبلة
بيت المقدس ، إلّا لامتحان الناس ، كأنه يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأنّ
استقبالك بيت المقدس كان عارضا لغرض.
وقيل : يريد وما
جعلنا القبلة الآن الّتي كنت عليها بمكّة أي الكعبة ، وما رددناك إليها إلّا
امتحانا ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يصلّي بمكّة إلى الكعبة ، ثمّ أمر بالصلاة إلى صخرة
بيت المقدس بعد الهجرة تألّفا لليهود ، ثمّ حوّل إلى الكعبة.
وهذا لم يثبت ، بل
الثابت عندنا ما روي عن ابن عباس أنّ قبلته بمكّة كانت بيت المقدس ، إلا أنه كان يجعل
الكعبة بينه وبينه ، فربما أمكن أن يراد ذلك باعتبار جعله الكعبة بينه وبين بيت
المقدس ، فكأنه كان قبلة له في الجملة ، ويمكن بوجه
__________________
آخر أي ما جعلنا
القبلة الّتي كنت مقبلا عليها أو حريصا عليها أو مديما على حبّها أن يجعل قبلة أو
مصرّا أو نحو ذلك.
وهنا وجوه أخر
منها إرادة التحويل إطلاقا للعامّ على الخاص ، ومنها تضمين الجعل معنى التحويل ،
ومنها حذف الخبر أي منسوخة ، والكلّ ضعيف ، وأضعف منها ما في المعالم من جعلها من
باب حذف المضاف أي ما جعلنا تحويل القبلة كما لا يخفى فعلى الأوّل الاخبار عن
الجعل المنسوخ ، وعلى الباقي عن الجعل الناسخ.
(إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي إلّا امتحانا للناس لنعلم من يتّبع الرسول ويثبت على
الدين ممّن ينكص على عقبيه ، فعلى الأوّل يمكن أن يراد لنعلم ذلك عند كونها قبلة ،
وأن يراد لنعلم الآن عند الصرف إلى الكعبة ذلك أو الأعمّ ولعلّه أولى.
فإن قيل : كيف
يكون علمه تعالى غاية لهذا الجعل ، وهو لم يزل عالما؟ يقال في ذلك وجوه :
أحدها أنّ المراد
فيه وفي أشباهه العلم الذي يتعلّق به الجزاء ، أي العلم به موجودا حاصلا.
ثانيها أنّ المراد
لنميّز ، فوضع العلم موضع التميز ، وهو الذي يقتضيه قوله (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) كما لا يخفى كما قال تعالى (لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) قال القاضي وتشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول.
وثالثها أنّ
المراد علم رسول الله والمؤمنين مع علمه ، فعلمه وإن كان أزليا لكن لا ريب في جواز
عدم حصول علم الجميع إلّا بعد الجعل ، كما هو الواقع.
ورابعها أنّ
المراد علم الرسول والمؤمنين ، وإنّما استند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه ، وأهل الزلفى
لديه ، وهو قريب ممّا تقدّمه.
وخامسها أنّ
المقتضي بالذات علم غيره من الرسول والمؤمنين ، أو والملائكة على ما قيل ، لكنّه
ضمّهم إلى نفسه وعلمهم إلى علمه إشارة إلى أنهم من خواصه وأهل الزلفى لديه فليتأمل
فيه.
وسادسها وهو
التمثيل أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم ، فالعلم إمّا بمعنى
التمييز كما تقدّم
، أو بمعنى المعرفة ، إذ ليس له في الظاهر إلّا مفعول واحد هو «من» الموصولة.
ويجوز أن يكون من
استفهاميّة واقعة موقع المبتدء ، ويتّبع موقع الخبر ، فيكون العلم من المتعدّي إلى
مفعولين معلّقا عن الاستفهاميّة كقولك علمت أزيد في الدار أم عمرو ، و (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) حالا من فاعل يتبع ، أي مميزا عنه ، وبهذا يندفع ما قال أبو
البقاء من أنّه لا يجوز كونها استفهاميّة لأنه يلزم التعليق ، ولا يبقى لقوله (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) متعلّق ، إذ لا معنى لتعلّقه بيتبع ، ولا وجه لتعلقه بنعلم
، لأنّ ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله.
فان قيل لا قرينة
على حذف مميزا ، قلنا بل فحوى الكلام ليس غيره ، على أنّه مشترك الإلزام ، إذ على
تقدير الموصولية أيضا هو حال ممّن بمعنى متميزا.
فان قيل كيف يكون
العلم بمعنى المعرفة ، والله تعالى لا يوصف بها؟ قلنا إن ثبت فلعلّه لشيوعها فيما
يكون مسبوقا بالعدم ، وليس العلم الذي بمعنى المعرفة كذلك بل المراد به الإدراك
الذي لا يتعدّى إلى مفعولين.
ثمّ قوله (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) قيل فيه قولان أحدهما أنّ المراد من يرتدّ عن الإسلام كما
روي أنّ القبلة لما حوّلت ارتدّت قوم من المسلمين إلى اليهودية ، والآخر أنّ
المراد به كلّ مقيم على كفره ، لأنّ جهة الاستقامة إقبال ، وخلافها إدبار ، ولذلك
وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر ، وقال (لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) عن الحق ، وهنا وجه ثالث ، وهو ما يعمّ الجميع وهو غير
بعيد فافهم.
(وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).
إن هي المخفّفة
الّتي يلزمها لام الفارقة بينها وبين النافية ، لا بينها وبين المشدّدة وعن سيبويه
أن تأكيد يشبه اليمين ، ولذلك دخلت اللام في جوابها. وفي تفسير القاضي : وقال
الكوفيّون هي النافية ، واللّام بمعنى إلّا ، والضمير لما دلّ عليه قوله (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها) من الردّة والتحويل ويجوز أن يكون للقبلة.
(لَكَبِيرَةً) أي ثقيلة شاقّة إلّا على الّذين هداهم الله للثبات والبقاء
على دينه ، والصدق في اتّباع الرسول ، وقرئ لكبيرة بالرفع ، ووجهها أن تكون كان زائدة.
في الكشاف كما في
قوله «وجيران لنا كانوا كرام» وفيه نظر ، ويحكى عن الحجّاج أنه قال للحسن ما رأيك
في أبي تراب؟ فقرأ قوله (إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ) ثمّ قال : وعلىّ منهم وهو ابن عمّ رسول الله وختنه على
ابنته ، وأقرب الناس إليه وأحبّهم.
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)
اللام لام الجحود
لتأكيد النفي ، ينتصب الفعل بعدها بتقدير أن ، والخطاب للمؤمنين تأييدا لهم
وترغيبا في الثبات ، قيل أي ثباتكم على الايمان ورسوخكم فيه ، فلم تزلّوا ولم
ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم.
ويجوز أن يراد (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) بترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لأيمانكم ، وقيل
إيمانكم بالقبلة المنسوخة أو صلواتكم إليها ، وبه رواية عن الصادق عليهالسلام.
وعن ابن عباس : لمّا حوّلت القبلة ، قال ناس : كيف أعمالنا الّتي كنّا
نعمل في قبلتنا الاولى ، وكيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك؟ فأنزل الله.
إن قيل : كيف جاز
عليهم الشكّ فيمن مضى من إخوانهم وأعمالهم ، فلم يدروا أنّهم كانوا على حقّ في
صلاتهم إلى بيت المقدس؟ أجيب بأنّهم تمنّوا ذلك وأحبّوا
__________________
لهم ما أحبّوا
لأنفسهم ، أو قال ذلك ضعيف الفهم أو منافق كما قد يشعر به قول ابن عباس «ناس» فخاطب
الله المؤمنين بما فيه الردّ على المنافقين ، فغلّب الأحياء على الأموات في إضافة
الايمان كما لا يخفى.
(إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).
فلا يضيع أجورهم ،
ولا يدع صلاحهم ، ولعلّه قدّم الرؤف وهو أبلغ في الرحمة محافظة على الفواصل.
الثالث (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ.) (١٤٤)
روى أنّ رسول الله
صلّى مدّة مقامه بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وبعد مهاجرته إلى المدينة سبعة
أشهر على ما رواه علىّ بن إبراهيم ، وذكره جماعة ، قال الصدوق تسعة عشر شهرا ويؤيّده رواية ضعيفة في التهذيب فقالت اليهود تعييرا إنّ محمّدا تابع لنا يصلّى على قبلتنا
، فاغتمّ لذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله وكان قد استشعر أنّه سيحوّل إلى الكعبة ، أو كان وعد ذلك
كما قيل ، أو كان يحبّه ويترقّبه لأنه أقدم القبلتين ، وقبلة أبيه إبراهيم عليهالسلام ، وادعى للعرب إلى الإسلام ، لأنها مفخرتهم ومزارهم
ومطافهم ، فاشتدّ شوقه إلى ذلك مخالفة على اليهود ، وتميزا منهم ، وخرج في جوف
الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا.
وروي أنّه صلىاللهعليهوآله قال لجبرئيل : وددت أن يحوّلني الله إلى الكعبة ، فقال
__________________
جبرئيل إنّما أنا
عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فأسأل فإنك عند الله عزوجل بمكان فعرج جبرئيل ، وجعل رسول الله يديم النظر إلى السماء
رجاء أن ينزل جبرئيل لما يحبّ من أمر القبلة.
فلما أصبح وحضر
وقت صلاة الظهر ، وقد صلّى منها ركعتين ، فنزل جبرئيل وأخذ بعضديه وحوّله إلى
الكعبة ، وأنزل عليه (قَدْ نَرى) فصلّى الركعتين الأخيرتين إلى الكعبة.
فلا ريب في أن «قد»
على أصله من التوقّع والتحقيق ، إنّما الكلام في أنّه هل بمجرّد ذلك من غير اعتبار
تقليل ولا تكثير كما قاله الرضى أو قد أستعير بمناسبة التضادّ لاقتضاء المقام ،
واستدعاء السياق كقوله «قد أترك القرن مصفرّا أنامله» كما ذهب إليه الكشاف أو على أصله من التقليل في المضارع لقلّة وقوع المرئي من
تقلب وجهه عليهالسلام كما في الكنز ، وربما احتمل كونه على أصله ويستفاد التكثير
كما في البيت أيضا على نحو ما ذكره الكشاف في (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) مع احتمال كلامه هنا أيضا فتأمل.
والرؤية منه تعالى
علمه سبحانه بالمرئىّ ، وليس بآلة كما في حقّنا ، قيل : وقد يأتي لفظ المضارع
للماضي كما قال (فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِياءَ اللهِ) أي قتلتم ، فلا يبعد أن يكون نرى كذلك هو ظاهر ما تلونا في
سبب النزول.
ويمكن أن يقال
إنما أتى بلفظ المضارع لأنه استجاب له حين توجّهه إلى السماء ، فلا يتوهّم من
تأخير النزول تأخير الاستجابة ، بل ذلك لمصلحة.
(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) أي تردّد وجهك ، وتصرف نظرك في جهة السماء فتقدر جهة مضافا
أو يراد بالسماء جهتها ، أو يقال التجوّز في النسبة ، ويحتمل كون في بمعنى إلى
باعتبار تضمين النظر كما لا يخفى ، وإلّا فالظاهر أنه لا يكفى ، وفيه نوع تأمل.
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً) فلنعطينّك ، ولنمكّننّك من استقبالها من قولك ولّيته
__________________
كذا إذا جعلته
واليا له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها كذا في الكشاف ، (تَرْضاها) تحبّها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة ، فلا يستلزم ذلك سخط
بيت المقدس ، ولا سخط التوجه إليه كما هو الظاهر من سبب النزول ، وطعن اليهود ،
والشطر النحو والجهة ، وقرأ ابيّ تلقاء المسجد الحرام أي صاحب حرمة لا تهتك. في الكشاف : والنصب على الظرف أي
اجعل تولية الوجه في جهته وسمته ، لانّ استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على
البعيد ، وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أنّ الواجب مراعاة الجهة دون
العين وفيه أبحاث :
الف : إنّ النصب على الظرف سيما على ما فسّره مناف لما قدمه في
قوله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) فتدبر.
ب : إنّ استقبال العين إذا كان بحسب الظنّ وما تيسّر من
القرائن ، فلا نسلم أنّ فيه الحرج على البعيد ، بل الظاهر أنّه لا فرق حينئذ في
ذلك بين كونها العين أو الجهة ، كيف لا والعلامات المعتمدة مشتركة بين الفريقين ،
سيّما على ما قال صاحب التذكرة من أنّ الجهة نريد بها هنا ما يظنّ أنّه الكعبة
حتّى لو ظنّ خروجها عنه لم يصحّ ، بل الظاهر حينئذ عدم الفرق أصلا ، وكون النزاع
لفظيا فتأمل ، بل الاعتماد في ذلك على ظاهر النص نعم فيه من التوسيع والتسهيل ما
لا يخفى.
ولعلّ الأولى أن
يقال الجهة هنا سمت تدلّ أمارة شرعيّة على عدم خروج الكعبة عنه ، مع عدم اختصاص
بعضه بها أو بمثلها ان تجزى ، وأما ما يقال إنّ سمت الكعبة أن يصل الخطّ الخارج من
جبين المصلّي إلى الخطّ المارّ بالكعبة على استقامة بحيث يحصل قاعدتان أو أن يقع
الكعبة فيما بين خطّين يلتقيان في الدماغ فيخرجان إلى العينين كساقي مثلّث ،
فالبحث فيه طويل لا يناسب المقام .
__________________
__________________
__________________
__________________
أما قوله استقبال
عين القبلة وإن خالف المشهور من أنّ قبلة البعيد هي الجهة أو العين لكن لا بأس به
تنبيها على أنّ القبلة في الحقيقة والقصد هي الكعبة كما لا لا يخفى.
ج ـ إنّ ذكر
المسجد الحرام دون الكعبة مع إرادتها به ؛ تسمية للجزء الأشرف باسم الكلّ ، مع
كونها في محلّ التأمل ، لما روي من أنّ أشرف بقاع الأرض ما بين الركن والمقام
والباب ، محلّ نظر لجواز أن يكون ذلك لأنّ عنوان المسجد أنسب باستحقاق التعظيم
والتكريم وأقرب إليه من عنوان البيت والكعبة. على أنّ البيت بنفسه مسجد أيضا ، فلا
يجوز ، والحرام صفة له كما في قوله تعالى
«الْبَيْتَ الْحَرامَ»
وتسمية أجزاء
المسجد مسجدا شائع أيضا ، ولا ريب أنّ هذه الفائدة أظهر مع كونها مقرونة بالحصول
قطعا بخلاف ما ذكر.
__________________
إن قيل المراد ذكر
شطر المسجد الحرام دون شطر الكعبة ، مع أنّ المراد شطرها فان ذلك لعدم الفرق
والتميز بينهما بالنسبة إلى البعيد.
قلنا ذلك بإرادة
الكعبة بالمسجد أم؟؟؟ هو الذي قدّمنا ، وبإرادة ما هو المعروف به يقدح فيه قيام ما
تقدّم من الاحتمال وعدم ظهور قائل به ، وأنّ الظاهر الاتّفاق على خلافه.
على أنا لا نسلّم
عدم الفرق والتميز بالنسبة الى كلّ بعيد ، فان كلّ من يتعذر أو يتعسر عليه مشاهدة
الكعبة أو تحصيل عينها قطعا للبعد ، لا يجب أن يعتبر عليه مثلا تحصيل خطّ يخص
المسجد دون الكعبة ظنا كما لا يخفى ، ولا نسلم أيضا اختصاص الحكم بالبعيد بل هو
أعم كما يأتي.
د : قد ذهب جماعة من الخاصّة والعامّة إلى أن قبلة الآفاقي
النائي هو الحرم لروايات ، وفي المجمع أنّ أبا إسحاق الثعلبي ذكر ذلك في كتابه عن
ابن عباس وحينئذ فالمراد بالمسجد الحرام الحرم كما قيل في قوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لإحاطته بالمسجد والتباسه به.
وعن ابن عبّاس
الحرم كلّه مسجد ، وعن عطا في قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) أنّ المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وذكر الراونديّ عنه في
الآية أيضا القول بأنّ الحرم كلّه مسجد ، وعلى هذا فترجيح حمل المسجد الحرام على
الكعبة على حمله على الحرم تسمية للكلّ باسم أشرف الاجزاء ترغيبا وتشريفا أو لكونه
في حكم المسجد لحرمته كما يقتضيه كونه حرما أو لكونه مسجدا حقيقة ، وثبوت وصف
الحرام مع تأييد ذلك بالروايات ، وموافقة أقوال المفسّرين في غير هذا المقام ،
أيضا محلّ نظر على ما قرّره الكشاف ، نعم في سند الروايات ضعف ، مع كونه خلاف
الظاهر فتأمل.
وأما على ما
قرّرنا فلا يبعد كونه حقيقة والّا فمجاز شائع ، على أنّه أوفق وأنسب بعموم قوله (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) كما لا يخفى.
ه : أنه تعالى خصّ الرسول بالخطاب أولا تعظيما له ، وإيجابا
لرغبته ، ثمّ
عمّم تصريحا بعموم
الحكم وتأكيدا لأمر القبلة ، وتحضيضا للأمّة على المتابعة ، فقال (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ولا ريب في اتّحاد المراد بالشطر في الخطابين وأنّ الظاهر
العموم وشمول القريب والبعيد ، وأنه يصدق على المشاهد للعين المتوجّه إليها أنه
مولّ وجهه شطرها ونحوها ، فلا يكون معنى الشطر ما يخصّ البعيد ، بل يعمّ القريب
أيضا ، فلا يلزم كون قبلة البعيد الجهة دون العين فليتأمل فيه.
ثمّ لا يخفى تعاضد
هذه الأبحاث ، وتقوّى بعضها ببعض ، فلا تغفل.
واعلم أنّه لا
خلاف أنّ هذا الأمر على التحتّم دون التخيير ، وما في الكنز من أنه قيل بأنه على
التخيير أظنّه وهما نعم ذكر الراونديّ عن الربيع أنّ التوجه الى البيت المقدس قبل
نسخه كان فرضا على التخيير وهو أيضا وهم عن الربيع ، وعن ابن عباس هو أوّل نسخ وقع
في القرآن ، وهو يؤيّد ما قدّمنا أنه بعد الهجرة بسبعة أشهر لا سبعة عشر أو ستّة
عشر كما هو المشهور عند الجمهور ، أو تسعة عشر كما هو قول ابن بابويه.
قيل هو نسخ للسنّة
بالكتاب ، لأنّه ليس في القرآن أمر بالتوجّه إلى الصخرة وعن قتادة نسخت هذه الآية
ما قبلها ، وهو غير ظاهر ، وقيل انّها نسخت قوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهو وهم ويأتي أنه ليس بمنسوخ.
ومن الأقوال
النادرة القول بأنه يجب التوجّه الى الميزاب وقصده ، وهو باطل على الإطلاق ، لأنه
خلاف القرآن والإجماع ، وفي المجمع وذكر أبو إسحاق الثعلبي عن ابن عباس أنّه قال : البيت كلّه قبلة وقبلة البيت كلّه
الباب ، والبيت قبلة أهل المسجد ، والمسجد قبلة أهل الحرم ، والحرم قبلة أهل الأرض
، وهذا موافق لما قاله أصحابنا أنّ الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق
انتهى.
كون الباب قبلة
البيت كلّه غير مطابق لما رأيت من كلام أصحابنا ، بل للأدلّة أيضا ، والمشهور أنه
يستقبل أي جدرانه شاء وفي المعتبر وهو اتّفاق العلماء وقريب منه
__________________
ما في التذكرة ،
نعم في الفقيه أنّ أفضل ذلك أن تقف بين العمودين على البلاطة الحمراء تستقبل الركن
الذي فيه الحجر الأسود ، فإن أراد ذلك والّا فغير واضح أو الإسناد إليه غير صحيح.
وأما أنّ البيت
قبلة لأهل المسجد ، والمسجد لأهل الحرم ، والحرم لأهل الأرض ، فقد ذهب اليه
الشيخان وجماعة ومن العامّة مالك وأصحابه لروايات من طرقنا وطرقهم إلّا أنّ في
إسنادها ضعفا ، وهو خلاف ظاهر القرآن حيث قال سبحانه (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ودعوى الإجماع غير مسموع لشهرة الخلاف.
ثمّ قوله «لما
قاله أصحابنا» يريد به هؤلاء القائلين دون جميع الأصحاب ، أو زعم كالشيخ أنه إجماع
وهو بعيد جدا ، وأما قوله «من نأى عن الحرم» فكذا في التذكرة أيضا لأنّ الأشهر من
خرج عنه فليتأمل.
واعلم أنّ الظاهر
أنّ أمر القبلة واسع جدا فيه قناعة بأدنى التوجّه المناسب بجهة البيت ، مع عدم
تيسر الأتمّ من ذلك ، لا كما قيل من أنّه لا بدّ من حصول زاويتين قائمتين أو نحو
ذلك ، إذ لم يبين الشارع علامة لكلّ بلد بل لبلد ، فانّا لا نعرف في ذلك إلّا ما
روي في الضعيف عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال «سئلته عن القبلة قال ضع الجدي على قفاك وصلّ ، وما في
الفقيه مرفوعا قال رجل للصادق عليهالسلام إنّى أكون في السفر ولا أهتدي إلي القبلة باللّيل ، فقال :
أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قلت نعم ، قال اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق
الحجّ فاجعله بين كتفيك.
__________________
وهما مع ما في
سندهما في غاية الإجمال ، فالظاهر الاعتماد على ما هو المشهور المعروف فيما بين
الناس بحسب ما يتداولون في توجّهاتهم إلى الجهات من النجوم ، والمشرق والمغرب
ونحوها ، من قرائن الأحوال ، كما هو ظاهر كثير من الأخبار أيضا مثل ما بين المشرق
والمغرب قبلة .
ويجزى التحرّي
أبدا ما لم يعلم أين وجه القبلة وأنّه ينحرف إلى القبلة في الصلاة ما لم يستدبرها
ونحوها وأمّا الاعتماد على المعلوم من قوانين الهيئة ، فلا بحث في جوازه ، ولو ظنّ
أنّ ظاهره الانتهاء إلى قول بعض الحكماء الذي لا يعلم إسلامه فضلا عن عدالته وعدم
إفادتها العلم بالعين ولو قيل بالجزم ، وأما وجوب الرجوع إليها على عامّة المكلفين
أكثر ممّا قدّمنا ، ومعرفة الدائرة الهنديّة ونحوه ، فلا دليل عليه وينفيه الأصل ،
ولزوم الحرج ، وظاهر بعض الأخبار ، فلا يبعد كون ذلك إجماعا فإنّه يبعد ذهاب أحد
إلى ذلك مع عدم ذكره قولا في شيء من الكتب المشهورة والله أعلم.
(وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) قيل هم اليهود عن السدّي ، ويحتمل عموم النصارى وقيل : هم
أحبار اليهود وعلماء النصارى ، لأنّهم جماعة قليلة يجوز على مثلهم إظهار خلاف ما
يبطنون ، وأما الجمع الكثير فلا ، للعادة باختلاف الدواعي (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي تحويل القبلة أو التوجّه إلى الكعبة (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) قيل لعلمهم جملة أن كلّ شريعة لا بدّ لها من قبلة وتفصيلا
لتضمّن كتبهم أنه صلىاللهعليهوآله يصلّى إلى القبلتين ، لكنّهم لا يعترفون لشدّة عنادهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بالياء وعيد لأهل الكتاب ، وبالتاء وعد لهذه الأمّة ، أو
وعد ووعيد مطلقا تأمّل.
الرابع (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥)
أي مجموع ما في
جهة الشرق والغرب من الأرض والبلاد لله هو مالكها ، ففي أيّ مكان فعلتم التولية أي
تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله (فَوَلِّ وَجْهَكَ
__________________
شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» ، فثمّ جهة الّتي أمر بها ورضيها ، والمعنى أنكم إذا منعتم
أن تصلّوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس ، فقد جعلنا لكم الأرض مسجدا فصلّوا
في أيّ بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها ، فإنّ التولية لا يختصّ بمسجد
ولا مكان.
هذا عليه اعتماد
الكشاف نظرا الى ما قبله من قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) الاية وكذا القاضي والجوامع لكنّه لم يذكر احتمال بيت المقدس هنا ، وكأنّه استضعافا له
، واعتمادا على ما تقدّم وزاد القاضي احتمال أن يراد بوجه الله ذاته ، وهو بأن
يكون وجه صلة لا كما في (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) يعنى فثمّ الله يرى ويعلم كما في المعالم ، وفيه أيضا :
وقيل : رضي الله ، هذا.
وفي المجمع قيل : نزلت في التطوّع على الراحلة حيث توجّهت حال السفر
وهذا مرويّ عن أئمتنا عليهمالسلام انتهى ، ورواه مسلم والترمذيّ عن عبد الله بن عمر وإليه نسب المعالم والكشّاف أيضا إلّا أنه لم يعتدّ
بالتطوع ، ولعلّه مراده وفي الجوامع لم يعتدّ بحال السفر قال : وهو عنهم عليهالسلام ، ونحوه في
التذكرة عن أبى عبد الله عليهالسلام وفي الكنز كالأوّل عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام.
وفي المعتبر : وقد
استفاض النقل أنّها في النافلة ثم في المجمع : روى عن جابر
__________________
أنّه قال : بعث
النبيّ صلىاللهعليهوآله سريّة كنت فيها وأصابتنا ظلمة ، فلم نعرف القبلة ، فقال
طائفة منّا قد عرفنا القبلة هي هنا ، قبل الشمال ، فصّلوا وخطّوا خطوطا ، وقال
بعضنا القبلة هي هنا قبل الجنوب ، فخطّوا خطوطا ، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت
تلك الخطوط بغير القبلة ، فلما رجعنا من سفرنا سألني النبيّ صلىاللهعليهوآله عن ذلك؟؟؟ فأنزل الله هذه الآية انتهى.
وفي المعالم قال
ابن عباس : خرج نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله في سفر فذكر قريبا ممّا تقدّم ، وفي الجامع عامر ابن ربيعة عن أبيه قال كنّا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله في سفر في ليلة مظلمة ، فلم ندر أين القبلة ، فصلى كلّ رجل
منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآله فنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أخرجه الترمذيّ.
وفي التهذيب أيضا
رواية ظاهرها أنّها في الخطإ في القبلة في الفريضة إلّا أنّ فيها ضعفا سندا ومتنا ،
ونقل في المعتبر عنهم الطعن في رواية جابر ، بأنّه رواها محمّد بن سالم
ومحمّد بن عبد الله العرزميّ عن عطاء عن جابر وهما ضعيفان ، وفي رواية عامر بأنّه
من
__________________
من حديث أشعث وهو
ضعيف ، وكيف كان فقد يقال بحملها على النافلة والفريضة في الجملة جمعا بين
الروايات لإمكانه ، ومراعاة لعموم اللفظ ما أمكن.
قال في الكنز اعلم أنّه مهما أمكن تكثير الفائدة مع بقاء اللفظ على
عمومه كان أولى فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بالاية في الفريضة على مسائل :
١ ـ صحّة صلاة
الظانّ أو الناسي فيتبيّن خطأه وهو في الصلاة غير مستدبر ولا مشرّق ولا مغرّب
فليتدبّر.
٢ ـ صلاة الظانّ
فيتبين خطاؤه بعد فراغه ، وكان التوجّه بين المشرق والمغرب فتصحّ.
٣ ـ الصورة بحالها
وكان صلاته الى المشرق والمغرب ، ويتبيّن بعد خروج الوقت.
٤ ـ المتحيّر
الفاقد الأمارات يصلّى الى أربع جهات تصحّ صلاته.
كذا قال ، والحقّ
أنها تدلّ على أنّ صلاته الى أيّ جهة شاء تجزى ولا يجب القضاء مع تبين الخطاء ،
وان كان مستدبرا.
٥ ـ صحة صلاة شدّة
الخوف حيث توجّه المصلى.
٦ ـ صحّة صلاة
الماشي أيضا عند ضيق الوقت متوجّها الى غير القبلة.
كذا قال وكأنّ ضيق
الوقت لا يحتاج إليه.
٧ ـ صحّة صلاة
مريض لا يمكنه التوجّه بنفسه ولم يوجد غيره عنده يوجّهه.
وأما الاحتجاج بها
على صحّة النافلة حضرا ففيه نظر لمخالفته فعل النبيّ صلىاللهعليهوآله فإنّه لم ينقل عنه فعل ذلك ولا أمره ولا تقريره ، فيكون
إدخالا في الشرع ما ليس منه ، نعم يحتجّ بها على موضع الإجماع ، وهو حال السفر
والحرب ويكون ذلك مخصّصا لعموم (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) بما عدا ذلك ، وهو المطلوب انتهى.
واعلم أنه ذكر ـ وكذا
الراوندي وغيرهما ـ عنهما عليهماالسلام أنّ قوله (فَوَلِّ) في الفريضة ، وهذا في النافلة من غير تقييد ، وظاهر ذلك
جواز النافلة إلى أينما كان التوجّه
__________________
لإطلاق قوله هذا
في النافلة ، ولقوله هذا في الفريضة ، لأنّ الظاهر أنّه لا تدخل النافلة تحته
حينئذ وأنّ غيرها من الآيات الدالّة على الوجوب في معنى ذلك.
على أنّ الآيات
كلّها مطلق في إيجاب التوجّه إلى القبلة ، فإذا وجد محمل صحيح فالظاهر الخروج من
العهدة به ، وأيضا لو عمّم الأمر بتولية الوجه النافلة مع كونها للوجوب ظاهرا
ومطلقا كما ترى ، لزم استحقاق العقاب بتركه ، ولو بترك النافلة ، وأيضا الأصل عدم
الوجوب ، وعدم الدليل مع عدم وضوح ما يدلّ على وجوبه فيها كما لا يخفى ، بل ربما
كان في الروايات ما ينبئ عن الاستحباب دون الوجوب.
وعلى كلّ حال هذا
البحث في النافلة اختيارا من غير أن يكون راكبا أو ماشيا ولو في غير سفر ، فان
السفر قد دلّت على الجواز حينئذ ، وهذا العموم ظاهر المحقّق لقوله بالاستفاضة
وبأنّ اللفظ على عمومه ، وفي التذكرة الأقرب وجوب الاستقبال في النافلة أيضا ، وبه
قال الشافعيّ لمداومة النبيّ وأهل بيته عليهمالسلام على ذلك.
فيقال عليه وعلى
قول الكنز فإنّه لم ينقل إلخ أنّ المداومة لا توجب الوجوب ولا يستلزمه كما بيّن في
الأصول على أنه قد نقل كون الآية مع عموم لفظها في النافلة حتّى قيل انّه قد
استفيض مع موافقته للأصل فكيف يكون إدخالا في الشرع ما ليس منه.
ثمّ قوله نعم يحتجّ
بها على موضع الإجماع إلخ لا يخفى أنّ فيه قطعا لفائدة دلالتها أو تقليلا لها ،
نعم لا بأس بالاحتياط بأن لا يدفع به أقوى مما دلّ على كون الآية في النافلة ـ في
النافلة ـ ومما دلّ على كونها في الفريضة ـ في الفريضة ـ وكيف يجوز الاقتصار على
موضع الإجماع مع وضوح وجوب كونه مرجّحا في محل الخلاف لا أقلّ كما لا يخفى.
ثمّ فيما ذكره من
المسائل ما ليس مجمعا عليه ، بل محلّ الخلاف مثل الناسي والثلاث الآتية بعدها ،
هذا.
وفي الكشاف : وقيل
معناه فأينما تولوا للدعاء والذكر ، ولم يرد الصلاة ، وفي المعالم قال مجاهد
والحسن لما نزلت (وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قالوا أين
ندعوه؟ فأنزل الله
الآية ، وقال أبو العالية لما صرفت القبلة قالت اليهود ليست لهم قبلة معلومة فتارة
يصلّون هكذا وتارة هكذا ، فنزلت.
وفي القاضي وقيل في هذه الآية توطئة لنسخ القبلة ، وتنزيه للمعبود أن
يكون في حيّز وجهة ، وعلى هذه الأقوال ليست بمنسوخة كما لا يخفى ، وقيل : كان
للمسلمين التوجّه في صلاتهم حيث شاءوا كما في المجمع ، أو من الصخرة والكعبة كما
في الكنز وكتاب الراونديّ ثمّ نسخت بقوله (فَوَلِّ) الاية ولا شاهد له.
ثمّ لا يخفى أنّ
التقدير على هذه الأقوال غير ما تقدّم عن الكشاف ولعلّه ينبغي أن يراد «وأينما
تولّوا وجوهكم» ويمكن أن يقال إنه أقل تقديرا مما تقدم ، فتأمل.
وقال شيخنا
المحقّق ويفهم من رواية جابر أنه لا تجب الصلاة حال الحيرة إلى
أكثر من جانب واحد ، ويكفي الظنّ ، وإن لم يكن عن علامات شرعيّة ، وأنّ العلم قبل
الفعل ليس بشرط ، بل إذا حصل الظنّ وفعل وكان موافقا لغرضه كان مجزيا لا يحتاج إلى
الإعادة كما يفهم من عبارات الأصحاب.
وأما الحكم
المستفاد من الآية بناء على الأوّل فهو إباحة الصلاة في أيّ مكان كان وعموم التوجه
إلى المسجد الحرام ، وأما ما يستفاد من ظاهرها قبل التأمل ، فهو عدم اشتراط القبلة
مطلقا ويقيّد بحال الضرورة أو النافلة على الراحلة سفرا لما مرّ ، أو غير ذلك ،
ويحتمل عدم النافلة فتأمل.
(إِنَّ اللهَ واسِعٌ) باحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعة واليسر لعباده (عَلِيمٌ) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلّها ، وقد يفهم على الأوّل
أنّهم لما منعوا وعدهم الله مزيد الثواب أفضل مما منعوا منه فتأمل.
المائدة
[٩٧] : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ
__________________
وَالْهَدْيَ
وَالْقَلائِدَ.)
البيت الحرام عطف
بيان للكعبة (قِياماً لِلنَّاسِ) يستقيم به أمور دينهم ودنياهم لما يتمّ به من أمر حجّهم
وعمرتهم وتجارتهم ، وأنواع منافعهم ، وجاء في الأثر أنّه لو ترك عاما لم يحجّ إليه لم يناظروا ولم يؤخّروا ، ومعناه يهلكوا
وهذا هو المشهور ، والظاهر ، وقال الراونديّ في بعض التفاسير أي جعل الله الكعبة
ليقوم الناس في متعبّداتهم متوجّهين إليها قياما وعزما عليها.
وفي الكنز المعنى أنّ الله جعلها لتقويم الناس والتوجه إليها في
متعبّداتهم ومعايشهم ، أما المتعبّدات فالصلاة إليها والطواف حولها ، والتوجّه
إليها في ذبائحهم واحتضار موتاهم ، ودفنهم وغسلهم ودعائهم وقضاء أحكامهم ، وهنا
قيل بالعكس ، وأما في معايشهم فأمنهم عندها من المخاوف وأذى الظالمين ، وتحصيل
الرزق ، والاجتماع العامّ عندها بجملة الخلق الذي هو أحد أسباب انتظام معايشهم إلى
غير ذلك من الفوائد.
(وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ) أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) في كلّ وقت سجود أو في كلّ مكان سجود وهو الصلاة ، هذا
معتمد الكشاف وزاد القاضي أو أقيموها إلى القبلة ، وفي المعالم عن مجاهد والسدّي
يعنى وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، وعليه اعتمد القرطبيّ وحينئذ يدلّ ظاهرا
__________________
على وجوب
الاستقبال في النافلة أيضا إلّا ما استثني ، وعن الضحّاك إذا حضرت الصلاة وأنتم
عند مسجد فصلّوا فيه ولا يقولنّ أحدكم أصلّي في مسجدي.
[ولعلّ الأظهر أن
يكون المراد وأقيموا نفوسكم أي اجعلوها مستقيمين كما أمر به النبيّ صلىاللهعليهوآله بقوله (وَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) فيحتمل أن يكون إشارة إلى اعتبار الايمان وعدم الفسق ، أو
إلى التقوى ، وكأنه على التقديرين يستلزم الإخلاص وترك الرياء ، فما يأتي تصريح
وتوضيح لما تقدّم ضمنا فتدبر].
(وَادْعُوهُ) واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي الطاعة مبتغين وجهه خالصا ، ولو أريد بالدين الملّة أو
الإسلام مع كونه غير واضح هنا ، ولم ينقل من أحد من المفسّرين ، أمكن أن يقال
باستلزام اعتبار الإخلاص في العبادة أو الدعاء ، وأنه المتبادر فتدبّر ، وقد يحمل
على ظاهره من الأمر بالدعاء فيدلّ على استحباب الدعاء في المساجد ، وقد يستخرج من
الاية استحباب التحيّة على بعض الوجوه فتأمل.
__________________
النوع الاخر
(في مقدمات أخر للصلاة)
وفيه آيات :
الاولى
(يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) (الأعراف : ٢٦)
خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة منه ، ونظيره قوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وقوله (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ) فنبّه على أنّ للأمور السماوية كالمطر دخلا في حصول اللباس
وغيره أو إشارة إلى علوّ رتبته وجلال مرتبته تعالى ، فان منه إلينا نزول من العليا
الى السفلى ، وفي الكشاف : جعل ما في الأرض من السماء لأنّه قضي ثمّ وكتب.
وفي الكنز لأنّ
التأثير بسبب العلويّات أو عند مقابلاتها وملاقياتها على اختلاف الرأيين ، فليتأمل
، وقال القرطبيّ : وقيل ألهمناكم كيفية صنعته ، وقيل هذا الانزال إنزال شيء من
اللباس مع آدم وحوّاء ليكون مثلا لغيره.
(يُوارِي سَوْآتِكُمْ) صفة لباسا أى يستر عوراتكم وكلّ ما يسوء كشفه منكم ، روي
أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا
الله فيها فنزلت ، قال القاضي لعلّ ذكر قصّة آدم تقدمة لذلك حتّى يعلم أنّ انكشاف العورة
أوّل سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغويهم في ذلك كما أغوى أبويهم.
__________________
(وَرِيشاً) عطف على لباسا ، وهو لباس الزينة ، أستعير من ريش الطير
لأنّه لباسه وزينته ، فالأول ظاهره وجوب ستر العورة باللباس مطلقا ، فإنّ (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يومئ إلى قبح الكشف ، وأنّ الستر مراد الله تعالى ، وظاهر
الثاني استحباب التجمّل باللباس ، ولا يبعد فهم أشراط كون اللباس مباحا ، لأنّ
الله تعالى لا يمنّ بالحرام ، وقيل الريش بمعنى الجمال والزينة وأنّه اللباس
الأوّل ، ويأتي ما يؤيّده في الآية الثانية ، فيمكن عطفه على (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) ولو بتقدير.
وفي المعالم (وَرِيشاً) أي مالا في قول ابن عباس والكسائي ومجاهد والضحّاك والسدّي
، يقال تريّش الرجل إذا تموّل ، وقال القرطبيّ وقيل هو الخصب ورفاهية العيش ،
والذي عليه أكثر أهل اللغة ، أنّ الريش ما يستر من لباس أو معيشة ، وقرئ «رياشا» وهو ـ جمع ريش كشعب وشعاب كما في القاضي والكشاف ، وعن الفرّاء أنهما
واحد كلبس ولباس ، وفي الكنز ترجيحه بشهادة الجوهريّ. وبأنّ الجمع غير مراد هنا
وفيه نظر.
(وَلِباسُ التَّقْوى) قيل خشية الله ، وقيل العمل الصالح ، وقيل ما علّمه الله
وهدى
__________________
به ، وقيل استشعار
تقوى الله فيما أمر ونهى وهو الأظهر وكأنه مآل ما تقدّم من الأقوال ، ومراد الكلبي
بأنّه العفاف ، وقول الكشاف أنه الورع والخشية من الله ، ويحتمل رجوع ما قيل إنّه
الايمان ، وأنّه الحياء ، وأنّه السمت الحسن أيضا إلى ذلك بوجه.
وقيل ما يقصد به
التواضع لله تعالى وعبادته كالصوف والشعر والخشن من الثياب وعن زيد بن علىّ عليهالسلام أنّه ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها ممّا
يتّقى به في الحروب ، وقيل : مطلق اللباس الذي يتّقى من الضرر كالحرّ والبرد
والجرح ، وفي الكنز تضعيفه بأنّ المتبادر من التقوى غير ذلك شرعا وعرفا.
ورفعه بالابتداء
والخبر جملة (ذلِكَ خَيْرٌ) أو المفرد الذي هو خير ، وذلك صفة للمبتدإ كأنه قيل :
ولباس التقوى المشار إليه خير ، وذلك يراد به تعظيم لباس التقوى أو إشارة إلى
مواراة السوءة فإنّه من التقوى ، تفضيلا له على نفس اللباس مطلقا كأنّه يريد أنّ
الامتنان عليكم بهدايتكم لستر العورة والاحتراز من القبيح أقوى وأعظم.
وفي الكشاف أو
إشارة إلى اللباس المواري للسوأة تفضيلا له على لباس الزينة وهو غير مناسب لما
قدّمه من تفسير لباس التقوى بالورع ، وبناء الكلام عليه ، نعم يناسب قول من قال
بأنّ لباس التقوى هو اللباس الأوّل أعيد إشارة إلى أنّ ستر العورة من التقوى وأنّه
خير من التعرّي في الطواف.
وقيل لباس التقوى
خبر مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى ، ثمّ قيل : ذلك خير ، ويأتي عليه احتمالان :
رجوع هو إلى اللباس الأوّل ، ورجوعه إلى مواراة السوءة ، فتأمل.
__________________
وفي قراءة ابن
مسعود وابىّ «لباس التقوى خير» وذكره القرطبيّ عن الأعمش وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على لباسا
وريشا.
وظاهر بعض مشايخنا
أنّ الراجح حينئذ أن يراد لباس يتّقى به عن الحرّ والبرد والجرح والقتل ،
وأنّ اللباس حينئذ ثلاثة أقسام قد امتنّ الله بها على عباده قال : وحينئذ في (ذلِكَ خَيْرٌ) تأمّل.
ويمكن كونه خيرا
لأنه يحصل به الستر والحفظ عن الحرّ والبرد والجرح بخلافهما ، ويحتمل رجوعه إلى
اللباس مطلقا انتهى وفيه أما أوّلا منع رجحان ذلك حينئذ ، فان إرادة ما أريد على
الرفع احتمال واضح ، نعم هذا القول حينئذ أقرب منه على الرفع ، وثانيا منع لزوم
كون اللباس حينئذ ثلاثة فإنه يحتمل اثنين على ما قدّمنا وواحدا كما صرّح به في
الكنز.
وأيضا لا إشكال في
(ذلِكَ خَيْرٌ) حينئذ لما قاله وغيره ، ورجوعه إلى اللباس مطلقا أو إنزاله
كاف بأن يراد بخير أنّه خير كثير كما هو المحتمل مطلقا لا التفضّل كما هو المشهور
، مع احتماله كما لا يخفى.
(ذلِكَ) يعني إنزال اللباس مطلقا أو جميع ما تقدّم (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالّة على فضله ورحمته على عباده ، وقيل من آيات الله
الدالّة على وجوده بأنّ لذلك خالقا (لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) فيعرفون عظيم النعمة فيه أو يتّعظون فيتورّعوا عن القبائح.
في الكشاف : هذه
الآية واردة على سبيل الاستطراد ، عقيب ذكر بدوّ السوءة ، وخصف الورق إظهارا
للمنّة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة ،
وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى انتهى واستطراد
__________________
الاية ينافي ما
تقدّم عن القاضي فتأمل فيه ، ويمكن الاتّحاد ، ولكنّه خلاف الظاهر وقول القاضي
أنسب بمقصود الشرع ، ولهذا أكّده خصوصا وعموما كرّة بعد أخرى فقال :
(يا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) لا يوقعنّكم في فتنة وفضيحة بأن يدعوكم أن لا تتذكّروا
بآيات الله ولا تتورّعوا عن القبائح ، فيخرجكم من محالّ فضل الله ومواضع رحمته ،
فيسلبكم نعمة الله وستره عليكم ، ويحرمكم الجنّة ، أو لا يضلّنّكم عن الدين ولا
يصرفنّكم عن الحقّ بأن يدعوكم إلى المعاصي الّتي تميل إليها نفوسكم فيحرمكم الجنّة
، أو لا يقنطنكم بأن لا تدخلوا الجنّة.
(كَما أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) حال كونه (يَنْزِعُ عَنْهُما
لِباسَهُما) أو حال من أبويكم وإسناد النزع إليه للتسبّب فيه (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) يري كلّا منهما سوأته وسوأة الآخر ، قيل ليرى كلّ واحد
سوءة الآخر ، وفيه نظر ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ الشيطان لكمال عداوته كان قاصدا
ذلك لمزيد الإهانة وفرط الفضيحة فيه ، فيمكن أن يكون إشارة إلى أنّ انكشاف العورة
وإن كان فيما بين الزوجين لا يخلو من فضيحة وقبح فليتأمّل فيه.
(إِنَّهُ يَراكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ) جنوده من الشياطين ، عطف على مؤكّد هو وضمير «أنه» للشأن
قصدا للتفخيم المناسب للمقام ، ويمكن كونه لإبليس ، وقرئ «قبيله» بالنصب فهو إمّا عطف على اسم إنّ على أنه لإبليس ، أو يكون الواو
بمعنى مع.
(مِنْ حَيْثُ لا
تَرَوْنَهُمْ) وذلك تعليل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدوّ
المراجى يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون ، فهو شديد المؤنة ، فالحذر كلّ الحذر
منه.
في الكشاف : فيه
دليل بين أنّ الجنّ لا يرون ، وأنّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأنّ دعوى
رؤيتهم زور ومخرفة ، وفيه نظر ، وعن ابن عباس أنّ الله
__________________
تعالى جعلهم يجرون
من بنى آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم.
(إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي أعوانا لهم وسلّطناهم عليهم يزيدون في غيّهم عن الزجّاج
، وذلك بأن خلّي بينهم وبينهم لن يكفّ عنهم حتّى تولّوهم ، أو أطاعوهم فيما سوّلوا
لهم من مخالفة الله كما في الجوامع.
وفي البيضاوي :
بما أوجدنا بينهم من التناسب ، أو بارسالهم عليهم وتمكينهم من جذبهم وخذلانهم ،
وحملهم على ما سوّلوا لهم ، وفيهما نظر ، ويمكن أن يقال بأن أوجدهم على ما بينهم
من التناسب والتمكّن من التسويل ، ثمّ لم يكفّ عنهم ، ولا يبعد كونه مراد الجوامع
، فلا يجوز للمؤمن أن يأخذه وليا ؛ بل لا يكون حينئذ مؤمنا بل لا يجوز متابعته
والميل إلى ما يدعو ، وقد يومئ إلى أنّ الفاسق ليس بمؤمن والله أعلم.
(وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً) هي ما تبالغ في القبح من الذنوب ، عن ابن عباس ومجاهد هي هنا طوافهم بالبيت عراة ، وعن عطاء هو الشرك ،
واللفظ مطلق والتقيد خلاف الظاهر.
(قالُوا وَجَدْنا
عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أي إذا ما نهوا عنها وسئلوا ، اعتذروا واحتجّوا بأمرين :
بتقليد الآباء ، والافتراء على الله ، وهو أقبح من الأوّل أو قالوا ذلك ترويجا لها
أو تلبيسا وقيل هما جوابان لسؤالين مترتّبين .
(قُلْ إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) بشيء منها فكيف يكون أمركم بها أو آباءكم ، فاذا لا يجوز
تقليدهم فيها ، وقيل هو ردّ للثاني وإعراض عن التقليد لظهور فساده (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) إنكار يتضمّن النهى عن الافتراء على الله ، بل عن الأعم من
الافتراء تأمل.
__________________
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كلّ أمر ، فلا
يأمر بخلافه من الإفراط أو التفريط في شيء ، فكيف بالفاحشة ، ففي الآية دليل على
أنّ الله لا يأمر بالقبيح بل ولا بالمكروه وخلاف الاولى ، وأنه لا يفعل القبيح
وأنّ الفعل في نفسه قبيح من غير أمر الشارع ، ونحوه كثير كقوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ). (وَيَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وغيره.
فقول الأشعريّ أنّ
الحسن مجرّد قول الشارع افعل ، والقبيح مجرّد قوله لا تفعل ، واضح البطلان ؛ وعن
الحسن إنّ الله بعث محمّدا صلىاللهعليهوآله إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله ،
وتصديقه قول الله عزوجل (وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً) وأما التقليد فقيل يدلّ على عدم جوازه. وأطلق ، وقال
القاضي : يمنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه ، لا مطلقا فافهم.
الثانية
(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.)
[الأعراف ٣٠] أي
خذوا بثيابكم الّتي تتزيّنون بها عند كلّ صلاة ، وروي عن الحسن بن عليّ عليهالسلام أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقيل له في
ذلك ، فقال : إنّ الله جميل يحبّ الجمال فأتجمّل لربّي ، وقرأ الآية.
وقيل هو أمر بلبس
الثياب في الصلاة والطواف ، وكانوا يطوفون عراة ، وقالوا : لا نعبد الله في ثياب
أذنبنا فيها ، وقيل : أخذ الزينة هو التمشّط عند كلّ صلاة ، كذا في الجوامع ، وعلى
الأوّل اعتماد الكشاف أيضا ظاهرا إلّا أنّه قال : كلّما صلّيتم أو طفتم وكانوا
يطوفون عراة.
وفي الكنز اتّفق المفسّرون على أنّ المراد به ستر العورة في الصلاة ،
والمعالم
__________________
جعله قول أهل
التفسير ، لكن قال لطواف أو صلاة ، وعليه اعتمد القاضي ساكتا عن غيره من الأقوال.
وما روي عن الحسن
بن علىّ عليهالسلام لا ينافي ذلك فان في التعبير بالزينة تنبيها على أنّ لبس
الثياب مطلوب من حيث أنها زينة مطلقا ، وإن كان أقلّ الواجب ما يستر العورة ،
فيحتمل قراءته عليهالسلام الآية كذلك ، ويؤيده ما رواه مسلم والنسائي في شأن النزول وهذا يؤيد حمل الريش في الآية المتقدّمة على
الجمال والزينة ، واتّحاده مع اللباس الأوّل ، فذلك يؤيد هذا أيضا فيكون الإضافة
على تقديره للعهد ، ثمّ على هذا لا يبعد فهم استحباب التمشّط كما في القول الثالث.
وفي التذكرة وسئل
الرضا عليهالسلام عن قوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال من ذلك التمشّط عند كلّ صلاة ، بل الطيب كما في الرابع
، بل ما في الخامس ، قال شيخنا دام ظلّه : وقد فسّر بالمشط والسواك والخاتم والسجّادة
والسبحة وعلى نحو ذلك ينبغي أن يحمل ما روي في الصحيح ـ ظاهرا ـ عن الصادق عليهالسلام في الآية أنّه قال في العيدين والجمعة وإن كان أبعد.
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا.)
روي أنّ بني عامر
كانوا في أيّام حجّهم لا يأكلون الطعام ، إلّا قوتا ، ولا يأكلون دسما يعظّمون
بذلك حجّهم ، فقال المسلمون فأنّا أحقّ أن نفعل ، فنزلت.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي من الطيّبات كما سيأتي التنبيه عليه (وَلا تُسْرِفُوا) بتعدّي
__________________
حدود الله مطلقا
بتحريم حلال أو تحليل حرام ، أو غير ذلك ، أو في المأكل والمشرب والملبس ، فلا
يجوز الأكل والشرب واللبس مما لا يحلّ ذلك منه ، ولا ينبغي أيضا ما لا يليق بحاله
، ولبس لباس التجمّل وقت النوم والخدمة ، ونحو ذلك ، كما بيّن وفصل في موضعه ، أو
في الأكل والشرب واللبس وهو قريب من الثاني.
عن ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطاتك خصلتان : سرف ومخيلة أو
في الأكل والشرب إشارة إلى كراهة الإكثار أو تحريمه أو تحريم المؤدّي منه إلى
الضرر ، ولهذا قيل جمع الله الطبّ في نصف آية.
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ).
قيل أي يبغضهم ،
فينبغي حمل لا تسرفوا على فعل الحرام ، في تفسير البيضاوي : أي لا يرتضي فعلهم
وفيه نظر.
وقد أكد ما تقدّم
بقوله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ) الثياب وسائر ما يتجمّل به (الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبادِهِ) من النبات كالقطن والكتّان ، من الحيوان كالحرير والصوف من
المعادن : كما يعمل منه الدروع وغيرها.
(وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ) المستلذّات من المآكل والمشارب أو المباحات والاستفهام
للإنكار ، ففي الآية دلالة واضحة على أنّ الأشياء المذكورة أو مطلقا لعدم الفرق
على الإباحة دون الحرمة ، كما في غيرها كما صرّح الكشاف في قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي لانتفاعكم بجميع ما خلق فيها ، بل هي وما فيها ، كما
دلّ عليه العقل ، فاجتمع العقل والنقل على أنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة فغيرها
يحتاج إلى دليل فتأمّل.
(قُلْ هِيَ) أي الزينة والطيّبات من الرزق (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) الظرف متعلّق بآمنوا (خالِصَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ) حال عن المستتر في متعلّق للّذين ، ويوم القيمة ظرف لخالصة
، أي لا يشاركهم غيرهم فيها كما يشاركهم في الدنيا ، أو متعلّق
__________________
بمتعلّق للّذين أي
هي حاصلة للّذين آمنوا في الحيوة الدنيا غير خالصة لهم ، خالصة لهم يوم القيمة ،
قيل : ولم يقل ولغيرهم لينبّه على أنّها خلقت لهم بالأصالة ، وأنّ غيرهم تبع كقوله
(وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) وقرئ خالصة بالرفع على أنها خبر بعد خبر.
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ثم أكّد عدم حرمة الأشياء بحصر المحرّمات حقيقة أو إضافة
بقوله (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ) ما تفاحش قبحه أي تزايد ، وقيل هو ما يتعلّق بالفروج (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ظاهرها وخفيّها ، قيل ما ظهر طواف الرجال عراة نهارا ، وما
بطن طواف النساء كذلك ليلا ، وقيل الزنا سرّا وعلانية.
(وَالْإِثْمَ) أي ما يوجب الإثم عامّ لكلّ ذنب ، فعمم بعد التخصيص ، وقيل
شرب الخمر ، وقيل الذنب الذي لا حدّ فيه عن الضحّاك (وَالْبَغْيَ) الظلم والكبر أفرده للمبالغة (بِغَيْرِ الْحَقِّ) متعلّق بالبغي مؤكّد له معنى.
(وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي برهانا وحجّة ، وإفراده كذلك للمبالغة وفيه تهكّم
بالمشركين ، حيث أشركوا بالله ما يستحيل منه الإتيان ببرهان لو أمكن ، بل ما لا
يقدر على شيء أصلا فكيف على إنزال البرهان ، وتنبيه على حرمة اتّباع ما لم يدلّ
عليه برهان.
ويمكن أن يفهم منه
وجوب اتّباع البرهان ، لأنّ ترك مقتضى البرهان اتّباع لما لم يدلّ عليه برهان ،
فافهم.
(وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد في صفاته ، والافتراء عليه ، وإسناد ما لم يصدر
منه إليه ، ويقال منها أنّ الحكم في المسئلة كذا مع أنه ليس كذلك ، وأن الله يعلم
كذا ولم يكن كذلك ، وقيل يدخل فيه الفتوى والقضاء بغير استحقاق ، ولا ريب في وجود
محرمات غير المذكورات على بعض الأقوال ، فحينئذ «إنّما» على ذلك للتأكيد أو الحصر
إضافيّ أو الآية مخصوصة بها ، فافهم.
__________________
المائدة (٤) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الاية).
كأنّه بيان
المستثنى في قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فمن المحرّمات المتلوّة الميتة ، ولعلّها ما فارقته الروح
من الحيوان بغير تذكية شرعية ، وقيل يحتمل أن يكون المراد من الحيوان المأكول
اللحم فيكون التحريم من الموت خاصّة كما هو ظاهر السياق ، وفيه منع لعدم منافاته
أن يكون هناك جهة أخرى أيضا للحرمة ، مع إطلاق اللفظ أو عمومه.
ثمّ ظاهر ذلك مشعر
بأن ما لم تحلّ فيه الحيوة منها لا يدخل في الحرمة ، ولهذا استثناه الأصحاب مؤيّدا
بالإجماع على الظاهر والأخبار ، ولا في الميتة حقيقة ، فالاستثناء على التجوّز
فافهم.
ثمّ لا ريب أنّ
إسناد الحرمة إلى الذوات ليس حقيقة فلا بدّ من اعتبار ما به يصحّ ذلك ، ومع احتمال
أمور وعدم أولويّة البعض ، الأولى ما يعمّ الجميع لئلّا يلزم الإجمال ، ولا
الترجيح من غير مرجّح ، وهو هنا الانتفاع مطلقا ، وحينئذ فيدلّ على عدم جواز لبس
جلد الميتة في الصلاة وغيرها دبغت أم لا بل سائر الاستعمالات والانتفاعات كما تدلّ عليه الاخبار ،
بل إجماع الأصحاب ظاهرا.
أمّا دلالة الآية
على نجاسة الميتة فلا ، بل ربّما يقال المتبادر من تحريم الميتة هنا تحريم أكلها
كما في الدم ولحم الخنزير ، كتبادر حلّه من قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فلا يستلزم محذورا ، ولا يدلّ على غيره من الانتفاعات فان
ثبت فبغيرها ، تأمّل فيه وسيأتي البحث في التتمّة في الأطعمة إن شاء الله تعالى.
النحل (٥) (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها
دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ.)
الانعام الأزواج
الثمانية ، وأكثر ما يقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسّره الظاهر ، أو بالعطف
على الإنسان في قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) و (خَلَقَها لَكُمْ) بيان ما خلق لأجله.
__________________
الكشاف : أي ما
خلقها إلّا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان.
الدفء اسم ما يدفأ
به فيتّقى البرد ، وهو اللّباس المعمول من صوف أو وبر أو شعر وكأنّه يشمل الفراء ،
وقرئ دف بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء.
(وَمَنافِعُ) هي نسلها ودرّها وظهورها وغير ذلك ، قيل إنّما عبّر عنها
بالمنافع ليتناول عوضها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ما يؤكل منها كاللحوم والشحوم والألبان وغيرها وتقديم
الظرف المؤذن بالاختصاص ، لأنّ الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم
، والأكل من غيرها من الدجاج والبطّ وصيد البرّ والبحر ، فكغير المعتدّ به
وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل : إنّ طعمتكم منها ، لأنكم تحرثون بالبقر ، فالحبّ
والثمار الّتي تأكلونها منها ، وتكتسبون باكراء الإبل ، وتبتغون نتاجها وألبانها
وجلودها.
ويمكن أن يقال ذلك
باعتبار إفادة «من» التبعيض ، أو لعدم حلّ أكلها لحرمة بعضها ممّا يحرم من الذبيحة
، أو لعدم جواز أكل الكلّ ، وقطع جنسها ، أو باعتبار بعض ذلك مع آخر ممّا يمكن
اعتباره معه فيه ، والله أعلم. وظاهر القاضي قوّة أن يكون التقديم للمحافظة على رؤس
الآي فقط فافهم.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ
أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٨٠].
أي الله هو الذي
جعل من جملة بيوتكم الّتي تسكنونها من الحجر والمدر والخيام والأخبية وغيرها سكنا
، والسكن فعل بمعنى مفعول ، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من
__________________
بيت أو ألف قاله
الكشاف ، وقيل موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم كالبيوت المتّخذة من الحجر والمدر ،
فالأوّل مفاد اللغة والثاني مفاد الآية. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) كالقباب والأبنية المتّخذة من الأدم والأنطاع قال القاضي
ويجوز أن يتناول المتّخذة من الوبر والصوف والشعر ، فإنّها من حيث أنها نابتة على
جلودها يصدق عليها أنها من جلودها فليتأمل.
(تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفيفة وقت ترحالكم رفعا ولمّا وزمّا ونقلا ، ووقت
نزولكم وإقامتكم حلا ونصبا ، ويمكن أن يكون ذلك كلّه يوم الظعن أي السفر ونحوه
أيّام الإقامة أي الحضر وإن قلّ فتأمل ، وقيل : الظاهر أنّ الأصواف تختصّ بالضائنة
منها ، والأوبار بالإبل ، والأشعار بالمعز ، أو والبقر ، وفيه نظر ، والإضافة إلى
ضمير الأنعام لأنّها من جملتها فلا يقدح لو ثبت شيء من ذلك والأثاث أنواع متاع
البيت من الفرش والأكسية ، وقيل المال والمتاع ما يتجر به من سلعة أو ينتفع به
مطلقا.
(إِلى حِينٍ) إلى أن تقضوا منه أوطاركم أو إلى حين مماتكم ، وزاد القاضي
: إلى مدة من الزّمان ، فإنّها لصلابتها تبقى مدّة مديدة ، وفي مجمع البيان إلى
يوم القيمة عن الحسن. وقيل إلى وقت الموت ، يحتمل أنه أراد به موت المالك أو موت
الأنعام ، وقيل إلى وقت البلى والفناء ، وفيه إشارة إلى أنها فانية ، فلا ينبغي
للعاقل أن يختارها انتهى.
وقيل الأوّل بعيد
ويمكن أن يقال المراد انقضاء الدنيا وانقطاع الإنسان منها فليس ببعيد ، وفي الآية
دلالة على جواز اتّخاذ الملابس والفرش وغيرها ، وأنواع انتفاع يمكن من أصوافها وأوبارها
وإشعارها ، وجواز الصلاة فيها وعليها إلّا ما أخرجه الدليل من عدم جواز السجود
ونحوه ، وطهارتها ولو من الميتة لإطلاق اللفظ ، إن قيل فكذا الجلد ، قيل فرق ، على
أنّ الجلد من الميتة فتذكّر وتأمل.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) أشياء تستظلّون بها في الحرّ والبرد كالأشجار والأبنية
وغيرها ، أو ممّا خلق من المستظلّات ظلالا.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبالِ أَكْناناً) جمع كنّ وهو ما يستكنّ به من البيوت
المنحوتة في
الجبال والغيران والكهوف.
(وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ) هي القمصان والثياب من الكتّان والقطن والصوف وغيرها (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد وترك لدلالة الكلام عليه عرفا ، لجريان العادة
بذكر الحرّ والبرد كذلك معا ، وشيوعه حتّى يفهم بالأوّل منهما الثاني أيضا ،
فاكتفى به على أنّ البرد أولى بالحكم هنا لأنّ وقاية الثياب من البرد أظهر ، وقصد
دفعه بها أكثر ، فيكون مرادا بالطريق الاولى.
وفي الكشاف : لم
يذكر البرد لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم ، وقلّ ما يهمّ البرد لكونه يسيرا
محتملا وقيل ما يقي من الحرّ يقي من البرد ، فدلّ ذكر الحر على البرد.
وقال شيخنا دام
ظلّه ترك البرد لأنّ ما يقيه يقيه ، واختار الحرّ على البرد ، لانّ المخاطبين أهل
الحرّ ، وليس البرد إلّا قليلا ، فالحفظ عنه أهمّ عندهم وقيل إنّ الحر يقتل دون
البرد ، ويحتمل أن يكون لأنّ البرد يمكن دفعه بشيء آخر مثل النّار والدّخول في
البيوت ، وخصّه بالذكر اكتفاء بأحد الضدين ، أو لأنّ وقاية الحرّ كانت أهمّ عندهم.
(وَسَرابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) شدّة الطعن والضرب في الحروب ، والسر بال عام يقع على ما
كان من حديد وغيره ، والمراد هنا نحو الدروع والجواشن ، وفي الآية دلالة على إباحة
هذه الأشياء عملا وانتفاعا خصوصا في الأغراض المذكورة بل استحبابها أو وجوبها ،
وهو ظاهر.
(كَذلِكَ) كإتمام هذه النعم (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به أو تنقادون لحكمه ،
وقرئ تسلمون من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب ، أو تنظرون فيها فتسلمون من
الشرك ، وقيل تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ. يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ
__________________
الْكافِرُونَ)
يعرفون نعمه
وأنّها منه ثمّ ينكرونها بعبادة غيره ، وقولهم إنّها بشفاعة آلهتنا أو باعراضهم عن
شكرها ، وقيل نعمة الله نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله ، وقيل إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا.
وقيل قولهم لو لا
فلان ما أصبت كذا ، لبعض نعم ، وإنّما لا يجوز التكلّم بنحو هذا إذا لم يكن
باعتقاد [يعتقد] أنّها من الله ، وأنّه أجراها على يد فلان ، وجعله سببا في نيلها
، فيدلّ على تحريم هذا القول ، ويدلّ عليه بعض الاخبار أيضا فلا بدّ من الاحتياط
والاجتناب.
البقرة [١١٤].
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها
أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.)
روي عن الصادق عليهالسلام أنّ المراد بذلك قريش حين منعوا رسول الله صلىاللهعليهوآله دخول مكّة والمسجد الحرام ، وبه قال بعض المفسّرين وقال
بعضهم إنّهم الروم غزوا بيت المقدس ، وسعوا في خرابه إلى أن أظهر الله المسلمين ،
وقيل هو بختنصر وأصحابه غزوا النّصارى وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك جماعة من
النصارى من أهل الرّوم ، فقيل بغضا ليهود ، وقيل من أجل قتلهم يحيى بن زكريّا هذا.
وقوله (أَنْ يُذْكَرَ) ثاني مفعول (مَنَعَ) ويجوز أن يحذف حرف الجرّ مع أن ، ويحتمل نصبه بكونه مفعولا
بمعنى كراهية أن يذكر ، ولا يرد أنّه حينئذ يفيد تحريم المنع المعلّل المقيّد لا
المطلق ، فيفهم جواز غير ذلك ، ولو في الجملة ، لأنه إنّما يفيد أن لا أشدّ منه في
الظلم ، ولو مبالغة في الإفراط فيه ، فغاية ما يفهم منه أنّ المنع لا لذلك ليس
بالغا هذا الحدّ ، اما الجواز فلا.
واعترض عليه الكنز
بأنه لا بدّ لمنع من مفعولين ، والثاني لا يمكن أن
__________________
يقدّر غير الذكر ،
لأنه هو الممنوع فكيف يجعل مفعولا له؟ وفيه نظر لجواز أن يقدّر من النّاس أو من
قاصديه أو من ما وضعت له ، ونحو ذلك كما لا يخفى ، فلعلّه لا يريد أزيد من ذلك.
أما ما قيل من أنّ
في جعل مساجد الله ممنوعا كما وقع في الاحتمال الأوّل مسامحة ، فيتوجّه القول بحذف
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فكان الأصل متردّدى مساجد الله منها.
ففيه نظر لانّ
المانع قد حال بينه وبين أن يذكر فيها ، وأيضا تقدير متردّدي وبناء يذكر للمفعول
غير مناسب ، كما لا يخفى على الذوق السليم.
وفي مجمع البيان
احتمال كون (أَنْ يُذْكَرَ) بدلا عن (مَساجِدَ اللهِ) بدل اشتمال كأنه يقول ليس أحد أظلم ممّن منع أن يذكر في
مساجد الله اسمه ، وهو ظاهر من اشتمال الظرف على المظروف مثل قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ) فكأنّ (يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ) يقوم مقام مفعولين ، أو يمنع لزوم مفعولين لمنع مطلقا
فتأمل.
ثمّ قد يحمل إنكار
وجود أظلم على المبالغة كما قد يشعر به كلام الكشاف حيث قال : هو حكم عامّ لجنس
مساجد الله ، وأنّ مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم وكأنّه غير لازم ، وقد يفرق
بين الثاني وبين الأوّل والثالث باحتمالهما ذلك لإطلاقهما وفيه أنّ المنع من الذكر
لا يكون إلا كراهة له ، فتأمل.
وعموم الحكم
بالنسبة إلى أيّ مسجد كان ، وأي ذكر قد يتأمل فيه أيضا قال الكشاف : فان قلت :
فكيف قيل مساجد الله ، وإنّما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد؟ قلت : لا بأس بأن
يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصّا كما تقول لمن آذى صالحا واحدا «ومن أظلم ممّن
آذى الصالحين» وكما قال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) والمنزول فيه الأخنس بن شريق انتهى .
__________________
وربما احتمل جمع
المساجد هنا أن يكون إشارة إلى أنّ المنع وإن كان من واحد ، إلّا أنه كمنع الجميع
كما في قتل النفس ، فيمكن اختصاصه بمثل المسجد الحرام ، أو بيت المقدس. لكن العموم
أنسب بإطلاق اللفظ والله أعلم.
ويقرب منه الذكر
ولا يبعد أن يراد به مطلق العبادة ، وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضا لأولئك
المانعين بأعيانهم.
(وَسَعى) أي عمل (فِي خَرابِها) الكشاف : بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان وكأنه أراد به
تفسير خرابها فالتخريب مصدر مجهول مضاف إلى المفعول ، قيل ونحوه قول القاضي بالهدم
أو التعطيل فتأمل.
أما كونه تفسيرا
للسعي في خرابها فموضع نظر ، لأنه أعمّ من ذلك ، اللهمّ إلّا أن يراد أو نحوهما ،
فإن «في» إن كان للسببيّة فهو كلّ ما يعمل لخرابها ، وإن كان بمعنى إلى فكلّ ما
ينتهى إلى خرابها ، أو كل ما يقصد به انتهاؤه إلى ذلك ، أما كونه للظرفية فبعده
ممّا لا يخفى ، والخراب ضدّ العمران لم يأت بمعنى التخريب ، والمرجع في خرابها إلى
العرف.
والآية تدلّ على
تحريم السعي فيه ونفس تخريبها أظهر أفراده تحريما وقيل إنّه يفهم بطريق أولى ، وقد
يجعل قوله (وَسَعى فِي خَرابِها) كالتعميم بعد التخصيص أو إيرادا لما تقدّم بعنوان آخر
توضيحا لقبحه وبيانا لشدّته ومبالغة في التفضيح والتشنيع ، فيفيد أنّ المنع من الذكر
سعى في خرابها.
وقد يشعر بأنّ في
المنع تخريبا وفي الذكر تعميرا ، بل بأنّ المنع تخريب والذكر تعمير ، وفي بعض
الروايات ما قد يؤيّده ، ولهذا قيل بوجوب شغلها بالذكر على الكفاية ، وإلّا لزم
التعطيل ، قال في الكنز : فكلّ ما يعدّ تخريبا فهو حرام ، فمنه هدم جدرانها وأخذ
فرشها وإطفاء السراج والإضواء فيها ، وشغلها بما ينافي العبادة وغير ذلك.
(أُولئِكَ) المانعون (ما كانَ) ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلّا خائفين على حال
التهيّب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا عن أن
يستولوا عليها ،
ويلوها ، ويمنعوا المؤمنين منها ، والمعنى ما كان الحقّ والواجب إلّا ذلك ، لو لا
ظلم الكفرة وعتوّهم.
وقيل : ما كان لهم
في حكم الله يعني أنّ الله قد حكم وكتب في اللّوح المحفوظ أنّه ينصر المؤمنين
ويقوّيهم حتّى لا يدخلوها إلّا خائفين ، كذا في الكشاف ، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة
واستخلاص المساجد منهم ، وقد أنجز سبحانه وعده.
أو ما كان ينبغي
لهم أن يدخلوها إلّا بخشية وخشوع فضلا عن أن يجترؤا على تخريبها ، فيستفاد استحباب
دخولها بالخشوع والخضوع والخشية من الله تعالى كما هو حال العبد الواقف بين يدي
سيّده كما قيل.
أو ما كان ينبغي
لهم أن يدخلوها بحسب حالهم من العتوّ والعصيان إلّا خائفين أن يصيبهم من الله عذاب
أليم لاستحقاقهم منه ذلك كما قال سبحانه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فيمكن أن يكون التتمّة كالبيان لذلك ، وفيها وعد للمسلمين
، وقيل معناه النهي عن تمكينهم من الدّخول في المساجد.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) قتل وسبى أو ذلّة بضرب الجزية ، وقيل : فتح مدائنهم
قسطنطينيّة وروميّة وعمّوريّة كذا في الكشاف وزاد الجوامع تقيد الفتح بعند قيام
المهديّ ، وقيل أي عذاب وهوان فيكون أعمّ ، وكأنّه لا بأس به والله أعلم وقد جعل
بعض على القول الأوّل في شأن النزول النفي بدل الذلّ بضرب الجزية فتأمل (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) في نار جهنّم نعوذ بالله منه.
وروي عن زيد بن على عن آبائه عليهمالسلام أنّ المراد بالمساجد في الآية بقاع الأرض لقوله صلىاللهعليهوآله «جعلت لي الأرض
مسجدا» فقيل ينافي ذلك قوله (وَسَعى فِي خَرابِها) وأجيب بأنه لا منافاة بأن يكون المراد الوعيد على خراب
الأرض بالظلم والجور كقوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً).
وقيل وإن أمكن ذلك
لكن كيف يصنع بقوله (أُولئِكَ ما كانَ
لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها) ومن هو في الأرض لا يقال دخلها إلّا مجازا ، والأصل عدمه ،
وفيه أنّ المراد بقاع
__________________
الأرض لا الأرض
مطلقا ، بل الظاهر دخول شيء منها فيصحّ القول بلا خدشة ، لكن الرواية مرفوعة غير
مشهورة ، ولا ريب في كونه خلاف الظاهر للاية ، فان الظاهر من مساجد الله لا أقلّ
خلاف ذلك ، ومع ذلك ينافي ظاهر ما روي في شأن النزول فتفكّر.
التوبة [١٧] (ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ).
أي ما كانوا أهل
ذلك ولا جاز لهم ، أو ما صحّ ولا استقام لهم ، والمراد ليس لهم عمارة شيء من مساجد
الله مطلقا ، فضلا عن المسجد الحرام ، وهو صدرها ومقدّمها ، وهذا أبلغ ، وقيل هو
المراد كما هو الظاهر على قراءة ابن كثير وأبى عمرو ويعقوب «مسجد الله» لقوله
تعالى فيما بعده (وَعِمارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وإنّما جمع لأنّها قبلة المساجد كلّها وإمامها ، فعامره
كعامر جميعها ، أو لأنّ كلّ بقعة منه مسجد.
(شاهِدِينَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.)
بإظهار كفرهم
فإنّهم نصبوا أصنامهم حول البيت وطافوا حول البيت عراة وسجدوا لها كلّما طافوا
شوطا ، وقيل : هو قولهم «لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك» عن
الحسن ، لم يقولوا نحن كفّار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر ، وقيل هي
اعترافهم بملّة من ملل الكفار كالنصراني بأنّه نصرانيّ.
وروي أنه لمّا أسر
العبّاس يوم بدر وبّخ علىّ عليهالسلام العبّاس بقتال رسول الله صلىاللهعليهوآله وقطيعة الرحم ، فقال العبّاس : تذكرون مساوينا وتكتمون
محاسننا ، فقال أولكم محاسن؟ قال : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة
، ونسقي الحجيج ، ونفكّ العاني : فنزلت ونصب شاهدين على الحال من الضمير في يعمروا.
(أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ.)
من القربات من
عمارة المساجد وغيرها ، وفي الكشاف والجوامع : الّتي هي العمارة والحجابة والسقاية
وفكّ العناة ، ونحوه في تفسير القاضي فتأمل فيه.
__________________
والظاهر أنّ
المراد أنّها وقعت باطلة وهو ظاهر القاضي وما في الكشاف يحتمل خلاف ذلك فتأمّل وفي
الآية دلالة على بطلان أعمال الكفّار وعدم صحّة شيء منها ، ويمكن أن يفهم جواز
منعهم من مثل العمارة ، وربّما قيل بأنّ فيه أمر بذلك فتدبر.
(وَفِي النَّارِ هُمْ
خالِدُونَ.)
(إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ.)
الحصر المفهوم من
إنّما إمّا إضافيّ بالنسبة إلى أولئك المشركين أو مطلق الكفرة ، فغير هؤلاء
الموصوفين بهذه الصفات من المسلمين في حكم المسكوت عنه ، فكأنّ هذه الأوصاف حينئذ
لتفخيم شأن عمارة مساجد الله ، وتعظيم عاملها ، وأنه ينبغي أن يكون على هذه
الأوصاف ، ولبيان مزيد بعد أولئك عن عملها ، ومزيد بيان بعدهم عن ذلك.
أو المراد عمارتها
حق العمارة الّتي لا يوفّق لها إلّا هؤلاء الموصوفين باعتبار قوّة أيمانهم وكمال
إخلاصهم ، كما قيل «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» وقد تقدّم في سبب النزول في
الآية المتقدمة أنّ المنزول فيهم ذكروا ذلك على التفخيم والتعظيم فخرا ومباهاة ،
فناسب مقام الردّ نفي أدناها أو جنسها عنهم وإثبات ما ادّعوا لأنفسهم أو أعظم منه
لمقابليهم من المؤمنين ، أو المراد بالخشية التقوى في أبواب الدّين وأن لا يختار
على رضا الله رضا غيره ، كما قال (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فيمكن أن يراد على حدّ ما يستلزم اجتناب الكبائر ، فيوافق
القول بأن فاعل الكبيرة غير مؤمن ، على اشتراط الايمان في قبول الأعمال فتأمل.
أو المراد أنه لا
يستقيم ولا يصحّ عمارة مساجد الله من أحد على طريق الولاية عليها إلّا ممّن كان
كذلك فان الظاهر أنّ أولئك المفتخرين أرادوا نحو ذلك ، وأنهم ولاة المسجد الحرام ،
وأنهم عامرون على ذلك ، فيختصّ بالنبيّ والأئمّة الطّاهرين
صلوات الله عليهم.
على أنّ الظاهر من
قوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا
اللهَ) عدم سبق الفسق ، بل ولا ذنب ، فكيف الكفر ، والله أعلم ،
وقيل إنّهم كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية.
(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.)
تبعيد للمشركين عن
مواقف الاهتداء وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم الّتي استعظموها وافتخروا بها
وأمّلوا عاقبتها ، بأن الّذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع ، مع
استشعار الخشية والتقوى اهتداؤهم دائر بين عسى ولعلّ ، فما بال المشركين يقطعون
أنّهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى.
وفي هذا الكلام
ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية ورفض الاغترار بالله كذا في الكشاف ، وإنّما
كان لطفا في ترجيح الخشية مع أنّ عسى هنا لترجيح الاهتداء باعتبار أنّه لو لا
رجحان الخشية على الرجاء كان ينبغي عند هذه الأعمال والاتّصاف بهذه الأوصاف القطع
بالاهتداء.
اعلم أنّ عسى يجوز أن يكون إشارة إلى حال المؤمنين ، وأنّهم مع ذلك في
دعواهم للهداية وعدّ نفوسهم من المهتدين على هذا الحال ، فما بال الكفّار يقطعون
لأنفسهم بالاهتداء.
ثمّ ذلك للمؤمنين
إمّا أن يكون لرجحان الخشية وقوّتها أو على سبيل التأدّب والتواضع لجناب ربّهم ،
أو نظرا منهم إلى مرتبة أعلى ودرجة أسنى ، أو إشارة إلى أنّ حالهم في الواقع على
ذلك بالنظر إلى الأوصاف المذكورة أى رجحان ذلك في حقّهم فان مجرّد ذلك في كلّ
مرتبة كان غير كاف في تمام الاهتداء والاختتام به ونيل ما عند الله من الدّرجات
العالية.
نعم عسى أن يكون
كذلك ولعلّ ، فلا ينبغي القطع لهم بمجرّد ذلك ، أو أنّ
__________________
ذلك من الله
سبحانه وهو واقع إلّا أنّه أتى بعسى ونحوه لطفا بالعباد ، وتنبيها لهم على عدم
القطع وعدم اليأس فليتأمل.
ثمّ في الآية من
الحثّ على تعمير المساجد وتعظيم شأنه ما لا يخفى ، وقيل المراد العمارة المعروفة
من بنائه ومرمّته عند الخراب أو إزالة ما تكره النفس منه مثل كنسها روي أنّ من كنس مسجدا يوم الخميس وليلة الجمعة فأخرج من
التّراب مقدار ما يذرّ في العين غفر الله له.
وتنويرها بالسّراج
روي أنّ من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش
يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوء ، وقيل : المراد شغلها بالعبادة مثل الصّلاة
والذكر وتلاوة القرآن قيل : وصيانتها من أعمال الدنيا واللهو واللغط وعمل الصنائع
، وظاهر القاضي والكشاف والجوامع : القول بالجميع ، وقد تقدّم ما يقتضي ذلك في
الجملة.
قالوا : ومن الذكر
درس العلم ، قالا بل هو أجلّه وأفضله وكذا صيانتها من أحاديث الدّنيا فضلا عن فضول
الحديث وفي الحديث «يأتي في آخر
الزّمان ناس من أمّتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدّنيا وحبّ الدّنيا
، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة».
وفيه أيضا : الحديث في المسجد تأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش
وفي الصّحيح عن عليّ الحسين عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من سمعتموه ينشد
__________________
الشعر في المساجد
فقولوا : فضّ الله فاك إنّما بنيت المساجد للقرآن.
في الكشاف وقال عليهالسلام قال الله إنّ بيوتي في أرضى المساجد ، وإنّ زوّاري فيها
عمّارها ، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي ، فحقّ على المزور أن يكرم
زائره.
وروى ابن بابويه بإسناده إلى عبد الله بن جعفر عن أبيه قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله قال الله تبارك وتعالى : ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد
تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ، ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته ،
ألا طوبى لعبد توضّأ ثمّ زارني في بيتي ، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر ، ألا
بشّر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيمة.
بحث الأذان :
المائدة [٥٧ ـ ٥٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أن توالوا أعداء الله فإنّ الايمان يقتضي معاداتهم والحذر
عن موالاتهم ، وقد رتّب الحكم على الوصف إيماء إلى العلّة ، وأنّ من هذا شأنه بعيد
من الموالاة جدير بالمعاداة ، وقيل : فيه إشعار بعدم جواز موالاة الفسّاق ،
ومعاشرتهم بحيث يشعر بالصداقة فافهم.
(وَإِذا نادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها) أي الصلاة أو المناداة (هُزُواً وَلَعِباً) فكيف يجوز موالاتهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ.)
فان السّفه يؤدّى
إلى الجهل بالحقّ والهزء به ، والعقل يمنع منه فيؤدّي إلى معرفة الحقّ واتّباعه
وتعظيمه.
__________________
في الكنز اتفق المفسّرون على أنّ المراد هنا بالنداء الأذان ، ففيه
دليل على أنّ الأذان والنداء إلى الصلاة مشروع بل مرغوب فيه من شعائر الإسلام ،
ويومئ إلى أنّ ما يشعر بالتهاون بشعار من شعائر الإسلام حرام لا يجوز ، ولا لعبا
بل كلّ ما يعدّ لعبا لا يجوز بالنسبة إلى شيء من أمور الدّين وأحكامه فكيف
الاستهزاء.
وربّما أشعر بأنّ
اتّخاذ نحو الصلاة والمناداة إليها هزوا ولعبا هو اتّخاذ الدّين كذلك ، وفيه تنبيه
أيضا على أنّه لا ينبغي أو لا يجوز موالاة المجانين والسّفهاء وأنّ دين الرّجل من
عقله وعلى قدر عقله.
قيل : كان رجل من
النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أنّ محمّدا رسول
الله ، قال حرق الكاذب ، فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم فتطايرت منها شرارة في
البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله ، وقيل فيه دليل على أنّ ثبوت الأذان بالكتاب
لا بالمنام. وفيه نظر ، نعم يدلّ على ما تقدّم ، وعلى أنه كان ثابتا.
__________________
النوع الخامس
في مقارنات الصلاة
وفيه آيات
الاولى (وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ.)
استدلّ به على وجوب
القيام ، وعلى وجوب النيّة ، وعلى وجوب القنوت ، وقد تقدّم البحث فيه في أوّل كتاب
الصّلاة.
الثّانية
والثّالثة (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ).
واستدلّ بهما على
وجوب تكبيرة الإحرام في الصلاة بأنّ ظاهرهما وجوب التكبير ، وليس في غير الصّلاة
فيجب أن يكون فيها وفيه تأمّل.
الرابعة [المزمل : ٢٠] (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ.)
أستعير الأدنى
للأقلّ بقليل مبالغة في قلّة التفاوت ، على أنّ الظاهر المتعارف التدرّج من القلّة
إلى الكثرة ، وقيل : للأقلّ لأنّ الأقرب إلى الشيء أقل بعدا منه.
(وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ) : قرئ بالنصب عطفا على أدنى وبالجرّ عطفا على ثلثي (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) عن ابن عباس : علىّ وأبو ذر ، والعطف على المستتر في (تَقُومُ) وجاز للفصل.
(وَاللهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) وتقديم اسمه يشعر بالاختصاص فالله هو يعلم مقادير ساعاتهما
(عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ) أي تقدير أوقاتهما وضبط ساعاتهما إلّا أن تأخذوا بالأوسع
للاحتياط ، وذلك شاقّ عليكم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر
__________________
كقوله (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ،
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) والمعنى أنه خفّف عنكم أو رفع التبعة في تركه عنكم كما
يرفع التبعة عن التائب.
(فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ :)
عبّر عن الصلاة
بالقراءة لأنها بعض أركانها كما عبّر عنها بالقيام والركوع والسجود
يريد فصلّوا ما تيسّر عليكم ، ولم يتعذر من صلاة الليل ، وقيل هي قراءة القرآن
بعينها كذا في الكشاف والقاضي والجوامع ، ويمكن أن يكون المراد القراءة في صلاة
اللّيل كما قيل ، وفيه : ثمّ اختلفوا في القدر الذي تضمّنه الأمر : عن سعيد ابن
جبير خمسون آية ، وعن ابن عباس مائة آية ، وعن السّدي مائتا آية.
والكشاف نقل مائة
قولا وخمسين قولا من غير ذكر اختلاف في القدر المتضمّن ، وكأنه أولى ، إذ عدم
التقدير أصلا أنسب بالاية ، ولهذا قال القاضي : فاقرؤا القرآن كيف ما تيسّر لكم ،
هذا ويمكن اختصاصه باللّيل كما قيل ، وعلى التقديرين يحتمل الاستحباب لأنّه يناسب
السياق ، والوجوب لظاهر الأمر حفظا للمعجزة وغيرها ، والله أعلم.
وبعد الحمل على
صلاة اللّيل ؛ في الكشاف وهذا ناسخ للأوّل ، ثمّ نسخا جميعا بالصلوات الخمس ،
والقاضي نقل هذا قولا فيفهم منه أنه يمكن أن يقال بالحمل على صلاة اللّيل من غير
نسخ ، وهو خلاف ما يأتي من الكنز.
(عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ
فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ.)
استيناف على تقدير
السؤال على وجه النسخ ، فذكر حكمة أخرى للترخيص والتخفيف ، ولذلك كرر الحكم مرتبا
عليها ، فقال (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) في المعالم قال
__________________
أهل التفسير : كان
في صدر الإسلام ثمّ نسخ بالصلوات الخمس ، وذلك قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فليتأمّل.
وفي الكنز إشارة إلى قوله (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وقوله (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) : دلّتا على وجوب قراءة شيء من القرآن ، فيصدق دليل هكذا :
قراءة شيء من القرآن واجب. ولا شيء من القرآن في غير الصلاة بواجب.
فيكون الوجوب في
الصلاة وهو المطلوب.
أما الصغرى فلصيغة
الأمر الدالّة على الوجوب ، وأما الكبرى فإجماعيّة ، ثمّ قال : وما ذكرناه قول
أكثر المفسّرين ، وقد قيل إنّ المراد بالقراءة الصلاة تسمية للشيء ببعض أجزائه ،
وعنى به صلاة اللّيل : ثمّ نسخ بالصلوات الخمس ، وقيل : الأمر في غير الصلاة فقيل
على الوجوب نظرا في المعجزة ووقوفا على دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وقيل : على
الاستحباب ، فقيل أقله في اليوم واللّيلة خمسون آية ، وقيل مائة ، وقيل : ثلث
القرآن انتهى.
وقوله «ما ذكرناه
قول أكثر المفسرين» فيه نظر ، إذ ليس في أكثر التفاسير المعتبرة فكيف يجوز ذلك نعم
في المعالم : فاقرؤا ما تيسّر من القرآن يعني في الصلاة قال الحسن :
يعني في صلاة المغرب والعشاء ، قال قيس بن أبى حازم : صلّيت خلف ابن عباس بالبصرة
فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثمّ قام في الثانية فقرأ بالحمد
والآية الثانية من البقرة ثمّ ركع ، فلما انصرف أقبل علينا فقال : إنّ الله عزوجل
__________________
يقول (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) انتهى.
وهذا غير كاف في
المقام ، وعن ابن عباس لم يثبت ، ويمكن قراءته على مناسبة ما فالاستدلال موضع نظر
وتأمل ، والظاهر أنّ المراد القراءة في صلاة اللّيل أو الصّلاة نفسها.
وفي المجمع : هو
قول أكثر المفسّرين كما أنّ المراد بقم اللّيل صلاة اللّيل بإجماع المفسّرين إلّا
أبا مسلم فإنّه قال المراد قراءة القرآن في اللّيل ، وكأنه يريد الإشارة إلى أنّ
من قال بأنّ قيام الليل هو صلاة اللّيل ينبغي أن يقول : المراد بالقراءة هنا صلاة
الليل ، فمن أين قول الأكثر بأنّ المراد قراءة القرآن ولو في الفريضة.
الحجّ [٧٧] (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا.)
أي صلّوا ، فأراد
بها الأمر بالصلاة الّتي هي أجلّ العبادات كما هو معتمد الكشاف والجوامع ، لأنّ
الركوع والسجود أعظم أركانها ، أو في الصلاة روى الشيخ في الموثق عن سماعة قال : سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن؟
فقال نعم قول الله عزوجل (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) الحديث والتتمّة نصّ في ركوع الصلاة وسجودها لكنّها طويلة.
وقيل كان النّاس
أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع
وسجود ، وفي تفسير القاضي : أو اخضعوا له وخرّوا لله سجدا.
اعلم أنّ الركوع
لغة الانحناء ، ويمكن أن يكنى به عن التواضع ، وشرعا انحناء خاصّ ، والسجود لغة
الخضوع وشرعا وضع الجبهة أو نحوها على الأرض أو نحوها ، فهذا الاحتمال حمل للأوّل
على غير حقيقته اللّغويّة والشرعيّة وكأنّه على مجازه اللغوي مع حمل قرينه على
حقيقته الشرعية مع استوائهما بحسب القرائن بالنّسبة إلى كلّ من المعنيين ، ففيه
بعد لا يخفى.
__________________
ثمّ قال القاضي :
والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسّجود ، ولقوله عليهالسلام فضّلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرءهما ، وهذا
يقتضي ترجيحه الاحتمال الثالث الذي اختصّ بذكره ، وقد عرفت ما فيه من البعد ، على
أنّ الأمر لا يقتضي الفور والتكرار ، وإطلاقه يقتضي تحققه لسجدة الصلاة وغيرها من
السجدات الواجبة ، وتحقّق الامتثال بها.
ثمّ إنّه يقرب من
الاحتمال المذكور أن يكون الرّكوع كناية عن الصلاة والسّجود على حقيقته الشرعيّة ،
فيوافقه في المقتضى أو اللغوية فيخالفه ، وأن يكون الرّكوع كما ذكره والسّجود
بمعنى الصّلاة فتأمل.
وفي الكشاف وعن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله في سورة الحجّ
سجدتان؟ قال : نعم إن لم تسجدهما فلا تقرءهما وعن عبد الله بن عمر : فضّلت سورة الحجّ
بسجدتين وبذلك احتج الشّافعيّ فرأى سجدتين في سورة الحجّ ، وأبو حنيفة وأصحابه لا
يرون فيها إلّا سجدة واحدة ، لأنّهم يقولون قرن السّجود بالرّكوع فدلّ ذلك على
أنّها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة انتهى.
وفي المعالم نسب القول بالسّجود عند الآية إلى جماعة منهم علىّ عليهالسلام وابن عباس وفي التذكرة أنهما سجدا لذلك فان صحّ فبطريق
الندب كما قال أصحابنا بدليل من خارج كالروايات.
(وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ) : قيل أمر بغير الصّلاة من سائر العبادات كالصّوم والحجّ
والزّكوة والغزو ، وقيل : بل أمر بسائرها حتّى الصّلاة أيضا ، وقيل معناه اقصدوا
بركوعكم وسجودكم وجه الله.
(وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ) : ثمّ عمّ بالحثّ على سائر الخيرات ، وعن ابن عباس :
__________________
الخير صلة الأرحام
ومكارم الأخلاق ، وقد يشعر كلام بعض المفسّرين بأن يكون المراد فعل غير العبادات
الواجبة كنوافل الطاعات ، وما تقدّم ، وربّما يحتمل أن يراد بالعبادة الصّلاة
فإنّها رأسها وأجلّها ، وبالرّكوع والسجود معناهما الظاهر ، أو التّواضع والخضوع ،
وهذا يأتي على عموم العبادة أيضا.
ويحتمل اختصاص
العبادة بالبدنيّة ونحوها ممّا لا يتعلق فيه الغرض بإيقاع الغير ، والخير بالمالية
ونحوها ممّا يتعلق فيه الغرض بالإيقاع ، والله اعلم.
(لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) : أي افعلوا هذا كلّه وأنتم راجون الفلاح طامعون فيه ، غير
مستيقنين فلا تتّكلوا على أعمالكم وقد تقدم تفصيل ذلك في قوله تعالى (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ).
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] ومثلها (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١]
فأحدث التسبيح
بذكر اسم ربّك أو أراد بالاسم الذكر أي بذكر ربّك ، والعظيم صفة للمضاف أو للمضاف
إليه. فكأنّه سبحانه لما ذكر ما دلّ على قدرته الكاملة وأنعامه الشاملة البالغة
على عباده ، قال : فأحدث التّسبيح ، وهو أن يقول سبحان الله إمّا تنزيها له عمّا
يقول الظالمون الّذين يجحدون وحدانيّته ، ويكفرون نعمته ، وإما تعجبا من أمرهم في
غمط الآية وأياديه الظاهرة ، وإمّا شكرا لله على النّعم الّتي عدّها ونبّه عليها
قاله في الكشاف.
وعن عقبة بن عامر قال لما نزل (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال النبيّ صلىاللهعليهوآله اجعلوها في ركوعكم ، ولمّا نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، قال اجعلوها في سجودكم رواه العامّة ، ورواه الشّيخ أيضا
في التهذيب مسندا .
__________________
وروي كذلك عن هشام
بن سالم قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التسبيح في الركوع والسّجود ، فقال تقول في الرّكوع
سبحان ربّى العظيم وفي السّجود سبحان ربّي الأعلى الفريضة من ذلك تسبيحة والسنّة
ثلاث ، والفضل في سبع.
وعن أبى بكر
الحضرميّ قال قلت لأبي جعفر عليهالسلام أيّ شيء حدّ الرّكوع والسّجود؟ قال تقول سبحان ربّى العظيم
وبحمده ثلاثا في الرّكوع ، وسبحان ربّي الأعلى وبحمده ثلاثا في السّجود ، فمن نقص
واحدة نقص ثلث صلاته ، ومن نقص اثنين نقص ثلثا صلاته ، ومن لم يسبّح فلا صلاة له ،
وقد قال بعض أصحابنا بوجوب هذين التسبيحين في الرّكوع والسّجود.
ويمكن ان يحتج له
بالآيتين بدلالتهما على وجوب التسبيح ، وليس في غير الموضعين ، فيجب فيهما ،
وإتمام ذلك بالروايات المذكورة ، أو بأن يكون المراد باسم ربّك العظيم كون التسبيح
معلّقا باسم الربّ مضافا إليه موصوفا بالعظيم ، فكأنه قال قل سبحان ربّي العظيم
كما روي في سبّح اسم ربّك الأعلى ، في الجمع : عن ابن
__________________
عباس كان النبيّ صلىاللهعليهوآله إذا قرء سبّح اسم ربّك الأعلى قال سبحان ربّي الأعلى.
وفي المعالم سبّح اسم ربّك الأعلى ، يعني قل سبحان ربّي الأعلى وإلى
هذا ذهب جماعة من الصحابة والتّابعين ، ثمّ بإسناده عن ابن عباس أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قرء سبّح اسم ربّك الأعلى ، فقال سبحان ربّي الأعلى ، لكن
في ذلك إشارة إلى مخرج عن تعيينهما في الرّكوع والسّجود فتأمل فيه.
وأكثر القائلين
منّا بتعيين التسبيح خيّروا بين هذين وبين سبحان الله ثلاثا ، وقد صحّت به روايات
عنهم عليهمالسلام ، والاحتجاج بالآية حينئذ أوضح على ما تقدّم من التفسير
بسبحان الله ، لكن اعتبار الثلاث بالروايات ، وقد ذهب جمع من الأصحاب إلى عدم
تعيين التسبيح ، وإجزاء كل ذكر يتضمّن الثّناء على الله تعالى لروايات دلّت عليه ،
والآية حينئذ إمّا محمولة على الاستحباب ، أو يراد بالتسبيح فيه نحو ذلك ، والأوفق
بلفظه أحبّ وأولى وأحوط كزيادة وبحمده كما لا يخفى.
هذا كلّه من غير
حكم بأنّ مراد الآية ذلك ، لعدم ثبوته ، واحتمال غير ذلك قال قوم في الآية الثانية
: معناه نزّه ربّك الأعلى ، وجعلوا الاسم صلة ، وقال آخرون نزّه تسمية ربّك بأن
تذكره وأنت له معظّم ، ولذكره محترم ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية وقال ابن عباس
أي صلّ بأمر ربّك كذا في المعالم.
وفي الكشاف تسبيح
اسمه عزوجل تنزيهه عما لا يليق من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه
كالجبر والتشبيه ونحو ذلك ، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الذي هو القهر
والاقتدار ، لا بمعنى العلوّ في المكان ، والاستواء على العرش حقيقة ، وأن يصان عن
الابتذال والذكر لأعلى وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ
والاسم انتهى.
هذا وقد وافق أحمد
على وجوب الذكر وقال الشافعيّ وأبو حنيفة باستحباب الذّكر المقدم ، وأنكر زيادة
وبحمده لأنّها زيادة لم تحفظ ، وتوقف أحمد مع أنّه
__________________
قد روي في طرقهم عن حذيفة عنه صلىاللهعليهوآله أنّه قال ذلك ، على أنّه زيادة ذكر لله ومزيد خير ، وفيه
زيادة ثناء مع ورود ذلك في آيات منها (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) كما تقدّمت ، وتقدّم أنّه إشارة إلى الصّلاة على قول جماعة
، فلو تضمّنت صريح ذلك كان أولى ، وإلّا فالأولى كونها على ما يتيقّن معه الامتثال
به ، وعلى كلّ حال هذه الزّيادة متواترة من طرق أهل البيت عليهمالسلام.
الجنّ [١٨] (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً.)
قيل : المراد
بالمساجد أعضاء السّجود السّبعة ، وقد روي عن أبى عبد الله عليهالسلام في رواية حمّاد المشهورة وعن أبى جعفر الثّاني محمّد بن علي الجواد عليهالسلام وفي الكنز :
وبه قال سعيد بن
جبير والزجّاج والفرّاء ويؤيّده قول رسول الله صلىاللهعليهوآله أمرت أن أسجد على سبعة آراب أي أعضاء ، والمعنى لا تشركوا
مع الله غيره في سجودكم عليها ، وقيل لا تراؤا أحدا بصلاتكم ، والأكثر على أنّها
المساجد المعروفة ، فالمعنى أنّها مختصّة بالله تعالى ، فلا تعبدوا فيها مع الله
غيره.
وعن قتادة كان
اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله فأمرنا
__________________
أن نخلّص لله
الدّعوة إذا دخلنا المساجد ، وقيل : يعنى بقاع الأرض كلّها لأنّها جعلت للنبيّ صلىاللهعليهوآله مسجدا ، وقيل : المراد بها المسجد الحرام لأنّه قبلة
المساجد ، ومنه قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) وقيل السجدات فهي جمع مسجد بالفتح مصدرا بمعنى السّجود.
بني إسرائيل [١١٠]
(وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً.)
في الكشاف لا تجهر بقراءة صلاتك على حذف المضاف ، ولا لبس من قبل أنّ
الجهر والمخافتة صفتان يعتقبان على الصوت لا غير ، والصّلاة أفعال وأذكار ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يرفع صوته بقراءته ، فاذا سمعه المشركون لغوا وسبّوا ،
فأمر بأن يحفض من صوته ، والمعنى ولا تجهر حتى تسمع المشركين ، ولا تخافت بها حتّى
لا تسمع من خلفك ، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا.
وفي المجمع أحد الأقوال أنّ معناه لا تجهر بإشاعة صلاتك عند من يؤذيك
، ولا تخافت بها عند من يلتمسها منك عن الحسن ، وروي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان إذا صلّى جهر في صلاته حتّى يسمع المشركون فشتموه
وآذوه فأمره سبحانه بترك الجهر ، وكان ذلك بمكّة في أوّل الأمر ، وبه قال سعيد بن
جبير ، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام.
هذا ، وظاهر قول
الحسن أنّ الجهر بها إظهارها من غير تقدير مضاف هو القراءة ، وإن كان بسببها كما
لا يخفى والرواية عنهما عليهماالسلام على ما أوردها لا يستلزم كون الجهر والإخفات على ما تضمّنه
قول الحسن أو الكشاف ، وإن كانت الرواية من طرقهم على وفق الكشاف.
__________________
ثمّ من الأقوال لا تجهر بصلاتك كلّها ولا تخافت بها كلّها ، وابتغ بين ذلك
سبيلا بأن تجهر في صلاة اللّيل وتخافت بصلاة النّهار ، وهذا مع كونه خلاف الظاهر
توجب الإجمال مع وضوح ظاهرها كما يأتي وأمّا المناقشة بأنّه يحتاج إلى كون صلاة
الصبح من صلاة اللّيل ، والتخصيص بالأوّلتين فسهل مندفع بأن يقال وابتغ بين ذلك
ذلك سبيلا أي التبعيض على ما بيّن في السنّة.
ومنها أنّ المراد
بالصلاة الدّعاء ، وهو أيضا خلاف الظاهر ، وينافي قوله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً) وفي موضع آخر (خِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) حتّى قيل : إنّها منسوخة بذلك والله أعلم.
ومنها أن يكون
خطابا لكلّ واحد من المكلّفين أو من باب إيّاك أعني واسمعي يا جاره أي لا تعلنها
إعلانا توهم الرياء ، ولا تسترها بحيث يظنّ بك تركها والتهاون بها.
ومنها لا تجهر
جهرا يشتغل به من يصلي بقربك ولا تخافت حتّى لا تسمع نفسك عن الجبائي ، وكأنّه
يريد بما يشغل القريب رفع الصوت بها شديدا كما هو ظاهر الآية ، والمرويّ من طرقنا
وقال به أصحابنا أنّ الجهر أن ترفع صوتك
__________________
شديدا والمخافتة
ما دون سمعك أي لم يسمعه إذنك (وَابْتَغِ بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً) أي بين المخافتة والجهر ، أو بين الجهر الشديد والمخافتة
جدا ، فلا يجوز الإفراط ولا التفريط ، ويجب الوسط والعدل ، لكن قد علم من السنّة
الشريفة اختيار بعض أفراد هذا الوسط في بعض الصلوات كالجهر غير العالي شديدا للرجل
في الصبح وأوليي المغرب والعشاء ، وكالإخفات لا جدّا بحيث يلحق بحديث النفس في
غيرها من الفرائض ، وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه نظر.
ثمّ لا يخفى أنّ
ما نسب إلى أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام لا ينافي ذلك.
الأحزاب [٥٦] (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.)
قرئ «وملائكته»
بالرفع أيضا عطفا على محلّ إنّ واسمها ، أو بحذف الخبر لدلالة يصلّون عليه ،
ثمّ المشهور أنّ الصّلاة من الله الرّحمة ومن غيره طلبها. في الكشاف في تفسير قوله
تعالى (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) لمّا كان من شأن المصلّى أن ينعطف في ركوعه وسجوده ،
أستعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه وترؤّفا كعائد المريض في انعطافه عليه ،
والمرأة في حنوها على ولدها ، ثمّ كثر حتّى استعمل في الرّحمة والترؤّف ، ومنه
قولهم : صلّى الله عليك ، أى ترحم عليك وترأّف.
__________________
فان قلت : فما
تصنع بقوله (وَمَلائِكَتُهُ) وما معنى صلاتهم؟ قلت : هي قولهم اللهمّ صلّ على المؤمنين
، جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة ، كأنّهم فاعلون الرّحمة ، أو الرأفة ، ونظيره قولك
حيّاك الله أي أحياك وأبقاك ، وحيّيتك أي دعوت لك بأن يحييك الله ، لأنّك لاتّكالك
على إجابة دعوتك ، كأنك تبقيه على الحقيقة ، وكذلك عمرك الله وعمّرتك وعليه قوله
تعالى (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ) الآية أي أدعو الله بأن يصلّي عليه.
ثمّ قال في تفسير
الآية أي قولوا الصلاة على الرّسول ، والسلام ومعناه الدّعاء بأن يترحم عليه الله
ويسلّم ، ونحو ذلك في الجوامع في قوله (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أمّا هنا فقال : صلاة الله سبحانه ما يفعله به من إعلاء
درجاته ورفع منازله وتعظيم شأنه ، وغير ذلك من أنواع كراماته ، وصلاة الملائكة
عليه مسئلتهم الله عزّ اسمه أن يفعل به مثل ذلك (صَلُّوا عَلَيْهِ) أي قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على
إبراهيم وآل إبراهيم انتهى.
وكأنه أورد هذا
القول على طريق التمثيل وإشارة إلى أنّ الأولى اتّباع المنقول فلا اختلاف والله
أعلم. والقاضي جعل الصلاة من الجميع بمعنى الاعتناء بإظهار شرفه وتعظيم شأنه ،
وكأنّه لكونه قدرا مشتركا بين الجميع وسببا للمعنى المشهور بالنّسبة إلى كلّ. وفي
الكنز الصلاة وإن كانت من الله الرّحمة فالمراد بها هنا هو الاعتناء بإظهار شرفه
ورفع شأنه ، ومن هنا قال بعضهم تشريف الله محمّدا صلىاللهعليهوآله بقوله (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) أبلغ من تشريف آدم بالسّجود له هذا.
وكأنّه لا نزاع
أنّه يراد هنا طلب الصلاة من الله سبحانه بالقول ، قال القاضي : اعتنوا أنتم أيضا
فإنّكم أولى بذلك ، وقولوا اللهمّ صلّ على محمّد ، وهو ظاهر الكنز أيضا.
إذا تقرّر ذلك
فظاهر الآية وجوب الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله في الجملة : في
__________________
الكشاف : الصلاة على رسول الله واجبة ، وقد اختلفوا في حال وجوبها
، فمنهم من أوجبها كلّما جرى ذكره وفي الحديث من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ فدخل النّار فأبعده الله.
ويروى أنّه قيل يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ) فقال صلىاللهعليهوآله هذا من العلم المكنون ، ولو لا أنّكم سألتموني عنه ما
أخبرتكم به ، إنّ الله وكل بي ملكين فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلّي علىّ إلّا قال
ذانك الملكان غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين ، ولا
اذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي علىّ إلّا قال ذانك الملكان لا غفر الله لك ، وقال
الله وملائكته لذينك الملكين آمين.
ومنهم من قال يجب
في كلّ مجلس مرّة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السّجدة وتسميت العاطس ، وكذلك في
كلّ دعاء في اوّله وآخره.
ومنهم من أوجبها
في العمر مرّة وكذا قال في إظهار الشهادتين ، والذي يقتضيه الاحتياط الصّلاة عند
كلّ ذكر لما ورد من الأخبار انتهى.
وفي الأخبار من
طرقنا أيضا كالأوّل واختاره في الكنز قال : ونقل عن ابن بابويه من أصحابنا واختاره الزّمخشريّ ،
وفيه نظر لا يخفى ، واستدلّ بالرّوايات المذكورة وبدلالة ذلك على التنويه لرفع
شأنه والشكر لإحسانه المأمور بهما ، وبأنه لولاه لكان كذكر بعضنا بعضا وهو منهيّ
عنه في آية النور ، وفي الكلّ نظر وفي المعتبر دعوى الإجماع على خلاف ذلك كما
يأتي.
__________________
وقال بعض مشايخنا
اديمت أيّامهم : يمكن اختيار الوجوب في كلّ مجلس مرّة إن صلّى آخرا وإن صلّى ثمّ
ذكر يجب أيضا كما في تعدّد الكفّارة بتعدّد الموجب إذا تخلّلت ، وإلّا فلا ،
والظاهر أنّه نظر إلى الروايات فان اعتبر ظاهرها فهو عند كلّ ذكر ، مع أنّه لا
يعلم بما قال قائل سواه ، وإلّا فالاستحباب أولى ، نعم هو أظهر فيها من الحمل على
كلّ مجلس مطلقا ، وكأنّه لا يريد أزيد من هذا.
ولا يبعد أن يقال
محلّ وجوبها الصلاة قال في المعتبر : أما الصلاة على النّبي صلىاللهعليهوآله فإنّها واجبة في التشهّدين ، وبه قال علماؤنا أجمع ، وقال
الشيخ هو ركن ، وبه قال أحمد ، وقال الشافعيّ : مستحبة في الأوّل وركن من الصّلاة
في الأخير ، وأنكر أبو حنيفة ذلك واستحبّهما في الموضعين ، وبه قال مالك ، لأنّ
النّبيّ صلىاللهعليهوآله لم يعلّمه الأعرابيّ ، ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال لعبد الله بن مسعود عقب ذكر الشّهادتين «فاذا قلت ذلك فقد تمّت صلاتك أو قضيت
صلاتك».
لنا ما رووه عن
عائشة قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : لا يقبل صلاة إلّا بطهور ، وبالصلاة علىّ ، ورووه
عن أنس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال إذا صلّى أحدكم
__________________
فليبدء بحمد الله
ثمّ ليصلّ على النبيّ ، ولأنّه لو لم يجب الصلاة عليه في التشهّد لزم أحد الأمرين
إما خروج الصلاة عليه عن الوجوب ، أو وجوبها في غير الصلاة ، ويلزم من الأوّل خروج
الأمر عن الوجوب ، ومن الثاني مخالفة الإجماع.
لا يقال ذهب الكرخيّ
إلى وجوبها في غير الصّلاة في العمر مرّة ، وقال الطحاويّ كلّما ذكر ، قلنا
الإجماع سبق الكرخيّ والطحاويّ ، فلا عبرة بتخريجهما ، وقول أبي حنيفة لم يعلّمه
الأعرابيّ ، قلنا يحمل على أنّه لم يكن ، ثمّ تجدد الوجوب لأنّ ما ذكرناه زيادة
تضمّنها الحديث الصحيح عندهم ، فيكون العمل به أرجح ، ولأنّ التمام قد يحمل على
المقاربة أو بمعنى أنها تمّت مع أفعالها الباقية الّتي من جملتها الصلاة عليه.
ومن طريق الأصحاب
ما رواه أبو بصير عن أبى عبد الله عليهالسلام قال من صلّى ولم يصلّ على النّبي وتركه عامدا فلا صلاة له
، وأما قول الشيخ إنها ركن ، فإن عنى الوجوب والبطلان بتركها عمدا فهو صواب ، وإن
عنى ما نفسّر به الرّكن فلا.
ثمّ قال في
الاستدلال على وجوب الصلاة على آله صلىاللهعليهوآله : لنا ما رواه كعب بن عجرة قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول في صلاته اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت
على إبراهيم إنّك حميد مجيد ، فيجب متابعته لقوله صلىاللهعليهوآله «صلّوا كما
رأيتموني أصلّي» وحديث جابر الجعفيّ عن أبى جعفر عن ابن مسعود الأنصاري
__________________
قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : من صلّى صلاة ولم يصلّ فيها علىّ وعلى أهل بيتي لم تقبل
منه انتهى.
وتلخيص الكلام أنّ
ظاهر الآية الوجوب في الجملة ، وليس في غير الصلاة للأصل ، وعدم الدليل ، وشهرته
حتّى ادّعى بعض أكابر العلماء الإجماع عليه ، فليكن في الصلاة ، مؤيدا بما دلّ
عليه من الأخبار والإجماع فافهم.
ثمّ في الكشاف : فان قلت فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت : القياس جواز
الصّلاة على كلّ مؤمن ، لقوله (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) وقوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقوله عليهالسلام «اللهمّ صلّ على
آل أبي أوفى».
ولكن للعلماء
تفصيلا في ذلك ، وهو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك صلّى الله على النّبي
وآله ، فلا كلام فيها ، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ،
فمكروه لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول الله ، ولأنّه يؤدّى إلى الاتّهام بالرفض ،
وقال رسول الله من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التّهم انتهى.
__________________
ولا يخفى أنّ ما
ذكره من الكتاب والسنّة نصّ في الباب يفيد القطع في المقام ، ويقتضي الجواز مطلقا
بل الانفراد بخصوصه ، فلا مجال للتفصيل ، ومثل ذلك قوله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا
أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) فإنه إذا ثبت لهم ذلك من الله سبحانه ، جاز القول أو
الدّعاء لهم بذلك ، فلا ينبغي جعل ذلك شعارا لذكره صلىاللهعليهوآله بمنع ذلك عند ذكر غيره صلىاللهعليهوآله ممّن يستأهل ذلك ، ولا بتركه ، ولا جعل هذا مانعا من ذلك ،
كيف ولا وجه للحكم بكراهة ما ثبت بالكتاب والسنّة الترغيب فيه والتحريص عليه و ـ الأمر
به.
على أن كون أهل
بيته عليهمالسلام في حال الانفراد في ذلك مثله صلىاللهعليهوآله ممّا لا قصور فيه ، بل فيه مزيد تعظيم له ، فان ذلك لأنّهم
أهل بيته صلىاللهعليهوآله وأقرب النّاس إليه وأمسّهم به نسبا وشرفا وحثّنا هو صلىاللهعليهوآله على مودّتهم وتعظيم شأنهم ، وإنّما صار ذلك شعارا للرفضة
لترك غيرهم ذلك بغير وجه ، مع فعلهم اتّباعا للكتاب والسنّة كما في كثير من الأصول
والفروع ، فان كان تداولهم بشيء من الأعمال الدينيّة موجبا لتركه أو كراهته عندهم
، لزمهم ذلك في جميع العبادات.
وبالجملة ما ثبت
شرعا من حكم لا ينبغي فيه الذّهاب إلى خلافه ، ولا ترك مقتضاه بسبب أنّ جماعة من
المسلمين يتداولونه ، فان ذلك عناد وتعصّب ، نعوذ بالله منه ، وقد وقع لهم من ذلك
كثير كتسنيم القبور والتختّم بالشّمال وغير ذلك.
وأمّا قوله (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي انقادوا له في الأمور كلّها وأطيعوه ، أو سلموا عليه بأن
تقولوا السلام عليك يا رسول الله ، ونحو ذلك ، وربّما رجح هذا بمقارنته بالصلاة ،
وقد يحمل على المعنيين معا ، وعلى التقديرين فيه دلالة على وجوب السلام في الجملة
فهو إما في ضمن التسليم المخرج من الصلاة كما قيل واستدلّ به عليه على قياس
الصّلاة ، أو بقول السّلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته قبل التسليم
المخرج كما في الكنز ، والاستدلال على نحو ما تقدّم ، مع أنّ الظاهر التسليم على
النّبي فلا يشمل نحو التسليم المخرج ، أو ذلك شيء كان في حال حياته
كما احتمله شيخنا
مع احتمال الاستحباب مطلقا ، أو مؤكّدا في الصّلاة ، والله أعلم.
ثمّ ذيّل سبحانه
الأمر بالصلاة عليه والسلام بالوعيد الشّديد على أذاه صلىاللهعليهوآله فقال (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً).
عن عليّ عليهالسلام حدّثني رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو آخذ بشعره فقال من آذى شعرة منك فقد آذاني ومن آذاني
فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله ، وينبّه على شدّة قبح ذلك أيضا حرمة
الأذى ووضوح قبحه بالنّسبة إلى كلّ مؤمن ومؤمنة بغير ما يوجب استحقاق ذلك ،
المدلول عليه بقوله (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ولما لم يكن أذى الله ورسوله إلّا بغير حقّ لم يقيّد كما
قيّد هنا.
ثمّ قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) بالقبول والإثابة عليها ، أو بالتوفيق للمجيء بها صالحة
مرضيّة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) وفيه تنبيه بأنّ حفظ اللّسان وسداد القول رأس كلّ خير.
النوع السادس
في المندوبات ـ وفيه آيات
الاولى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] قيل
: إنّ أناسا كانوا يصلّون وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيّه أن يصلّي وينحر لله
عزوجل ، أي فصلّ لوجه ربّك إذا صلّيت لا لغيره ، وانحر لوجهه
وباسمه إذا نحرت مخالفا أعمالهم في العبادة والنحر لغيره كالأوثان ، وقيل : هي
صلاة الفجر بجمع والنحر بمنى ، وقيل : صلاة العيد فيكون دليلا على وجوبها ، و
__________________
الشّرائط مستفاد
من السنّة الشّريفة ، وقد يؤيّده (وَانْحَرْ) على تقدير أنّ المراد به نحر الإبل كما قيل ، ويمكن أن
يعمّ الذّبح فيشمل الشّاة وغيرها ، والمراد الهدي الواجب كما في المعالم أو الأضحيّة كما في الكشاف.
وحينئذ فيمكن
اختصاص الوجوب به عليهالسلام للإجماع المنقول على عدم وجوبها على أمّته ، بل الظاهر
أنّها سنّة مؤكّدة للأخبار المذكورة في موضعها.
وفي الدروس : وروى الصّدوق خبرين بوجوبها على الواجد ، وأخذ ابن
الجنيد بهما ، وقيل : صلّ صلاة الفرض لربّك ، واستقبل القبلة بنحرك من قول العرب
منازلنا تتناحر : أي تتقابل ، كذا في الجمع ونقل شيخنا هذا القول على أن المراد الصّلاة مطلقا ، وروى الشّيخ في
الصّحيح عن حمّاد عن حريز عن رجل عن أبى جعفر عليهالسلام قال قلت له فصلّ لربّك وانحر ، قال : النحر الاعتدال في
القيام أن يقيم صلبه ونحره ، وكأنّ هذا معنى آخر.
في الكشاف : نحر
الدّار الدار كمنع استقبلتها ، والرّجل في الصّلاة انتصب ونهد صدره ، أو وضع يمينه
على شماله ، أو انتصب بنحره إزاء القبلة.
__________________
هذا وقد روى
العامّة عن عليّ عليهالسلام أنّ معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر ، وهو غير
صحيح عنه ، بل عترته الطّاهرة مجمعون على خلاف ذلك.
وقيل : إنّ معناه
ارفع يديك في الصّلاة بالتّكبير إلى محاذاة النّحر أي نحر الصدر وهو أعلاه ، وهو
الذي يقتضيه روايات عن أهل البيت عليهمالسلام كرواية عمر بن يزيد قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ) هو رفع يديك حذاء وجهك.
ورواية عبد الله
بن سنان عنه عليهالسلام مثله ، ورواية جميل : قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : فصلّ لربّك وانحر ، فقال بيده هكذا يعني استقبل بيديه
حذو وجهه القبلة في افتتاح الصّلاة.
ورواية حمّاد بن
عثمان قال : سألت الصادق عليهالسلام ما النحر؟ فرفع يديه إلى صدره فقال : هكذا ثمّ رفعهما فوق
ذلك ، فقال هكذا ، يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصّلاة.
ورواية مقاتل بن
حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : لمّا نزلت هذه السّورة قال النبيّ صلىاللهعليهوآله لجبرئيل ما هذه النّحيرة الّتي أمرني ربّي؟ قال : ليست
بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا عزمت للصّلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت ، وإذا ركعت ، وإذا
رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنّه صلاتنا وصلاة
__________________
الملائكة في
السّموات السّبع ، فان لكلّ شيء زينة وإنّ زينة الصّلاة رفع الأيدي على كلّ
تكبيرة.
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله رفع الأيدي من الاستكانة ، قلت : وما الاستكانة؟ قال : ألا
تقرء هذه الآية (فَمَا اسْتَكانُوا
لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أورد هذا الثعلبيّ والواحديّ في تفسيريهما.
فالظاهر أنّ
المراد رفع اليدين بالتكبير فيها حذاء النّحر ، بحيث يقع الأصابع أو بعض الكفّ
أيضا حذاء الوجه ، وهو على هيئة النّاظر إلى موضع سجوده ، فيرتفع اختلاف الروايات
باعتبار الوجه والصدر.
وقد ينبّه عليه
رواية زرارة عن أحدهما عليهماالسلام قال : ترفع يديك في افتتاح الصّلاة قبالة وجهك ولا ترفعهما
كلّ ذلك ، وصحيحة معاوية بن عمّار قال : رأيت
__________________
أبا عبد الله عليهالسلام حين افتتح الصّلاة يرفع يديه أسفل من وجهه قليلا ، وصحيحة
صفوان بن مهران قال : رأيت أبا عبد الله عليهالسلام إذا كبّر في الصّلاة يرفع يديه حتّى يكاد تبلغ أذنيه.
أو أقلّ ذلك بلوغ
محاذاة النّحر أو إلى النحر وغايته أن لا يتجاوز أذنيه كما تنبّه عليه حسنة زرارة عن أبى جعفر عليهالسلام قال إذا قمت في الصّلاة فكبّرت فارفع يديك ولا تجاوز
بكفّيك أذنيك أي حيال خدّيك.
وفي صحاح العامّة أنّه صلىاللهعليهوآله رفع يديه حتّى كانتا بحيال منكبيه ، وحاذى إبهاميه أذنيه ،
ثمّ كبّر ، وقال في رواية أخرى : حتّى رأيت إبهاميه قريبا من أذنيه ، فكلّ ذلك لا
ينافي كون يديه حيال منكبيه ، وهما مثل النّحر في رواياتنا.
على أنّه لا مانع
أن يراد رفع اليدين فوق النحر إذا كان مقتضى الرّوايات ذلك ، والله اعلم.
ثمّ ظاهر الأمر
الوجوب كما ذهب إليه المرتضى قدّس الله روحه ، مستدلّا بإجماع الفرقة ، وفعل
النبيّ والأئمّة عليهمالسلام ، ومداومتهم ، وفي بعض الأخبار المعتبرة الأمر به أيضا ،
ورواية عبد الله بن سنان المتقدّمة أوردها الشّيخ في التهذيب في سند صحيح أيضا ، لكنّ المشهور بين الأصحاب الاستحباب ، ويقتضيه
الأصل و
__________________
الشهرة ، وقد
يؤيّده الاحتمالات في هذه الآية ، ونفي الوجوب عن غير الإمام في بعض الروايات
الصحيحة مع عدم قائل ظاهرا بهذا الفرق ، إلّا على كونه مؤكّدا في حقّ الامام ،
فمقتضى الوجوب ظاهرا يحمل على شدّة الاستحباب.
روى علىّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليهالسلام قال : قال : على الامام أن يرفع يده في الصّلاة ، وليس على
غيره أن يرفع يده في الصّلاة.
قال الشّيخ رحمهالله : المعنى في هذا الخبر أنّ فعل الإمام أكثر فضلا وأشدّ
تأكيدا من فعل المأموم وإن كان فعل المأموم أيضا فيه فضل ، وكأنّه يريد المأموم
مثلا. وكان الأولى غير الامام ، وأيّد أيضا بعدم نقل حمّاد رفع اليد في بعض
تكبيرات الصّلاة كتكبير السّجود ، مع أنّ المقام للتعليم ، وبدلالة رواية مقاتل على أنّه من زينة الصّلاة وأنّه من التضرع والخضوع فيها ،
ومعلوم عدم وجوبهما ، فإنّهما زائدتان على الأصل ، وباحتمال أن يكون مراد السيّد
أيضا بالوجوب الاستحباب ، فإنّه قد يطلق ذلك عليه ، ويؤيده أنّه لم ينقل عنه وجوب
التّكبير صريحا.
ويبعد وجوب الرّفع
مع عدم وجوب التكبير وجعل الرفع شرطا ، ولهذا قال الشهيد كأنّه قائل بوجوب
التّكبير أيضا ، إذ لا معنى لوجوب الكيفيّة مع استحباب الأصل فليتأمل.
وأجيب عن حجج
السيّد بمنع الإجماع ، وعلى الرّجحان مسلّم والمفاد الاستحباب ، وكذا مفاد فعل
النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ومداومتهم ، وغايته تأكيد الاستحباب والأمر كثيرا ما يجيء
للاستحباب أيضا هذا. ولا يخفى أنّ أكثر هذه الرّوايات في تكبير الافتتاح ، فلو كان
قول بالوجوب فيها وحدها لتوجّه ، ومقتضى الاحتياط لا يخفى وأمّا الصّلاة حينئذ
فظاهر البعض أنها أعمّ من الفرض والنفل ،
__________________
لكن اختصاص الفرض
بمقصود الآية غير بعيد ، سيّما لو حمل على الوجوب ولو في الاستفتاح ثمّ الاحتياط
في حقّ الإمام أولى كما لا يخفى.
النحل [٩٨] (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.)
لما ذكر العمل
الصالح وتوعّد عليه جزيل الثواب ، بقوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وصل به قوله هذا إيذانا بأنّ الاستعاذة ـ كقراءة القرآن ـ عندها
من جملة الأعمال الصّالحة الّتي يجزل الله عليها الثّواب.
والمعنى إذا أردت
قراءة القرآن فاستعذ كقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وقوله «إذا أكلت فسمّ الله» فعبّر عن إرادة الفعل بلفظ
الفعل ، لأنه يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قويّ
وملابسة ظاهرة مع ظهور المراد وتبادره عرفا وشرعا كما يدلّ عليه إجماعنا ورواياتنا
ورواياتهم بل إجماعهم أيضا.
وعن عبد الله بن
مسعود قرأت على رسول الله صلىاللهعليهوآله فقلت أعوذ بالسّميع العليم من الشّيطان الرّجيم ، فقال يا
بن أمّ عبد ، قل : أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ، هكذا أقرأنيه جبرئيل عليهالسلام عن القلم عن اللوح المحفوظ وعن أبي سعيد الخدريّ أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يقول قبل القراءة أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم وهو ظاهر لفظ القرآن والمشهور بين الأصحاب ، وبه قال أبو
حنيفة والشّافعيّ وفي
__________________
المجمع والاستعاذة استدفاع الأذى بالأعلى على وجه الخضوع والتذلّل
، وتأويله استعذ بالله من وسوسة الشّيطان عند قراءتك لتسلم في التّلاوة من الزّلل
، وفي التأويل من الخطل.
والاستعاذة عند
التّلاوة مستحبّة غير واجبة بلا خلاف ، في الصّلاة وخارج الصّلاة فالظّاهر أنّ
الحمل على الاستحباب إجماع وهو ظاهر كلام الأصحاب أيضا حتى ظاهر بعضها كون ذلك في
صلاته ، فيبعد الوجوب مختصّا به عليهالسلام أيضا مع قرب الأمر من الاستحباب وكثرته فيه إلّا أنّ
الظّاهر حينئذ كان استحبابها في أول قراءة كلّ ركعة كما هو أحد قولي الشّافعيّ
للعموم ظاهرا عرفا لا قياسا كما في تفسير البيضاوي.
لكنّ الأخبار من
طرقنا وطرقهم ، وما نقل من أوصاف صلاة النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام متّفقة على عدمها إلّا في الرّكعة الأولى في الجملة ،
وربّما أيّد ذلك بأنّ الصّلاة كالفعل الواحد ، وتوجيه ذلك أنّ القراءة فيها
كالواحدة لارتباط بعضها ببعض ، وقصد الكلّ في ضمن الصّلاة وتخلّل الأذكار ،
والأدعية غير قادحة كما في غير الصّلاة في الجملة فتأمّل.
قال في الذّكرى :
وللشّيخ أبي عليّ ابن الشّيخ أبي جعفر الطّوسي قول بوجوب الاستعاذة للأمر به ، وهو
غريب ، لأنّ الأمر هنا للندب بالاتّفاق ، وقد نقل فيه والده في الخلاف الإجماع
منّا ، وقد روى الكلينيّ بإسناده إلى فرات بن أحنف
__________________
عن أبي جعفر عليهالسلام قال : مفتاح كلّ كتاب نزل من السّماء (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فإذا قرأت (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فلا تبال أن لا تستعيذ ، فإذا قرأت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) سترتك فيما بين السّماء والأرض انتهى.
وقيل المنقول عنه
وجوبها في الرّكعة الأولى قبل الحمد فقط ، فكأنّه نظر إلى أنّ ظاهره الوجوب مطلقا
، ولم يقل به أحد ، ويبعد وجوب الاستعاذة بمجرّد إرادة القراءة المندوبة ، إذ له
أن يرجع عنها فكيف الاستعاذة ، ولهذا لا يجب الغسل والوضوء لما يتوقف عليهما إلّا
أن يكون واجبا ، فيخصّ بأوّل الرّكعة الاولى وهو بعيد جدّا ، لأنّ إرادة الرّكعة
الاولى من الفريضة بعيد لا يفهم ، ولا قرينة أصلا فلا يمكن إرادة الله تعالى ذلك ،
مع أنّه لم يذهب إليه سواه أحد ولا يوافقه ما نقل في وصف صلاة النبيّ والأئمّة عليهمالسلام حتّى حمّاد لم يذكر الاستعاذة في صفة صلاة الصّادق عليهالسلام فالحمل على الاستحباب وإن كان مجازا متعيّن لما تقدّم.
المزمّل [١ ـ ٢] (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً.)
المزّمّل المتزمّل
، وهو الذي تزمّل في ثيابه أي تلفّف بها ، أدغم التّاء في الزاء لقرب المخرج كما
هو المشهور ، وقرئ على الأصل ، والمزمّل بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها على أنّه اسم فاعل أو مفعول من زمّله غيره ، أو زمّل نفسه.
فقيل : وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله نائما باللّيل متزمّلا في قطيفة فنبّه ونودي بما تهجن إليه
الحالة الّتي كان عليها من استعداده للاشتغال في النّوم كما يفعل من
__________________
لا يهمّه أمر ولا
يعنيه شأن ، فأمر بان يختار على الهجوع التّهجّد وعلى التزمّل التشمّر للعبادة
والمجاهدة في الله ، لا جرم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد تشمّر لذلك وطائفة من أصحابه حقّ التشمّر ، وأقبلوا على
إحياء لياليهم ، ورفضوا الرّقاد والدّعة وجاهدوا فيه حتّى انتفخت أقدامهم واصفرّت
ألوانهم ، وترامي أمرهم إلى حدّ رحمهم ربّهم ، فخفّف عنهم بما يأتي في آخر
السّورة.
وقيل : كان متزمّلا في مرط لعائشة يصلّي ، فهو على هذا ليس بتهجين ،
بل هو ثناء وتحسين لحاله الّتي كان عليها.
وقيل : دخل على
خديجة وقد جئت فرقا أوّل ما أتاه جبرئيل ، وبوادره ترعد فقال : زمّلوني ، فبينا هو
على ذلك إذ ناداه جبرئيل فقال : يا أيّها المزمّل.
وعن عكرمة أنّ
المعنى : يا أيّها الذي زمّل أمرا عظيما أي حمّله ، والزمل الحمل ، وازدمله احتمله
، وقرئ «قم اللّيل» بضمّ الميم وفتحها فقيل : الغرض بهذه الحركة التبلّغ بها هربا
من التقاء السّاكنين ، فبأيّ الحركات تحرّك فقد وقع الغرض .
(نِصْفَهُ) لا يبعد أن يكون بدلا من اللّيل المستثنى منه (قَلِيلاً) أي ما بقي بعد الاستثناء ، ورجوع ضمير «منه» و «عليه» إلى
قيام ذلك أو إلى (نِصْفَهُ) بتقدير واضح ، والمعنى أيضا كذلك ، لا يقال فحينئذ يلغو
الاستثناء ، فإنّه ينبغي حينئذ أن يقال : قم نصف اللّيل أو قم اللّيل نصفه ، إذ
يمكن أن يكون إشارة إلى نوع توسعة وأنّ النّصف تقريب كما هو أوفق بما تقدّم من
قوله سبحانه (إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) نصبا وجرّا.
على أنّه لا يبعد
أن يكون المراد التوسعة والتخيير بين النصف والأقلّ والأكثر
__________________
مطلقا ، أو إشارة
إلى أنّ النّصف الذي هو وقت القيام ، أكثر بركة وأقوى شرفا حتّى كأنّه أكثر بحيث
إذا قام فيه قام اللّيل إلّا قليلا ، أو أنّه إذا قام نصف اللّيل كأنّه قام اللّيل
كلّه إلّا قليلا.
أو الاستثناء
إشارة إلى وقت النّوم والاستراحة من النّصف الآخر دون ما صرف منه في صلاة المغرب
والعشاء وتوابعهما ، فكأنّه مستثنى عقلا ، أو أنّ ما يقع فيه القيام من حيث القيام
فيه كأنّه أكثر.
على أنّه لو كانت
القلّة بالنّسبة إلى أعداد اللّيل كما قيل ويأتي ، لم يلزم هنا لغو أصلا.
هذا كله إذا رجع
ضمير (نِصْفَهُ) إلى اللّيل المطلق ، أما إذا رجع إلى الباقي بعد الاستثناء
أعني المبدل ، كان المأمور بقيامه أقلّ من النصف ، والنقصان والزيادة منه وعليه ،
والتخيير قريب على الأول ، وربّما كان القليل المستثنى عبارة عما يصرف في العشائين
ونحو ذلك من أول الليل والله أعلم.
أو يكون بدلا عن
قليلا وضمير منه وعليه لليل المستثنى منه النّصف ، أو لقيامه ، والحاصل قم نصف
اللّيل أو أقلّ أو أكثر ، والاستثناء لا يلغو لما تقدّم.
(أَوِ انْقُصْ. أَوْ
زِدْ) عطف على (قُمِ) على التقديرين فليتأمّل ، وعلى الأخير يمكن أن يرجع ضمير
منه وعليه إلى نصفه أو قليلا ، والمعنى حينئذ قم اللّيل إلّا نصفه أو أنقص منه ،
أو أزيد ، ف (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) إشارة إلى قيام أكثر من النّصف ، و (أَوْ زِدْ) إلى قيام أقلّ من النّصف ، ولا يبعد أن يكون ما نقل في
مجمع البيان والجمع عن الصادق عليهالسلام القليل النّصف أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل
قليلا ، إشارة إلى ذلك ، ويمكن كونه إشارة إلى كل واحد من الأوّلين لكن على خلاف
الظّاهر.
ويمكن كونه إشارة
إلى ما ذكره الكشاف بقوله «ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا ، وفسّرته به ، أن تجعل
قليلا الثّاني بمعنى نصف النّصف ، وهو الرّبع ، كأنّه
__________________
قيل أو انقص منه
قليلا نصفه ، ويجعل المزيد على هذا القليل اعنى الربع نصف الربع كأنّه قيل أو زد
عليه قليلا نصفه ، قال : ويجوز ان تجعل الزّيادة لكونها مطلقة تتمّة الثلث ، فيكون
تخييرا بين النصف والثلث والرّبع».
ولا يخفى أنّ
الأظهر أن تكون الزّيادة على النّصف المأمور بقيامه كالنّقصان كما هو ظاهر قوله :
فيكون تخييرا. فلو جعل تتمّة الثلثين أو ما بين النصف إلى الثلثين لكان أظهر وانسب
بقوله (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) كما لا يخفى ولو جعل فيما قبله أيضا كذلك لكان كذلك وكون الثلثين أقلّ من ثلاثة أرباع كما يقتضيه
جعله القليل نصف المزيد عليه والمنقوص منه لا يمنع ذلك مع عدم لزومه كما لا يخفى.
ويمكن اعتبار
الزّيادة والنقيصة بالنّسبة إلى القليل والنصف البدل عنه على هذا النّسق ، فيكون
التّخيير بين النّصف والثلاثة الأرباع والرّبع ، ويأتي احتمال الثّلث في الرّبع
كما تقدم ، ويمكن اعتبار الزّيادة بالنّسبة إلى الباقي بعد النقصان و
إلى النقصان ،
وهذا أولى بكلام الكشّاف ، لو لا قوله فيكون تخييرا إلخ كما لا يخفى ، بل أوفق
بالرّواية أيضا فتأمل.
وفي تفسير القاضي (وَنِصْفَهُ) بدل من اللّيل ، والاستثناء من النّصف ، والضّمير في «منه»
«وعليه» للأقلّ من النّصف كالثلث ، فيكون التّخيير بينه وبين الأقلّ منه كالرّبع ،
والأكثر منه كالنّصف أو للنصف والتّخيير بين أن يقوم أقلّ منه على البتّ وأن يختار
أحد الأمرين من الأقلّ والأكثر ، أو الاستثناء من أعداد الليل ، فإنّه عامّ
والتّخيير بين قيام النّصف والنّاقص عنه والزّائد عليه.
هذا والأوّلان في
الكشاف أيضا ، وكون الاستثناء من نصفه مع اتّصاله باللّيل وتقدّمه على نصفه ، وكون
نصفه بدلا من اللّيل وحده مع توسّط الاستثناء خلاف الظّاهر ، بعيد جدّا عن فصاحة
كلام الله سبحانه.
ويلزم على الثّاني
كون أو انقص منه لغوا ، لأنّه بعينه معنى قم نصف اللّيل إلّا قليلا ، والعذر بأنّ
الترديد بين الشيء على البتّ وبينه وبين غيره على التخيير
__________________
كما قالوا ، أو
بأنّ (انْقُصْ) لمناسبة (أَوْ زِدْ) كما في مجمع البيان بعيد غير لائق أيضا قيل خصوصا الثّاني
، فإنّ مرجعه إلى التخيير بينهما فليتأمل.
ولا يخفى أنّ
القليل في الاستثناء وغيره ليس له حدّ معين ، فكأنّه لا يحصل من استثناء القليل
ثمّ اعتبار نقصان قليل من ذلك ، معنى مشخّص محدود ، فيبعد الترديد على هذا الوجه
كما في الأوّل ، ولهذا قيل : عليه يلزم كون الاستثناء لغوا ، وقيل على الثّالث :
إرادة القليل من اللّيالي ـ وهي ليالي القدر والمرض ـ من الاستثناء بعيد لعدم ظهور
كون اللّيل للاستغراق وعدم الاحتياج إلى الاستثناء ، وللاحتياج إلى التكلّف في
الاستثناء والبدل ، وفي أو انقص أو زد فليتأمل فيه.
والأمر بالقيام
باللّيل للصّلاة أو القيام باللّيل كناية عن الصلاة باللّيل كما في مجمع البيان
قال : المراد بقم الليل صلاة الليل بإجماع المفسّرين إلّا أبا مسلم ، فإنّه قال :
المراد قراءة القرآن في الليل.
في الكشاف : فان
قلت : أكان القيام فرضا أم نفلا؟ قلت : عن عائشة أنّ الله جعله تطوّعا بعد أن كان
فريضة ، وقيل : كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بهنّ ، إلّا ما
تطوّعوا به. وعن الحسن كان قيام ثلث الليل فريضة وكانوا على ذلك سنة ، وقيل : كان
واجبا وإنّما وقع التّخيير في المقدار ثمّ نسخ بعد عشر سنين ، وعن الكلبيّ كان
الرّجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النّصف والثّلث والثّلاثين.
ومنهم من قال كان
نفلا بدليل التّخيير في المقدار ، ولقوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) انتهى وتقدّم عن المعالم أنّه كان واجبا على النّبي صلىاللهعليهوآله والأمة ثمّ نسخ
الوجوب في حقّ الأمّة دونه صلىاللهعليهوآله فبقي مستحبّا عليهم واجبا عليه عليهالسلام.
وعن قتادة نسخ
الوجوب في حقّه أيضا وقد سبق عن الراونديّ عن ابن عبّاس وأبي عبد الله عليهالسلام أنّها فرضت على النّبي صلىاللهعليهوآله ولم تفرض على غيره ، فلا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى
وجوب صلاة الليل عليه صلىاللهعليهوآله كقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً) أي زيادة «لك» على باقي الفرائض ، مخصوصة بك دون أمّتك على
ما
قيل ، ويكون
المراد بالتّرخيص المفهوم من آخر السّورة التّخفيف في الوقت لا إسقاط الصّلاة
بالكلّية.
ويمكن كونه إشارة
إلى النّسخ عنه ومساواته للغير في الاستحباب مع التخفيف في الوقت عن الجميع ، مع
احتمال النّسخ عن الجميع ، أو الأمّة وحدها ، لكن مع بعد لقوله (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) خصوصا على ما روي أنّ المراد بالطّائفة عليّ وأبو ذرّ مع
ما تقدّم عن ابن عبّاس وأبي عبد الله عليهالسلام وموافقته للأصل ، وعدم ثبوت الوجوب على غيره صلىاللهعليهوآله فتأمّل.
وترتيل القرآن
قراءته على ترسّل وتؤدة ، بتبيين الحروف ، وإشباع الحركات حتّى يجيء المتلوّ منه
شبيها بالثغر المرتّل وهو المفلّج ، وأن لا يهذّه هذّا حتّى يشبه المتلوّ في
تتابعه الثغر الألصّ.
عن أمير المؤمنين عليهالسلام : بيّنه تبيانا ولا تهذّه هذّ الشّعر ، ولا تنثره نثر
الرّمل ، ولكن أفزع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السّورة وعن ابن
عبّاس لأن أقرء البقرة أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرء القرآن كلّه.
وعن الصّادق عليهالسلام في التّرتيل هو أن تتمكّث فيه ، وتحسّن به صوتك ، وقال : إذا
مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل الله الجنّة ، وإذا مررت بآية فيها ذكر النّار
فتعوّذ بالله من النّار .
وفي المعالم عن
أبي ذرّ قال : قام النبيّ صلىاللهعليهوآله حتّى أصبح بآية ، والآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ).
عن عائشة أنّها
سئلت عن قراءة النّبيّ صلىاللهعليهوآله فقالت لا كسردكم هذا ، لو أراد السّامع أن يعدّ حروفه
لعدّها.
و (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنّه ممّا لا بدّ للقارئ منه ،
بل للمصلّي بل في صلاة اللّيل ، على أنّ المراد بقم اللّيل الأمر بصلاة اللّيل ،
وبرتّل ترتيل القراءة فيها ، أو في اللّيل على أنّ المراد زائدا عن الصّلاة ، أو
على قول أبي مسلم أنّ القيام للقراءة في اللّيل ، أو مطلقا ، وفيهما بعد ، والأخير
أبعد لقوله فيما بعد (إِنَّ ناشِئَةَ)
__________________
الآية روي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : يقال لصاحب القرآن : اقرء وارق ، ورتّل كما كنت
ترتّل في الدّنيا ، فان منزلتك عند آخر آية تقرأها .
(إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً.)
هذه الآية اعتراض
، ويعني بالقول الثّقيل القرآن ، وما فيه من الأوامر والنواهي الّتي هي تكاليف
شاقّة ثقيلة على المكلّفين ، خاصّة على رسول الله صلىاللهعليهوآله لانّه متحمّلها بنفسه ، ومحمّلها لأمّته ، فهي أثقل عليه
وأبهظ له فيحتاج في ضبط ذلك وتأديته إلى قيام الليل.
وأراد بهذا
الاعتراض أنّ ما كلّفه من قيام اللّيل من جملة التّكاليف الثقيلة الصّعبة الّتي
ورد بها القرآن ، لانّ اللّيل وقت السّبات والرّاحة ، فلا بدّ لمن أحياه من مضادّة
لطبعه ومجاهدة لنفسه ، وقيل نزوله أو تلقّيه.
عن ابن عبّاس :
كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربّد له جلده ، وعن عائشة رأيته ينزل عليه
الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وانّ جبينه ليرفض عرقا وعن الحسن : ثقيل في الميزان ، وقيل ثقيل على المنافقين ،
وقيل كلام له وزن ورجحان ، فيحتاج الى مزيد تدبّر وتأمّل ووقت لائق بذلك ، فلا بدّ
من قيام الليل.
(إِنَّ ناشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً.)
ناشئة اللّيل :
النفس النّاشئة باللّيل الّتي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي تنهض وترتفع ، من
نشأت السحابة : إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه إذا نهض.
أو قيام اللّيل ،
على أنّ الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض ، ويدلّ عليه ما صحّ عن أبي عبد الله عليهالسلام هي قيام الرّجل عن فراشه لا يريد به إلّا الله ، وما روي
عن عبيد بن عمير قلت لعائشة : رجل قام من أوّل اللّيل أتقولين له قام ناشئة من
اللّيل
__________________
قالت : لا ، إنّما
النّاشئة القيام بعد النّوم ، أو العبادة الّتي تنشأ باللّيل أي تحدث وترتفع.
وقيل هي ساعات
اللّيل كلّها ، لأنّها تحدث واحدة بعد اخرى ، وقيل السّاعات الأول منها ، من نشأت
إذا ابتدأت عن عكرمة ، وعن الحسن كلّ صلاة بعد العشاء فهي ناشئة في اللّيل ، هي
خاصة دون ناشئة النهار.
وعن عليّ بن
الحسين عليهالسلام أنّه كان يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول أما سمعتم قول
الله تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ
اللَّيْلِ) هذه ناشئة اللّيل ، ولم يثبت ، ولو ثبت فلعلّه ليس معناه
اختصاص النّاشئة بالسّاعات الأول ، بل هي مطلق السّاعات أو القيام في مطلقها كما
هو قول الأكثر.
لكن في المعالم
بعد أن قدّم عن ابن عباس أنّ اللّيل كلّه ناشئة : وقال ابن عباس كانت صلاتهم أوّل اللّيل
هي أشدّ وطأ يقول هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام ، وذلك انّ
الإنسان إذا نام لم يعرف متى يستيقظ ، ورواه عنه أبو داود في صحيحه ، وقوله عليهالسلام ناظر الى ذلك فليتأمّل فيه.
(أَشَدُّ وَطْئاً) اي مواطاة يواطئ قلبها لسانها إن أردت النفس ، أو يواطئ
فيها قلب القائم لسانه إن أردت القيام أو العبادة أو السّاعات ، أو أشدّ موافقة
لما يراد من العبادة والخشوع والإخلاص ، ويؤيّده ما تقدّم عن أبي عبد الله عليهالسلام ، وعن الحسن أشدّ موافقة بين السرّ والعلانية ، لانقطاع
رؤية الخلائق ، وقرئ «أشدّ وطأ» بالفتح والسكون والمعنى أشدّ ثبات قدم وأبعد من الزّلل ، أو أثقل ، وأغلظ
على المصلّي من صلاة النّهار ، من قوله عليهالسلام «اشدد وطأتك على
مضر».
(وَأَقْوَمُ قِيلاً) وأسدّ مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات ، وعن أنس أنّه قرأ
وأصوب قيلا ، وقال إنّهما واحد.
(إِنَّ لَكَ فِي
النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً.)
__________________
سبحا : تصرّفا
وتقلّبا في مهمّاتك وشواغلك ، فلا تفرغ كما ينبغي لعبادتك ومناجاة ربّك الّتي
تقتضي فراغ البال إلّا باللّيل ، فاجعله لذلك لتفوز بخير الدّنيا والآخرة ، وقيل :
فراغا وسعة لنومك وتصرّفك في حوائجك ، وهو مرويّ عنهم عليهمالسلام وقيل إن فاتك من اللّيل شيء فلك في النّهار فراغ تقدر على
تداركه فيه ، وأما القراءة بالخاء فاستعارة من سبخ الصّوف وهو نفشه ونشر أجزائه لانتشار
الهمّ ، وتفرّق القلب بالشّواغل.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، وأحرص عليه ، وذكر الله
يتناول كلّ ما كان من ذكر طيّب : تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة
قرآن ودراسة علم وغير ذلك ممّا كان رسول الله استغرق به ساعات ليله ونهاره كذا في
الكشاف ، وقريب منه في تفسير القاضي والجوامع ، وقد استدلّ به على وجوب البسملة.
وقيل : المراد به
الدّعاء بذكر أسمائه الحسنى كما في قوله (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ويستدلّ بذلك على جواز الدّعاء في جميع الحالات ، وفي
الصلاة للدّين والدّنيا ، ولإخوانه المؤمنين ، ولشخص بعينه ، قال في الكنز : وليس
بعيدا من الصواب لعموم قوله (وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ) الآية وكلّ ذلك موضع تأمّل كما لا يخفى.
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً) وانقطع إليه ، وقال تبتيلا لأنّ معنى تبتّل بتّل نفسه ، فجيء
به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل ، روى محمّد بن مسلم وحمران بن أعين عن الصّادق عليهالسلام أنّ التبتّل هنا رفع اليدين في الصّلاة ، وفي رواية أبي
بصير قال : هو رفع يديك إلى الله وتضرّعك إليه ، ويمكن أن يكون ذلك علامة للانقطاع
إليه
__________________
الذي هو معنى
التبتيل ، ودليلا عليه فيستحبّ فتأمّل.
ثمّ يمكن حينئذ أن
يكون المراد بالذكر الذّكر في قيام اللّيل فتفكر.
(إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ
أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ.)
قد تقدّم في بحث
القراءة ما يتعلّق بذلك ، وأنّه ناسخ لما دلّ عليه أوّل السّورة من تحديد الوقت أو
وجوب القيام وصلاة اللّيل عنه صلىاللهعليهوآله فقط ، لعدم الوجوب على غيره ، أو عنهم جميعا للوجوب عليهم
أيضا أو عنهم فقط لبقاء ذلك عليه ، وأنّ المراد بالقراءة صلاة اللّيل قال في
المجمع : هو قول أكثر المفسّرين كما أنّ المراد بقم اللّيل صلاة اللّيل بإجماع
المفسّرين إلّا أبا مسلم ، فإنّه قال المراد قراءة القرآن في الليل.
ولا يخفى ما في
هذا التّخفيف من التّرغيب والتّحريص على فعل ما تيسّر ، حتّى لو لا الإجماع أمكن
القول بالوجوب بذلك كما قيل ، حملا على القراءة في الفريضة ، فلا ينبغي ترك صلاة
اللّيل بالكلّية ، ولا النقصان من ثلاثة عشر ركعة المشهورة مع التيسّر ، ويفهم عدم
سقوطها سفرا ولا مرضا ، وقد يفهم من الأخبار أيضا بل الإجماع أيضا.
وكذا قراءة القرآن
على ما قيل ، فإنّ قراءة القرآن مع ما تقدم فيها فضل عظيم ، خصوصا في اللّيل ، ويدلّ
عليها أخبار العامّة والخاصّة ، وقيل واجبة كفاية للحفظ في الصدر لبقاء الأحكام
والمعجزة وأدلّة أصول الدّين ، فلا يبعد حمل الآية عليه ، وفيه نظر كما قيل ،
للزوم كون القيود لغوا فتأمّل ، وقد قدّمنا أنّ القائلين بأنّ المراد قراءة القرآن
فيهم من حدّه بخمسين آية ، ومن حدّه بمائة ، ومن حدّه بمائتين ، والذي ينبغي أن
يكون المراد حينئذ ما يصدق عليه ما تيسّر ، وكلّما زاد كان أحسن ، وما ورد من
المقدار محمول على تأكيد فضله.
روي عن الصّادق عليهالسلام أنّه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من قرأ عشر آيات في ليل لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ
خمسين آية كتب من الذّاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي
آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة
آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من برّ ، والقنطار خمسة عشر
مثقالا من الذّهب ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل أحد ، وأكبرها ما
بين السماء والأرض.
وقال الصادق عليهالسلام من قرأ في المصحف متّع ببصره ، وخفّف عن والديه ، ولو كانا
كافرين.
ثمّ ينبغي القراءة
من المصحف وإن كان حافظا :
عنه عليهالسلام يرفعه إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله : ليس شيء أشدّ على الشّيطان من القراءة في المصحف نظرا ،
وعنه عليهالسلام أنّه قال لاسحاق بن عمّار : اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل ، أما علمت أنّ النظر في
المصحف عبادة ، وعنه عليهالسلام يقدّم لقارئ القرآن بكلّ حرف يقرأ في الصّلاة قائماً مائة
حسنة ، وقاعدا خمسون حسنة ، ومتطهّرا في غير الصّلاة خمس وعشرون حسنة ، وغير
متطهّر عشر حسنات. أما إنّي لا أقول المرحرف ، بل له بالألف عشر ، وباللام عشر ،
وبالميم عشر ، وبالرّاء عشر ، وفيه دلالة على أنّ الصّلاة قائماً أفضل حتّى
الوتيرة ، فلا تغفل ، والروايات في فضل قراءة القرآن وشرائطها كثيرة مذكورة في
موضعها ، وينبغي أن يكون على الترتيل كما تقدّم.
__________________
قوله (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ظاهر أنّ فضل الله أعمّ من المال والعلم والثّواب وغيرها
فيدخل فيه السّفر للتجارة وتحصيل المال ، ولتحصيل العلم والحجّ والزيارات ، وصلة
الرّحم ونحوها ، وقد ورد من طرق العامّة والخاصّة روايات في الحثّ على التّجارة
مذكورة في موضعها.
نقل عن ابن مسعود أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا
محتسبا فباعه بسعر يومه ، كان عند الله بمنزلة الشّهداء ثمّ قرأ (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ) الآية.
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) المفروضة ، وقيل هو النّاسخ لهذا الترخيص النّاسخ للأوّل
وفيه نظر. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة ، وقيل زكاة الفطر لأنّه لم تكن زكاة بمكّة ،
وإنّما وجبت بعد ذلك ، ومن فسّرها بالزّكاة الواجبة جعل آخر السّورة مدنيّا.
(وَأَقْرِضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) على وجه حسن معروف خال عن الأذى والمنّة والرّياء مثلا ،
ويجوز أن يراد به سائر الصدقات ، وأن يراد أداء الزّكوة على أحسن وجه من أطيب
المال وأعوده على الفقراء ، ومراعاة النيّة ، وابتغاء وجه الله ، والصّرف إلى
المستحقّ ، وأن يراد كلّ شيء يفعل من الخير ممّا يتعلّق بالنّفس والمال ، وروى
سماعة عنه عليهالسلام أنّ المراد به غير الزّكوة.
(وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) ما موصولة تضمّن معنى الشّرط مبتدأ مع صلته ، و «تجدوه»
خبره بمنزلة الجزاء ، والهاء مفعوله الأوّل ، و «عند» ظرفه «وخيرا» مفعوله الثّاني
و «هو» فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين ، لأنّ «أفعل من» أشبه المعرفة في امتناعه
من حرف التعريف ، فالمعنى خيرا ممّا تؤخّرونه إلى وقت الوصيّة كما روي أنّ عنبسة
العابد قال : قلت
__________________
لأبي عبد الله عليهالسلام : أوصني ، فقال أعدّ جهازك ، وقدّم زادك ، وكن وصىّ نفسك ،
ولا تقل لغيرك يبعث إليك بما يصلحك.
أو خيرا من مطلق
ما يترك إنفاقه أو فعله من القربات والطّاعات ، وربّما احتمل مضمون (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فكلّ ما قدّم وعجّل ، كان خيرا وأعظم أجرا ، وقيل بجواز
كون هو تأكيدا وبدلا وصفة ، وفيه أنّه يلزم تأكيد المنصوب بالمرفوع أو بدليّته عنه
أو وصفه به ، على أنّ المشهور أنّ الضّمير لا يوصف ولا يوصف به.
نعم ربّما جاز كون
عند الله ظرفا للمفعول الأوّل بتقدير حاصلا ونحوه وحينئذ فربّما جاز كون هو تأكيدا
أو بدلا من الضّمير فيه ، أو صفة باعتبار متعلّقه ، حيث هو من أوصافه وأحواله ،
لكن لا يخفى ما في الكلّ من التعسّف.
ويجوز أن يكون عند
الله مفعولا ثانيا وهو على نحو ما ذكر وخيرا وأعظم حالان أو تميزان ، أو الثّاني
عطف تفسير مع نوع تأمّل فليتدبر.
وأعظم عطف على
خيرا وأجرا تميز عن نسبة تجدوه عند الله أي خيرا وأعظم ، أو عن نسبته إلى أعظم ،
وقرأ أبو السماك هو خير وأعظم أجرا على الابتداء والخبر ، فيكون عند الله مفعوله
الثّاني ، والجملة حالية أو مستأنفة.
(وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ) في مجامع الأحوال ، إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ، والأكثر
من تفاحش فيه ، وظاهر الأمر وجوب الاستغفار ووجهه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) ستّار لذنوبكم ، عفوّ عنكم ، كثير الرّحمة بكم ، عظيم
الترحّم عليكم ، فدلّت على وجوب الاستغفار ومشروعيّته دائما وإن لم يعلم بذنب ،
فكذا التّوبة لما ثبت أنّ الاستغفار من غير ندامة ورجوع إليه غير نافعة ، وعلى
قبول التّوبة أيضا.
والذاريات
[١٥ ـ ١٩]
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ.)
قابلين جميع ذلك
راضين به ، يعني أنّه ليس فيما آتاهم إلّا ما هو متلقّى بالقبول ، مرضىّ ، لأنّ
جميعه حسن طيّب.
(إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ.)
أحسنوا أعمالهم.
وما بعد ذلك تفسير لإحسانهم.
(كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.)
ما مزيدة والمعنى
كانوا يهجعون في طائفة قليلة من اللّيل ، إن جعلت قليلا ظرفا ولك أن تجعله صفة
للمصدر أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا قاله الكشاف ، لكن اتّصال قليلا بمن اللّيل ،
مع تقدّمهما يأبى ذلك ظاهرا ، فان المتبادر كون القليل من اللّيل ، وإن أمكن كون
من بمعنى الباء كالباء بمعنى من في قوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ) أي منها ، فتدبّر.
أو ما مصدريّة أو
موصولة على «كانوا قليلا من اللّيل هجوعهم» أو «ما يهجعون فيه» وارتفاعه بقليلا
على الفاعليّة ، وفيه مبالغات : لفظ الهجوع وهو من النّوم ، وقوله قليلا ، ومن
اللّيل ، لأنّ اللّيل وقت السّبات والرّاحة وزيادة ما المؤكّدة كذلك.
وصفهم بأنّهم
يحيون اللّيل متهجّدين فاذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنّهم أسلفوا في ليلهم
الجرائم ، وقوله «هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»
فيه أنّهم هم
المستغفرون الأحقّاء بالاستغفار دون المصرّين ، أو كأنّهم المختصّون به لاستدامتهم
له ، أو إطنابهم فيه.
فان قلت : هل يجوز
أن تكون ما نافية كما قال بعضهم وأن يكون المعنى أنّهم لا يهجعون من اللّيل قليلا
ويحيونه كلّه؟ قلت لا ، لأنّ ما النّافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، تقول زيدا
لم أضرب ، ولا تقول زيدا ما ضربت كذا في الكشاف .
وفي الحسن عن
محمّد بن مسلم أنّه سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن الآية ، فقال : كانوا أقلّ اللّيالي تفوتهم لا يقومون
فيها ، وهو يحتمل ما تقدّم ، أي أقلّ أجزاء
__________________
لياليهم تفوتهم لا
يقومون فيها ، كما قيل في الآية من أنّ معناها قلّ ليلة أتت عليهم إلّا صلّوا فيها
، أي في قليل من اللّيالي ينامون فلا يصلّون ، وذلك لأنّ المراد حالهم في لياليهم.
وفي المعالم : ووقف بعضهم على قوله (قَلِيلاً) أي كانوا من النّاس قليلا ، ثمّ ابتدأ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) وجعله جحدا أي لا ينامون باللّيل ، بل يقومون للصّلاة
والعبادة ، وهو قول الضحّاك ومقاتل ، هذا ولا يخفى أنّه يمكن كون «ما» حينئذ زائدة
أو موصولة أو مصدرية كما تقدّم ، ولا يتعين حمله على النّفي كما نقل ، هذا.
وعن الكلبيّ
ومجاهد ومقاتل (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) يصلّون وذلك أنّ صلاتهم لطلب المغفرة ، وقيل الاستغفار في
الوتر ، والظاهر الإطلاق كما تقدّم وخصّ الاستغفار بالسّحر مطلقا ومقيّدا في الأخبار
كثيرا ، لمزيد الاهتمام بالاستغفار وشرف الوقت ، واستعداد الشّخص فيه غالبا.
وفي عدّة الدّاعي
في أشرف الأوقات ، وأما الثّلث الأخير فمتواتر ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إذا كان آخر اللّيل يقول الله سبحانه : هل من داع فأجيبه؟
هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟
وروى إبراهيم بن
أبي محمود قال : قلت للرضا عليهالسلام : ما تقول في الحديث الذي يرويه النّاس عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إنّ الله تبارك وتعالى ينزل في كلّ ليلة إلى السّماء
الدّنيا؟ فقال عليهالسلام : لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه ، والله ما قال رسول
الله كذلك إنّما قال : إنّ الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السّماء الدّنيا في
كلّ ليلة في الثّلث الأخير ، وليلة الجمعة في أوّل اللّيل ، فيأمره فينادي هل من
سائل فأعطيه سؤله؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب
__________________
الخير أقبل يا
طالب الشرّ أقصر! فلا يزال ينادي حتّى يطلع الفجر فاذا طلع عاد إلى محلّه من ملكوت
السّماء ، حدّثني بذلك أبي عن جدّي عن آبائه عن رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وفي الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله من ختم له بقيام اللّيل ثمّ مات فله الجنّة وأنّه جاء رجل إلى عليّ عليهالسلام فقال : إنّي قد حرمت صلاة اللّيل ، فقال له : أنت رجل قد
قيّدتك ذنوبك.
(وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السّائل الذي يستجدى ، والمحروم الذي يحسب غنيّا فيحرم
الصدقة لتعفّفه ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان ، والتمرة
والتمرتان. قالوا : فما هو؟ قال الذي لا يجد ولا يتصدّق عليه ، وقيل : الذي لا
ينمو له مال ، وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب ، ويأتي تمام الكلام فيه في
الزّكوة إن شاء الله تعالى.
الم
السجدة [١٥ ـ ١٧] (إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجافى) : ترتفع وتتنحّى (جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضاجِعِ.)
أى الفرش ومواضع
النّوم والاضطجاع (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أى داعين إيّاه خوفا من سخطه وطمعا في رحمته.
المشهور أنّهم
المتهجّدون الّذين يقومون لصلاة اللّيل ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام وفي رواية عن الصّادق عليهالسلام : ما من عمل حسن يعمله العبد إلّا وله ثواب في القرآن إلّا
صلاة اللّيل ، فان الله لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها فقال (تَتَجافى) إلى (يَعْمَلُونَ).
__________________
وعن بلال عن النبيّ صلىاللهعليهوآله عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصّالحين قبلكم وإنّ قيام
الليل قربة إلى الله تعالى ، ومنهاة عن الإثم ، وتكفير السيئات ، ومطردة للدّاء عن
الجسد.
وعنه عليهالسلام شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزّه كفّ الأذى عن النّاس.
وعن أنس بن مالك : كان أناس من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فنزلت
فيهم ، وقيل : هم الّذين يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها ، هذه رواية الترمذيّ
والأولى رواية أبي داود كلاهما عن أنس.
وقيل هم الّذين
يصلّون العشاء والفجر في جماعة ، في المعالم روّينا أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : من صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليله ، ومن
صلّى الفجر في جماعة كان كقيام ليله.
وفي تفسير القاضي : وعنه عليهالسلام إذا جمع الله الأوّلين والآخرين جاء مناد ينادى يسمع
الخلائق كلّهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم؟ ثمّ يرجع فينادي : ليقم
الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع! فيقومون وهم قليل ، ثمّ يرجع فينادي : ليقم
الّذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضرّاء ، فيقومون وهم قليل ، فيروحون جميعا
إلى الجنّة ، ثمّ يحاسب سائر الناس.
__________________
(وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في الله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
قرئ «ما اخفي لهم»
على البناء للمفعول ، ما أخفى لهم على البناء للفاعل وهو الله سبحانه «ما اخفي لهم» و «ما يخفى لهم» و «ما
أخفيت» الثلاثة للمتكلّم وهو الله سبحانه ، وما بمعنى الذي أو بمعنى أيّ شيء ،
وقرئ من «قرّاة أعين» لاختلاف أجناسها والمعنى : لا تعلم النّفوس كلّهنّ ، ولا
نفس واحدة منهنّ ، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، أىّ نوع عظيم من الثّواب ادّخر
الله سبحانه لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه لا يعلمه إلّا هو ممّا تقرّ به عيونهم ،
ولا مزيد على هذه العدّة ، ولا مطمح وراءها.
__________________
ثمّ قال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.)
فحسم أطماع
المتمنّين ، وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ،
ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطّلعكهم عليه ، أقروا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
وعن الحسن أخفى القوم أعمالا في الدّنيا فأخفى الله لهم ما لا عين
رأت ولا اذن سمعت ، وارتباط تتجافى بأنّما يؤمن ربّما أومأ إلى الوجوب ، إذ كأنّه
مما لا ينفكّ عن الايمان ، فتأمّل.
__________________
النوع السابع
في أحكام متعددة يتعلق بالصلاة
وفيه آيات :
الاولى
النساء [٨٥] (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً.)
أصل تحيّة تحيية ، نقلت كسرة الياء إلى ما قبلها وأدغم الياء في الياء
ويعدّى بتضعيف العين ، وإنّما قال بتحيّة بالباء ، لأنّه لم يرد به المصدر ، بل
أراد بنوع من أنواع التحايا ، والتنوين فيها للنوعيّة ، واشتقاقها من الحيوة ،
لأنّ المسلّم إذا قال : سلام عليكم ، فقد دعا للمخاطب بالسّلامة من كلّ مكروه ،
والموت من أشدّ المكاره ، فدخل تحت الدّعاء ، واعلم أنّه لم يرد بحيّيتم سلام
عليكم ، بل كلّ تحيّة وبرّ وإحسان ، ويؤيّده ما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن
الصّادق عليهالسلام أنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام وغيره من البرّ كذا
في الكنز .
والذي يظهر من
اللّغة وأكثر التّفاسير المعتبرة أنّ المراد بالتحيّة المتعارفة بين المسلمين أعني
السلام بعد رفع ما كان في الجاهليّة حتّى روى النّهي عن ذلك مثل أنعم صباحا ،
وأنعم الله بك عينا ، واشتهر أنّ تحية الإسلام هو السّلام ، في القاموس : التحية
السلام وفي مجمع البيان : اللغة التحيّة السلام يقال حيّ يحيي تحيّة : إذا سلّم ثمّ قال :
المعنى أمر تعالى المسلمين بردّ السلام ثمّ طوّل جاريا عليه إلى أن نقل ما تقدّم
عن عليّ بن إبراهيم ، ورجع إلى نحو ما تقدّم ، والكشاف بنى على
__________________
السلام وجرى عليه
، وكذا الجمع وفي المعالم : التحيّة دعاء الحيوة ، والمراد بها هنا السّلام عليكم ،
وفي تفسير القاضي الجمهور على أنّه في السلام ثمّ جرى عليه إلى أن قال :
والتحيّة في الأصل مصدر حيّاك الله على الاخبار من الحياة ، ثمّ استعمل للحكم
والدّعاء بذلك ، ثمّ قيل لكلّ دعاء فغلّب في السّلام ، وقيل المراد بالتّحيّة
العطيّة ، وأوجب الثّواب أو الردّ على المتّهب ، وهو قول قديم للشّافعيّ انتهى.
ولا يخفى أنّ ما
نقل عن الشافعيّ خلاف الظّاهر المتبادر جدّا ، والأصل عدم وجوب عوض العطيّة ،
ووجوب ردّها ، بل ردّها مذموم شرعا ، فلا يمكن إيجابه بمثل هذا الاحتمال ، بل
الظّاهر أنه لا يحتمله.
وأمّا ما ذكره
عليّ بن إبراهيم فالّذي أفهم ممّا وصل إليّ من كلامه أنّه يريد تفسير أحسن منها
بالزّيادة في البرّ والإحسان ، ولهذا قال أو ردّوها يعني بمثلها من السلام ، فلا
نزاع حينئذ ، ولا يبعد حمل ما تقدّم من الكنز على نحو ذلك بأن يراد أنّ المراد
السّلام وما مع السّلام من البرّ كرحمة الله وبركاته ، فلو صحّت في ذلك رواية عنهم
عليهمالسلام احتمل ذلك ، فلا يذهب به إلى خلاف ظاهر القرآن ، ولا يؤوّل
بها مطلقا.
وقيل : لو صحّت
الرّواية المنقولة في ذلك يمكن حملها على الرجحان المطلق ، لا الوجوب ، إذ الظّاهر
عدم القائل بوجوب تعويض كلّ برّ وإحسان ، وهو معلوم من الرّوايات أيضا فتأمّل.
ويمكن أيضا الحمل
على كلّ برّ ممّا يسمّى تحيّة على ما نقل من القول بوجوب الرّدّ في غير السّلام ،
كأنعم صباحا لعموم الآية ، في كلّ ما يسمّى تحيّة ، وهذا أيضا خلاف الظّاهر إلّا
أنّه أقرب من بقيّة الأقوال غير خصوص السّلام ، ولهذا لا خلاف في وجوب ردّه وغيره
غير ظاهر كونه مرادا بالاية ، فيترك بالأصل و
__________________
لا يترك الاحتياط.
إذا عرفت ذلك فهنا
أمور :
الف ـ ظاهر أصحابنا أنّ عليك السّلام بتقديم عليك أو عليكم
ونحوه تسليم صحيح يوجب الردّ ، وروى العامّة عنه عليهالسلام أنّه قال لمن قال عليك السّلام يا رسول الله : لا تقل عليك
السّلام ، فان عليك السّلام تحيّة الموتى ، إذا سلّمت فقل سلام عليك فيقول الرادّ
عليك السّلام ، ولم يثبت ذلك عندنا ، نعم الأولى ما تضمّنته ، ولو صحّت لم يلزم
عدم وجوب الردّ كما في رواية أخرى لهم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ردّ عليه بعد نحو هذا الكلام.
ب ـ سلام وسلاما والسّلام الظّاهر صحّتها ووجوب جوابها ،
لوقوع الأوّلين في القرآن ، وكون الأخير كالأوّل ، ولظهور المراد عرفا وصدق
التحيّة كذلك ، وحذف الخبر ونحوه غير قادح في ذلك ، بل جائز لغة وعرفا بل شرعا ،
وقيل : يحتمل العدم للأصل ، وعدم كونه متعارفا شرعا وعرفا عاما ، وعدم العلم بكونه
مرادا في الآية ، لأنها غير صريح في العموم ، لأنها مهملة ، وإن كان ظاهرها عاما
عرفا ، فتأمّل فيه.
ج ـ وكذلك سلامي وسلام الله عليك أو عليكم ونحوه على ما صرّح
به شيخنا سلمه الله ، وينبّه عليه بعض الرّوايات ، وربّما اقتضى
كلام ابن إدريس خلاف ذلك كما يأتي.
د ـ في المجمع أمر تعالى المسلمين بردّ السّلام على المسلّم بأحسن ممّا
سلّم إن كان مؤمنا وإلّا فليقل وعليكم لا يزيد على ذلك ، فقوله (بِأَحْسَنَ مِنْها) للمسلمين
__________________
خاصّة ، وقوله (أَوْ رُدُّوها) لأهل الكتاب عن أب عبّاس ، فاذا قال المسلّم : السّلام
عليكم ، فقلت : وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته ، فقد حيّيته بأحسن منها ، وهذا
منتهى السّلام ، وقيل : إنّ قوله (أَوْ رُدُّوها) للمسلمين أيضا.
وفي تفسير القاضي
: إنّ الجواب أمّا بأحسن منه ، وهو أن يزيد عليه ورحمة الله ، فان قاله المسلّم
زاد وبركاته ، وهي النّهاية ، وإمّا يردّ مثله ، كما روي أنّ رجلا قال لرسول الله صلىاللهعليهوآله السّلام عليك ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله ، وقال :
آخر : السّلام عليك ورحمة الله ، فقال وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته ، وقال
آخر السّلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليك فقال الرجل نقصتني فأين ما
قال الله؟ وتلا الآية ، فقال صلىاللهعليهوآله : إنّك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله ، وذلك لاستجماعه
أقسام المطالب : السّلامة عن المضارّ ، وحصول المنافع وثباتها ، ومنه قيل «أو»
للترديد بين أن يحيّى المسلم ببعض التحيّة ، وبين أن يحيّى بتمامها انتهى.
والظّاهر عندنا بل
عندهم أيضا أنّ أو للتخيير بين الزيادة وعدمه كما صرّح به الكشّاف ، وهو ظاهر
الآية ، ومقتضى الرواية السّابقة ، وما تقدم من قوله «فقل سلام عليك ، فيقول
الرادّ : عليك السّلام» إذ الظّاهر أنّه ليس بأحسن ، وغير ذلك من روايات الخاصّة
والعامّة.
نعم الأحسن للمسلم
أحسن ، وفي الكتابيّ يمكن المثل ، واستحباب الاقتصار بعليك يعني ما ذكرت من غير
ذكر السّلام أو وجوبه مع احتمال تخصيص الأمر بسلام المسلم ، كما قد يشعر به قول
المجمع.
وقيل إنّ قوله (أَوْ رُدُّوها) للمسلمين أيضا فلا يجب ردّ الكتابيّ أيضا كالحربيّ ، لعدم
حسن التحيّة عليهم بل يجب بغضهم.
ه ـ كون منتهى السّلام وجوابه زيادة رحمة الله وبركاته كما
تقدّم ، وظاهر
__________________
الكنز أنّ عليه
اتّفاق الجمهور من الفقهاء والمفسّرين ، غير ظاهر عندنا ، ويخالفه ما رووه في
صحاحهم أنّه سلّم عليه صلىاللهعليهوآله رابع بعد تسليم ثالث وقوله عليهالسلام بعد الجواب عشر ثمّ عشرون ثمّ ثلاثون فقال السّلام عليك
ورحمة الله وبركاته ومغفرته ، فردّ عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله وقال أربعون ، ثمّ قال لنا : هكذا تكون الفضائل.
و
ـ وجوب الردّ بالمثل أو الأحسن كلّيا ظاهر الآية ، وتقتضيه
أخبار من العامّة والخاصّة ، وكأنّه لا خلاف عندنا وعندهم ، إذا كان السّلام صحيحا
مشروعا ، والظّاهر أنّه فوريّ كذلك ، ويدلّ عليه الفاء ، فالتّارك له يأثم ، ويبقى
في ذمّته مثل سائر الحقوق ، وليس ببعيد ، لأنّه المتعارف ، والمطلوب من المسلّم
عليه عادة ، ولذلك قالوا يجب الإسماع أيضا ، قال شيخنا سلّمه الله : وجوب الأسماع
ليس بواضح الدليل بل بعض الأخبار الصحيحة صريحة في عدم وجوب الأسماع ، وأنّه
يكفي أن يجيب في نفسه بحيث لا يسمع المسلّم إلا أن يكون إجماعيّا فيؤوّل الأخبار.
ز ـ قالوا : وجوب الردّ كفائيّ إذا كان السّلام على جماعة ،
في الكنز : لأصالة البراءة ولأنّ المقصود حصول المكافاة على التّحيّة ، وقد حصل
وللحديث انتهى.
__________________
أمّا العامّة فرووا عن علىّ والحسن بن علىّ عليهماالسلام يجزى عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ، ويجزى عن
الجلوس أن يردّ أحدهم.
أمّا الخاصّة فقد رووا ذلك عن أبى عبد الله في روايات ، وإن ضعّف طريق
بعضها ، لكن لم نر رواية في خلافه ولا أعلم فيه خلافا إلّا أنّه خلاف ظاهر الآية ،
قال سلّمه الله لكن الظّاهر إجماع الأمّة على ذلك ، ولأنّه إنّما سلّم
سلاما واحدا فليس له إلّا عوض واحد.
ثمّ الظاهر أنّه
إنّما يسقط بفعل من كان داخلا في المسلّم عليهم ، وكونه مكلّفا بالجواب ، فلا يسقط
بردّ من لم يكن كذلك ، فلو خصّ البعض من جماعة لم يجب على غيره ردّ ولا بردّ الغير
يسقط عنه ، وكذا ردّ غير المكلّف وإن كان داخلا فيهم لا ـ يسقط به ، لأنّه إنّما
يجب عليهم دونه ، فهو بمنزلة العدم.
__________________
نعم ، لو كان
المقصود بالذّات بالسّلام والعمدة فيه الغير المكلّف كأولاد الملوك ، احتمل
الاجتزاء بجوابه كما يحتمل عدم الاجتزاء بجواب من كان مقصودا بالتبع ، إذا كانوا
جميعا مكلّفين ، بل في الصورة المتقدّمة مع احتمال الاجتزاء بجواب المجيب إذا كان
مقصودا بالسّلام مطلقا لشمول مقيّد ظاهر الآية له ، مع عدم كون الردّ ـ وإن كان
واجبا ـ عبادة يشترط فيه القربة ، فاذا أتى بالردّ الصّحيح لغة وعرفا كفى ،
فليتأمّل فيه.
وفي الذكرى : وفي
الصبيّ المميّز وجهان مبنيّان على صحّة قيامه بفرض الكفاية ، وهو مبنىّ على أنّ
أفعاله شرعيّة أو لا ، نعم لو كان غير مميّز لم يعتدّ به.
ح ـ ظاهر الآية وجوب جواب سلام غير البالغ المميّز القاصد
للتحيّة ، كالبالغ ، وقيل لا يجب لعدم كونه مكلّفا وأفعاله شرعيّة ، لكن اشتراط
التكليف وشرعيّة الأفعال غير ظاهر ، والاحتياط واضح ، نعم إن ثبت عدم كونه تحيّة
شرعا توجّه عدم الوجوب لكن الظّاهر خلافه.
ط ـ قال شيخنا دام ظلّه معلوم أنّ وجوب الردّ إنّما يكون في
السّلام المشروع ، ولكن الظاهر عموم المشروعيّة حتّى يحصل المانع ، فيجب الردّ حال
الخطبة والقراءة والحمّام والخلاء ، فان الظاهر استحباب ذلك كلّه ، ومشروعيّته ،
إلّا أنّ ثوابه أقلّ من بعض الأفراد ، نعم إن ثبت الكراهة في هذه المواضع بمعنى
رجحان عدمه ، ويكون الجواب مخصوصا بالمستحبّ والرّاجح ، لم يجب الردّ ، ولكن ظاهر
الاية العموم ، ولهذا قيل بوجوب ردّ سلام الأجنبيّة مع القول بالتحريم فتأمّل.
والظّاهر أنّ
الكراهة بهذا المعنى لا بمعنى الأقلّ ثوابا كما قال بعض الأصحاب أن لا كراهة في
العبادات إلّا بهذا المعنى ، وظاهر الأصحاب الوجوب كلّيا ، فكأنّه بالإجماع وعموم
العرفيّ المفهوم من الآية والرّواية ، ويؤيده ما ورد من الردّ في الصّلاة فيدلّ
على المشروعيّة ووجوب الردّ ، إذ السّلام منهيّ عنه فيها ، فلو لم يكن الردّ واجبا
لم يجز.
ى ـ لا يكره السّلام على المصلّى ، وبه قال ابن عمر ، وأحمد
في رواية للأصل ولعموم قوله تعالى (فَإِذا دَخَلْتُمْ
بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) قال في الذكرى : روى البزنطيّ في سياق أحاديث الباقر عليهالسلام : إذا دخلت المسجد والنّاس يصلّون فسلّم عليهم ، وإذا سلّم
عليك فاردد فإنّي أفعله ، وإنّ عمار بن ياسر مرّ على رسول الله وهو يصلّي فقال :
السّلام عليك يا نبىّ الله ورحمة الله وبركاته ، فردّ عليهالسلام.
وظاهر الشّافعي
الكراهة لأنّه كرّه السّلام على الامام حال الخطبة ، فحال الصّلاة أولى ، وهو
رواية أخرى عن أحمد ، ونقل عن عطاء وجابر أيضا.
وفي الكنز :
الأقوى عندي كراهية السّلام على المصلّي لأنّه ربّما شغله عن القيام بالواجب إذا
ردّ أو ترك الواجب إذا لم يردّ ، وفيه نظر.
نعم بعض رواياتنا
أيضا يتضمّن أنّه لا يسلّم على الرّجل وهو في الصلاة ، فلو حملت الكراهة على الأقل
ثوابا لم يبعد ، ثمّ إذا سلّم عليه وهو في الصّلاة وجب عليه الردّ لفظا عند علمائنا
، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وقتادة ، وقال الشافعيّ : يردّ إشارة ،
ومنع أبو حنيفة نطقا وإشارة ، وقال عطاء والنخعيّ والثّوريّ : يردّ بعد فراغه ،
ونقله الجمهور عن أبى ذرّ.
لنا عموم الآية ،
وما تقدّم من جوابه عليهالسلام لعمّار بن ياسر في الصّلاة ، وما في الكافي عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الرّجل يسلّم عليه وهو في الصّلاة ، قال
يردّ بقول سلام عليكم ، ولا يقول وعليكم السّلام ، فان رسول الله صلىاللهعليهوآله كان قائماً يصلّى فمرّ به عمّار بن ياسر فسلّم عليه عمّار
، فردّ عليه النبي صلىاللهعليهوآله هكذا ، وفي التهذيب لم يذكر سماعة.
__________________
وما رواه الصّدوق عن محمّد بن مسلم : سأل أبا جعفر عليهالسلام عن الرّجل يسلّم على القوم في الصّلاة فقال إذا سلّم عليك
مسلم وأنت في الصّلاة فسلّم عليه بقول «السّلام عليك» وأشر بأصابعك ، وغير ذلك من
الرّوايات.
ويردّ الاكتفاء
بإشارة أنّه خلاف ظاهر القرآن ، وإلا لكفى في غير الصّلاة ، ويردّ التأخير ما تقدم
من الفوريّة المستفادة من الآية وكذا الرّوايات ، ولذلك قال العلّامة رحمهالله : بل لو اشتغل بالقراءة عقيب التّسليم عليه ولم يشتغل
بالردّ بطلت صلاته ، لأنّه فعل منهيّ عنه. ولا يريد حصر الحكم في القراءة ، بل
المراد الاشتغال بشيء من أجزاء الصّلاة مناف للردّ الواجب على وجهه ، لأنّ الأمر
بالشيء يستلزم النهى عن ضدّه الخاص كما حقّق في موضعه.
لا يقال سلّمنا
الفوريّة ولكن الموالاة في الصّلاة خصوصا بين أجزاء القراءة واجبة فورا أيضا فلا
نسلّم وجوب تقديم الردّ ، لأنّا نقول قد علم وجوب تقديم الردّ من الروايات ، على
أنّ الأصل عدم اعتبار الموالاة بحيث تنافي الردّ مع الوجوب فورا.
ثمّ لا يخفى أنّ
ما اشتغل به من غير الردّ إنّما تبطل به الصّلاة إذا وصل إلى حدّ يدخل تحت
المبطلات ، كأن يكون كلاما بحرفين أو واحدا مفهما من غير الاجزاء الواجبة للصلاة ،
أو من الواجبة ولو حرفا غير مفهم ولم يتدارك ، أو فعلا كثيرا أو قليلا مع عدم
التدارك ، والظّاهر عدم القدح مع نسيان السّلام أو وجوب الردّ ، وكذا جهل السّلام
، أمّا جاهل الوجوب أو الفورية مع ظنّ عدم جواز الردّ في الصّلاة أو عدمه ، فلا
يبعد صحة صلاته والله أعلم.
واعلم أنّه لا
يبعد أن يقال الفوريّة المفهومة في جواب السّلام ، إنّما هو تعجيله بحيث لا يعدّ
تاركا ، ولا يخرج عن حدّ الكلام والجواب ، فلا يبعد أن لا يضرّ الاشتغال
__________________
بإتمام كلمة إذا
كان السّلام في أثنائها.
يا ـ قال السيّد
المرتضى قدس الله روحه إنّ الشّيعة يقول يجب أن يقول المصلّى في ردّ السّلام مثل
ما قال المسلّم «سلام عليكم» ولا يقول «وعليكم السّلام» وبه فتوى الشيخ في كتبه ،
وقد تقدّم رواية عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبى عبد الله عليهالسلام أو عنه عليهالسلام بغير واسطة ، إلّا أنّ عثمان ضعيف ، لكن قد يعدّ من
الموثّق .
وروى هشام بن سالم
في الصّحيح عن محمّد بن مسلم قال دخلت على أبى جعفر عليهالسلام وهو في الصّلاة
فقلت السّلام عليك فقال السّلام عليك ، قلت كيف أصبحت فسكت ، فلمّا انصرف قلت له أيردّ
السّلام وهو في الصّلاة؟ فقال : نعم مثل ما قيل له ، وقال إدريس إذا كان المسلّم
عليه قال له «سلام عليكم» أو «سلام عليك» أو «السّلام عليك» أو «عليكم السّلام» فله
أن يردّ عليه بأيّ هذه الألفاظ كان ، لانّه ردّ سلام مأمور به ، وينوي به ردّ سلام
لا قراءة قرآن ، فان سلّم بغير ما بيّناه فلا يجوز للمصلّي الردّ عليه ، لأنّه ما
تعلّق بذمته الردّ لأنّه غير سلام ، هذا.
وما تضمّن رواية
عثمان بن عيسى من النهي عن الردّ بقول «وعليكم السّلام» لا شبهة فيه ، لأنّ حرف
العطف أمر زائد على الواجب من ردّ السّلام ، أمّا إذا قال المسلّم «عليكم السّلام»
وصحّحناه ، فالجواب بعليكم السّلام ممّا لا ينبغي النزاع في جوازه كما لا يخفى ،
بل في وجوبه كما هو ظاهر الروايتين مؤيدا بالشّهرة أو الإجماع كما هو مقتضى كلام
السيّد قدس الله روحه ، لكن ابن إدريس على أصله من عدم العمل بأخبار الآحاد ،
والسيّد كذلك ، إلّا أنّه ادّعى إجماع الطائفة واعتمد عليه.
وقول شيخنا دام ظلّه الظّاهر أنّ الردّ بالمثل شامل لقوله «السّلام
عليكم»
__________________
و «عليكم السّلام»
لعدم التفاوت بين التقديم والتّأخير ، وكذا بالتّنكير والتّعريف ، وسلامي وسلام
الله ونحو ذلك على الظّاهر ، وأنّ الأفضلية تحصل بضمّ «ورحمة الله وبركاته» مع
عدمهما ، وأن الإنسان مخيّر في الردّ بينهما بظاهر الآية وغيره ، فالظّاهر أنّه
يريد بيان المثليّة المعتبرة في قوله تعالى (أَوْ رُدُّوها) على ما ذكر بعض أنّ المراد به الجواب بالمثل ، ومع ذلك
موضع تأمّل كما لا يخفى.
أمّا المثلية
المعتبرة في الصّلاة ، فلا يبعد أن يكون أحال على ذلك إذ لم يذكر غير هذا ، فيكون
قد وافق ابن إدريس ، بل زاد ، وما قدّمنا هو الظّاهر لما تقدّم ، وهو مقتضى مراعاة
الواجبين جميعا والاحتياط أيضا.
وأمّا ما ذهب إليه
المحقق وتبعه صاحب الكنز من اعتبار لفظ القرآن ، فلا يجب في غير «سلام عليكم» كما
صرّحوا به ، فالرّواية الصّحيحة صريحة في عدمه ، إذ ليس في القرآن السّلام عليكم ،
وقال العلّامة على قول ابن إدريس : فإن سلّم بغير ما بيّناه إلخ : ليس بمعتمد بل
الواجب الردّ في كلّ ما يسمّى تحيّة لعموم الآية ، ولأنّه إمّا داع له أو رادّ
لتحيّته وعلى التقديرين لا تحريم ، وهذا يقتضي أن تكون التحيّة وردّها دعاء وجائزا
في الصّلاة ، وليس بمعتمد.
يب ـ في الذكرى : يجب إسماعه تحقيقا أو تقديرا كما في سائر
الردّ ـ وبعد الإشارة إلى ما في الموثّق عن عمار السّاباطي أنّه سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن التّسليم على المصلّى فقال إذا سلّم عليك مسلّم وأنت في
الصّلاة فردّ عليه فيما بينك وبين نفسك ، ترفع صوتك.
وما في الصّحيح عن منصور بن حازم أنّه قال إذا سلّم الرّجل على الرّجل وهو
يصلّي يردّ عليه خفيّا كما قال ، قال : ممّا يشعران بعدم اشتراط إسماع المسلّم ،
والأقرب اشتراط إسماعه ليحصل قضاء حقّه من السّلام.
وحملهما في
التذكرة على حال التقيّة فقال : لو اتّقى ردّ فيما بينه وبين نفسه تحصيلا لثواب
الردّ ، وتخليصا من الضّرر ، ولقول الصادق عليهالسلام ـ وأشار إلى ما في
__________________
الرّوايتين ، وهو
الذي ينبغي ، ونحوهما ما تقدّم أوّلا عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام فسلّم عليه تقول «السّلام عليك» وأشر بأصابعك ، ويدلّ على
وجوب الإسماع أيضا انّه لو لم يجب الإسماع في الصلاة ينبغي أن لا يجب في غيرها
أيضا كما تقدم.
(إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً.)
محاسبا أي يحاسبكم
على كلّ شيء من التحيّة وغيرها ، وفي المعالم قال مجاهد : حفيظا ، وقال أبو عبيدة
: كافيا ، وفي المجمع الحسيب : المحاسب الحفيظ ، فتأمّل.
الانعام [١٦٢] (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.)
(نُسُكِي) قيل عبادتي وتقرّبي كلّه فتعميم بعد تخصيص ، وقيل مناسك
حجّى ، وقيل ذبحي ، وجمع بين الصّلاة والذّبح كما في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وفي المعالم : وقيل ديني ، وربّما رجع إلى الأوّل (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) قيل ما آتيه في حياتي وأموت عليه من الايمان والعمل
الصّالح ، وقيل العبادات والخيرات الواقعة حال الحيوة ، والّتي تقع بعد الموت
بالوصية ونحوها كالتدبير ، وقيل نفس الحيوة والموت.
(لَهُ) أي الطّاعة خالصة له والحيوة والممات منه خالصة لا شريك له
في شيء من ذلك (وَبِذلِكَ) المذكور (أُمِرْتُ) وهو مراد من قال أي الإخلاص المذكور ، وقيل أو بذلك القول.
(وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ) فإنّ إسلام كلّ نبيّ متقدّم على إسلام أمّته ، فلا ريب في
دلالته على تحريم قسمي الشّرك الظّاهر كعبادة الأصنام والكواكب ونحوها ، وو الخفيّ
كالرياء والسّمعة ، وأنّه لا يجوز إسناد شيء من ذلك إلى غيره مستقلا ولا مشاركا
كالكواكب والأفلاك والعقول وغيرها.
وقد يستشكل حينئذ
قصد حصول الثّواب والخلاص من العقاب ، ولا إشكال ، لأنّ الثّواب والعقاب لما كانا
منه سبحانه برضاه واختياره لا شريك له في ذلك بوجه ؛
كان قصد تحصيل
ثوابه والخلاص من عقابه سبحانه بالعبادة له مؤكّدا للإخلاص فيها ومقتضيا له ، فلا
ينافي الإخلاص ، وبالجملة كلّ ما كان مقصودا منه بالعبادة له لا ينافي قصده بها
الإخلاص فيها له كما تقدّم في بحث النيّة الإشارة إليه أيضا.
نعم مزيد المعرفة
بجلال شأنه وعظيم سلطانه واليقين بسعة فضله وإنعامه ومشاهدة كمال إشفاقه وإحسانه
توجب محبّة ورغبة في ابتغاء مراده بحيث لا يلحظ في الامتثال شيء من حصول الثّواب
وعدم العقاب ، بل لا يخطران بالبال ، وهذا أتمّ من أن يتأكّد بنحو ما تقدّم.
وقد استدلّ بالآية
على كون الإخلاص المذكور من أحكام الإسلام الّتي يلزم كلّ مسلم وأنّ كلّ مسلم
مأمور بذلك ، لقوله (وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ) فإنّه يدلّ على أن غيره أيضا مكلّف مأمور بذلك ، وأنّه
أوّلهم ، مع ما ثبت من عموم التأسّي ، وفي تقديم «بذلك» على «أمرت» دلالة على
الاختصاص ، فامّا على اختصاص الأمر بذلك وما يستلزمه أو بالنّسبة إلى ما ينافي ذلك
من الشّرك ونحوه ، وأمّا كون ذلك من لوازم الإسلام فمشكل ، إذ يلزم الخروج منه
بالرّياء.
فيمكن أن يقال
معنى «لله» أنّ جميع ذلك هو مالكه ومستحقّه ، فالمعنى واحد في الجميع ، والأمر
بالقول معتقدا أو باعتقاد ذلك أو الأمر بكونها منه أو جعلها على الوجه المذكور ،
والمراد وأنا أوّل المنقادين لا الإسلام الشّرعيّ ، وهو غير بعيد ، وهو قريب من
الايمان ، فيمكن على قول المعتزلة التشبّث بذلك في خروج المرائي من الايمان ،
والظّاهر أنّ الرّياء كبيرة فيصح على قول من يقول بالخروج بها من الايمان نحو هذا
، ويمكن كونه يعمّ الايمان بوجه فتأمّل ، أو أوّل المنقادين انقيادا شرعيّا هو
الإسلام ، فإذا كان شرعا لا يضرّ بالانقياد الرّياء والسّمعة مع الاعتقاد الصّحيح
في ذلك ، لم يلزم الخروج بذلك كما لا يخفى ، وعلى كلّ حال الظاهر أنّه لا يراد به
الإسلام ولو ظاهرا.
هذا وقال شيخنا سلّمه الله : إنّه لا يفهم منها أنّ الإخلاص المذكور من
__________________
أحكام الإسلام ،
فيكون كلّ مسلم مأمورا به فليتأمّل فيه ، وقيل : في الآية إيماء إلى كون العبادة
شكرا لنعمة التربية والإيجاد ، لذكر هذه الصّفة عقيب ذكر العبادة ، إشعارا
بالعلّيّة وفيه نوع تأمّل.
نعم لا ريب في
الإيماء إلى أنّ للصفة مدخلا في ما تقدم حتّى الاختصاص و (لا شَرِيكَ لَهُ) إمّا تأكيد للاختصاص المفهوم من «لله» فلا يكون داخلا في
الصّفة ، أو هو منها أي لا شريك له في خلق العالمين وتربيتهم ، أو مطلقا بوجه من
الوجوه وهو أقرب لفظا ومعنى.
ثمّ فيما قدّمنا من
اختصاص الإخلاص المذكور بالأمر دون ما يخالفه وينافيه ـ إذا أشير بذلك إلى كون ما
تقدّم أو جعله على الوجه المذكور ـ دلالة واضحة على توقّف صحّة الصّلاة بل سائر
العبادات على الإخلاص المذكور ، وما تضمّنه من معرفة الله ووحدانيّته وكونه ربّا
للعالمين أي منشأ ومربّيا لهم.
قيل : فيستلزم ذلك
وجوب العلم بكونه قادرا وعالما وحكيما إذ الإخلاص يستلزم ذلك ، وهو موضع نظر ، فان
استلزام ذلك وجوب العلم بما ذكره غير واضح ، نعم استلزامه للعلم به قريب.
ثمّ الإخلاص
المذكور يستلزم المعرفة المذكورة وتوقّف العبادة عليها وعلى الإخلاص المذكور ، لكن
قد يمنع ذلك لأنّ كلّ ما كان واجبا مأمورا في شيء بوجه لا يجب أن يبطل ذلك عند
عدمه بالكلّية ، فلا يتمّ إلى أن ينضمّ إلى ذلك الإجماع أو نحوه ممّا يقتضي اشتراط
الإخلاص في العبادة مطلقا بهذا الوجه ، وقد يقال : فاذا ثبت كون العبادة مأمورا
بها على هذا الوجه ، فاذا لم يأت بها على الوجه الخاصّ لم يأت بالمأمور به فتكون
باطلة.
وقد يجاب بأنّ ذلك
إذا كان الأمر بالعبادة هو الذي تضمّن هذا الوجه ، لا أن يكون بأمر على حدة ، وهنا
كذلك ، لكن تضمّن على ما قدّمناه ما يلزم منه أن لا يكون خلاف ذلك مأمورا به ،
فاذا لم يكن كذلك كانت باطلة.
وقيل : يمكن
الاستدلال بها على وجوب المعرفة وتوقّف الصّحة عليها للأمر
بذلك القول ،
فإنّه يفهم أنّه يجب قول ذلك ومعرفة القول وفهمه وصدقه مع المتعلّقات متوقّفة
عليها ، وهذا إنّما يتمّ بما قدّمنا كما لا يخفى ، وقيل : ويتفرّع على ذلك عدم
صحّة عبادة من لم يكن عارفا بالله تعالى هذه المعرفة ، بدليل ، وإن كان في الظّاهر
مسلما ، وفيه بعد.
المائدة [٥٥] (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ).
قال علىّ القوشجيّ
في شرحه للتجريد اتّفق المفسّرون على أنّها نزلت في علىّ بن أبي طالب عليهالسلام ، حين تصدّق بخاتمه في الصّلاة راكعا هذا.
وقد تظافر عليه
الرّوايات من جهة الخاصّة والعامّة فمنها ما أورد في جامع الأصول عن عبد الله بن سلام ، قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوآله ورهط من قومي فقلنا : إنّ قومنا حادّونا لمّا صدّقنا الله
ورسوله ، وأقسموا أن لا يكلّمونا ، فأنزل الله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ثمّ أذّن بلال لصلاة الظّهر ، فقام النّاس يصلّون : فمن
بين ساجد وراكع ، وسائل إذا سأل فأعطاه علىّ خاتمه وهو راكع ،
__________________
فأخبر السائل رسول
الله صلىاللهعليهوآله فقرأ علينا رسول الله صلىاللهعليهوآله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).
في الجوامع ؛ نزلت
في علىّ وفي الكشاف : فان قلت : كيف يصحّ أن يكون لعلىّ عليهالسلام واللّفظ لفظ جماعة؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع ، وإن كان
السّبب فيه رجلا واحدا ليرغب النّاس في مثل فعله ، فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه
على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن يكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان ،
وتفقّد الفقراء ، حتّى إن لزّهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصّلاة ، لم يؤخّروا
إلى الفراغ منها ، هذا وجاز ذلك للتعظيم أيضا.
على أنّ في أخبار
الشيعة زادهم الله هداية وتوفيقا أنّ مثل ذلك واقع من كلّ واحد من الأئمّة الأحد
عشر من ولده عليهمالسلام ، ولا يبعد كون الحصر إضافيّا بالنّسبة إلى من يتوقع كونه
وليّا مثله ، ويكفي لذلك علمه تعالى بأنّه يقع التردّد بل يجزم جماعة بخلافه.
ولا يحتاج إلى
ثبوته حين النزول ، لو ثبت عدم ثبوته حينئذ ، فان لله أن يخبر أنّه الإمام حين
الاحتياج ، وهو بعد فوته صلىاللهعليهوآله بغير فصل وهو ظاهر ، فإنّه بعد أداة الحصر وانحصار الأوصاف
فيه عليهالسلام واتّفاق المفسّرين على أنّه في حقّه عليهالسلام يدلّ على اختصاصه بها بلا تكلّف.
فلا وجه لجعل قوله
(وَهُمْ راكِعُونَ) عطفا أو بمعنى «خاضعون» ولا الاعتراض بأنّ الوليّ قد يكون
بمعنى الناصر والمحبّ وغير ذلك ، فإنّه يقتضي أن لا يختصّ به عليهالسلام لأنّه لا يناسب الاختصاص كما لا يخفى.
__________________
على أنّ لنا أن
نقول حينئذ بأيّ معنى كان ، فلا بدّ لولايته بذلك المعني من مزيّة باعتبار اقترنت
بولاية الله وولاية رسول الله وقارنهما دون ولاية غيره كما هو مقتضى الحصر ، وما
ذلك إلا لكون ولايته كولاية الرّسول صلىاللهعليهوآله دون غيره ، وذلك يقتضي إمامته عليهالسلام بعده صلىاللهعليهوآله.
ولا [الاعتراض]
بأنّه ليس في حقّه للجمع ، وللحصر وهم لا يقولون به ، كما قاله القوشجيّ فإنّه بعد
ثبوت ما تقدّم من كونها في حقّه عليهالسلام في تصدّقه بخاتمه يكون ذلك اعتراضا على الله وغمضا للعين
عن الحقّ.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).
وضع المظهر موضع
المضمر تنبيها على البرهان عليه ، فكأنّه قال فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون
، وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم ، وتعريضا بمن يوالي غير
هؤلاء بأنّهم حزب الشّيطان ، وفي الصحاح : حزب الرّجل أصحابه.
وفي المقام يستدلّ
بها على أمور :
كون الفعل القليل
لا يبطل الصّلاة ، وأنّ نيّة التّصدق والزّكوة يجوز بغير لفظ ، وأنّها في الصّلاة جائزة
لا تنافي التوجّه إلى الصّلاة ، واستدامة نيّتها وأنّه تصحّ كذلك نيّة الزّكوة
احتسابا على الفقير وصحّة نيّة الصوم في الصّلاة ، وكذا نيّة الوقوف في عرفة ومشعر
فيها.
أمّا نيّة الإحرام
والتلبية أيضا فيها كما ذهب إليه صاحب الكنز ، مستدلا بأنها ذكر وثناء على الله ،
فموضع تأمّل ، وتسمية التّصدق زكاة ، لأنّ الظّاهر انّ ذلك لم يكن زكاة واجبة ،
وإن كانت واجبة فتدلّ على جواز التأخير في الجملة وإخراج القيمة والله أعلم.
طه : [٢٤] (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى.)
في ترتيب الحكم
على الذات الشريفة والتوحيد من الإشعار بالعلّية والاختصاص
ما لا يخفى (لِذِكْرِي) لتذكرني ، فإنّ ذكري أن أعبد ويصلّى لي ، أو لتذكرني فيها
لاشتمال الصّلاة على الأذكار ، عن مجاهد ، فكأنّه قيل : لكونها ذكري ، أو لذكري
فيها أو لأنّي ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك
لسان صدق.
أو لذكري خاصّة لا
تشوبه بذكر غيري ، أو لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر ،
أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربّهم على بال منهم ، وتوكيل
همهم وأفكارهم به كما قال (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).
أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصّلاة ، وقيل إنّه ذكر الصّلاة بعد نسيانها أي أقمها متى ذكرت كنت في وقتها أو لم تكن ، كذا في الجمع
، وكلام بعض ظاهر في القضاء لما روي أنّه عليهالسلام قال : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها ، إنّ
الله تعالى يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي).
وعن الباقر عليهالسلام : إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت أخرى فإن كنت تعلم
__________________
أنّك إذا صلّيت
الّتي فاتتك كنت من الأخرى في وقت فابدأ بالّتي فاتتك ، فان الله تعالى يقول (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) إلا أنّ في الطريق القاسم بن عروة وهو غير مصرّح بالتّوثيق
وكان الظّاهر في العبارة حينئذ لذكرها ، فإمّا على حذف المضاف أي لذكر صلاتي ، أو
لأنّه إذا ذكر الصّلاة فقد ذكر الله ، أو لأنّ الذكر والنسيان من الله عزوجل في الحقيقة.
(أَكادُ أُخْفِيها) فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولو لا ما في
الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به ، وعن أبي الدرداء وسعيد بن جبير (أُخْفِيها) بالفتح من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهارها كقوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وقد جاء في بعض اللغات أخفاه بمعنى خفاه ، فأكاد أخفيها
محتمل للمعنيين ، وقيل معناه أكاد أخفيها من نفسي وذكروا أنّه كذلك في مصحف أبيّ.
وفي بعض المصاحف «أكاد
أخفيها فكيف أظهركم عليها» لكن لا دليل في الكلام على هذا المحذوف ومحذوف لا دليل
عليه مطروح وما قيل : إنّه روي ذلك عن
__________________
الصّادق عليهالسلام فلم يثبت.
(لِتُجْزى) متعلّقه بآتية ، وقيل : أو بأكاد ، ويحتمل بأخفيها ، وهو
أقرب من أكاد.
(بِما تَسْعى) أي لسعيها ، فيدلّ على أنّه لا يجوز تولية الغير شيئا من
العبادات الواجبة البدنيّة حال حياته ممّا يتمكّن من مباشرته ، وأنّه ليس له فيما
يجوز التولية إذا ولّى ، إلّا ثواب سعيه لا ثواب تلك العبادة بنفسها والله أعلم ،
ولو قيل بما يسعي له أمكن ذلك له ، ومثله قوله تعالى (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ
إِلَّا ما سَعى).
[الفرقان ٦٢] (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ
شُكُوراً.)
(خِلْفَةً) للحالة من خلف أي جعلهما ذوي خلفة يخلف كلّ منهما الآخر ،
بأنّه يقوم مقامه فيما كان ينبغي أن يعمل فيه ، أو بأن يعتقبه ، ويقال هما يختلفان
كما يقال يعتقبان ، ومنه قوله (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ويقال بفلان خلفة واختلاف : إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه ،
على ما قاله الكشاف واعتمد عليه وإلى الأوّل مال القاضي وأورده المعالم بقوله يعني خلفا وعوضا يقوم أحدهما مقام الآخر لمن فاته
عمله في أحدهما قضاه في الآخر عن ابن عباس والحسن وقتادة وأورد الثاني عن أبي زيد
وغيره ، وأورد ثالثا عن مجاهد ، يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفا للآخر ، وليس بشيء
، ولذلك لم يورده المتأخّرون.
ثمّ في الكشاف وقرئ يذّكّر ويدّكر ، وعن ابيّ بن كعب يتذكّر ، و
__________________
المعنى لينظر في
اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال وتغيّرهما من ناقل
ومغيّر ، ويستدلّ بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النّعمة فيهما من السّكون
باللّيل ، والتّصرف بالنّهار ، كما قال عزوجل (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أو ليكونا وقتين للمتذكّرين والشّاكرين ، من فاته في
أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر انتهى.
ويفهم منه أنّه
يحتمل أن يفهم منها جواز قضاء ما فات في اللّيل بالنّهار وبالعكس على تقدير كون «خلفة»
بمعنى ذوي تعاقب أيضا ، وهو كذلك بل هو الأظهر ، فإنّ الظّاهر جعلهما لانتفاع من
أراد تذكرا أو شكورا بأيّ وجه كان ، غاية الأمر أن يقيّد بالانتفاع فيهما فيبقى
أعمّ من أن يكون يجعلهما ظرفين لهما ووقتين فيحصل التّوسعة ، ويتمكّن من تدارك ما
فاته في أحدهما وينتفع بفعله في الآخر ، أو بالنظر فيما يشتملانه من الآيات وغير
ذلك ، فتأمّل.
فيمكن أن يستدلّ
بظاهرها على جواز قضاء ما فات باللّيل في النّهار ، وبالعكس إلّا ما أخرجه دليل ،
وقد روى التنبيه بها عليه عن أبي عبد الله عليهالسلام في طرق لكنّها غير نقيّة والله أعلم.
[براءة : ٥] (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ.)
استدلّ بهذه الآية
على أنّ تارك الصّلاة مستحلّا مرتدّ يجب قتله ، لأنّه علّق المنع من قتلهم على
أمور هي التّوبة ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكوة ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تخلّى
سبيلهم ، ولا شكّ أنّ تركهم للصّلاة كان على وجه الاستحلال لعدم تحقّق
__________________
اعتقاد وجوبها من
المشرك ، والحكم المعلّق على مجموع لا يتحقّق إلّا مع تحقّق المجموع ويكفي في حصول
مقتضيه فوات واحد من المجموع ، وهو إباحة قتلهم ، وفيه نظر.
هذا وقد يستدلّ
بها أيضا على دخول الأعمال في الايمان وعدم قبول التوبة عن ذنب مع الإصرار على
غيره ، وإن كان أصغر منه فليتأمّل فيه.
[البقرة : ٢٠] (يا أَيُّهَا النَّاسُ)
(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ
__________________
قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.)
العبادة أقصى غاية
الخضوع ، ولذلك لا تكون إلّا للخالق ، أو المقام مقامه ، و
__________________
ما روي أنّ كلّ
خطاب بيا أيّها النّاس مكّيّ وبيا أيّها الّذين آمنوا مدنيّ إن
__________________
صحّ فلا يوجب
تخصيصه بالكفّار ، فإنّ المأمور به هو العبادة مطلقا يعمّ بدو العبادة وازديادها ،
والمواظبة عليها.
في تفسير القاضي إنّما قال ربّكم تنبيها على أنّ الموجب القريب للعبادة هي
الربوبيّة ، و «الذي» بصلته صفة جرت عليه للتعظيم والتّعليل ، ويحتمل التقيد إن
خصّ الخطاب بالمشركين وأريد بالربّ أعمّ من الحقيقيّ وما سمّوه باسمه ، لكنّه خلاف
الظاهر كما لا يخفى.
والخلق الإيجاد
على تقدير واستواء ، ولعلّ للترجّي والإشفاق ، تقول لعلّ زيدا يكرمني ، ولعلّه
يهينني ، والجملة حال عن فاعل «اعبدوا» أي راجين أن تكونوا من المتّقين ، وينبّه
على أنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته بل يكون بين خوف ورجاء ، مع رجحان
للرجاء.
أو عن الخالق لكن
على طريق التشبيه بالرّاجي ، أو عن المخلوقين كذلك ، فإنّه لما أزاح العلل في
أقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النّجدين وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة
المرجوّ منهم أن يتّقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطّاعة والعصيان.
وأمّا كونها علّة
بمعنى كي موافقا لقوله (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) كما يظهر من المجمع فقد أنكره الكشاف والقاضي فعلى هذا يجوز أن يكون غرض المجمع بيان محصّل المعنى على
تجوّز ، أو معناها المجازيّ ومنعهما باعتبار الحقيقة أو على مقتضى مذهبه فتأمّل.
و «الّذين» عطف
على مفعول خلقكم وغلّب الخطاب على الغيبة في لعلّكم أو حذف «وإياهم» للحضور.
فان قلت : فهلّا
قيل تعبدون لأجل اعبدوا أو اتّقوا لمكان يتّقون ، ليتجاوب
__________________
طرفا النّظم؟ قلت
: ليست التّقوى غير العبادة حتّى يؤدى ذلك إلى تنافر النّظم وإنّما التّقوى قصارى
أمر العابد ومنتهى جهده ، فاذا قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة ، كان أبعث على العبادة
، وأشدّ إلزاما على ما ثبت في النفوس ، كذا في الكشاف.
ثمّ ظاهر الأمر
إيجاب مطلق العبادة على كلّ النّاس : مسلمهم وكافرهم ، حرّهم وعبدهم ، إلّا ما
أخرجه الدّليل كالصّبيان والمجانين ، فيدلّ على وجوب العبادة في الجملة ، أو حتّى
يكونوا متّقين.
وعلى مشروعيّتها
مطلقا ، قيل فلا يحتاج إلى التوقيف فتصلح النّافلة دائما والصّوم كذلك وإعادة
العبادة والقضاء ، وغير ذلك من أنواع العبادة ، ولا يخفى أنّ ذلك بعد ثبوت كونها
عبادة مطلقا وربّما يكتفي باشتمالها على الخضوع والتذلّل مع ورود الشّرع بشيء من
جنسه أو مطلقا فتأمّل.
وعلى أنّ الكافر
مكلّف ، والعبد كذلك ، قيل : وتدلّ على أنّ العابد لا يستحقّ بعبادته عليه ثوابا ،
وإنّما وجبت عليه شكرا لما عدّده عليه من النّعم السّابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل
العمل ، وفيه نظر لجواز ذكر النعم المعدودة لمزيد الترغيب والتحريص فان الآمر إذا
عدّد بعض نعمه عند الأمر ، كان ذلك آكد وأتمّ ، وأبعث على الرغبة.
ثمّ غايته أن يكون
مقارنتها للأمر دالّة على وجوب امتثاله لهذه الأوصاف وأقصى ذلك أن يكون هذه موجبة
لعبادته ، أو اختصاصه بالعبادة ، وعلى كلّ تقدير لا يلزم كونها لمجرد الشّكر ، أن
لا يترتّب عليها ثواب ، ولا يستحق بها أجر بوجه.
على أنّ قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لا يبعد أن يكون إشارة إلى حصول الثّواب ودفع العقاب ، بل
هو أقوى في ذلك كما لا يخفى.
على أنّ تعداد
النّعم والامتنان بها على العباد في مواضع كثيرة من المنعم الغنيّ المطلق ، إنّما
يناسب عدم إرادة العوض ، فلا ينبغي كونها سببا موجبا للعبادة وشكرا لها على ما ادّعاه
، هذا مع ما دلّ على ترتّب الثواب من الآيات والأخبار ،
وغيرها ممّا هو
مذكور في أصول الكلام ممّا لا ينبغي معه الذّهاب إلى خلافه بل كاد أن يكون الثّواب
والعقاب من ضروريّات دين محمّد صلىاللهعليهوآله بل كلّ الأديان ، وبهما يثبتون الحشر والنشر ، والظّاهر
أنّه إجماع المسلمين.
نعم هذا مذهب
منسوب إلى أبي القاسم البلخيّ وذهاب غيره غير معلوم ، ودوام قائل به بعيد جدّا ،
ولم ينقل ذلك من أحد من الطّائفة المحقّة.
[البقرة ٢١] (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)
«الذي» منصوب
بأنّه صفة ثانية أو بالمدح أو مرفوع خبرا عن محذوف أو مبتدء خبره (فَلا تَجْعَلُوا) وقرئ «بساطا ومهادا» والمعنى أنّهم يقعدون عليها وينامون
ويتقلّبون كما يتقلّب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده ، وكأنّ المراد بذلك تسهيل
الانتفاع بها جدّا ، ولهذا قيل : ولا يلزم كون الأرض مسطّحة ، لأنّها لاتّساعها لا
ينافي هذا المعنى منها ، كرويّتها.
والسّماء اسم جنس
تقع على الواحد والمتعدّد ، والبناء مصدر سمّي به المبنيّ بيتا كان أو قبّة أو
خباء أو طرافا ، وأبنية العرب أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته لأنّهم كانوا إذا
تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا ، كذا في الكشّاف.
«وأنزل» عطف على «جعل»
ومن ابتدائية سواء أريد بالسّماء السّحاب أو جهة الفوق مطلقا ، فان ما علاك سماء أو
الفلك و «أخرج» عطف على «أنزل» وضمير به للماء ، ومن تبعيضيّة فرزقا مفعول له بمضي
المرزوق أو حال أو بيانيّة مقدّم على المبين كما في : «أنفقت من الدراهم ألفا»
فرزقا مفعول «اخرج» «ولكم» صفة رزقا أو مفعوله إن أريد به المصدر كأنّه قال رزقا
إيّاكم ، وإنّما ساغ الثّمرات والموضع موضع الكثرة لأنّه أراد بالثّمرة جماعة
الثّمرة كما في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيّده قراءة من الثّمرة على التّوحيد
أو لأنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض ، أو لأنّها لمّا كانت محلّاة باللام خرجت
عن حدّ القلّة.
(فَلا تَجْعَلُوا) إمّا متعلق باعبدوا على أنّه نهي معطوف عليه أو نفي منصوب
بإضمار أن جواب له
، أو بلعلّ على أنّه منصوب نصب فاطّلع في قوله تعالى (أَبْلُغُ الْأَسْبابَ
أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) إلحاقا لها بالأشياء السّتة ، وينبغي حينئذ أن يكون «الذي»
مفعول «يتّقون».
أو بالّذي جعل على
أنّه نهي وقع خبرا على تأويل «مقول فيه لا تجعلوا» والفاء للسببيّة أدخلت عليه
لتضمّن المبتدء معنى الشّرط أو بهو الذي على تقدير كونه خبرا ، فإمّا من عطف
الإنشاء على الإخبار لجوازه أو بتأويل.
في الكشاف الندّ المثل ، ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوي ،
ومعنى «ليس لله ندّ ولا ضدّ» نفي ما يسدّه مسدّه ، ونفي ما ينافيه ، والكفّار لما
تقرّبوا إلى أصنامهم وعظّموها وسمّوها آلهة ، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة
مثله قادرة على مخالفته ومضادّته ، فقيل لهم الأنداد على سبيل التهكّم ، وكما
تهكّم بهم بلفظ الندّ ، شنّع عليهم واستفظع شأنهم من حيث الجمع بأن جعلوا أندادا
كثيرة لمن لا يصحّ أن يكون له ندّ قطّ ، وقرئ «ندا».
(وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا) والمفعول محذوف أي وحالكم أنّكم من أهل العلم والنظر
وإصابة الرأي ، متمكّنون من معرفة أنّه لا يجوز أن يكون له ندّ ، أو مقدّر منويّ
وهو أنّه لا يجوز ، أو لا يكون له ندّ ، أو أنّه لا يقدر على مثل هذه الأفعال ولا
يفعله غيره ، أو ما بينه وبينها من التفاوت ، وعلى التقدير فالمقصود منه مزيد
التوبيخ لا تقيد الحكم وقصره عليه ، فان الظّاهر أنّ العالم والجاهل المتمكّن من
العلم سواء في التكليف ، ولهذا صحّ الأوّل أيضا.
نعم يمكن أن يفهم
أنّ الجاهل معذور على تقدير عدم القدرة على العلم وتمكّنه منه ، فيمكن أن يستفاد
منه عدم التكليف بما لا يطاق ، ويستنبط هنا أحكام أخر :
منها إباحة السكون
في أيّ جزء من الأرض كان على أيّ وجه أراد ، والصلاة فيه وسائر العبادات ، بل
إباحة الأرض والتّصرف فيها سكنى وغيرها إلّا ما أخرجه
__________________
دليل ، إذ ليس
المراد بجعلها فراشا ما يختصّ ببعض ما تقدّم ، وكذا إباحة الماء واستعماله وطهارته
بل طهوريّته أيضا ، لأنّها من جملة انتفاعاتها المتعارفة المطلوبة منه. كما هو
مقتضى مقام الامتنان ، ولكن قوله (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ) ربّما استدعى خلافه فتأمّل.
والمقام يستدعي
كون جميع الثمرات المخرجة رزقا وفي المجمع في (كُلَّما رُزِقُوا) أنّ الرّزق عبارة عما يصحّ الانتفاع به ، ولا يكون لأحد
المنع منه ، وفي القاموس : الرّزق ما ينتفع به ، وقد يقرب منه كلام القاضي كما
يأتي فقد يستفاد إباحة الثّمرات جميعا وعموم الانتفاع بها إلّا ما أخرجه دليل ،
وتحريم الشرك وثبوت الوحدانيّة.
قال القاضي : اعلم أنّ مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله والنهي عن
الإشراك به ، والإشارة إلى ما هو العلّة والمقتضي لها ، وبيانه أنّه رتّب الأمر
بالعبادة على صفة الربوبيّة إشعارا بأنّها العلّة لوجوبها ، ثمّ بيّن ربوبيتها
بأنّه خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم
والملابس ، فإنّ الثمرة أعمّ من المطعوم ، والرّزق أعمّ من المأكول والمشروب ، ثمّ
لمّا كانت هذه أمور الّتي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيّته ، رتّب عليها
النّهي عن الإشراك به.
__________________
النوع الثامن
فيما عدا اليومية وأحكام يلحق اليومية أيضا
الأولى (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) [الجمعة ٩].
خصّ الخطاب
بالمؤمنين تشريفا لهم وتعظيما ، ولأنّهم المنتفعون بذلك ، والنّداء الأذان. في
المجمع أي إذا أذّن لصلاة الجمعة ، وذلك إذا جلس الامام على
المنبر يوم الجمعة ، وذلك أنّه لم يكن على عهد رسول الله نداء سواه ، ونحو ذلك في
الكشاف. واللام للأجل وقيل : للتوقيت ، وحينئذ يلزم عدم اعتبار الأذان قبل وقت
الصلاة في ذلك وإن شرع ، وعلى الأوّل يعتبر مع شرعيّته ، أما لا معها فالأظهر لا.
و «من» بيانيّة
مفسّرة لإذا وقيل : للصّلاة على توقيت اللام ، وقيل بمعنى في ، وقيل للتبعيض ،
ويوم الجمعة يوم الفوج المجموع كقولهم ضحكة للمضحوك منه ، ويوم الجمعة بفتح الميم
يوم الوقت الجامع كقولهم ضحكة ولعنة ، والجمعة تثقيل للجمعة ، وقرئ بهنّ جميعا .
(فَاسْعَوْا) أي فامضوا وقد قرء به عبد الله بن مسعود ، وروي ذلك عن عليّ
__________________
عليهالسلام وعمر بن الخطّاب وأبيّ بن كعب وابن عبّاس ، وهو المرويّ عن
أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام وعن ابن مسعود : لو علمت الإسراع لأسرعت حتّى يقع ردائي من
كتفي ، ونحوه عن عمر ، وعن الحسن : ما هو السعي على الاقدام ، وقد نهوا أن يأتوا
الصّلاة إلّا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنيّات ، ويقرب منه ما قيل
: إنّه عبّر بالسّعي للمبالغة في الفعل وعدم الترك ، ولا يبعد أن يحمل على نحو ذلك
قول قتادة أي امضوا إليها مسرعين غير متثاقلين.
وفي الكشاف : وقيل
: المراد بالسعي القصد دون العدو ، والسّعي التصرف في كلّ عمل ، ومنه قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ.
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فليتأمّل.
والمراد بذكر الله
إمّا الصّلاة فكأنّه قال إليها ، إلّا أنّه عبّر عنها بذكر الله تشريفا لها
وترغيبا في فعلها ، وقيل : إشارة إلى أنّها ذكر الله وأنّه ينبغي القصد بفعلها
أنّها ذكر الله ، أو الخطبة أو هما جميعا والله أعلم.
وظاهر الآية وجوب
السعي على جميع المؤمنين ، وما يقال من أنّ فيها إشارة إلى الاختصاص بالأحرار ،
لأنّ العبد محجور عليه ، فموضع نظر وتأمّل ، نعم لا ريب في تأييده القول بالعدد
الأقل كالخمسة دون السبعة ، وإطلاق تحريم البيع بعد النداء يقتضي حرمته ، وإن لم
يكن مانعا من السعي ، إذ قد يمكن الجمع بينهما.
والظّاهر أن لا
قائل أيضا بتخصيص المنع بالمانع ، فلا يبعد أن يكون تحريمه نوع تعبّد فلا ينبغي
إلحاق سائر العقود به مطلقا من غير نصّ ، لأنّه قياس من غير ظهور علّة جامعة ، مع
مخالفته للأصل ، وما دلّ على إباحتها من العقل والنقل كتابا وسنة وإجماعا ، وهو
مذهب أكثر أصحابنا ، حتّى لم ينقل فيه خلاف بين المتقدّمين منهم.
__________________
وما يقال من أنّ
في الآية إيماء إلى العلّة ، وهي موجودة في محلّ النزاع فان قوله سبحانه (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) جرى مجرى التعليل لما قبله ، الذي من جملته ترك البيع ،
ولا شبهة في مشاركة سائر العقود البيع في ذلك ، فيشاركه في التّحريم ، وتخصيص
البيع بالذكر لأنّ فعله كان أكثريا لأنّهم كانوا يهبطون من قراهم وبواديهم
وينصبّون إلى المصر من كلّ أوب لأجل البيع والشّراء.
أو أنّ ظاهر الآية
وجوب السّعي بعد النّداء على الفور ، وإن لم يكن ذلك من نفس الأمر ، لأن الأمر
بترك البيع قرينة إرادة المسارعة ، فيكون كلّ ما شأنه أن يكون منافيا له منجرّا
إلى التراخي عنه مأمورا بتركه ، فيكون محرّما فموضع نظر لا يخفى.
وقول الشهيد أنّ
الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، لا يفيد الإطلاق وأمّا ما أشار إليه بقوله لو
حملنا البيع على المعاوضة المطلقة الذي هو معناه الأصليّ كان مستفادا من الآية
تحريم غيره أيضا فبعيد لأنّه خلاف المعنى الشرعيّ هذا.
وأمّا الانعقاد
فعليه أكثر المتأخّرين لعموم (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) و (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
تَراضٍ مِنْكُمْ) وعدم كون النّهي في المعاملات دالا على الفساد ، وأكثر
المتقدّمين على عدمه لكون النّهي دالا على الفساد كما قد يشعر به قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا).
وقال بعض مشايخنا
سلّمهم الله : لا يبعد عدم الانعقاد وإن لم يكن النّهي مطلقا دالا على
الفساد ، ليتمّ المطلوب ، والترغيب إلى الصّلاة ، ولأنّ ما يدلّ على انعقاده هو
إباحته ، فمع رفعها لا ينعقد ، مؤيّدا بالأصل من عدم الانتقال ، وليس كون العقد
الحرام الذي لا يرضى الله به دليلا وموجبا لذلك بظاهر فليتأمّل فيه.
وظاهر التعليق ألا
يحرم بمجرّد زوال الشمس [بدون الأذان] وصرّح في المنتهى أنّه مذهب علمائنا أجمع
وأكثر أهل العلم خلافا لمالك وأحمد ، فذهاب الشهيد الثاني في شرح الشرائع إلى ما
ذهبا غريب.
__________________
وظاهر الأكثر أنّ
المراد بالبيع المبايعة ، أي ما يعمّ الشراء ، وهو غير بعيد وربّما فهم ترك التوجّه
والعناية به أيضا.
ولو كان أحد
المتبايعين ممّن لا يجب عليه الجمعة ، فقيل بالكراهية بالنسبة إليه لعدم مقتضى
التحريم ، وقيل بالحرمة أيضا لقوله تعالى (وَلا تَعاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وأيضا لما فهم من الآية عموم ترك البيع قبولا أيضا ، فالخروج
منه بمجرّد سقوط وجوب الجمعة عنه بدليل مخصوص به موضع نظر.
(ذلِكُمْ) أي ما أمر به من السعي وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) وأنفع عاقبة بل ودينا (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) الخير والشر أو كنتم من أهل العلم والتّمييز تعلمون أنّ
ذلك خير لكم.
الثانية (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا
اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.)
ثمّ أطلق لهم ما
حظّر عليهم بعد قضاء الصّلاة من الانتشار ، وابتغاء الرّبح والنفع من فضل الله
ورحمته مع التوصية بإكثار الذكر ، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة وغيرها عنه ، لأنّ
فلاحهم فيه وفوزهم منوط به.
وفي ذلك إشارة إلى
أنّ الطالب لا ينبغي أن يعتمد على سعيه وكدّه ، بل على فضل الله ورحمته وتوفيقه
وتيسيره ، طالبا ذلك من الله وروي عن أبى عبد الله عليهالسلام أنّه قال : الصّلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السّبت.
وروى عمر بن يزيد عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : إنّى لأركب في الحاجة
__________________
الّتي كفاها الله
ما أركب فيها إلّا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال ، أما تسمع قول الله عزوجل (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أرأيت لو أنّ رجلا
دخل بيتا وطيّن عليه بابه ثمّ قال رزقي ينزل علىّ ، كان يكون هذا؟ أما إنه أحد
الثلاثة الّذين لا يستجاب لهم : أي رجل يدعو على امرأته ، [أن يريحه منها فلا
يستجاب له لأن عصمتها بيده لو شاء أن يخلّى سبيلها لخلّا سبيلها] ورجل يكون له
الحقّ على آخر فلا يشهد عليه فيجحد فيدعو ، ورجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته
فلا ينتشر ولا يطلب حتّى يأكله ثمّ يدعو فلا يستجاب لهم.
وعن ابن عبّاس لم
يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنّما هو عيادة المرضى ، وحضور الجنائز ، وزيارة أخ
في الله ، وذلك في المجمع عن أنس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وعن الحسن وسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير ومكحول طلب
العلم وقيل : صلاة التطوع وقيل : واذكروا الله أي على إحسانه واشكروه على نعمه وعلى
ما وفّقكم من طاعته وأداء فرضه.
وقيل : المراد
بالذكر هنا الفكر كما قال «تفكّر ساعة خير
من عبادة سنة» وقيل : معناه اذكروا الله في تجارتكم وأسواقكم ، كما روي عن النّبي صلىاللهعليهوآله أنه قال «من ذكر الله في سوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم
بما فيه ، كتب له ألف حسنة ، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر»
ولا يبعد أن يكون المراد واذكروا الله في الطلب ، فراعوا أوامره ونواهيه ، فلا
تطلبوا إلّا ما يحلّ من حيث يحلّ دون ما لا يحلّ ومن حيث لا يحلّ.
الثالثة (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.)
روي أنّ دحية بن خليفة الكلبيّ قدم من الشام بتجارة ذات جمعة
ورسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآله على المنبر يخطب ، وقيل : يصلّي وكان يضرب بالطبل ليؤذن
الناس بقدومه أو كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فلما اتّفق
ذلك قاموا إليه ، فما بقي معه إلّا يسير ، قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ،
وأربعون ، فقال : والذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي
نارا.
وعن قتادة : فعلوا
ذلك ثلاث مرات في كلّ مقدم عير ونزلت في ذمّ أولئك بأنهم إذا علموا تجارة أو لهوا
انصرفوا عنه صلىاللهعليهوآله «إليها» إلى
التجارة ، وإنّما خصّت بردّ الضمير إليها ، لأنها كانت أهم إليهم اكتفاء ،
والتقرير إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضّوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة
الآخر عليه.
وكذلك قراءة من
قرء «انفضّوا إليه» وقراءة من قرء لهوا أو تجارة انفضّوا إليها ، وقرئ إليهما فالظاهر أنّ منهم من خرج للتجارة ، ومنهم من خرج للهو ،
كما قيل.
وقيل : الضمير
للتجارة من غير تقدير آخر ، لأنّ المراد إذا رأوا تجارة وعلموها أو لهوا دالّا
عليها فظنّوها انفضّوا إليها. وقدّم التجارة أولا للترقّي باللهو ، إذ لا فائدة
لهم فيه ، بخلافها فالذمّ على الانصراف أولى وأقوى وأخّرها ثانيا للترقّي بها فان
كون ما عند الله من الثواب على سماع الخطبة وحضور الموعظة والصلاة والثبات مع
النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ أو من خير الدنيا والآخرة ـ خيرا من التجارة أبلغ من
كونه خيرا من اللهو الذي لا فائدة فيه إلّا وهما ولعلّ التفضيل أيضا بناء على
وهمهم لينا ومماشاة وتخلّقا معهم.
(وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) فيرزقكم إن لم تتركوا الخطبة والجمعة خيرا ممّا يرزقكم
__________________
مع الترك ، أو
خيرا ممّا ترجون من التجارة ونحوها ، وقيل : أي يرزقكم وإن لم تتركوا الخطبة
والجمعة ، و (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) من قبيل (أَحْكَمُ
الْحاكِمِينَ) و (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) إي إن أمكن وجود الرازقين فهو خيرهم ، وقيل الإطلاق على
غيره بطريق المجاز ، ولا ريب أنّ الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازقين بطريق
المجاز.
الرابعة
: في التوبة [٨٤] (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ
أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ.)
«مات» في موضع جرّ
صفة لأحد ، ومضيّة بالنسبة إلى فعل الصلاة ، وفي الكشاف : وإنّما قيل : مات وماتوا
بلفظ الماضي ، والمعنى على الاستقبال على تقدير الكون والوجود ، لأنه كائن موجود
لا محالة ، وفيه ما لا يخفى.
«وأبدا» منصوب على
أنّه ظرف للنهي تأكيد له وكونه ظرفا للمنهي كما هو ظاهر بعض إن صحّ فبتكلّف إما
للموت كما قال به القاضي وإنّما كسر إنّ في «أنّهم» وإن كان في موضع التعليل ،
لتحقيق الاخبار بأنّهم على الصفة الّتي ذكرها ، روي أنّه صلىاللهعليهوآله صلّى على عبد الله أبيّ وألبسه قميصه قبل أن ينهى عن
الصلاة على المنافقين ، عن ابن عباس وجابر وقتادة.
وقيل : إنه عليهالسلام أراد أن يصلّى عليه فأخذ جبرئيل بثوبه وتلا عليه : لا تصلّ
الآية ، عن أنس والحسن ، وروي أنّه كان قد أنفذ إليه قميصه ، فقيل له صلىاللهعليهوآله : لم وجّهت بقميصك إليه يكفّن فيه وهو كافر؟ فقال : إنّ
قميصي لن يغني عنه من الله شيئا ، وإني اؤمّل من الله أن يدخل بهذا السبب في
الإسلام خلق كثير ، فروي أنّه أسلم ألف من الخزرج لمّا رأوه يطلب الاستشفاء بثوب
رسول الله صلىاللهعليهوآله ذكره الزجّاج ، قال : والأكثر في الرواية أنّه لم يصلّ
عليه.
وقيل : إنّما فعل
ذلك مكافأة له على حسناه في الحديبية فإنّه لما قال المشركون لا نأذن : لمحمد
ولكنّا نأذن لعبد الله ، قال : لا لي أسوة برسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
وأيضا لما أسر
العبّاس يوم بدر ، لم يجدوا له قميصا على طوله وكان طويلا فكساه عبد الله هذا
قميصه ، أو إجابة إلى مسئلته إيّاه ، فقد روى ذلك ، وكان عليهالسلام لا يردّ سائلا ، وكان يتوفّر على دواعي المروة ويعمل
بعادات الكرام ، أو إكراما لابنه : فقد روي أنّه قال : أسئلك أن تكفّنه في بعض
قمصانك ، وأن تقوم على قبره لا يشمت به الأعداء.
وروى محمّد بن
يعقوب في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لما مات عبد الله أبيّ بن سلول حضر النبيّ صلىاللهعليهوآله جنازته فقال عمر لرسول الله : يا رسول الله ألم ينهك الله
أن تقوم على قبره؟ فسكت ، فقال : يا رسول الله ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟ فقال
له : ويلك ما يدريك ما قلت؟ إنّى قلت اللهمّ احش جوفه نارا واملأ قبره نارا وأصله
نارا ، قال أبو عبد الله : فأبدا من رسول الله صلىاللهعليهوآله ما كان يكره.
فالظاهر أنّ
المراد في الآية الوقوف للدعاء له ، والاستغفار ، ونحو ذلك ، وكأنه كذا يعتبر في
الصلاة على أحدهم ، فإنّ الظاهر منها أيضا ما يكون فيه دعاء للميّت كما صرّح به
القاضي ، فلا منافاة بين فعله صلىاللهعليهوآله ومفاد الآية أصلا ، وجاز أيضا أن يكون ذلك بعد الصلاة
ونزول الآية ، فلا ينافي قول ابن عبّاس ، وعلى القول الآخر فليس في الرواية أنّه
صلّى ، هذا.
فقد ظهر دلالة
الآية على عدم جواز الصلاة في وقت من الأوقات على أحد من الكفار مات على كفره ،
وكذا الوقوف على قبورهم للدعاء لهم ، وأنّ العلّة كفرهم وموتهم عليه ، بناء على
أنّ المراد من الفسق هنا الكفر كما قيل ، وإشعارها بأنّ ذلك
__________________
عبادة مشروعة
بالنسبة إلى سائر المسلمين ، إذ لو لا ذلك لم يخصّ سبحانه بالنهي الكافر ، هذا.
وقد يتأمّل في
الاشعار بكونها عبادة فتفكّر.
الخامسة
في النساء [١٠٠] (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) حرج وإثم في (أَنْ تَقْصُرُوا) في الكشاف في محلّ النصب بنزع الخافض ، وقيل في موضع جرّ
على تقدير حرف الجرّ لأنّ الحرف حذف لطول الكلام ، وما حذف لذلك فهو في حكم الثابت
، وقرئ في الشواذ «تقصروا» من الإقصار ، و «تقصّروا» من التقصير.
(مِنَ الصَّلاةِ) من زائدة وقال سيبويه صفة موصوف محذوف أي شيئا (مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا.)
في موضع نصب على
المفعول به ، وقيل مفعول له أي كراهة أن يفتنكم وفي قراءة أبيّ بن كعب بغير «إن خفتم» فقيل المعنى أن لا يفتنكم أو كراهة أن
يفتنكم كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا).
(إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً).
أي ظاهر العداوة ،
قال في الكافرين عدوا ، لأنّ لفظة فعول تقع على الواحد والجماعة ، ثمّ الضرب في
الأرض معتبر في القصر بنصّ الكتاب ، وقد أجمع علماؤنا على أنّ المسافة شرط وهو قول
أهل العلم ، نعم عن داود يقصر في قليل السفر وكثيره.
__________________
فالذي عليه
علماؤنا أربعة وعشرون ميلا ثمانية فراسخ مسيرة يوم ، وبه قال الأوزاعيّ قال : وبه
قال عامّة العلماء ، وأقلّ من ذلك إلى نصفه ، إذا كان قصده الرجوع في يومه أو قبل
إقامة عشرة كذلك ، وقيل : مع عدم قصد الرجوع بالتخيّر بينه وبين الإتمام ، وعند
الشافعي ستّة عشر فرسخا مسيرة يومين ، وفي قول له مسيرة يوم ، وفي آخر أربعة فراسخ
، وعند أبي حنيفة أربعة وعشرون فرسخا مسير ثلاثة أيّام واعتبار الأربعة مطلقا أقرب
إلى إطلاق الآية ، والعموم المفهوم من إذا ، لكن لم يعتبرها الأكثر كذلك لمخالفتها
لروايات كثيرة مع التصريح في بعضها باعتبار الرجوع ولو قبل عشرة كما يقتضيه قصر
الحاج من أهل مكة تأمل.
وأيضا ظاهر الآية
أنّ مجرّد الخروج إلى السفر وصدق الضرب في الأرض سبب للقصر ، لكن حدّه أكثر
الأصحاب بالوصول إلى موضع يخفى الأذان والجدران لروايات ، وقيل أيضا بمجرّد الخروج لبعض الروايات فتأمل.
ولا يخفى أنّ نفي
الجناح يصحّ في الواجب والمستحبّ والمباح ، بل في المرجوح أيضا ، فبالنظر إلى أنّ
هذا قصر للصلاة التامّة الواجبة ، والأصل عدم وجوبه ، قال الشافعيّ بالتخيير ،
ونظرا إلى أنّ الروايات قد دلّت على شيوع ذلك في فعل النبيّ والصحابة قال بأنّ القصر أفضل ، وبالنظر إلى أنّ أقلّ الرخصة جوازه
مع المرجوحيّة قال أيضا بأنّ الإتمام أفضل ، وأنت تعلم أنّ كلّ ذلك مع عدم الدليل
على وجوب القصر ، أما معه فيتعيّن ، فيكون عزيمة كما ذهب إليه أصحابنا ، وهو مذهب
أهل البيت عليهمالسلام وعمر وابن عمر وكثير من الصحابة وأبى حنيفة وأصحابه.
فعن عمر : صلاة
السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم وعن عائشة أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ، فأقرّت في السفر
، وزيدت في الحضر ، وعن
__________________
ابن عبّاس فرض
الله الصلاة على لسان نبيّكم صلىاللهعليهوآله في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين.
وعن ابن عمر قال صحبت رسول الله صلىاللهعليهوآله في السفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله تعالى ، وصحبت
أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتّى
قبضه الله عزوجل.
وعن ابن مسعود
أنّه لمّا بلغه أنّ عثمان صلّى أربعا ، استرجع وقال : صلّيت مع النبيّ صلىاللهعليهوآله ركعتين ، ومع أبى بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ثمّ
تفرّقت بكم الطرق فيا ليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان.
وعن ابن عبّاس أنه
قال للّذي قال له : كنت أتمّ الصلاة وصاحبي يقصّر : أنت الذي كنت تقصّر وصاحبك
يتمّ ، وعن ابن عمر أنّه قال لرجل سأل عن صلاة السفر : ركعتان فمن خالف السنّة
كفر.
وعن يعلى بن أمية
قال : قلت لعمر بن الخطّاب (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) فقد أمن الناس ، فقال : عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول
الله صلىاللهعليهوآله عن ذلك فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ،
أخرجه الجماعة إلّا البخاريّ والموطأ.
وعن عبد الله بن
خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر : كيف تقصر الصلاة وإنّما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) فقال ابن عمر يا ابن أخي إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أتانا ونحن ضلّال ، فعلّمنا فكان فيما علّمنا أن أمرنا أن
نصلّي ركعتين في السفر أخرجه النسائيّ والأمر للوجوب.
__________________
ومن طريق الخاصّة ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن أبى عمير عن بعض أصحابنا
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله إنّ الله عزوجل تصدّق على مرضى أمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ
أحدكم إذا تصدّق أن تردّ عليه؟
وفي الصحيح عن عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن الأوّل عن الرجل
يخرج في سفره وهو مسيرة يوم ، قال : يجب عليه التقصير ، إذا كان مسير يوم.
__________________
وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : الصلاة في السفر ركعتان ، ليس قبلهما ولا بعدهما شيء
، إلّا المغرب ثلاث ركعات.
وفي الصحيح عن عبيد الله الحلبيّ قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : صلّيت الظهر أربع ركعات وأنا في السفر؟ قال : أعد.
وفي الصحيح عن زرارة ومحمّد بن مسلم أنهما قالا : قلنا لأبي جعفر عليهالسلام ما
__________________
تقول : في الصلاة
في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال : إنّ الله عزوجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر ، قالا
: قلنا : انما قال الله تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) ولم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟
فقال عليهالسلام أو ليس قد قال الله تعالى في الصفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ألا ترى أن الطواف
بهما واجب مفروض لأنّ الله عزوجل ذكره في كتابه وصنع نبيّه صلىاللهعليهوآله وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ صلىاللهعليهوآله وذكره الله تعالى في كتابه.
قالا : قلنا له
فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال : إن كان قد قرئت عليه آية التقصير
وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ،
والصلاة كلّها في السفر الفريضة ركعتان إلّا المغرب ، فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير
: تركها رسول الله صلىاللهعليهوآله في السفر والحضر ثلاث ركعات ، وقد سافر رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان
أربعة وعشرون ميلا ، فقصّر وأفطر ، فصارت سنّة ، وقد سمى رسول الله صلىاللهعليهوآله قوما صاموا حين أفطر «العصاة» قال : فهم العصاة إلى يوم
القيمة ، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا.
قال في الكشاف : كأنّهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ
عليهم نقصانا في القصر ، فنفى عنهم الجناح ليطيب أنفسهم بالقصر ، ويطمئنّوا إليه
وهو غير بعيد كما تنبّه له من آخر حديث أبى عبد الله عليهالسلام ، وتشبيهه القصر بالسعي بين الصفا والمروة ، كما سيتّضح لك
إن شاء الله ، والروايات الدّالة على وجوب القصر
__________________
مطلقا مخصّصة بما
دلّت على التخيير في مواضعه الأربعة ، ولا تنافي الآية فتدبّر وأيضا إطلاق السفر
يعمّ ما كان معصية ، ولكن رفع الجناح عن القصر إرفاقا يناسب التخصيص بالمباح فلا
يبعد كما هو مقتضى الأخبار والإجماع فتأمل.
في المجمع إنّ في المراد من قصر الصلاة هنا أقوالا.
الف ـ أنّ معناه أن تقصروا الرباعيّات ركعتين ركعتين عن مجاهد
وجماعة من المفسّرين وهو قول الفقهاء ، ومذهب أهل البيت عليهمالسلام.
ب ـ وذهب إليه جماعة من الصحابة والتابعين منهم جابر بن عبد
الله وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وابن عباس وأبو هريرة وكعب وكان من الصحابة
قطعت يده يوم اليمامة وابن عمر وسعيد بن جبير والسدّي : أنّ المعنى قصر صلاة الخوف
من صلاة السفر لا من صلاة الإقامة لأنّ صلاة السفر عندهم ركعتان تمام غير قصر ،
قال : فهنا قصران قصر الأمن من أربع إلى ركعتين ، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة
واحدة ، وقد رواه أصحابنا أيضا.
ج ـ أنّ المراد القصر من حدود الصلاة عن ابن عباس وطاوس ،
وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدّة الخوف ، وأنها تصلّى إيماء ، والسجود أخفض من
الركوع فان لم يقدر على ذلك فالتسبيح المخصوص كاف عن ركعة.
د ـ أنّ المراد به الجمع بين الصلاتين ، قال : والصحيح
الأوّل.
ثمّ لا ريب أنّ
ظاهر الآية أنّ الخوف أيضا شرط للقصر ، فلا قصر مع الأمن لمفهوم الشرط ، لكن قد علم
جواز القصر ببيان النبيّ صلىاللهعليهوآله فنقول المفهوم وإن كان حجّة لكن بشرط عدم ظهور فائدة
للتقيد سوى المفهوم ، ويحتمل أن يكون ذكر الخوف في الآية لوجود الخوف عند نزولها ،
أو يكون قد خرج مخرج الأعمّ الأغلب عليهم في أسفارهم ، فإنّهم كانوا يخافون الأعداء
في عامّتها كما قيل ، ومثله في القرآن كثير مثل (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)
(وَلا
__________________
تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) وربما يدّعى لزوم الخوف للسفر غالبا ويؤيّد ذلك القراءة
بترك (إِنْ خِفْتُمْ).
على أنّ المفهوم
معتبر ما لم يعارضه أقوى منه ، ومعارض هنا بأقوى وأصرح منه من الإجماع ومنطوق
الأخبار من الخاصّة والعامّة كما تقدّم بعضها ، قال القاضي : وقد تظافرت السنن على
جوازه أيضا في حال الأمن ، فترك المفهوم بالمنطوق ، وإن كان المفهوم حجّة أيضا
لأنه أقوى.
وقيل : قوله (إِنْ خِفْتُمْ) إلخ منفصل عمّا قبله روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال :
نزلت إلى قوله (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ) ثمّ بعد حول سألوا رسول الله عن صلاة الخوف ، فنزل (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية هو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه.
وعلى هذا فيجوز أن
يكون التقدير : أقصروا من الصلاة إن خفتم الآية ، أو لا جناح عليكم أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم بقرينة السؤال ووقوعه في المصحف بعد ذلك.
وعلى هذا يتوجّه
القول الثاني أو الثالث في القصر بالنسبة إلى الخوف مع الأوّل بالنسبة إلى السفر
فليتأمل ، ويتوجّه أيضا قول أصحابنا أنّ كلا من السفر والخوف موجب للقصر كما
يتوجّه على قراءة ترك إن خفتم كما لا يخفى ، على أنّ الإجماع والأخبار يكفي في ذلك
كما تقدم وربما أمكن فهم القصر مع الخوف وحده من الآية الآتية بعد أيضا هذا.
وقيل : المعنى ان
خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا في الصلاة ، وقيل في أنفسكم أو دينكم ، وكأنه لا منافاة
، فافهم ، والفتنة قيل : القتل ، وقيل : العذاب ، والأظهر أنّه هنا التعريض
للمكروه ، والله أعلم.
السادسة
في النساء أيضا [١٠١] (وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ
أُخْرى
لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ
بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.)
ثمّ ابتدأ سبحانه
ببيان صلاة الخوف في جماعة ، فقال (وَإِذا كُنْتَ) يا محمّد (فِيهِمْ) أي في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين عدوّهم ، قاله في
مجمع البيان وهو الذي يقتضيه اتصال الآية بما قبلها ، وسياقها في نفسها مع شأن
نزولها ، فلا عموم لها حتّى يستدلّ به على جواز صلاة الخوف في الحضر أيضا كما في
المنتهى.
وحيث شرط كونه عليهالسلام فيهم ، ذهب بعض الجمهور إلى اختصاص الصلاة على هذا الوجه
بحضوره صلىاللهعليهوآله متعلّقا بالآية وأجيب بأنّه مفهوم المخالفة ، أو مفهوم
اللقب ، والحقّ أنّ المفهوم مفهوم شرط لكنّه ليس مفاده عدم مشروعيتها بل أن لا
تقوم الطائفة معه صلىاللهعليهوآله إلخ ولا دلالة لهذا على عدم مشروعيتها بدونه ، نعم لا
دلالة فيها على شرعيّتها مع غيره أيضا بل يثبت بدليل التأسي.
(فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلاةَ) بحدودها وركوعها وسجودها عن الحسن ، وقيل أقمت لهم الصلاة
بان تؤمهم (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ) في صلاتك ، وليكن سائرهم في وجه العدوّ فلم يذكر ما ينبغي
أن تفعله الطائفة غير المصلّية لدلالة الكلام عليه.
(وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ) أى الطائفة المصلّية لظاهر السياق نظرا إلى ما قبل وما بعد
، فيأخذون من السلاح ما لا يمنع واجبا في الصلاة كالسيف والخنجر والسكّين ونحوها ،
وجوبا لظاهر الأمر ، ولقوله آخرا (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً) الاية ، حيث نفى الحرج والإثم بشرط الأذى ، فيثبت مع عدمه
، وقال أبو حنيفة وأحمد والشافعيّ في قول استحبابا ، وعلى الأوّل لو كان السلاح
نجسا لم يجز أخذه على قول ، وقيل بالجواز عملا بالعموم ، والوجه اعتبار الحاجة.
وقيل : بل المأمور
الطائفة الّتي بإزاء العدوّ دون المصلّية عن ابن عباس ، وهو خلاف الظاهر ، بل هذه
الطائفة تأخذ السلاح لانّ الحراسة انّما تكون بالسلاح ، فهو أمر معلوم يدلّ عليه
الكلام وان لم يذكر (فَإِذا سَجَدُوا) اي الطائفة الأولى المصلّية معه صلىاللهعليهوآله (فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرائِكُمْ) فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافّين للعدوّ.
واختلف هنا فعندنا أنّ الطائفة الأولى إذا رفعت من السجود وفرغت من
الركعة يصلّون ركعة أخرى ويتشهّدون ويسلّمون والامام قائم في الثانية ثمّ ينصرفون
__________________
إلى مواقف أصحابهم
ويجيء الآخرون فيستفتحون الصلاة ويصلّى بهم الإمام الركعة الثانية ويطيل تشهّده
حتّى يقوموا فيصلّوا بقيّة صلاتهم ثمّ يسلّم بهم الامام ، فيكون للأولى تكبيرة
الافتتاح ، وللثانية التسليم ، وهو مذهب الشافعي أيضا.
وقيل : إنّ
الطائفة الأولى إذا فرغت من ركعة يسلّمون ويمضون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة
الأخرى فيصلّي بهم الركعة الأخرى ، وهذا مذهب جابر ومجاهد وحذيفة وابن جنيد ومن
يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.
وقيل : إنّ الامام
يصلّي بكلّ طائفة ركعتين فيصلّى بهم مرّتين ، عن الحسن وهذه صلاة بطن النخل ، ولا
أعلم من أصحابنا أحدا حمل الآية عليها ، وإن جوّزها كثير.
وقيل إنه إذا صلّى
بالطائفة الأولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة الأخرى فيكبّرون ويصلّي
بهم الركعة الثانية ، ويسلّم الإمام خاصّة ويعودون إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطائفة
الأولى فيقضون ركعة بغير قراءة ، لأنهم لاحقون ، ويسلّمون ويرجعون إلى وجه العدوّ
وتأتي الطائفة الثانية ويقضون ركعة بقراءة لأنهم مسبوقون عن عبد الله بن مسعود وهو
مذهب أبي حنيفة.
فالسجود في قوله (فَإِذا سَجَدُوا) على ظاهره عند أبي حنيفة وعلى قولنا والشافعي بمعنى الصلاة
أو يقدّر : وأتمّوا بقرينة ما بعده. وهو وإن كان خلاف ظاهره ، الا أنه أحوط للصلاة
، وأبلغ في حراسة العدوّ كما هو الظاهر ، وأشدّ موافقة لظاهر القرآن ، لأنّ قوله («وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ
أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) ، ظاهره أنّ الطائفة الأولى قد صلّت ، وقوله (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) مقتضاه أن يصلّوا تمام الصلاة ، فالظاهر أنّ صلاة كلّ
طائفة قد تمّت عند تمام صلاته ، وأيضا الظاهر أنّ مراد الآية بيان صلاة الطائفتين
، وذلك يتمّ على ما قلناه بأدنى تقدير أو تجوّز بخلافه على قوله ، وقول حذيفة وابن
الجنيد في ذلك كقولنا ، إذ لا بدّ بعد الركعة من التشهّد والتسليم ، نعم التجوّز
حينئذ أقرب من التجوز على ما قلناه.
وربما يمكن حمل
الآية على ما يعمّ الوجوه حتّى صلاة بطن النخل ، بأن
يكون المراد فاذا
صلّوا على ما بيّنت لهم ركعتين جماعة كما في بطن النخل ، أو منفردا في الأخيرة كما
في ذات الرقاع أو مكتفيا بالأولى منفردا بالتشهّد والتسليم كما في قول ابن الجنيد
، لكنّه مخالف لظاهر الروايات مع عدم ظهور قائل به من الأصحاب فتأمل ، والحمل على
ما يعمّ قول أبي حنيفة بعيد جدا كما لا يخفى.
ثمّ ههنا أمور :
الف ـ قد اشترط الشافعيّ كون كلّ طائفة ثلاثة فصاعدا ، لأن الطائفة
كذلك ولقوله تعالى (وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ) ونحوه ، وأجيب بأنّ الطائفة يقع على الواحد أيضا فإنّه قد
يسمّى طائفة ذكره الفرّاء ، وكذلك القطعة من الأرض يسمّى الطائفة أيضا ، والجمع
للاثنين فما فوق شائع ، على أنه يمكن خروجه مخرج الأعمّ الأغلب فتأمل.
ب ـ ينبغي للطائفة الأولى الانفراد عند القيام إلى الثانية ،
قاله الشيخ في المبسوط ، وفي الدروس أنّهم يفارقونه على الأقوى ، وظاهره وجود قول
بعدم المفارقة فتأمل.
ج ـ ذكروا لهذه الصلاة شروطا منها كون العدوّ في خلاف جهة
القبلة ذهب إليه علماؤنا أجمع ، على ما في المنتهى ، وربما دلّ عليه قوله تعالى (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) ، ومنها كثرة المسلمين بحيث يمكنهم الافتراق فرقتين ، يفي
كلّ فرقة بمقاومة العدوّ لتحصل المتابعة بفعل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإنه هكذا فعل ، ومنها قوة العدوّ بحيث يخاف هجومه ،
ومنها كون القتال سائغا على قول ، ومنها عدم الاحتياج إلى الزيادة على فرقتين على
قول ، وقال العلامة لو احتاج أن يفرقهم ثلاثا في المغرب أو أربعا على التمام في
الحضر جاز ، إذا نوى المأموم المفارقة ، لأنها صلاة واجبة لم يخلّ بشيء من
واجباتها ، وعلى هذا يختلّ أكثر الشرائط كما لا يخفى.
قوله (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي الطائفة الثانية في صلاتهم كما هو الظاهر وقد جعل الحذر
وهو التحرّز والتيقّظ آلة يستعملها الغازي ، فجمع بينه وبين
الأسلحة في الأخذ
، وجعلا مأخوذين مبالغة ، ولام الأمر هنا وفي ما تقدّم ساكنة باتفاق القراء ، والأصل بالكسر ، ويستثقل فيحذف استخفافا.
(وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي تمنّوا (لَوْ تَغْفُلُونَ
عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي تحملون عليكم حملة واحدة ، وفيه تنبيه على وجه وجوب أخذ
السلاح. وفي المجمع في الآية دلالة على صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله وصحّة نبوّته وذلك أنّها نزلت والنبيّ صلىاللهعليهوآله بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتوافقوا فصلّى النبيّ صلىاللهعليهوآله بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود ، فهمّ المشركون بان
يغيروا عليهم ، فقال بعضهم انّ لهم صلاة أخرى أحبّ إليهم من هذه ـ يعنون صلاة
العصر ـ فانزل الله تعالى عليه ، فصلّى بهم العصر صلاة الخوف ، وكان ذلك سبب إسلام
خالد بن الوليد.
هذا ، ولا يتوهّم
من قوله والنبيّ صلىاللهعليهوآله بعسفان أن يكون المراد بالآية صلاة الخوف المشهور بصلاة
عسفان ، فإنّ أحدا لم يقل بالحمل عليها أصلا كما صرّح به في الكنز ، ولا الآية
تحتملها كما لا يخفى ، بل لم ترو هذه الصلاة في طرقنا بل رواها الجمهور وأورده
الشيخ ، فتبعه بعض ومنع بعض ، قال في المنتهي ونحن نتوقّف في هذا لعدم ثبوت النقل عندنا عن أهل البيت عليهمالسلام بذلك.
نعم في الذكرى :
قلت هذه أي صلاة عسفان صلاة مشهورة في النقل كسائر
__________________
المشهورات الثابتة
وان لم ينقل بأسانيد صحيحة ، وقد ذكرها الشيخ مرسلا لها غير مسند ، ولا محيل على
سند ، فلو لم يصحّ عنده لم يتعرّض حتّى ينبّه على ضعفها ، فلا تقصر فتواه عن
روايته ، ثمّ ليس فيها مخالفة لأفعال الصلاة غير التقدم والتأخر ، والتخلف بركن ،
وكلّ ذلك غير قادح في الصحّة اختيارا وعند الضرورة انتهى ، وفيه نظر لا يخفى.
(وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) موضع (أَنْ تَضَعُوا) النصب بنزع الخافض أي في أن تضعوا ، فلما أن سقطت «في» عمل
ما قبل أن فيها ، وعلى القول الآخر يكون موضعها جرا بإضمار حرف الجرّ.
رخّص لهم في وضع
الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلّهم من مطر أو يضعفهم من توقّع مرض ،
وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر بقوله (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدوّ ، ولما كان هذا يوهم شوكة
العدوّ وغلبته واغتراره قال (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) فوعدهم بالنصر لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر
ليس لضعفهم أو غلبة عدوّهم ، بل لأنّ الواجب القيام بأمر الجهاد ، وربط الجأش في
القتال ، وتعوّد مراسم التيقظ والتدبّر ، متوكّلين على الله ، فإنه تعالى كثيرا ما
يفعل الأشياء بأسبابها.
السابعة
في النساء [١٠٣] (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ
فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً
مَوْقُوتاً.)
(فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً) حال قيامكم (وَقُعُوداً) حال قعودكم (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي مضطجعين في الكشاف قيل : معناه فاذا قضيتم الخوف ، فاديموا ذكر الله مهلّلين
مكبّرين مسبّحين ، داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع
، فان ما أنتم فيه من خوف وحرب جدير بذكر الله ودعائه
__________________
واللجإ اليه. وفي
المجمع أي ادعوا الله في هذه الأحوال لعلّه ينصركم على عدوّكم
ويظفركم به عن ابن عباس ، وأكثر المفسرين ، وفي كون الذكر مطلقا دعاء نظر نعم كون
الذكر يعمّ الدعاء قريب وكون ذلك على طريق التعقيب غير بعيد ، اما كون المراد به
خصوص «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» على ما هو المستحبّ
للمسافر عقيب كلّ صلاة مقصورة ، فلا يخلو من بعد ، وأبعد منه ان يكون المراد الأمر
بالمداومة على الذكر في جميع الأحوال كما في الحديث القدسي : يا موسى اذكرني فإنّ
ذكري حسن على كلّ حال.
وفي الكشاف : فاذا
صلّيتم في حال الخوف والقتال فصلّوها قياما مسايفين ومقارعين ، وقعودا جالسين على
الركب مرامين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح وكأنه على تضمين الإرادة والذكر بمعنى
الصلاة أو بمعناه ، لكن بان يصلوا له ويمكن اعتبار حال الخوف مطلقا من غير اختصاص
بحال القتال.
وقيل : إشارة إلى
صلاة القادر والعاجز أي إذا أردتم الصلاة فصلّوا قياما إذا كنتم أصحاء وقعودا إذا
كنتم مرضى لا تقدرون على القيام ، وعلى جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود عن ابن
مسعود.
وروي عن ابن عباس أنه قال عقيب تفسير الآية : لم يعذر الله تعالى أحدا في
ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله ، وعلى هذا التفسير يستفاد الترتيب أيضا لكن لم
أفز برواية الأصحاب لهذا التفسير لهذه الآية.
نعم روى ذلك في
تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) ولا يخفى أنّ عدم اعتبار الخوف يأباه قوله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) فإنّ ظاهره إذا
__________________
استقررتم بزوال
خوفكم ، وسكنت قلوبكم ، فأتموا حدود الصلاة ، واحفظوا أركانها وشرائطها.
وقيل : معناه إذا
أقمتم فأتمّوا الصلاة الّتي أجيز لكم قصرها ، وقد يجمع بين الوجهين وفيه نظر.
وقيل : إذا أمنتم
فاقضوا ما صلّيتم في حال القلق والانزعاج ، ذكره الكشاف ذهابا إلى قول الشافعيّ من
إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر
وقتها ، فإذا اطمأنّ فعليه القضاء ، وفيه بعد لا يخفى.
(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) في المجمع قيل : أي واجبة مفروضة عن ابن عباس وجماعة ، وهو
المروي عن الباقر والصادق عليهماالسلام وقيل : معناه فرضا موقّتا أي منجما تؤدّونها في أنجمها عن
ابن مسعود وقتادة وقد تقدّم في أول كتاب الصلاة.
الثامنة [البقرة ٢٣٩] (فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.)
صدر هذه الآية قد
مضى القول فيه في أوّل كتاب الصلاة وأما البقية ، فإنه سبحانه لما قدّم الأمر
بالمحافظة ، عقبه بذكر الرخصة عند المخافة فقال إن خفتم أي عدوّا أو سبعا أو غرقا
ونحوها ، فلم تتمكنوا أن تحافظوا عليها وتوفّوا حقّها فتأتوا بها تامّة الأفعال
والشروط (فَرِجالاً) هو جمع راجل مثل تجار وصحاب وقيام ، وهو الكائن على رجله
واقفا كان أو ماشيا أى فصلّوا حال كونكم رجالا ، وقيل مشاة.
(أَوْ رُكْباناً) جمع راكب كالفرسان وكلّ شيء علا شيئا فقد ركبه ، أي : أو
على ظهور دوابكم أي تراعون فيها دفع ما تخافون فلا ترتكبون ما به تخافون بل تأتون
بها على حسب أحوالكم بما لا تخافون به : واقفين أو ماشين أو راكبين إلى القبلة أو
غيرها بالقيام والركوع
والسجود ، أو بالإيماء أو بالنية والتكبير والتشهّد والتسليم.
ويروى أن عليا عليهالسلام صلّى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء وقيل بالتكبير وإنّ
النبيّ صلّى يوم الأحزاب إيماء وبالجملة فيها إشارة إلى صلاة الخوف إجمالا
والتفصيل يعلم من السنّة المطهّرة.
(فَإِذا أَمِنْتُمْ) بزوال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي فصلّوا (كَما عَلَّمَكُمْ ما
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من صلاة الأمن ، وقيل اذكروا الله بالثناء عليه والحمد له
شكرا على الأمن والخلاص من الخوف والعدو ، كما أحسن إليكم بما علمكم ما لم تكونوا
تعلمون من الشرائع ، وكيف تصلّون في حال الأمن وفي حال الخوف ، أو شكرا يوازي نعمة
وتعليمه ، ولعلّ هذا القول أظهر لظهور الذكر فيه ، وفهم صلاة الأمن من صدرها.
التاسعة [الانشراح : ٧ ـ ٨] (فَإِذا فَرَغْتَ
فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ.)
النصب التعب أي
فاتعب ولا تشتغل بالراحة ، والمعنى إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربّك في
الدعاء ، وإليه فارغب في المسئلة يعطك ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل
والكلبيّ ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام.
في المجمع : قال الصادق عليهالسلام : هو الدعاء في دبر الصلاة وأنت جالس فالظاهر أنّ المراد
به التعقيب بعد المكتوبة كما هو المشهور ، وعليه الاخبار والإجماع من الخاصّة
والعامة.
فالأمر على الندب
أو من خواصه عليهالسلام واعتبار الجلوس في قول الصادق عليهالسلام محمول على تأكّد الاستحباب كما تدلّ عليه أخبار أخر ، منها
ما رواه الصدوق في الصحيح أنّ هشام بن سالم قال لأبي عبد الله عليهالسلام : إنّي أخرج أحبّ أن أكون معقّبا ، فقال :
__________________
إن كنت على وضوء
فأنت معقّب.
وقد تدلّ الفاء
على الاشتغال به بغير فصل ، ويفهم من الروايات أيضا حتّى قبل النافلة في المغرب
كما صرّح به في رواية في الفقيه مع ما ورد من تعجيلها وفعلها قبل الكلام.
وينبغي أن يكون
المعقّب على هيئة الصلاة كما قاله بعض الأصحاب ودلّت عليه بعض الاخبار ، وادّعى
إشعار الآية به ، وفي الذكرى أنه يضرّ بالتعقيب جميع ما يضرّ بالصلاة ، ولعلّه
أراد نقص الفضيلة لا بطلان كونه تعقيبا شرعا وأما اشتراط ذلك في كونه دعاء شرعا
مستحبا في الجملة ، فكأنه لا قائل به ، ولا شبهة في خلافه.
ثم في الآية أقوال
أخر فقيل : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، عن ابن مسعود ، وقيل : إذا
فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربك وصلّ ، عن الجبائي ومجاهد في رواية. وقيل : إذا
فرغت من جهاد أعدائك فانصب في عبادة ربك عن الحسن وابن زيد ، وقيل : إذا فرغت من
جهاد عدوّك فانصب في جهاد نفسك ، وقيل : إذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب
الشفاعة ، قيل أي استغفر للمؤمنين.
في المجمع وسئل علىّ بن طلحة عن هذه الآية فقال : القول فيه كثير ،
وقد سمعنا أنّه يقال : إذا صححت فاجعل صحّتك وفراغك نصبا في العبادة ، والى ربّك
فارغب أي بجميع حوائجك وأمورك ، ولا ترغب الى غيره بوجه. ويجوز عطفه على الجزاء
وعلى الشرط فافهم.
__________________
العاشرة [البقرة ٤٣] (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.)
إقامة الصلاة
الإتيان بها تامّة الأفعال والشروط ، وأداء وظائفها المعتبرة ، والركوع لغة
الانحناء ، وقيل الخضوع ، وشرعا انحناء خاصّ ، قيل : أي بحيث تصل يدا مستوي الخلقة
إلى ركبتيه ، أو خضوع خاصّ ، وقد يعبّر به عن الصلاة لأنّ الركوع أوّل ما يشاهد من
الأفعال الّتي يستدلّ بها على انّ الإنسان يصلّى ، أو لكونه ركنا فيها أو لغير ذلك
، ولا ريب ان ليس المراد مطلق الانحناء ، فقيل : عبّر به عن الصلاة وذلك لأنّ
الخطاب لليهود ، وليس في صلاتهم ركوع ، وقوله (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) كان يحتمل الإشارة إلى صلاتهم والى صلاتنا ، فاذا قيل ذلك
اختصّ بصلاتنا فيكون بيانا لا تكرارا ومجرّد تأكيد كما قيل.
وأصرح في هذا
المعنى ما قيل انّ المراد اركعوا في الصلاة مع الراكعين في صلاتهم ، فيراد به
المعنى الشرعيّ ، والمعيّة على القولين كأنها باعتبار الموافقة في الصلاة والدخول
في دين الإسلام ، وحينئذ فالوجوب كما هو ظاهر الأمر ظاهر ، وإذا حمل على صلاة
الجماعة كما قيل : كانت المعيّة أظهر ، ولكنّ الوجوب كاد ان يكون خلاف الإجماع ، فامّا ان يحمل على الصلاة
الّتي يجب فيها الجماعة كصلاة الجمعة والعيدين ، أو على شدّة الاستحباب للأخبار
والإجماع.
هذا وقد يستدلّ
على الأوّل على ركنية الركوع ، لتسميتها لاشتمالها عليه وعدم انفكاكها عنه ، فاذا
عدم عدمت ، وفيه نظر. وعلى الثاني على وجوب الركوع ، وعلى الأخير على عدم إدراك
الجماعة مع عدم الركوع مع الامام ، حتّى لو كان الامام
__________________
راكعا وأدركه
حينئذ لم يكن مدركا لها ، لعدم الركوع مع الراكع ، بل بعده وفيه نظر : وقيل المراد
الخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين الله.
الحادية
عشرة [البقرة : ٤٤] (أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ.)
الهمزة للتقرير مع
التوبيخ والتعجيب من حالهم ، والبرّ سعة الخير والمعروف ومنه البرّ لسعته ويتناول
كلّ خير ، ومنه قولهم صدقت وبررت.
(وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ.)
تتركونها تاركة
للبرّ كالمنسيات.
(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ.)
الخطاب لعلماء
اليهود وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين : اثبتوا على ما أنتم عليه ، وهم لا
يؤمنون ، أو يأمرون من نصحوه في السرّ من أقاربهم وغيرهم باتباع محمّد صلىاللهعليهوآله ولا يتّبعونه ، وقيل : كانوا يأمرون العرب بالايمان بمحمد صلىاللهعليهوآله إذا بعث فلما بعث كفروا به.
وروى عن ابن عباس
انهم كانوا يأمرون اتباعهم بالتوراة وتركوا هم التمسّك به ، لأن جحدهم النبيّ صلىاللهعليهوآله وصفته ترك للتمسك به ، وعن قتادة كانوا يأمرون الناس بطاعة
الله وهم يخالفونه ، وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ، وإذا أتوا بصدقات
ليفرّقوها خانوا فيها.
وروى انس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : مررت ليلة اسرى بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار
، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس
بالبر وينسون أنفسهم.
__________________
(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتابَ) تبكيت مثل قوله «وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ» يعني تتلون التوراة وفيها نعت محمّد ، وفيها الوعيد على
الخيانة وترك البرّ ومخالفة القول العمل.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتّى
يصدّكم استقباحه عن ارتكابه ، فكأنكم في ذلك مسلوبة العقل ، لأنّ العقول تأباه
وتدفعه ، ونحوه (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وفي ذلك من الدلالة على كون القبح عقليا ما لا يخفى ، ولا
يدفعه قوله (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتابَ) كما قاله التفتازانيّ.
في المجمع فان قيل
: فاذا كان فعل البرّ واجبا والأمر به واجبا فلما ذا وبّخهم على الأمر بالبرّ؟
قلنا : لم يوبّخهم على الأمر بالبرّ ، وإنّما وبّخهم على ترك فعل البرّ المضموم
إلى الأمر بالبرّ ، لأن ترك البرّ ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به ، كقول
الشاعر :
لا تنه عن خلق
وتأتى مثله
|
|
عار عليك إذا
فعلت عظيم
|
وهذا هو المشهور ،
ومقتضى الأصل ودليل العقل ، من حيث حكمه ظاهرا بحسن الأمر بالمعروف مطلقا إلّا ما يستلزم
مفسدة ، وليست هنا ، والنقل من النصوص الدالّة عليه مطلقا ، والإخلال بأحد الأمرين
المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر إلا
__________________
بموجب ، وليس فيجوز
على هذا لتارك الصلاة أمر الغير والتحريض عليها ، والنهي عمّا ينافيها ويوجب تركها
بعد وجوبها.
وأما ما تقدّم من
كون ترك البرّ منه حينئذ أقبح وروى من مزيد عقابه وتزايد عذابه ، فلعلّه لاستلزام
ذلك كمال علمه بوجوبه ، ونهاية وضوح قبح الترك عنده ، ومزيد جرأته على الله ،
وزيادة بعده عن الحياء منه تعالى ، وشدّة خبثه.
وربما دلّ ذلك على
عدم وقوع الأمر به منه خالصا لله ، فيكون ذلك باطلا أيضا بل ربما كان على وجه
المعصية فتأمل فيه.
الثانية
عشرة [البقرة : ٤٥] (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ.)
واستعينوا أي على
حوائجكم إلى الله بالصبر والصلاة أي بالجمع بينهما ، بأن تصلّوا صابرين على تكاليف
الصلاة متحمّلين لمشاقّها ، وما يجب من إخلاص القلب وحفظ النيّات ، ودفع الوساوس
ومراعاة الآداب ، والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع ، واستحضار العلم بأنه
انتصاب بين يدي جبّار السموات والأرض ، ومنه قوله (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) قاله الكشاف.
فاذا فعل ذلك تقضى
الحوائج وقد وردت صلوات للحوائج فيمكن الحمل عليها ولا يخفى أنّ الصبر هو منع
النفس عن محابّها وكفّها عن هواها ، وهو مفتاح كلّ خير ، فلا يبعد عدم القصر على
مشاقّ الصلاة ، ويمكن أن يراد استعينوا على
__________________
ما أخلاكم من البر
وأنساكم أنفسكم منه بهما ، أو على امتثال جميع ما امروا به ونهوا عنه من قوله (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
ـ إلى ـ وَاسْتَعِينُوا) كما ذكروا في رجوع ضمير «انها» إليها.
أو يراد استعينوا
على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها كما روي أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وعن ابن عباس أنّه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وتنحّى عن
الطريق ، فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثمّ قام يمشي إلى راحلته وهو يقول (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ، ومنه قيل لشهر
رمضان شهر الصبر.
وفي المجمع أنّه روي عن أئمّتنا عليهمالسلام فيكون فائدة الاستعانة أنه يذهب بالشره وهوى النفس كما قال
عليهالسلام : الصوم وجاء ، ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء ولا يجب أن
يختص بكونه في البلاء كما قيل بأن يستعان على البلاء بالصبر والالتجاء إلى الدعاء
، والابتهال إلى الله في دفعه.
(وَإِنَّها) فيها وجوه :
الف ـ أنّها للاستعانة بهما.
ب ـ أنّها للصلاة وهو قول أكثر المفسّرين لقربها منه وتأكيد
حالها وتفخيم شأنها ، وعموم فرضها ، وأنها الأهمّ والأفضل على أحد وجهين : الأول
أن يراد بها الصلاة دون غيرها فيقدّر للصبر على قياس ذلك إذا اقتضته قرينة والثاني
أن يراد الاثنان وإن كان اللفظ واحدا ، وقيل يشهد لذلك قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ). (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها). (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
__________________
أَحَقُّ
أَنْ يُرْضُوهُ).
ج ـ أنّها لجميع الأمور الّتي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا
عنها من قوله «اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
ـ إلى ـ وَاسْتَعِينُوا»
وقيل إنّها لمحذوف
هو مؤاخذة النفس بهما أو تأدية ما تقدّم أو تأدية الصلاة وضروب الصبر أو الإجابة
للنبيّ صلىاللهعليهوآله.
(لَكَبِيرَةٌ) لشاقّة ثقيلة من قولك كبر عليّ هذا الأمر ، والأصل فيه أن
كل ما يكبر يثقل على الإنسان حمله ، فيقال لكلّ ما يصعب على النفس وإن لم يكن من
جهة الحمل يكبر عليها ، تشبيها بذلك.
(إِلَّا عَلَى
الْخاشِعِينَ) في المجمع الخشوع والتذلّل والإخبات نظائر وضدّ الخشوع
الاستكبار ، وأصل الباب من اللّين والسهولة ، والخاشع والمتواضع والمستكين بمعنى
فلكونهم قد وطّنوا أنفسهم على التواضع والتذلّل والاستكانة لا يثقل عليهم ، وقال
مجاهد : أراد بالخاشعين المؤمنين فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها لم
يثقل عليهم ذلك كما أنّ الإنسان يتجرّع مرارة الدواء لما يرجو به من نيل الشفاء. في
الكشاف : لأنّهم يتوقّعون ما ادّخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم ، ألا ترى
إلى قوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي يتوقّعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده وفي مصحف عبد الله «يعلمون» ومعناه
يعلمون أن لا بدّ من لقاء الجزاء فيعلمون على حسب ذلك ، ولذلك فسّر يظنّون
بيتيقّنون ، وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب ، كانت عليه مشقّة خالصة ،
فثقلت عليه كالمنافقين والمرائين.
وقال في المجمع
بعد حمل الظنّ على اليقين : وقيل إنّه بمعنى الظنّ غير اليقين أي يظنّون أنهم
ملاقوا ربّهم بذنوبهم لشدّة إشفاقهم من الإقامة على معصية الله قال الرّماني :
وفيه بعد لكثرة الحذف ، وقيل ، الّذين يظنّون انقضاء آجالهم وسرعة موتهم فيكونون
أبدا على حذر ووجل ولا يركنون إلى الدنيا ، كما يقال لمن مات لقي الله.
(وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
راجِعُونَ) يقال هنا : ما معنى الرجوع؟ وهم ما كانوا قطّ في
__________________
الآخرة فيعودوا
إليها؟ ويجاب بوجوه أحدها أنّهم راجعون بالإعادة في الآخرة عن أبي العالية.
وثانيها أنّهم
كانوا أمواتا فأحيوا ثمّ يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا.
وثالثها أنّهم
يرجعون بالموت إلى موضع لا يملك أحد لهم خيرا ولا نفعا غيره تعالى ، كما كانوا في
بدو الخلق ، فإنّهم في أيام حياتهم قد يملك غيره الحكم عليهم والتدبير لنفعهم
وضرّهم بوجه ، وتحقيقه أنّهم يقرّون بالنشأة الثانية ، فجعل رجوعهم بعد الموت إلى
المحشر رجوعا إليه.
الثالثة
عشرة [الأعراف ٢٠٥] (وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، وَاذْكُرْ
رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ، إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ.)
في المجمع الإنصات السكوت مع استماع ، قال ابن الأعرابي : نصت وأنصت
وانتصت : استمع الحديث وسكت وأنصت وأنصت له وأنصت الرجل سكت ، وأنصت غيره عن
الأزهري ، وفي القاموس نصت ينصت وأنصت وانتصت سكت : والاسم النصتة بالضم ، وأنصته
وله سكت له واستمع لحديثه وأنصته أسكتّه.
فلما قدم هنا
الأمر بالاستماع له ، فالظاهر أنّ الإنصات إمّا بمعنى السكوت أو هو مع الاستماع
تأكيدا فيه أيضا ، فالحمل على مجرد الاستماع بعيد.
في المجمع اختلف في الوقت المأمور بالإنصات للقرآن والاستماع له ،
فقيل إنّه في الصلاة خاصّة خلف الإمام الذي يؤتمّ به إذا سمعت قراءته ، عن ابن
مسعود وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيّب ومجاهد والزهريّ ، وروي ذلك عن أبي جعفر
__________________
عليهالسلام قالوا : وكان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم ويسلّم بعضهم
على بعض ، وإذا دخل داخل فقال لهم كم صلّيتم أجابوه ، فنهوا عن ذلك وأمروا
بالاستماع.
وقيل إنّه في الخطبة
أمر بالإنصات والاستماع إلى الامام يوم الجمعة ، عن عطاء وعمرو بن دينار وزيد بن
أسلم ، وقيل : إنه في الخطبة والصلاة جميعا عن الحسن وجماعة.
وقال الشيخ أبو
جعفر قدّس الله روحه وأقوى الأقوال الأول لأنه لا حال يجب فيه الإنصات لقراءة
القرآن إلّا حال قراءة الإمام في الصلاة ، فان على المأموم الإنصات والاستماع فأما
خارج الصلاة ، فلا خلاف أنّ الإنصات والاستماع غير واجب.
وروي عن أبى عبد
الله عليهالسلام أنّه قال : يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها ، قال :
وذلك على وجه الاستحباب.
وفي كتاب العيّاشي
بإسناده عن أبى كهمس عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قرأ ابن كوّاء خلف أمير المؤمنين عليهالسلام (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنصت له أمير المؤمنين.
وعن عبد الله بن
أبي يعفور عن أبي عبد الله عليهالسلام قال قلت له الرجل يقرأ القرآن أيجب على من سمعه الإنصات له
والاستماع؟ قال : نعم إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع .
قال الزجّاج ويجوز
أن يكون (فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا) أي اعملوا بما فيه ولا تجاوزوا ، لأنّ قول القائل سمع الله
دعاءك : أجاب الله دعاءك ، لأنّ الله سميع عليم ، وقال الجبائي : أنّها نزلت في
ابتداء التبليغ ليعلموا ويتفهّموا وقال أحمد بن حنبل : أجمعت الأمة على أنها نزلت
في الصلاة.
__________________
وفي الكشاف : ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة
وغير صلاة ، وقيل : كانوا يتكلّمون في الصلاة فنزلت ، ثمّ صار سنّة في غير الصلاة
أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن ، وقيل : معناه وإذا تلا عليكم
الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له ، وفي الجوامع ما هو قريب من ذلك.
وفي المعالم عن
سعيد بن جبير : هذا في الإنصات يوم الأضحى والفطر ويوم الجمعة ، وفيما يجهر به
الامام ، وعن عمر بن عبد العزيز : الإنصات لقول كل واعظ قال : والأول وهو أنّها في
القراءة في الصلاة أولى ، لأنّ الآية مكية ، والجمع وجبت بالمدينة ، وهو واضح.
وأما قول الجبائيّ
فيستلزم النسخ أو تقديرا كثيرا من غير موجب ، وأبعد منه ما قيل من إلحاق المعصومين
عليهمالسلام في ذلك بالنبيّ صلىاللهعليهوآله وما روي عن الزّجاج فإنّما يحتمله فاستمعوا له كما في
الكشاف ، وقيل : معنى فاستمعوا فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه ، وينبه عليه أيضا ما
ذكر في توجيهه ، فاما أن يكون معنى الجميع ذلك فلا ، بل حيث قارنه قوله و (أَنْصِتُوا) أبعده عن هذا كما لا يخفى.
وأما ما روي عن
أبي عبد الله عليهالسلام فهو ظاهر عبارة القرآن ، وربما يحمل على ما إذا قصد به
إسماع السامع كما وقع لأمير المؤمنين عليهالسلام وربما أشعر به قول أبى عبد الله عليهالسلام حيث لم يكتف في الحكم بالوجوب على مجرّد السماع ، بل قال
نعم إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.
ومما يؤيد هذا
الحمل أنه لو وجب مطلقا لزم عدم جواز قراءة اثنين أو جماعة على وجه يسمع كلّ قراءة
الآخر ، وعدم جواز الأذان بعد دخول الوقت عند من يقرأ ، وكذا صلاة النافلة والدعاء
ونحو ذلك ، بل الاجتماع في القراءة في الفريضة.
__________________
وفي الصحيح أنه سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن القراءة خلف الامام ، فقال : أما الّتي يجهر فيها
فإنّما أمرنا بالجهر لينصت من خلفه ، فان سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ.
فقراءة الإمام
ممّا قصد به استماع المأموم وإنصاته له ، أو في حكمه فتأمّل. ثمّ على الحمل على
الوجوب في الصلاة ، يدلّ على عدم جواز القراءة في موضع الوجوب خلافا للشافعيّة حيث
استحبّوا قراءة الحمد للمأموم في كلّ ركعة مطلقا ، وكذا على الوجوب مطلقا ، لكن إن
جهر الإمام حينئذ في موضع الإخفات على القول باستحبابهما ولو عمدا أو سهوا على
القول بوجوبهما وجب الإنصات ، ومقتضاه : أما لو تعمد حينئذ فالأظهر الوجوب ، وأما
على ما ذكرنا فالجميع موضع نظر ، وربما يأتي تفصيل.
وعلى القول بأنّ الأمر
في الآية للاستحباب وقد علم الوجوب في الصلاة فيما علم بدليل من خارج أو للرجحان
المطلق المتحقّق مع الوجوب والندب ويعلم الوجوب بدليل من خارج أيضا كما قيل فكان
الأولى الإنصات ، وكذا إن قرء المأموم كما اتّفق لعلى عليهالسلام مع ابن الكوّاء لا ما استلزم ما ينافي الصلاة من السكوت
الطويل. أو فوت الوقت ونحوه.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ) في المجمع أنّه خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله والمراد به عامّ وكأنه أراد من جهة التأسّي كما هو الظاهر
، فعلى ظاهر إطلاقه معناه اذكر ربك في نفسك أي بقلبك وفي خاطرك (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) أي متضرعا متذلّلا متوقّعا ما عند الله وخائفا من عقابه ،
بل من موبقات ذنوبك ، قيل : هما مصدران وضعا موضع الحال.
(وَدُونَ الْجَهْرِ
مِنَ الْقَوْلِ) عطف عليه فيجب أن يكون في موضع الحال أي وغير رافع صوتك
حتّى يبلغ حدّ الجهر ، والأظهر عطفه على (فِي نَفْسِكَ) أي و
__________________
فيما دون الجهر من
القول ، لأنّ الإخفات أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكّر.
(بِالْغُدُوِّ) جمع غدوة بالضمّ وهي البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع
الشمس كالغداة ، قاله في القاموس.
(وَالْآصالِ) في المجمع أنّه جمع أصل وأصل جمع أصيل فهو جمع الجمع ،
ومعناه العشيّات ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس والذي في القاموس أنّهما جمعان
لأصيل ، وهو العشيّ ، وهو آخر النهار كالعشيّة ، فيكون أمرا له عليهالسلام بالذكر في هذين الوقتين لفضلهما أو لأنهما حال فراغ عن طلب
المعاش ، فيكون الذكر فيهما ألصق من القلب كما أكّد التعقيب فيهما بعد صلاتي الصبح
والعصر في أخبار كثيرة ، وربما كان إشارة إليه ، ويمكن أن يكون أراد الدوام تعبيرا
عن جميع الوقت بطرفيه كما قيل ، لكنه بعيد.
وقيل إنه أمر
للإمام أن يرفع صوته في الصلاة بالقراءة مقدار ما يسمع من خلفه عن ابن عباس ،
ويمكن ذلك على أن يكون الخطاب له عليهالسلام من حيث إنّه إمام لكن ذلك بأن يراد بدون الجهر من القول ما
ذكره من رفع الصوت مقدار ما يسمع من خلفه لا أكثر ، وهو بعيد ، وكذا يلغو قوله الآصال
إن أبقى (فِي نَفْسِكَ) على ظاهره.
ولو حمل على
الإخفات الشّرعي مع كونه خلاف ظاهره ، احتيج إلى أن يراد بالغدوّ والآصال مجموعهما
مع ما بينهما ، أو حمل الآصال على ما بعد الزوال إلى الغروب ، إن اكتفى بشمول
الظهرين أو إلى نصف الليل مثلا إن أريد الإشارة إلى الصلوات الخمس ، وهو خلاف
الظاهر كما تقدّم فتأمل.
وقيل : إنّ الآية
متوجهة إلى من أمر بالاستماع للقرآن والإنصات ، وكانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا
أصواتهم بالدعاء عند ذكر الجنّة والنار ، عن ابن زيد ومجاهد وابن جريج ، فيكون
إشارة إلى أنّ المستمع ينبغي أن يكون ذاكرا بقلبه متضرعا خائفا ، وبما دون الجهر
من القول عند ذكر الجنّة والنار ونحوهما.
ولا يخفى أنه على
تقدير كون الأمر بالاستماع والإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها يأبى هذا القول قوله
تعالى (بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) اللهمّ إلا أن يراد بهما مجموع الليل والنهار.
وأما على القول
بالاختصاص بالمأموم في الصلاة فأقرب إذ يكفي حمل الآصال على ما بعد الزوال أو
إرادة الدوام كما تقدم.
وأما الحكم في
العشائين فمعلوم انه كما في الصبح أو يحمل الآصال على ما يشتمل وقت العشائين أيضا
استحسانا ، وليس ذلك كالأوّل ، فإنّهما حيث كانا من أوقات الصلاة ناسب ذكرهما هنا
دون الأول ، وعلى هذا ففيها أمر بالاستعاذة وطلب الرحمة عند سماع آيتي العذاب
والرحمة في الصلاة ، مع الأمر بالإنصات ، فهي كالمخصّص له ، وفيه مع ذلك من
التقييدات والتجوّزات ما لا يخفى.
وعلى توجّه الخطاب
إلى المأموم المستمع يمكن أن يراد بالذكر في النفس الذكر بالقلب حال الاستماع
والإنصات ، وبالذكر بما دون الجهر من القول الذكر في باقي الأحوال من اذكار الركوع
والسجود وغيرها ، لكن يقتضي أن يراد بالآصال وقت العشائين أو ما يعمّه ، أو أن
يكون الأول في الصلاة الجهريّة والثاني في الصلاة الإخفاتيّة ، ولعله أقرب ،
وكأنّه المراد بما في المجمع.
وروى زرارة عن أحدهما عليهالسلام قال : «إذا كنت خلف الإمام تأتمّ به فأنصت وسبّح في نفسك»
يعني فيما يجهر الامام فيه بالقراءة ، أما أن يراد بالجميع حكم الإخفاتيّة فبعيد
يدفعه ذكر الغدوّ في الآية ، وأما ظاهر الحديث فبالجهريّة أنسب وفي الحمل عليه ما
لا يخفى (وَلا تَكُنْ مِنَ
الْغافِلِينَ) عن ذكر الله أو عمّا أمرناك به في هذين الوقتين ، أو مطلقا
وهو أظهر ، ومع ذلك يحتمل الوجوب حملا على عموم التوجه
__________________
إلى الله ، وشدّة
العناية بامتثال أوامره ونواهيه ، فيذكر الله ويتذكّر ثوابه وعقابه عند أوامره ،
فلا يفوته شيء منها ، وعند نواهيه فلا يرتكب شيئا منها أو على ذكره عند أوامره
ونواهيه فتمتثلها ، وأما الأمر المتقدّم فبحسب ما فسّر به فيحمل على ظاهره من
الوجوب ، إلّا أن يمنع مانع من الإجماع أو غيره.
ثمّ ذكر سبحانه ما
يبعث إلى الذكر ويدعو إليه ويحثّ عليه ، فقال (إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ) قالوا هم الملائكة ، ومعنى «عند» دنو الزلفة والقرب من
رحمة الله وفضله ، وربما أمكن أن يراد ما يعمّ جميع المقرّبين من الملائكة وغيرهم
، الفائزين بمزيد الفضل والرحمة وعلوّ الدرجة ، فتأمل فيه.
(لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ) بل يتوفّرون على طاعته وابتغاء مرضاته ، ويذكرونه متضرّعين
خائفين كما أمرناكم به (وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهونه عمّا لا يليق به (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ويختصّونه بالعبادة لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بمن
سواهم من المكلّفين قاله الكشاف وفي المجمع : أى يخضعون ، وقيل يصلّون ، وقيل
يسجدون في الصلاة.
اعلم أنّهم ذكروا
استحباب السجدة في هذه الآية ، وكأنّ فيها إشارة ما إلى ذلك ، وكذا في
عشرة مواضع غيرها في الرّعد ، والنحل ، وبني إسرائيل ، ومريم ، والحجّ في موضعين ،
والفرقان ، والنمل وص وإذا السماء انشقّت ووجوبه في أربع «الم» عند قوله (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ
إِذا ذُكِّرُوا) الاية و «حم» عند قوله (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) الاية ، ويحتمل عند (لا يَسْأَمُونَ) والأحوط السجدة عندهما ، وآخر النجم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) وآخر اقرأ (وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ).
ودليل الأصحاب في
ذلك كلّه الإجماع والأخبار ، فالاستدلال على الوجوب بأنّها
__________________
واردة بصيغة الأمر
الدال على الوجوب منقوض وممنوع ، إذ لا دلالة فيها على الوجوب عند سماع تلك الآية
وقراءتها ، فلا بدّ من انضمام دعوى الإجماع على أنّها ليست سجدة الصلاة وأنه لا
وجوب بغير هذا الوجه ، على أنّ دعوى الإجماع على المدّعى أظهر وأولى.
وعند الشافعيّ
كلّها سنّة ، وأسقط سجدة ص ، وعند أبي حنيفة كلّها واجبة وأسقط السجدة الثانية من
الحجّ. في الكشاف : لأنّ المراد بالسجدة فيه سجدة الصلاة بقرينة مقارنتها بالركوع
، ولا يكفى ذلك مع دلالة الرواية كما استدلّ بها الشافعيّ وذكره الكشاف أيضا ، لكن
مراد الكشاف بيان معتمد كلّ منهما ذهابا من كل إلى أصله وإن تنافيا.
هذا ولا يجب فيها
تكبير للافتتاح ولا للسجود ولا تشهّد ولا تسليم ، ولا طهارة من حدث ، ولا من خبث ،
ولا للثوب ، ولا استقبال القبلة ، ولا ستر العورة ، نعم يستحب التكبير بعد الرفع
والذكر.
في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام إذا قرأت شيئا من العزائم الّتي يسجد فيها فلا تكبّر قبل
سجودك ، ولكن تكبّر حين ترفع رأسك.
وفي الصحيح عنه عليهالسلام أيضا إذا قرأ أحدكم السجدة من العزائم فليقل في سجوده «سجدت
لك تعبدا ورقا لا مستكبرا من عبادتك ولا مستنكفا ولا مستعظما بل أنا عبد ذليل خائف
مستجير» وأما وضع غير الجبهة من الأعضاء السبعة ومساواة المسجد للموقف أو كون علو
أحدهما على الآخر بلبنة فما دون ، وكون السجود على ما يصحّ السجود عليه في الصلاة
، فقد يبنى على أنّ مفهوم السجود هل يقتضي شيئا من
__________________
ذلك فيجب مقتضاه
أولا؟ والثاني أظهر والأوّل أحوط.
الربعة
عشرة [الكهف ١١١] (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.)
قال ابن عباس علّم
الله نبيه التواضع لئلا يزهي على خلقه فأمره أن يقرّ على نفسه بأنه آدمي كغيره الا
أنه أكرم بالوحي.
(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ.)
أي يأمل حسن لقاء
ربّه ، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول أو يخاف سوء لقائه ، قاله الكشاف . ثمّ قال : لقاء الله مثل للوصول إلى العاقبة من تلقّى ملك الموت
والبعث والحساب والجزاء ، مثّلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيّده بعد عهد طويل ،
وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من
أفعاله ، أو بضدّ ذلك لما سخطه منها ، فمعنى يرجو لقاء الله يأمل تلك الحال ، وأن
يلقى فيها الكرامة من الله والبشرى.
وفي المجمع أى يطمع في لقاء ثواب ربّه ويأمله ، ويقرّ بالبعث إليه
والوقوف بين يديه ، وقيل : معناه يخشى لقاء عقاب ربّه ، وقيل : إنّ الرجاء يستعمل
على كلا المعنيين الخوف والأمل ، وأنشد في ذلك قول الشاعر :
فلا كلّ ما ترجو
من الخير كائن
|
|
ولا كلّ ما ترجو
من الشرّ واقع
|
ولا يخفى أنّ حاصل
تفسيره لا يبعد مما في الكشاف وأنّ الظاهر كون الرجاء مجازا في الخوف والاكتراث
كما صرّح في الأساس ، بل في الأمل والخوف جميعا إن استعمل فتأمّل.
(فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صالِحاً.)
أي نافعا متضمّنا
للصلاح لا فاسدا متضمنا للفساد والشر ، وفي المجمع أي خالصا
__________________
لله يتقرّب به
إليه ، والأولى أن ذلك إنّما يتخلّص بعد قوله.
(وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.)
في المجمع أي أحدا
غيره من ملك أو بشر أو حجر أو شجر عن الحسن ، وقيل معناه لا يري في عبادة ربّه
أحدا عن سعيد بن جبير ، وقال مجاهد : جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال إنّي أتصدّق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلّا لله ،
فيذكر ذلك منّي وأحمد عليه فيسرّني ذلك وأعجب به ، فسكت رسول الله صلىاللهعليهوآله ولم يقل شيئا ، فنزلت الآية.
وقال عطاء عن ابن
عباس : إنّ الله تعالى قال (وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ولم يقل ولا يشرك به ، فإنّه أراد العمل الذي يعمل لله ،
ويحبّ أن يحمد عليه ، قال ولذلك يستحبّ للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها ،
كيلا يعظّمه من يصل بها.
وروي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه قال : قال الله عزوجل «أنا أغنى الشركاء
عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء ، فهو للّذي أشرك» أورده مسلم
في الصحيح وروى عبادة بن الصّامت وشدّاد بن أوس قالا سمعنا رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من صلّى صلاة يري بها فقد أشرك ، ومن صام صوما يري
به فقد أشرك ، ثمّ قرأ هذه الآية.
وروي أنّ أبا
الحسن الرضا عليهالسلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على
يده الماء ، فقال : لا تشرك بعبادة ربك أحدا ، فصرف المأمون الغلام وتولّى إتمام
وضوئه بنفسه ، وفي الكشاف أيضا أنّ المراد بالنهي أن لا يرى بعمله ، وأن لا يبتغى
به إلّا وجه ربّه خالصا لا يخلط به غيره.
وقيل : نزلت في جندب بن زهير قال لرسول الله صلىاللهعليهوآله إنّي لأعمل العمل لله
__________________
فاذا اطلع عليه
سرّني فقال : إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه ، وروي أنّه قال له : لك أجران : أجر
السّر وأجر العلانية ، وذلك إذا قصد أن يقتدى به ، وعنه عليهالسلام اتّقوا الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال :
الرياء.
فالآية على
تفسيرها المتّفق بين المؤالف والمخالف تدلّ على وجوب الإخلاص في العبادة بحيث لا
يلحقه ما ينافيه أيضا ، وعلى بعض الوجوه على اشتراطه أيضا كما يدلّ عليه غير هذه
الآية وأخبار كثيرة وأما السرور بذكره والمدح عليه ، فان كان من قبيل العجب أو
الرياء فكذلك كما هو ظاهر الاخبار وظاهر الوجه في السرور به ، وأما إن كان لمثل
أنه عسى أن يقتدى به فيحوز أجر الاقتداء به في ذلك كما رواه الكشاف فلا يبعد عدم
القدح.
على أنّ الاولى
حينئذ أن يزيد خوفه وتشتد خشيته لاحتمال فوت شرط من شرائطه ، وعروض مانع من قبوله
، فيفوز الذاكر المادح بحسن ظنّه وإخلاصه ، وكذا المقتدي ويحرم هو الأجر بل يلحقه
الذّم والعقاب بتقصيره ، هذا.
وفي الفقيه وكان أمير المؤمنين عليهالسلام إذا توضّأ لم يدع أحدا يصبّ عليه الماء ، فقيل له يا أمير
المؤمنين لم لا تدعهم يصبّون عليك الماء؟ فقال : لا أحبّ أن أشرك في صلاتي أحدا
وقال الله تعالى (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً).
وفي التهذيب
والكافي عن الحسن بن عليّ الوشاء قال : دخلت على الرضا عليهالسلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيّأ منه للصلاة ، فدنوت لأصبّ
عليه فأبى ذلك وقال : مه يا حسن! فقلت : لم تنهاني أن أصبّ على يدك تكره أن أوجر؟
فقال تؤجر أنت وأوزر أنا فقلت له : وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله يقول (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وها أنا ذا أتوضّأ
__________________
للصلاة ، وهي
العبادة ، فأكره أن يشركني فيها أحد.
وفي المجمع وروى
أنّ أبا الحسن الرضا عليهالسلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصبّ على
يده الماء فقال : لا تشرك بعبادة ربّك أحدا فصرف المأمون الغلام وتولّى إتمام
وضوئه بنفسه ، وعلى هذا فيراد بالاية النهي عن الاستعانة فيها بأحد أيضا بحيث يصير
شريكا في فعلها ، إما على أن يكون المعنى النهى عن إشراك الغير مطلقا سواء جعل
شريكا لله أو شريكا له أو على أن يكون هذا أحد المعنيين الصحيحين فيها.
وعلى التقديرين
فيدلّ على عدم جواز تولية الغير شيئا من العبادة لا بعضا ولا كلا ولا استعانة إلّا
ما أخرجه دليل ، فلا يجوز التولية في الوضوء لا بعضا ولا كلا اختيارا كما ذهب إليه
الفقهاء الأربعة ، وكذا في الغسل والتيمّم ولا الاتّكاء في الصلاة بل يجب
الاستقلال بالقيام والقعود وغيرهما اختيارا.
هذا وقد ينظر في
رواية الوشّاء من حيث دلالتها على عقاب المعان وثواب المعين ، مع أنه ينبغي عقاب
المعين أيضا لأنّه معين على الحرام ، فينبغي أن يحمل على كون الجاهل في ذلك معذورا
مثابا مع قصده القربة ، أو على أنّ قوله عليهالسلام «تؤجر أنت» على
سبيل الإنكار كأنه عليهالسلام يقول كيف تؤجر أنت وأنا أوزر به فيكون دليلا على عدم
الثواب للجاهل ، وإن قصد القربة كما هو ظاهر قوله «تكره أن أوجر».
وفي قضيّة المأمون
من حيث دلالتها على صحّة الفعل حينئذ مع أنّه ينبغي البطلان وأنه يجب على المأمون
إعادة الوضوء لا الإتمام ، وعلى الإمام الأمر بذلك ، لكن يمكن أن يكون ما فعله
المأمون من مستحبّات الوضوء أو أنه عليهالسلام لم يتمكن من أكثر من ذلك.
وإما أن يحمل
المنع في الروايات علي الكراهة ، ويكون المقصود من قراءة الآية الإشارة إلى
المبالغة في المنع ، دون الحقيقة على ما قيل ، فبعيد ، لأنّ الآية إن لم يشتمل على
المنع من ذلك ، ولو على سبيل الكراهة فقراءتها حينئذ غير لائق منه عليهالسلام وإن اشتمل فيحتاج إلى حمل الروايات على الكراهة أو شدّتها
، وكذا
الآية على الوجه
الآخر فيها ، وعلى طلب الترك مطلقا على الأوّل ، مع أنّ سياقها يقتضي الحرمة كظاهر
النهى ، وكذا الروايات خصوصا رواية الوشّاء كما لا يخفى.
نعم إن لم نقل
بجبر تعاضدها ما في إسنادها لم ينبغ التعدّي بها عن الكراهة إلّا بحجّة اخرى
كالنصّ الدالّ على تكليف المكلّف بفعلها ، والإجماع على ما في الذكرى ، وقول ابن
الجنيد بالاستحباب لا يعارضها.
وأما الآية ، فإن
قلنا بظهورها في المنع من الإشراك مطلقا كما قدّمنا كفى في هذا المعنى ، ولزم حمل
الروايات عليها ، وإلّا فينبغي تركها على احتمالها.
وإن قلنا بجبر
تعاضدها فلعلّه لا بأس حينئذ بالتعدّي بها إلى الحرمة وحمل الآية بها على هذا
المعنى ، وإن لم نقل بظهورها فيه بنفسها.
واعلم أنّ الذي
ينبغي أن يحمل عليه صبّ الماء في الروايات الصبّ على موضع الغسل ، فإنّه الذي
تشتمل الآية على منعه لكونه إشراكا لا أن يصبّ في اليد ليغسل به ، إذ ليس ذلك جزء
للوضوء فلا يصير بذلك شريكا في فعله ، وممّا يؤيد ذلك ما روي في الصحيح عن أبي
عبيدة الحذاء قال «وضّأت أبا جعفر عليهالسلام بجمع ، وقد بال فناولته ماء فاستنجى ثمّ صببت عليه كفا
فغسل وجهه وكفا غسل به ذراعه الأيمن وكفا غسل به ذراعه الأيسر ، ثمّ مسح بفضلة
النداء رأسه ورجليه». هذا.
وفي الكشاف عنه صلىاللهعليهوآله من قرأ عند مضجعه (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كان له في مضجعه نورا يتلألؤ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة
يصلّون عليه حتّى يقوم ، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى
البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتى يستيقظ.
وفي الفقيه قال النبي صلىاللهعليهوآله : من قرأ هذه الآية عند منامه سطع له نور الى
__________________
المسجد الحرام حشو
ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتّى يصبح ، ونحوه في التهذيب إلّا أن فيه وروي عنه صلىاللهعليهوآله.
وفيهما عن عامر بن
عبد الله بن جذاعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : ما من عبد يقرأ آخر الكهف حين ينام الّا استيقظ في
الساعة الّتي يريد ، وقد ذكر ثقات من الأصحاب أنّهم وجدوها كذلك.
الخامسة
عشرة [الكهف : ٢٨] (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) احبسها وثبّتها.
(مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.)
طرفي النهار
فيستفتحون يومهم بالدعاء : ويختمونه به ، أو في مجامع أوقاتهم أي مداومون على
الصلاة والدعاء كأنه لا شغل لهم غيره ، وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر.
(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أى رضوانه وقيل : تعظيمه والقربة إليه دون الرياء والسمعة.
(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ) يقال : عداه إذا جاوزه ومنه عدا طوره ، وإنّما عدّى بعن
لتضمّن عدا معنى نبا وعلا في قولك نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم
تعلق به ، (تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع الحال فقد نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يزدرى بفقراء المؤمنين وأن تنبو عينه عن رثاثة زيّهم
طموحا إلى طراوة زيّ الأغنياء وحسن شارتهم.
في المجمع نزلت في سلمان وأبي ذرّ وعمار وصهيب وخبّاب وغيرهم من
فقراء أصحاب النبيّ وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم
جاؤا إلى رسول الله فقالوا : ان جلست في صدر المجلس ونحيت عنّا هؤلاء وروائح
صنانهم وكانت عليهم جباب الصوف ـ جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك ، فلا يمنعنا من
الدخول عليك إلّا هؤلاء ، فلمّا نزلت الآية قام النبي صلّى الله عليه يلتمسهم
فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزوجل فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن اصبّر نفسي
مع رجال من أمّتي : معكم المحيا ومعكم الممات.
__________________
هذا ولا يخفى ما
يستفاد منه من الترغيب والتحريض في مجالسه الصلحاء والعبّاد وإن كانوا فقراء ،
وحفّت مجالستهم بمكاره تتأذّى منها النفس وتنفر ، وفضل الدعاء وكأنه هنا يعمّ
الأذكار وقراءة القرآن ، والصلاة وفضيلة وقت الغداة والعشيّ ، وهو ان زينة الدنيا
، وضرر التوجّه إليها وإلى أهلها ، واستقباح العدول عن صحبة أهل الطاعة إلى صحبتهم
، ولو لاحتمال مصلحة دينيّة.
(وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي جعلنا قلبه غافلا عنه كقولك أجبنته وأفحمته وأبخلته ،
إذا وجدته كذلك أو من أغفل أهله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم
من الّذين كتبنا في قلوبهم الايمان ، أو نسبنا قلبه إلى الغفلة كما يقال أكفره إذا
نسبه إلى الكفر.
قال الكشاف : وقد أبطل الله توهم المجبّرة بقوله (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وقرئ «أغفلنا قلبه» بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا
قلبه غافلين عمّن ذكرنا ، فلا نعرف من ذكرنا ممن لم يذكرنا ، أو من آمن بذكرنا
ممّن لم يؤمن به ، أو عن ذكرنا إيّاه بالمؤاخذة وذلك أيضا من أغفلته إذا وجدته
غافلا.
(وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً) : متقدّما للحقّ والصواب ، نابذا له وراء ظهره ، من قولهم
فرس فرط متقدّم للخيل ، وفيه من التحريض على ذكر الله واتّباع آياته والزّجر عن
الغفلة ومتابعة الهوى ما لا يخفى.
وقد يستفاد عدم
جواز المماشاة مع الكفّار والمنافقين أو الفسّاق أيضا فيما يرومون من تعظيمهم
والمداخلة معهم والمخالطة بهم استجلابا لقلوبهم إلى الحق ، والله أعلم.
السادسة
عشرة [آل
عمران : ١٩٠] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.)
__________________
أى إنّ في
إيجادهما بما فيهما من العجائب والبدائع ، وفي اختلاف الليل والنهار باعتبار
الخواصّ والأحوال ، بل اختلاف كلّ بنفسه باعتبار الطول والقصر ، والحرارة والبرودة
والشدة والضعف في ذلك ، والتفاوت بين أجزائه وأحوالها ، لأدلّة واضحة على وجود
الصانع وكمال علمه وعظيم قدرته وباهر حكمته وغير ذلك من صفاته العلي الثبوتيّة
والسلبيّة لذوي البصائر والعقول.
اللب العقل سمّي به لأنه خير ما في الإنسان ، واللبّ من كلّ شيء خيره
وخالصة ، وفي ذلك ترغيب في علم الكلام والهيئة ، بل النجوم على بعض الوجوه.
(الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ.)
أي مضطجعين ، و «الذين»
في محلّ الجرّ بأنه صفة أو عطف بيان لاولي ، وقيل أو تأكيد له ، ويمكن كونه مرفوعا
أو منصوبا على المدح ، وهو إشارة إلى أن «اولي الألباب» هم الّذين يذكرون الله
دائما وعلى كل حال.
في المجمع : لان
أحوال المكلّفين لا تخلو من هذه الثلاثة ، وقد أمروا بذكر الله في جميعها.
وفي الكشاف ذكرا
دائبا على أيّ حال كانوا من قيام أو قعود أو اضطجاع لا ـ يخلون بالذكر في غالب
أحوالهم.
وعلي التقديرين
كانّ فيه إشعارا بأن من لم يكن ذاكرا لله كذلك كأنه خال عن اللبّ والعقل ، فكيف من
كان غافلا في غالب الأحوال ، وفي ذلك من الترغيب في ذكر الله على جميع الأحوال ما
لا يخفى ، كما في الحديث القدسيّ إنّ ذكري حسن على كلّ حال.
وقيل معناه يصلّون
في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم فالصحيح يصلّي
__________________
قائماً ، والمريض
جالسا وعلى جنبه أي مضطجعا ، في المجمع : رواه علي بن إبراهيم في تفسيره ولا تنافي بين التفسيرين ، لأنه غير ممتنع وصفهم
بالذكر في هذه الأحوال وهم في الصلاة وهو قول ابن جريج وقتادة.
وفي الكافي عن علي عن أبيه عن ابن محبوب عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام في قول الله عزوجل (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً). قال : الصحيح يصلي قائماً (وَقُعُوداً) المريض يصلي جالسا (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا ، وفي ذلك ردّ
على أبي حنيفة حيث قال بأنه يستلقي ، وأما الشافعيّ فعلى ما ذهب إليه أصحابنا.
(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
عطف على (يَذْكُرُونَ) فيدلّ على أن من كمال العقل وحسن البصيرة التفكّر في
خلقهما.
والاستدلال به من
جهة اختراع هذه الأجرام العظام ، وإبداع صنعتها وأوضاعها ، وما دبّر فيها مما تكلّ
الافهام عن إدراك بعض عجائبه كما يعين عليه علم الهيئة والنجوم ، على عظم شأن
الصانع وكبرياء سلطانه ، وجلال صفاته ، وكمال قدرته ، وعظيم حكمته قائلين :
(رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا) إشارة إلى السموات والأرض ، لأنها في معنى المخلوق كأنه
قيل : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا وفي هذا ضرب من التعظيم ، أو إلى الخلق
على أنّ المراد به المخلوق.
(باطِلاً) عبثا بغير حكمة ومصلحة (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عن الباطل والعبث وجميع النقائص بل فيه حكم
عظيمة ومصالح جليلة منها أن تجعلها مبدءا لوجود الإنسان بل أصناف الحيوان وسببا
لمعاشهم ومساكن لهم وأدلّة للمكلفين علي
__________________
حكمتك ووجوب طاعتك
واجتناب معصيتك ، تعريضا إياهم للثواب بدلا من العقاب ولذلك وصل به قوله (فَقِنا عَذابَ النَّارِ).
فالفاء للدلالة
على أنّ علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الاستعاذة ويشعر بأنّ
المكلف بما تقدم له من العلم والايمان بأنه لم يفعل عبثا وما استلزمه حتى أدّاه
إلى الاستعاذة ، أهل للطلب والمغفرة والله أعلم.
وفي الآية دلالة
على أنّ الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى ، لأنها باطلة بلا خلاف ، وقد
نفى الله سبحانه ذلك بحكايته عن اولى الألباب الّذين رضي أقوالهم ، فيجب بذلك
القطع على أنّ القبائح غير مضافة إليه سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا.
وفيها إشارة إلى
أنّ العلم بوجود فائدة يدلّ على عودها إلى الخلق ، وذلك يدلّ على استحقاق العبادة
وحسن التكليف وكونه لازما واستحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على العصيان ، وأنّ
له المغفرة والعفو على جهة التفضّل ، وأنه لا قبح فيه ، وهو قادر عليه مختار فيه ،
وكان ذلك يستلزم كون الحسن والقبح عقليين.
ولا يخفى ما في
ذلك أيضا من الدلالة على عظم شأن علم أصول الدين وفضل أهله وشرف التفكّر والتدبّر
في الخلق ، والاستدلال والاعتبار به ، حيث جعل كذكر الله من لوازم العقل.
عنه صلىاللهعليهوآله : لا عبادة كالتفكّر وعنه صلىاللهعليهوآله أيضا : بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى
النجوم وإلى السماء فقال : أشهد ان لك ربا وخالقا اللهمّ اغفر لي فنظر الله إليه
فغفر له.
__________________
وروى الثعلبيّ بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ بن أبي طالب أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان إذا قام من الليل سوّك ثمّ ينظر إلى السماء ثمّ يقول (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ») إلى قوله (فَقِنا عَذابَ
النَّارِ).
(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي فقد أبلغت في إخزائه ، وهو نظير قوله (فَقَدْ فازَ) ومن كلامهم نحو من سبق فلانا فقد سبق ، والجملة استئناف في
مقام التعليل للطلب المتقدّم على جهة التأكيد والإلحاح فيه بتهويل المستعاذ منه
وإظهار شدّة الخوف والعجز عن احتمال ذلك تعرضا لرحمته الواسعة ، أو على جهة
الاستشفاع بسعة رحمته ووفور كرمه لقبول ما تقدّم من معرفة الله تعالى والايمان به
وتنزيهه عمّا لا يليق به ، والدعاء له والاستعاذة به ، فلا يبلغ في إخزائه الغاية
بل يدركه بالعناية الكاملة الّتي يقبل بها القليل ويعطي الجزيل.
فكأنّ ذلك بالنظر
إلى مزيد عنايته باثابة خلقه وتعلّق إرادته بتعريضهم لثوابه بدلا عن عقابه ، يناسب
أن لا يكون بالنسبة إلى أهل معرفته والمتعوّذين بجلال رحمته ، بل إنّما يناسب
المستغرقين في ظلم نفوسهم بجهل جلاله والتمرّد عن كبرياء سلطانه فلذلك قال (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)
في الكشاف اللام
إشارة إلى من يدخل النار وإعلام بأن من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها ،
وكأنّ ذلك بالنظر إلى أنّ من لم يخلد فيها كأنّه لم يبلغ في إخزائه الغاية ، وإن
كان الخزي حاصلا في الحالين ، وقيل : الخزي إنّما هو بالخلود في النار.
وفي تفسير القاضي : أراد بهم المدخلين ، ووضع المظهر مقام المضمر للدلالة
على أنّ ظلمهم تسبّب لإدخالهم النار ؛ وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص ، ولا يلزم
من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصرة دفع بقهر وعلى هذا ينبغي أن يحمل إبلاغ
الخزي على المبالغة والشدّة بالنسبة إلى الخزي بغير دخول النار.
__________________
ويمكن أن يكون
مراد القاضي بيان مدلول لفظ الناصر فلا مانع من لزوم نفي الشفيع بدليل آخر ، كما
يمكن أن يكون مراد الكشاف بيان ما يستفاد ولو بإعانة دليل من خارج ، فتأمل فيه.
وأما ثبوت الشفاعة
لأهل الكبائر وخروج آخرين بشفاعة أو بغيرها فالأخبار فيه من طريق الخاصّة والعامة
أكثر من أن تحصى ، وها هي الآية الآتية صريحة في العفو عن مرتكب الكبيرة.
(رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه ،
وفي تنكير المنادي وإطلاقه أولا ثمّ تقييده بالايمان ثانيا تفخيما وتعظيما لشأنه
وهو الرسول صلىاللهعليهوآله وقيل القرآن والدعاء والنداء ونحوهما يعدّى بالى واللام ،
لتضمّنها معنى الاختصاص والانتهاء.
(أَنْ آمِنُوا) أي آمنوا أو بأن آمنوا. (بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا.)
لا يبعد أن يراد
بالسيّئات الصغائر كما في قوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ
ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فيخص الذنوب بالكبائر فيمكن كونه على سبيل التوبة وطلب
مغفرة الذنوب بها وأن يلحقهم بذلك بمجتنب الكبائر في تكفير السيّئات وما قيل من
أنّ المراد غفران الذنوب بلا توبة وتكفير السيئات إن تبنا ، أو اغفر لنا بالتوبة
وكفّر عنا باجتناب الكبائر ، فلا يخفى ما فيه.
(وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ) مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم والأبرار جمع برّ أو
بارّ كأرباب وأصحاب.
(رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.)
أي على تصديق رسلك
أو محمولا على رسلك أو منزلا عليهم أو على ألسنة رسلك والموعود هو الثواب
والإفضال.
وهذا السؤال ليس
خوفا من خلف الوعد ، كيف وهو محال عليه؟ بل مخافة
أن لا يكون من
الموعودين بسوء عاقبة أو قصور في الامتثال ، فهو طلب التوفيق في تكميل ما يكونون
به من الموعودين وما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الوعد أو هو باب من اللجإ والتضرع إلى
الله والخضوع والتعبّد له كما كان الأنبياء وأكابر الأولياء يستغفرون ويبكون ويظهر
منهم الخوف العظيم من العقاب مع عدم ذنب وتقصير بل يقصدون بذلك التذلّل والتضرّع
واللّجإ الذي هو سيماء العبوديّة.
وقيل : إن الكلام
وإن خرج مخرج المسئلة ، لكن المراد به الخبر أى توفّنا مع الأبرار لتؤتينا ما
وعدتنا به على رسلك ، ولا تخزينا يوم القيمة لأنهم علموا أن ما وعد الله به حق ،
ولا بد أن ينجزه ، وقيل الموعود النصر على الأعداء وانما سألوا تعجيله.
(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي لا تفضحنا فيه بوجه بأن تعصمنا مما يقتضيه وتوفّقنا لما
يبعدنا عنه ، أو أن تعفو فلا تفعل.
(إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) باثابة المؤمن وعدم خزيه وإجابة الداعي ، والجملة استئناف
في مقام التعليل لما تقدم ، أي تفعل بنا ذلك لأنك وعدتنا وأنت لا تخلف الميعاد ،
وقيل يمكن كونه خبرا بمعنى الدعاء فيكون تأكيدا لما تقدم ، وعن ابن عباس الميعاد
البعث بعد الموت.
وفي المجمع : وقد
اشتهرت الرواية عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه لما نزلت هذه الآيات قال : ويل لمن لاكها بين فكّيه
ولم يتأمّل ما فيها ، وورد عن الأئمّة من آل محمّد ـ عليهمالسلام الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة ،
وفي الضجعة بعد ركعتي الفجر.
وروى محمّد بن علي
بن محبوب عن العبّاس بن المعروف عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن وهب قال :
سمعت أبا عبد الله عليهالسلام وذكر صلاة النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : كان يأتي بطهور فيخمّر عند رأسه ، ويوضع سواكه تحت
فراشه ، ثمّ ينام ما شاء الله ، فاذا استيقظ جلس ثمّ قلب بصره في السماء ثم تلا
الآيات من آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ) الآيات ثمّ يستنّ ويتطهّر ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع
ركعات على قدر قراءته ركوعه ، وسجوده على قدر ركوعه : يركع حتّى يقال متى يرفع
رأسه؟
ويسجد حتّى يقال
متى يرفع رأسه؟ ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله.
ثمّ يستيقظ فيجلس
فيتلو الآيات من آل عمران ، ويقلب بصره في السماء ، ثمّ يستنّ ويتطهّر ، ويقوم الى
المسجد فيصلّي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله
ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء ثم يستنّ ويتطهّر
ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين ثمّ يخرج إلى الصلاة .
واعلم أنّ تكرير «ربّنا»
من باب الابتهال والمبالغة فيه والدلالة على استقلال المطالب وعلوّ شأنها ، وإعلام
بما يقتضي حسن الإجابة ، وفي الكشاف وروي عن جعفر الصادق عليهالسلام «من حزبه أمر فقال
خمس مرات «ربّنا» أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد» وقرء هذه الآية.
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) الآية.
وعن الحسن حكى
الله عنهم أنّهم قالوا خمس مرات «ربّنا» ثمّ أخبر أنه استجاب لهم ، وفي المجمع :
هذه تتضمّن الحثّ على مواظبة الأدعية في الآيات المتقدّمة ، والإشارة إلى أنها مما
تعبد الله بها لأنها تتضمن الإجابة لمن دعا بها.
(بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) معترضة بيّنت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به
عباده العاملين ، فلعلّ المراد وصلة الإسلام. في المجمع : في الدّين والنصرة
والموالاة فحكمي في جميعكم واحد انتهى ، وعلى هذا يستفاد أحكام كثيرة فتأمّل.
(فَالَّذِينَ هاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً) في موضع المصدر المؤكّد بمعنى أثابه أو تثويبا ، لأن قوله (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
__________________
وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) في معنى لأثيبنّهم.
(مِنْ عِنْدِ اللهِ
وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ.)
أى يختصّ به
وبقدرته لا يثيبه غيره ، ولا يقدر عليه ، وفيه من الترغيب العظيم على المهاجرة في
سبيل الله واحتمال الأذى والإخراج عن الدّيار والأهل ، والقتل والقتال في طاعة
الله ما لا يخفى.
وكذا دلالتها على
أنّ الذنوب يكفّرها العمل الصالح كقوله (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ومثلها كثيرة ولا ينافيها (وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآيتان فتأمّل. قيل : وفيها دلالة أيضا على أنّ العمل لا
يقع شكرا بل عليه أجر وعوض تأمل فيه.
وفي الآيات تعليم
من الله كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ، ويتضرّع ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن
الإثابة من احتمال المشاقّ في دين الله ، والصبر على صعوبة تكاليفه ، وقطع لأطماع
الكسالى المتمنّين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولا إليه بالعمل بالجهل
والغباوة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على دينكم واثبتوا عليه (وَصابِرُوا) الكفّار (وَرابِطُوا) هم في سبيل الله عن الحسن وقتادة والضّحاك ، وقيل : فمعناه
اصبروا على طاعة الله وعن معاصيه وقاتلوا العدوّ فاصبروا على قتالهم في الحق كما
يصبرون على قتالكم في الباطل ، وأعدّوا لهم من الخيل ما يعدّونه لكم كقوله سبحانه (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) ويقرب منه ما روي عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام أنّه قال : معناه اصبروا على المصائب ، وصابروا على عدوّكم
، ورابطوا عدوّكم.
وفي الكشاف :
اصبروا على الدّين وتكاليفه ، وصابروا الكفّار أي وغالبوهم في الصبر على شدائد
الحرب لا تكونوا أقلّ صبرا منهم وثباتا ، والمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر
على ما يجب الصبر عليه تخصيصا لشدّته وصعوبته ، ورابطوا وأقيموا في الثغور رابطين
خيلكم فيها مترصّدين مستعدّين للغزو ، وقال الله تعالى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ).
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه
لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلّا لحاجة.
وعلى هذا فيمكن
الاستدلال على وجوب المرابطة المصطلحة مع الضرورة واستحبابها بدونها حملا للأمر
على الرجحان لعدم صحّة الوجوب والاستحباب مطلقا مع الإجماع على الوجوب مع الضرورة فتأمّل.
وقيل : إنّ معنى
رابطوا رابطوا الصلاة وانتظروها واحدة بعد واحدة ، لأن المرابطة لم يكن حينئذ ،
روي ذلك عن علىّ عليهالسلام وعن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن وروي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه سئل عن أفضل الأعمال فقال إسباغ الوضوء في
__________________
السبرات ، ونقل
الاقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط.
(وَاتَّقُوا اللهَ) أن تخالفوه فيما يأمركم وينهاكم ، أو عذابه بلزوم أوامره
واجتناب نواهيه (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية. ودرك البغية في المجمع : هذه
الآية تتضمّن جماع ما يتناوله التكليف ، لأن قوله (اصْبِرُوا) يتناول لزوم العبادات وتجنّب المحرمات (وَصابِرُوا) يتناول ما يتّصل بالغير كمجاهدة الجنّ والانس وما هو أعظم
منها من جهاد النفس (وَرابِطُوا) يدخل فيه الدفاع عن المسلمين والذبّ عن الدّين و (اتَّقُوا اللهَ) يتناول الانتهاء عن جميع النواهي والزواجر ، والايتمار
بجميع الأوامر ، ثمّ تبع جميع ذلك الفلاح والنجاح وبالله التوفيق.
السابعة
عشرة (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ
نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا
وَاجْتَبَيْنا) (من الأمم قوم) (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ
الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا.)
فحذف لدلالة
الكلام عليه عن أبى مسلم ، روي عن علىّ بن الحسين عليهالسلام أنّه قال نحن عنينا بها ، وقيل : بل المراد الأنبياء
الّذين تقدم ذكرهم ، فيحتمل العطف على من «الأول» والثانية .
ثمّ إن جعلت «الّذين»
فيما قبل خبرا لأولئك كان (إِذا تُتْلى) كلاما مستأنفا ، وإن جعلته صفة له كان خبرا ، فكأنه سبحانه
بيّن أنهم مع جلالة قدرهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوة آيات الله عليهم ، وهؤلاء
العصاة ساهون لاعبون مع إحاطة السيّئات بهم ، وفيه من الترغيب في السجود والبكاء
حينئذ ما لا يخفى ،
__________________
خصوصا بالنسبة إلى
هذه الآية ، لاشتمالها على هذا الترغيب والتحريص ، فلا يبعد فهم تأكيد استحباب
السجدة عندها كما هو المشهور والمأثور وأما للتّالى والسامع مطلقا فإما لعدم الفرق
أو المؤثر إذ الغرض التعظيم أو للإجماع أو الاخبار والله اعلم.
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) خلفه إذا عقبه ، ثمّ قيل في عقب الخير خلف بالفتح ، وفي
عقب السوء ، خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ، ووعيد في ضمان الشرّ ، قيل
: هم اليهود ومن تبعهم ، وقيل : من هذه الأمة عند قيام الساعة عن مجاهد وقتادة.
(أَضاعُوا الصَّلاةَ) عن ابن عبّاس هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلّوا
نكاح الأخت من الأب ، وقيل : أضاعوا بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن يتركوها أصلا
عن ابن مسعود وجماعة. في المجمع وهو المرويّ عن أبى عبد الله عليهالسلام وفي الكشاف وينصر الأول قوله (إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ) يعني الكفار فليتأمّل.
(وَاتَّبَعُوا
الشَّهَواتِ) فيما حرم عليهم. في المجمع : وعن علىّ عليهالسلام من بنى المشيد ، وركب المنظور ولبس المشهور (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي شرّا ، فان كلّ شر عند العرب غىّ ، وكل خير رشاد ، أو
مجازاة الغي لقوله (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) أي
__________________
مجازاة أثام أو
غيّا عن طريق الجنّة ، وقيل واد في جهنّم تستعيذ منه أوديتها وفيه دلالة على تحريم
إضاعة الصلاة واتّباع الشهوات.
(إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً) يدلّ على قبول التوبة مع الايمان والعمل الصالح ، وعلى
الخروج من الايمان بما تقدّم من الإضاعة واتّباع الشهوات.
كتاب الزكاة
وفيه مباحث :
الاولى في وجوبها والحث عليها ومحلها وشرائط قبولها
وفيه آيات : الاولى
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قيل : لما حوّلت القبلة وكثر الخوض في أمرها حتّى كأنه لا
يراعى في طاعة الله إلّا التوجّه للصلاة ، نزلت. والخطاب للمسلمين وغيرهم ، أي ليس
البرّ كلّه أو البرّ العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمر القبلة.
وقيل الخطاب لأهل
الكتاب فإنّهم أكثروا الخوض على الباطل ، أي ليس البرّ ما عليه النصارى من التوجّه
إلى المشرق ، ولا ما عليه اليهود من التوجّه إلى المغرب ، وهو أنسب بالكلام ،
وأقوى في المقام مع عموم الخطاب ، والتعريض بفعل الطائفتين.
ولكنّ البرّ (برّ)
من آمن على حذف المضاف أو يراد بالبرّ البارّ لأنه مصدر ، أو ذا البرّ لأنه اسم أو
كما قالت «فإنما هي إقبال وإدبار» والأنسب على الأوّل وهو أحسن الوجوه لموافقته لقوله (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) أن يكون التقدير : فعل من آمن كما نفي هناك أن يكون البرّ
فعلهم من التولية.
فإذا كان الخطاب
لأهل الكتاب أو مطلقا أفاد أن ليس لهم في أعمالهم ما يمكن أن يظنوه من البرّ إلا
التولية كما يقتضيه خوضهم ، ولذلك أتى به بعينه ، وهو على تقديره ليس بعظيم بل
البرّ أو العظيم منه منحصر في فعل من آمن ، وحينئذ فيتوجه
__________________
أن يراد به ما
تضمنه الأوصاف من الايمان وغيره ، فحذفه لدلالة الأوصاف عليه على أبلغ وجه ويمكن
أن يراد أعمّ مما تضمّنه الأوصاف وغيره ولو مبالغة.
ويمكن أيضا أن
يراد به تولية الوجه شطر المسجد الحرام فلا يبعد أن يكون المراد بالاية ليس البرّ
في أمر القبلة ما تفعلونه أنتم يا أهل الكتاب ، بل البرّ فيه فعل من آمن فلا يبعد
أن يكون ذكر الأوصاف إشارة إلى أنّ محامد المسلمين ومبرّاتهم كثيرة ليست منحصرة في
أمر القبلة مثلهم بحسب ما يشهد به خوضهم ، وترغيبا في الدخول فيما دخلوا ، وتنبيها
على أنّ ذلك البرّ مرتبة بعد هذه المبرّات أو أنّ هذه شروط لكون هذا برّا كما قيل
فتأمل.
(بِاللهِ) في المجمع أي صدّق بالله ، ويدخل فيه جميع ما لا يتمّ معرفة الله
سبحانه إلّا به كمعرفة حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة والجائزة ، وما
يستحيل عليه ، ومعرفة عدله وحكمته (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ويدخل فيه البعث والحساب والثواب والعقاب (وَالْمَلائِكَةِ) بأنهم موجودون وعباد الله المكرمون : إياه يعبدون وبأمره
يعملون (وَالْكِتابِ) جنس كتب الله أو القرآن بأنه حقّ منزل من عند الله (وَالنَّبِيِّينَ) بأنهم مبعوثون إلى الناس معصومون وما أتوا به حقّ.
(وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) الجارّ والمجرور في موضع الحال أي مع حبّ المال كما روي عنه عليهالسلام أنه لما سئل أيّ الصدقة أفضل؟ قال : هو أن تعطيه وأنت صحيح
شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ، أو الضمير لمن ، والإضافة إلى الفاعل ، ولم يذكر
المفعول للظهور ، وهذا والأول في المعنى سواء.
ويمكن كونه إشارة
إلى أن ذلك لا على جهة السفاهة ، وعدم معرفته بقدر المال والمصالح المتعلقة به ،
فإنه على هذا الوجه لا يكون صفة مدح بل بمقتضى الايمان على
__________________
محبة ومعرفة ، أو
المفعول ما ذكره بعده وترك مفعول «آتى» للظهور ، فان حبّ هؤلاء انّما يقتضي عطاءهم
وسبق الايمان قد يكفي في الإشعار بكون الإيتاء بل الحبّ لله أو في الله.
قيل : هو أحسن ما
قيل ، لأن تأثير هذا أبلغ من تأثير حبّ المال فإنّ محبة إذا لم يقصد وجه الله لم
يستحقّ شيئا من الثواب وإنما تأثيره في زيادة الثواب ، إذا قصد وجه الله ، وقاصده
يستحق الثواب وإن لم يكن ذلك منه على حب المال فتأمل ، أو للايتاء.
(ذَوِي الْقُرْبى) قرابة المعطي كما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه سئل عن أفضل الصدقة فقال جهد المقلّ على ذي الرحم
الكاشح ، وعنه عليهالسلام أيضا صدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذوي رحمك اثنتان صدقة
وصلة وغير ذلك من الروايات في ذلك فإنّها كثيرة.
أو قرابة النبيّ صلىاللهعليهوآله في قوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهو المرويّ عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام ووجه التقديم على الوجهين
__________________
الأفضلية.
(وَالْيَتامى) جمع يتيم وهو صغير لا أب له ، قيل العطف على القربى لا ذوي
إذ لا يصحّ إيصال المال إلى الصغير ، والوجه أنّ المراد إيتاء اليتامى والإيصال
إليهم على وجه شرعيّ وذلك ربما كان بالتسليم إلى الوليّ وربما كان بالتسليم إليهم
كإطعامهم ، هذا وقيل المراد المحاويج من الصنفين ولم يقيد لعدم الالتباس ، وفيه
نظر خصوصا في ذي القربى.
(وَالْمَساكِينَ) جمع المسكين وأصله الدائم السكون كالمشكير لدائم الشكر ،
ويراد به المحتاج لأنه قد أسكنه الخلّة أو لأنه دائم السكون إلى الناس لحاجته.
(وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع به سمّى به لملازمته السبيل ، وقيل الضيف
لأن السبيل ترعف به.
(وَالسَّائِلِينَ) في تفسير القاضي : الّذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، وفي
الكشاف : المستطعمين ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله للسائل حقّ وإن جاء على ظهر فرسه ، وقيل المساكين الّذين
يسألون وما تقدم الّذين لا يسألون والتخصيص بسائلى الطعام كاشتراط الفقر أو إلجاء
الحاجة موضع نظر.
(وَفِي الرِّقابِ) جمع رقبة وهي أصل العنق ويعبّر به عن جميع البدن ، ومنه
تحرير رقبة وفكاك الرقاب من النّار ، قيل المراد في معاونة المكاتبين حتّى يفكوا
رقابهم ، وقيل ابتياع الرقاب وإعتاقها ، وقيل الأعم منهما وقيل : بشرط تخصيص
الثاني بالذين تحت الشدة وقيل في فك الأسارى وقيل : الأعم من الجميع.
(وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة أدّاها في ميقاتها بحدودها (وَآتَى الزَّكاةَ) قيل المقصود منه ومن قوله (وَآتَى الْمالَ) الزكاة المفروضة ولكن الغرض من الأوّل بيان مصارفها ، وبالثاني أداؤها
والحثّ عليها ، ولكون ذلك خلاف الظاهر قيل الأول
__________________
محمول على وجوب
حقوق في مال الإنسان غير الزكاة مما له سبب وجوب كالإنفاق على من يجب نفقته ، ومن
يجب سدّ رمقه لخوف تلفه ، وما يلزمه من النذور والكفّارات ، وقيل يدخل فيه أيضا ما
يخرجه الإنسان على وجه التّطوّع والقربة إلى الله ، لأنّ ذلك كلّه من البرّ ، وفي
الكشاف والقاضي : احتمال أن يكون حثا على نوافل الصدقات .
(وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) كأنه يعم النذر واليمين أيضا بل ما بينهم وبين الخلق من
العقود والوعود كما ذكروا قيل : رفعه على المدح خبرا لمبتدء محذوف أي وهم الموفون
كما أنّ (وَالصَّابِرِينَ) منصوب على المدح أي أعنى بهم الصابرين.
وحينئذ فالواو
للاستيناف ، فان العطف غير مناسب ، ويحتمل أن يكون والصابرين عطفا على محلّ (مَنْ آمَنَ) باعتبار كونه مضافا اليه ، فحمل على المعنى كالموفون على
اللفظ ، أو الموفون على مجموع المضاف والمضاف إليه لاعتبار المضاف فيه إلّا أنه
حذف وأعرب بإعرابه ، وكذا في الصابرين إلا أنه لم يعرب باعراب المضاف بل أبقى على
إعرابه كما في (وَاللهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) على قراءة الجرّ بتقدير عرض الآخرة.
وفي الكشاف :
الموفون عطف على من آمن واخرج الصابرين منصوبا على الاختصاص والمدح إظهارا لفضل
الصبر المذكور ، على سائر الأعمال ، وقرئ والصابرون والموفين.
(وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْساءِ) الفقر والشدة (وَالضَّرَّاءِ) في البدن كالمرض والزمانة (وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت القتال وجهاد العدوّ ، ومنه ما روي عن على عليهالسلام كنا إذا احمرّ
__________________
البأس اتّقينا
برسول الله صلىاللهعليهوآله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدو ، يريد إذا اشتدّ الحرب.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) في الدّين أو واتّباع الحقّ وطلب البرّ أو أعم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) عن الكذب وغيره من المعاصي ، أو عن الكفر وسائر المعاصي أو
والرذائل كما في تفسير القاضي ، أو عن نار جهنّم وسائر العقوبات ، فربّما كان فيه
بل في أولئك الّذين صدقوا أيضا دلالة على وجوب ما تقدّم اللهم إلّا أن يحمل الحصر
على المبالغة ، أو على أنه بالإضافة إلى أهل الكتاب.
ولعل هذه الدلالة
هي مستند المجمع ، وفي هذه الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة بلا
خلاف فتأمل.
أمّا الحثّ
والترغيب وكثرة الفوائد فيها فلا خفاء فيه حتى قيل الآية جامعة للكمالات الإنسانية
بأسرها دالّة عليها صريحا أو ضمنا فإنّها بكثرتها وتشعّبها منحصرة في ثلاثة أشياء
: صحّة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس ، وقد أشير إلى الأوّل بقوله (مَنْ آمَنَ) إلى (وَالنَّبِيِّينَ) وإلى الثاني بقوله و (آتَى الْمالَ) إلى (وَفِي الرِّقابِ) وإلى الثالث بقوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ) إلى آخرها ؛ ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى
إيمانه واعتقاده ، وبالتقوى باعتبار معاشرته للخلق ومعاملته مع الحقّ ، وإليه أشار
عليهالسلام بقوله من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان .
واستدل أصحابنا
بهذه الآية على أنّ المعنىّ بها أمير المؤمنين عليهالسلام لأنّه لا خلاف بين الأمّة أنّه كان جامعا لهذه الخصال ،
فهو مراد بها قطعا ، ولا قطع على كون غيره جامعا ولهذا قال الزّجاج والفراء انها
مخصوصة بالأنبياء المعصومين ، لأن هذه الأشياء لا يؤديها بكلّيتها على حق الواجب
فيها إلّا الأنبياء كذا في المجمع فلعلّ المراد أنه عليهالسلام هو المعنيّ بها من امة النبيّ صلىاللهعليهوآله قطعا فافهم.
__________________
الثانية
حم السجدة [٧] (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) المفروضة ، وفيه دلالة على أن الكفّار مخاطبون بالفروع ،
وأن الزكاة واجبة عليهم وإن لم تصحّ منهم حال الكفر ، وسقط عنهم بالإسلام للإجماع
والأخبار فإنّ الظاهر كما هو المشهور أنّ تعليق الحكم بالوصف يشعر
بالعلية ، فيستفاد أن لعدم إتيانها تأثيرا في ثبوت الويل لهم.
وقيل معناه لا
يطهرون أنفسهم من الشرك بقول «لا إله إلا الله» فإنها زكاة الأنفس وطهارتها من
نجاسة الشرك عن عطا عن ابن عباس ، وقال الفراء الزكاة هنا أنّ قريشا كانت تطعم
الحاجّ وتسقيهم ، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمّد صلىاللهعليهوآله وقيل معناه لا يقرّون بالزكاة ولا يرون إيتائها عن الحسن
وقتادة.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كافِرُونَ) حال مشعرة بأنّ امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب
الدنيا وإنكارهم للآخرة ، وكأنّ من قال بدلالة الآية على كفر مستحلّها قال من ههنا
، باعتبار القول الأخير بل على الأول أيضا ، لأنّ من المعلوم أن تركهم لها كان على
جهة الاستحلال كما هو شأن المشرك.
ويفهم من الجملة
الحالية أيضا مع العلّية لكن فيه أن غاية ما يلزم أن يكون علة ترك المشركين بها
الكفر أما مطلقا فلا ، وربّما أيّده الحصر في الحالية وكذا كونها مقيدة فليتأمل.
نعم في الروايات
ما يدلّ على أن مانع الزكاة غير مؤمن ولا مسلم ، فليتدبر.
الثالثة في التوبة
[٣٦] (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ) الكنز في الأصل مصدر بمعنى جمع الشيء بعضه إلى بعض ثمّ قيل
لذلك الشيء ، ويقال للمال المدفون كثيرا ، والمراد هنا الأوّل.
(الذَّهَبَ) سمّي به لأنه يذهب ولا يبقى (وَالْفِضَّةَ) فضّة لأنّها تنفض وتتفرّق ، فلا يبقى وحسبك بالاسمين دلالة
على فنائهما.
__________________
(وَلا يُنْفِقُونَها
فِي سَبِيلِ اللهِ) توحيد الضمير مؤنثا إما لأنّ كل واحد منهما جملة واحدة ،
وعدة كثيرة ، فالمجموع كذلك ، أو لأنها للكنوز والأموال المدلولة أو للفضّة
اقتصارا بها لقربها ، وفهم حكم الذهب بالطريق الأولى أو هو كقوله «فانّى وقيّار
بها لغريب» أي وقيار كذلك.
وقيل إنّ الذهب
جمع واحده ذهبة فهو مؤنث ، وإن كان الجمع الذي ليس بينه وبين واحدة إلّا
الهاء يذكر ويؤنث ، فلما اجتمعا في التأنيث وجعلا كالشيء الواحد ردّ الضمير إليهما
بلفظ التأنيث ، وقد يكتفي بتأنيث الفضة أيضا إذا جمعا فتأمل.
(فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فيقال فيهم ذلك وفي الكشاف : يجوز أن يكون الذين يكنزون
إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على خصلتين مذمومتين فيهم أخذ
البراطيل وكنز الأموال والضّنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير ويجوز أن يراد
المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من
__________________
اليهود والنصارى
تغليظا ، ودلالة على أنّ من يأخذ منهم السحت ومن لا يعطى منكم طيب ماله سواء في
استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.
وهذا يقتضي تعلّق
البشارة بالأحبار والرهبان و «الّذين» جميعا ، وكأنه على نصب «الّذين» عطفا على
اسم إنّ ، والظاهر رفعه على الاستيناف ، وان يعمّ المسلمين وغيرهم على كلّ حال ،
ورجوع البشارة إلى الّذين لا غير ، لأنّ أنّ باعتبار «كثيرا» قد وجد الخبر وتمّ ،
فان جاز مع ذلك فعلى بعد وتكلّف.
(يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) في القاموس حمى الشمس والنار حميا وحميا اشتدّ حرّهما ،
وأحماها الله ، وكأنّه قد ضمّن معنى الإيقاد أي يوم يشدّ في حرّ النار وتوقد عليها
، ولو قال يوم تحمى أي الكنوز مثلا من حمى الميسم وأحميته لم يعط هذا المعنى
وإنّما ذكّر الفعل مع أنّ الأحماء للنار لأنّه أسند إلى الجار والمجرور ويوم ظرف
لعذاب أو صفة له ، قيل أو لأليم ظرفا أو صفة أو لهما ويمكن كونه ظرفا لبشّره على
بعد (فَتُكْوى بِها
جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وجّه تخصيص تلك الأعضاء بوجوه وقيل معناه يكوون على جميع
البدن ، لأنّ الجبهة كناية عن الأعضاء المقاديم ، والجنوب عن الايمان والشمائل
والظهور عن المآخير.
(هذا ما كَنَزْتُمْ) على إرادة القول ، وهذا إشارة إلى ما يكوى به.
(لِأَنْفُسِكُمْ) أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذّ ، وها هي تتضرّر به
وتتعذّب.
(فَذُوقُوا) وبال (ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ) أو وبال كونكم كانزين أو هذا إشارة إلى الكيّ والعذاب ،
وجعل ما كنزوا مبالغة في سببيّته له ، حتّى كأنّه هو فافهم.
وقرئ «يكنزون»
بضمّ النّون والآية ظاهرة في تحريم الكنز وعدم الإنفاق ، وقيل نسخت
بالزكاة ، وفيه أنّه لا منافاة على أنّ الأصل عدم النسخ فيحتاج الى دليل وقيل
ثابتة ، وإنّما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة.
__________________
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ما ادّى زكوته فليس بكنز وإن كان باطنا ، وما بلغ أن يزكّى
فلم يزكّ فهو كنز ، وإن كان ظاهرا. وعنه عليهالسلام ما من عبد له مال لا يؤدى زكوته إلّا جمع يوم القيمة صفائح
يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جبينه وجبناه وظهره ، حتّى يقضي الله بين عباده
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا
إلى النّار. أورده مسلم في الصحيح.
فتكون الآية حينئذ
إشارة إجمالا إلى وجوب الزكاة في الذهب والفضة ، والبيان موكولا إلى السنّة
المطهّرة فبدلائل اختصاص وجوبها بما تجب فيه تخصّ عمومات في الآية.
وروى محمّد بن
يعقوب عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن سنان عن معاذ بن كثير قال :
سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول موسّع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف ،
فاذا قام قائمنا حرم على كلّ ذي كنز كنزه حتّى يأتيه فيستعين به على عدوّه ، وهو
قول الله عزوجل في كتابه (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
وربما كان في زمن
النبي صلىاللهعليهوآله كذلك مع الاحتياج أو الضرورة إليه : عنه عليهالسلام من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها وأنه توفّى رجل فوجد في مئزره دينار ، فقال كيّة وتوفّى
آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيّتان ، فإما كان
__________________
هذا قبل فرض
الزكاة كما في الكشاف أو كانت الدنانير مما لم يزكّ ، وقد وجبت فيه أو وجب الإنفاق
بها أو منها فلم ينفق. والله أعلم.
الرابعة والخامسة
في البراءة [٥٣ و ٥٤] (قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.)
نصب على الحال أي
طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ
مِنْكُمْ) قيل : الأمر في معنى الخبر أي لن تتقبل منكم أنفقتم طوعا
أو كرها وفائدته المبالغة في تساوي الانفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن
يمتحنوا ينفقوا وينظروا هل تتقبل منهم.
(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لردّ إنفاقهم على طريق الاستيناف وما بعده بيان
وتقرير له.
(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ) بالتاء والياء (مِنْهُمْ
نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي ما منعهم من ذلك شيء إلّا كفرهم ، وقرئ «يقبل» على أن
الفعل لله وكذلك في منعهم ، وأنّهم كفروا في موضع نصب كما أنه على الأول في موضع
رفع وقيل على الأوّل يجوز ان يكون التقدير وما منعهم الله منه الا لأنّهم كفروا.
(وَلا يَأْتُونَ
الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلون (وَلا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ)
إن قلت كيف ذلك
وقد جعلهم الله طائعين في قوله طوعا والكره ضدّ الطوع؟ قلت : لم يجعلهم طائعين في
الواقع بل على سبيل الفرض ، كأنّ المنافقين كانوا يدّعون الطوع في ذلك ويظهرون
توقع القبول ، فنفى القبول أولا ولو كانوا طائعين ، ثم ردّ عليهم في دعوى الطوع.
وفي الكشاف : قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول
الله صلىاللهعليهوآله أو من رؤسائهم وما طوعهم ذلك إلّا عن كراهة واضطرار لا عن
رغبة واختيار.
واعلم أنّ الظاهر
من الفسق ما هو أعمّ من الكفر ولا ينافي ذلك تعليل عدم قبول إنفاقهم به لجواز
التعليل بما يعمهم وغيرهم كأن يعلل عدم قبول شهادتهم به من غير فرق فإنه قد لا
يقبل إنفاق غير الكافر أيضا كشهادته مع الفسق ، ولا ينافيه ما بعده
__________________
أما أولا فلان ذلك
تعليل للإنفاق المفروض لهم طوعا أو كرها فالمعلول هنا أعمّ ، وأما ثانيا فلان ما
بعده حصر للمانع في أمور منها كفر ومنها غير كفر فلا يبعد أن يكون غير الكفر أيضا
مانعا كالكفر.
بل يقال لو لا أنّ
غير الكفر مانع أيضا لم يصح استثناؤه كالكفر ، فإنه لا ريب في كون الكفر بنفسه
مانعا وعلة لعدم القبول كما هو مقتضاه على تقدير كون الفسق عبارة عن الكفر ، فعلى
التقديرين يلزم كون غير الكفر أيضا مانعا من القبول.
اللهم إلا أن يعطف
لا يأتون على ما منعهم أو يجعل استينافا أو يكون المراد استثناء المجموع لأنه أقوى
من الكفر وحده ، وإيراد غير الكفر معه على طريق التأييد والتقوية ، ولا ينافي ذلك
كون الكفر كافيا في المنع وعلّة تامة في الجملة.
لكنه موضع تأمل إذ
الظاهر أنّ عدم الإتيان بالصلاة إلا كسلانا وعدم الإنفاق إلا كارها مانعان حتّى
صرح بعض من حمل الفسق على الكفر بفهم منع الكسل والكره عن ذلك فليتأمل.
وبالجملة فما قيل
من ان المراد بالفسق هنا الكفر فيه نظر ، وكذا في تأييد ما بعده إيّاه ، وتفسير
المجمع الفسق بالتّمرد عن طاعة الله وتفسير الكشاف بالتمرد والعتوّ ، إن أرادا ما
يكون كفرا فتفسير بالأخص وإلّا فلا سند فيه لذلك ، بل للأعم هذا.
وفي الآية دلالة
على أن الكفار مخاطبون بالفروع ، في المجمع لأنه سبحانه ذمّهم على ترك الصلاة والزكاة
ولو لا وجوبهما عليهم لم يذمّوا على تركهما وهذا يشعر منه بحمله الإنفاق على إيتاء الزكاة لكن يستقيم
على الأعم الظاهر أيضا ، وذمّوا على الكسل والكره أيضا فإنّ الذمّ هنا على عدم
الخلو من أحد الأمرين فهما قبيحان مذمومان كما لا يخفى.
ثمّ الظاهر أن
الوقف إنفاق فيستفاد عدم قبوله من الكافر أو الفاسق لكن الظاهر
__________________
أنّ المراد بعدم
القبول عدم حصول الثواب والتقرب إلى الله ، فلا تنافي ما يظهر من كلام الأصحاب من
صحّة وقفهما ولزوم حكمه ، نعم ظاهر الأصحاب ترتب الثواب على وقف الفاسق ونحوه
فليتأمل.
وقد يستفاد عدم
قبول كل ما يتقرب به إلى الله وتقع عبادة سواء الإنفاق وغيره لعدم قائل بالفرق كما
صرح به جماعة وأما عدم الصحة فهو الظاهر في كلّ ما يستلزم صحته حصول الثواب
كالعبادات المحضة نحو الصلاة والصيام ، فلا تبرئ بها الذمة أيضا وأما غيره فلا ،
فلا يقدح في ذلك أخذ حاكم الشرع الزكاة منهم قهرا مع الامتناع وحصول براءة الذمة
من المال حينئذ كما هو ظاهر الأصحاب ، فإنّ الظاهر أنّ هنا أمرين حق ماليّ كالدين
وتأدية شرعية ، فلم يتوقف الأول على الثاني ، مراعاة لجانب ذي الحق كما هو مقتضى
الأصل ، وأما جبر تارك الصلاة عليها مع العلم بفسقه مثلا فلعلّه حفظا لأحكام الشرع
من الخلل ، وسدا لباب الجرأة على الخلاف ، فلا يقدح بطلانها فافهم.
وقد تقدم القول
بإشعار الآية بأن إتيان الصلاة كسلانا يقتضي عدم قبولها وكذا الإنفاق كرها ، وقد
أشرنا إلى أنّ الاشعار ينبغي أن يكون بعدم الإتيان إلا كذلك ، ولا إشكال في ذلك
على ما فصلنا ، وإن كان خلاف ظاهر جمع من الأصحاب ، خصوصا في الصلاة.
نعم لا يبعد فهم
وجوب إتيان الصلاة غير كاسل فقد روى في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام ولا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا ، فإنها
من خلال النفاق ، فان الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى : يعنى
سكر النوم ، وقال للمنافقين (وَإِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ
__________________
اللهَ
إِلَّا قَلِيلاً).
وكذا وجوب كون
الإنفاق على طيبة النفس والرضا لا كارها ، وعلى كون الكره مانعا من القبول فما
يأخذه الحاكم قهر الايثاب عليه نعم يمكن براءة الذمة كما تقدم.
السادسة
في المعارج (وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) معلوم أي مقرر عندهم معلوم لهم ، وقيل أى مقدر شرعا فحمل
على الزكوات والصدقات الموظّفة ، والسائل المستعطى ، وأما المحروم فقد روى عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهماالسلام انه المحارف الذي ليس بعقله بأس ولم يبسط له في الرزق ،
وكأنه المعنىّ بما نقل عن ابن عباس ومجاهد أنه المحارف وقيل المتعفّف لأنّه يظنّ
غنيّا فيحرم الصدقة ، وقيل من لا سهم له في الغنيمة ، وفي المجمع : والأصل أن المحروم الممنوع الرزق بترك السؤال ، أو ذهاب المال أو
خراب الضيعة أو سقوط السهم من الغنيمة ، لأن الإنسان يصير فقيرا بهذه الوجوه ،
وأورده في التبيان قولا.
ثمّ فيهما أنّ
المراد حقّ ما يلزمهم لزوم الديون من الزكاة وغير ذلك ، أو ما ألزموه أنفسهم من
مكارم الأخلاق ، والذي في رواياتنا هو هذا الأخير لكن في بعضهم أن هذا الإلزام
واجب وانه على قدر السعة.
ففي الموثق عن ابى عبد الله عليهالسلام في حديث طويل : ولكن الله عزوجل فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال عزوجل (فِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ مَعْلُومٌ) فالحق
__________________
المعلوم غير
الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله يجب عليهم أن يفرضه على قدر طاقته
وسعة ماله فيؤدي الذي فرض على نفسه إن شاء في كلّ جمعة وإن شاء في كل شهر.
وفي الصحيح عن ابى بصير عن أبى عبد الله عليهالسلام وانّ عليكم في أموالكم غير الزكاة فقلت أصلحك الله وعلينا
في أموالنا غير الزكاة فقال سبحان الله اما تسمع الله عزوجل يقول في كتابه (وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال قلت : ما ذا الحقّ المعلوم الذي علينا؟ قال هو الشيء
يعلمه الرجل في ماله يعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قل أو كثر ، غير أنه
يدوم عليه.
وفي الموثق أيضا عن إسماعيل بن جابر عن أبى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل (وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أهو سوى الزكاة
فقال هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الالف والألفين والثلاثة آلاف
والأقل والأكثر ، فيصل به رحمه ويحمل الكلّ عن قومه.
وفي طريق آخر عن ابي جعفر عليهالسلام أن رجلا جاء إلى أبي على بن الحسين عليهالسلام فقال له : أخبرني عن قول الله عزوجل (وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ما هذا الحق المعلوم؟ فقال له علىّ بن الحسين عليهالسلام الحق المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزكاة ولا من
الصدقة المفروضتين فقال فما هو فقال هو الشيء يخرجه الرجل من ماله إن شاء أكثر وإن
شاء أقل على قدر ما يملك ، فقال له الرجل فما يصنع به قال يصل به رحما ويقوى به
ضعيفا ويحمل به كلّا أو يصل به أخا
__________________
له في الله أو
لنائبة تنوبه ، فقال الرجل الله يعلم حيث يجعل رسالته.
والالتزام إما أن
يراد به بالوجه الشرعي كالنذر ونحوه فيجب على تقدير وجوبه ويستحب على الاستحباب أو
مجرّد أن يقرر ذلك على نفسه عازما عليه بحيث لا يتخلف كما هو الأظهر ، وحينئذ
فربما استحب النذر كما إذا كان معينا على ذلك كأن يخاف من نفسه التخلف بدون النذر
ويأمن معه ، وربما وجب مع ظن التخلف بدونه وظنّ عدمه معه على تقدير وجوب الالتزام
فليتأمل فيه.
وفي سورة الذاريات
في أحوال المتقين بيانا لكونهم محسنين (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وصرّح جماعة من المفسرين باتحاد المقصود من الآيتين وربما
أيّد ذلك استحباب الالتزام ويمكن أن يستفاد من سياق كل منهما الدوام كما تقدّم في
الروايتين الأوّلتين ، فكأنّ حقهم ثابت فيها لا يزول ، فلا يبعد استحباب الوصية أو
وجوبها ، ومن عموم الأموال يستفاد إعارة الكتب والمواعين ونحوها.
وبالجملة يستفاد
إعانتهم بكلّ ما في يدك من الأموال مع احتمال الوجوب فلا تغفل.
الثاني
في قبض الزكاة وإعطائها المستحق
وفيه آيات :
الاولى
والثانية في التوبة [١٠٤] (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.)
اختلف فيمن نزلت
الآية وما قبلها فيه ففي المجمع قال أبو حمزة الثماليّ بلغنا أنهم ثلاثة نفر من
الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلّفوا عن
رسول الله صلىاللهعليهوآله مخرجه إلى تبوك ، فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن
نبيّه أيقنوا بالهلاك ، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد.
فلم يزالوا كذلك
حتّى قدم رسول الله صلىاللهعليهوآله فسأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى
يكون رسول الله يحلّهم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنا اقسم لا أكون أوّل من حلّهم إلا أن أومر فيهم بأمر.
فلما نزل (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عمد رسول الله صلىاللهعليهوآله إليهم فحلّهم فانطلقوا فجاؤا بأموالهم إلى رسول الله
فقالوا هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك ، فخذها وتصدّق بها عنّا ، قال صلىاللهعليهوآله ما أمرت فيها بأمر فنزلت (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآيات.
وقيل : إنهم كانوا
عشرة رهط منهم أبو لبابة عن علي بن طلحة عن ابن عباس ، وقيل : كانوا سبعة عن قتادة
، وقيل كانوا خمسة ، وروى عن أبى جعفر الباقر عليهالسلام أنّها نزلت في أبي لبابة ولم يذكر معه غيره وسبب نزولها
فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال إن نزلتم على حكمه فهو الذّبح ، وبه قال
مجاهد وقيل نزلت فيه خاصة حين تأخّر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية على ما تقدّم ذكره عن
الزهري.
قال ثمّ قال أبو
لبابة يا رسول الله إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذّنب وأن أنخلع
من مالي كله ، فقال يجزيك يا أبا لبابة الثلث ، وفي جميع الأقوال أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله ثلث أموالهم وترك الثلثين ، لأنّ الله تعالى قال (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) ولم يقل خذ أموالهم انتهى .
وفي المعالم أيضا
ذكر الإنفاق على أخذ الثلث وزاد في الأقوال عن سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أنّهم كانوا
ثمانية ، وقال قال الحسن وقتادة هؤلاء سوى الثلاثة الّذين خلّفوا.
وفي الكشاف : وقيل
كانوا عشرة فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم .
__________________
إذا عرفت ذلك فهنا
أمور :
ألف ـ قيل : من للتبعيض أي بعض أموالهم فيكون «صدقة» تميزا لا
مفعولا ، وهو خلاف الظاهر ، فالظاهر أنها للابتداء وتفيد التبعيض هنا ، وربما كان
المراد بالتبعيض ذلك ، فليتأمل.
ب ـ قيل : أمر بأخذ الصدقة من أموال هؤلاء التائبين تشديدا
للتكليف ، وليست بالصدقة المفروضة ، بل هي على سبيل الكفارة للذنوب التي أصابوها
عن الحسن ، وغيره.
ويؤيده نزول الآية
في هؤلاء وعموم أموالهم وشمولها للزكاة وغيرها والاتّفاق على أخذ الثلث وأنّ الحمل
على الزكاة المفروضة حمل على الخصوص ، فلا يجوز بغير دليل والأصل عدمه.
وقيل أراد بها
الزكاة المفروضة عن الجبائي وأكثر أهل التفسير كذا في المجمع قال : وهو الظاهر ،
لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له ، وفيه نظر واضح.
وفي الكنز بعد ذكر سبب النزول : فنزلت فأخذ منهم الزكاة المقرّرة
شرعا ، وعلى ذلك إجماع الأمة. ودعوى إجماع الأمة ، فيه ما لا يخفى بالنظر إلى
قدّمنا أما إجماع الأصحاب فغير بعيد ، كما يظهر من استدلالاتهم.
وأيضا فإنهم قد
رووا في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال أنزلت آية الزكاة (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله مناديه فنادى في النّاس ، إنّ الله تعالى قد فرض عليكم
الزكاة كما فرض عليكم الصلاة الحديث رواه في الصحيح محمّد بن يعقوب في الكافي
والصدوق في الفقيه .
__________________
ووجه الجمع أنّ
الآية وإن نزلت بسبب أبي لبابة أو وغيره من مخصوصين ، إلّا أنّها عامة ، وامّا أخذ
الثلث منهم فلعله كان على سبيل الكفّارة وجهة الاستحباب لمبالغتهم في ذلك ، حيث قد
دلّت الآية على كون الصدقة مطهّرة لما في الرواية المتقدمة أنه عليهالسلام بعد نداء مناديه بذلك تركهم إلى تمام السنة ، ثمّ نبّههم
وبعث العمّال.
أو الزائد على قدر
الواجب كان كذلك أو الجميع واجبة لأنّ الآية في ذلك مجملة فلعله قد جاءه البيان
بأن المطهّر لهم الثلث في ذلك الوقت ، ثمّ لهم ولغيرهم القدر المعلوم.
على أنه لم يصح
عندنا أخذ الثلث ولا كونه بمقتضى الآية ، وإن كان مشهورا بين جمع من الجمهور.
ج ـ التاء في (تُطَهِّرُهُمْ) للتأنيث ، فيقدر بها وأما في (تُزَكِّيهِمْ) فليس إلّا للخطاب لوجوبها ، والتزكية مبالغة في التطهير
وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال ، ومن الأول قيل أي تطهّرهم من
الذنوب أو من حبّ المال المؤدّي إلى مثل ما تقدم منهم ، وتنمي في حسناتهم وترفعهم
إلى منازل المخلصين فتأمل.
وعلى كل حال صفتان
لصدقة ، ويجوز أن يكون على الاستيناف ، والأول أولى وأنسب بأخذ الثلث ، وربما نبّه
على أن المأمور به ما يكون عن طيبة نفس بنيّة خالصة كما قيل في ترجيح الصّفة على
الجزم ، جوابا للأمر وقد قرئ به «تطهّرهم» وحده ، قاله في الكشاف وقيل بل قرأ سلمة
بن محارب بالجزم فيهما ، فلعلّ مراد الكشاف أن أحدا من السبعة لم يقرأ «وتزكّهم»
بالجزم والله اعلم.
د ـ فيها إشعار بأنّ الصدقة نافعة في تطهير الذنوب وتزكية
النفس خصوصا
__________________
على بعض الوجوه ،
ودلالة على وجوب أخذ الزكاة ولا يشترط مجيء أهلها بها إليه ولا يجب عليهم ذلك أيضا
نعم لا يبعد وجوب الدفع إليه أو نائبه إذا طلب ، وكان باقيا.
ه ـ (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم أو ترحّم عليهم بالدّعاء لهم بقبول صدقاتهم
ونحوه ، مثل آجرك الله فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت أو أعم.
عبد الله بن أبي
أوفى قال كان النبيّ صلىاللهعليهوآله إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صلّ على آل فلان ، فأتاه
أبى بصدقته فقال اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى ، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
والنسائي وفي ذلك من الدلالة على جواز الصلاة على خصوص غير النبيّ صلىاللهعليهوآله أصالة خصوصا عند أخذ الصدقة ورجحانها ما لا يخفى.
واختلف في هذا
الأمر هل للوجوب لظهور مطلقة فيه على أنه قد عطف هنا على خذ الكائن للوجوب وعلّل
مؤكدا بانّ عموما عند كلّ أخذ صدقة كما هو ظاهر السياق ، والمقصود اطمينان نفوسهم
وطيب خواطرهم حثّا وترغيبا ويؤيده الرواية المتقدّمة ، أو في الجملة فإنّ الأمر لا
يقتضي التكرار ، أو للاستحباب للأصل من عدم الوجوب ، وقيل يتعين لفظ الصلاة كما في
قوله (صَلُّوا عَلَيْهِ) والأولى جواز غيرها ، لأنه معناها والأصل هنا عدم النقل.
__________________
ثمّ على الوجوب هل
يجب على الإمام أو الساعي والفقيه النائب؟ قيل به لأنّ النّائب كالمنوب وقائم مقامه
وقيل لا لاختصاص الأمر به عليهالسلام كما قد يشعر به التعليل ولا نزاع في الرجحان واما المستحق
فيستحبّ له بغير خلاف ، والله أعلم.
و ـ (سَكَنٌ لَهُمْ) تسكن إليه نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم ، وقيل رحمة لهم عن
ابن عباس وقيل طمأنينة لهم بأنّ الله قد قبل منهم عن قتادة والكلبي ، وقيل تثبيت
لهم عن ابى عبيدة (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) دعاءك لهم ويعلم ما يكون منهم ، أو يسمع اعترافهم ودعاءهم
ويعلم ندامتهم وإخلاصهم.
ز ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا) بالياء والتّاء ، والضمير إمّا للمتوب عليهم ، والمراد أن
يمكّن في قلوبهم قبول توبتهم ، والاعتداد بصدقاتهم ، و «هو» للتخصيص والتأكيد ،
وأنّ الله من شأنه قبول توبة التّائبين ، وقيل : معنى التخصيص في هو أنّ ذلك ليس
إلى رسول الله إنّما الله هو الذي يقبل التوبة ويردّها ، فاقصدوه بها ، ووجّهوها
إليه. في المجمع :
والسبب فيه أنّه
لمّا سألوا النبيّ صلىاللهعليهوآله أن يأخذ من أموالهم ما يكون كفارة لذنوبهم امتنع من ذلك
وانتظر الاذن من الله فيه ، فبيّن الله أنه ليس قبول التوبة إلى النبي صلىاللهعليهوآله وأنّ ذلك إلى الله عزّ اسمه ، هذا.
والظاهر إرادة
الحصر في قبول الصدقات أيضا كما لا يخفى أو لغير التّائبين ترغيبا لهم في التوبة
وإيتاء الصدقات ، فقد روي أنّه لمّا تيب عليهم قال الّذين لم يتوبوا هؤلاء أي
الّذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فنزلت ، وأخذ
الصدقات مجاز عن قبوله لها ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، والمراد أنّه ينزّل هذا التنزيل وذلك يرجع إلى تضمّن
الجزاء ، ولهذا قال الكشّاف : والمعنى أنه يتقبّلها ويضاعف عليها.
__________________
ح ـ في المجمع أنّ ذلك استفهام يراد به التنبيه على ما يجب
أن يعلم ، فالمخاطب إذا رجع إلى نفسه وفكّر فيما نبّه عليه ، علم وجوبه ، وإنّما
وجب أن يعلم أنّ الله يقبل التوبة ، لأنّه إذا علم ذلك كان داعيا له إلى فعل
التوبة والتمسّك بها والمسارعة إليها ، وما هذه صورته يجب العلم به ليحصل به الفوز
بالثواب ، والخلاص من العقاب انتهى.
وأما ما يفيد
العلم بذلك فما نبّه عليه بقوله (وَأَنَّ اللهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) شأنه قبول توبة التائبين والتفضّل عليهم ، فهو كثير القبول
لتوبتهم واسع الرحمة بهم كما يقتضيه كماله وغناه وعموم قدرته وسبوغ كرمه ، مع
إحاطة علمه بجميع المعلومات.
ط ـ وفيها الدلالة على قبول التوبة فيجب من الذنب في كلّ حال
، ويستحبّ من المكروهات ـ وعلى قبول الصدقات واستحبابها بين يدي التوبة ، وكذا
قبول سائر العبادات لأنّ ما ينبه على أنّ الله يقبل التوبة ويأخذ الصدقات ينبّه
على هذا أيضا ، ويؤيّده قوله (وَأَنَّ اللهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) والله أعلم.
الثالثة
والرابعة في البقرة [٢٦٧ ـ ٢٦٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في المجمع روي عن أبى عبد الله عليهالسلام أنّها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا الجاهليّة ، وكانوا
يتصدّقون منها فنهاهم الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيب الحلال ، وقيل : إنّها
نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصدقة عن علىّ عليهالسلام والبراء بن عازب والحسن وقتادة.
وينبغي أن يحمل
ذلك على نحو ما رواه محمّد بن يعقوب في الكافي عن أبي ـ
__________________
عبد الله عليهالسلام من أنّ قوله (أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) في قوم كانوا قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية ، فلما
أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها ، فأبى الله تبارك وتعالى إلّا
أن يخرجوا من طيّب ما كسبوا.
وقوله (وَلا تَيَمَّمُوا) في قوم كانوا يأتون بالرديء عن الجيّد في الزّكوة. وهذا
يؤيّد ما قيل : إنّ هذا أمر بالإنفاق في الزكاة المفروضة وقيل هو في المتطوّع بها.
وقيل : أراد
الإنفاق في سبل الخير وأعمال البر على العموم فيدخل فيه الفرائض والنوافل قال
الطبرسيّ وهو الأوضح لكن حمل الأمر حينئذ على ظاهره من وجوب الإنفاق مشكل اللهمّ
إلّا أن يحمل على كون الإنفاق من الطيّب بمعنى الحلال كما دلّت عليه الرواية لا
بمعنى الجيّد كما قيل وأيّد بقوله (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ولا يستقيم قوله (وَلا تَيَمَّمُوا) على هذا النسق إلّا أن يراد بالخبيث الحرام كما قيل لكنّه
خلاف الظاهر والمرويّ.
والحمل على
الكراهة خلاف الظاهر أيضا على أنّه لا يستقيم حينئذ في الواجب سواء حمل على الرديّ
أو الحرام ، وعلى المرجوحيّة المطلقة خلاف الظاهر أيضا على أنّ الإجمال اللازم
مخلّ بتمام الفائدة وكذا حمل الأمر على الرجحان المطلق ، فتأمل.
ولو حمل الخبيث
على ما يعمّ الحرام والرديّ باعتبار أنّ الحرام ردىّ
__________________
أيضا لم يكن بعيدا
حمل الطيب على ما يقابله في ذلك ، كما هو الأولى أوّلا لكنّي لا أعرف به قولا ،
وكونه طاهرا حقيقة في ذلك قد ينظر فيه ، وعلى كلّ حال فهو أيضا بالفرض أنسب ،
وعليه أوضح فليتأمّل ، وقد يحمل على تقدير الوجوب على ما يعمّ الخمس للإطلاق.
فإن قيل : إنّ
الحلال المختلط بالحرام ولا يتميز ولا يعرف قدره ولا مالكه ، يجب فيه الخمس عندكم
، وهو يتضمّن الإنفاق من الحرام أو هو هو ، وهو مناف لمنطوق الآية.
أمكن أن يقال :
إنّ ذلك إنفاق عن مالكه بإذن الشارع حيث تعذر الإيصال والاذن ، فهذا إنفاق منه
لحلال ماله ، نعم هو حرام علينا باعتبار التصرّف وإعطائه مثلا خمسا أو صدقة عن
أموالنا بغير وجه شرعيّ ، حتّى لو كان ذو اليد غاصبا فتاب ورجع عن ذلك ولم يعرف
المالك ولا القدر وتعذّر ذلك ، كان عين هذا المال كالأمانة الشرعيّة عنده ، وإن
كانت ذمّته مشغولة بها لغصبها أولا ، ولو قلنا بجواز ذلك عن نفسه بدليل ، فبضمانه
في ماله فهو بذلك من حلال ماله كما لا يخفى ، على أنّ الغاية خروج ذلك بدليل
فتأمّل.
قيل : وفي إيراد
ما كسبتم دلالة على أنّ ثواب الصدقة من الحلال المكتسب أعظم منه من الحلال غير
المكتسب وإنّما كان كذلك لأنه يكون أشقّ عليه خصوصا ما كسبه بالجارحة ، وبمناسبة
الكسب بهذا المعنى قد يستدلّ بها على وجوب زكاة مال التجارة وهو غير واضح ، على
أنّ الأصل وخبر أبى ذرّ ينفيانه.
وفي الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال «إنّ أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله
__________________
قال عثمان : كلّ
مال من ذهب أو فضّة يدار ويعمل به ويتّجر ففيه الزكاة ، إذا حال عليه الحول ، فقال
أبو ذر أمّا ما يتّجر به أو دير وعمل به ليس فيه زكاة ، إنّما الزكاة فيه إذا كان
ركازا أو كنزا موضوعا ، فاذا حال عليه الحول ففيه الزّكوة ، فاختصما في ذلك إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : القول ما قاله أبو ذرّ.» نعم الآية تناسب بهذا
الاعتبار وجوب الخمس الكائن في المكتسب من الأرباح وأما زكاة مال التجارة فلا ،
ولعلّ المراد بالكسب هنا ما هو أعمّ من ذلك.
و (ما كَسَبْتُمْ) إشارة إلى غير المخرج من الأرض ممّا يتعلّق به الزّكوة
كالنقدين والمواشي من الغنم والبقر والإبل ، قيل لأنها إنّما يحصل بالكسب والعمل تأمّل
، أو ممّا يتعلّق به هي أو الخمس ، فيعمّ الأجناس المذكورة وغيرها فإنّه يجب في
جميع المكسوبات.
ولا يبعد هذا
التعميم بل أعمّ منه على الأوّل أيضا فإنه لا يبعد أن يراد بالطيبات حلائل ذلك
وجياده ممّا يتعلق به الحقّ من جملة المكسوبات إشارة إلى أنّ «كسبتم» يتعلّق
بالحلال والحرام أو بالجيّد والرديّ أو جميعا.
و «من» يفيد كون
الإنفاق ببعض الطيّبات ابتدائيّة كانت أو تبعيضيّة (وَمِمَّا أَخْرَجْنا) قيل : أي من طيّبات ما أخرجنا فحذف المضاف بقرينة ما سبق ،
ويمكن أن يستفاد هذا بغير حذف من نسبة الإخراج إلى جناب الحقّ سبحانه والإضافة
إليهم باللّام الدالّ على الملك واختصاص الانتفاع المتضمّن للحلّ كما يقتضيه ظاهر
الامتنان منه تعالى ، أو بأن يكون (وَلا تَيَمَّمُوا) متعلّقا به فلا تكرار ولا تأكيد فافهم.
وقيل : ما أخرجنا
لكم من الحبّ والثمر والمعادن وغيرها وقيل : من الغلّات والثمار ممّا يجب فيه
الزّكوة ، والأوّل أولى بالإطلاق ، وبشمول الخمس ، فعلى الاختصاص بالزّكاة وجوبها
في الجميع إلّا ما أخرجه دليل ، وعلى هذا يمكن أن يقال بإشعار (أَخْرَجْنا لَكُمْ) باشتراط الحبّ والثمر في الملك فافهم.
وأما على تقدير
شمول الخمس ، فجعل ذلك إشارة إلى وجوب الزّكوة في الغلّات وبعض الثمار أو جميع ما
يخرج من الأرض ووجوب الخمس فيه أيضا حتّى المعادن والكنوز إلّا ما أخرج بالدليل ،
فخلاف الظاهر إذ الظاهر من شمول الإنفاق الخمس
بإطلاقه وجوب أحد
الأمرين.
نعم يجب أن يكون
بالطيب في أيّهما كان ، فلا دلالة فيه على عموم وجوب أحدهما للجميع ، ويمكن
الاستدلال ظاهرا على وجوب أحدهما إذا انتفى الآخر بدليل فتأمل.
و (لا تَيَمَّمُوا) لا تقصدوا (الْخَبِيثَ) أو الخبيث ممّا أخرجنا أي الردى أو الحرام منه أو الأعمّ
حال كونكم تنفقونه منه ، فيجوز تعلّق منه بتنفقون ، وبمحذوف صفة للخبيث أو حالا
عنه ، ويجوز كون (تُنْفِقُونَ) بيانا أي لا تقصدوا الخبيث من المال تنفقونه أو منه تنفقون
، فيجوز رجوع ضمير «منه» إلى الخبيث حينئذ ، ولعلّه أوجه.
ويجوز تعلّق منه
بتنفقون حالا عن الخبيث ، ورجوع الضمير إليه (وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ) أي وحالكم وشأنكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي تتسامحوا وتتساهلوا فيه بأن تتركوا من حقكم من قولك
أغمض فلان عن بعض حقّه إذا غضّ بصره فتركه كأنه لا يراه.
فالاغماض مجاز عن
التسامح لترك بعض الحق وأخذ ما جاء كأنه لا يعلم بالعيب والرداءة كما أن من أغمض
عينه فلا يرى الشيء لا يعلم عيبه ورداءته وكذا في الحرام لكن الأول أظهر ، والأعمّ
أوسط.
قيل أي لا تأخذونه
إلّا أن تحطّوا من الثمن فيه عن ابن عباس والحسن وقتادة ، ومثله قول الزّجاج ولستم
بآخذيه إلّا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة كذا في المجمع وفي الكشّاف وعن الحسن لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه إلا أن
يهضم لكم من الثمن ، في سياق تفسير قراءة قتادة (تُغْمِضُوا) على البناء للمفعول ، وهو أوضح ،
__________________
وبالجملة المراد
أنكم تعلمون أنّ فيه نقصانا للحق وتركا منه ، فإذا أعطيتم ذلك نقصتم الحقّ وتركتم
منه ، فلما كانت المصلحة في ذلك لكم ، عاد النقص عليكم ، وكنتم بذلك مفوّتا مصلحة
أنفسكم ، ولذلك قال (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَنِيٌّ) أي عن كلّ شيء خصوصا عن إنفاقكم بالجيّد والحلال ، وإنّما
ذلك لنفعكم ومراعاة مصلحتكم (حَمِيدٌ) في الأمور كلّها خصوصا في أمركم بذلك ، فإنه لمراعاة
مصلحتكم ، وكذا في قبوله وإثابته إيّاكم.
والمقصود به
الترغيب والتأكيد ، ولهذا عقّبه بقوله (الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) في الإنفاق أصله وبالجيّد (وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشاءِ) أي المعاصي وترك الطاعات ، أو ترك الإنفاق ، والإنفاق من
الخبيث ، وفي الكشاف وتفسير القاضي : أي يغريكم على البخل ، والفاحش عند العرب
البخيل ، وقيل : الفاحشة الزّنا وما يشتدّ قبحه من الذنوب ، وكلّ ما نهى الله عنه
، والفحشاء البخل في أداء الزّكوة والفاحش البخيل جدّا.
(وَاللهُ يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً مِنْهُ) لذنوبكم فيسترها عليكم ويصفح عن عقوبتكم (وَفَضْلاً) أي خلفا أفضل ممّا أنفقتم من الخير والبركة ، وطهارة النفس
مثلا في الدنيا والأجر العظيم والثناء الجميل في الآخرة (وَاللهُ واسِعٌ) الفضل والمغفرة عند بغية كلّ طالب لا يضيق بشيء (عَلِيمٌ) فيعلم ما تعملون من الإنفاق وتركه وإعطاء الخبيث والطيّب ،
فيجازى كلّا بعمله ، ويضاعف منفق الطيّب بسعة فضله وكرمه في الدنيا والآخرة ، على
ما يعلم من المصلحة.
ولا يخفى أنّ هذه
الآية يقتضي أيضا ظاهرا وجوب الإنفاق المذكور بخصوصياته فلا يجوز إنفاق الحرام ولا
الرديّ من المريض والمعيب عن غيرها ولا يكون مجزية أيضا كما هو مقتضى النهى ضمنا
وصريحا حتّى قيل : لأنه المقصود من النهي ، ولعدم العلم بحصول براءة الذمّة مع
يقين شغلها.
وربّما احتمل بهذا
عدم إجزاء مقدار قيمته أيضا إلّا أن يعلم بدليل ، وإن
__________________
قلنا بإجزاء
القيمة لاحتمال اختصاصه بالدراهم والدنانير ولأن الكلام فيما لم يعط باعتبار
القيمة على أنّ فيه نظرا أيضا للإطلاق المفيد للعموم فليتأمل.
وربما يقال
بإشعارها بعدم وجوب الزّكوة أو والخمس في الحرام وكذا في الردي لعموم عدم إخراجها
مع أن وجوبهما في العين ولا يجب إخراج الحلال والجيّد عن الرديّ والحرام ، كما هو
مقتضى الأصل والأخبار وإجماع المسلمين ، حتّى كاد أن يكون ضروريا.
ويؤيّد ذلك ما
رواه محمّد بن يعقوب عن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد عن الحسن بن على
الوشاء عن أبان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر وهو من
أردء التمر يؤدّونهم من زكوتهم : تمر يقال له الجعرور ، والمعافارة قليلة اللّحا
عظيمة النوى ، وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله لا تخرصوا هاتين التمرتين ، ولا تجيؤا منهما بشيء وفي ذلك
نزل (وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا
فِيهِ).
وعلى هذا فعدم
جواز إخراج الأدنى من الأعلى لا يستفاد هنا إلّا من تتمّة الآية (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فتدبّر.
وفي قوله (وَلا تَيَمَّمُوا) إشارة إلى أن ما لم يكن من إنفاق الخبيث بدلا عن الجيّد عن
تعمد فلا حرج ولا إثم فيه لكن يجب التدارك مع التنبيه له كما تنبّه عليه التتمة ،
ونبّهنا عليه سابقا فافهم.
وحمل التتمّة على
أنكم لستم بآخذيه إلا أن تتسامحوا في أخذه بحسب الدّين بناء على حمل الخبيث على
الحرام ، مناف لما روي ، ولظاهر الآية الثانية ، ويوجب كونه
__________________
تأكيدا ، ومفوّت
لفوائد كثيرة فتأمل.
وأمّا ما قد
يستدلّ بها عليه من عدم جواز عتق الكافر ، فإن أريد عوضا عن المسلمة أو المؤمنة
فلا يخلو من وجه ، وأما مطلقا فلا ، لأنّ ظاهرها النهى عن قصد الخبيث من جملة
المال لتخصيص الإنفاق به دون الطيّب المأمور به ، أو عن الطيب فليتأمل.
وأجيب أيضا بمنع
كونه خبيثا بأحد المعنيين فإنه ليس حراما وإلّا لحرم بيعه وتملكه ولا رديا عرفا ،
ولذلك أيضا جاز دفعه إلى الفقير صدقة لكونه مالا قاله صاحب الكنز .
الخامسة
والسادسة في الروم [٣٨] (فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ.)
في المجمع أعط ذوي قرباك يا محمّد حقوقهم الّتي جعلها الله لهم من
الأخماس عن مجاهد والسّدي ، وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية
على النبيّ صلىاللهعليهوآله أعطى فاطمة عليهاالسلام فدكا وسلّمه إليها ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد
الله عليهماالسلام وقيل : إنه خطاب له ولغيره ، والمراد بالقربى قرابة الرجل
، وهو أمر بصلة الرحم بالمال والنفس هذا.
ولا يبعد أن يكون
الخطاب للنبي صلىاللهعليهوآله والمراد بالحقّ صلة الرحم أو أعم كغيره أيضا فافهم ،
واحتجّ به الحنفيّة على وجوب النفقة للمحارم وهو غير واضح.
وقال شيخنا ويحتمل وجوب نفقة الأقارب والتخصيص بالأبوين والأولاد
__________________
لإجماع الأصحاب
وأخبارهم ، والأولى كون الأمر هنا على الإجمال ، وبيانه بالأخبار والإجماع ، فإنّ
ذوي القربي يتفاوتون في الحق فافهم.
و (الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي وآتهما حقّهما وهو ما أوجب الله لهما من الزّكوة وغيرها
وقيل : من الزكاة والأعم أولى. والخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله أو لمن بسط له ولذلك رتّب على ما قبله بالفاء ، وقيل مرتب
على قوله (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) والأمر للوجوب كما هو الظاهر ، أو للرجحان المطلق والحقوق
أعم من الواجبة والمندوبة ، والبيان من خارج.
(ذلِكَ) أي إعطاء الحقوق مستحقّها (خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي ذاته أو جهته وجانبه أي يقصدون بمعروفهم إيّاه وجهه أو
جهة التقرب اليه لا جهة أخرى ، والمعنيان متقاربان ، ولكن الطريقة مختلفة قاله
الكشاف .
ويفهم من تقيد كون
ذلك خير بمريدي وجه الله أنّ ذلك ليس خيرا من عدمه لغيرهم أو هو شرّ لهم فيشترط في
ترتب الثواب عليه وبراءة الذمة به كونه لوجه الله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بثواب الله والقرب لديه ، بل وتزكية النفس وتنمية
المال وبراءة الذمة ويفهم نفي ذلك عن غيرهم ، فهو كالتأكيد لما قبله ، ويمكن أن
يراد أنّ ذلك خير للّذين يريدون وجه الله في أعمالهم ومأموراتهم فيكون موافقا
لقوله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ويحتمل أن يراد بذلك الإتيان بالمأمور به مطلقا على بعد ما
فليتأمل.
و (ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا)(فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي ما أعطيتم من المال ليربو
__________________
ويزيد لكم في
أموال الناس ، فسمّى المال المقصود به الزّيادة باسمها ، فان الربا هو الزّيادة ،
فقيل المراد الرباء المحرّم ، وقيل هدية أو عطية يتوقع بها المكافاة بأزيد ، فهو
حينئذ ربا حلال ليس عليه أجر ولا وزر ، عن ابن عباس وطاوس ، وهو المرويّ عن أبى
جعفر عليهالسلام .
والذي في تفسير
القاضي والكشاف أنّ المراد ما آتيتم من زيادة محرّمة ليزيد في أموال آكلي الربا
وأن يراد حينئذ : وزعمكم أنه يزيد في أموالهم ، وقال الكشاف والآية في معنى قوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي
الصَّدَقاتِ) سواء بسواء.
ولا يخفى أنه لا
يبعد أن يراد بالرّبا فيه أيضا ما قدّمنا وأنه هنا هو الأنسب بالفقرة الآتية من
قوله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
زَكاةٍ) الاية وبالمقصود من ترك إعطاء المال طمعا في الربا وإعطائه
زكاة فإنّ النهي عن أخذ الربا وإعطاء المال طمعا فيها أولى وأهمّ من النهى عن
إعطاء الرّبا لآكليه ، فإنّه قلّ ما يكون ذلك إلّا من حاجة أو ضرورة وبقوله (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) فإنه عمّا قلناه أردع.
بل لا يبعد الحكم
بعدم المناسبة لغيره لأنّ من يعطى الربا لا يبالي بعدم زيادة مال الأخذ بذلك بل لا
يكون الإعطاء في الأكثر عن طيب الخاطر فلا بدّ من تكلّف.
__________________
ويؤيد الأول ويضعف
هذا أيضا قراءة نافع ويعقوب «لتربوا» بالتاء المضمومة وسكون الواو أي لتصيروا ذوي
زيادة فافهم ، وقرأ ابن كثير «وما أتيتم»
بالقصر ، اي ما غشيتموه أو جئتم به من إعطاء ربا (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ
اللهِ) فذلك لا يزيد ولا ينمو لكم عند الله أي في حكم الله وبحسب
علم الله فما لكم إلّا رؤس أموالكم ، أو فلا يكون لكم بذلك زيادة من عند الله.
وإنّما اكتفى به
عن عدم استحقاقهم بذلك عند الله عوضا وشيئا أصلا مراعاة لمقابلته للمضاعفة على
الزكاة وإشارة إلى استلزام ذلك له ، وتنبيها على كمال فضله سبحانه وتعالى وأنه إذا
استحق عنده العوض على شيء زاد البتة وضاعف واكتفاء في ذلك بما تقدّم من أن ما لم
يكن لوجهه الكريم لم يستحقّ به من عنده شيئا أصلا بل وجوده كعدمه أو لأنّه لو كان
لهم من عند الله شيء لزادوا ربي عنده لأن لهم رأس مالهم من أموال الناس كما لا
يخفى فعلى القول الأخير يمكن أن يراد به نحو الأوّل ، وأن يكون كناية عن نحو (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) والله أعلم.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ
زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي
القوة واليسار ، وقيل : هم المضعفون للمال في العاجل وللثواب في الآجل ، فان
الزكاة منماة للمال ، ومنه الحديث ما نقص مال من صدقة وعن أمير المؤمنين عليهالسلام فرض الله الزكاة تسبيبا للرزق في كلام
__________________
طويل والتغيير عن
سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة والتفنّن ومراعاة أواخر الآي والالتفات فيه
للتعظيم كأنه خاطب به ملائكته وخواصّ خلقه تعريفا لحالهم ، أو للتنبيه على أنّ
الغالب الشائع في المخاطبين ممّن بسط له الرزق بعدهم عن هذا المعنى ، وقلة
التفاتهم إلى نحو هذا الكلام ، بل تحويل وجوههم وإعراضهم عنه إذا خوطبوا به.
نعم ربما استمعوا
إذا كان الكلام مع غيرهم ، أو للتعميم كأنه قال : فمن فعل ذلك فأولئك هم المضعفون
والعائد منه محذوف والتقدير المضعفون به أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون وقرئ بفتح
العين .
وفي الآية دلالة
على اعتبار النيّة ، واشتراط القربة ، وإشعار بالاكتفاء بها كما لا يخفى وما يقال
كيف الجمع بين ما دلّ على الأضعاف بوجوه شتّى ، وقوله (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) فالوجه أنّ هذه الأضعاف باختلافها آثار سعيه باختلاف
أنواعه وقيل ما سعى من باب العدل والأضعاف من قسم التفضل ، فليتأمّل فيه.
السابعة
في التوبة [٦١] (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ
اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.)
أتى بانّما تأكيدا
لحصرها في المذكورين وتصريحا وردّا على من يلمز النبيّ صلىاللهعليهوآله فيها من المنافقين ، وقطعا لأطماعهم ، واللام للاختصاص
والاستحقاق في الجملة لا للملكيّة فإن استعمالها فيه أغلب.
على أنّ الأولى مع
الاستعمال فيهما أن يكون للقدر المشترك وعلى تقدير
__________________
الاشتراك يرجح
الحمل عليه أصل عدم الملك ، وأنّ الظاهر أن اللام كفي في البعض لا يفيد الملك وأنّ
كونها للملك يوجب البسط على جميع أفراد كلّ صنف وعدم تخصّص بعض بدون إذن الباقين
وليس بواجب إجماعا ولذلك ذهب أصحابنا إلى أن المراد بيان المصرف دون الملك كما قال
به الشافعيّ.
واختلف في الفقراء
والمساكين هل هما صنف واحد ذكرا تأكيدا ـ وبه قال جماعة ـ أو صنفان وهو قول
الأكثرين.
ثمّ اختلف هؤلاء
على أقوال : فقيل الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل عن ابن عباس
وجماعة وهو المرويّ عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام وقيل : بالعكس ويؤيّد الأوّل قوله تعالى (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ
أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ
إِلْحافاً).
وروى في الحديث ما
يؤيّد الثاني : عنه عليهالسلام ليس المسكين الذي يردّه الأكلة والأكلتان والتمرة
والتمرتان ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يسأل الناس شيئا ولا يفطن به
فيتصدّق عليه وقيل : الفقير هو الزّمن المحتاج والمسكين هو الصحيح
المحتاج عن قتادة وقيل الفقراء المهاجرون والمساكين غير المهاجرين عن الضحاك.
ثمّ اختلفوا من
وجه آخر فقيل الفقير أسوء حالا فإنه الذي لا شيء له والمسكين الذي له بلغة من
العيش لا يكفيه وإليه ذهب الشافعيّ وابن الأنباريّ وهو قول للشيخ واحتجوا بقوله
تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ) وبأنّ الفقير مشتقّ من فقار الظهر فكأنّ الحاجة قد كسرت
فقار ظهره ولأنّ البدأة بالأهم وقد بدئ به.
ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قال اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني
__________________
في زمرة المساكين
ونعوذ بالله من الفقر. وهو يدلّ على أنّه أشدّ وقيل بل المسكين أسوء حالا وهو قول
أبي حنيفة والفتيبىّ وابن دريد وأئمّة اللغة وأنشد يونس :
أنا الفقير الذي
كانت حلوبته
|
|
وسط العيال فلم
يترك له سبد
|
وعن يونس أيضا قلت لأعرابي أفقير أنت؟ فقال لا والله بل مسكين وهذا
هو المرويّ عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام ولا ثمرة لتحقيق ذلك في هذا المقام وربّما كان في غيره والضابط
في الاستحقاق من ليس بغنيّ والمشهور عندنا في ذلك من لا يملك مؤنة سنة له ولعياله
الواجبي النفقة بحسب حاله في الشرف فما دونه ولا بصنعة وكسب ويدخل فيهم النساء
والأطفال وكذا الهاشميّ وإن كان المتصدق غيرهم والإخراج بحسب الدليل من خارج.
(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) هم السعاة في تحصيلها وتحصينها بجباية وولاية وكتابة وحفظ
وحساب وغيرها (وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) وهؤلاء في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله كانوا قوما من الأشراف كان عليهالسلام يعطيهم سهما من الزكاة يتألّفهم على الإسلام ويستعين بهم
على قتال العدوّ.
__________________
وأورد علىّ بن
إبراهيم في تفسيره عن العالم عليهالسلام قال : هم قوم وحّدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم
يدخل المعرفة قلوبهم أنّ محمّدا رسول الله وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يتألّفهم ويعرّفهم ويعلّمهم كيما يعرفوا فجعل لهم نصيبا في
الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا.
وظاهر الشيخ في
التهذيب البناء عليه وهذا يدل على عدم اشتراط إعانتهم في الجهاد ويؤيّده الإطلاق
وقول الصادق عليهالسلام في حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم إنّ الامام يعطي هؤلاء جميعا
لأنهم يقرّون له بالطاعة وإنّما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه فتأمل.
ثمّ اختلف في هذا
السهم هل هو ثابت بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله أم لا؟ فقيل : ثابت عن الشافعيّ وهو المرويّ عن أبى جعفر عليهالسلام إلا أنه قال من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألّفهم على
ذلك به وقيل سقط بعده صلىاللهعليهوآله لان الله سبحانه أعزّ الإسلام وقهر الشرك عن الحسن وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه.
واعلم أنّ المشهور
عندنا أنّ المؤلّفة كفّار يستمالون بشيء من الصدقات إلى الإسلام يتألّفون ليستعان
بهم على قتال المشركين حتّى قال الشيخ في المبسوط : ولا يعرف أصحابنا مؤلّفة أهل
الإسلام وقال المفيد والفاضلان ومسلمون مستدلّين بعموم الآية وقول الصادق عليهالسلام في حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم «وسهم المؤلّفة وسهم الرقاب
عامّ والباقي خاصّ» وبه قال الشافعي.
و (فِي الرِّقابِ) أي في فكّها ويدخل فيها المكاتبون والعبيد مطلقا أو إذا لم
__________________
يوجد مستحق أو إذا
كانوا في ضرّ وشدّة وينبغي أن يعتقهم الإمام أو المالك أو وكيل أحدهما بعد الشراء
ويحتمل العتق بمحض الشراء مطلقا أو مع نيّته في الشراء والله أعلم.
قال في المعتبر :
ومن وجب عليه كفّارة ولم يجد ما يعتق ، جاز أن يعطى من الزكاة ما يشترى به رقبة
ويعتقها في كفّارته روى ذلك علىّ بن إبراهيم في تفسيره عن العالم عليهالسلام قال : وفي الرقاب قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطاء أو
الظهار أو الأيمان وليس عندهم ما يكفّرون جعل الله لهم سهما في الصدقات ليكفّر
عنهم.
وعندي أنّ ذلك
أشبه بالغارم لأنّ القصد به إبراء ذمّة المكفّر ممّا في عهدته ويمكن أن يعطى من
سهم الرقاب لأنّ القصد به إعتاق الرقبة انتهى.
والذي رأيت في
تفسيره ونقله الشيخ في التهذيب بزيادة هكذا «وقتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما
يكفّرون وهم مؤمنون فجعل الله» إلخ وربما أشعر كلامه بأنّ المراد ذلك فتأمل وقد
مرّ ذكر الأقوال في أوّل هذا الكتاب.
وقالوا بشرط
الايمان ، وقول الصادق عليهالسلام وعموم الآية يدفعانه فلا تغفل.
وفي جعل الرقاب
ظرفا تنبيه على أنّ استحقاقهم ليس كغيرهم وأنه يتعين صرف هذا السهم في الوجه
الخاصّ فالأولى أن يعطى للمولى في وجه مال الكتابة أو المكاتب مع الوثوق بصرفه فيه
فان صرفه فقد وقع موقعه وإن أبرأه المولى أو تطوّع عليه متطوّع أو عجّز نفسه ارتجع
وقال الشيخ في المبسوط لا يرتجع مطلقا.
(وَالْغارِمِينَ) وهم المدينون في غير معصية للأخبار وكأنه إجماعنا وللشافعي
قولان والآخر الجواز وإن كان في معصية وقد مال المحقق إلى الجواز مع التوبة وفيه نظر.
والعطف على الرقاب
فيقضى عن الغارم دينه وإذا اعطى فبقدر دينه فان صرفه في موضعه وإلّا استعيد ،
خلافا للشيخ ، وتقضى الدين عمّن يجب نفقته مع عجزه عنه لدخوله تحت العموم ، ولأنّ
القضاء هو مصرف النصيب لا تمليك المدين ، وكذا لو كان الدين على ميّت قضى عنه وقال
أحمد وجماعة من الجمهور : لا يقضي لأنّ الغارم هو الميت ولا يمكن الدفع إليه ،
والغريم ليس بغارم فلا يدفع إليه.
(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) قد اختلف فيه فقيل الجهاد ، وهو قول للشيخ وبه قال
الشافعيّ وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف لأنّ إطلاق السبيل ينصرف إلى الجهاد ، وقيل
معونة الحاج أو أعم منها ومن الجهاد لما روى أنّ رجلا جعل ناقة له في سبيل الله
فأرادت امرأته الحجّ فقال لها النبيّ صلىاللهعليهوآله اركبيها ، فان الحجّ من سبيل الله.
وأكثر أصحابنا على
أنّه يعمّ جميع مصالح المسلمين ووجوه القرب إلى الله لانّ السبيل هو الطريق ، فإذا
أضيفت إلى الله كان عبارة عن كلّ ما يتوسل به إلى ثوابه ويتقرّب به إليه ، ويؤيّده
ما رواه علىّ بن إبراهيم في تفسيره عن العالم عليهالسلام «قال : وفي سبيل
الله قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما ينفقون به ، وقوم مؤمنون ليس لهم ما
يحجّون به» وفي جميع سبل الخير ، وانصراف الإطلاق إلى الجهاد غير مسلم والخبر عنه عليهالسلام قد يشعر بما قلنا كما لا يخفى.
في المجمع : وهو قول ابن عمر وعطاء واختيار البلخيّ وجعفر بن مبشّر
قالوا يبنى منه المساجد والقناطر وغير ذلك.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع به يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في
بلده ، وسمّى به للزومه الطريق ، ويؤيّده ما روى عن العالم عليهالسلام قال ابن السبيل أبناء الطريق يكونون في السفر في طاعة الله
فينقطع بهم ويذهب مالهم ، فعلى الامام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات ،
فيدخل فيه الضيف إذا كان بالصفة ، وقيل مع السفر والاحتياج ، فلا يبعد الاتّحاد ،
وقد يفرق فتأمل.
وقيل إنه الضيف
وأطلق عن قتادة ، وقيل مع كونه مسافرا محتاجا قال شيخنا قدس الله روحه يمكن اشتراط عدم القدرة على التدين وغيره للوصول إلى بلده
، فان المتبادر من ابن السبيل هو العاجز عن الوصول إلى بلده ، ويحتمل العدم لظاهر
اللفظ وعدم ظهور التبادر فتأمل.
وليس منه المنشئ
سفرا من بلده خلافا للشافعيّ وأبى حنيفة ، وابن الجنيد
__________________
منّا ، ثم المنقطع
به ان كان سفره طاعة اعطى وإن كان معصية منع ، وإن كان مباحا فعند أكثرنا يعطى
كالطاعة ، ومنع آخرون منّا ومنهم ، لنا عموم الآية وفي المختلف انه يكفى في مصداق
الخبر كون السفر مباحا مع اعتقاده ذلك وانقياده فيه فتأمل.
ثمّ إن أقام ناويا
عشرة فما زاد أو شهرا غير ناو ذلك ، فقيل يخرج عن كونه مسافرا فلا يصدق عليه ابن
السبيل ، وأجاب عنه العلّامة بالمنع وأنه وإن أخرجه ذلك عن كونه مسافرا يجب عليه
القصر لم يخرجه عن كونه مسافرا مطلقا ، وهو الوجه لصدق ابن السبيل عليه عرفا ،
ويدفع إليه قدر كفايته لوصوله إلى بلده ، فان صرفه في ذلك فقد وقع موقعه ، وإن
صرفه في غيره فهل يرتجع؟ قيل : نعم ، وقيل لا.
وفي المعتبر
والتذكرة : الوجه استعادته إذا دفع لقصد الإعانة اقتصارا على قصد الدافع وفي
التذكرة بعد الجزم بالردّ إن لم يسافر أنه لو وصل بلده وبيده فضل لم يسترد ، لأنه
ملكه بسبب السفر ، وقد وجد فلا يحكم عليه فيما يدفع إليه ، وقال المحقق يسترجع
لأنه غنىّ في بلده.
ويقال بناء ذلك
كلّه على معنى الظرفيّة وأنّ المراد صرفها فيه وفي معونته في الجملة أو في جهة
احتياجه من حيث كونه ابن سبيل من مؤنة وصوله إلى بلده ، ورفع هذا الوصف عنه ،
ولعلّ إطلاق اللفظ يؤيّد الأوّل ويؤيد الثّاني مقابلته للفقراء والمساكين مطلقا
والعدول من اللّام إلى «في» ولعلّ المراد الثاني لكن مع ذلك في استرداد الفاضل بعد
وصول البلد نظر خصوصا إذا كان ممّا لا بدّ منه في الوصول ومحتاجا إليه في السفر
لأنه قد صرف في مصرفه ، وكأنه الذي نظر إليه العلّامة ثمّ هل يؤثر قصد الدافع
خصوصا على الأوّل أو لا فليتأمل.
وفي الكشاف إنّما
عدل عن اللّام إلى «في» للإيذان بأنهم أرسخ في
__________________
استحقاق التصدّق
عليهم ممّن سبق لأنّ «في» للوعاء فينبّه على أنهم أحقّاء أن يوضع فيهم الصدقات
ويجعلوا مصيبا لها ، وتكرير «في» في قوله (فِي سَبِيلِ اللهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ) فيه فضل ترجيح لهما على الرقاب والغارمين ، وهذا يؤيّد
الإطلاق أيضا وعلى تقدير كونه تنبيها على أنّ الاستحقاق للجهة يمكن أن يقال
التكرير لأنّ الظرفيّة في هذين على وجه آخر فتأمل.
و (فَرِيضَةً) في معنى المصدر المؤكّد أي إنّما فرض الله الصدقات لهم
فريضة ، أو حال عن الضمير المستكنّ في للفقراء وقرئ «فريضة» على «تلك فريضة» أى
مقدرّة واجبة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأمور والمصالح (حَكِيمٌ) إنّما يفعل ويحكم على حسب المصالح فلا يحسن من الخلق إلّا
الانقياد والاتّباع.
الثامنة [في سورة البقرة ٢٧١] (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ) تعطوها علانية
__________________
(فَنِعِمَّا هِيَ) فنعم شيئا إبداؤها ، حذف الإبداء الذي هو المخصوص بالمدح حقيقة ، وأقيم
المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه لدلالة السياق عليه.
__________________
وأيضا فإنّ «هو»
في (وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاخفائها فيجب أن يكون هنا إبداؤها أو هي للصدقات المبدوّة
إشارة إلى أنّ نفس الإعلان غير مضرّ وليس في المدح بحيث يمدح بخصوصها عند الذكر مع
الصدقة وأما في العديل فإنّما أريد أنّ الإخفاء خير من الإعلان.
والمراد الصدقات
المتطوّع بها فإنّ الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها وعليه أكثر أصحاب التفاسير وهو
المرويّ عن أبى عبد الله عليهالسلام في أسانيد وفي مجمع البيان
__________________
وقيل : الإخفاء في
كلّ صدقة من الزكاة وغيرها أفضل عن الحسن وقتادة وهو الأشبه لعموم الآية ويؤيد الأول استحباب حمل الواجبة
إلى الامام ابتداء ووجوبه عند الطلب وأنه مع الإعلان فيها يسلم عن الاتّهام بترك
الفريضة ، وأنّ الريا لا يتطرّق إليها كتطرقها إلى المندوبة ، وأنّ قوله (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) يشعر بأن الإخفاء مظنة عدم إصابة مصارفها فينبغي في
الفريضة الاحتياط بالإعلان.
وأيضا لا ريب أنّ
البسط أفضل فصرف الجميع على الفقراء كما هو ظاهرها لا يناسب الزكاة ، وعن ابن عباس
صدقات السرّ في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من
سرّها بخمسة وعشرين ضعفا.
ونكفّر عنكم قرئ
بالنون مرفوعا عطفا على محلّ ما بعد الفاء أو على أنّه خبر مبتدء محذوف ، أى
ونحن نكفّر أو على أنه جملة مبتدأة فيجوز أن يكون ذلك بسبب الإنفاق مطلقا ، وبسبب
الإنفاق المخفي تأمل.
__________________
ومجزوما عطفا على
محلّ الفاء وما بعده ، لأنه جواب الشرط وقرئ «ويكفر» بالياء مرفوعا والفعل لله
فيحتمل أن يكون مبتدأة فيجيء الاحتمالان أو الفعل للإخفاء وربما أمكن للأعمّ فافهم
، وقرئ «تكفر» بالتاء مرفوعا ومجزوما والفعل للصدقات وقرأ الحسن بالياء والنصب
بإضمار أن ، ومعناه إن تخفوها يكن خيرا لكم وأن يكفر عنكم أو ولأن يكفر عنكم.
(مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) قيل «من» صلة وتحقيق للتعميم ، فربما خصّص السيئات
بالصغائر والأكثر على التبعيض فقيل هو الصغائر ، وقيل أعمّ فإن العبادات تسقط
الذنوب المتقدّم وجوبا ، وهو مذهب الإحباط والتكفير. وعلى مذهب الأصحاب من بطلان
ذلك كما هو المشهور وادّعى عليه الإجماع يكون إسقاط الذنوب تفضّلا غير واجب إلّا
بالوعد أو يقال المجمع على بطلانهما هو إحباط كلّ متأخّر وإن كان قليلا جميع ما
تقدّمه مطلقا لا إسقاط ما دونه أو مساويه والله أعلم.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من الإنفاق وغيره سرا وجهرا ، ليلا ونهارا ، حسنا وقبيحا ،
فيجازى كلا بعمله ، ويزيد لمن يشاء من المحسنين بفضله.
وممّا جاء في صدقة
السرّ عنه عليهالسلام «صدقة السرّ تطفئ
غضب الربّ وتطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار ، ويدفع سبعين بابا من البلاء ،
وسبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه : الامام العادل ، وشابّ نشأ في
عبادة الله عزوجل ورجل قلبه متعلّق بالمساجد ورجلان تحابّا في الله واجتمعا
عليه وتفرّقا عليه ، ورجل دعته امرءة ذات منصب وجمال فقال : انى أخاف الله عزوجل ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم يعلم يمينه ما ينفق
شماله ورجل ذكر الله ففاضت عيناه.
__________________
البحث الثالث
في أمور تتبع الإخراج وفيه آيات
منها
في البقرة [٢٧٢] (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من مال أو ما يعم كل معروف فإنه ضدّ الشرّ إلا أنّ الإنفاق
ربما لا يساعد عليه لاختصاصه بالمال أو أخصّ منه كالدراهم والدنانير فتأمل.
(فَلِأَنْفُسِكُمْ
وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) قيل حال ، وقيل عطف على ما قبله أي ليس إنفاقكم إلّا لوجه
الله على ما هو شأنكم أو على ما زعمتم فلا تمنّوا ولا تنفقوا الخبيث الذي لا يليق
بابتغاء وجه الله ولا ترضون لأنفسكم.
في المجمع هذا إخبار من الله تعالى عن صفة إنفاق المؤمنين المخلصين
المستجيبين لله ورسوله أنهم لا ينفقون ما ينفقونه إلّا طلبا لرضا الله هذا ويمكن
خروج ذلك مخرج المبالغة كأنّ ما ليس لابتغاء وجه الله ليس بإنفاق أصلا أو على معنى
أنكم لا تنفقون شيئا إلّا ابتغاء وجه الله فإنّه الذي يوجب الأجر والثواب.
ويحتمل أن يكون
المعنى لا تنفقون إنفاقا ينفعكم إلّا لابتغاء وجه الله فافهم وقيل : نفى في معنى
النهى ، فيستفاد اشتراط القربة وعدم اعتبار غيرها فابتغاء وجهه بالعمل هو النيّة.
قال في المجمع في
ذكر الوجه هنا قولان : أحدهما أنّ المراد منه تحقيق الإضافة ودفع إيهام الشركة
وذلك أنك لما ذكرت الوجه ومعناه النفس ، دلّت على أنك تصرف الوهم عن الإشراك إلى
تحقيق الاختصاص فكنت بذلك محقّقا للإضافة ، ومزيلا لإيهام الشركة. والثّاني أنك
إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف في الذكر من فعلته له ، لأنّ وجه الشيء في الأصل
أشرف ما فيه ، ثمّ كثر حتى صار يدلّ على شرف الذكر من غير تحقيق وجه ألا ترى أنك
تقول وجه الرأي ووجه الدليل ووجه الأمر فلا تريد تحقيق الوجه
__________________
وإنّما تريد أشرف
ما فيه من جهة شدّة ظهوره وحسن بيانه تأمّل فيه.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوفّر ويؤدّى إليكم يعنى ثوابه وجزاؤه قيل : أي في
الآخرة عن ابن عباس.
(وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ) بمنع ثوابه ولا بنقصان جزائه بل تعطون أضعافا مضاعفة ،
فالجملة الاولى دلّت على أنّ نفع الإنفاق إنّما هو للمنفق ، فينبغي أن ينفق ما
يرضى به لنفسه ولا يقصر فيه ولا يفسده بالمنّ والأذى ولا يتطاول به على الناس.
والثانية أنّ الإنفاق إنّما هو لوجه الله ، وغيره ضائع باطل ، فيجب
أن يكون على ما يليق بابتغاء وجه الله به فلا يجوز على وجه الرّياء والسمعة ، ولا
تكديره بالمنّ والأذى والتطاول على الناس ولا تقديم الخبيث الذي لا يليق لذلك
فإنّه لا يرضى به لنفسه بل ينبغي ما هو أحبّ وأحسن.
والثالثة على ما دلّت عليه الاولى ، وزيادة أنّ ذلك يرجع إليه كملا
من غير نقصان أصلا وفي تكرير ذلك في جمل متعددة بعنوانات مختلفة محفوفة
بوجوهات مؤكّدة من التبيين والتحريض والترغيب ما لا يخفى.
قيل : كان
المسلمون يمتنعون عن التصدّق على غير أهل دينهم ، فأنزل الله هذه الاية عن ابن
عباس وابن الحنفيّة وسعيد بن جبير ، فذلك في المتبرّع به إن صحّ ، وحمل على الجواز
وإلّا فالآية الآتية يشعر باختصاصه بغيرهم وأما الواجب فإنّما أجاز أبو حنيفة صرف
صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره ، وهو إجماعنا بل إجماع المسلمين أجمعين ،
هذا.
ولمّا حثّ ورغّب
في الإنفاق بأبلغ وجوه الترغيب وبيّن طريقه ، أشار إلى أفضل الفقراء الّذين هم
مصرف الصدقات فقال :
(لِلْفُقَراءِ) أى اجعلوا ما تنفقون لهم أو اعمدوه أو الإنفاق لهم على أنّ
الأمر
__________________
للاستحباب أو خبر
مبتدأ محذوف في هذا السياق أى ما تنفقون أو صدقاتكم لهؤلاء أي على وجه الأولوية ،
أو ينبغي ذلك للفقراء أو هو أولى لهم أو اجعلوا منه أو بعضه لهم فافهم.
قيل : هذا مردود
على اللّام من قوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ).
قال علي بن عيسى لا يجوز هذا لأنّ بدل الشيء عن غيره لا يكون إلّا والمعنى
يشتمل عليه وليس كذلك ههنا ، لأنّ الإنفاق للنفس من حيث هو عائد عليها وللفقراء من
حيث هو واصل إليهم وليسا من باب وأيضا فلا يجوز أن يكون العامل فيه (تُنْفِقُوا) للفصل الكثير بالأجنبيّ كما لا يخفى.
(الَّذِينَ أُحْصِرُوا) أى حبسوا أنفسهم كما قيل الإحصار باعتبار منع الشخص نفسه ،
والحصر منع الغير (فِي سَبِيلِ اللهِ) الجهاد أو مطلق الطاعة والعبادة (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي
الْأَرْضِ) ذهابا فيها للكسب للإقبال على الجهاد أو العبادة أو الّذين
منعوا أرزاقهم وأموالهم في طاعة الله (لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) لكسب المعاش : إما لخوف العدوّ من الكفّار وإمّا لفقر أو
مرض أو اشتغال بواجبات الدّين وما هو أهمّ (يَحْسَبُهُمُ
الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ) من أجل تعفّفهم وامتناعهم عن السؤال (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم من الضعف ورثاثة الحال أو التخشّع والخضوع الذي
هو من شعار الصالحين والخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله أو لكلّ من تأمّل في شأنهم.
__________________
(لا يَسْئَلُونَ
النَّاسَ إِلْحافاً) إلحاحا ، وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه وهو مصدر نصب على
الحال أى لا يسألون ملحفين أو على المصدر لأنه سؤال على صفة والمعنى أنهم لا
يسألون وإن سألوا الضرورة فبلطف من غير إلحاح ، وقيل بل المراد نفى السؤال أيضا عن
ابن عباس.
في المجمع وهو قول الفراء والزجّاج وأكثر أرباب المعاني ، وفي الآية
ما يدل عليه وهو قوله (يَحْسَبُهُمُ
الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) في المسئلة ، ولو كانوا يسألون لم يحسبهم الجاهل أغنياء
لأنّ السؤال ظاهر في الفقر ، وكذا قوله (تَعْرِفُهُمْ
بِسِيماهُمْ) ولو سألوا لعرفوا بالسؤال وإنّما هو كقولك ما رأيت مثله
وأنت لم ترد له مثلا ما رأيته وإنّما تريد أن ليس له مثل فيرى ، فمعناه لم يكن
سؤال فيكون إلحاح.
وفي الحديث : إنّ
الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتبأّس وإنّ الله يحبّ الحيي
الحليم المتعفّف ويبغض البذيّ السئّال الملحف ، وعنه عليهالسلام إنّ الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ،
وإضاعة المال ، ونهى عن عقوق الأمّهات ووأد البنات وعن منع وهات .
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ) من مال قليل أو كثير لهم أو لغيرهم سرا أو جهرا (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازى على حسب ما يستحقّه باعتبار حسن النفقة والإنفاق ،
ومراعاة المنفق عليه كما وعد ، وما تضمّن معنى الشرط ، ولهذا سقط النون ودخل الفاء
في الخبر.
في المجمع قال أبو جعفر عليهالسلام : نزلت الآية في أصحاب الصفّة وكذلك رواه
__________________
الكلبيّ عن ابن
عباس وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ، ولا عشائر يأوون إليهم
، فجعلوا أنفسهم في المسجد ، وقالوا : نخرج في كلّ سريّة يبعثها رسول الله فحثّ الله
الناس عليهم ، فكان الرجل إذا كان عنده فضل أتاهم به ، إذا أمسى.
وفي الكشاف إنّهم
من مهاجري قريش ، وكانوا في صفّة المسجد وهي سقيفة يتعلّمون القرآن بالليل ويرضخون
النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وعن ابن عباس وقف رسول الله صلىاللهعليهوآله يوما على أصحاب الصفّة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم ،
فقال : أبشروا يا أصحاب الصفّة ، فمن بقي من أمّتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا
بما فيه ، فإنّه من رفقائي.
وفيه من الحثّ
والترغيب للفقراء على الاتّصاف بصفاتهم على ما تضمّنه كالآية على ما تضمّنت من
الاشتغال بالعبادة ، وحبس النفس في سبيل الله والصبر على الفقر ، وترك السؤال
والرضا به ما لا يخفى ، فان الحكم غير مختصّ بهؤلاء كما يفهم من الخبر ، وسياق
الآية ، وذكر العلماء إيّاها في باب الزكاة.
على أنه مع حصول
الحالات ينبغي عدم الفرق عقلا ، وحينئذ فلا كراهية في ترك الكسب وحبس النفس على
العبادة ، سيّما تحصيل العلوم الدينيّة ونشرها ، فإنّه كالجهاد أو أعظم على ما
قالوا ، ودلّ عليه بعض الروايات ، والقناعة بما حصل من الزكاة وغيرها من الصدقات ،
بل يكون أفضل وأحبّ إلّا أن يكون صاحب عيلة ولم يحصل منها ما يصلح أن يقنع به
فليتأمل وكذا ترغيب الأغنياء في الإنفاق على أمثالهم كما لا يخفى.
ثمّ رغب في
الإنفاق وحثّ عليه حتى بجميع الأموال بقوله (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) هما اسمان وضعا موضع المصدر على الحال ، أي
__________________
مسرّين ومعلنين أى
يعمّون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلّما نزلت بهم حاجة محتاج
عجلوا قضاءها ولم يؤخّروا ولم يتعلّلوا بوقت ولا حال.
(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر الّذين والفاء للسببيّة ، وقيل للعطف والخبر محذوف أي
ومنهم الّذين ، ولذلك جوّز الوقف على (وَعَلانِيَةً) وفيه نظر ، و «عند» ظرف مكان ، والعامل فيه ما يتعلّق به
اللام من «لهم» وربما أشعر بتعظيم الأجر كأنه لا يقدر عليه ولا يعلمه إلّا ربّهم ،
فلا يوجد إلّا عنده.
(وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) لا من فوت الأجر ولا من أهوال يوم القيمة ، بل وما قبلها (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على شيء من ذلك مع عظم تلك الأهوال وشدّة تلك الأحزان ،
كما هو معلوم من الآيات والأخبار ، فالإنفاق المذكور أمر عظيم عند الله ولله عناية
جليلة بحال الفقراء وإنفاعهم ، بل الظاهر أنّهم لا يحزنون بوجه أصلا لا من خوف ضرر
ولا من فوت مطمع ، لا لأمر متأخّر ولا متقدّم ، ولهذا نزل في من شأنه العصمة ، حيث
لم يكن منه تقصير من وجه :
فعن ابن عباس نزلت الآية في علىّ عليهالسلام كانت معه أربعة دراهم فتصدّق
__________________
بواحد نهارا
وبواحد ليلا ، وبواحد سرا وبواحد علانية ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهماالسلام وروي عن أبى ذرّ والأوزاعيّ أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله ،
وقيل هي في كلّ من أنفق ماله في طاعة الله.
وعلى هذه فنقول :
الاية نزلت في علىّ عليهالسلام كما هو المشهور ، ودلّت عليه الروايات ، وشهد له ما
تضمّنته الآية من إنفاق جميع الأموال فإنه لم يرو ذلك إلّا في حقّ على عليهالسلام نعم حكمها سائر في كلّ من فعل مثل فعله ، فله فضل السبق
إلى ذلك ، وأجر الاقتداء به ، فله أجره وأجر كلّ من عمل به من غير أن ينقص من أجر
العامل شيء للخبر المشهور.
ففي الآية دلالة
على حسن الإنفاق والمبالغة فيه حتّى بكلّ المال بل أحسنيّته واغتنام الفرصة في ذلك
فلا يبعد فهم عدم الخوف على المنفق المذكور من ذلك ولا حصول الحزن من ذا الوجه
أصلا للعموم فافهم.
ومنها [في البقرة ٢١٥] (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.)
«ما» إما مرفوع
المحلّ على الابتداء وذا موصول بصلته خبر له والعائد محذوف أى ما الذي ينفقونه أو «ما
ذا» بمنزلة شيء واحد ، منصوب بأنه مفعول ينفقون ، فذا كاللّغو لأنّ ما مفيد للمعنى
كما قيل.
وما موصول تضمّن
معنى الشرط رفع بالابتداء ، وأنفقتم صلته ، وفي محلّ الجزم به ، و (مِنْ خَيْرٍ) في موضع الحال عن العائد المحذوف ، و «من» للتبيين ،
فللوالدين خبر مبتدأ محذوف أى فهو لهما ، والجملة خبر «ما» والفاء جواب الشرط ،
ومطابقة الجواب للسؤال من حيث أنّه قد تضمن قوله (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه ، وهو كلّ خير فقدّر في طرف القلّة بما
يسمّى خيرا وأما في الكثرة فلا حدّ له ، بل ما بلغ
__________________
لكن بنى الكلام
على ما هو أهمّ وهو بيان المصرف لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلّا أن تقع موقعها.
وعن ابن عباس أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ همّ وله مال عظيم فقال ما
ذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت وحينئذ فتخصيص الأوّل في السؤال لعلّه
لاهتمام السائل به واعتقاده أنّ تحقيقه أهمّ وهو أدخل في القبول وترتّب الأجر ففي
الجواب أشير إلى خلافه ، وقيل : المراد ما ذا ينفقون على وجه كامل تأمّل.
في المجمع المراد بالوالدين الأب والامّ والجدّ والجدّة وإن عليا ،
لأنهم يدخلون في اسم الوالدين ، وبالأقربين قرابة المعطي ، واعلم أنه يلوح من بعض
دخول الأولاد في الأقربين ، وفيه نظر وكان الأوّل على التغليب أيضا فتأمل.
وقد اختلفوا في
هذه النفقة ، فقال الحسن : المراد نفقة التطوّع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده
والزكاة لمن يجوز وضع الزكاة عنده ، فهي عامّة في المفروضة والتطوّع قاله في
المجمع ، والأظهر في هذا المعنى إرادة الأعمّ وأنها في هؤلاء على حسب ما يجوز شرعا ، فيدخل الزكاة
والنفقة الواجبة وصلة الأرحام ، وسائر مندوبات الصدقات ، كما ذهب إليه صاحب الكنز.
ويمكن الحمل على
الواجبة على نحو ذلك فلا ينافي ذكر الوالدين لوجوب نفقتهما ، بل على الزكاة
المفروضة لجواز إعطاء الوالدين لا في جهة النفقة كسهم الرقاب والغارمين ، بل ومن
سهم الفقراء على ما قيل مثل إعطائهما ما يحتاجان إليه في طلب العلم أو الاشتغال
بالعبادة زيادة على الواجب ، أو مؤنة الزواج ونحو ذلك.
وفي الكشّاف وعن
السدّي هي منسوخة بفرض الزكاة ، وأجيب بعدم المنافاة
__________________
مع أنّه لا دليل
عليه ، وفي المجمع وقال السّدي الآية واردة في الزكاة ثمّ نسخت ببيان مصارف
الزكاة. وحينئذ ربما توجّه منافاة ولكن النسخ يحتاج إلى دليل قوى ، وليس ، ولا
ضعيفا ، فان وروده في الزكاة غير مشهور ، ولا به رواية عن ثقة ويأباه ظاهر الاية
كما لا يخفى ، على أنك قد عرفت وجه الجمع وعدم التنافي.
وفي المجمع عن
الحسن هي في التطوّع بدليل باقي الآية ولقوله (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) أى عمل صالح إلى هؤلاء أو غيرهم (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيوفيكم ثوابه ويجازيكم من غير أن يضيع منه شيء وكأنّ ذلك
تعميم للجواب أو وتتميم له ، فيفهم أنّ ما ينفقونه من مال فلهؤلاء أولا أو على
الأولويّة والأحقية ، وما تفعلوا من إنفاق الخير المذكور وغيره من المعروف لهؤلاء
وغيرهم (فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ) فيوفّيهم الأجر من غير نقص ، فيكون فيه ترغيب على تعميم
المعروف ، وتوسيع الخلق للخلق وحسن المعاشرة.
ومنها [في البقرة ٢١٩] (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ.)
قالوا : السائل
عمرو بن الجموح : سأل عن النفقة في الجهاد ، وقيل : في الصدقات
(قُلِ الْعَفْوَ) أي أنفقوا العفو أو العفو تنفقون ، أو أنفقوا ، وقرئ
بالرفع أي الذي تنفقونه العفو.
وفيه أقوال :
أحدها أنّه ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى عن ابن عباس وقتادة ،
وثانيها الوسط من غير إسراف ولا اقتار عن الحسن وعطا وهو المرويّ عن أبى عبد الله عليهالسلام ، وثالثها أنّه ما فضل عن قوت السنة عن أبى جعفر عليهالسلام : قال :
ونسخ ذلك بآية
الزكاة ، وبه قال السدّي. ورابعها إنه أطيب المال وأفضله كذا في المجمع .
والأقوال الأول
متقاربة ، ولهذا قال في المعالم قال قتادة وعطا والسديّ هو ما فضل عن الحاجة ،
وكانت الصحابة يكسبون المال ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدّقون
__________________
بالفضل بحكم هذه
الآية ثمّ نسخ بآية الزكاة هذا ، وفي النسخ تأمل لعدم منافاة ظاهرة ودليل واضح.
وعن طاوس أنه ما
يسرّ ومنه قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ) أي الميسور من أخلاق الناس ، وبه يشعر ما روي عن عليّ عليهالسلام أنه قال لعامله : إيّاك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو
نصرانيا في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم ، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو .
وفي الكشّاف ونحوه
في تفسير القاضي أنّه نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ منه الجهد قال «خذي
العفو منّى تستديمي مودّتي» ويقال للأرض السهلة العفو ، وعن النبي صلىاللهعليهوآله أنّ رجلا أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال :
خذها منّى صدقة فأعرض عنه رسول الله ، فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه
ثمّ أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه فقال هاتها مغضبا فأخذها فخذفه بها خذفا لو
أصابه لشجّته أو عقرته ، ثمّ قال : يجيء أحدكم بماله يتصدّق به ويجلس يتكفّف الناس
إنّما الصدقة عن ظهر غنى.
ولا بعد في هذا
الخبر (إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
__________________
كَفُوراً)
وقد أشير فيه وفي
قوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) إلى وجه الجمع بينهما وبين ما يدلّ على مواساة الاخوان
والتسوية ، بل الإيثار كما روى عن علىّ عليهالسلام وأهل بيته حتّى نزل فيهم (هَلْ أَتى) وقوله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي حاجة.
(كَذلِكَ) بيانا مثل ذلك (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ) والحجج في أحكام الدين أو وأمور الدنيا (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدنيا والآخرة. إما أن يتعلّق بيتفكّرون أي لعلّكم
تتفكرون فيما يتعلق بالدارين ، فتأخذون بما هو أصلح لكم في الدارين فينتظم لكم أمر
الدنيا والآخرة كما بيّنت لكم أنّ العفو أصلح من الجهد والإسراف في النفقة ، أو
وأنّ الإثم في الخمر والميسر أكثر من نفعهما ، وفي تخصيص الإشارة بهذا نحو بعد ،
أو في الدارين فتؤثرون إبقاءهما وأكثرهما منافع فتختارون الآخرة وتتركون الخمر
والميسر لإثمهما ، ولا تتلوّثون بهما لمنافع زعم الناس لهم ، مع أنّ إثمهما أكبر ،
ولا تقصرون في الإنفاق بل تتسابقون فيه حيث قد سهل عليكم. وإما إن يتعلّق بيبيّن
على معنى يبيّن لكم الآيات في أمر الدارين وما يتعلّق بهما لعلّكم تتفكّرون.
ومنها [في البقرة ٢٥٤] (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ).
الأمر بظاهره
يقتضي وجوب الإنفاق ، وظاهر أن ليس المراد بشيء ما مطلقا فلا بدّ أن يكون إشارة
إلى معين في الجملة ، فعن السديّ أراد به الزكاة المفروضة وذلك لأنها أعرف النفقات
وأهمّها.
وقيل أراد به
الفرض مطلقا الزكوات وغيرها كالإنفاق على من وجبت نفقته ،
__________________
وسدّ جوعة المسلم
، وفي الحج دون النفل لإقران الوعيد به ، وقيل : يدخل فيه النفل أيضا. في المجمع
وهو الأقوى لأنه أعمّ ، ولانّ الآية ليس فيها وعيد على ترك النفقة
وإنّما فيها إخبار عن عظم أهوال يوم القيمة وشدائدها.
وفيه تأمل نظرا
إلى ما يأتي ونظرا إلى ما تقدّم ، ويكون الأمر حينئذ لمطلق الرجحان أى أنفقوا من
قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرّطتم ، والخلاص من تبعته من العذاب.
أو الفوز بعظيم الأجر والثواب ، إذ لا بيع فتحصلون ما تنفقون أو تفتدون به ، ولا
خلّة حتى يعينكم أخلّاؤكم أو يسامحونكم به.
ولا شفاعة فيكون
لكم شفيع يشفع لكم ، فمن فاته هنا فقد فاته هذا ، وقد قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) والأمة أجمعت على إثبات الشفاعة يوم القيمة ، وتدلّ عليه
آيات وأخبار كثيرة فاما أن يكون المراد النفي مطلقا لتارك الإنفاق كما هو المناسب
بتمام الربط ، وظاهر السياق ، أو نفى ما يجوز الاعتماد عليه في التدارك ، أو
المراد إلّا ما استثني وهو مما لا يجوز الاعتماد عليه في ذلك لاشتراط الاذن والرضا
منه ، يقال فقد لا يأذن له ولا يرضى لعدم استئهاله.
(وَالْكافِرُونَ) قيل أى تاركوا الإنفاق (هُمُ الظَّالِمُونَ) فعبّر عن تركه بالكفر كما عبّر عن ترك الحجّ به ، وحصر
الظالمين فيهم أيضا للمبالغة ، ومزيد الاهتمام به أو المراد والكافرون هم مقيمون
على ظلم أنفسهم فلا تكونوا مثلهم وأنتم مؤمنون إشارة إلى أن ترك الإنفاق ظلم وهو
من صفات الكفّار لا يجوز للمؤمنين الاتّصاف به ، وربما أومأ إلى أنّ إصرار ذلك قد
يلحقهم بهم ، ويدلّ عليه بعض الروايات في منع الزكاة فتأمل.
أو المراد
الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون أنفسهم مطلقا ، أو بمنع الإنفاق كما في قوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وهذا قريب من السابق ، ويجوز أن يكون تخصيص الكافر بالظلم
باعتبار أنهم الكاملون في الظلم ، و
__________________
ظلمهم قد بلغ
الغاية وليس مبلغ ظلم المؤمنين وغيرهم مبلغ ظلم الكافرين.
ونظيره فلان هو
الفقيه ، وفلان هو الفاضل ، ويراد به تقديمه على غيره فيما أضيف إليه ، فكأنّه قيل
الكافرون هم الكاملون في الظلم ، بالغين الغاية فيه ، فإياكم أن تتشبّهوا بهم
وتعملوا مثل عملهم وأنتم مؤمنون بالله واليوم الآخر ، فافهم.
أو باعتبار أنّ
الله لا يظلمهم يوم القيمة بل هم الظالمون أنفسهم فكأنه لما نفى البيع والخلّة
والشفاعة وأخبر أنه قد حرم الكافر هذه الأمور ، مع ما هو معلوم من الدين ضرورة من
شدّة عذابه وأليم عقابه في ذلك اليوم ، قال ليس ذلك بظلم منّا بل الكافرون هم
الظالمون أنفسهم بعمل ما استحقّوا ذلك به ، فكذلك إذا استحققتم شيئا من العذاب أو
حرمان شيء من الثواب يكون من قبل أنفسكم ، وعلى هذا يحتمل حمل الإنفاق على ما يعمّ
الفرض والنفل ، حملا للأمر على مطلق الرجحان.
ومنها
في البقرة [٢٦١] (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الجهاد أو مطلق وجوه البرّ (كَمَثَلِ) زارع (حَبَّةٍ) أو المراد مثل نفقة الّذين ينفقون كمثل حبّة (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) يعنى أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أى يزيد على سبعمائة فيضاعفها وقيل يضاعف هذه المضاعفة لمن
يشاء (وَاللهُ واسِعٌ) المقدرة والرحمة لا يضيق عليه ما شاء من الزيادة ، ولا
يضيق عن المضاعفة أصلا ، فكيف إذا وعد عليم بكلّ شيء فيعلم ما كان من نفقة ونيّة
المنفق وقصده واستحقاقه الزيادة وعدمه.
واعلم أنّ الحسنة
في قوله سبحانه (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أعمّ من الإنفاق ، فلا مانع أن يكون العشر لازما ولو
باعتبار الوعد في جميع الحسنات ، ويزيد إلى سبعمائة في الإنفاق في سبيل الله مطلقا
، وإلى أزيد في مواضع منه أو غيره ، روى عن ابن عمر أنّه قال : لما نزلت هذه الآية
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ربّ زد أمتي ، فنزل قوله (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فقال ربّ زد أمتي فنزل (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).
(الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلا أَذىً)
المنّ كأن يعتدّ
بإحسانه على من أحسن إليه ، والأذى كأن يتطاول عليه ويترفّع بسبب ما أنعم به عليه
، كأن يعبس وجهه عليه ، ثمّ إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وأن
تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الايمان خيرا من الدخول فيه ،
بقوله (ثُمَّ اسْتَقامُوا).
أو إشارة إلى بعد
المنفقين عن ذلك فكان ترك المنّ والأذى منهم بعيدا عن إنفاقهم ، أو إشارة إلى أن
ليس المراد بالاتباع إتيان ذلك بلا فصل ، أو عن قرب ، بل يعتبر عدمه ولو طالت
المدّة بعده ، يؤيد الأوّل ما روى عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال المنّان بما يعطي لا يكلّمه الله ولا ينظر إليه ولا
يزكّيه وله عذاب أليم ، ويستفاد منه وجه لعدم إيراد الفاء في قوله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وإنّما قال عند ربّهم ، لأن النفس إليه أسكن ، وبه أوثق ،
فإنّ ما عنده لا يخاف عليه فوت ولا نقص وقد قدّمنا أن فيه تعظيما وتفخيما للأجر.
(وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوت الأجر ونقصانه ، ولا يبعد الأعم ، والاية لا ريب في
دلالتها على انتفاء ذلك في الجملة ، وربما دلّت على عدم كون أجرهم لهم مع المنّ
والأذى ، وتحقق الخوف والحزن ، ولا يبعد ذلك في كلّ إحسان كالاقراض والتخليص من
شدّة والنصرة على العدوّ والتعظيم وردّ الغيبة والتخلق وحسن المعاشرة والعفو
والمسامحة ونحو ذلك.
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام طيّب يرد به السائل ردا جميلا ولا يخصّ الدعاء كما
قيل نحو أغناك الله.
ومغفرة أي ونيل
مغفرة من الله بسبب الردّ الجميل أو وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على
المسئول كأن يسأل في غير وقته أو يسيء الأدب ، أو وعفو من قبل السائل ، فإنه إذا
ردّه ردّا جميلا عذره.
__________________
(خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً) خيرا ما على حقيقته باعتبار أنّ الصدقة التي يتبعها أذى
قبل الأذى حسنة يقتضي الأجر والثواب إلّا أن المنّ والأذى يبطلانها بعدا ومعنى
البطلان صرف الثواب في عوض الأذى مثلا ، بل إثمه أعظم وأزيد ، فيبقى بعد أو على
الاتساع فلا يلزم منه ما ينافي ما تقدّم وإنّما اقتصر على ذكر الأذى لأن المنّ
يستلزمه ولو غالبا.
روى عن النّبي صلىاللهعليهوآله إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ،
ثمّ ردّوا عليه بوقار ولين : أما بذل يسير أو ردّ جميل ، فإنّه قد يأتيكم من ليس
بإنس ولا جان ، ينظرون كيف صنيعكم فيما خوّلكم الله (وَاللهُ غَنِيٌ) خصوصا عن إنفاقكم وإنما نفعه لكم ويأمر به لمصلحتكم (حَلِيمٌ) فلا يعاجل بعقوبة من يمنّ ويؤذى ، بل يؤخر العقاب بحلمه ،
وهذا سخط ووعيد على المنّ والأذى ، نعوذ بالله من غضب الحليم.
وأكد ذلك بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي ولا بالأذى إبطالا.
(كَالَّذِي) كإبطال أو لا تبطلوا حال كونكم مماثلي الذي (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) أي لأجل رئائهم أو مرائيا لهم أو إنفاق رياء أو إنفاقا كما
في تفسير القاضي لكون الإضافة لفظيّة.
(وَلا يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيريد بإنفاقه أو بأعماله وجه الله والدار الآخرة وثوابه
فيها ، والعطف على «ينفق» وعليه قيل أي وكالّذي لا يؤمن ، يعنى كإبطاله أعماله أو
إنفاقه لأنّ الكلام فيه ، وليس بوجه إذ الموصول واحد لم يتعدّد ، نعم فيه تنبيه
عليه كما أشرنا.
قيل : ويحتمل عطفه
على رياء بجعله حالا بتأويل المفرد ، وقد استدلّ بالاية على أن كلّ مرائي منافق ،
لأن الكافر المعلن غير مرائي ، وفيه نظر فإنه لو سلم ذلك فإنما يلزم أن يكون
المراد بالمرائي المذكور المنافق ، بدليل قوله (وَلا يُؤْمِنُ) على
__________________
أنّ الحقّ أنه يصح
في الكافر المعلن أيضا فإنّه حيث لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا يبقى له داع إلى
الإنفاق إلّا الرياء ، وإن لم يكن ذلك بالنسبة إلى المسلمين مثلا فافهم ، ولا
دلالة في الكلام على لزوم عدم الايمان للإنفاق رئاء الناس ، وإن ناسبه لجواز أن
يراد التشبيه بإبطال الكافر المرائي ، وإن كان في المسلمين أيضا مبطل مرائي تغليظا
في النهى وتقبيحا للمنّ والأذى ، بل الرياء أيضا في نظر المؤمنين فإنّ المنّ
والأذى ربما كانا كاشفين عن الرياء وعدم الإيقاع لوجه الله كما قيل.
(فَمَثَلُهُ) أي الذي ينفق رياء ولا يؤمن (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) حجر أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ ،
فَأَصابَهُ وابِلٌ) مطر عظيم القطر شديد الوقع (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أملس نقيا من التراب (لا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) كما لا يقدر أحد على ردّ ذلك التراب والانتفاع به ، أو كما
لا يقدر ذلك الحجر على إمساك ذلك التراب ولا على ردّه ، والانتفاع به ، وفيه
تنبيهات فافهم ، والضمير للّذي ينفق باعتبار المعنى إذ المراد الجنس أو الجمع ،
كأنه قيل الفريق الذي أو لضمير «فمثله» باعتبار المذكور أو له ولصفوان جميعا.
قيل : الجملة في
موضع الحال فاما من الذي أو فاعل ينفق ، والأقرب ضمير «فمثله» أو هو والصفوان
جميعا ، ولا يبعد كونها استينافا مبيّنا للإبطال ، أو للتمثيل ، أو لهما.
وفي المجمع إنّ وجوه الأفعال تابعة لحدوثها ، فاذا فاتت فلا طريق إلى
تلافيها ، وليس في الآية ما يدلّ على أنّ الثواب الثابت المستقرّ يبطل ويزول
بالمنّ فيما بعد ، ولا بالرياء الذي يحصل فيما يستقبل من الأوقات على ما قاله أهل
الوعيد ، وفيه نظر واضح والآية ظاهرة في البطلان بالمنّ والأذى ولو بعد حين ،
والأخبار مشحونة بذلك.
وقد تضمّنت الآية
الحثّ على الإنفاق في أبواب البر ابتغاء مرضات الله ، والنهى عن المنّ والأذى
والرياء والسمعة والنفاق ، وبطلان العمل بها.
عن ابن عباس قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : إذا كان يوم القيمة نادى مناد يسمع أهل
__________________
الجمع أين الذين
كانوا يعبدون الناس؟ قوموا خذوا أجوركم ممّن عملتم له ، فانّى لا أقبل عملا خالطه
شيء من الدنيا وأهلها.
وعن أبى عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من أسدى إلى مؤمن معروفا ثمّ آذاه بالكلام أو منّ عليه ،
فقد أبطل الله صدقته ، ثمّ ضرب فيه مثلا كالّذي ينفق ماله رئاء الناس إلى قوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ) إلى الثواب أو الجنّة أو الخير والرشاد ، وفيه تعريض بأنّ
الرياء من صفات الكفار وأنّ المنّ والأذى كذلك ويجب على المؤمن أن يتجنّب عنها
ويراعى الإخلاص في الإنفاق بل في سائر الأعمال.
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي رضاه ، فهو إمّا مصدر ميميّ أو اسم المصدر ، وابتغاء
نصب على المفعول له كما قيل ، ويحتمل الحال وكذا ما عطف عليه أي (وَتَثْبِيتاً) لهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) على الايمان ومقتضاه أو على الخير والرشاد أو على الإنفاق
فكأنها برسوخها وقوّة اليقين والبصيرة في الدين ورغبتها تثبتهم عليه ، أو
بموافقتها لهم ومتابعتها إيّاهم في إنفاق الأموال تثبّتهم على الإنفاق ، أو على
أحد الأوّلين ، فان بتحامل التكليفات وتكلّف ما يصعب من مشاقّ العبادات يقلّ الطمع
في الشهوات ، ويتعوّد بالخيرات ، ويشتدّ الرغبة في السعادات ، فكان في ذلك تثبيت.
وفيه تنبيه على
أنّ من حكمة الإنفاق للمنفق تزكية نفسه عن البخل وحبّ المال ، بل عن الرياء والمنّ
والأذى أيضا أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم ، فإنّه إذا أنفق
المسلم ماله في سبيل الله علم أنّ تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ، وإخلاص
قلبه.
أو (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عند المؤمنين إنّها صادقة الايمان مخلصة فيه ، ويعضده
قراءة مجاهد : «وتبيينا من أنفسهم» ويستفاد حينئذ رجحان الإعلان ، فيخصّ بالواجب
للروايات ، أو وتبيينا من أنفسهم عندهم ، لاتّهامهم أنفسهم وعدّهم إيّاها مقصّرة ،
وعن الحسن ومجاهد تثبيتا من أنفسهم أين يضعون.
و «من» على الوجوه
ابتدائيّة ، ويحتمل التبعيض على معنى تثبيتا بعض أنفسهم
على الايمان
ومقتضاه ، ببذل المال الذي هو شقيق الروح وبذله أشق شيء على النفس ، فمن بذل ماله
لوجه الله فإنه قد ثبتها في الجملة على ما أشرنا إليه سابقا فكأنه قد ثبت بعض نفسه
ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلّها ، كما قال (وَتُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وفيه التنبيه المتقدّم أيضا.
والمعنى ومثل نفقة
هؤلاء في زكاتها عند الله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) بستان (بِرَبْوَةٍ) مثلّث الراء وقرئت إلّا أنّ الكسر غير متواتر أي بمكان
مرتفع فان الشجر حينئذ أحسن نبتا ومنظرا وأكثر ريعا وأزكى ثمرا (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر (فَآتَتْ أُكُلَها) أي ما يؤكل منها يعني ثمرتها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر أو مثلي ما إذا لم يكن بربوة وقيل مثلي
ما إذا كانت متسفّلة ، وقيل أربعة أمثاله ، ونصبه على الحال أي مضاعفا واحتمل أن
يكون المراد تؤتي أكلها مرّتين في سنة كما قال سبحانه (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) أي كلّ ستّة أشهر كما روي عن الصادق عليهالسلام .
(فَإِنْ لَمْ يُصِبْها
وابِلٌ فَطَلٌّ) فمطر صغير القطر أي فيصيبها أو فالذي يصيبها طلّ أو فطلّ
يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها ، فتؤتى أكلها ضعفين أيضا وهو
على ظاهر القول بمثلي ما كانت تثمر غير واضح.
أو فلا تنقص من
ثمرها شيء ، وإن لم تأت ضعفين ، فكذلك نفقات هؤلاء زاكية عند الله يضاعف ثوابها
دائما أو لا يضيع ولا ينقص بحال ، وإن تفاوتت باعتبار ما ينضمّ إليها من الخصوصيات
ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله بالجنّة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة
والقليلة بالوابل والطلّ.
في الكشّاف : فكما
أنّ كلّ واحد من المطرين تضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة ، بعد
أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم
عنده.
وقد فسّر ضعفين
بمثلي ما كانت تثمر وفي الجمع بينهما ظاهرا نظر ، إلّا أن يراد إذا كانت في غير
ربوة ولا يبعد أن يكون في اعتبار الضعف هنا إشارة إلى مضاعفة السبعمائة
__________________
في قوله (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) لهؤلاء.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيه تحذير عن الريا والمنّ والأذى وضعف اليقين والنفاق ،
وترغيب في الإخلاص والرسوخ وقوّة اليقين والايمان.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الهمزة فيه للإنكار (أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) جعل الجنّة أولا منهما مع ما فيها من سائر الأشجار
والأثمار تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثمّ ذكر أنّ فيها من كلّ الثمرات
ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار والاثمار ، ويجوز أن يكون المراد
بالثمرات المنافع.
(وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي كبر السنّ فإنّ الفاقة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال
أو للعطف على نفسه حملا على المعنى ، كأنه قيل أيودّ أحدكم إذا كانت له جنّة
وأصابه الكبر (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفاءُ) لا قدرة لهم على كسب لصغر أو مرض ونحوه مثله (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ) عطف على إصابة ، أو يكون ، والأعصار ريح عاصفة تنعكس من
الأرض إلى السماء مستديرة كعمود.
والمعنى تمثيل حال
من يفعل الأعمال الحسنة ويضمّ إليها ما يحبطها من رياء أو من أو أذى في الحسرة
والأسف ، إذا كان يوم القيمة واشتدّت حاجته إليها فوجدها محبطة ، بحال من هذا شأنه
، وأشبههم به من جال بسرّه في عالم الملكوت وترقّى بفكره إلى جناب الجبروت ثمّ نكص
على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحقّ وجعل سعيه هباء منثورا.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فيها فتعتبرون بها.
ومنها [في آل عمران ١٨٠] (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) من قرأ بالتاء قدّر مضافا ليتطابق مفعولاه ، وكذا من قرأ بالياء
__________________
وجعل الفاعل ضمير
الرسول أو من يحسب ، ومن جعله الموصول كان المفعول الأوّل عنده محذوفا لدلالة
يبخلون عليه ، وهو ينافي ما قيل من عدم جواز حذف أحد مفعولي باب حسبت ، فكأنه
محمول على الغالب ، أو على الحذف منسيا. و «هو» فصل ، وقرأ الأعمش بغير هو.
(بَلْ هُوَ) أي البخل وهو منع ما أوجبه الله (شَرٌّ لَهُمْ) لاستجلاب العقاب
عليهم بيانه (سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق وقيل يجعل ما بخل من المال طوقا في عنقه ، والآية نزلت في
مانعي الزكاة وهو المروي عن أبى جعفر عليهالسلام وهو قول ابن مسعود وابن عباس والسدّي ، وقيل : يجعل في
عنقه يوم القيمة طوق من نار عن النخعيّ ، وقيل يكلّفون يوم القيمة أن يأتوا بما
بخلوا من أموالهم عن مجاهد كذا في المجمع.
وفي الكشّاف : قيل
يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيمة تنهشه من قرنه إلى قدمه
وتنقر رأسه ، ويقول أنا مالك. وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله في مانع الزكاة يطوّق بشجاع أقرع وروى بشجاع أسود وفي رواياتنا قريب من
__________________
ذلك في تفسير الآية
فلنوردها :
منها في الحسن عن محمّد بن مسلم عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : ما من أحد منع من زكاة ماله شيئا إلّا جعل الله ذلك
يوم القيمة ثعبانا من نار مطوّقا في عنقه تنهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب ، ثمّ
قال هو قول الله عزوجل (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا
بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني ما بخلوا به من الزكاة :
ونحو ذلك في
الموثق عن أبى جعفر عليهالسلام.
__________________
وفي الحسن عن حريز عن أبى عبد الله عليه الصلاة والسلام أنه قال : ما
من ذي مال ذهب أو فضّة يمنع زكاة ماله إلّا حبسه الله عزوجل يوم القيمة بقاع قرقر ، وسلّط عليه شجاعا أقرع يريده وهو
يحيد عنه ، فإذا رأى أنه لا مخلص له منه أمكنه من يده فقضمها كما يقضم الفجل ثمّ
يصير طوقا في عنقه ، وذلك قول الله عزوجل (سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وما من ذي مال إبل أو غنم أو بقر يمنع
__________________
زكاة ماله إلّا
حبسه الله يوم القيمة بقاع قرقر يطؤه كلّ ذات ظلف بظلفها وينهشه كلّ ذات ناب
بنابها ، وما من ذي مال نخل أو زرع يمنع زكاة مالها إلّا طوقه الله ريعة أرضه إلى
سبع أرضين إلى يوم القيمة.
وروى أيضا عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما من ذي زكاة مال نخل أو زرع أو كرم يمنع زكاة ماله
إلّا قلّده الله تربة أرضه يطوّق به من سبع أرضين إلى يوم القيمة.
وعنه عليهالسلام أيضا مانع الزكاة يطوق بحيّة قرعاء تأكل من دماغه ، وذلك قوله
عزوجل (سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ).
وفي الحسن عنه عليهالسلام أيضا ما من عبد يمنع درهما في حقه إلّا أنفق اثنين في غير
__________________
حقّه وما من رجل
يمنع حقّا إلّا طوقه الله عزوجل به حيّة من نار يوم القيمة.
وفي المجمع وروى عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلّا جعل في عنقه
شجاع يوم القيمة ثمّ تلا عليهالسلام هذه الآية ، وقال عليهالسلام ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل أعطاه الله إياه
فيبخل به عنه ، إلّا أخرج الله له من جهنم شجاعا يتلمظ بلسانه حتّى يطوّقه ، وتلا
هذه الآية.
__________________
ثمّ قال : وروى عن
ابن عباس أنّ المراد بالآية الّذين يبخلون ببيان صفة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم والفضل هو التورية الّتي فيها صفته ولا يخفى أنّ التخصيص
بذلك بعيد جدا ، نعم شمول ذلك على وجه العموم محتمل ، ولهذا قال شيخنا قدّس الله روحه : ولا يبعد جعلها دليلا على وجوب بذل نحو
العلم إلى كلّ من يستحقّه لطلبه ، ويحتاج إليه مع عدم مانع من تقيّة ونحوها
لعمومها ، وعدم منافاة ما روي في تفسيرها وكذا ورودها في زكاة المال لو سلّم لعدم
كون خصوص السبب مخصّصا لأنّ المدار على ظاهر اللفظ ومقتضاه على حسب القوانين كما
ثبت في الأصول ، ولا ينافيه (سَيُطَوَّقُونَ) خصوصا بالمعنى الأول.
ويؤيّده ما روي في
ذلك من الأخبار مثل ما روى عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من كتم علما عن أهله الجم بلجام من نار ، وما روى عن أمير المؤمنين عليهالسلام ما أخذ الله
__________________
على أهل الجهل أن
يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا فليتأمل.
(وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له ما يتوارث أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون
عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيل الله فيتركون للغير فيكون عليهم وزره وللغير نفعه
أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقون في سبيله بهلاكهم ، ويبقى عليهم الحسرة
والعقوبة.
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ) من المنع والإعطاء (خَبِيرٌ) فيجازيكم على حسبه ، وفيه تأكيد للوعد والوعيد ، وقرئ
بالتاء على الالتفات وهو أبلغ خصوصا في الوعيد.
[لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ] [آل عمران : ١٨٨]
__________________
الخطاب لرسول الله
وأحد المفعولين (الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ) والثاني (بِمَفازَةٍ) و (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد. وقرئ بضمّ الباء فيهما على خطاب الرسول والمؤمنين ،
وبالياء وفتح الباء فيهما على أنّ الفعل للرسول.
وقرء أبو عمرو
بالياء وفتح الباء في الأوّل ، وضمّها في الثاني ، على أن الفعل للّذين يفرحون ،
فمفعولاه محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكدة ، أو المفعول الأول محذوف وقوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول.
روى أنّ رسول الله سأل اليهود عن شيء ممّا في التوراة فكتموا
الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا ، فاطلع
الله نبيه صلىاللهعليهوآله على ذلك وسلّاه بما أنزل من وعيدهم.
وقيل يفرحون بما
فعلوا من كتمان نعت محمّد صلىاللهعليهوآله ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم ،
حيث ادعوا أن إبراهيم كان على اليهوديّة وأنّهم على دينه.
وقيل : هم قوم
تخلّفوا عن الغزو مع رسول الله ، فلمّا قفل اعتذروا إليه بأنّهم رأوا المصلحة في
التخلّف واستحمدوا إليه بترك الخروج.
وقيل : هم
المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين ومنافقتهم
__________________
وتوصّلهم بذلك إلى
أغراضهم ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة لا بطانهم الكفر.
في الكشّاف :
ويجوز أن يكون شاملا لكلّ من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحبّ ان يحمده الناس
ويثنوا عليه بالديانة والزهد وبما ليس فيه.
وفي إحياء العلوم نقل خبر لو صحّ لهلكنا : روى انّه ذكر أحد في حضرة النّبيّ
صلىاللهعليهوآله بمدح فقال : لو رضي بما قلتم فيه لدخل النار.
قال شيخنا قدّس الله روحه : تكفى هذه الآية حملا لها على ما في
الكشاف ، وقد صرّح به وذهب إليه ، وفيه نظر ، لأنّ ظاهر الآية مع قطع النظر عمّا
روى وقيل ذم الذين يفرحون بالذي أتوا به أيّ شيء كان حسنا أو قبيحا ، والفرح
بالحسنة لا يستلزم ذلك ولا هو عينه ، اللهمّ إلّا ان يكون «ما» نكرة بمعنى شيء وهو
خلاف الظاهر فليتأمّل فيه.
واعلم انّ العجب
من المهلكات : عن رسول الله صلىاللهعليهوآله : ثلاث مهلكات : شحّ
__________________
مطاع ، وهوى متّبع
، وإعجاب المرء بنفسه. قال في العدّة : وهو محبط للعمل ، والعجب إنّما هو الابتهاج
بالعمل الصالح واستعظامه وان يرى نفسه خارجا عن حدّ التقصير ، وهذا مهلك.
وامّا السرور به
مع التواضع لله جلّ جلاله والشكر على التوفيق لذلك وطلب الاستزادة فحسن محمود. قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : من سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن ، [والله اعلم].
__________________
__________________
الفهرست
* مقدمة المؤلف
|
٢
|
مس كتابة القرآن
|
٥٩
|
* شرح حديث الابتداء
(كل أمر ذي بال)
|
٣
|
أحكام الحيض
|
٦٩
|
* سبب اختلاف ألفاظ
الحديث
|
٩
|
نجاسة المشركين
|
٧٥
|
* في منع الخلفاء من
كتابة الحديث
|
١٣
|
تحريم الخمر
ونجاستها
|
٨١
|
* كتاب الحديث بعد
القرن الأول
|
١٥
|
تطهير الثياب للصلاة
|
٨٥
|
* ضبط أحاديث الشيعة
|
١٧
|
الخصال الحنيفية
|
٨٧
|
* كتاب على من املاء
رسول الله
|
١٩
|
الظلم المانع من
الإمامة
|
٨٩
|
* الأحاديث المنقولة
من كتاب الجامعة
|
٢١
|
آيات الصلاة
|
|
آيات الطهارة
|
|
الصلاة الوسطى
|
٩١
|
أحكام الوضوء
|
٢٧
|
* الصلاة الوسطى هي
الظهر
|
٩٢
|
* معنى اللام في
قوله «ليبين لكم»
|
٣٣
|
القنوت
|
٩٥
|
* معنى قولهم لا
أبالك
|
٣٤
|
أمر الأهل بالصلاة
|
٩٧
|
* معنى عسى ولعل في
القرآن
|
٣٥
|
معنى الإيمان
والخشوع
|
١٠١
|
* معنى الأمر والحكم
بوجوب الطاعة
|
٣٧
|
حفظ الفرج من
الإيمان
|
١٠٩
|
مسح الرأس والرجلين
|
٤١
|
هل التحليل يفيد
الزوجية
|
١١٣
|
* كلام في مسح
الرجلين وغسلهما
|
٤٣
|
المحافظة على
الصلوات
|
١١٥
|
أحكام التيمم
|
٤٨
|
إقامة الصلاة ـ أوقات
الصلوات
|
١١٧
|
* الاستخدام في
الآية ٤٣ من سورة النساء وتأويلها
|
٥٠
|
قرآن الفجر ـ التهجد
بالليل
|
١٢١
|
الاخلاص في العبادة
|
٥٥
|
القبلة وأحكامها ـ تحويل
القبلة
|
١٣٦
|
__________________
نقل رسالة المحقق في القبلة
|
١٤٤
|
صلاة الميت
|
٢٦٣
|
مكان المصلي وأحكام المساجد
|
١٧٣
|
صلاة السفر
|
٢٦٧
|
تكبيرة الاحرام ـ القراءة
|
١٨٣
|
صلاة الخوف
|
٢٧٣
|
الركوع والسجود
|
١٨٧
|
تعقيبات الصلاة
|
٢٨١
|
الجهر والاخفات
|
١٩٣
|
صلاة الجماعة
|
٢٨٣
|
التشهد والصلوات فيه
|
١٩٥
|
الاستعانة بالصلاة عند الكربات
|
٢٨٧
|
رفع اليدين في التكبيرات
|
٢٠١
|
الانصات خلف الإمام
|
٢٨٩
|
الاستعاذة
|
٢٠٧
|
الأذكار في العشي والآصال
|
٢٩٥
|
التهجد بالليل
|
٢١١
|
الاشراك في العمل العبادي مبطل؟
|
٢٩٧
|
معنى الناشئة بالليل
|
٢١٧
|
أحكام يتعلق بالصلاة
|
٣٠٥
|
رد التحية في الصلاة
|
٢٢٩
|
كتاب الزكاة
|
|
اعطاء الزكاة أثناء الصلاة
|
٢٤٣
|
وجوب الزكاة ومحلها وشرائط قبولها
|
٣١٧
|
* في المنادي بيا أيها
|
٢٤٩
|
قبض الزكاة واعطائها المستحق
|
٣٣١
|
صلاة الجمعة وأحكامها
|
٢٥٧
|
في أمور تتبع الاخراج
|
٣٦٠
|
|