بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ


بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)(٣٦)

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عطف على ما قبله من المحرمات.

والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج ، أحصنهن التزوج أو الأزواج الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الإثم ، وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة : على فتح الصاد هنا ؛ ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح ، والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب ، وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن ، أو أحصن أزواجهن ، وقيل : الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا ، فقد قال ابن الأعرابي : كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن ، وألفج إذا ذهب ماله ، وأسهب إذا كثر كلامه.

وحكي عن الأزهري مثله ، وقال ثعلب : كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة. وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير ، ويقال : حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة ، وفرس حصان بالكسر بيّن التحصين والتحصن ، ويقال : إنه سمي حصانا ، لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة ، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا ، والإحصان في المرأة ورد في اللغة ، واستعمل في القرآن بأربعة معان : الإسلام. والحرية ، والتزوج ، والعفة ، وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء ، وفائدته تأكيد عمومها ، وقيل : دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث ـ وليس بشيء ـ كما لا يخفى ، وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد : لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل ؛ أخرجه عنه ابن جرير ، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال : سألت عكرمة عن هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ) إلخ فقال : لا أدري ، وللعلماء المتقدمين فيها أقوال : أحدها أن المراد بها المزوجات كما قدمنا.

والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره ، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها؟ فعند الشافعي رحمه‌الله تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح ، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي ، واحتج أهل هذا القول بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنه قال : أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن ، وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات ، واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو


مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب ، وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شيء وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث المشهور عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة (١) أعتقتها وخيرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل ، واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه ، وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل الله تعالى الآية ، وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم : قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن ، وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف.

وقد حكم الله تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] فلا يرد ما أورد ، وثانيها أن المراد بالمحصنات ما قدمنا ، وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه ـ وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة ـ وإليه ذهب جمهور الإمامية ، وثالثها أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج ، والملك أعم من ملك اليمين. وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي ، وحكي عن بعض الصحابة ، واختاره مالك في الموطأ. ورابعها كون المراد من المحصنات الحرائر ، ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع.

أخرج عبد الرزاق وغيره عن عبيدة أنه قال في هذه الآية : «أحل الله تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك» وروي مثله عن كثير.

وقال شيخ الإسلام : المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته ، والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين ، وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن ، وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح ، وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا ، وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبئ عن ذلك خبر أبي سعيد ، وليس في

__________________

(١) اختلفوا هل كان الزوج عبدا أو حرا؟ فذهب الحنفيون إلى أنه كان حرا ، والأئمة الثلاثة إلى أنه كان عبدا ، وأكثر الروايات على ذلك فتدبر ا ه منه.


ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها.

واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قيل : يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر (كِتابَ اللهِ) مصدر مؤكد أي كتب الله تعالى (عَلَيْكُمْ) تحريم هؤلاء كتابا ، ولا ينافيه الإضافة كما توهم ، والجملة مؤكدة لما قبلها و (عَلَيْكُمْ) متعلق بالفعل المقدر ، وقيل (تابَ) منصوب على الإغراء أي الزموا كتاب الله و (عَلَيْكُمْ) متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه. وقيل : هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه ؛ وقيل : منصوب بعليكم ، واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشيء.

وقرأ أبو السميفع ـ كتب الله ـ بالجمع ، والرفع أي هذه فرائض الله تعالى عليكم ، و ـ كتب الله ـ بلفظ الفعل (وَأُحِلَّ لَكُمْ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول ، والباقون على البناء للمفاعل ، وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على حرمت ، وعلى الثانية معطوفا على «كتب» المقدر ، وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة «كتب» لتأكيد ما قبلها ، وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم ، ونظر فيه الحلبي ، ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى ، وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة (ما وَراءَ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا ، وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين ، وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور.

(أَنْ تَبْتَغُوا) مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة ، وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء ، أو متروك أي تفعلوا الابتغاء (بِأَمْوالِكُمْ) بأن تصرفوها إلى مهورهن ، أو بدل اشتمال من (ما وَراءَ ذلِكُمْ) بتقدير المفعول ضميرا.

وجوز بعضهم كون (ما) عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح ، وجعل هذا بدل كل من كل ، والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان (مُحْصِنِينَ) حال من فاعل تبتغوا ، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال من الضمير البارز ، أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة ، والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل ، وعن الزجاج المسافحة والمسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد ، ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد : ذات خدن ، ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني ، وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن يكون مالا كالإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وقال بعض الشافعية : لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال ، ويؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل رجلا خطب الواهبة


نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذا معك من القرآن؟ قال : معي سورة كذا وكذا وعددهن قال : تقرأهن على ظهر قلبك؟ قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ، ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليل ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مرادهصلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه ـ قاله بعض المحققين ـ ولعل في الخبر إشارة إليه (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) «ما» إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيّا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في (فَآتُوهُنَ) ومن بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير (بِهِ) واستعمال (ما) للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة ، وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى ، والسين للتأكيد لا للطلب ، والمعنى فأي فرد أو فالفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن ، وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن ـ فمن ـ ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا و (ما) لما لا يعقل ، والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لأجله أو بمقابلته ، والمراد من الأجور المهور ، وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا ، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع (وَلا جُناحَ) أي لا إثم (عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى ، ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة (لا جُناحَ) إذا جعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفي للزوجة (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي الشيء المقدر ، وقيل : (فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من نفقة ونحوها ، وقيل : من مقام أو فراق ، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة ، وقيل : الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر ، والمراد (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية ، والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة ، وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبيّ «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى ، وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ـ والكلام في ذلك شهير ـ ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت ، وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا ، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين ، وكانت حلالا قبل يوم خيبر ، ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، واستمر التحريم ، ولا يجوز أن يقال : إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر ، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك ، وفي صحيح مسلم ما فيه مقنع.

وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين قال له علي كرم الله تعالى وجهه : إنك رجل تائه إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المتعة كذا قيل ، وفي صحيح مسلم ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له عليّ ذلك ، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال : إنا ناسا أعمى الله تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل ـ يعني ابن عباس ـ كما قال النووي ، فناداه فقال : إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين ـ يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له ابن


الزبير : فجرب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير ، وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه ، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وبهذا قال العلامة ابن حجر في شرح المنهاج ، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناء على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال : «إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المعارج : ٣٠] فكل فرج سواهما فهو حرام ، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه ، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار ، فقد روي عن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء قال : وما قالوا؟ قلت : قالوا :

قد قلت للشيخ لما طال مجلسه

يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة

تكون مثواك حتى مصدر الناس

فقال : سبحان الله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ولا تحل إلا للمضطر ، ومن هنا قال الحازمي : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم ، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد ، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ ، ونهى عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها ؛ ومعنى ـ أنا محرمها ـ في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئة كما يزعمه الشيعة ، وهذه الآية لا تدل على الحل ، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط ، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته ، وقد قال بهما الشيعة ، ثم قال جل وعلا : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض ، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب ، وفي كل سنة بحجر ملاعب ، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة : إن المتمتع الغير الناكح إذ زنى لا رجم عليه ، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عزّ من قائل : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة ، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة.

وما دل على التحريم كآية (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المعارج : ٣٠] قطعي فلا تعارضه على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما ، وليس للشيعة أن يقولوا : إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية ـ كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ـ فيها ، وقد صرح بذلك علماؤهم.

وروى أبو نصير منهم في صحيحه عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟ قال : لا ولا من السبعين ، وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع ، وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى ، ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها ، ونقل الحل عن مالك رحمه‌الله تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه ، ومذهب الأكثرين أنه


لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف ، ومأخذ الخلاف على ما قال النووي : اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها؟ فبعض قال : لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا ، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني ، وقال آخرون : بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول ؛ وحكى بعضهم عن زفر أنه قال : من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها ، والمشهور في كتب أصحابنا أنه قال ذلك في النكاح المؤقت ـ وفي كونه عين نكاح المتعة ـ بحث ، فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة ، ولفظ التزويج أو النكاح في الأول ، وأستمتع أو أتمتع في الثاني ، وقال آخرون : النكاح المؤقت من أفراد المتعة ، وذكر ابن الهمام أن النكاح لا ينعقد بلفظ المتعة ، وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في المبسوط بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا؟ الجمهور على الأول بل حكى القاضي الإجماع عليه ، وشذ الأوزاعي فقال : هو نكاح متعة ولا خير فيه فينبغي عدم نية ذلك (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح أمر الخلق (حَكِيماً) فيما شرع لهم ، ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ مَنْ) إما شرطية ، وما بعدها شرطها ، وإما موصولة وما بعدها صلتها ، و (مِنْكُمْ) حال من الضمير في (يَسْتَطِعْ) وقوله سبحانه : (طَوْلاً) مفعول به ـ ليستطع ـ وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول.

والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد ، وأصله الفضل والزيادة ، ومنه الطائل ، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم : طلته أي نلته ، ومنه قول الفرزدق :

إن الفرزدق صخرة ملمومة

طالت فليس تنالها الأوعالا

قوله عزوجل : ـ (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات ، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء ـ إما أن يكون متعلقا «بطولا» على معنى ـ ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات ـ وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة «لطولا» أي ـ ومن لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن ـ أو لنكاحهن ـ أو ـ على ـ على أن الطول بمعنى القدرة ـ كما قال الزجاج ، ومحل (أَنْ) بعد الحذف جر ، أو نصب على الخلاف المعروف ، وهذا التقدير قول الخليل ، وإليه ذهب الكسائي ، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من (طَوْلاً) بدل الشيء من الشيء ، وهما لشيء واحد بناء على أن الطول هو القدرة ، أو الفضل ، والنكاح قوة وفضل ، وقيل : يجوز أن يكون مفعولا ـ ليستطع ـ و (طَوْلاً) مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز ـ أي ومن لم يستطع منكم استطاعة ـ أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام ، وقوله تعالى وتقدس : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة ، و (ما) موصولة في محل جر بمن التبعيضية ، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله ، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم ، وأجاز أبو البقاء كون (مَنْ) زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم ، وقوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ) أي إمائكم (الْمُؤْمِناتِ) في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى (ما) ، وقيل : (مَنْ) زائدة ، و (فَتَياتِكُمُ) هو المفعول للفعل المقدر قبل ، و ـ مما ملكت ـ متعلق بنفس الفعل ، و (مَنْ) لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول ، و (مَنْ) للتبعيض ، و (الْمُؤْمِناتِ) على جميع الأوجه صفة (فَتَياتِكُمُ) ، وقيل : هو مفعول ذلك الفعل المقدر ، وفيه بعد.


وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط ـ كما ذهب إليه الشافعي ـ وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز ـ وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضي من قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) فلا يخرج منه شىء إلا بما يوجب التخصيص ؛ ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة ؛ أما أولا فالمفهومان ـ أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة ـ ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول. وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح ، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة ، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود ـ طول ـ الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء ، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها ، وبالكراهة صرح في البدائع ، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى ، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم.

واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر ، أو رقيقة فرقيق ، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة ، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم ، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة ، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل ـ قاله ابن الهمام ـ وفيه مناقشة ما فتأمل.

وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإمام عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم ـ لكل جديد لذة ـ أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مئونة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب ، ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر.

والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم ، وقيل : جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب ، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى ؛ وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثيّة إثر بيان تفاوتهم في ذلك ، وأيّا ما كان ـ فبعضكم ـ مبتدأ والجار والمجرور متعلق


بمحذوف وقع خبرا له ، وزعم بعضهم أن (بَعْضُكُمْ) فاعل للفعل المحذوف ، قيل : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجليل على ذلك.

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن ، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب.

والمراد من الأهل الموالي ، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا : للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز ، وفي جامع الفصولين القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب ، وفي فتح القدير : للشريك المفاوض تزويج الأمة ، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. ومحمد ، وقال أبو يوسف : يملكون ذلك ، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن ، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي ، وإلى هذا ذهب مالك ـ وهو رواية عند أحمد ـ ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر ، وقال : حديث حسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» والعهر الزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع ، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما ، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح ، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة عيب عن نفسه بخلاف النكاح ، قال ابن الهمام : لا يقال : يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول : هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة والحج ، ثم هذه الأحكام تجب جزاء على ارتكاب المحظور شرعا ، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك ـ وهو الشارع ـ زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى.

وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.

واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى ، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل ، وفي الظهيرية لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل ، ومن نصف المسمى وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد ، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن ، ولعل ما تقدم قرينة عليه ، قيل : ونكتة اختيار آتوهن على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة ، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين ، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه.

وقال الإمام مالك : الآية على ظاهرها والمهر للأمة ، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية ، وإن حملت الأجور على النفقات استغني عن اعتبار التقدير أولا وآخرا ، وكذا إن فسر قوله تعالى.


(بِالْمَعْرُوفِ) بما عرف شرعا من إذن الموالي ، والمعروف فيه أنه متعلق ـ بآتوهن ـ والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار ، ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا ـ. بأنكحوهن ـ أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن (مُحْصَناتٍ) حال إما من مفعول (آتُوهُنَ) فهو بمعنى متزوجات ، أو من مفعول (فَانْكِحُوهُنَ) فهو بمعنى عفائف ، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه : (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فليس في إعادته كثير جدوى ، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) تأكيد له ، والمراد غير مجاهرات بالزنا ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) عطف على مسافحات (وَلا) لتأكيد ما في (غَيْرَ) من معنى النفي ـ والأخدان ـ جمع خدن وهو الصاحب ، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة ، والمعنى ولا مسرات الزنا.

وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية ، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون : إنه لؤم ، ويستحلون ما خفي ويقولون : لا بأس به ، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١] (فَإِذا أُحْصِنَ) أي بالأزواج ـ كما قال ابن عباس وجماعة ـ وقرأ إبراهيم (أُحْصِنَ) بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن ، وأخرج عبد بن حميد أنه قرئ كذلك ، ثم قال : إحصانها إسلامها ، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج ، وبعض من أراده من الآية قال : لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحرّ ، وروي ذلك مذهبا لابن عباس ، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس ، وقال الزهري : هو فيها بمعنى التزوج.

والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال : «اجلدوها» ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير» فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة ، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جلّ وعلا : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام.

وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع ، وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد ، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. (فَعَلَيْهِنَ) أي فثابت عليهن شرعا (نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي الحرائر الأبكار (مِنَ الْعَذابِ) أي الحد الذي هو جلد مائة ، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف ؛ وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان ، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم.

قال الشهاب : وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص (١) فلا وجه لما قيل : إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا

__________________

(١) وقال بعضهم : لاحد على العبد أصلا وإنما الحد على الأمة إذا زنت محصنة ، وقال آخرون : يجلد كالحر لعموم) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلى آخرها لأن الآية المنصفة وردت في الإماء ا ه منه.


بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر ، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى.

والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في كتب الفروع ، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرئ فإن أتوا ، وأتين بفاحشة ، هذا والفاء في (فَإِنْ أَتَيْنَ) جواب إذا ، والثانية جواب إن ، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول ، و (مِنَ الْعَذابِ) في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها ، قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من (ما) لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل (ذلِكَ) أي نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال : الإثم ، فقال نافع : وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول الشاعر :

رأيتك تبتغي «عنتي» وتسعى

مع الساعي عليّ بغير ذحل

وقيل : أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله ، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح ، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة ، ومنه ـ أكمة عنوت ـ أي صعبة المرتقى ، وفسره الزجاج هنا بالهلاك ، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثور أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : المراد به الحد لأنه إذا هو يخشى أن يواقعها فيحد ، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب ، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيّا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة ، ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح (وَأَنْ تَصْبِرُوا) أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين. (خَيْرٌ لَكُمْ) من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا ، وعلى بيعهن للحاضر والبادي ، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد ، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات ذلك ذل ومهانة سارية للناكح ، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور ، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق.

وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه» وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا» وعن أبي هريرة وابن جبير مثله.

وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال : «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر» وفي مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» وقال الشاعر :

ومن لم تكن في بيته قهرمانة

فذلك بيت لا أبا لك ضائع

وقال الآخر :

إذا لم يكن في منزل المرء حرة

تدبره ضاعت مصالح داره

(وَاللهُ غَفُورٌ) أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن ، وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب (رَحِيمٌ) أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص.


هذا ومن باب الإشارة الإجمالية في بعض الآيات السابقة أنه سبحانه أشار بقوله عزّ من قائل : و (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية إلا ما قد سلف من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات ، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه ، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم سلب السالك مقاما ناله غيره ، وليس له قابلية لنيله ، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية ، وقال شاعر الحقيقة المحمدية :

ولست مريدا أرجعن بلن ترى

ولست بطور كي يحركني الصدع

وقال سيدي ابن الفارض على لسانها :

وإذا سألتك أن أراك حقيقة

فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى

ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وقال النيسابوري : المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلّص عباده وأباح لهم بقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب (مُحْصِنِينَ) أي حرائر من الدنيا وما فيها (غَيْرَ مُسافِحِينَ) في الطلب مياه الوجوه ، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا ، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات. ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا ، وكم في الزوايا من خبايا ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) استئناف مقرر لما سبق من الأحكام ، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة ـ كما قال الشهاب على مذاهب فقيل : مفعول يريد محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه ، واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين ، ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين ، فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.

وقيل : إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف ، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة الله تعالى قديمة ، وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية.

وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك كما قيل به في ـ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ـ على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف ، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر ، والبصريون يمنعون ذلك ويقولون : إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها ، ومفعول ـ يبين ـ على بعض الأوجه محذوف أي (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ، أو ما تعبدكم به أو نحو ذلك ، وجوز أن يكون قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ) وقوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ) تنازعا في قوله سبحانه : (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم ، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السالفة كما قيل به ، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور : فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة


مجازا لتسببها عنها ، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك ، أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول ، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا ، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي.

وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف (وَيَتُوبَ) على (وَيَهْدِيَكُمْ) إلخ على سبيل البيان كأنه قيل : ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات ، فوضع موضعه (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة (وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم (حَكِيمٌ) مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) جعله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا ، وأما إذا فسر (يَتُوبَ) أولا بقبول التوبة والإرشاد مثلا ، وثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا ، وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية ، وفي الثاني على جهة المفعولية وبذلك يحصل الاختلاف لا محالة (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) يعني الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها.

وروي هذا عن ابن زيد ، وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة ، وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى ، وقيل : إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة ، وقيل : إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم ، وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل ، فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر ، ويقولون : لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه؟! فنزلت ، وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الزائغين (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم ، وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون.

وقرئ بالياء التحتانية فالضمير حينئذ ـ للذين يتبعون الشهوات (مَيْلاً عَظِيماً) بالنسبة إلى ميل من اقترف حطيئة على ندرة ، واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء ـ قاله طاوس ومجاهد ـ وقيل : يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية ، وقيل : يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها ، والجملة مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أي في أمر النساء لا يصبر عنهن ـ قاله طاوس – وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»وقيل : يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه ، وقيل : عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة ، وقيل : ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي.

وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به ، ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء ، وليس


لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك ، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء ، ونصب ضعيفا على الحال. وقيل : على التمييز ، وقيل : على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة ، وكلاهما (١) كما ترى ، وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير للهعزوجل.

وأخرج البيهقي في الشعب عنه أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، الأولى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) والثانية (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إلى آخرها ، والثالثة (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) إلى آخرها ، والرابعة (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) والخامسة (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤] والسادسة (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] والسابعة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] إلى آخرها ، والثامنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء : ١٥٢]. الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة ، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور ، والمراد من الأكل سائر التصرفات ، وعبر به لأنه معظم المنافع ، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض ، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم ـ قاله السدي ـ وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه ، وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة [النور : ٦١] (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الآية ، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل ، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، و (بَيْنَكُمْ) نصب على الظرفية ، أو الحالية من أموالكم (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) استثناء منقطع ، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه ، و (عَنْ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة ، و (مِنْكُمْ) صفة (تَراضٍ) أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة (عَنْ تَراضٍ) كائن (مِنْكُمْ) أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، والنصب قراءة أهل الكوفة ، وقرأ الباقون بالرفع على أن ـ كان ـ تامة.

وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة (عَنْ تَراضٍ) أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه ، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات. وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا» وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي».

وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من استعمال الخاص وإرادة العام ، وقيل : المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى ، وبالتجارة صرفه فيما

__________________

(١) أي القولين ا ه منه.


يرضاه وهذا أبعد مما قبله ، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك ، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد ، وقيل : التراضي التخيير بعد البيع ، أخرج عبد ابن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه : اختر فخيره ثلاثا ، ثم قال له : خيرني فخيره ثلاثا ، ثم قال : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : هذا البيع عن تراض.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر ، وقد ورد في الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة» وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي ؛ وقيل : المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب ، وقيل : المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر ، وحكي ذلك عن البلخي.

وقيل : المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه ، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل : المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم ، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب ، وقيل : المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال : «لما بعثني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل شيئا» ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ولا تقتلوا» بالتشديد للتكثير ، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملاءمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها ، والملاءمة بين النهيين على قول مالك أتم ، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه فيه.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل للنهي ، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة ، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس ، وقيل : معناه أنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي قتل النفس فقط ، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل ، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ، أو من أول السورة إلى هنا أقوال : روي الأول منها عن عطاء ـ ولعله الأظهر ـ وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد ، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق. (عُدْواناً) أي إفراطا في التجاوز عن الحد ، وقرئ «عدوانا» بكسر العين (وَظُلْماً) أي إيتاء بما لا يستحقه ، وقيل هما بمعنى فالعطف للتفسير ، وقيل : أريد بالعدوان التعدي على الغير ، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ، وأيّا ما كان فهما منصوبان على الحالية ، أو على العلية ، وقيل : وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) أي ندخله إياها ونحرقه بها ، والجملة جواب الشرط. وقرئ «نصليه» بالتشديد ، و «نصليه» بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه ، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عزوجل ، أو لذلك ، والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب.

(وَكانَ ذلِكَ) أي إصلاؤه النار يوم القيامة (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي (إِنْ


تَجْتَنِبُوا) أي تتركوا جانبا (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ) أي ينهاكم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَنْهُ) أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر ، وقرئ ـ كبير ـ على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة ، وقيل : يحتمل أن يراد به الشرك (نُكَفِّرْ) أي نغفر ونمحو (١) واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران ، وقرئ (٢) يغفر ـ بالياء التحتانية (عَنْكُمْ) أيها المجتنبون (سَيِّئاتِكُمْ) أي صغائركم كما قال السدي ، واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال : الأول أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة ، وإليه ذهب الشافعية ، والثاني أنها كل معصية أوجبت الحد ، وبه قال البغوي وغيره ، والثالث أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد ، والرابع أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، وبه قال الإمام ، والخامس أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد ، وبه قال الماوردي في فتاويه ، والسادس أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه ، وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي ، والسابع أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم ، وقال الواحدي : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ، ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى.

وقال شيخ الإسلام البارزي : التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة ، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته ، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه ، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته ، وقال بعضهم : كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة ، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه ، وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد ، فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله تعالى من أول هذه السورة إلى هنا ؛ وقيل : هي سبع ، ويستدل له بخبر الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» ، وفي رواية لهما «الكبائر الإشراك بالله تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس» زاد البخاري «واليمين الغموس» ومسلم بدلها «وقول الزور» والجواب أن ذلك محمول على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه ـ وممن صرح بأن الكبائر سبع ـ علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير ، وقيل : تسع لما أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : هن تسع الإشراك بالله تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث ؛ وعنه أيضا أنها عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، وقيل : أربع ، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له : هل الكبائر سبع؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وروى ابن جبير أنه قال له : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة ، وقالوا : بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين

__________________

(١) قوله : «ونمحو» كذا بخطه بالواو مع أنه تفسير للمجزوم فكان حقه حذف الواو.

(٢) قوله : وقرئ «يغفر» كذا بخطه ، ولفظ القرآن «يكفر» ا ه.


في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة ، واختاره في تفسيره فقال : معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر ، وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها ، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين : صغائر وكبائر ؛ وهذا ليس بصحيح انتهى ، وربما ادعي في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقي السبكي ، وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية : إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر ، ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة ، وفي رواية كل ما عصي الله تعالى فيه فهو كبيرة ـ قاله العلامة ابن حجر ـ وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام ، وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى ، وإنما الخلاف في التسمية ، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ، ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عزوجل عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأيّ كبيرة ، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين ـ كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار ـ لا سيما هذه الآية وكون المعنى ـ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ) ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ) ما كان من ارتكابها فيما سلف ، ونظير ذلك من التنزيل (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] بعيد غاية البعد ، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي : لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع ، نعم قد يقال لذنب واحد : كبير ، وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال ، ومن هنا قال الشاعر :

لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة

في السهو فيها للوضيع معاذر

فكبائر الرجل الصغير صغائر

وصغائر الرجل الكبير كبائر

قال سيدي ابن الفارض قدس‌سره :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري سهوا حكمت بردتي

وأشار إلى التفاوت من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما في حديث مسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر» ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية ، وأجيب عنه بأجوبة أصحها ـ على ما قاله الشهاب ـ إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «ما اجتنبت» إلخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً) الجمهور على ضم الميم ، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها ، وهو على الضم إما مصدر ومفعول (نُدْخِلْكُمْ) محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا ، أو مكان منصوب على الظرف عنه سيبويه ، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش ، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف ، وعلى الفتح قيل : منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر ، وجوز كونه كقوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه : (كَرِيماً) [الشعراء : ٥٨] أي حسنا ، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به. فقد قال سبحانه ، (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الدخان :٢٦].

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) قال القفال : لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم ، وقيل : نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ، ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة ، فالمعنى (وَلا تَتَمَنَّوْا) ما


أعطاه الله تعالى (بَعْضَكُمْ) وميزه (بِهِ) عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس ، فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه الأشياء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه.

وأظلم خلق الله من بات حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلب

وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبد الله رضي الله تعالى عنهم ، فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطى فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل : اللهم أعطني مثله ، ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد ، وجعل بعضهم المقتضي للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة ، وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح ، ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت ، ثم قال : وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء ، ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض ، والمعنى لكل من الفريقين (١) في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده ، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور انتهى ، وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند ، والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار : الأول ما أخرجه عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى الآية ، والثاني ما أخرجه عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت. والثالث ما أخرجه عن قتادة والسدي قالا : لما نزل قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله تعالى (وَلا تَتَمَنَّوْا) إلى آخرها ، وذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور نحو ذلك ، ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد ، والخبر الأول والثاني مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له. وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر ، وأما الخبر الثالث فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا ، ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير ، وروي ذلك عن قتادة ، وفيه استعمال الاكتساب في الخير. وقد استعمل في الشر ، واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا المراد مما اكتسبوا من الإثم ، وفيه استعمال

__________________

(١) و «من». كما قال غير واحد على هذا. بيانية لا تبعيضية فتدبر ا ه منه.


اللام مع الشر دون على ، وهو خلاف ما في الآية ، وقيل : المراد لكل ، وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغني باللام عن على وبالاكتساب عن الكسب ـ وهو كما ترى ـ ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال. ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين.

وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمنّ خلاف ما قسم له (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على النهي بعد تقرير الانتهاء بالتعليل كأنه قيل : لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا ، والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فإنه سبحانه يعطيكموه إن شاء ، أو لكونه معلوما من السياق ، أي واسألوا مثله ، ويقال لذلك : غبطة. وقيل : (مِنْ) زائدة أي واسألوا الله تعالى فضله ، وقد ورد في الخبر «لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله» وذهب بعض العلماء ـ كما في البحر ـ إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه ، فلا يجوز عنده أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي ، ولا يتعرض لمن فضل عليه ، ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته ، وقيل : المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا الله تعالى العبادة التي تقربكم إليه ، وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين ، وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول : قد نهاكم الله تعالى عن هذا ويتلو الآية ، والظاهر العموم ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج» وقال ابن عيينة : لم يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم.

ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شيء فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان ، أو لكل قوم ، أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور الله تعالى مرقده : الأول أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام ، فيكون (مِمَّا تَرَكَ) متعلقا بموالي أو بفعل مقدر ، و (مَوالِيَ) مفعولا أولا ـ لجعل ـ بمعنى صير ، و (لِكُلٍ) هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض ، وفاعل (تَرَكَ) ضمير كل ، ويكون (الْوالِدانِ) مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : هم (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان ، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه : (الْوالِدانِ) كأنه قيل : ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) في الأول وارثون ، وفي الثاني موروثون ، وعليهما فالكلام جملتان ، والثالث أن التقدير ولكل إنسان وارث ـ مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ـ أي موروثين ، ـ فالمولى ـ الموروث و (الْوالِدانِ) مرفوع ب (تَرَكَ) وما بمعنى من ، والجار والمجرور صفة ما أضيفت إليه كل ، والكلام جملة واحدة ، والرابع أنه على التقدير الثاني معناه ، ولكل قوم جعلناهم (مَوالِيَ)


نصيب ـ مما تركه والداهم وأقربوهم ، فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم ؛ والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل ، وموالي : إما مفعول ثان ، أو حال و (مِمَّا تَرَكَ) صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها.

ونظيره قولك : لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى ، أي لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى ، والخامس أنه على التقدير الثالث معناه لكل مال أو تركة (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه ، ويكون (لِكُلٍ) متعلقا ـ بجعل ـ و (مِمَّا تَرَكَ) صفة كل ، واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون من صلة له؟ وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال : إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم ، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : إنه نادر ، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها ، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي ، واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل ، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد ، وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] ؛ وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا ، وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جدا ، وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين : أما أولا فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن ، أو في ، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر ، وما ذكر داخل فيه دون الآية ، وأما ثانيا فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده ، نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم ، فإن ابن مالك صرح بخلافه في التوضيح ، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط. فالحق أنه أغلبي لا كلي ، واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو ـ بكل رجل مررت تميمي ـ وفي جوازه نظر ، ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما ـ بأتخذ ـ العامل في غير ، فهذا أولى ، والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه ، واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله ، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها ، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم ، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين ، ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك ، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) هم موالي الموالاة.

أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم ، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥].


وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره ، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وراث أصلا ، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام ، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى ، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود ، أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين ؛ وقرأ الكوفيون (عَقَدَتْ) بغير ألف ، والباقون «عاقدت» بالألف ، وقرئ بالتشديد أيضا. والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم ، والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد ، وفي الموصول أوجه من الإعراب : الأول أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والثاني أنه منصوب على الاشتغال ؛ قيل : وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا. ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه مؤخرا أفاد الاختصاص ، وإن قدر مقدما فلا يفيده ، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص ، والثالث أنه معطوف على (الْوالِدانِ) فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من ـ فآتوهم ـ على ـ موالي ـ وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على (مَوالِيَ) وعلى الوالدين وما عطف عليهم ، قيل : ويضعفه شهرة الوقف على (الْأَقْرَبُونَ) دون (أَيْمانُكُمْ) ، والرابع أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم فلما نزلت (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) نسخت ، ثم قال : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والرفادة والنصيحة ـ وقد ذهب الميراث ويوصى له ـ وروي عن مجاهد مثله ، وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الإرث (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع «على الإيتاء والمنع ، ويجازي كلّا من المانع والمؤتى حسب فعله ، ففي الجلة وعد ووعيد (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك ، واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم ، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق ، وعلل سبحانه الحكم بأمرين : وهبي وكسبي فقال عز شأنه : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فالباء للسببية وهي متعلقة ب (قَوَّامُونَ) كعلى ولا محذور أصلا ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة ، وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن ، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل ، أو متلبسين بالتفضيل ، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية ، وقيل : للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء ، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل ، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين ، والرجال بعكسهن كما لا يخفى ، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر ، وبالإمامة الكبرى والصغرى ، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم ـ والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية ـ وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك


(وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى ، وما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف ، و (مِنْ) تبعيضية أو ابتدائية متعلقة ـ بأنفقوا ـ أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق ـ كما قال مجاهد ـ المهر ، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه ، والنفقة عليهن ، والآية – كما روي عن مقاتل ـ نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم: لتقتص من زوجها ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجعوا هذا جبرائيل عليه‌السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراده الله تعالى خير».

وقال الكلبي : نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة ، وقال بعضهم : نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس ، وذكر قريبا منه ، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى ، وفي الخبر «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها ، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح ، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨] واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له (فَالصَّالِحاتُ) أي منهن (قانِتاتٌ) شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن ، والمراد (فَالصَّالِحاتُ) منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن ، قال الثوري ، وقتادة : أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، فاللام بمعنى في ، والغيب بمعنى الغيبة ، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي ، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة ، فاللام على ظاهرها ، وقيل : المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة ، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر ، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام ، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الرِّجالُ قَوَّامُونَ) إلى الغيب» يبعد هذا القول ؛ ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول (بِما حَفِظَ اللهُ) أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن ، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج ، وقيل : بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولو لا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن ـ فما ـ إما موصولة أو مصدرية وقرأ أبو جعفر (بِما حَفِظَ اللهُ) بالنصب ، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة ـ كدين الله ، وحقه ـ لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد ، وما موصولة أو موصوفة ، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله ، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل : فمن (١) حفظ الله ، وجعله ابن جني كقوله :

فإن الحوادث أودى بها

__________________

(١) قوله : «فمن» إلخ كذا بخطه ولعله سبق قلم ، والأصل «بمن» تأمل.


ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى ، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر ، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة وإلا لم يصدق على جميع أفراده ، وقد نص على ذلك في الدر المصون.

وقرأ ابن مسعود ـ فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن ، وأخرج ابن جرير عنه زيادة ـ فأصلحوا إليهن ـ فقط (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم ، من النشز ـ بسكون الشين وفتحها ـ وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع (فَعِظُوهُنَ) أي فانصحوهن وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه ، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن ، ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير (تَخافُونَ) بتعلمون ، وبه قال الفراء ـ كما نقله عنه الطبرسي ـ وجاء الخوف بهذا كما في القاموس ، وقيل : المراد (تَخافُونَ) دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد.

واختار في البحر أن في الكلام مقدرا وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن ، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي مواضع الاضطجاع ، والمراد اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وقيل : المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفوا إليهن ، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع ، وقيل : المضاجع المبايت أي اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن ، وقيل : (فِي) للسببية أي اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى ، فالهجران على هذا بالمنطق ، قال عكرمة : بأن يغلظ لها القول ، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار ، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء ، وقال ابن المنير : لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما ، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع ، فإطلاق الزمخشري لها أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط انتهى ، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر ، ولعد تركه من التفريط ؛ وقرئ في المضطجع والمضجع (وَاضْرِبُوهُنَ) يعني ضربا غير مبرح ـ كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما.

وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه ، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ، ثم تهجر ، ثم تضرب إذ لو عكس استغني بالأشد عن الأضعف ، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في (فَعِظُوهُنَ) لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع ، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر ، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج ، فإنما النص هو الدال على الترتيب.

هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة ، والزوج يريدها ، وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه ، وترك الصلاة في رواية والغسل ، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي ، وقيل : له أن يضربها متى أغضبته ، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها ، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي ، فقد أخرج ابن سعد ، والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق


رضي الله تعالى عنه قالت : «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلى بينهم وبين ضربهن ، ثم قال : ولن يضرب خياركم» وذكر الشعراني قدس‌سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب ، وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان. وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ، وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» وللخبر محمل آخر لا يخفى (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن ، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن ، فالبغي إما بمعنى الطلب ، و (سَبِيلاً) مفعوله والجار متعلق به ، أو صفة النكرة قدم عليها ، وإما بمعنى الظلم ، و (سَبِيلاً) منصوب بنزع الخافض ، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة ، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن ، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن ، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد ، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن (وَإِنْ خِفْتُمْ) الخطاب ـ كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما ـ للحكام ، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة ، وقيل : لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما ، وروي ذلك عن السدي ، والمراد فإن علمتم ـ كما قال ابن عباس ـ أو فإن ظننتم ـ كما قيل ـ (شِقاقَ بَيْنِهِما) أي الزوجين ، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها ، والرجال والنساء عليهما ، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، و ـ بين ـ من الظروف المكانية التي يقل تصرفها ، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله : يا سارق الليلة أهل الدار. أو الفاعل كقولهم صام نهاره ، والأصل ـ شقاقا بينهما ـ أي أن يخالف أحدهما الآخر ، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه ، وقيل : الإضافة بمعنى في وقيل : إن ـ بين ـ هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف ، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء ، ولم يرتض ذلك المحققون.

(فَابْعَثُوا) أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين (حَكَماً) أي رجلا عدلا عارفا فأحسن السياسة والنظر في حصول المصلحة (مِنْ أَهْلِهِ) أي الزوج ، و «من» إما متعلق ـ بابعثوا ـ فهو لابتداء الغاية ، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض (وَحَكَماً) آخر على صفة الأول (مِنْ أَهْلِها) أي الزوجة ، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض ، وإرادة صحبة ، أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب ، وإن نصبا من الأجانب جاز ، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل : لهما ـ وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير ، وبه قال الشعبي ـ فقد أخرج الشافعي في الإمام والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال : «جاء رجل وامرأة إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم عليّ كرم


الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا وحكما من أهله ورجلا حكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ) إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي ، وقيل : ليس لهما ذلك ، وروي ذلك عن الحسن.

فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه ، وأما الفرقة فليست بأيديهما ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، ونسب إلى الإمام الأعظم ، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال : للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به.

وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس ، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم ، وعن الشافعي روايتان في المسألة ، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه ، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها ، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك.

وقال ابن العربي في الأحكام : إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له (إِنْ يُرِيدا) أي الحكمان (إِصْلاحاً) أي بين الزوجين وتأليفا (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما ؛ فالضمير أيضا للحكمين ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضاحك وابن جبير والسدي.

وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق ، وأن يكون الأول للحكمين ، والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة ، وأن يكون الأول للزوجين ، والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم ، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه ، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا ، وفيها ـ كما قال ابن الفرس ـ رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين ، وقال : تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة ، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس ، وقدم الأمر بما


يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم ، وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك ، والعبادة أقصى غاية الخضوع ، و (شَيْئاً) إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره ، فالتنوين للتعميم.

واختار عصام الدين كونه للتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم ـ أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير ـ ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود ، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أي تفرق ، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئا من الإشراك جليا أو خفيا ، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع ، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل : ولعل الأوضح أن يقال : إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل : «واعبدوا الله مخلصين له». ويؤول ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر ، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام ـ وأحسن ـ يتعدى بالباء وإلى واللام ، وقيل : إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف.

والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ، ولا يخشن في الكلام معهما ، ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. (وَبِذِي الْقُرْبى) أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك ، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في البحر : لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد ، وذلك في بني إسرائيل.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) من الأجانب (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي الذي قرب جواره (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أي البعيد من الجنابة ضد القرابة ، وهي على هذا مكانية ، ويحتمل أن يراد ـ بالجار ذي القربى ـ من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين ـ وبالجار الجنب ـ الذي لا قرابة له ولو مشركا ، أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبد الله ـ وفيه ضعف ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب» ، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

والظاهر أن مبنى الجوار على العرف ، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال : أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره ، وروي مثله عن الزهري ، وقيل : أربعين ذراعا ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : إلى أقربهما منك بابا ، وقرئ ـ والجار ذا القربى ـ بالنصب أي وأخص الجار ، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار.

وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» وفيما سمعه عبد الله كفاية ، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو الرفيق في السفر ، أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وكلا القولين عن ابن عباس ، وقيل : الرفيق في أمر حسن ـ كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ـ وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى


صحبة التأمت بينك وبينه ، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم.

وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه ـ الصاحب ـ بالجنب ـ المرأة ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب ، والعامل فيه الفعل المقدر (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر أو الضيف.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال مقاتل : من عبيدكم وإمائكم ، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «كان عامة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه» ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم (فَخُوراً) يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما ، والجملة تعليل للأمر السابق.

أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال : «كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ هذه الآية (إِنَّ اللهَ) إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك؟ فقال : يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال : فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس» والأخبار في هذا الباب كثيرة.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)(٤٣)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) فيه أوجه من الإعراب : الأول أن يكون بدلا من من بدل كل من كل ، الثاني أن يكون صفة لها بناء على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا ، والزجاج يقول به ، الثالث أن يكون نصبا على الذم ، الرابع أن يكون رفعا عليه ، الخامس أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، السادس أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون ، أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك ـ مما يؤخذ من السياق ـ وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ، وتقديره بعد تمام الصلة أولى ، السابع أن يكون كما قال أبو البقاء : مبتدأ (وَالَّذِينَ) الآتي معطوفا عليه ، والخبر (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) على معنى لا يظلمهم ، وهو بعيد جدا.


وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها ، وعلى الثاني منقطع جيء به لبيان أحوالهم ، وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه ، وفي البخل أربع لغات : فتح الخاء والباء ـ وبها قرأ حمزة والكسائي ـ وضمهما ـ وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر وفتح الباء وسكون الخاء ـ وبها قرأ قتادة ـ وضم الباء وسكون الخاء ـ وبها قرأ الجمهور ـ (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من المال والغنى ، أو من نعوته صلّى الله تعالى عليه وسلّم.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى ، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء ، ويجوز حمل الكفر على ظاهره ، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم ، وغضب الحليم وخيم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها ، وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) إلى قوله سبحانه : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) ، وقيل : نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره ، أخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية : هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال ، وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم ، وأمرهم الناس أي اتباعهم به يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) أي للفخار ، ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال ، والموصول عطف على نظيره ، أو على الكافرين ، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي.

و (رِئاءَ) مصدر منصوب على الحال من ضمير (يُنْفِقُونَ) وإضافته إلى (النَّاسِ) من إضافة المصدر لمفعوله أي مراءين الناس (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) القادر على الثواب والعقاب (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود ، وروي ذلك عن مجاهد ، أو مشركو مكة ، أو المنافقون ـ كما قيل ـ (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ) والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته ، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار ، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن (لَهُ قَرِيناً) أي صاحبا وخليلا في الدنيا (فَساءَ) فبئس الشيطان أو القرين.

(قَرِيناً) لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار ـ وساء ـ منقولة إلى باب ـ نعم ، وبئس ـ فهي ملحقة بالجامدة ؛ فلذا قرنت بالفاء ، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير «قد» كقوله سبحانه : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم ، فحملهم على ذلك وزينه لهم ، وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم لهم الحسرة على ساق (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي ما الذي عليهم ، أو أي وبال وضرر يحيق بهم.


(لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا) على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى ـ كما يشعر به السياق ـ ويفهمه الكلام (مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) من الأموال ، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه ، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا ، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا ، فكيف إذا تدفقت منه المنافع؟! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها ، ومن ذلك قول من قال :

ما كان ضرك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل ، ألا ترى أن من قال للأعمى : ما ذا عليك لو كنت بصيرا ، وللقصير ما ذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره.

واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة. ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة ، وأجيب بعد تسليم الاشعار بأن الصعوبة في التفاصيل ـ وليست واجبة ـ وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة ، و «لو» إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي ـ لو آمنوا لم يضرهم ـ وإما بمعنى أن المصدرية ـ كما قال أبو البقاء ـ وعلى الوجهين لا استئناف.

وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه ، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها ، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم ، ولو قيل : أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به ، وقيل : فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا ، ولا بأس بأن يراد ـ كان عليما بهم ـ وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية ـ كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المثقال مفعال من الثقل ، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل : جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا ، وعلى مطلق المقدار ـ وهو المراد هنا ـ ولذا قال السدي : أي وزن ذرة ـ وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى.

وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد ، وعن الأول أنها رأس النملة ، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة ، وقريب منه ما قيل : إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة ، وقيل : هي الخردلة ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ـ مثقال نملة ـ ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر ، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة ، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة ، والعظم كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٦] إلى أنه وإن كان حقيرا فهو باعتبار جزئه عظيم ، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول ، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته ، وأقيم المضاف إليه مقامهما ، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة.


قال السمين : وكأنهم ضمنوا يظلم معنى يغصب ، أو ينقص فعدوه لاثنين.

وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه ، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا ، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهي عنه مما ينبغي أن يجتنب.

واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة ، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا ، واعترض على ذلك بقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه ، قال في الكشف : وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما تقول : الباري عزّ وعلا ليس بجسم ولا عرض ، وأمّا ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار ، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم ، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات ، لكن الحكمة ـ وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي ـ مانعة ، وعن هذا قالوا : الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة ؛ والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح ، ونحن نقول : إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناء على وعده المحتوم ، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى ، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلما ، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق ، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما ، والخلف ممتنع لذاته ، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك ، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن أخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم.

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال ، وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة ، وقيل : لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو كما شرقت صدر القناة من الدم. أو صفة له نحو (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) [الأنعام : ١٥٨] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس ، وقيل : أنث الضمير لتأنيث الخبر ، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور ، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته ، والحسنة غلبت عليها الاسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو ـ الكلام هو الجملة ـ وقيل : الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء ، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد ، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما كثر دوره ، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله.

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة ، وقرأ ابن كثير «حسنة» بالرفع على أن (تَكُ) تامة أي وإن توجد أو تقع (حَسَنَةً يُضاعِفْها) أضعافا كثيرة حتى يوصلها ـ كما مر عن أبي هريرة ـ إلى ألفي ألف حسنة ، وعنى التكثير لا


التحديد ، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل ، وإن ذهب إليه بعض المحققين ، وما في الحديث ـ من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل ـ محمول على هذا للقطع بأنها أكلت ، واحتمال إعادة المعدوم بعيد ، وكذا كتابة ثوابها مضاعفا ، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية ، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى ضعفه بحسب المقدار ، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد ، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية ، وجعل قوله تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) على هذا عطفا لبيان الأجر المتفضل به ، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر ، وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه ، وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله ، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة ـ وليس بشيء ـ لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف ، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل : وعد الكريم دين ، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد ، والداعي إليه عدم التكرار ، وقال الإمام أيضا : إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة ، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة.

وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية ، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية ، ولا يخلو عن حسن ، و ـ لدن ـ بمعنى عند ، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب ولذا لا يقال : لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند ، وتقول : هذا القول عندي صواب ، ولا تقول : لدي. ولدني ـ كما قاله الزجاج ـ ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى : (مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥]. اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير ـ يضعفها ـ بتضعيف العين وتشديدها ، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى ، وقال أبو عبيدة : ضاعف يقتضي مرارا كثيرا ، وضعف يقتضي مرتين ، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة ، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) الفاء فصيحة ، وكيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدإ محذوف ، وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال ـ كما هو رأي سيبويه ـ أو على التشبيه بالظرف كما هو رأي الأخفش ـ والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفهام ، أو الفعل المصدر كما قرره صاحب الدر المصون ، والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه ، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم ، أو كيف يصنعون ، أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال ـ وهو نبيهم؟؟؟ (وَجِئْنا بِكَ) يا خاتم الأنبياء (عَلى هؤُلاءِ) إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر (شَهِيداً) تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأوصلوا ، وقيل : إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم‌السلام ، أو كما يشهدون على أممهم ، وقيل : إلى المؤمنين


لقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ومتى أقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت «على» عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل ، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ عليّ قلت : يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلخ فقال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان» فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة ، فما ذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه.

(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ) استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها ، وتنوين إذ عوض ـ على الصحيح ـ عن الجملتين السابقتين ، وقيل : عن الأولى ، وقيل : عن الأخيرة ، والظرف متعلق ـ بيود ـ وجعله متعلقا بشهيد ، وجملة (يود) صفة ، والعائد محذوف أي فيه بعيد ، والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل ، وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه ، وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا. والمراد من (الرَّسُولَ) الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظاما أوليا ، و (عَصَوُا) معطوف على (كَفَرُوا) داخل معه في حيز الصلة ؛ والمراد عصيانهم بما سوى الكفر ، فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع الحال من ضمير (كَفَرُوا) وقد مرادة ، وقيل : صلة لموصول آخر أي والذين عصوا ، فالإخبار عن نوعين : الكفرة والعصاة ، وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء ، وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدّته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا.

(لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) إما مفعول (يَوَدُّ) على أن (لَوْ) مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم ، أو تسوى عليهم كالموتى ، وقيل : يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق ، وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء ، وقيل : تصير البهائم ترابا فيودون حالها.

وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطئونهم بأقدامهم كما يطئون الأرض ، وقيل: يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية ، وإما مستأنفة على أن (لَوْ) على بابها ومفعول (يَوَدُّ) محذوف لدلالة الجملة ، وكذا جواب (لَوْ) إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم (لَوْ تُسَوَّى) لسروا.

وقرأ نافع وابن عامر ويزيد (تُسَوَّى) على أن أصله تتسوى ، فأدغم التاء في السين لقربها منها ، وحمزة والكسائي (تُسَوَّى) بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال : سويته فتسوى (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) عطف على (يَوَدُّ) أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا ، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم ، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان ، وإنما يقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] في بعض المواطن قاله الحسن ، وقيل : الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن (تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على (تُسَوَّى) على معنى ـ يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثه في الدنيا ـ كما روي عن عطاء بعيد جدا. وأقرب منه العطف على مفعول (يَوَدُّ) على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).


هذا «ومن باب الإشارة» (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم ، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين ، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه ، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال. والهداية إلى توحيد الصفات. والتوبة إلى توحيد الذات (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمراتب استعدادكم (حَكِيمٌ) ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة (أَنْ تَمِيلُوا) إلى السوي (مَيْلاً عَظِيماً) لتكونوا مثلهم (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أثقال العبودية في مقام المشاهدة ، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي ، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة ، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه.

والصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

وكان الشبلي قدس‌سره يقول : إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (لا تَأْكُلُوا) أي تذهبوا (أَمْوالَكُمْ) وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي (بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك ، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات (إِنَّ اللهَ كانَ) في أزل الآزال (بِكُمْ رَحِيماً) فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وهي عند العارفين رؤية العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى ، والسكون في مقام الكرامات ، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها.

وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) وهي حضرة عين الجمع (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له ، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) بنور استعدادهم (وَلِلنِّساءِ) وهم الناقصون القاصرون (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) حسب استعدادهم (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم ـ وهما الروح والقلب ـ والأقربون ـ وهم القوى الروحانية ـ (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) وهم المريدون (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بالاستعداد (وَبِما أَنْفَقُوا) في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه (مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي قواهم


أو معارفهم (فَالصَّالِحاتُ) للسلوك من النساء بالمعنى السابق (قانِتاتٌ) مطيعات لله تعالى بالعبادات القالبية (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة ، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية (بِما حَفِظَ اللهُ) لهم من الاستعداد (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن (فَعِظُوهُنَ) بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع (وَاضْرِبُوهُنَ) بعصا القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده (وَإِنْ خِفْتُمْ) أيها المرشدون الكمل (شِقاقَ بَيْنِهِما) أي بين الشيخ والمريد (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) ويقصداه (يُوَفِّقِ اللهُ) تعالى (بَيْنِهِما) وهمة الرجال تقلع الجبال.

ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة ، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها ، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية (وَاعْبُدُوا اللهَ) بالتوجه إليه والفناء فيه (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) مما تحسبونه شيئا وليس بشيء إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه (وَبِالْوالِدَيْنِ) الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا (إِحْساناً) فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه (وَبِذِي الْقُرْبى) وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية (وَالْيَتامى) المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب (وَالْمَساكِينِ) العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) القريب من مقامك في السلوك (وَالْجارِ الْجُنُبِ) البعيد مقامه عن مقامك (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الذي هو في عين مقامك (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة ، وقيل : الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم إطاعتهم والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى وإن خفي على المريد وجهه.

ومن هنا قال الجنيد قدس‌سره : أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته ، وأول (الْجارِ ذِي الْقُرْبى) بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شيء وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة (وَالْجارِ الْجُنُبِ) بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن ، وقيل : هو النفس الأمارة ، وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة ، وأول (ابْنِ السَّبِيلِ) بالولي الكامل فإنه لم يزل ينتقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره ، وقال بعض العارفين : وإن شئت أولت ذا القربى بما يتصل بالشخص من المجردات (وَالْيَتامى) بالقوى الروحانية ، (وَالْمَساكِينِ) بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) بالعقل (وَالْجارِ الْجُنُبِ) بالوهم


(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) بالشوق والإرادة (وَابْنِ السَّبِيلِ) بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة ، وباب التأويل واسع جدا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) يسعى بالسلوك في نفسه (فَخُوراً) بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) قالا أو حالا (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فلا يشكرون نعمة الله ، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة (عَذاباً مُهِيناً) يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) أي يبرزون كمالاتهم (رِئاءَ النَّاسِ) مراءين الناس بأنها لهم (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي الفناء فيه سبحانه ليبرزوا لله الواحد القهار (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ) النفس وقواها (لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) لأنه يضله عن الحق كهؤلاء (وَما ذا عَلَيْهِمْ) ما كان يضرهم (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) ولم يروا كمالا لأنفسهم (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) مقدار ما يظهر من الهباء (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له (يُضاعِفْها) بالتأييد الحقاني (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وهو الشهود الذاتي ، أو العلم اللدني (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقدة فيكشف عن حاله (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ) وهم المحمديون (شَهِيداً) ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالاحتجاب (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) بعدم المتابعة (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها ، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش.

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق لقد أبعدت مرماك

والله تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط ، ويجوز أن يقال : لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا هاهنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عليّ كرم الله تعالى وجهه قال : «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت».

وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة ، والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناء بشأن الحكم ، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة ، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة ، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر ، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت ، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرءونه فيها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى ـ لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا


ما تقرءونه في صلاتكم ـ ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي ، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار (ما تَقُولُونَ) على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي ، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فإنه يدل عليه بحسب الظاهر ، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له ، وفي الخبر «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» ويأباه ظاهر قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين ، وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به ، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك ـ وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم ، وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها ـ وفيه بعد ـ وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك ، وأيّا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه ، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا.

والحاصل كما قال الشهاب : إنه مكلف بها في كل حال ، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه ، ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها ـ وقد نص عليه الجصاص في الأحكام ـ وفصله انتهى ، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتوقيرا ، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول ، وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، وقرئ «سكارى» بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى.

وقرأ الأعمش «سكرى» بضم السين على أنه صفة ـ كحبلى ـ وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى ، والنخعي «سكرى» بالفتح ، وهو إما صفة مفردة جماعة كما في الضم ، وإما جمع تكسير كجرحى ، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل ، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه ، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع ، ورجح الأول (وَلا جُنُباً) عطف على قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) فإنه في حيز النصب كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا ـ قاله غير واحد ـ وقال الشهاب نقلا عن البحر : إن هذا حكم الاعراب ، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاءوا وهم سكارى إذ معنى الأول جاءوا كذلك ، والثاني جاءوا وهم كذلك باستئناف الإثبات ـ ذكره عبد القاهر ـ ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه ، ويجوز تقدمه واستمراره. ولذا قال السبكي في الأشباه : لو قال : لله تعالى عليّ أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان ، ولو قال : وأنا صائم أجزأه ، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة ، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو ـ جاء زيد وقد طلعت الشمس ـ والحال المفردة صفة معنى فإذا قال : لله تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان ، ولو قال : صائما نذر صومه فلا يصح فيه ؛


وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها ، ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه.

ولم يبين رحمه‌الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة ، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال : فائدتها ـ والعلم عند الله تعالى ـ الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين ، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه: (حَتَّى تَعْلَمُوا) إلخ ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب ، ومن ثمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جدا ، ـ والجنب ـ من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث. والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه ـ كما قاله بعض المحققين ـ ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب ، واشتقاقه كما قال أبو البقاء : من المجانبة وهي المباعدة (إِلَّا عابِرِي) أي مجتازي (سَبِيلٍ) أي طريق ، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير (لا تَقْرَبُوا) باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى ، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة ، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية ، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل ، وقد ورد عقيبه على طريق البيان ، قاله المولى شيخ الإسلام ، وقيل : هو صفة لجنبا على أن (إِلَّا) بمعنى غير ، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي ، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب ، وقد خالفه فيه النحاة ، ورجح بعضهم الوصفية بناء على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية ، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤول ـ كما ستعرفه ـ ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد ، ـ وبه قال الشافعي رحمه‌الله تعالى ـ والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا ، ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبي سعيد بناء على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر ، وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي ، وإن نقله البعض ، ونقل الجصاص في الأحكام أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه ، وعن الليث أن الجنب لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه في المسجد ، فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة ، ولعل تقديم الاستثناء عليه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان ، وقيل : لما لم يكن لقوله سبحانه : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه ، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال ، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرض الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار ، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص


للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي (١) يدور عليها أمر الرخصة ، ولهذا قيل : المراد بغير (عابِرِي سَبِيلٍ) غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته.

وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر ـ وإنما لم يقل : إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما ـ لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل ، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام ، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله ، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال : المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها ، وأخرج البيهقي في المعرفة عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع : أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم ، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك ـ كالمبطون ـ أو بالاستعمال ـ كمن به حصبة أو جدري ـ ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه ، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر ، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه ، وفي الهداية : ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر ميل أو أكثر يتيمم ، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته. فإن الاستثناء ـ كما أشار إليه شيخ الإسلام ـ بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته ، وقيل : ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال ، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها ، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل ، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ويبتدئون بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ) إلخ بل التعبير بالقرب يومئ إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب (عابِرِي سَبِيلٍ) هناك ، وب (عَلى سَفَرٍ) هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه. وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره ، وقيل : لأنه سبب النزول ، فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال : «نال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) الآية كلها» وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا أن نزولها في غزوة المريسيع «حين عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقال حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر ـ وفي رواية ـ يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا» وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هو المكان المنخفض ، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء ، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى

__________________

(١) قوله «الذي» كذا بخطه ، ولعله «التي» ا ه.


عنه ـ وهو في رأي ـ مصدر يغوط ، وكان القياس غوطا فقلبت الواو ياء وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها ، ولعل الأولى ما قيل : إنه تخفيف غيط كهين وهين ، والغيط الغائط ، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.

وفي ذكر (أَحَدٌ) فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه ، وقيل : إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفاديا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحى منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على (كُنْتُمْ) ، والجار الأول متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله ، والثاني متعلق بالفعل أي وإن جاء (أَحَدٌ) كائن (مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحى منه ، وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر.

وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء ، وبه قال الزهري والأوزاعي ، وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه : إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا ، وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة ، قيل : ما لم يحدث الانتشار ، واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت ، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين : إنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع ، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلا بخلافه هنا ، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ساجد ، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي ـ أو لمستم ـ إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة ، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحا للمجاز المشهور وعملا بهما إذ لا منافاة وهو الأوفق بمذهبنا ، وقال بعض المحققين : إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد ، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة ، وإنما يكون مجازا لو اقتصر على إرادته باللفظ ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء ، وأن الشافعي رحمه‌الله تعالى حملها على المعنيين جمعا بين الحقيقة والمجاز ؛ وظاهر عبارة الأم أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين ، وأنه إنما ذكر الجس باليد تمثيلا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم ، ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل : أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر.

قيل : وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم ـ لا


تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك ، أو كنتم مرضى ـ إلخ ، وقيل : إن هذا القيد راجع للكل ، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضا ، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده ، وفي الكشف عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط ، أو لامسا يعني ولا محدثين ، ثم قيل : وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا ، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة ، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه : ولعل الأوجه في تقرير الآية ـ والله تعالى أعلم ـ أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال الماء لفقد الماء ، أو المانع ليصح أن يكون قيدا للكل ، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيدا للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبا ، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظا ، وأن يبقى قوله سبحانه : (مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم ، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيها على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة ، وأفيد ضمنا أنهما معتبران أيضا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى ، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه ، نعم الآية من معضلات القرآن ، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق ، والفاء في (فَلَمْ) عاطفة ، وأما الفاء في قوله سبحانه : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فواقعة في جواب الشرط ، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه ، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة ، ومثله في ذلك (تَجِدُوا) فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاء لقوله سبحانه : (جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) والتيمم لغة القصد قال الأعشى :

تيممت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شزن

والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب وقال الزجاج : لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض ، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض ، والطيب الطاهر ، وعن سفيان الحلال ، وقيل : المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨] والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة ، والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا ، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرد ونحو ذلك. وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. ومحمد في إحدى الروايتين عنه ، وفي رواية أخرى عنه ـ وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم ـ أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شيء من التراب لتقييد المسح ـ بمنه ـ في المائدة ، وكلمة «من» للتبعيض وهو يقتضي التراب ، والحنفية يحملونها على الابتداء أو الخروج مخرج الأغلب ، وقيل : الضمير للحدث المفهوم من السياق ، و «من» للتعليل ، وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج ، وقد شنع الشيعة عليه بذلك ، وقد اعتذرنا عنه في كتابنا ـ الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية ـ ونصب (صَعِيداً) على أنه مفعول به ، وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة ، والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئا منهما لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية ، وفي رواية الحسن عن الإمام رضي الله تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس ، ووجه


الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء ، ولهذا قالوا : يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح ، والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه ، والأيدي جمع يد ، وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط ، وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره ، أو حقيقة فيها جميعا؟ رجح بعضهم الثاني ، ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف ، فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط ، وأخرج عن مكحول أنه قال : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع ، وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن ، ومن حديث أبي داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ـ وهذا مذهبنا ـ ومذهب الشافعي والجمهور ـ ويشهد لهم القياس ـ على الوضوء الذي هو أصله ؛ وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء ، وكذا جوازا على الصحيح المروي عن المعظم.

ومن الناس من قال : لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء ـ وهو المروي عن عمر وابنه وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ـ قيل : ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد ، فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير ، وقالوا : القياس أن لا يكون التيمم طهورا وإنما أباحه الله تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس ، وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه.

وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع ـ كما يشير إليه تفسيرها السابق ـ على أن الأحاديث ناطقة بذلك ، فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين «أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك» وروي «أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عليكم بأرضكم» إلى غير ذلك ، وهل يرفع التيمم الحدث أم لا؟ خلاف ، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا ، وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران ، وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران ، وقيل : العفو هنا بمعنى التيسير ـ كما في التيسير ـ واستدل على وروده بهذا المعنى بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق» وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى ، وما صدر عنهم في القراءة ، وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ


كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(٥٥)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين ؛ وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم ، وقيل : لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية ، وتعديها بإلى حملا لها على النظر ـ أي ألم تنظر إليهم ـ وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء ـ أي ألم ينته علمك إليهم ـ منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم ، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة ، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لويا لسانهما وعاباه ، وعنه أنها نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ ورهطه يثبطانهم عن الإسلام.

والمراد من الكتاب التوراة ، وقيل : الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة ، وقيل : القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته ، وفيه أنه خلاف الظاهر ، و «بالذي أوتوه» ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال ، والتنوين للتفخيم ، وهو مؤيد للتشنيع ، ومثله ما لو حمل على التكثير ، و (مِنَ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية ، وقيل : متعلقة ـ بأوتوا ـ وقوله تعالى : (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل : ما ذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل : يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول ، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الزجاج : المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة ، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا ، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة (يَشْتَرُونَ) حال مقدرة من ضمير (أُوتُوا) أو حال من (الَّذِينَ) ، وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام ، والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور ، وما عطف عليه من قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) فالأوجه


الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له ، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق ، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره ، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى ، وقرئ أن يضلوا بالياء بفتح الضاد وكسرها (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم أيها المؤمنون (بِأَعْدائِكُمْ) الذين من جملتهم هؤلاء ، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم ، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعلمية الله تعالى معلومة ، وقيل : المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أمركم وينفعكم بما شاء (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون ، وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم ، والجملة معترضة أيضا ، والباء مزيدة في فاعل (كَفى) تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية ، وقال الزجاج : إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله ، و (وَلِيًّا) و (نَصِيراً) منصوبان على التمييز ، وقيل : على الحال ، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عزوجل مع الإشعار بالعلية.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قيل : هو بيان ـ للذين أوتوا ـ المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين ، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته ، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف ـ والجمل هنا متعاطفة ـ وبه يصير الشيئان شيئا واحدا ، وقيل : إنه بيان لأعدائكم ، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض ، وقيل : إنه صلة ـ لنصير ـ أي ينصركم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر ، وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف ، وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) صفة له أي (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قوم (يُحَرِّفُونَ) ويتعين هذا في قراءة عبد الله و (مِنَ الَّذِينَ) وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف ، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه ، ومنه قوله :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا ، و (يُحَرِّفُونَ) صلته أي (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) من (يُحَرِّفُونَ) والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها ـ من يحرفون ـ واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة ، و (الْكَلِمَ) اسم جنس واحده كلمة ـ كلبنة ولبن ، ونبقة ونبق ـ وقيل : جمع ـ وليس بشيء على المختار ـ ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا ، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا ، وجمعيته باعتبار تعدده معنى ، وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع ـ كلمة ـ تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف ، وقرئ (يُحَرِّفُونَ) الكلام ، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم ـ ربعة


ـ في نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووضعهم مكانه طوال ، وكتحريفهم ـ الرجم ـ ووضع الحد موضعه ، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم ، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!.

وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد ، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود ، وقيل : إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل ، والمراد من (مَواضِعِهِ) على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره ، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان (يُحَرِّفُونَ) بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا (الْكَلِمَ) ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه ، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) [المائدة : ٤١] أن الثاني أدل على ثبوت مقار (الْكَلِمَ) واشتهارها مما هنا ، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه ، واختار ذلك هنا لك لأن فيه ما يقتضي الإتيان بالأدل الأبلغ (وَيَقُولُونَ) عطف على (يُحَرِّفُونَ) وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة (سَمِعْنا) أي فهمنا (وَعَصَيْنا) أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) عطف على (سَمِعْنا) داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني ، وفي أثناء مخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو كلام ذو وجهين ـ محتمل للشر والخير ، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد ، ومثلوا له بقوله :

خاط لي عمرو قباء

ليت عينيه سواء

واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت ، أو (اسْمَعْ غَيْرَ) مجاب إلى ما تدعو إليه ، أو (اسْمَعْ) نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك ، أو (اسْمَعْ) كلاما (غَيْرَ مُسْمَعٍ) إياك لأن أذنيك تنبو عنه ـ فغير ـ إما حال لا غير ، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا ـ لعنهم الله تعالى ـ إجابته صار كأنه واقع مقرر ، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى (اسْمَعْ) منا (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مكروها من قولهم : أسمعه فلان إذا سبه ، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك ، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء مظهرين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه (وَراعِنا) عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وهو ذو وجهين كسابقه ، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا ، أو انتظرنا نكلمك ، واحتماله للشر يحمله على السب ، ففي التيسير : إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة ، وقيل : إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا ، وقيل : بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون ـ لعنهم الله تعالى ـ أنه ـ وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم ، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير.


وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل : إن جميع الكفار يخاطبون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام ، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا ، وأجيب بأنه يمكن أن يقال : المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل : يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالا وحالا ، وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إن قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩٣ ، النساء : ٤٦] لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني ، وقيل : إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا ، ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم.

ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف ، ويكون قوله سبحانه : (وَيَقُولُونَ) إلخ تعدادا لبعض تحريفاتهم ، والمراد أنهم يقولون لك : (سَمِعْنا) وعند قومهم (عَصَيْنا) ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئا ويبطنون خلافه (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) اللي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى ، ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى.

والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر ، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر ، وأصله لوى فقلبت الواو ياء وأدغمت ، ونصبه على أنه مفعول له ـ ليقولون ـ باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين ، وقيل : بالأقوال جميعها ، أو على أنه حال أي ـ لاوين ـ ومثله في ذلك قوله تعالى : (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية ، وكل من الظرفين متعلق بما عنده (وَلَوْ أَنَّهُمْ) عند ما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه (قالُوا) بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل : (سَمِعْنا) سماع قبول مكان قولهم : (سَمِعْنا) المراد به سماع الرد (وَأَطَعْنا) مكان قولهم : (عَصَيْنا وَاسْمَعْ) بدل قولهم : (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ). (وَانْظُرْنا) بدل قولهم : (راعِنا لَكانَ) قولهم هذا (خَيْراً لَهُمْ) وأنفع من قولهم ذلك (وَأَقْوَمَ) أي أعدل في نفسه ، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق التهكم ، وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من ، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم ، والمنسبك من أن وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي لو ثبت قولهم : (سَمِعْنا) إلخ وهو مذهب المبرد ، وقيل : مبتدأ لا خبر له ، وقيل : خبره مقدر (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم ، واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ) بعد (إِلَّا قَلِيلاً) اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في (لَعَنَهُمُ) أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقا قليلا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه ، وقيل : هو مستثنى من فاعل (يُؤْمِنُونَ) ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب ، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) على لعن أكثرهم وهو كما ترى ، وقيل : إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشريعته ، والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي ، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله :


قليل التشكي للمهم يصيبه

كثير الهوى شتى النوى والمسالك

والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما إما على حد (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال ، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لا بد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه ، والوجه هو الأول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) نزلت كما قال السدي : في زيد بن التابوت ومالك بن الصيف.

وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «كلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله تعالى فيهم الآية ، ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم ، وجعل الخطاب للأولين خاصة ـ بطريق الالتفات ، وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه ـ بعيد جدا ، ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه : (آمِنُوا) إيمانا شرعيا (بِما نَزَّلْنا) أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة الغير المبدلة ، وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال لما فيه من الوعيد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به ؛ وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين ، وفي تنكير وجوه تهويل للخطب مع لطف ، وحسن استدعاء ، وأصل الطمس استئصال أثر الشيء ، والمراد آمنوا من قبل أن نمحو ما خطه الباري بقلم قدرته في صحائف الوجوه من نون الحاجب ، وصاد العين ، وألف الأنف ، وميم الفم فنجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وقال الفراء والبلخي وحسين المغربي : إن المعنى آمنوا من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فإن ما خلف الوجه لا تصوير فيه وهو منبت الشعر أيضا ؛ والعطف بالفاء إما على إرادة نريد الطمس ، أو على جعل العطف من عطف المفصل على المجمل ، وعن عطية العوفي : أن المراد ننكسها بعد الطمس بجعل العيون التي فيها وما معها في القفا ، فالعطف بالفاء ظاهر ، وقيل : المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارا وإدبارا ، أو نردهم من حيث جاءوا منه ، وهي أذرعات الشام ، فالمراد بذلك إجلاء بني النضير ، وإلى هذا المراد ذهب ابن زيد ، وضعف بأنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد ، وتعميم التهديد للجميع.

وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة ، فقال جماعة : كان بوقوعه في الدنيا وأيد بما أخرجه ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال : أسلم كعب في زمان عمر رضي الله تعالى عنه أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال : يا كعب أسلم قال : ألستم تقرءون في كتابكم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥]؟ وأنا قد حملت التوراة فتركه ، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية فقال : رب آمنت رب


أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ، ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين ، وروي أن عبد الله بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم ، وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي ، ثم اختلفوا فقال المبرد : إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة ، وأيد بتنكير وجوه ، والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي ، واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة ، وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجه بعد ما فات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العاملين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم ، والجواب بأن عادة الله سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة ، وقال البرسي : إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم ، وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين ، واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم ، وقيل: في الجواب أنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه.

وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك ، ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم ، وقيل : كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونون بكل لسان وفي كل زمان ، فاللعن بمعناه الظاهر ؛ والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه ، واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد ، فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن ، ويؤيده ظاهر التشبيه ، وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على إرادة ذلك ضرورة أنه تعبير مغاير لما عطف عليه ، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بقوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [المائدة : ٦٠] لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية ، وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع.

وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق بشأنها ، وقد ورد «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء ، ويقول : أخشى أن تقوم الساعة» مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه‌السلام. والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ، وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم على العين والفم والطبع عليهما ، فقد قال الله تعالى : (لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦] و (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) [يس : ٦٥] وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال : إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ، ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق


بالطبع ، ونردها عن الهداية إلى الضلالة.

وروي ذلك عن الضحاك ، وأخرجه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، والحق أن الآية ليست بنص في كون ذلك في الدنيا أو في الآخرة بل المتبادر منها بحسب المقام كونه في الدنيا لأنه أدخل في الزجر ، وعليه مبنى ما روي عن الحبرين لكن لما كان في وقوع ذلك خفاء واحتمال أنه وقع ولم يبلغنا ـ على ما في التيسير ـ مما لا يلتفت إليه ، ورجح احتمال كونه في الآخرة ، وأيّا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مراعاة المشاكلة بينها وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والفاعل والراضي سواء ، والضمير المنصوب في ـ نلعنهم ـ لأصحاب الوجوه ، أو ـ للذين ـ على طريق الالتفات لأنه بعد تمام النداء يقتضي الظاهر الخطاب ، وأما قبله فالظاهر الغيبة ، ويجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله :

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا كل شيء بعدكم عدم

أو للوجوه إن أريد به الوجهاء (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) بإيقاع شيء ما من الأشياء ، فالمراد بالأمر معناه المعروف ، ويحتمل أن يراد به واحد الأمور ولعله الأظهر أي كان وعيده أو ما حكم به وقضاه (مَفْعُولاً) نافذا واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة ، ويدخل في ذلك ما أوعدتم به دخولا أوليا ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لما مر غير مرة.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث إنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود ، وأشار إليه قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) [الأعراف : ١٦٩] وفيه أيضا إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا.

والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله تعالى شأنه شريكا إما في الألوهية أو في الربوبية ، وبمعنى الكفر مطلقا ـ وهو المراد هنا ـ كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا ، ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ ، والمشهور أنها نزلت مطلقة ، فقد أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال : «لما نزل قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] الآية قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله؟ فسكت ، ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله تعالى؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)» إلخ والمعنى أن الله تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه ، وحكمه لا يتغير ، ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ولذا لم يبعث نبي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه ، وقيل : لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره ، ولا يخفى أن هذا مبني على أن فعل الله تعالى تابع لاستعداد المحل ، وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة ، فإن (يُشْرَكَ) في موضع النصب على المفعولية ؛ وقيل : المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئا من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى ، والذي عليه المحققون هو الأول.

(وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) عطف على خبر إن لا مستأنف ، وذلك إشارة إلى الشرك ، وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج ، ولم يتب عنها تفضلا من لدنه وإحسانا (لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط ، فالجار متعلق ـ بيغفر ـ المثبت ، والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما


دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول البتة ويغفر الثاني لمن يشاء ، والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا ، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد ، وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل : على معنى ـ إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب ـ وجعلوا (لِمَنْ يَشاءُ) متعلقا بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن من يشاء في الأول المصرون بالاتفاق ؛ وفي الثاني التائبون قضاء لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعول المشيئة في الأول عدم الغفران وفي الثاني الغفران بقرينة سبق الذكر ، ولا يخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد يتفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضا يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما ، وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة (ما دُونَ ذلِكَ) بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد.

وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار أنها راجحة على آيات الوعيد بالاعتبار من ثمانية أوجه سردها هناك وزعم أنها لو لم تقيد ، وقيل : بجواز المغفرة لمن لم يتب لزم إغراء الله تعالى للعبد بالمعصية لسهولتها عليه حينئذ والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله سبحانه ليس بشيء ، أما أولا فلأنه مبني على القول بالحسن والقبح العقليين وقد أبطل في محله. وأما ثانيا فلأن لو سلم يلزم منه تقبيح العفو شاهدا وهو خلاف إجماع العقلاء ، وأما ثالثا فلأنه منقوض بالتوبة فإنهم قالوا : بوجوب قبولها ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصي الإقدام على المعصية أيضا ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالمغفرة بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة له بخلاف المغفرة فكان يجب أن لا تقبل توبته لما فيه من الإغراء وهو خلاف الإجماع فلئن قالوا : هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة قلنا : هو غير واثق بالمغفرة لإبهام الموصول ، والقول : بأنه لو لم تشترط التوبة لزم المحاباة من الله تعالى في الغفران للبعض دون البعض والمحاباة غير جائزة عليه تعالى ساقط من القول لأن الله تعالى متفضل بالغفران وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم وإنسان دون إنسان وهو عادل في تعذيب من يعذبه ، وليس يمنع العقل والشرع من الفضل والعدل كما لا يخفى ، ومن المعتزلة من قال : إن المغفرة قد جاءت بمعنى تأخير العقوبة دون إسقاطها كما في قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] فإنه لا يصح هنا حملها على إسقاط العقوبة لأن الآية في الكفار والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا ، وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) [الكهف : ٥٨] فإنه صريح في أن المغفرة بمعنى تأخير العقوبة فلتحمل فيما نحن فيه على ذلك بقرينة إن الله تعالى خاطب الكفار وحذرهم تعجيل العقوبة عن ترك الإيمان ، ثم قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إلخ فيكون المعنى إن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها ويؤخر عقوبة ما دونه لمن يشاء فلا تنهض الآية دليلا على ما هو محل النزاع على أنه لو سلم أن المغفرة فيها بمعنى إسقاط العقوبة لا يحصل الغرض أيضا لأنه إما أن يراد إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة ، أو يراد إسقاط جملة العقوبات ، أو يراد إسقاط بعض أنواعها لا سبيل إلى الأول لعدم دلالة اللفظ عليه بقي الاحتمالان الآخران ، وعلى الأول منهما لا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبات أن لا يعاقب ببعضها ، وعلى الثاني لا يلزم من إسقاط بعض الأنواع إسقاط البعض الآخر.

وأجيب بأن حمل المغفرة على إسقاط العقوبة أولى من حملها على التأخير لثلاثة أوجه : الأول أنه المعنى


المتبادر من إطلاق اللفظ ، الثاني أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن الله لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط ، الثالث أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا. وقولهم : لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد إلخ قلنا : بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا ، ومعناه إقامة العقوبة ، وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات ، أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني ، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه ، ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن (وَيَغْفِرُ) عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما ، والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة ، ولا يخفى أنه من تحريف كلام الله تعالى ووضعه في غير مواضعه.

ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة : إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها ، وتعقبه صاحب الكشف بأنه لم يصدر عن ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم ، وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا.

ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار ، وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.

وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : «كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)» الآية ، وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا ، وقد استبشر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه : أحب آية إليّ في القرآن (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإدخال الروعة ، وزيادة تقبيح الإشراك ، وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك بالله تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال ، والجلال أي شرك كان (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا ، وأصل الافتراء من الفري ، وهو القطع ولكون قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب على الإفساد ، واستعمل في القرآن بمعنى الكذب ، والشرك والظلم كما قاله الراغب ، فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا ، فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم ، وهو المراد هنا ، وهل هو مشترك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل ، أو استعارة في الثاني؟ قولان : أظهرهما عند البعض الثاني ، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح ، وفي مجمع البيان التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال : فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح ، وأفريته إذا قطعته على وجه


الإفساد (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) قال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأطفالهم فقالوا : يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ فقال : لا فقالوا : والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم ؛ وأخرج ابن جرير عن الحسن «أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] والمعنى انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم ، أو من ادعائهم أن الله تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شيء من كفره أو معاصيه ، وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض. صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية الله تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى ، والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل : هم لا يزكونها في الحقيقة بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين «إذ هو العليم الخبير» وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح قولا ـ كما هو ظاهر ـ أو فعلا كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] ، و (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها ، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم ، وأصغره ، وهو المراد بالفتيل ، وهو الخيط الذي شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة ـ كالنقير للنقرة التي في ظهرها ـ والقطمير ـ وهو قشرتها الرقيقة ، وقيل : الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي الله تعالى عنهم ، وجوز أن تكون جملة (وَلا يُظْلَمُونَ) في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة عملا مع ما زكاهم الله تعالى ومدحهم في الدنيا.

وقيل : هو استئناف ، والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه ، ومن زكاه الله تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه ، والأول أمس بمقام الوعيد ، وانتصاب (فَتِيلاً) على أنه مفعول ثان كقولك : ظلمته حقه ، قال علي بن عيسى : ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك : تصببت عرقا.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في زعمهم أنهم أزكياء عند الله تعالى المتضمن لزعمهم قبول الله تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه ، و (كَيْفَ) في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه ، والأخفش ، والعامل (يَفْتَرُونَ) و (بِهِ) متعلق به.

وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب ، وقيل : هو متعلق به ، والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم (وَكَفى بِهِ) أي بافترائهم ، وقيل : بهذا الكذب الخاص (إِثْماً مُبِيناً) لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا ، والجملة كما قال عصام الملة : في موضع الحال بتقدير قد أي ـ كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأنه إثم مبين ـ والآثم بالإثم المبين غير المتحاشى عنه مع ظهوره لا يكون ابن الله سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند الله تعالى ، وانتصاب (إِثْماً) على التمييز.


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب ، وقد تقدم نظيره ، والآية نزلت ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ـ في جمع من يهود ، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ، ثم قال كعب : يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك الآية ، و ـ الجبت ـ في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى ، وقيل : أصله الجبس ، وهو كما قال الراغب : الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء كما في قول عمرو بن يربوع : شرار ـ النات ـ أي الناس ، وإلى ذلك ذهب قطرب ـ والطاغوت ـ يطلق على كل باطل من معبود أو غيره.

وأخرج الفريابي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «الجبت الساحر والطاغوت الشيطان».

وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله ، ومن طريق أبي الليث عنه قال : الجبت كعب بن الأشرف ، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان ، وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة ، والطاغوت الكاهن ـ وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وفي رواية أخرى الجبت حيي بن أخطب ؛ والطاغوت كعب بن الأشرف ، وفي أخرى الجبت الأصنام ، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس ، ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى ، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل ، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا ، والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه (هؤُلاءِ) أي الكفار من أهل مكة. (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أي أقوم دينا وأرشد طريقة ، قيل : والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه ؛ أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم ، وإيراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح (أُولئِكَ) القائلون المبعدون في الضلالة (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عن رحمته وطردهم ، واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره ، والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مآلهم (وَمَنْ يَلْعَنِ) أي يبعده (اللهُ) من رحمته (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) أي ناصرا يمنع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا بشفاعة أو بغيرها ، وفيه بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون حيث كانوا بضد هؤلاء فهم الذين قربهم الله تعالى ومن يقربه الله تعالى فلن تجد له خاذلا.


وفي الإتيان بكلمة ـ لن ـ وتوجيه الخطاب إلى كل واحد يصلح له وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المؤذن بسبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي عن الظفر بما أملوا بالكلية ما لا يخفى ، وإن اعتبرت المبالغة في ـ نصير ـ متوجهة للنفي كما قيل ذلك في قوله سبحانه : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ) [فصلت : ٤٦] قوى أمر هذه الدلالة (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم ، و (أَمْ) منقطعة فتقدر ببل ، والهمزة أي بل آلهم ، والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ، وجحد لما تدعيه اليهود من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان.

وعن الجبائي أن المراد بالملك هاهنا النبوة أي ليس لهم نصيب من النبوة حتى يلزم الناس اتباعهم وإطاعتهم والأول أظهر لقوله تعالى شأنه (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ) أي أحدا أو الفقراء أو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (نَقِيراً) أي شيئا قليلا ، وأصله ما أشرنا إليه آنفا.

وأخرج ابن جرير من طريق أبي العالية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هذا النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم نقرها ، وحاصل المعنى على ما قيل : إنهم لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيبا منه لما أعطوا الناس أقل قليل منه ، ومن حق من أوتي الملك الإيتاء وهم ليسوا كذلك ، فالفاء في (فَإِذاً) للسببية والجزائية لشرط محذوف هو أن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدره الزمخشري لأن الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع ، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة والهمزة لإنكار المجموع من المعطوف والمعطوف عليه بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الذي وقع وهو أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك حيث كانت لهم أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك ويعقبه منهم البخل بأقل قليل ، وفائدة «إذا» زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب الإعطاء سببا للمنع ، والفرق بين الوجهين أن الإنكار في الأول متوجه إلى الجملة الأولى وهو بمعنى إنكار الوقوع ، وفي الثاني متوجه لمجموع الأمرين وهو بمعنى إنكار الواقع ، «وإذا» في الوجهين ملغاة ، ويجوز إعمالها لأنه قد شرط في إعمالها الصدارة فإذا نظر إلى كونها في صدر جملتها أعملت ، وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت ، ولذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ـ فإذا لا يؤتوا الناس ـ بالنصب على الإعمال.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) انتقال عن توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة من اتصف بها دنيا وأخرى ، وذكره بعده من باب الترقي ، و (أَمْ) منقطعة والهمزة المقدرة بعدها لإنكار الواقع ، والمراد من الناس سيدهم بل سيد الخليقة على الإطلاق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والضحاك وأبو مالك وعطية ، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال أهل الكتاب : زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية».

وذهب قتادة والحسن وابن جريج إلى أن المراد بهم العرب ، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم النبي وآله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ، وقيل : المراد بهم جميع الناس الذين بعث إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأسود والأحمر أي بل أيحسدونهم (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني النبوة وإباحة تسع نسوة أو بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ونزول القرآن بلسانهم أو جمعهم كمالات تقصر عنها الأماني ، أو تهيئة سبب رشادهم ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، والحسد على هذا مجاز لأن اليهود لما نازعوه في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي هي إرشاد لجميع الناس فكأنما حسدوهم جمع (فَقَدْ آتَيْنا) تعليل


للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر ، والفاء كما قيل : فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطئوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا (آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة ، أو إتقان العلم والعمل ، أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال (وَآتَيْناهُمْ) مع ذلك (مُلْكاً عَظِيماً) لا يقادر قدره ، وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمروذ وفرعون وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود ، وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة والسلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة ، والمراد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة ، وعلى الأول فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته ، ومن الضمير الراجع إليهم من (آتَيْناهُمْ) بعضهم ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم‌السلام ، وخصه السدي بما أحل لداود وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده ثلاثمائة امرأة ومثلها سرية» وعن محمد بن كعب قال : «بلغني أنه كان لسليمان عليه‌السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية» ، وعلى الثاني فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار.

ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم ، والملك العظيم بالنبوة ، ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد ، ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى (فَمِنْهُمْ) أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي بما أوتي آل إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ) أي أعرض (عَنْهُ) ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام ، وقيل : له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم ، وليس بشيء ، وقيل : معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير (بِهِ) و (عَنْهُ) على هذا لإبراهيم ، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [النساء : ٤٧] أو على قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) إلخ في غاية البعد ، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله ، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم‌السلام ، ويدخل أولئك دخولا أوليا ، وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه ، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام ، وعلى


الثاني فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم ، و (سَوْفَ) كما قال سيبويه : كلمة تذكر للتهديد والوعيد ، وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر : ٢٦] وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] و (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨] ؛ وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد ، وتنكير (ناراً) للتفخيم أي يدخلون ولا بد (ناراً) هائلة (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) أي احترقت وتهرت وتلاشت ، من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك ، و (كُلَّما) ظرف زمان والعامل فيه (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب ، وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته ، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل ، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح ، والسيف ليس كذلك ، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك الحمل غير اختياري ، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم ، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد ، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه‌السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع ، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل : إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح ، وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول : إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولو لا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط.

ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى ، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت ، والنصوص في هذا الباب متعارضة ، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها ، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى ، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] وما في شرح البخاري للسفيري ـ من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت وأني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا ، ويقول الجسد للروح : أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا ، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير : إني أرى هاهنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير : اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان : كلاهما فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما ـ لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به ، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام ، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة.


فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال : «قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب : عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقناك قال : إني قرأتها قبل «كلمات نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها» في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر : هكذا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال : «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم : عودوا فعادوا».

(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة ، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن ، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام ، وقيل : السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن ، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] وسميت السرابيل جلودا للمجاورة ، وفيه أنه ترك للظاهر ، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة ، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر ، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع ، وقيل : إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به (حَكِيماً) في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه ؛ والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل ، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة ، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم ، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم‌السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قرأ عبد الله ـ سيدخلهم ـ بالياء والضمير للاسم الجليل ، وفي السين تأكيد للوعد ، وفي اختبارها هنا واختيار (سَوْفَ) في آية الكفر ما لا يخفى.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في (سَنُدْخِلُهُمْ) وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن في محل النصب على أنه حال من جنات ، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة ، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر.

والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي فينانا لا جوب فيه ، ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قرّ ، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين ، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة ، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو ـ يوم أيوم ، وليل أليل ـ وقال الإمام المرزوقي : إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو ـ كبسن ـ في قولك : حسن بسن ، وقرئ «يدخلهم» بالياء عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].


(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً)(٧٠)

هذا ومن باب الإشارة في الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) خطاب لأهل الإيمان العلمي ، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا ، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم ، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب ، وقيل : إنه خطاب لأهل المحبة والعشق الذين أسكرهم شراب ليلى ومدام مي ، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من الليّ ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم : يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي ، وليس في الجنان تقييد ، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار


المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا ، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة (وَلا جُنُباً) أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقرّ وستر العورة ، أو المباشرة لحفظ النسل (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) بأدواء الرذائل (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي الاشتغال بلوث المال ملوثا بمحبته (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) علما يهديكم إلى التخلص عن ذلك (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات (غَفُوراً) يستر الشين بالزين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) أي بعضا (مِنَ الْكِتابِ) وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) ويتركون التوحيد الحقيقي (وَيُرِيدُونَ) مع ذلك (أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر ، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادا لله تعالى لا قصدا ولا تبعا لا عبارة ولا إشارة ، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى بمعنى الدوال عليه ، أو كلمه بمعنى آثار كلمه أعنى كن المتعددة حسب تعلقات الإرادة.

ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودا غير وجود الله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا) ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات (وَعَصَيْنا) فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون (وَيَقُولُونَ) أيضا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزءين به (اسْمَعْ) ما يعارض ما تدعيه (غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي لا أسمعك الله (وَراعِنا) يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) الذي عليه العارف بربه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه من علم الباطن (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) على قلوب أوليائي من العلم اللدني (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) وهي وجوه القلوب بالعمى (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية ، ويحتمل أن يكون هذا خطابا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين ، وإبعادهم بالمسخ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته «لا أحد أغير من الله» (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له تاب أو لم يتب ، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة : فشرك جلي بالأعيان ، وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلا ، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية ، وشرك خفي بالأوصاف ـ


وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية ـ وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات ـ وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية ـ وتوبته بالوحدة ـ وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أيّ شرك كان من هذه المراتب (فَقَدِ افْتَرى) وارتكب حسب مرتبته (إِثْماً عَظِيماً) لا يقدر قدره (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلا ، ويحتمل أن يكون هذا تعجيبا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) ظاهرا لا خفاء فيه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) بعضا (مِنَ الْكِتابِ) الجامع ، وأشير به إلى علم الظاهر (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) أي بجبت النفس (وَالطَّاغُوتِ) أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لأجل الذين ستروا الحق (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (سَبِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عن معرفته وقربه (وَمَنْ يَلْعَنِ) أي يبعده (اللهُ) عن ذلك (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) يهديه إلى الحق (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة (الْكِتابَ) أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن (وَالْحِكْمَةَ) علم الباطن أو باطن الباطن (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) عظيمة وهي نار القهر والحجاب ، أو نار الحسد (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل إن (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لبقاء أرواحهم المفاضة عليها ما يروحها (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) من التجليات التي يلتذون بها (مُطَهَّرَةٌ) من لوث النقص (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك بمحو البشرية عنهم ، نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله ، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عزّ من قائل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال : أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح ، فقال : هاك بأمانة الله تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه‌السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه‌السلام وشأن القداح وأزال ذلك ، وأخرج مقام إبراهيم عليه‌السلام وكان في الكعبة ؛ ثم قال : أيها الناس هذه القبلة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل عليه‌السلام ـ فيما ذكر لنا ـ برد المفتاح فدعا عثمان بن أبي


طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ)» الآية.

وفي رواية الطبراني «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين أعطى المفتاح : خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» يعني سدانة الكعبة ، وفي تفسير ابن كثير «أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم» ، وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي «أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه وصار ذلك سببا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا وما ذكرناه أولى بالاعتبار.

أما أولا فلما قال الأشموني : إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ـ كما ذكره ابن إسحاق وغيره ، وجزم به ابن عبد البر في الاستيعاب والنووي في تهذيبه والذهبي وغيرهم ، وأما ثانيا فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير ، وقد نصوا على أنه هو الصحيح ، وأما ثالثا فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليا كرم الله تعالى وجهه أخذه منه قهرا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة ، والقول ـ بأن تسمية ذلك أمانة لأن الله تعالى لم يرد نزعه منه ، أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد ، أو إلى أن عليا كرم الله تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضا بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد ، وأيّا ما كان فالخطاب يعم كل أحد ـ كما أن الأمانات ، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول ـ نعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية ، وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب ، وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس وأبيّ وابن مسعود .. والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وإليه ذهب الأكثرون ، وعن زيد بن أسلم ـ واختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة ، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها ، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا ، وفي تصدير الكلام ـ بأن ـ الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء ما لا مزيد عليه ، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له».

وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة».

وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة. والأمانة تؤدي إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر» ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» والأخبار في ذلك كثيرة ، وقرئ ـ الأمانة ـ بالإفراد ، والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أيّ أمانة كانت.

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم ، فالواو للعطف ، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على (أَنْ تُؤَدُّوا) والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي ويأمركم (أَنْ تَحْكُمُوا) بالإنصاف والسوية ، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم ، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف


المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه ، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ، وفي التسهيل الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي ، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي ـ وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ـ ليسلم مما تقدم ، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة ، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة ، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم.

وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه ابن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال : يا بني انظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك عنه يوم القيامة (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم (إِنَ) وجملة (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ) خبرها ، وما إما بمعنى الشيء معرفة تامة ، و (يَعِظُكُمْ) صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح ، أي نعم الشيء شيء يعظكم به ، ويجوز ـ نعم هو أي الشيء شيئا يعظكم به ـ والمخصوص بالمدح محذوف ، وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل ـ نعم ـ والمخصوص محذوف أيضا ، أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ـ قاله أبو البقاء ـ ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل ـ نعم ـ إذا كان مظهرا لزم أن يكون محلى بلام الجنس أو مضافا إليه كما في المفصل ، وأجيب بأن سيبويه جوز قيام ما إذا كانت معرفة تامة مقامه ، وابن السراج أيضا جوز قيام الموصولة لأنها في معنى المعرف باللام ، واعترض القول بوقوع ما تمييزا بأنها مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأن التمييز لبيان جنس المميز ، وأجيب بمنع كونها مساوية له لأن المراد بها شيء عظيم ، والضمير لا يدل على ذلك ، ومن الغريب ما قيل : إن ما كافة فتدبر ، وقد تقدم الكلام فيما في (نِعِمَّا) من القراءات (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) بجميع المسموعات ومنها أقوالكم (بَصِيراً) بكل شيء ، ومن ذلك أفعالكم ، ففي الجملة وعد ووعيد ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو الخصوص بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عزوجل وإطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال عزّ من قائل : (أَطِيعُوا اللهَ) أي الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا ، وعن الكلبي أن المعنى (أَطِيعُوا اللهَ) في الفرائض (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في السنن ، والأول أولى وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره ، ومن ثمّ لم يعد في قوله سبحانه : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلف في المراد بهم فقيل : أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والسلاطين والقضاة وغيرهم ، وقيل : المراد بهم أمراء السرايا ، وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي ، وأخرجه ابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد في سرية ، وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين (١) فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل

__________________

(١) أي الجاسوس.


أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ فقال عمار : بل هو ينفعك فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال : خل عن الرجال فإنه قد أسلم وهو في أمان مني ، قال خالد : وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يشتمني فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم : يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا سبه الله تعالى ومن أبغض عمارا أبغضه الله تعالى ومن لعن عمارا لعنه الله تعالى فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية». ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة ، وقيل : المراد بهم أهل العلم ، وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة ، واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام ، وحمله كثير ـ وليس ببعيد ـ على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال ، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز ، واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده ، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين (فَرُدُّوهُ) فراجعوا فيه (إِلَى اللهِ) أي إلى كتابه (وَالرَّسُولِ) أي إلى سنته ، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم.

وجعل بعضهم : الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل ، وقيل : على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء ، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى» ، وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا (١) من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال : أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال : ألم يأمركم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف».

وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف ، فقيل : إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى ، وقيل : تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره ، وقال بعض محققي الشافعية : يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم ، وقال بعضهم : الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه

__________________

(١) اسمه علقمة ا ه منه.


مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا ، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به ، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الأمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل؟ وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أو لا ، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام ، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا ، واستدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس ، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية ، فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب ، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة ، وبالرد إليهما القياس لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه ، وليس القياس شيئا وراء ذلك ، وقد علم من قوله سبحانه : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة ، وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه ، والكلام على حد ـ إن كنت ابني فأطعني ـ فإن الإيمان بالله تعالى يوجب امتثال أمره ، وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة (ذلِكَ) أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل ـ كما قيل ـ على جميع ما سبق على التفريع لحسن.

وقال الطبرسي : إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولي الأمر ، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام (خَيْرٌ) لكم وأصلح (وَأَحْسَنُ) أي أحمد في نفسه (تَأْوِيلاً) أي عاقبة ، قاله قتادة والسدي وابن زيد ، وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له ، ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم ، وقيل : المراد (خَيْرٌ) لكم في الدنيا (وَأَحْسَنُ) عاقبة في الآخرة ، ووجه التقديم عليه أظهر.

وعن الزجاج أن المراد (أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة ، وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه ، وكلاهما حقيقة ، وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير.

(أَلَمْ تَرَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعجيب له عليه الصلاة والسلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك (إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) من الزعم ، وهو كما في القاموس مثلث القول : الحق والباطل والكذب ضد ، وأكثر ما يقال : فيما يشك فيه ، ومن هنا قيل : إنه قول بلا دليل ، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «زعم جبريل» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله : زعم الخليل كذا ـ في أشياء يرتضيها ـ وفي شرح مسلم للنووي أن زعم في كل هذا بمعنى القول ، والمراد به هنا مجرد الادعاء أي يدعون (أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن.

(وَما أُنْزِلَ) إلى موسى عليه‌السلام (مِنْ قَبْلِكَ) وهو التوراة ، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح ، وقرئ (أُنْزِلَ) و (أُنْزِلَ) بالبناء للفاعل (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره ؛ أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما


احتكما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب ، فقال اليهودي لعمر رضي الله تعالى عنه : قضى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرض بقضائه ، فقال للمنافق : أكذلك؟ قال: نعم ، فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت» ، وفي بعض الروايات : «وقال جبريل عليه‌السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاروق رضي الله تعالى عنه» ، والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف ، وإطلاقه عليه حقيقة بناء على أنه بمعنى كثير الطغيان ، أو أنه علم لقب له ـ كالفاروق ـ رضي الله تعالى عنه ، ولعله في مقابلة الطاغوت ، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله ، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان ، وإطلاقه على الأخس ابن الأشرف إما استعارة أو حقيقة ، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة ، وقيل : إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل ، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضا قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الآية.

وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة ، والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال : أعظموا اللقمة ، فقالوا : لك عشرة أوساق فقال : لا بل مائة وسق ، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة ، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون ، وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى ، وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة ، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) في موضع الحال من ضمير (يُرِيدُونَ) وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق ، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات ؛ أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان ، وقيل : الضمير للتحاكم المفهوم من : «يتحاكموا» ، وفيه بعد وقرأ عباس بن المفضل بها ، وقرئ بهن ، والضمير أيضا للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع ، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة ، وقد تقدم (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب ، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى «يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان» وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم ، و (ضَلالاً) إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي فيضلون ضلالا ، ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لأولئك الزاعمين (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) المبعوث للحكم بذلك (رَأَيْتَ) أي أبصرت أو علمت (الْمُنافِقِينَ) وهم الزاعمون ، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم (يَصُدُّونَ) أي يعرضون (عَنْكَ صُدُوداً) أي إعراضا أيّ إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم ، وقيل : هو اسم للمصدر الذي هو الصد ، وعزي إلى الخليل ، والأظهر أنه مصدر لصد اللازم ، والصد مصدر للمتعدي ، ودعوى ـ أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم ـ مما لا حاجة إليه ، وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت ، وقرأ الحسن «تعالوا» بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا كما قالوا : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية كعافية ، وكما قال الكسائي في آية : إن أصلها آيية


كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو ، ومن ذلك قول أهل مكة : «تعالي» بكسر اللام للمرأة ، وهي لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن كابن هشام الحمداني فيها حيث يقول :

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

ولا حاجة إلى القول بأن ـ تعالي ـ الأولى مفتوحة اللام ، والثانية مكسورتها للقافية كما لا يخفى ، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم (فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذا أَصابَتْهُمْ) نالتهم (مُصِيبَةٌ) نكبة تظهر نفاقهم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما عملوا من الجنايات ، كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك (ثُمَّ جاؤُكَ) للاعتذار ، وهو عطف على (أَصابَتْهُمْ) والمراد تهويل ما دهاهم ، وقيل : على (يَصُدُّونَ) وما بينهما اعتراض (يَحْلِفُونَ) حال من فاعل (جاؤُكَ) أي حالفين لك (بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا) أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً) إلى الخصوم (وَتَوْفِيقاً) بينهم ، ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار ، وقيل : جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه ، وقالوا : إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه ـ فإذا ـ على هذا لمجرد الظرفية دون الاستقبال.

وقيل : المعنى بالآية عبد الله بن أبيّ والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق ـ وهي غزوة مريسيع ـ حين نزلت سورة المنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء الله تعالى وقالوا : ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير ، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار (أُولئِكَ) أي المنافقون المذكورون. (الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من بنات غير وجاءوا به من أذني عناق (فَأَعْرِضْ) حيث كانت حالهم كذلك (عَنْهُمْ) أي قبول عذرهم ، ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر ، وقيل : عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل (وَعِظْهُمْ) بلسانك وكفهم عن النفاق (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة ، ولذا قيل : النصح بين الملأ تقريع ، أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها (قَوْلاً بَلِيغاً) مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر.

وقيل : متعلق ب (بَلِيغاً) وهو ظاهر على مذهب الكوفيين ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله ، وقيل : إنه إنما يصح إذا كان ظرفا وقواه البعض ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور ـ وفيه بعد ـ والمعنى على تقدير التعلق (قُلْ لَهُمْ قَوْلاً بَلِيغاً فِي أَنْفُسِهِمْ) مؤثرا فيها يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعارا ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال ، والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من الله تعالى ومسمع ـ غير خاف عليه سبحانه ـ وإن ذلك مستوجب لما تشيب منه النواصي ، وإنما هذه المكافة والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر ، ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لتسامرنهم السمر والبيض ، وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض ، واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب ، ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي : لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب ، وقال أبو هاشم : يكون ذلك لطفا.

وقال القاضي عبد الجبار : قد يكون لطفا وقد يكون جزاء وهو موقوف على الدليل.


(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته ، ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الاسم الجليل ، واحتج المعتزلة بالآية على أن الله تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته ، وأجاب عن ذلك صاحب التيسير بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه ، وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافرا ، أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولا إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم ، واحتج بها أيضا من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر ، ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضا لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعا بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت (جاؤُكَ) على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين ـ حشفا وسوء كيلة ـ باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) لذنوبهم ونزعوا عمّا هم عليه وندموا على ما فعلوا.

(وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) وسأل الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم ، وفي التعبير ـ باستغفر ـ إلخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة والسلام حيث أسنده إلى لفظ منبئ عن علو مرتبته (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم ، ومن فسر ـ الوجدان ـ بالمصادفة كان الوصف الأول حالا ، والثاني بدلا منه ؛ أو حالا من الضمير فيه أو مثله ، وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة (فَلا وَرَبِّكَ) أي ـ فو ربك ـ و (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى (لا يُؤْمِنُونَ) لأنها تزاد في الإثبات أيضا كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في «لا» التي تذكر قبل القسم ، وقيل : إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم ، واختاره الطبرسي ، وقيل : مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي ، وقال ابن المنير : الظاهر عندي أنها هاهنا لتوطئة النفي المقسم عليه ، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثل (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) [الانشقاق : ١٦] قصدا إلى تأكيد القسم وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول : إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ـ كلا إعظام ـ يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك ، وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح ، ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفيا فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب ، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله :

فلا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي القوم أني أفر

وقوله :

ألا نادت أمامة بارتحال

لتحزنني فلا بك ما أبالي


وقوله :

رأى برقا (١) فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسال ولا أغاما

إلى ما لا يحصى كثرة ، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين ؛ والجواب عن قولهم : إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حكما أو حاكما ، وقال شيخ الإسلام : يتحاكموا إليك ويترافعوا ، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكم بأمر الله إيذانا بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ، ومنه الشجر لتداخل أغصانه ، وقيل : للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض (ثُمَّ لا يَجِدُوا) عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا (فِي أَنْفُسِهِمْ) وقلوبهم (حَرَجاً) أي شكا ـ كما قاله مجاهد ـ أو ضيقا ـ كما قاله الجبائي ـ أو إثما ـ كما روي عن الضحاك ـ واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلما وعتوا فلا يكونوا مؤمنين ، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أيّ الأمرين شئت ونفي وجدان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى ، وهو مفعول به ـ ليجدوا ـ والظرف قيل : حال منه أو متعلق بما عنده ، وقوله تعالى : (مِمَّا قَضَيْتَ) متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجا ، وجوز أبو البقاء تعلقه به ، وما يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد ، ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بالذين كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة والسلام قضاؤه ، فقد روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : لو أن قوما عبدوا الله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا صنع خلاف ما صنع ، أو وجدوا في أنفسهم حرجا لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية ، وسبب نزولها ـ كما قال الشعبي ومجاهد : ما مر من قصة بشر ـ واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما قضى.

وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي من طريق الزهري «أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم (٢) رجلا من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج (٣) من الحرة كان يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (٤) ثم أرسل الماء إلى جارك ، واستوعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصاري استوعى

__________________

(١) أي أسرع ا ه منه.

(٢) قيل : هو حاطب بن أبي بلتعة وقيل : ثعلبة بن حاطب وقيل : حاطب بن راشد ، وقيل : ثابت بن قيس ا ه منه.

(٣) جمع شرجة مسيل الماء ا ه منه.

(٤) بالدال والذال. المسناة. حول الزرع ، ويقال لها : المرز ا ه منه.

(٥) أي أغضب ا ه منه.


للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ) إلخ.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) أي فرضنا وأوجبنا (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر.

والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه.

فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال : صدقت يا أبا بكر» وكعبد الله بن رواحة ، فقد أخرج عن شريح بن عبيد «أنها لما نزلت أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه بيده فقال : لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل». وكابن أم عبد ، فقد أخرج عن سفيان «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيه : لو نزلت كان منهم» ، وأخرج عن الحسن قال : «لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة : لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي» وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.

وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرا على المقداد فقال : لمن القضاء؟ فقال الأنصاري : لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه‌السلام فدعانا إلى التوبة منه ، وقال (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ؛ فقال ثابت بن قيس : أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقتل نفسي لقتلتها ، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر وأنه بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم فقال : «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم ، وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس ، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى ، وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها : لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم ، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل ، وقال بعضهم : إن المراد أننا قد خففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا. والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة ، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر ـ وهذا مما لا امتراء فيه ـ على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات ، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ) [الأعراف : ١٥٢] لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا ، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى ؛ والعجب من صاحب الكشف كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن ، ثم نقل كلامه في الآية.


هذا والكلام في (لَوْ) هنا أشهر من نار على علم ، وحقها كما قالوا : أن يليها فعل ، ومن هنا قال الطبرسي : التقدير لو وقع كتبنا عليهم ، وقال الزجاج : إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر ، فنقول ظننت أنك عالم كما تقول : ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر ، وضمير الجمع في (عَلَيْهِمْ) وما بعده قيل : للمنافقين ، ونسب إلى ابن عباس ومجاهد ، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب ، وكل شيء دون المنية سهل ، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. فإذا لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص ، ونسب ذلك للبلخي.

ولا يخفى أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عبد الله بن رواحة : «لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم» وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح ، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياء وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم ، وقيل : للناس مطلقا ، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين ، والكفرة المتمردين (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا. ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل. ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل لا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل.

وقيل : يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى ، وهذه الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون ، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانا ، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف ، والسباق والسياق لا يشعران به أصلا وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، والضمير المنصوب في (فَعَلُوهُ) للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه ، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف ـ بأو ـ لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين ، وقول الإمام الرازي : إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة ، و (قَلِيلٌ) لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في (فَعَلُوهُ) ، وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف ، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا ، و ـ من ـ في (مِنْهُمْ) حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا ، وقال الطيبي : إنها بيان للضمير في ـ فعلوا ـ كقوله تعالى : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) [المائدة : ٧٣] على التجريد وليس بشيء ، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار ، فلا يحمل القرآن عليه ـ كما يشير إليه كلام الزجاج ـ حيث قال : النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب : لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى ، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي ، وقيل : بل يكون إجماعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة ، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه.


ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به ، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب ـ «أن اقتلوا» ـ بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين ، و (أَوِ اخْرُجُوا) بضم الواو للاتباع ، والتشبيه بواو الجمع في نحو (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة : ٢٣٧] ، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل ، والباقون بضمهما وهو ظاهر ، و (أَنِ) كيفما كانت نونها إما مفسرة ـ لأنا كتبنا ـ في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه ، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في ـ نطقت الحال بكذا ـ حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قد يريدون به دل ، وهو يتعدى بعلى.

وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا : إنه بمعنى أو حينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي ما يؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد إلى حكمه ظاهرا وباطنا (لَكانَ) فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) عاجلا وآجلا (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] ، وقيل : معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة ، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الآخرة.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ) لأعطيناهم (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا (أَجْراً) ثوابا (عَظِيماً) لا يعرف أحد مبدأه ولا يبلغ منتهاه ، وإنما ذكر من لدنا تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم ، وجوز أن يكون حالا من (أَجْراً) والواو للعطف و ـ لآتيناهم ـ معطوف على لكان خيرا لهم لفظا و (إِذاً) مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون : إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وما ذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل : (وَإِذاً) لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظا ومعنى ، وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه ، وإظهار (لَوْ) ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول ، والمراد بالجواب في قولهم جميعا : إن إذا حرف جواب دائما أنها لا تكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ ، أو مقدر سواء كان شرطا ، أو كلام سائل ، أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها ، أو الغالب إلا ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره ، وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام ، وزعم الطيبي أن ما أشرنا إليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه ـ وهو توهم منشؤه الغفلة عن المراد ـ كالذي زعمه العلامة الثاني ، فتدبر (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو المراتب ـ بعد الإيمان ـ التي تفتح أبوابها للعاملين ، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» ، وقال الجبائي : المعنى ولهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) بالانقياد لأمره ونهيه (وَالرَّسُولَ) المبلغ ما أوحي إليه منه باتباع شريعته ، والرضا بحكمه ، والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم ، وأرفع ما تمتد إليه أعناق أمانيهم ، وتشرئب إليه أعين عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا ، ومتضمن لتفسير ما أبهم وتفصيل ما أجمل في جواب الشرطية السابقة (وَمَنْ) شرطية وإفراد ضمير (يُطِعِ) مراعاة للفظ ، والجمع في قوله سبحانه (فَأُولئِكَ) مراعاة للمعنى أي فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا.

(مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه (مِنَ النَّبِيِّينَ) بيان للمنعم عليهم فهو حال


إما من (الَّذِينَ) أي مقارنيهم حال كونهم (مِنَ النَّبِيِّينَ) وإما من ضميره والتعرض لمعية الأنبياء دون نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم ، أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء المقدسي وحسنه قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) ، إلخ ، وروي مثله عن ابن عباس.

وقال الكلبي : إن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه ، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وعن مسروق «إن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت» وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم ، وقد نقل الشعراني عن مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره أنه قال : «فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق» ثم عطف عليهم على سبيل التدلي قوله سبحانه :

(وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) فالمنازل أربعة بعضها دون بعض : الأول منازل الأنبياء وهم الذين تمدهم قوة إلهية وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب ، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) [النجم : ١٢] ، والثاني منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم‌السلام في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد ، وإياه عنى علي كرم الله تعالى وجهه حيث قيل له : هل رأيت الله تعالى؟ فقال : ما كنت لأعبد ربا لم أره ، ثم قال : لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، والثالث منازل الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين ، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال من قال : كأني انظر إلى عرش ربي بارزا ، وإياه قصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «اعبد الله تعالى كأنك تراه» ، والرابع منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة وإياه قصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قاله الراغب ونقله الطيبي وغيره ، ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس‌سره عنه «أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة : نبوة وقطب مدارها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صديقية وقطب مدارها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه ، ثم ولاية وقطب مدارها علي كرم الله تعالى وجهه ، وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال : إنه رضي الله تعالى عنه قد نال حظا من رتبة الشهادة ، وحظا من رتبة الولاية ، وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى.

وأنا مستعينا بالله تعالى ، ومستمدا من القوم قدس الله تعالى أسرارهم أقول : إن الولاية هي المحيطة العامة والفلك الدائر والدائرة الكبرى ، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة : الصنف الأول الأنبياء ، والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم ولا بحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون : إن النبوة عامة وخاصة والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة أعني نبوة التشريع وهي مقام خاص في الولاية.

وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الإطلاق قد انسد ،


وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدس‌سره أنه قال : ـ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا ـ فإن معنى قوله : ـ أوتيتم اللقب ـ أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي ، وإن كانت النبوة العامة أبدية ، وقوله : وأوتينا ما لم تؤتوا على حد قول الخضر لموسى عليه‌السلام ـ وهو أفضل منه ـ يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت ، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام.

والصنف الثاني الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد ، أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة ، أو نظرا لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية ـ كما قال حجة الإسلام وغيره ـ مقام ، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق ، وأثبت الشيخ الأكبرقدس‌سره مقاما بينهما سماه مقام القربة ، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه المشار إليه في الحديث «فليس بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلا» لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان ، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول.

والصنف الثالث الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين ، وهم أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهيّ وعناية أزلية فإن بعث الله تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه : إن ذلك قربة إليه من حيث ـ قال الله سبحانه ، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده ـ فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة ، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا ، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين : وجه التوحيد ووجه القربة ، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان ، والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا ، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعند ما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر ، والصنف الرابع الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح ، ولا في شهادته فهو صالح ، ولا في توبته فهو صالح ، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه ، ويجوز رفعه ، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما ، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا ، ومن هنا قيل : إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد.


هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم ، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره ، مولانا الشيخ قدس‌سره فتدبر ، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة ـ كالسكير ـ بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال ، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وأن الشهداء جمع شهيد ، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين ، وقيل : المراد بهم هاهنا ما هو أعم من ذلك ، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا : يا رسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن شهداء أمتي إذا لقليل من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات مبطونا فهو شهيد» وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير ، وقيل : الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان ، وأخرى بالسيف والسنان ، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] وليس بشيء كما لا يخفى ، وأن المراد بالصالحين الصارفين (١) أعمارهم في طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه ، ويقال : الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته.

والمصلح هو الفاعل لما فيه الصلاح قال الطبرسي : ولذا يجوز أن يقال : مصلح في حق الله تعالى دون صالح ، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما ، وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشا ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه ، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره.

وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون ، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر ، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧] وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه ، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل : يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) أي صاحبا ، وهو مشتق من الرفق ، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا ، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مرّ مرارا و (رَفِيقاً) حينئذ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين ، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاء بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى ، وحسنة وقوعه في الفاصلة ؛ أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع ، ويحتمل أن تكون إلى ـ من يطع ـ والجمع على المعنى ف (رَفِيقاً) حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول ـ من ـ عليه كما يجوز في الوجه الأول.

والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق ، وفي الكشاف فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرئ (وَحَسُنَ) بسكون السين يقول المتعجب: حسن

__________________

(١) قوله : (الصارفين) كذا بخطه ا ه مصححه.


الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى.

وفي الصحاح يقال : حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت : حسن الشيء ، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر ، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس ، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما ، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر :

لم يمنع الناس مني ما أردت وما

أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

أراد حسن هذا أدبا فخفف ونقل ، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيها على مكان النقل ، وفي الارتشاف : إن فعل المحول ، ذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، وإجراء أحكامه عليه ، وذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب. وحكى الأخفش الاستعمالين عن العرب ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء ، وظاهره تغاير المذهبين ، وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس ، وفيه معنى التعجب ، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام الشيخين فافهم ، والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلا أو هوى أو حسا ، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر ، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة (ذلِكَ) إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم ، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ ، وقوله سبحانه : (الْفَضْلُ) صفة ، وقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره ، وجوز أبو البقاء أن يكون (الْفَضْلُ) هو الخبر ، و (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع حالا منه ؛ والعامل فيه معنى الإشارة ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا ، أو كائن من الله تعالى لا أن أعمال العباد توجبه (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].

وقيل : وكفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ


عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)(٨٥)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي عدتكم من السلاح ـ قاله مقاتل ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، وقيل : الحذر مصدر كالحذر ، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية ، وليس الأخذ مجازا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء : ١٠٢] إذ التجوز في الإيقاع ، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه ، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم (فَانْفِرُوا) بكسر الفاء ، وقرئ بضمها أي اخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم ، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة ، ثم استعمل فيما ذكر (ثُباتٍ) جمع ـ ثبة ـ وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة ، وقيل : فوق الاثنين ، وقد تطلق على غير الرجال ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :

فأما يوم خشيتنا عليهم

فتصبح خيلنا عصبا ثباتا

ووزنها في الأصل فعلة ـ كحطمة ـ حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من ـ ثبا يثبو ، كعدى يعدو ـ أي اجتمع ، أو ياء من ـ ثبيت ـ على فلان بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها؟ قولان ، وثبة الحوض وسطه واوية ، وهي من ثاب يثوب إذا رجع ، وقد جمع جمع المؤنث ، وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة ، وفي لغة ينصب بالفتح ، وقد جمع أيضا جمع المذكر السالم فيقال : ثبون ، وقد أطرد ذلك فيما حذف آخره وإن لم يستوف


الشروط جبرا له ، وفي ثائه حينئذ لغتان : الضم والكسر ، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي مجتمعين جماعة واحدة ، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة ، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية ، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلا وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة ، أو من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة وأربعمائة ، وما زاد على السرية ـ منسر ـ كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له : جيش إلى أربعة آلاف ، فإن زاد يسمى ـ جحفلا ـ ويسمى الجيش العظيم ـ خميسا ـ وما افترق من السرية ـ بعثا ـ وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة ، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي ليتثاقلن وليتأخرنّ عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ ، والخطاب لعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم ، وجوز أن يكون منقولا لفظا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل ، فيراد (لَيُبَطِّئَنَ) غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبيّ ناسا يوم أحد ، والأنسب (١) بما بعده ، واللام الأولى لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر ، والثانية جواب قسم ، وقيل : زائدة ، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب ، وهو خبري فيه عائد ، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطئ بل هو خلاف الظاهر.

وجوز في ـ من ـ أن تكون موصوفة والكلام في الصفة كالكلام في الصلة ، وهذه الجملة قيل : عطف على (خُذُوا حِذْرَكُمْ) عطف القصة على القصة ؛ وقيل : إنها معترضة إلى قوله سبحانه (فَلْيُقاتِلْ) وهو عطف على (خُذُوا) ، وقرئ «ليبطئن» ، بالتخفيف (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) من العدو كقتل وهزيمة (قالَ) أي ـ المبطئ ـ فرحا بما فعل وحامدا لرأيه (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) بالقعود (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) حاضرا معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيدا ، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة ، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكما ولا يخفى بعده ، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطئ وقوعه (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ) كفتح وغنيمة (مِنَ اللهِ) متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل ، وفي نسبة إصابة الفضل إلى جانب الله تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله تعالى وإن كانت المصيبة فضلا في الحقيقة ، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق ، وأثر نفاقهم فيها أظهر (لَيَقُولَنَ) ندامة على تثبطه وتهالكا على حطام الدنيا وحسرة على فواته ، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول ، وأتى به ماضيا إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد ، وقرأ الحسن ليقولن : بضم اللام مراعاة لمعنى (مِنَ) وذلك شائع سائغ.

وقوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك ، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم ، وقيل : الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن ، أي ليقولن :

__________________

(١) قوله : «والأنسب» بما بعده كذا بخطه ، وتأمله.


مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم ، وقيل : هي من كلام المبطئ داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطئ لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) إلخ ، وغرضه إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكيدها ، وإلى ذلك ذهب الجبائي ، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال : قد أنعم إلخ أي قال : ذلك «كأن لم يكن» إلخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية ، ومثل مستقبح ، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة صريحا متعلق بالأولى وضمنا بهذه ، و (كَأَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف ، وقيل : إنها لا تعمل إذا خففت.

وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب (تَكُنْ) بالتاء لتأنيث لفظ المودة ، والباقون ـ يكن ـ بالياء للفصل ولأنها بمعنى الودّ ، والمنادى في (يا لَيْتَنِي) عند الجمهور محذوف أي يا قومي ، وأبو علي يقول في نحو هذا : ليس في الكلام منادى محذوف بل تدخل ـ يا ـ خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه ، ونصب ـ أفوز ـ على جواب التمني ، وعن يزيد النحوي والحسن (فَأَفُوزَ) بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت ، أو العطف على خبر ليت فيكون داخلا في التمني (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به ، و (يَشْرُونَ) مضارع شرى ، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد ، فإن كان بمعنى ـ يشترون ـ فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق ، والمجاهدة مع المؤمنين ، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد ، وإن كان بمعنى ـ يبيعون ـ فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين ، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا.

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) ولا بدّ ، وفي الالتفات مزيد التفات (أَجْراً عَظِيماً) لا يكاد يعلم كمية وكيفية ؛ وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة ، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه ، ولذا لم يقل : فيغلب ، (أَوْ يَغْلِبْ) وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر ، وفي الآية تكذيب للمبطئ بقوله : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ) إلخ (وَما لَكُمْ) خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام ، و (ما) مبتدأ و (لَكُمْ) خبره ، وقوله تعالى :

(لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار ، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل أي أيّ شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو ـ وهو المروي عن ابن شهاب ـ واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لا سبيلهم ، وفيه أنه وإن كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم : واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم ـ المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين ـ مستضعف جدا ، وإما عطف على سبيل بحذف مضاف ، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين ، ويجوز نصبه بتقدير أعني ، أو أخص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها ، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم


والسين للمبالغة (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج ، أو ضعفهم عن الهجرة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين ، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل ، وإنما ذكر الولدان تكميلا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين ، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال.

ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلا على صحة إسلام الصبي بناء على أنه لو لا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرا لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء ، وقيل : المراد ـ بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول جمع وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية. وقيل : إنه جمع ولد كورل وورلان ، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية.

وفي الصحاح : الوليد الصبي والعبد ، والجمع ولدان ، والوليدة الصبية والأمة ، والجمع ولائد ، فالتعبير ـ بالولدان ـ على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث (الَّذِينَ) في محل جر على أنه صفة للمستضعفين ، أو لما في حيز البيان ، وجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل أي أعني ، أو أخص (الَّذِينَ).

(يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) بالشرك الذي هو ظلم عظيم ، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه ، ولم ينسب الظلم إليها مجازا كما في قوله تعالى : «وكأين من قرية بطرت معيشتها» (١) وقوله سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) إلى قوله عزوجل : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [النحل : ١١٢] لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها الله تعالى (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة ، وكلا الجارين متعلق ـ باجعل ـ لاختلاف معنييهما وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله ، وتقديم اللام على (مِنَ) للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم ، وجوز أن يكون (مِنْ لَدُنْكَ) متعلقا بمحذوف وقع حالا من (وَلِيًّا) وكذا الكلام في قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : المراد ولّ علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا ، ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر ، ففتح مكة على يدي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتولاهم أيّ تولّ ، ونصرهم أيّ نصرة ، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد ، وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها ، وقيل : المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا. وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين ، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الأمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عزوجل (وَإِذا حَكَمْتُمْ

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصحف الشريف (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ...) [القصص : ٥٨].


بَيْنَ النَّاسِ) بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء فاحكموا بالعدل وهو الإفاضة حسب الاستعداد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) بتطهير كعبة تجليه ـ وهو القلب ـ عن أصنام السوي (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم.

وربما يقال : إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب ، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة : فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، ونحن أخذناه من الحي الذي لا يموت ، فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه ، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن فهم بيانه ، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى تعالى ، وليطعه فيما أمر ونهى ، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) أنتم والمشايخ ، وذلك في مبادئ السلوك حيث النفس قوية (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) تعالى «والرسول» فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة ، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة ، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن فيه بحار علوم الحقائق ، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مردود (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من علم التوحيد (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من علم المبدأ والمعاد (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ويخالفوه (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) وهو الطاغوت (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) وهو الانحراف عن الحق (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً) بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك (وَتَوْفِيقاً) أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تقبل عذرهم (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتغالهم بحظوظها (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) بإمداده إياهم بأنوار صفاته (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها.

وقال ابن عطاء في هذه الآية : أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قال بعضهم : أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه ، ألا ترى كيف قال حسان :

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرض محمود وهذا محمد

وقال آخرون : سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن لم يمش تحت قبابه


فليس من الله تعالى في شيء ، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها ، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى ، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكيل مثلا (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم أهل التوفيق والهمم العالية ، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم : أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لما فيه من الحياة الطيبة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) بالاستقامة بالدين (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) وهو كشف الجمال (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو التوحيد (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بما لا يدخل في حيطة الفكر (مِنَ النَّبِيِّينَ) أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم (وَالصِّدِّيقِينَ) الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير دليل ولا توقف (وَالشُّهَداءِ) أهل الحضور (وَالصَّالِحِينَ) أهل الاستقامة في الدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) اسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخلقوا بأخلاقه (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) شدة في السير (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) حيث لم أفعل كما فعلوا (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي حسدا لكم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) دونهم (فَوْزاً عَظِيماً) وأنال ذلك وحدي (وَمَنْ يُقاتِلْ) نفسه (فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) بسيف الصدق (أَوْ يَغْلِبْ) عليها بالظفر لتسلم على يده (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهو الوصول إلينا (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وخلاص المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ) العقول (وَالنِّساءِ) الأرواح (وَالْوِلْدانِ) القوى الروحانية (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) وهي قرية البدن (الظَّالِمِ أَهْلُها) وهي النفس الأمارة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمورنا ويرشدنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس ، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عزوجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه (فَقاتِلُوا) يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك. (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ). جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) [الصف : ٤] وهو سبحانه وليكم ، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها ، وفائدة (كانَ) التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف ، وقيل : هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام ، وقيل : إنها زائدة وليس بشيء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) نزلت كما قال الكلبي : في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا


وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك ، وفي رواية : إني أمرت بالعفو. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). واشتغلوا بما أمرتم به ، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود ، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه ، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض ، وقيل : للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) أي الكفار أن يقتلوهم ، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه ، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على (قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين ، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل : ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه ـ بمقتضى البشرية ـ جماعة منهم ، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى ، و (إِذا) للمفاجأة وهي ظرف مكان ، وقيل : زمان وليس بشيء ، وفيها تأكيد لأمر التعجيب ، و (فَرِيقٌ) مبتدأ ، و (مِنْهُمْ) صفته ، و (يَخْشَوْنَ) خبره ، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا ، والخبر (إِذا) و (كَخَشْيَةِ اللهِ) في موقع المصدر أي خشية كخشية الله ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (يَخْشَوْنَ) ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه ، وقيل ـ وفيه بعد ـ إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم (أَشَدَّ خَشْيَةً) من أهل خشية الله ، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم ، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية ـ على ما قيل بناء على أن (خَشْيَةً) منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية ، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم ، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشدّ ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جدّه ـ على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ـ ويكون كقولك : زيد جدّ جدّا بنصب جدّا على التمييز لكنه بعيد ، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه ، والمعنى ـ يخشون الناس خشية كخشية الله ، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى ـ ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من الله تعالى ، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة ، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل ـ أي يخشون الناس كخشية الناس ، أو يخشون أشدّ خشية ـ على أن الأول مصدر والثاني حال ، وقيل عليه : إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة ؛ وجوز أن يكون (خَشْيَةً) منصوبا على المصدرية و (أَشَدَّ) صفة له قدمت عليه ، فانتصب على الحالية ، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) [يوسف : ٦٤] فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت : الله خير حافظ بالجر ، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال : أشد خشية بالجر ، والقول ـ بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ ـ محل نظر محل نظر ، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور.


وهذا إيراد قوي على ما قيل ، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده فتأمل ، و (أَوْ) قيل : للتنويع ، وقيل للإبهام على السامع ، وقيل : للتخيير ، وقيل : بمعنى الواو ، وقيل : بمعنى بل (وَقالُوا) عطف على جواب ـ لما ـ أي (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) فاجأ بعضهم بألسنتهم ، أو بقلوبهم ، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى ، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) في هذا الوقت.

(لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الأجل المقدر ؛ ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله ، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وقيل : إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم ، فتارة قالوا الجملة الأولى ، وتارة الجملة الثانية ، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى (قُلْ) أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال ، والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي (مَتاعُ الدُّنْيا) أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا (قَلِيلٌ) في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة (وَالْآخِرَةُ) أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال (خَيْرٌ) لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات ، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى ، وإنما قال سبحانه (لِمَنِ اتَّقى) حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف.

وقيل : المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين ، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا ، ولذا قيل : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها ، وقرأ ابن كثير وكثير «ولا يظلمون» بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من.

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من ذكر أولا اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا محل للجملة من الإعراب ، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به ، فمحل الجملة النصب ، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم ، وهذا جوابا للثانية منه ، فكأنه لما قالوا : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ)؟ أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظكم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة ، ولما قالوا : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا)؟! إلخ أجيبوا بأنه (أَيْنَما تَكُونُوا) في السفر ، أو في الحضر (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) لأن الأجل مقدر فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال ، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم ، وقرأ طلحة بن سليمان (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع ، واختلف في تخريجه فقيل : إنه على حذف الفاء كما في قوله ـ على ما أنشده سيبويه. :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان

وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء ، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم ، وقيل : هو مؤخر من تقديم ، وجواب الشرط محذوف أي ـ يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم ـ واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له كما في قوله :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط ، وأجيب بأن الشرط الأول وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا


الإطلاق ، والشرط الثاني لم يعول عليه المحققون ، وقيل : إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيا والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة ـ إن ـ لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن ـ أينما كنتم يدرككم الموت ـ إلا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر ، نعم يرد عليه أن فيه تعسفا إذا لتوهم ـ كما قال ابن المنير ـ أن يكون ما يتوهم هو الأصل ، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل ، وما توهم هنا ليس كذلك ، وقيل : إن (يُدْرِكْكُمُ) كلام مبتدأ و (أَيْنَما تَكُونُوا) متصل ب (لا تُظْلَمُونَ) ، واعترض كما قال الشهاب : بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة ، أما الأول فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن (لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم ، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته ، وأجيب عن الأول بأنه لا مانع من تعميم (وَلا تُظْلَمُونَ) للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود ، وبه ينتظم الكلام ، وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله ـ كما قال الحلبي ـ والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملا على أن (أَيْنَما تَكُونُوا) شرط جوابه محذوف تقديره (لا تُظْلَمُونَ) وما قبله دليل الجواب ، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن ، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد ، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) أي قصور ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج ، وعن السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا ، وقيل : المراد بها بروج السماء المعلومة ، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنها الحصون والقلاع وهي جمع برج وأصله من التبرج وهو الإظهار ، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها (مُشَيَّدَةٍ) أي مطلية بالشيد وهو الجص قاله عكرمة أو مطولة بارتفاع ـ قاله الزجاج ـ فهو من شيد البناء إذا رفعه ؛ وقرأ مجاهد (مُشَيَّدَةٍ) بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥] وقرأ أبو نعيم بن ميسرة (مُشَيَّدَةٍ) بكسر الياء على التجوز ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١ ـ القارعة : ٧] وقصيدة شاعرة ، والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج (وَلَوْ كُنْتُمْ) إلخ ، وقد أطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) نزلت على ما روي عن الحسن وابن زيد في اليهود وذلك أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل ، فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي وقيل : نزلت في المنافقين ، ابن أبيّ وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد ، وقالوا للذين قتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ٩١] فالمعنى إن تصبهم غنيمة قالوا : هي من عند الله تعالى ، وإن تصبهم هزيمة قالوا : هي من سوء تدبيرك ، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وقيل : نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح ، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة وقحطوا ، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية ، وقد شاع استعمالها في ذلك كما شاع استعمالها في الطاعة والمعصية ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، وأيد بإسناد الإصابة إليهما بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل ، وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أمر لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال أي كل


واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة كما سيأتي بيانه.

وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل : ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٣١] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به ـ قاله شيخ الإسلام ـ ومنه يعلم اندفاع ما قيل : إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم ، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بل هو إلى قوله سبحانه : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) إلخ وقوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) أي اليهود والمنافقين المحتقرين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون (حَدِيثاً) أي كلاما يوعظون به وهو القرآن ، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه ، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى ، أو بمعزل من أن يفهموا ـ حديثا ـ مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها ، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل لأحد معه ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر ، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى ، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم ، وإن ما في حيز الأمر ردّ لهذا اللازم ، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وعلى ما ذكرنا ـ ولعله الأولى ـ يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به ، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة : عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ويدخل فيه المذكورون دخولا أولياء ، وفي إجراء الجواب أولا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا بطريق تلوين الخطاب ، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد ، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عزوجل ، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية بعضهم لعقوبة الآخرين ، و (ما) كما قال أبو البقاء : شرطية و «أصاب» بمعنى يصيب والمراد ـ بالحسنة والسيئة ـ هنا ما أريد بهما من قبل ، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود ، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة : «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته» (وَما أَصابَكَ مِنْ) بلية ما من البلايا فهي بسبب


اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها ، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها ـ أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ، وعن أبي صالح مثله ، وقال الزجاج : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود منه الأمة ، وقيل : له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم ؛ والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا ، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية ، والخلاف في الثاني ، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات ، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح ، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات ، وقال بعضهم : يمكن أن يقال : لما جاء قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) بعد قوله سبحانه : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة ، والسيئة على البلية ، ولما أردف قوله عزوجل : و (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة ـ كما روي ذلك عن أبي العالية ـ ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع ، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك : هذا من عند الله تعالى ، وقولك هذا من الله تعالى ؛ بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ؛ ولا يقال : من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه : «إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر.

ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن (ما أَصابَكَ) إلخ على تقرير القول أي (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يقولون (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) إلخ ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض ، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من (حَدِيثاً) على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني (ما أَصابَكَ) إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي (فَمِنْ نَفْسِكَ) ، وزعموا أنه قرئ به ، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم ، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه : (حَدِيثاً) على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن ، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه ، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل : إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.

وفي الكشف أن جملة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ، (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ) دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط ، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما ، وأما الثانية فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الاعتقاد قطعوا أن في اتباعه ـ لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة ـ الخبال والفساد ، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه (فَمِنْ نَفْسِكَ) ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط ، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة ، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة الله تعالى


مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه : (فَمَنْ تَوَلَّى) ثم قال ـ ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي ـ وأن (فَلْيُقاتِلْ) شديد التعلق بسابقه ، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطئ ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي : و (يَقُولُونَ) أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث ، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى ، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.

هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على ما من قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ) وجماعة على ـ لام الجر ـ وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره ، والثاني على الجار دون مجروره ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وأنا كتبتها عليك (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) بيان لجلالة منصبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه ، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف ـ الناس للاستغراق ، والجار متعلق : ب (رَسُولاً) قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا ، و (رَسُولاً) حال مؤكدة لعاملها ، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده ، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من (رَسُولاً) وجوز أيضا أن يكون (رَسُولاً) مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله :

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بشيء ولا أرسلتهم برسول

وإما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله :

على حلفة لا أشتم الدهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام

حيث أراد كما قال سيبويه : ولا يخرج خروجا (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك ، أو على صدقك في جميع ما تدعيه حيث نصب المعجزات ، وأنزل الآيات البينات ، وقيل : المعنى كفى الله تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر ، والالتفات لتربية المهابة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) بيان لأحكام رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان تحققها ، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه ، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه.

وفي بعض الآثار عن مقاتل «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك ، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليه‌السلام؟ فنزلت» فالمراد «بالرسول» نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية ، وقيل : المراد به الجنس ويدخل فيه نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولا أوليا ، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى :

(وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر ، و «من» شرطية وجواب الشرط محذوف ، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها ، ونفى ـ كما قيل ـ كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام ، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف ، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه ، وعليهم


متعلق به وقدم رعاية للفاصلة ، وفي إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ ـ من ـ ومعناها ، وفي العدول عن ـ ومن تولى فقد عصاه ـ الظاهر في المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة ، (وَيَقُولُونَ) الضمير للمنافقين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن والسدي وقيل : للمسلمين الذين حكي عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء (طاعَةٌ) أي أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا ، وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب : سمعا وطاعة لكنه يجوز في مثله الرفع ـ كما صرح به سيبويه ـ للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا من مجلسك وفارقوك (بَيَّتَ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) وهم رؤساؤهم ، والتبييت إما من البيتوتة لأنه تدبير الفعل ليلا والعزم عليه ، ومنه تبييت نية الصيام ويقال : هذا أمر تبيت بليل ، وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه ، وإما من البيت المبني لأنه يسوي ويدبر ، وفي هذا بعد ـ وإن أثبته الراغب لغة ـ والمراد زورت وسوت (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والعدول عن الماضي لقصد الاستمرار ، وإسناد الفعل إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات ؛ والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة ، وتذكيره أو لا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي ، وقرأ أبو عمرو وحمزة (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام لقربهما في المخرج ، وذكر بعض المحققين أن الإدغام هنا على خلاف الأصل والقياس ، ولم تدغم تاء متحركة غير هذه (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي يثبته في صحائفهم ليجازيهم عليه ، أو فيما يوحيه إليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم ـ كما قال الزجاج ـ والقصد على الأول لتهديدهم ، وعلى الثاني لتحذيرهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم ، أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك إليه وثق به في جميع أمورك لا سيما في شأنهم ، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) قائما بما فوض إليه من التدبير فيكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم ، والإظهار لما سبق للإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا كأنه قيل : شهادة الله تعالى لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه؟ فأجاب سبحانه بقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، والفاء للعطف على مقدر أي ـ أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة وأي حجة على المقصود ـ وقيل : المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه (وَلَوْ كانَ) أي القرآن. (مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) كما يزعمون (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى فحيث أطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده ، وإلى هذا يشير كلام الأصم والزجاج ، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا ، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل ـ بحكم العادة ـ من التناقض ، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات ، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين ، وقيل ـ وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه ـ المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته ، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة


لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى.

وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة ، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى ، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز ، وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا إلى مفعولين أولهما (كَثِيراً) ، وثانيهما (اخْتِلافاً) بمعنى مختلفا ، وإليه يشير قوله : لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨] وهو من الكلام المنصف ، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم ، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير ، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا «وجدوا» وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله : لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلّا وبعضا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي ـ وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى ـ لوجدوا فيه الاختلاف المذكور ، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز ـ قاله بعض المحققين ـ وقال بعضهم : لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه ـ إلا أنه لا يخفى بعده ، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد : وجوب النظر في الحجج والدلالات ، وبطلان التقليد ، وبطلان قول من يقول : إن المعارف الدينية ضرورية ، والدلالة على صحة القياس ، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى.

ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل ، وقول من يقول : إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا ، وإما تقرير الأخير ـ على ما في الكشف ـ فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم : ان لو عكس لو لا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة ، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب ، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا ، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول ، وحينئذ لا يتم الاستدلال ، وذكر أن معنى (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة ، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا. وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم إلا بتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الإمام المعصوم ـ كما قال بعض الشيعة ـ (وَإِذا جاءَهُمْ) أي المنافقين ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ ـ أو ضعفاء المسلمين ـ كما روي عن الحسن ، وذهب إليه غالب المفسرين ـ أو الطائفتين كما نقله ابن عطية ـ (أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) أي مما يوجب الأمن والخوف (أَذاعُوا بِهِ) أي أفشوه ، والباء مزيدة ، وفي الكشاف يقال : أذاع الشر وأذاع به ، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو ـ فلان يعطي ويمنع ـ ولما فيه من الإبهام والتفسير ، وقيل : الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه.


والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين ، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يخبرهم به ، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة ، وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة ، وقيل : الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين ، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه ، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) ، وقوله سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر ، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار ، وقيل : الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه ، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل ، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف ـ ولا يخلو عن حسن ـ غير أن روايات السلف على خلافه ، وأيّا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم ، وقال سبحانه : (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي ذلك الأمر الذي جاءهم (إِلَى الرَّسُولِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم كبائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم البصراء في الأمور ، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير.

وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي : المراد بهم أمراء السرايا والولاة ، وعلى الأول المعول (لَعَلِمَهُ) أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايده ، أو لو ردوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ذكر ، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون ، أو (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته ، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطون من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم ، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير ، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن تشرف بالعطف عليه ، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد. وكلمة ـ من ـ إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه ، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال ، ووضع الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى ، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه ـ كالماء من البئر ، والجوهر من المعدن ـ ويقال للمستخرج : نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات ، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لو لا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أولي الأمر (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) وعملتم بآرائكم


الضعيفة ، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى صوب الصواب (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة ، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) تعالى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَرَحْمَتُهُ) بإنزال القرآن ـ كما فسرهما بذلك السدي والضحاك ـ وهو اختيار الجبائي ، ولا يبعد العكس (لَاتَّبَعْتُمُ) كلكم (الشَّيْطانَ) وبقيتم على الكفر والضلالة (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق ، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب ـ كقس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل (١) وأضرابهم ـ فالاستثناء متصل ، وإلى ذلك ذهب الأنباري.

وقال أبو مسلم : المراد بفضل الله تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى ، والمعنى لو لا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) فيما يلقى إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أهل البصائر النافذة ، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا ، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام ، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه ، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا ، وذلك لأن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل الله تعالى عليهم ، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء ما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة ، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى ، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه : لو لا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله ، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر ، نعم ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة ، وزاد التوفيق في البيان ، ويمكن أن يقال أيضا : أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله ، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على البعض لما فيه من التكلف ، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى : (أَذاعُوا بِهِ) ، وروي ذلك عن ابن عباس ـ وهو اختيار المبرد ، والكسائي والفراء والبلخي والطبري ـ واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة.

وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه : (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في

__________________

(١) عد الطبرسي منهم. البراء وأبا ذر. ا ه منه.


البلادة ـ وفيه نظر ـ وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد (إِلَّا) منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض ، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة ، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم ، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى : و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) إلخ ، وقوله سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يشهدان له ، وفي الذي بعده بأن قوله عزوجل : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) [النساء : ٨٣] إلخ ، وقوله جل وعلا : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) يشهد له ، وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة ، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا.

ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين : أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل. ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عزوجل : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك ، وقيل : هي متصلة بقوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) ومعنى (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات ، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقتال وحده ، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يؤاخذ به ، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس ، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل ، بل في ثبوته فقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا ، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة : أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي ، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل ـ قاتل ـ أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك ، وقرئ «لا تكلف» بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك ، وقيل : هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد ، ولا نكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف ، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك ، وقيل : لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك.

والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين ، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به ، فالتفعيل للسلب والإزالة ـ كقذيته وجلدته ـ ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ) نكاية (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومنهم قريش و (عَسَى) من الله تعالى ـ كما قال الحسن وغيره ـ تحقيق ، وقد فعل سبحانه ما وعد به ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه ، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن معه سالمين (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من الذين كفروا (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي تعذيبا ، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم ، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة ، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة ، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد ، وقوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ) أي حظ وافر (مِنْها) أي من ثوابها ، جملة مستأنفة


سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب ، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي.

وقال علي بن عيسى : إنه سبحانه لما قال (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك ، وليس بشيء كما لا يخفى ، و ـ الشفاعة ـ هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية ، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا ، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه ، و ـ الحسنة ـ منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى ، روى مسلم وغيره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له» وقال الملك : ولك مثل ذلك ، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لا أكاد أسوغه ، وإن كانت فيه منفعة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.

وتفسيرها بالدعاء ـ كما نقل عن الجبائي ـ أو بالصلح بين اثنين ـ كما روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ لعله من باب التمثيل لا التخصيص ، وكون التحريض الذي فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو ، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة ؛ وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا ، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية ، والحسنة منها ما كان في طاعة ، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد ، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.

(وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ، ففي الخبر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع» واستثني من الحدود القصاص ، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي نصيب من وزرها ، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة ، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة ، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن ، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة ، والكفل هو المثل المساوي ، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف ؛ والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها ، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده ، وقال بعضهم : إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي مقتدرا ـ كما قاله ابن عباس ـ حين سأله عنه نافع بن الأزرق ، واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري :

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا

وروي ذلك عن جماعة من التابعين ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت ، فإنه يقوي البدن ويحفظه ، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات ، وأصله مقوت فأعلّ كمقيم ؛ والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير.


وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٩٣)

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) ترغيب كما قال شيخ الإسلام : في فرد شائع من الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق ، وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة ، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عزوجل ، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي : إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب ـ وقد تقدم ذكر القتال ـ عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام ، والتحية مصدر حيى أصلها تحيية ـ كتتمية ، وتزكية ـ وأصل الأصل تحييي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها ، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب : الدعاء بالحياة وطولها ، ثم استعملت في كل دعاء ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا تقول : حياك الله تعالى ، ثم استعملها الشرع في السلام ، وهو تحية الإسلام قال الله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وقال سبحانه : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النور : ٦١] ، وفيه على ما قالوا : مزية على قولهم : حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات ، وربما تستلزم طول الحياة ، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك ، ورب حياة الموت خير منها.


ألا موت يباع فأشتريه

فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حرّ

تصدق بالممات على أخيه

وقال آخر :

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرجاء

ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين كما قال الحسن وعطاء ، أو مطلقا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أي بتحية أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول ، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية ، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير ـ أن رجلا سلم عليه فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة : ما ترك لنا فضلا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته ـ وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار ، ونيل المنافع ودوامها ونمائها ، وقيل : يزيد المحيي إذا جمع المحيي الثلاثة له ، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال : كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت : السلام عليكم فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى ، ثم أتيته مرة أخرى فقلت : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته ، ولا يتعين ما ذكر للزيادة ، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته ، فما في الدر من أن المراد لا يزيد على ـ وبركاته ـ غير مجمع عليه (أَوْ رُدُّوها) أي حيوا بمثلها ؛ و (أَوْ) للتخيير بين الزيادة وتركها ، والطاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب ، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل ، فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال : السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة» وورد في معناه غير ما خبر.

وقد نصوا على أن جواب ـ السلام ـ المسنون واجب ، ووجوبه على الكفاية ، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم لأن الحق لله تعالى ، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود ، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه ـ يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزي عن الجلوس أن يردّ أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب. وفي المبتغى يسقط عن الباقين بر : صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته ، وقيل : لا ، وظاهر النهاية ترجيحه ـ وعليه الشنيعة ـ قالوا : ولو رد صبي أو لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثمّ الدعاء ، وهو منه أقرب للإجابة ، وهنا الأمن ، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزئ تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة ـ ويسقط بردّ العجوز.

وفي رد الشابة قولان : عندنا ، وعند الشافعية لو ردّت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك ، وفي تحفتهم ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج ، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى ، ويلزمها في هذه الصورة ردّ سلام الرجل ، أما مشتهاة


ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها ردّ سلام أجنبي ، ومثله ابتداؤه ، ويكره له ردّ سلامها ومثله ابتداؤه أيضا ، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده ؛ والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا ، ولو سلم على جمع نسوة وجب ردّ إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذ ، ومن ثمّ حلت الخلوة بامرأتين ، والظاهر أن الأمر هنا كالرجل ابتداء وردّا ، وفي الدر المختار لو قال : السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره ، ولو قال : يا فلان أو أشار لمعين سقط ، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم ، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار ، ولا بدّ في الابتداء والردّ من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع ، نعم إن مرّ عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه ، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير ، والمروي عن الإمام رضي الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه ، واستظهر أنه لا بد من سماع جميع الصيغة ابتداء وردا ، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر ، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ ، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله : وعليك كما في الخانية ، وروي ذلك مرفوعا في الصحيح ، ولا يسلم ابتداء على كافر لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» رواه البخاري ، وأوجب بعض الشافعية ردّ سلام الذمي بعليك فقط ، وهو الذي يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي : إنه يسن ولا يجب ، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر ، وعليك السلام ولا يقل رحمة الله تعالى فإنها استغفار ، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك ـ فقيل له فيه فقال : أليس في رحمة الله تعالى يعيش.

وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية : إن ـ حيوا بأحسن منها ـ للمسلمين (أَوْ رُدُّوها) لأهل الكتاب ، وورد مثله عن قتادة ، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذ بالسلام ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي ، والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد ـ كما قال الله تعالى عليك ـ أي هو عدوك ، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم ، أو يعطي الجزية ذليلا ، وفي الأشباه النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء ، بقي الخلاف في الإتيان بالواو عند الردّ له ، وعامة المحدثين ـ كما قال الخطابي ـ بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو ، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه ، والدخول فيما قال ، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي الله تعالى عنه ، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة أو الغضب وعليكم ما قلتم ولا يخفى خفاء ذلك ، وإن أيده بما ظنه شيئا. فالأولى ما في الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه ، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام : «السام عليك ، بل عليكم السام واللعنة ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تكوني فاشحة ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا؟! قال : رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» ويجب في الردّ على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم ، بل العلم هو المدار ، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما ، وتكفي إشارة الأخرس ابتداء وردا ويجب ردّ جواب كتاب التحية كردّ السلام.

وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها ـ إن لم يرد لفظا ـ الفور فيما يظهر ، ويحتمل خلافه ، ولو قال لآخر : أقرئ فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة ، ويجب أداؤها ، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي


بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا ، وكذا إن سكت أخذا من قولهم : لا ينسب لساكت قول ، ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه ، وإذا قلنا بالوجوب ، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصى له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه ، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب ، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل : قل له فلان يقول : السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي ، والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الردّ على المبلغ والبداءة ، فيقول : وعليك وعليه‌السلام للخبر المشهور فيه.

وأوجبوا ردّ سلام صبي أو مجنون مميز ، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره ، وقول المجموع : لا يجب ردّ سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي ، ولا يجب ردّ سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره ، وإن شرع سلامه ، وكذا لا يجب ردّ سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطي ، ولا ردّ سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل ، وإن لم يرد ، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام ، والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير ، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم ، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره ، وصرح في الضياء بعدم وجوب الرد لو قال المسلم : السلام عليك بجزم الميم ، وكأنه على ما في تحفتنا لمخالفة السنة ، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا.

وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداء وجوابا عليك السلام وعكسه ، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين ، وأنه يجزئ سلاما عليكم ، وكذا سلام الله تعالى ، بل وسلامي عليك وعكسه ، واستظهر إجزاء سلمت ، وأنا مسلم عليك ، ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزئ في التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوهما ، ولا بأس فيما قالوه عندي ، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ ، وقال بعض الجماعة : السلام معرفة تحية الأحياء ، ونكرة تحية الموتى ، ورووا في ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون.

وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم ، والأفضل في الرد واو قبله ، ويجزئ بدونه على الصحيح ، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة ، وإن نوى إضمار الآخر ، وفي الكشف ما يؤيده ، والخبر الذي فيه الاكتفاء ـ بو عليك ـ في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة ، بل المراد منه أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب بمثل ما سلم به عليه ، ولم يزد كما يشعر به آخره ، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه ، ثم رد على الرجل السلام» والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك ، ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداء عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن «إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام ، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء ، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل ـ كإبراء المعسر أفضل من إنظاره ـ ويؤخذ من قولهم : ابتداء أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به ، نعم يحتمل في تكلم سهوا أو جهلا ، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه ، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان ، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام ويسن إظهار البشر عنده ،


فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه» وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد ، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرا لمن معه من الملائكة ، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم ، ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإن السكنة تردّ عليه ، وفي الآكام إن في كل بيت سكنة من الجن ، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير ، وماش على واقف أو مضطجع ، وراكب عليهم ، وراكب فرس على راكب حمار ، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب ، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير ، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع ، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده ـ كما قيل ـ وإلا لزم كلّا الرد ، وكره أصحابنا السلام في مواضع ، وفي النهر عن صدر الدين الغزي :

سلامك مكروه على من ستسمع

ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع

مصلّ وتال ذاكر ومحدث

خطيب ومن يصغي إليهم ويسمع

مكرر فقه جالس لقضائه

ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا

مؤذن أيضا مع مقيم مدرس

كذا الأجنبيات الفتيات أمنع

ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم

ومن هو مع أهل له يتمتع

ودع كافرا أيضا ومكشوف عورة

ومن هو في حال التغوط أشنع

ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا

وتعلم منه أنه ليس يمنع

كذلك أستاذ مغنّ مطير

فهذا ختام والزيادة تنفع

فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم ، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد ، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح ، وكرهوه لقاضي الحجة ونحوه كالمجامع ، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ.

ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع ، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة ، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل ، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي ، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر ، وأوجب الرد عليه ، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداء ، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز ، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك ، وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه ، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه ، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة ، وعلى ملب ، وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض ، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر ، وقال كثيرون : حرام للحديث الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه ، وعن التزام الغير ، وتقبيله ، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميا ، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.

وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لا سيما لنحو غني لحديث «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي الله تعالى


عنهما ، ولا يعدّ ـ نحو صبحك الله تعالى بالخير ، أو قواك الله تعالى ـ تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابا ، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك ، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته ، فقال الراد : عليك السلام فقد أجزأه لكنه خلاف الأولى ، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن ، والجواب بالمثل ، وليس ما ذكر شيئا منهما. وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين ، وقيل : المراد بها الهدية والعطية ، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب ـ وهو قول قديم للشافعي ـ ونسب أيضا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وعلل بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها ، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي :

قفي تغرم الأولى من اللحظ مقلتي

بثانية والمتلف الشيء غارمه

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية : أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافه ، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه ، ولعل مراده رحمه‌الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك ، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدي إلى الشخص مما تطيب به حياته (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم ؛ ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولا أوليا.

هذا «ومن باب الإشارة في هذه الآيات» (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ) أنفسهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ) عقولهم وينازعونها (فِي سَبِيلِ) طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) فوليه ضعيف ، عاذ بقرملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) أي قال لهم المرصدون (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) عن محاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية (وَآتُوا الزَّكاةَ) والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح ، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) حين أداء ما أمروا بأدائه (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لضعف استعدادهم (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) فلا يستطيعون هجرهم ، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم ، أو إعراضهم عنهم ، وقالوا بلسان الحال : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) الآن (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الموت الاضطراري ، فالمنية ولا الدنية ، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقة مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة ، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم ـ ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون ـ (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى الله تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) وتفارقون ولا بد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي أجساد قوية :

فمن يك ذا عظم صليب رجا به

ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي المحجوبين (حَسَنَةٌ) أي شيء يلائم طباعهم (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيضيفونها إلى


الله تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي شيء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك في نفس الأمر (يَقُولُوا) لضيق أنفسهم (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الإيمان الحقيقي في قلوبهم (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهذا دعاء لهم إلى توحيد الأفعال ، ونفى التأثير عن الأغيار ، والإقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) المحجوبين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) لاحتجابهم بصفات النفوس وارتياح آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي ، ثم زاد سبحانه في البيان بقوله عزوجل : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) صغرت أو عظمت (فَمِنَ اللهِ) تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلي (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) حقرت أو جلت (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب ، لا من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ذلك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرآة الحق يتجلى منه للخلق ، وقال بعض العارفين ، إن باطن الآية إشارة إلى عين الجمع (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ليرشدهم إلى أنك رسول الله تعالى ، وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث أنه مشتمل على الفرق والجمع ، وقيل : ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره ، أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن الله جل شأنه تجلى لهم فيه (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي لوجدوا الكثير منه مختلفا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته ، أو القول بأنه لا يصلح أن يكون مجلى لله تعالى ، (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) إخبار عمن في مبادي السلوك أي إذا ورد عليهم شيء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي عرضوه (إِلَى الرَّسُولِ) إلى ما علم من أحواله ، وما كان عليه (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم المرشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية (لَعَلِمَهُ) أي لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لا يذاع (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) ويتلقونه منهم أي من جهتهم وواسطة فيوضاتهم ، والمراد بالموصول الرادون أنفسهم ، وحاصل ذلك أنه لا ينبغي للمريد إذا عرض له في أثناء سيره وسلوكه شيء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لأحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فإن في إفشائه قبل ذلك ضررا كثيرا (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها الناس بالواسطة العظمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَرَحْمَتُهُ) بالمرشدين الوارثين (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه (إِلَّا قَلِيلاً) وهم السالكون بواسطة نور إلهي أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة ، قيل : وهم على قدم الخليل عليه الصلاة والسلام (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي قاتل من يخالفك وحدك (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) على أن يقاتلوا من يحول بينهم وبين ربهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا أوصاف الربوبية (وَاللهُ أَشَدُّ) منهم (بَأْساً) أي نكاية (وَأَشَدُّ) منهم (تَنْكِيلاً) أي تعذيبا (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) أي من يرافق نفسه على الطاعات (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي حظ وافر من ثوابها (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) أي من يرافق نفسه على معصية (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي مثل مساو من عقابها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) فيوصل الثواب والعقاب إلى مستحقيهما (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) تعليم لنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وقيل : المعنى إذا منّ الله تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه إلى الله تعالى على يد المستحقين ، والله تعالى خير الموفقين.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، وقوله سبحانه : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) جواب قسم محذوف أي


والله ليجمعنكم ، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، أو خبر ثان ، أو هي الخبر ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض ، واحتمال ـ أن تكون خبرا بعد خبر لكان ، وجملة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها وما بعدها ـ بعيد ، ثم الخبر وإن كان هو القسم وجوابه لكنه في الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبرا ، ولا أن جواب القسم من الجمل التي لا محل لها من الإعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لا امتناع من اعتبار المحل وعدمه باعتبارين ، والجمع بمعنى الحشر ، ولهذا عدى بإلى كما عدى الحشر بها في قوله تعالى : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : ١٥٨] ، وقد يقال : إنما عدى بها لتضمينه معنى الإفضاء المتعدى بها أي ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة ، أو مفضين إليه ، وقيل : إلى بمعنى في كما أثبته أهل العربية ليجمعنكم في ذلك اليوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في يوم القيامة ، أو في الجمع ، فالجملة إما حال من اليوم ، أو صفة مصدر محذوف أي جمعا «لا ريب فيه» والقيامة بمعنى القيام ، ودخلت التاء فيه للمبالغة ـ كعلامة ، ونسابة ـ وسمى ذلك اليوم بذلك لقيام الناس فيه للحساب مع شدة ما يقع فيه من الهول ، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة ، وهي أنه تعالى لما ذكر (إِنَّ اللهَ) تعالى (كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) تلاه بالإعلام بوحدانيته سبحانه والحشر والبعث من القبور للحساب بين يديه ، وقال الطبرسي : وجه النظم أنه سبحانه لما أمر ونهى فيما قبل بين بعد أنه لا يستحق العبادة سواه ليعملوا على حسب ما أوجبه عليهم ، وأشار إلى أن لهذا العمل جزاء ببيان وقته ، وهو يوم القيامة ليجدوا فيه ويرغبوا ويرهبوا (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) الاستفهام إنكاري ، والتفضيل باعتبار الكمية في الأخبار الصادقة لا الكيفية إذ لا يتصور فيها تفاوت لما أن الصدق المطابقة للواقع وهي لا تزيد ، فلا يقال لحديث معين : إنه أصدق من آخر إلا بتأويل وتجوز والمعنى لا أحد أكثر صدقا منه تعالى في وعده وسائر أخباره ويفيد نفي المساواة أيضا كما في قولهم : ليس في البلد أعلم من زيد ، وإنما كان كذلك لاستحالة نسبة الكذب إليه سبحانه بوجه من الوجوه ، ولا يعرف خلاف بين المعترفين بأن الله تعالى متكلم بكلام في تلك الاستحالة ، وإن اختلف مأخذهم في الاستدلال.

وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب في كلام الرب تعالى بأن الكلام من فعله تعالى ، والكذب قبيح لذاته ـ والله تعالى لا يفعل القبيح ـ وهو مبني على قولهم : بالحسن والقبح الذاتيين وإيجابهم رعاية الصلاح والأصلح ، وأما الأشاعرة فلهم ـ كما قال الآمدي ـ في بيان استحالة الكذب في كلامه تعالى القديم النفساني مسلكان :

عقلي وسمعي ، أما المسلك الأول : فهو أن الصدق والكذب في الخبر من الكلام النفساني القديم ليس لذاته ونفسه بل بالنظر إلى ما يتعلق به من المخبر عنه فإن كان قد تعلق به على ما هو عليه كان الخبر صدقا ، وإن كان على خلافه كان كذبا ، وعند ذلك فلو تعلق من الرب سبحانه كلامه القائم على خلاف ما هو عليه لم يحل إما أن يكون ذلك مع العلم به أولا لا جائز أن يكون الثاني ، وإلا لزم الجهل الممتنع عليه سبحانه من أوجه عديدة ، وإن كان الأول فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم به الإخبار عنه على ما هو به وهو معلوم بالضرورة ، وعند ذلك فلو قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حال كونه عالما به مخبرا عنه على ما هو عليه لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة ، وبطلانه معلوم بالضرورة.

واعترض بأنا نعلم ضرورة من أنفسنا إنا حال ما نكون عالمين بالشيء يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب ، ونعلم كوننا كاذبين ، ولو لا إنا عالمون بالشيء المخبر عنه لما تصور علمنا بكوننا كاذبين ، وأجيب بأن الخبر الذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللساني ، وأما النفساني فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حال الحكم به ، وأما المسلك الثاني : فهو أنه قد ثبت صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلالة المعجزة القاطعة فيما هو رسول فيه على ما بين في محله.


وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام الله تعالى صدق ، وأن الكذب عليه سبحانه محال ، ونظر فيه الآمدي بأن لقائل أن يقول : صحة السمع متوقفة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه متوقف على استحالة الكذب على الله تعالى من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازل منزلة التصديق من الله سبحانه له في دعواه ، فلو جاز الكذب عليه جل شأنه لأمكن أن يكون كاذبا في تصديقه له ولا يكون الرسول صادقا ، وإذا توقف كل منهما على صاحبه كان دورا لا يقال إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على الله تعالى ليكون دورا فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق والكذب ، بل على إظهار المعجزة على وفق تحديه ، وهو منزل منزلة الإنشاء ، وإثبات الرسالة وجعله رسولا في الحال كقول القائل : وكلتك في أشغالي ، واستنبتك في أموري ، وذلك لا يستدعي تصديقا ولا تكذيبا إذ يقال حينئذ : فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدي بناء على جوازه على أصول الجماعة لم تكن المعجزة دالة على ثبوت رسالته إجماعا ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها. وليس كذلك ، وكون الإنشاء مشروطا بالتحدي بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات ، وبتقدير أن يكون كذلك غايته ثبوت الرسالة بطريق الإنشاء ، ولا يلزم منه أن يكون الرسول صادقا في كل ما يخبر به دون دليل عقلي يدل على صدقه فيما يخبر به ، أو تصديق الله تعالى له في ذلك ، ولا دليل عقلي يدل على ذلك ، وتصديق الله تعالى له لو توقف على صدق خبره عاد ما سبق ، فينبغي أن يكون هذا المسلك السمعي في بيان استحالة الكلام اللساني وهو صحيح فيه ، والسؤال الوارد ثم منقطع هنا فإن صدق الكلام اللساني وإن توقف على صدق الرسول لكن صدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللساني بل على الكلام اللساني نفسه فامتنع الدور الممتنع ، وفي المواقف : الاستدلال على امتناع الكذب عليه تعالى عند أهل السنة بثلاثة أوجه : الأول أنه نقص والنقص ممنوع إجماعا ، وأيضا فيلزم أن يكون نحن أكمل منه سبحانه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا ، والثاني أنه لو اتصف بالكذب سبحانه لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق ، فإن ما ثبت قدمه استحال عدمه واللازم باطل ، فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه ، وهذان الوجهان إنما يدلان على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى يكون صادقا ، ثم أتى بالوجه الثالث دليلا على استحالة الكذب في الكلام اللفظي والنفسي على طرز ما في المسلك الثاني ؛ وقد علمت ما للآمدي فيه فتدبر جميع ذلك ليظهر لك الحق.

(فَما لَكُمْ) مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين ، وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم ، وقوله سبحانه : (فِي الْمُنافِقِينَ) يحتمل ـ كما قال السمين ـ أن يكون متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : (فِئَتَيْنِ) أي فما لكم تفترقون في المنافقين ، وأن يكون حالا من (فِئَتَيْنِ) مفترقين في المنافقين ، فلما قدم نصب على الحال ، وأن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وفي انتصاب (فِئَتَيْنِ) وجهان ـ كما في الدر المصون ..

أحدهما أنه حال من ضمير (لَكُمْ) المجرور ، والعامل فيه الاستقرار ، أو الظرف لنيابته عنه ، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها ، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه ، وثانيهما ـ وهو مذهب الكوفيين ـ أنه خبر كان مقدرة أي ما لكم في شأنهم كنتم فئتين ، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] وأما ما قيل على الأول : من أن كون ذي الحال بعضا من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له ، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها ، فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب ، والمراد إنكار أن


يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين ، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق.

أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : هم قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف فيه المسلمون فقائل يقول : هم منافقون وقائل يقول : هم مؤمنون ، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم.

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : «هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا» ، وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد ، وغيرهم عن زيد بن ثابت «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ومسلم فيهم (فِئَتَيْنِ) فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا فأنزل الله تعالى (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) الآية كلها» ويشكل على هذا ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعلمه ، وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يسارا راعى رسول الله ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات ، ويرده كما قال شيخ الإسلام ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين ، وقيل غير ذلك. (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق ، وقيل : من ضمير المخاطبين والرابط الواو ، وقيل : مستأنفة والباء للسببية ، وما إما مصدرية ، وإما موصولة ، وأركس وركس بمعنى واختلف في معنى الركس لغة ، فقيل : الرد ـ كما قيل ـ في قول أمية بن أبي الصلت :

فأركسوا في جحيم النار إنهم

كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا

وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين. أو نحو ذلك ، أو بسبب كسبهم ، وقيل : هو قريب من النكس ، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمي منكسا في هوة قلما يخلص منها ، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر ، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران.

وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر (أَرْكَسَهُمْ) بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال ، ومنه :

وأركستني عن طريق الهدى

وصيرتني مثلا للعدا

وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : المعنى حبسهم في جهنم ، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم ، وابن المنذر ، عن قتادة أهلكهم ، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد ، وروي عن عبد الله وأبيّ أنهما قرءا ـ ركسوا ـ بغير ألف ، وقد قرأ ـ ركّسهم ـ مشددا.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك ، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى ، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها ، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار ، وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة ، وحمله على العموم ، والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا ـ


كما زعمه أبو حيان ـ ليس بشيء ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلا عن إمكان نفسه ، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة ، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر ، ويبعده قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائنا من كان ، ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) من السبل فضلا عن أن تهديه إليه ، والخطاب في (تَجِدَ) لغير معين ، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار بعدم الوجدان للكل على سبيل التفصيل ، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي ، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء ، وجعل السبيل بمعنى الحجة ، وأن المعنى من يجعله الله تعالى في حكمه ضالا فلن تجد له في ضلالته حجة ـ كما قال جعفر بن حرب ـ ليس بشيء كما لا يخفى ، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية ، أو حال من فاعل (تُرِيدُونَ) أو (تَهْدُوا) ، والرابط الواو.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم ، و (لَوْ) مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا ؛ وقوله (كَما كَفَرُوا) نعت لمصدر محذوف ، وما مصدرية أي كفرا مثل كفرهم ، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه ، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالا لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلا على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق ، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم ، وقوله تعالى : (فَتَكُونُونَ سَواءً) عطف على (لَوْ تَكْفُرُونَ) داخل معه في حكم التمني أي (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) فتكونون مستوين في الكفر والضلال ، وجوز أن تكون كلمة (لَوْ) على بابها ، وجوابها محذوف كمفعول «ود» أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا (فَتَكُونُونَ سَواءً) لسروا بذلك (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) الفاء فصيحة ، وجمع (أَوْلِياءَ) مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليا أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم.

(حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا لغرض من أغراض الدنيا ، وأصل السبيل الطريق ، واستعمل كثيرا في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة.

وقد نص في التيسير على أنها كانت فرضا في صدر الإسلام ، وللهجرة ثلاث استعمالات : أحدهما الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وهو الاستعمال المشهور ، وثانيها ترك المنهيات ، وثالثها الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة. من قال : إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ (فَخُذُوهُمْ) إذا قدرتم عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا ، وقيل : المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة.

(وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) استثناء من الضمير في قوله سبحانه (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) أي إلا الذين يصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مدلج.


أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت : أنشدك النعمة ، فقالوا : مه ؛ فقال : دعوه ما تريد؟ قلت : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد خالد فقال : اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله تعالى (وَدُّوا) حتى بلغ (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر ولا يجوز أن يكون استثناء من الضمير في (لا تَتَّخِذُوا) وإن كان أقرب لأن اتخاذ الولي منهم حرام مطلقا.

(أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على الصلة أي والذين (جاؤُكُمْ) كافين من قتالكم وقتال قومهم ، فقد استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان : من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين ؛ ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين ، أو عطف على صفة قوم كأنه قيل : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) معاهدين ، أو إلى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم ، والأول أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لمنع القتال سببان : الاتصال بالمعاهدين ، والاتصال بالكافين وعلى الثاني يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتي : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) إلخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضيا للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال ، فإن قيل : لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضا لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين ، والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول في حكمهم ، وقوله سبحانه : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم ، أجيب : بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجري على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريرا وتوكيدا ، وقال الإمام : جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سببا لترك التعرض لأنه سبب بعيد على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له ، وقرأ أبي (جاؤُكُمْ) بغير أو على أنه استئناف وقع جوابا لسؤال كأنه قيل : كيف كان الميثاق بينكم وبينهم؟ فقيل : (جاؤُكُمْ) إلخ ، وقيل : يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين ، ومن أين علم ذلك ، وليس بشيء ، أو على أنه صفة بعد صفة لقوم ، أو بيان ليصلون ، أو بدل منه ، وضعف أبو حيان البيان بأنه لا يكون في الأفعال ، والبدل بأنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملا عليه ، وأجيب بأن الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة ، وعلى هذه العزيمة بيانا لاتصالهم بالمعاهدين ، أو بدلا منه كلّا أو بعضا أو اشتمالا وكون ذلك لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني ، وقيل : هو معطوف على حذف العاطف ، وقوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال بإضمار قد ويؤيده قراءة الحسن ـ حصرة صدورهم ـ وكذا قراءة ـ حصرات ، وحاصرات ـ واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد.

وقيل : هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاءوا» أي جاءوكم قوما (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) ولا حاجة حينئذ إلى تقدير قد ، وما قيل : إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند


حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم. وقيل : بيان لجاءوكم وذلك كما قال الطيبي لأن مجيئهم غير مقاتلين و (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أن يقاتلوكم بمعنى واحد ، وقال العلامة الثاني : من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء ، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء ، وقيل : بدل اشتمال من (جاؤُكُمْ) لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره ، وقيل : إنها جملة دعائية ، ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوا قومهم ، بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل ، والحصر بفتحتين الضيق والانقباض (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي عن أن يقاتلوكم ، أو لأن ، أو كراهة أن (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم (فَلَقاتَلُوكُمْ) عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم ، واللام جوابية لعطفه على الجواب ، ولا حاجة لتقدير لو ، وسماها مكي وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج ، وهي تسمية غريبة ، وفي الاعادة إشارة إلى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين وقرئ فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) ولم يتعرضوا لكم (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي الصلح فانقادوا واستسلموا ، وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له ، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم ، وفي ـ نفي جعل السبيل ـ مبالغة في عدم التعرض لهم لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له.

وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هم أناس كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمنوا قومهم فأبى الله تعالى ذلك عليهم ـ قاله ابن عباس ومجاهد ـ وقيل : الآية في حق المنافقين (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي دعوا إلى الشرك ـ كما روى عن السدي ـ وقيل : إلى قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه ، يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه : بما ذا آمنت؟ فيقول : آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) بالكف عن التعرض لكم بوجه ما (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم.

(فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم وأصبتموهم أو حيث تمكنتم منهم ، وعن بعض المحققين أن هذه الآية مقابلة للآية الأولى ، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب ، وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) مقابل لقوله تعالى : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) وقوله جل وعلا : (وَيُلْقُوا) مقابل لقوله عز شأنه : (وَأَلْقَوْا) وقوله جل جلاله : (وَيَكُفُّوا) مقابل لقوله عزّ من قائل : (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) والواو لا تقتضي الترتيب ، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين ، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط ، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى : (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال ، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط ، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ).

ومن هذا يعلم أن (وَيَكُفُّوا) بمعنى لم يكفوا عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم ، وعطفه على النفي والجزم بأن الشرطية لا يصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) إن


لم يكفوا ، وإذا عطف (وَيَكُفُّوا) على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف ، وكلام الله تعالى منزه عنه ، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه : (وَيَكُفُّوا) جملة حالية ، أو استئنافية بيانية ، أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في (يَكُفُّوا) على ما هو المعهود في مثله ، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول مرتبا على شيئين ، وفي الثانية على ثلاثة ، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين ، وكلام العلامة البيضاوي ـ بيض الله تعالى غرة أحواله ـ في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد ، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا (وَأُولئِكُمْ) الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة.

(جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخبائثهم ، أو تسلطا لا خفاء فيه حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين ، وقيل : لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه (أَنْ يَقْتُلَ) بغير حق (مُؤْمِناً) فإن الإيمان زاجر عن ذلك (إِلَّا خَطَأً) فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية. وقلما يخلو المقاتل عنه ، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، أو على أنه مفعول به أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين ، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ.

وقال بعضهم : الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر ، وقيل : إلا بمعنى ولا ، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ ، وقيل : الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئا ، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب ، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل ، أو الشخص ، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا ، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه ، وقرئ ـ خطاء ـ بالمد ـ وخطا ـ بوزن عمى بتخفيف الهمزة ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ـ وكان أخا أبي جهل والحارث بن هشام لأمهما ـ أسلم وهاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه ، فأقبل أبو جهل والحارث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه ، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة ، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم ، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد ذلك فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر فنزلت ، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة.

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد «أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله فبدر فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟! فقال : كيف بي يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام : فكيف بلا إله إلا الله؟! وتكرر ذلك ـ قال أبو الدرداء ـ فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن» (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليه ـ أي فواجبه تحرير رقبة ـ والتحرير الإعتاق ؛ وأصل معناه جعله حرا أي كريما لأنه يقال لكل مكرم حر ، ومنه حر الوجه ـ


للخد ـ وأحرار الطير ، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا ، والمراد بالرقبة النسمة تعبيرا عن الكل بالجزء ، قال الراغب : إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب ، فيقال : فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا (مُؤْمِنَةٍ) محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة ، وإلى ذلك ذهب عطاء ، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزئ في كفارة القتل الطفل ولا الكافر ، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي : فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي ، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير ، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث ، فقد أخرج أصحاب السنن الأربعة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال : كتب إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ويقضى منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة ، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية.

وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها ؛ وذلك خلاف قول الجماعة ، وتجب الرقبة في مال القاتل ، والدية تتحملها عنه العاقلة ، فإن لم تكن فهي في بيت المال ، فإن لم يكن ففي ماله (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي يتصدق أهله عليه ، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه ، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل معروف صدقة» وهو متعلق بعليه المقدر قبل ، أو ـ بمسلمة ـ أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها ، وليس فيه ـ كما قيل ـ دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) فالمنسبك في محل نصب على الاستثناء ، وقال الزمخشري : إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو لظرف ، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن (أَنْ) والفعل لا يجوز وقوعهما حالا ، ولا منصوبا على الظرفية ـ كما نص عليه النحاة ـ وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع (أَنْ) وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله :

فقلت لها لا تنكحيه فإنه

لأول سهم أن يلاقي مجمعا

أي لأول سهم زمان ملاقاته ، وابن مالك ـ كما قال السفاقسي ـ يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا ، وبأن يلاقي ، وقرأ أبي ـ إلا أن يتصدقوا ـ (فَإِنْ كانَ) أي المقتول خطأ (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي كفار يناصبونكم الحرب (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد أن أسلم أعلمهم ، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، والآية نزلت ـ كما قال ابن جبير ـ في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله (فَإِنْ كانَ) أي المقتول المؤمن ـ كما روي عن جابر بن زيد ـ (مِنْ قَوْمٍ) كفار (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عداء مؤقت أو مؤبد (فَدِيَةٌ) أي فعلى قاتله دية (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) من أهل الإسلام إن وجدوا ، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار ، وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم ، ولعل تقديم هذا الحكم ـ كما قيل ـ مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كما هو حكم سائر المسلمين ، ولعل إفراده بالذكر ـ كما قيل ـ أيضا مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) إلخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين.

وقيل : المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة ، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم ، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك ، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء.


وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم ؛ وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك.

وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها ، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى ، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها ، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال ، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئا ، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين ، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم ، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثا إذ لا يرث الكافر ـ ولو معاهدا ـ المسلم كما برهن عليه (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن (فَصِيامُ) أي فعليه صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) قال مجاهد : لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما ، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعا ، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما ، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدّ ، رواه ابن أبي حاتم.

وأخرج عنه أيضا أنه قال : فمن لم يجد دية ، أو عتاقة فعليه الصوم ، وبه أخذ من قال : إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما ، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولا ـ هو المروي عن الجمهور ـ وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال : الصيام لمن لم يجد رقبة ، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء ، ثم قال ـ وهو الصواب ـ لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل ، فلا يجزئ صوم صائم عما لزم غيره في ماله ، واستدل بالآية من قال : إنه لا إطعام في هذه الكفارة ، ومن قال : ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه‌الله تعالى ، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد ، من قال إن لا كفارة في العمد ، والشافعي يقول : هو أولى بها من الخطأ (تَوْبَةً) نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولا لها من تاب الله تعالى عليه إذ قبل توبته ، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط.

وقيل : التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفا عليكم ، وقيل : إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في ـ عليه ـ بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة ، وقيل : على المصدرية أي تاب عليكم توبة ، وقوله سبحانه (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل (حَكِيماً) في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء ، أو بما لا يطيقه البتة عالما بإيمانه ، وهو نصب على الحال من فاعل «يقتل».

وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات (فَجَزاؤُهُ) الذي يستحقه بجنايته (جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) أي ماكثا إلى الأبد ، أو مكثا طويلا إلى حيث شاء الله تعالى ، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل : فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا.

وقال أبو البقاء : هو حال من الضمير المرفوع ، أو المنصوب في يجزاها المقدر ، وقيل : هو من المنصوب لا غير ويقدر جازاه ، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة ، ومنع جعله حالا من الضمير المجرور في (فَجَزاؤُهُ) لوجهين : أحدهما أنه حال من المضاف إليه ، وثانيهما أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ ، وقول


سبحانه : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل : بطريق الاستئناف تقريرا لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك ـ وغضب عليه ـ أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة (وَلَعَنَهُ) أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر ، وقيل : هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه إلخ (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) لا يقادر قدره.

والآية – كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير ـ نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني (١) أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا في الأنصار في بني النجار فانطلق إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من قريش من بني فهر ـ ومعه مقيس إلى بني النجار ومنازلهم يومئذ بقباء ـ أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا إليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا : السمع والطاعة لله تعالى وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله تعالى ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدّي الدية فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه ، فلما انصرف مقيس ، والفهري راجعين من قباء إلى المدينة ، وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتله وارتد عن الإسلام ، وفي رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة ، وهو يقول في شعر له :

قتلت به فهرا وحملت عقله

سراة بني النجار أرباب فارع

وأدركت ثاري وأضجعت موسدا

وكنت إلى الأوثان أول راجع

فنزلت هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد شديد وإبعاد ، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ، وأخرج ابن المنذر عن أبي الدرداء مثله ، وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى» ، وأخرجا عن البراء بن عازب «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار» ، وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار ، وأن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر» ، واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنا متعمدا في النار ، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لا سيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) [آل عمران : ٩٧] في آية الحج ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمقداد بن الأسود ـ كما في الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب ـ «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال» ، وعلى ذلك يحمل ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى علي» وما أخرجه عن سعيد بن مينا أنه قال : «كنت جالسا بجنب أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال : لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».

وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس ، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا ، ويؤيد ذلك ما

__________________

(١) وهو الذي قتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح ا ه منه.


أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول لمن قتل مؤمنا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال : لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه : ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟! قال : إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك ، وكان هذا أيضا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له فإذا ابتلي رجل قالوا له : تب ، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم ، وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد الله أنه قال : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) إن هو جازاه ، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل : وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ، ثم إن لم يجازه لمن يكن ذلك منه كذبا ، والأصل في هذا على ما قال الواحدي : أن الله عزوجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد ، وبهذا وردت السنة ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له ، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار» ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم : يا من إذا وعد وفا ، وإذا توعد عفا ، وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد ، ولم تعده نقصا كما يدل عليه قوله :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر ، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم ، فلم لا يجوز في القصص والاخبار لغرض من الأغراض ، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها.

والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء ، ومنهم من قال إنها إخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها ، وقال شيخ الإسلام : والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه كيف لا وقد قال عزوجل : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله ، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاء ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجرة لا تسمى جزاء ما لم تعط له وتصل إليه؟.

وتعقبه الطبرسي بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل ، ولهذا يقال : جزاء المحسن الإحسان ؛ وجزاء المسيء الإساءة ، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال : فعل ذلك معهما أو لم يفعل ، ويقال لمن قتل غيره : جزاء هذا أن يقتل ، وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل وإنما لا يقال للدراهم ؛ إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها.

واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٨] يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين البتة ، وفي الآية ما يشير إليه ؛ ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز ، فلا معنى للقول بالبتّ ، ومن هنا قيل : إن الآية لا تصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال : «كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول : يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي : لم قلت : إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً)


إلخ فقلت له وما في البيت أصغر مني : أرأيت إن قال لك فإني قد قلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد عليّ شيئا» ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال : «جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً) الآية : قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إلخ ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع الله تعالى ما شاء» وبآية المغفرة ردّ ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولا بستة أشهر ، أو بأربعة أشهر ـ كما روى زيد بن ثابت ـ لا يفيد شيئا ، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى ، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلا للنزاع ، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسبما مرت حكايته ، وقد روي عن عكرمة وابن جريج ، وجماعة أنهم فسروا (مُتَعَمِّداً) بمستحلا : واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعا فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف ، وقيل : إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق ؛ وتعليق الحكم بالمشتق يفيد علية مبدأ الاشتقاق ، فكأنه قيل ومن يقتل مؤمنا لأجل إيمانه ولا شك أن من يقتله لذلك لا يكون إلا مستحلا فلا يكون إلا كافرا فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب النزول ، واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقا في الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد ، ألا ترى أن قولك كلمت مؤمنا مثلا لا يفهم منه أنك كلمته لأجل إيمانه؟ ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفرا ولا قائل به ، واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم ، ثم إنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروي ، ولم يذكر حكمه الدنيوي اكتفاء بما تقدم في آية البقرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ


غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)(١٠٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله.

(إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق (فَتَبَيَّنُوا) أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا تعملوا فيه من غير تدبر وروية ، وقرأ حمزة وعلي وخلف ـ فتثبتوا ـ أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه ، والمعنيان متقاربان ، وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال ، ودخلت الفاء لما في (إِذا) من معنى الشرط كأنه قيل : إن غزوتم (فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية ـ كأنعم صباحا ، وحياك الله تعالى ـ وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام ـ السلم ـ بغير ألف ، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ ـ السلم ـ بكسر السين وفتح اللام ، ومعناه في القراءتين الاستسلام والانقياد ، وبه فسر بعضهم (السَّلامَ) أيضا في القراءة المشهورة ، واللام على ما قال السمين : للتبليغ ، والماضي بمعنى المضارع ، (وَمَنْ) موصولة ، أو موصوفة ، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به ، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت ، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه يجب إلا فيه ، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه :

(لَسْتَ مُؤْمِناً) وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه.


وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما وأبي جعفر القاري أنهم قرءوا «مؤمنا» بفتح الميم الثانية أي مبذولا لك الأمان (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال ، والجملة في موضع الحال من فاعل (تَقُولُوا) مشعرا بما هو الحامل لهم على العجلة ، والنهي راجع إلى القيد والمقيد ، وقوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل : لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره (مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك ، وقوله سبحانه : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطئ الباطن والظاهر ولم تظهر فيه ، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والفاء في (فَمَنَ) للعطف على (كُنْتُمْ) وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل : لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام (وَتَقُولُوا) إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمنا معصوما لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه ، فإنكم كنتم أنتم في مبادئ إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها ، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطا مما يدل على التواطؤ ، ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم ، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم ، فإذا كان الأمر كذلك (فَتَبَيَّنُوا) هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل ، وأخر هذا التعليل على ما قيل : لما فيه من نوع تفصيل ربما يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به ، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض ، وأن سرورهم به أقوى ، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم ، وفيه نوع حط عليهم ـ رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم ـ أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه ، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد ، أو أن مجموعهما علة ، وقيل : موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف ، وقيل : إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابا كثيرا في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك ، وعبر عن الثواب ـ بالمغانم ـ مناسبة للمقام ، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك ، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق ، وقال بعض الناس فيها : إن المعنى كما كان هذا الذي قلتموه مستخفيا بدينه في قومه خوفا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرا من قومكم على أنفسكم ، فمنّ الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك (فَتَبَيَّنُوا) نعمة الله تعالى عليكم ، أو تبينوا أمر من تقتلونه ، ولا يخفى أن هذا ـ وإن كان بعضه مرويا عن ابن جبير ـ غير واف بالمقصود على أن القول : بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرا من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال : إن كون البعض كان مستخفيا كاف في الخطاب ، وقيل : إن قوله سبحانه : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) منقطع عما قبله ، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر ، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير ، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرا لما منّ عليهم به ـ وهو كما ترى.

واختلف في سبب الآية ، فأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت».


وأخرج ابن جرير عن السدي قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال : السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : يا رسول الله لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال : كيف أنت ولا إله إلا الله؟! فقال يا رسول الله إنما قالها متعوذا يتعوذ بها فقال عليه الصلاة والسلام : هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟!» ثم نزلت الآية.

وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء ، وذكر من قصته مثل ما ذكر من قصة أسامة ، والاقتصار على ذكر تحية الإسلام على هذا ـ مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة ـ للمبالغة في النهي والزجر ، والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت كافية في المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها. فكيف وهي مقرونة بتلك الكلمة الطيبة ، واستدل بالآية وسياقها على صحة إيمان المكره ، وإن المجتهد قد يخطئ وإن خطأه مغتفر ، وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلو لا صحة إسلامه لم ينكر ، ووجه الدلالة على الثاني أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ.

ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين ، وذهب بعضهم إلى أنه لا عذر في ترك التثبت في مثل هذه الأمور ، وأن المخطئ آثم ، واحتج على ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن «أن ناسا من أصحاب رسول الله ذهبوا يتطرقون فلقوا ناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال : إني مسلم إني مسلم فأوجره السنان فقتله وأخذ متيعه ، فرفع ذلك إلى رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام للقاتل : أقتلته بعد ما قال : إني مسلم؟! قال : يا رسول الله إنما قالها متعوذا قال : أفلا شققت عن قلبه؟! قال لم يا رسول الله؟ قال : لتعلم أصادق هو أو كاذب؟ قال : كنت عالم ذلك يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام : إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه ، قال : فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض ، ثم عادوا فحفروا له ، فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره ، قال الحسن فلا أدري كم ، قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفناه مرتين ، أو ثلاثا كل ذلك لا تقبله الأرض فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجله فألقيناه في بعض تلك الشعاب» فأنزل الله تعالى قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة «أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الأرض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران». ووجه الدلالة في هذا على الإثم ظاهر ، وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول الإسلام عنده بل لأمر آخر ، واعتذر بما اعتذر كاذبا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن المنذر والطبراني وجماعة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعه فلما قدمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، والظاهر أن الرجل المبهم في خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به في هذا الخبر ، وهو يدل على أن القتل كان لشيء كان في القلب من ضغائن


قديمة ، وإنما قلنا : إن هذا هو الظاهر لما في خبر ابن عمر أن محلم بن جثامة لما رجع جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة والسلام ليستغفر له فقال : لا غفر الله تعالى لك ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا ذلك له ، فقال : إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله تعالى أراد أن يعظكم ، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة ، فإن الذي يميل القلب إليه اتحاد القصة ، واعترض على القول بعدم الوعيد بأن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً). يستفاد منه الوعيد أي أنه سبحانه لم يزل ولا يزال بكل ما تعملونه من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها ، ويدخل في ذلك التثبيت وتركه دخولا أوليا مطلع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والجملة تعليل بطريق الاستئناف ، وقرئ بفتح «أن» على أنه معمول ـ لتبينوا ـ أو على حذف لام التعليل.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللا فيه ، والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم ، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ هم القاعدون ـ عن بدر ؛ وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل ، وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك ، وروي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف ، حين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الغزوة.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حال من القاعدين ، وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه ، وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لا يقعد بهم عن الإيمان ، والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع على أنه صفة ـ للقاعدون ـ وهو إن كان معرفة ، و (غَيْرُ) لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه ـ قاعدون ـ بعينهم بل الجنس ، فأشبه الجنس وصفه بها ، وزعم عصام الدين أن (غَيْرُ) هنا معرفة ، و (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بمعنى من لا ضرر له ، ونقل عن الرضي ـ وبه ضعف ما تقدم ـ أن المعرف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة لكنه لا يوصف بما توصف به النكرة ، بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فأصد ثم أقول ما يعنيني

واستحسن بعضهم جعله بدلا من (الْقاعِدُونَ) لأن أل فيه موصولة ، والمعروف إرادة الجنس في المعرف بالألف واللام ، وبينهما فرق ، وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء ، وتبعه الواحدي فيه ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على أنه حال ، وهو نكرة لا معرفة ، أو على الاستثناء ظهر إعراب ما بعده عليه ، وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين ، أو بدل منه وكون النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثري لا كلي ، و (الضَّرَرِ) المرض والعلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد ، وفي معناها ـ أو هو داخل فيها ـ العجز عن الأهبة ، وقد نزلت الآية وليس فيها (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ثم نزل بعد ، فقد روى مالك عن الزهري عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : «كنت أكتب بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كثف ـ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ـ وابن أم مكتوم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أدري قال زيد : وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي ، ثم جلي عنه ، فقال لي : أكتب يا زيد (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)» (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في منهاج دينه (بِأَمْوالِهِمْ) إنفاقا فيما يوهن كيد الأعداء (وَأَنْفُسِهِمْ) حملا لها على الكفاح عند اللقاء ، وكلا الجارين متعلق ـ


بالمجاهدون ـ وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه ، وقيده بما قيده مدحا لهم وإشعارا بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل ، وقيل : إنما أوردوا بعنوان الجهاد إشعارا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة ، وقدم (الْقاعِدُونَ) على ـ المجاهدين ـ ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم ، وقيل : للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم ، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد ، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر ، وعليه قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد : ١٦] إلى غير ذلك ، وأما قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: ٩] فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول.

وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير ، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى ، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عزّ شأنه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد وأخّر البائع تنبيها على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة ، وعلى ذلك النمط جاء أيضا قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) في سبيله (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) من المؤمنين (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ دَرَجَةً) لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها ، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناء به وليتمكن أشد تمكن ، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه ، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل : كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل : (فَضَّلَ اللهُ) إلخ واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفا ـ كما قيل ـ إذ كثيرا ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة ، و (دَرَجَةً) منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل ، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل : فضلهم تفضيلة ، وذلك مثل قولهم : ضربته سوطا أي ضربة ، وقيل : على الحال أي ذوي درجة ، وقيل : على التمييز ، وقيل : على تقدير حذف الجار أي بدرجة ، وقيل : هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة ، وقوله تعالى : (وَكُلًّا) مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد ، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين (وَعَدَ اللهُ) المثوبة (الْحُسْنى) وهي الجنة ـ كما قال قتادة وغيره ـ لا أحدهما فقط ، وقرأ الحسن ـ وكل ـ بالرفع على الابتداء ، فالمفعول الأول ـ وهو العائد في جملة الخبر ـ محذوف أي وعده ، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في ـ الحديد ـ و (الْحُسْنى) على القراءتين هو المفعول الثاني ، والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول ؛ وقوله سبحانه :

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) عطف على ما قبله ، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود ، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولا بأن يترك من المؤمنين فقط ، ويذكر (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) في الآية الأولى ويتركهما معا في الآية الثانية ، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل : لأن قيد (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول.

وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول : أي رب أين عذري ، أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه ، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة ، ولا كذلك ما


ذكر مع المجاهدين ، فإن الإتيان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقا بين المقامين ، وقوله تعالى : (أَجْراً عَظِيماً) مصدر مؤكد ـ لفضل ـ وهو وإن كان بمعنى أعطي الفضل وهو أعم من الأجر لأنه ما يكون في مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه في مقابلة الجهاد ، ويجوز أن يبقى على معناه ، و (أَجْراً) مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أي أعطاهم زيادة (عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر.

وجعله ـ صفة لقوله تعالى : (دَرَجاتٍ) قدم عليها فانتصب على الحال ، ولكونه مصدرا في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به ـ بعيد ، وجوز في (دَرَجاتٍ) أين يكون بدلا من (أَجْراً) بدل الكل مبينا لكمية التفضيل ، وأن يكون حالا أي ذوي درجات ، وأن يكون واقعا موقع الظرف أي في درجات ، وقوله سبحانه : (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة ـ لدرجات ـ دالة على فخامتها وعلو شأنها ، أخرج عبد بن حميد عن ابن محيريز أنه قال : هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من رضي بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأخرى يرفع الله تعالى بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال : وما هي يا رسول الله؟ قال : الجهاد في سبيل الله تعالى» ، وعن السدي أنها سبعمائة ، وجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك : ضربته أسواطا أي ضربات ، كأنه قيل : فضلهم تفضيلات ، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة ، وقيل : إنه على بابه.

والمراد بالدرجات ما ذكر في آية براءة (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) [التوبة : ١٢٠] إلى قوله سبحانه : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٢١] ونسب إلى عبد الله بن زيد ، وقوله عزّ شأنه : (وَمَغْفِرَةً) عطف على درجات الواقع بدلا من (أَجْراً) بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة ، أي ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون ، فحينئذ تعد من خصائصهم ، وقوله تعالى : (وَرَحْمَةً) عطف عليه أيضا وهو بدل الكل من (أَجْراً) ، وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة.

هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة ، وتقييده ـ تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لا تستطيع طير الأفكار الخضر أن تصل إليه ، ولما كان هذا مما يكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلا : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة ، فقال ما قال وسد باب الاحتمال.

ولا يخفى ما في الإبهام والتفسير من اللطف ، وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد ، والجمع ثانيا لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي الدرجات مقابلة الجمع بالجمع ، فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن ، فمن الكلام الملفوظ لا من اللوح المحفوظ ، وأما للاختلاف بالذات بين التفضيلين


وبين الدرجة والدرجات ، وفي هذا ـ رغب الراغب ، واستطيبه الطيبي ـ على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما ، كأنه قيل : فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة ، وفي الأخرى درجات لا تحصى ، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام ، وقيل : المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني ، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس ، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص ، وقيل : المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار ، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه ، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك ، والحديث الذي ذكره لا أصل له ، كما قال المحدثون.

وقيل المراد من (الْقاعِدِينَ) في الأول الأضراء ، وفي الثاني غيرهم كما قال ابن جريج ، وأخرجه عنه ابن جرير ، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى.

بقي أن الآية لا تدل نصا على حكم أولي الضرر بناء على التفسير المقبول عندنا ، نعم في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين ، فقد صح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال : «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، وعن الزجاج أنه قال : إلا أولو الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) إلى قوله سبحانه : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٩١] والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية ، وأما أنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به ، والآية ـ على ما قاله ابن جريج ـ تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضا.

وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو ، ويقول : ادفعوا إليّ اللواء وأقيموني بين الصفين فإني لن أفر ، وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال : لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء ، ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد ؛ واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم ، والمجاهدين فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضا قسمي القاعد ، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا ، واحتج بها كما قال ابن الفرس : من فضل الغنى على الفقر بناء على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله ، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال ، واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد ، أو بيان لحال


القاعدين عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين ، و (تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون ماضيا ، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي ، ويحتمل أن يكون مضارعا ، وأصله ـ تتوفاهم ـ فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ، وهو لحكاية الحال الماضية ، ويؤيد الأول قراءة من قرأ توفتهم ، والثاني قراءة إبراهيم (تَوَفَّاهُمُ) بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم ، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ، وإلى ذلك أشار ابن جني ، والمراد من التوفي قبض الروح ، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه.

وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار ، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه ، وهم ـ كما في البحر ـ ستة : ثلاثة لأرواح المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين ، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد تفخيما له وتعظيما لشأنه ، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد ، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى ، وإلى ملك الموت ، وإلى أعوانه ، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي ، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب ، والقاطعون لتعلقها بذلك ، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها ، وفي القرآن (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) [الزمر : ٤٢] و (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] و (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] ومثله (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بترك الهجرة ، واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين ، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعانتهم الكفرة ، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس «أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية».

وأخرج ابن جرير عن الضحاك «أن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية» وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليدة بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا ، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، و (ظالِمِي) منصوب على الحالية من ضمير المفعول في (تَوَفَّاهُمُ) وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفا ، والأصل ظالمين أنفسهم (قالُوا) أي الملائكة عليهم‌السلام للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف ـ ما ـ الاستفهامية المجرورة وفاء بالقاعدة ، وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة. ولهذا تكتب ـ إلى وعلى وحتى في إلام وعلام وحتام بالألف ما لم يوقف على ـ م ـ بالهاء ، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا ، أو لم نكن في شيء ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل : فما ذا قال أولئك المتوفون؟ في الجواب ، فقيل : قالوا في جوابهم : كنا مستضعفين فى أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء.

والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا ، أو تعللوا عن الخروج معهم ؛ والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم


كانوا مقهورين تحت أيديهم ، وأنهم فعلوا ذلك كارهين ، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه : (قالُوا) أي الملائكة (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة ، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم (فَأُولئِكَ) الذين شرحت حالهم الفظيعة (مَأْواهُمْ) أي مسكنهم في الآخرة (جَهَنَّمُ) لتركهم الفريضة المحتومة ، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام ، وعن السدي كان يقول : من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر ، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام ، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصا في العصيان بما دون الكفر ، وإنما النص التقييد بعدمه ، واسم الإشارة مبتدأ أول ، و (مَأْواهُمْ) مبتدأ ثان ، و (جَهَنَّمُ) خبر الثاني وهما خبر الأول ، والرابط الضمير المجرور ، والمجموع خبر إن ، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط ، وقوله سبحانه : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) في موضع الحال من الملائكة ، وقد معه مقدرة في المشهور ، وجعله حالا ـ من الضمير المفعول بتقدير قد أولا ، ولهم آخرا بعيد ، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم ، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في خبره ، ولا يصح جعل شيء من قالوا الثاني ، والثالث خبرا لأنه جواب ، ومراجعة ـ فمن قال : لو جعل قالوا : الثاني خبرا لم يحتج إلى تقدير عائد فقد ـ وهم ، وقيل : الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه ، و «تهاجروا» منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى : (وَساءَتْ) من باب بئس أي بئست (مَصِيراً) والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم ، أو جهنم.

واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه ، وهو مذهب الإمام مالك ، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا ، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها ، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلا من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) استثناء منقطع لأن الموصول وضمائره ، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالما لنفسه ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون ، وقيل : إنه متصل ، والمستثنى منه «أولئك مأواهم جهنم» وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا (مِنَ الرِّجالِ) كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد (وَالنِّساءِ) كأم الفضل لبابة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس وغيرها (وَالْوِلْدانِ) كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم ، والجار حال من المستضعفين ، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء ، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار ، أو يقال : إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر ، وأن المراد بهم المراهقون ، أو من قرب عهده بالصغر مجازا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف ، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان ، أو المراد بهم العبيد والإماء.

(لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي لا يجدون أسباب الهجرة ومبادئها (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل ، والجملة صفة لما بعد من ، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء


كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة ، أو حال منه ، أو من الضمير المستتر فيه ، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا (فَأُولئِكَ) أي المستضعفون (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبا ، ولا يأمن ، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها.

(وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها ، والمراد من المراغم ، المتحول والمهاجر ـ كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان ، وعبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحول الذي يجده يصل فيه المهاجر إلى ما يكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم ، وعن مجاهد : إن المعنى يجد فيها متزحزحا عما يكره ، وقيل : متسعا مما كان فيه من ضيق المشركين ، وقيل : طريقا يراغم بسلوكه قومه ـ أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب ، وقرئ مرغما (وَسَعَةً) أي من الرزق ، وعليه الجمهور ، وعن مالك سعة من البلاد.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أي يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار ، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة ، وثمّ لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى ، وهو معطوف على فعل الشرط ، وقرئ (يُدْرِكْهُ) بالرفع ، وخرجه ابن جني كما قال السمين ، على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم ، والموت فاعله ، والجملة خبر لمبتدإ محذوف أي ـ ثم هو يدركه الموت ـ وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى :

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

أي أو أنتم تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين : في محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطا لأنهم يتسامحون في التابع ، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع ، وقال عصام الملة : ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل (مَنْ) موصولة لأن الشرط لا يكون جملة اسمية ويكون (يَخْرُجْ) أيضا مرفوعا ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ ، فالأولى أن الرفع بناء على توهم رفع (يَخْرُجْ) لأن المقام من مظان الموصول ، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا ، وقيل : إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله :

عجبت والدهر كثير عجبه

من عنزي يسبني لم أضربه

وهو كما في الكشف ضعيف جدا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضا ، ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة ؛ والبيت ليس فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء ، وقرأ الحسن «يدركه» بالنصب ، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار أن نظير ما أنشده سيبويه من قوله :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فاستريحا

ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه ، والآية ـ لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذي هو شديد الشبه بغير الموجب ـ كانت أقوى من البيت ، وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد


الواو والفاء كقوله :

ومن لا يقدم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى القاع يزلق

وقاسوا عليهما ثم ، وليس ما ذكر في البيت نظير الآية ، وقيل : من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل ـ أكرمني وأكرمك ـ أي ليكن منك إكرام ومني ، والمعنى من يكن منه خروج من بيته وإدراك الموت له (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي وجب بمقتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط ، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة ، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم ، وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب فقد قيل : كان مقتضى الظاهر ـ ومن يهاجر إلى الله ورسوله ويمت يثبه ـ إلا أنه اختير «ومن يخرج مهاجرا من بيته» على ـ ومن يهاجر ـ لما أشرنا إليه آنفا ، ووضع (يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) موضع ـ يمت ـ إشعارا بمزيد الرضا من الله تعالى ، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت ، وجيء ـ بثم ـ بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة ، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة ، وأقيم (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) مقام ـ يثبه ـ لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت ، وأن الأجر عظيم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع ؛ وعن الزمخشري : إن فائدة (ثُمَّ يُدْرِكْهُ) بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت ، واختلف فيمن نزلت ؛ فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة ، وكان بلغه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، وإني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ؛ ويقول : اللهم هذه لك ، وهذه لرسولكصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسولك ، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : ليته مات بالمدينة فنزلت ، وروى الشعبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في أكثم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير أنها نزلت في خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات ، وروي غير ذلك ، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب ، وقد ذكر أيضا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول إلى المقصد فحكمه كذلك ، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» ، واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة ، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج (رَحِيماً) مبالغا في الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته.

ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) أي وما ينبغي لمؤمن الروح (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) وهو مؤمن القلب إلا أن يكون قتلا خطأ ، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقا من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودا (وَمَنْ قَتَلَ) قلبا (مُؤْمِناً) خطأ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة السر


الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى (فَإِنْ كانَ) المقتول بالتجلي (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) بأن كان من قوى النفس الأمارة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها ، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهرا والمهادنة للقلب (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) واجبة على عاقلة الرحمة (إِلى أَهْلِهِ) أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فعليه الإمساك عن العادات وترك المألوفات ستين يوما ، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة في نيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرا لغضب الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإرشاد عباده (فَتَبَيَّنُوا) حال المريد في الرد والقبول (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا تنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيديكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنا صادقا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ما عندك من حطامها ليخلو قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) للسالكين إليه فإذا حظي بها السالك ترك لها ما في يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) أي مثل هذا المريد كنتم أنتم في مبادئ طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمنّ الله عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التي عنده فأنساكم جميع ما في أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه إليكم بحالكم لتعلموا أن الله سبحانه بمقتضى ما عود المتوجهين إليه الطالبين له سيمنّ على هؤلاء بما منّ به عليكم ، ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم.

والحاصل أنه لا ينبغي أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا في مبادئ الأمر : اترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة ، ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال ما يخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) حيث قعدتم عن السعي وفرطتم في جنب الله تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذي ندبتم إليه (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم قالوا : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أي ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم ، وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التي هي مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التي هي مدينة القلب ، وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفي إلى الملائكة لأن التوفي وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه : توفي الملائكة وتوفي ملك الموت وتوفي الله تعالى ، فأما توفي الملائكة فهو لأرباب النفوس ، وهم إما سعداء وإما أشقياء ، وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب وأما توفي الله تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه


يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عزوجل ، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة ، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الطبيعة (وَساءَتْ مَصِيراً) لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ) وهم كما قال بعض العارفين : أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود (وَالنِّساءِ) أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى ، قيل : وهم البله المذكورون في خبر «أكثر أهل الجنة البله» (وَالْوِلْدانِ) أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لعدم علمهم بكيفية السلوك (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا) عن الذنوب ما لم تتغير الفطرة (غَفُوراً) يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) عن مقار النفس المألوفة (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض استعداده (مُراغَماً كَثِيراً) أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه (وَسَعَةً) أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات (وَرَسُولِهِ) بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أي الانقطاع (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) حسبما توجه إليه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المئونة ما يؤكد العزيمة على ذلك ، فقال سبحانه وتعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم أيّ سفر كان ، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة ، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح ـ كسفر التجارة ـ والطاعة ـ كسفر الحج ـ ويخرج سفر المعصية ـ كقطع الطريق والإباق ـ فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة ، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع ، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه ، ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة ، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه ، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول.

والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر ، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج وإثم (أَنْ تَقْصُرُوا) أي في أن تقصروا ، والقصر خلاف المد يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه ، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر ، فقوله تعالى : (مِنَ الصَّلاةِ) ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا و (مِنَ) زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات ، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة ـ على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه ـ أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى


وصف الجزء بوصف الكل ، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصود بعضا منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها ، وقرئ «تقصروا» من أقصر ومصدره الإقصار.

وقرأ الزهري «تقصروا» بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى ، وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور ـ عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر ، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر ، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا ، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور.

وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث ، والشافعي رحمه‌الله تعالى في قول : بيوم وليلة ، وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : أحد وعشرون فرسخا.

وقال آخرون ثمانية عشر ، وآخرون خمسة عشر ، والصحيح عدم التقدير بذلك ، ولعل كل من قدر بقدر مما ذكر اعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها ، والدليل على هذه المدة ما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمم الرخصة الجنس ، ومن ضرورته عموم التقدير ، والقول بكون «ثلاثة أيام» ظرفا للمسافر لا ليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لا لإطلاقه ، وعلى تقدير كونه ظرفا للمسافر يكون يمسح مطلقا وليس بمقصود ، وأيضا يبطل كونه ظرفا لذلك أن المقيم يمسح يوما وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والإقامة في بعض الصور وهي صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوما وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية «ثلاثة» للمسافر تستدعي ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث ، وحينئذ ـ يكون لا يكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضادصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وربما يستدل للقصر في أقل من ثلاثة بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» فإنه يفيد القصر في الأربعة برد وهي تقطع في أقل من ثلاثة ، وأجيب بأن راوي الحديث عبد الوهاب بن مجاهد ، وهو ضعيف عند النقلة جدا حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم ، واحتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الإتمام ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة والبزار والدار قطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصر في السفر ويتم» وما أخرجه النسائي والدار قطني وحسنه البيهقي وصححه «أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال : أحسنت يا عائشة» وبما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر ، وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة ، وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة توفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل ، وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر وجميع أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة ، وهو قول مالك ، وأخرج النسائي وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «أول ما فرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر» وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه ؛ وقالت : أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري كما اعتذر عثمان رضي الله تعالى عنه من إتمامه بأنه تأهل بمكة وأزمع الإقامة بها كما روي عن الزهري فلا يرد أنها رضي الله تعالى عنها خالف رأيها روايتها ، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه ،


والقول : بأن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير مسلم لجواز أنها سمعته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤول بأن الفرض في قولها : «فرضت ركعتين» بمعنى البيان وقد ورد بهذا المعنى ك (فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢].

وقال الطبري : معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين ، وهذا كما قيل في الحاج : إنه مخير في النفر في اليوم الثاني والثالث ، وأيا فعل فقد قام الفرض وكان صوابا ، وقال النووي : المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في الحضر ركعتان على سبيل التحتم ، وأقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وحيث ثبتت دلائل الإتمام وجب المصير إلى ذلك جمعا بين الأدلة ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : والذي يظهر لي في جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة ، وفيه : وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار ، ثم بعد ما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية ، ويؤيده قول ابن الأثير : إن القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة ، وهو مأخوذ من قول غيره : إن نزول آية الخوف فيها ، وقيل : القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابي ، وقال السهيلي : إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة انتهى.

واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك ، وقال آخرون منهم : إن الآية صريحة في عدم وجوب الإتمام ، وما ذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب ، وحجية العام المخصوص مختلف فيها ، وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار ، وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضي الله تعالى عنهم أجمعين بها يقوي القول بالوجوب ووردوه بنفي الجناح لأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن إليه كما في قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ، ركن عند الشافعي رحمه‌الله تعالى ، وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفي الجناح (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جوابه محذوف لدلالة ما قبل عليه أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) إلخ ، وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف ، وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع في الأمن أيضا ؛ وقد تظاهرت الأخبار على ذلك فقد أخرج النسائي ، والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «صلينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين» وأخرج الشيخان ، وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال : «صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» إلى غير ذلك ، ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط ، وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا ، وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه.

وناهيك ما سمعت من الأدلة الواضحة ، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى ، وقد خرج الشرط هاهنا مخرج الأغلب كما قيل في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما


حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام ، وقال بعضهم : إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان ، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا ، وقيل : إن قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) إلخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله.

فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : «سأل قوم من التجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) فنزلت صلاة الخوف» ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ما تقدم ، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلا. وقرأ أبيّ كما قال ابن المنذر : فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، والمشهور أنه كعبد الله أسقط (إِنْ خِفْتُمْ) فقط ، وأيا ما كان فإن (أَنْ يَفْتِنَكُمُ) في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل : شرع لكم ذلك كراهة (أَنْ يَفْتِنَكُمُ) إلخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة لاقتدار الكافرين على إيقاع الفتنة ، وقوله تعالى: (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر ، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء ، و (عَدُوًّا) كما قال أبو البقاء: في موضع أعداء ، وقيل : هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول ، و (لَكُمْ) حال منه ، أو متعلق بكان.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) بيان لما قبله من النص المجمل في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التجريد ، وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة والسلام كالحسن بن زيد ، ونسب ذلك أيضا لأبي يوسف ، ونقله عنه الجصاص في كتاب الأحكام ، والنووي في المهذب ، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوابه وقوّام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال : «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة : أنا ، ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم» وهذا يحل محل الإجماع ، ويرد ما زعمه المزني من دعوى النسخ أيضا (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي أردت أن تقيم بهم الصلاة (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو للحراسة ولظهور ذلك ترك (وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة المذكورة القائمة معك (أَسْلِحَتَهُمْ) مما لا يشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر وعن ابن عباس أن الآخذة


هي الطائفة الحارسة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد إلا أنه خلاف الظاهر ، والمراد من الأخذ عدم الوضع وإنما عبر بذلك عنه للايذان بالاعتناء باستصحاب الأسلحة حتى كأنهم يأخذونها ابتداء (فَإِذا سَجَدُوا) أي القائمون معك أي إذا فرغوا من السجود وأتموا الركعة ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي فلينصرفوا للحراسة من العدو.

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) بعد وهي التي كانت تحرس ، ونكرها لأنها لم تذكر قبل (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) الركعة الباقية من صلاتك ، والتأنيث والتذكير مراعاة للفظ ، والمعنى ـ ولم يبين في الآية الكريمة ـ حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين ، وقد بين ذلك بالسنة ، فقد أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سالم عن أبيه في قوله سبحانه : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) هي صلاة الخوف صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، ثم انصرفت التي صلت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاموا مقام أولئك مقبلين على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة فصلوا ركعة ركعة فتم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان ركعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركعة بعد سلامه.

وعن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية فجاءت الطائفة الأولى وذهبت إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخرى بلا قراءة وسلموا ، ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان ، وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وإنما سقطت القراءة عن الطائفة الأولى في صلاتهم الركعة الثانية بعد سلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم وإن كانوا في ثانيته عليه الصلاة والسلام في مقابلة العدو إلا أنهم في الصلاة وفي حكم المتابعة فكانت قراءة الإمام قائمة مقام قراءتهم كما هو حكم الاقتداء ولا كذلك الطائفة الأخرى لأنهم اقتدوا بالإمام في الركعة الثانية وأتم الإمام صلاته فلا بد لهم من القراءة في ركعتهم الثانية إذ لم يكونوا مقتدين بالإمام حينئذ ، وذهب بعضهم إلى أن صلاة الخوف هي ما في هذه الآية ركعة واحدة ونسب ذلك إلى ابن عباس وغيره ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي شيبة والنحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : «فرض الله تعالى على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، وأخرج الأولان وابن أبي حاتم عن يزيد الفقير «قال سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما فقال : الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينا نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس فسلم وسلم الذين خلفه وسلم الأولون فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ الآية» ، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة ركعة فإذا قام للثانية فارقته وأتمت وذهبت إلى وجه العدو وجاء الواقفون في وجهه والإمام ينتظرهم فاقتدوا به وصلى الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم ولحقوه وسلم بهم ، وهذه ـ كما رواه الشيخان ـ صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذات الرقاع ، وهي أحد الأنواع التي اختارها الشافعي رضي الله تعالى عنه ، واستشكل من ستة عشر نوعا ، ويمكن حمل الآية عليها ، ويكون المراد من السجود الصلاة ؛ والمعنى فإذا فرغوا من الصلاة (فَلْيَكُونُوا) إلخ ، وأيد ذلك بأنه لا قصور في البيان عليه ، وبأن ظاهر قوله سبحانه : (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) أن الطائفة الأخيرة تتم الصلاة مع الإمام ، وليس فيه إشعار بحراستها


مرة ثانية وهي في الصلاة البتة ، وتحتمل الآية ، بل قيل : إنها ظاهرة في ذلك أن الإمام يصلي مرتين كل مرة بفرقة وهي صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما رواه الشيخان أيضا ـ ببطن نخل ، واحتمالها للكيفية التي فعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان بعيد جدا ، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام ـ كما قال ابن عباس ورواه عنه أحمد وأبو داود وغيرهما ـ صف الناس خلفه صفين ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم سجد بالصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع عليه الصلاة والسلام فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا ثم سجد هو والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ، ثم انصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمام الكلام يطلب من محله.

(وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة الأخرى (حِذْرَهُمْ) أي احترازهم وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تخييلا وإلا فهو أمر معنوي لا يتصف بالأخذ ، ولا يضر عطف قوله سبحانه :

(وَأَسْلِحَتَهُمْ) عليه للجمع بين الحقيقة والمجاز لأن التجوز في التخييل في الإثبات والنسبة لا في الطرف على الصحيح ، ومثله لا بأس فيه بالجمع كما في قوله تعالى : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] ، وقال بعض المحققين : إن هذا وأمثاله من المشاكلة لما يلزم على الكناية التصريح بطرفيها وإن دفع بأن المشبه به أعم من المذكور ، وإن فسر الحذر بما يدفع به فلا كلام ، ولعل زيادة الأمر بالحذر ـ كما قال شيخ الإسلام ـ في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شغل شاغل ، وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحراب.

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) بيان لما لأجله أمروا بأخذ السلاح ، والخطاب للفريقين بطريق الالتفاف أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيحملون عليكم جملة واحدة ، والمراد بالأمتعة ما يمتع به في الحرب لا مطلقا وقرئ ـ أمتعاتكم ـ والأمر للوجوب لقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم حملها واستصحابها بسبب مطر أو مرض ، وأمروا بعد ذلك بالتيقظ والاحتياط فقال سبحانه : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي بعد إلقاء السلاح للعذر لئلا يهجم عليكم العدو غيلة ، واختار بعض أئمة الشافعية أن الأمر للندب ، وقيدوه بما إذا لم يخف ضررا يبيح التيمم بترك الحمل ، أما لو خاف وجب الحمل على الأوجه ولو كان السلاح نجسا ومانعا للسجود ، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر ولو انتفى خوف الضرر وتأذى غيره بحمله كره إن خف الضرر بأن احتمل عادة ، وإلا حرم ، وبه يجمع بين إطلاق كراهته وإطلاق حرمته ، والآية كما أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا ، وذكر أبو ضمرة ، ورواه الكلبي عن أبي صالح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا محاربا وبني أنمار فهزمهم الله تعالى وأحرزهم الذراري والمال ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أصحابه فجلس في ظل سمرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال : قتلني الله تعالى إن لم أقتله وانحدر من الجبل ؛ ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده ، فقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله عزوجل ؛ ثم قال : اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت فانكب عدو الله تعالى لوجهه وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ سيفه فقال : يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال : لا أحد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله؟ قال : لا ، ولكني أعهد إليك


أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفه فقال له غورث : لأنت خير مني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أحق بذلك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : يا غورث لقدر رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال : الله عزوجل أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من لزجني بين كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي وسبقني إليه محمد عليه الصلاة والسلام فأخذه وأتم لهم القصة فآمن بعضهم ولم يلبث الوادي أن سكن ، فقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الآية.

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) تعليل للأمر بأخذ الحذر أي أعدّ لهم عذابا مذلا وهو عذاب المغلوبية لكم ونصرتكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب كي يعذبهم بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفي ذلك الإيهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب ، وقيل : لا يبعد أن يراد بالعذاب المهين شرع صلاة الخوف فيكون لختم الآية به مناسبة تامة ، ولا يخفى بعده (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أي فإذا أديتم صلاة الخوف على الوجه المبين وفرغتم منها.

(فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي فداوموا على ذكره سبحانه في جميع الأحوال حتى في حال المسابقة والمقارعة والمراماة ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال عقب تفسيرها : لم يعذر الله تعالى أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله ، وقيل : المعنى وإذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف أو التحم القتال فصلوا كيفما كان ، وهو الموافق لمذهب الشافعي من وجوب الصلاة حال المحاربة وعدم جواز تأخيرها عن الوقت ، ويعذر المصلي حينئذ في ترك القبلة لحاجة القتال لا لنحو جماح دابة وطال الفصل ، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح لا الصياح أو النطق بدونه ولو دعت الحاجة إليه كتنبيه من خشي وقوع مهلك به أو زجر الخيل أو الإعلام بأنه فلان المشهور بالشجاعة لندرة الحاجة ولا قضاء بعد الأمن فيه ، نعم لو صلوا كذلك لسواد ظنوه ولو بإخبار عدل عدوا فبان أن لا عدو وأن بينهم وبينه ما يمنع وصوله إليهم كخندق ، أو أن بقربهم عرفا حصنا يمكنهم التحصن به من غير أن يحاصرهم فيه قضوا في الأظهر ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك في غاية البعد (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) أي أقمتم ـ كما قال قتادة ومجاهد ـ وهو راجع إلى قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ولما كان الضرب اضطرابا وكني به عن السفر ناسب أن يكنى بالاطمئنان عن الإقامة ، وأصله السكون والاستقرار أي إذا استقررتم وسكنتم من السير والسفر في أمصاركم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أدوا الصلاة التي دخل وقتها وأتموها وعدلوا أركانها وراعوا شروطها وحافظوا على حدودها ، وقيل : المعنى فإذا أمنتم فأتموا الصلاة أي جنسها معدلة الأركان ولا تصلوها ماشين أو راكبين أو قاعدين ، وهو المروي عن ابن زيد ، وقيل : المعنى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج ، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه وليس بالصحيح لما علمت من مذهبه (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً) أي مكتوبا مفروضا (مَوْقُوتاً) محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال فلا بدّ من إقامتها سفرا أيضا ، وقيل : المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدرا في الحضر بأربع ركعات وفي السفر بركعتين فلا بدّ أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه ، واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها في حال القتال على خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال.


(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما ينالكم من الآلام مختصا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لا تصبرون مع إنكم أولى بالصبر منهم حيث إنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى ما لا يخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ، ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة.

وجوز أن يحمل الرجاء على الخوف فالمعنى ـ ان الألم لا ينبغي أن يمنعكم لأن لكم خوفا من الله تعالى ينبغي أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم إلى الألم وهم يختارونه لإعلاء دينهم الباطل فما لكم والوهن ـ ولا يخلو عن بعد ، وأبعد منه ما قيل : إن المعنى أن الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه ، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى.

وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أن لا تهنوا لأن تكونوا تألمون ؛ وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ) تعليل للنهي عن الوهن لأجله ، وقرئ ـ تئلمون كما يئلمون ـ بكسر حرف المضارعة ، والآية قيل : نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد ، وقيل : نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد ، وروي ذلك عن عكرمة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا في العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ما تظهرون منها وما تسرون (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال لذلك فإن فيه عواقب حميدة وفوزا بالمطلوب (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أخرج غير واحد عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر ، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينحله بعض العرب ، ويقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا فإذا سمع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال :

أو كلما قال الرجال قصيدة

أضموا (١) فقالوا : ابن الأبيرق قالها

وكانوا أهل حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان طعام الناس بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك (٢) ابتاع منها فخص بها نفسه فقدمت ضافطة فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم فقال بنو أبيرق : ونحن نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق ، وقال : أنا أسرق فو الله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا : إليك عنا أيها الرجل فو الله ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له ذلك فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سأنظر في ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم

__________________

(١) أضم. كفرح. غضب ا ه منه.

(٢) الدرمك. كجعفر. دقيق الحواري ا ه منه.


يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الله تعالى المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) إلخ فلما نزل أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسى في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ثم لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله تعالى (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) [النساء : ١١٥] الآية ، ثم إن حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه هجا سلافة فقال :

فقد أنزلته بنت سعد وأصبحت

ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فلما سمعت ذلك حملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح فقالت : أهديت إليّ شعر حسان ما كنت تأتيني بخير ، وأخرج ابن جرير عن السدي ـ واختاره الطبري ـ أن يهوديا استودع طعمة بن أبيرق درعا فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ودفنها فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليك الأنصاري فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه ، وقال طعمة : أتخونونني فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع فقال طعمة : أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقولوا له : ينضح عني ويكذب حجة اليهود ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهمّ أن يفعل فأنزل الله تعالى الآية فلما فضح الله تعالى طعمة بالقرآن هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمي فنقب بيته وأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابن عمي أردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا وأنزل الله تعالى فيه (وَمَنْ يُشاقِقِ) إلخ ، وعن عكرمة أن طعمة لما نزل فيه القرآن ولحق بقريش ورجع عن دينه وعدا على مشربة للحجاج سقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقي ركبا من قضاعة فعرض لهم فقالوا : ابن سبيل منقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات ، وعن ابن زيد أنه بعد أن لحق بمكة نقب بيتا يسرقه فهدمه الله تعالى عليه فقتله ، وقيل : إنه أخرج فركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقي في البحر.

هذا وفي تأكيد الحكم إيذان بالاعتناء بشأنه كما أن في إسناد الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند ، وتقديم المفعول الغير الصريح للاهتمام والتشويق ، وقوله سبحانه : (بِالْحَقِ) في موضع الحال أي إنا أنزلنا إليك القرآن متلبسا بالحق (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) برهم وفاجرهم (بِما أَراكَ اللهُ) أي بما عرفك وأوحي به إليك ، و «ما» موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول ـ لأرى ـ وهي من رأى بمعنى عرف المتعدية لواحد وقد تعدت لاثنين بالهمزة ، وقيل : إنها من الرأي من قولهم : رأي الشافعي كذا وجعلها علمية يقتضي التعدي إلى ثلاثة مفاعيل وحذف اثنين منها أي بما أراكه الله تعالى حقا وهو بعيد ، وأما جعلها ـ من رأى البصرية مجازا ـ فلا حاجة إليه (وَلا تَكُنْ


لِلْخائِنِينَ) وهم بنو أبيرق ، أو طعمة ومن يعينه ، أو هو ومن يسير بسيرته ، واللام للتعليل ، وقيل : بمعنى عن أي لا تكن لأجلهم أو عنهم (خَصِيماً) أي مخاصما للبرآء ، والنهي معطوف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل : إنا أنزلنا إليك الكتاب فاحكم به (وَلا تَكُنْ) إلخ ، وقيل : عطف على أنزلنا بتقدير قلنا ، وجوز عطفه على الكتاب لكونه منزلا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما قلت لقتادة ، أو مما هممت به في أمرت طعمة وبراءته لظاهر الحال ، وما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتادة ، وكذا الهمّ بالشيء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصمة الله تعالى له وتنزيهه عما يوهم النقص وحاشاه ـ أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعدّ حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحدود يوشك أن يكون كالذنب فلا متمسك بالأمر بالاستغفار في عدم العصمة كما زعمه البعض ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد (وَاسْتَغْفِرِ) لأولئك الذين برءوا ذلك الخائن (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) مبالغا في المغفرة والرحمة لمن استغفره ، وقيل : لمن استغفر له (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يخونونها وجعلت خيانة الغير خيانة لأنفسهم لأن وبالها وضررها عائد عليهم ، ويحتمل أنه جعلت المعصية خيانة فمعنى (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يظلمونها باكتساب المعاصي وارتكاب الآثام ، وقيل : الخيانة مجاز عن المضرة ولا بعد فيه ، والمراد بالموصول إما السارق أو المودع المكافر وأمثاله ، وإما هو ومن عاونه فإنه شريك له في الإثم والخيانة ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عليه الصلاة والسلام المقصود بالنهي ، والنهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه ، وقد يقال : إن ذلك من قبيل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ومن هنا قيل : المعنى لا تجادل أيها الإنسان.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) كثير الخيانة مفرطا فيها (أَثِيماً) منهمكا في الإثم ، وتعليق عدم المحبة المراد منه البغض والسخط بصيغة المبالغة ليس لتخصيصه بل لبيان إفراط بني أبيرق وقومهم في الخيانة والإثم.

وقال أبو حيان : أتي بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع منه الإثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد ، وليس بشيء ، وإرداف الخوان بالأثيم قيل : للمبالغة ، وقيل : إن الأول باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة ، والثاني باعتبار تهمة البريء ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الإثم لأنها سبب له ، أو لأن وقوعهما كان كذلك ، أو لتواخي الفواصل على ما قيل : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم ، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على الذين (يَخْتانُونَ) على الأظهر ، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع الحال من «من» (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه ، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه. وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشاكلة (وَهُوَ مَعَهُمْ) على الوجه اللائق بذاته سبحانه ، وقيل : المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه ؛ والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به ما قبله ، وقيل : متعلق ب (يَسْتَخْفُونَ).

(ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من رمي البريء وشهادة الزور. قال النيسابوري : وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي ؛ وأما عند غيرهم فمجاز ، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه ، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هاهنا فتذكر (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ) أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية (مُحِيطاً) أي


حفيظا ـ كما قال الحسن ـ أو عالما لا يعزب عنه شيء ولا يفوت ـ كما قال غيره ـ وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(١٢٥)

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع ، والجملة مبتدأ وخبر ، وقوله سبحانه : (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة ، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة، و (جادَلْتُمْ)


صلته ، فالحمل حينئذ ظاهر ، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.

(فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ) يومئذ (وَكِيلاً) أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه ، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه ، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه ، و (أَمْ) هذه منقطعة كما قال السمين ، وقيل : عاطفة كما نقله في الدر المصون ، والاستفهام كما قال الكرخي : في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختص به كالإنكار ، وقيل : السوء ما دون الشرك ، والظلم الشرك ، وقيل : السوء الصغيرة ، والظلم الكبيرة. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لما استغفره منه كائنا ما كان (رَحِيماً) متفضلا عليه ، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار ، قيل : وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه (وَمَنْ يَكْسِبْ) أي يفعل (إِثْماً) ذنبا من الذنوب (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شيء ومنه الكسب (حَكِيماً) في كل ما قدر وقضى ، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى ، وقيل : (عَلِيماً) بالسارق (حَكِيماً) في إيجاب القطع عليه ، والأول أولى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي صغيرة ، أو ما لا عمد فيه من الذنوب.

وقرأ معاذ بن جبل (يَكْسِبْ) بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب (أَوْ إِثْماً) أي كبيرة ، أو ما كان عن عمد ، وقيل : الخطيئة الشرك والإثم ما دونه ، وفي الكشاف : الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه ، وفي الكشف كأن هذا أصله ، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) [الشورى : ٣٧ ، النجم : ٣٢] ، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي يقذف به ويسنده ، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل : (ثُمَّ يَرْمِ) بأحد الأمرين ، وقيل : إنه عائد على (إِثْماً) فإن المتعاطفين ـ بأو ـ يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو (إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وعلى المعطوف نحو (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] ، وقيل : إنه عائد على الكسب على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، وقيل : في الكلام حذف أي ـ يرم بها وبه ـ و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة ، وقرئ بهما (بَرِيئاً) مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل ، أو بأبي مليك (فَقَدِ احْتَمَلَ) بما فعل من رمي البريء ، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل ، وقيل : افتعل بمعنى فاقتدر وقدر (بُهْتاناً) وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته ، وقيل : هو الكذب الذي يتحير في عظمه ، والماضي ـ بهت ـ كمنع ، ويقال في المصدر : بهتا وبهتا وبهتا (وَإِثْماً مُبِيناً) أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة ـ لإثما ـ وقد اكتفي في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه.

وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية


ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه ، أما كونه بهتانا فظاهر ، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضا كذلك ، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان ؛ فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة ، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم ، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبئ عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال ، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط ـ كذا قاله شيخ الإسلام ـ ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى : (فَقَدِ احْتَمَلَ) إلخ : لأنه بكسبه الإثم آثم ، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه ، وإن أجيب عنه فافهم.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق ، وقيل : لو لا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة ، وقيل : لو لا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي ؛ وقيل : المراد لو لا حفظه لك وحراسته إياك.

(لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من الذين يختانون ، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها ، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس ، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن ، وقيل : المراد بهم وفد ثقيف ، فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنهم قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة ، فلم يجبهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت».

وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق ، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام ، أو بأن يهلكوك ، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى ، ومنه على ما قيل : قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] والجملة جواب (لَوْ لا) وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية ، وقيل : المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة.

وقال الراغب : إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم ؛ وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير ـ ولو لا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك ـ ثم استأنف بقوله سبحانه : (لَهَمَّتْ) أي لقد همت بذلك (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم ، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم ، والجملة اعتراضية ، وقوله تعالى : (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) عطف عليه وعطفه على (أَنْ يُضِلُّوكَ) وهم محض ؛ و (مِنْ) صلة ، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم ، وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك ، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل الله تعالى عليك ، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي القرآن الجامع بين العنوانين ، وقيل : المراد


بالحكمة السنة ، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك ، والجملة على ما قال الأجهوري : في موضع التعليل لما قبلها ، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم. (وَعَلَّمَكَ) بأنواع الوحي (ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور ، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين ، أو من أمور الدين وأحكام الشرع ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أو من الخير والشر ـ كما قال الضحاك ـ أو من أخبار الأولين والآخرين ـ كما قيل ـ أو من جميع ما ذكر ـ كما يقال ..

ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي إنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى ، واستظهر في البحر العموم.

(وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة ، ومن ذلك النبوة العامة والرئاسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي الذين يختانون ، واختار جمع أن الضمير للناس ، وإليه يشير كلام مجاهد ، و ـ النجوى ـ في الكلام كما قال الزجاج : ما يتفرد به الجماعة ، أو الاثنان ، وهل يشترط فيه أن يكون سرا أم لا؟ قولان : وتكون بمعنى التناجي ، وتطلق على القوم المتناجين ـ كإذ هم نجوى ـ وهو إما من باب رجل عدل ، أو على أنه جمع نجي ـ كما نقله الكرماني ـ والظرف الأول خبر (لا) والثاني في موضع الصفة للنكرة أي كائن (مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ) أي إلا في نجوى من أمر (بِصَدَقَةٍ) فالكلام على حذف مضاف ، وبه يتصل الاستثناء ، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين ، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير ، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه ، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه ـ بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ ، فإنه في كثير من نجواه خير ـ فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع ، وجوز رحمه‌الله تعالى ، بل زعم أنه الأولى أن يجعل (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل ، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر ، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير (أَوْ مَعْرُوفٍ) وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه ، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف ، وإرشاد ضال إلى غير ذلك ، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع ، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه ، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق الروح ، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين ـ وهي الحالقة للدين ـ كما في الخبر ، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب ، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك ، ولا كذلك الأمر بالإصلاح ، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس ، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة ، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف ، وإما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ولا يخفى ما فيه ، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف ، نعم أبيح الكذب لذلك ، فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ، وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في


ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها».

وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة ، وأيد بما أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال : بلى قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا» ، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال.

ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى قال : إصلاح ذات البين» ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب ، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي المذكور من الصدقة وأخويها ؛ والكلام تذييل للاستثناء ، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى ، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل : حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول : نعم ما فعلت ، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى (يَفْعَلْ) حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب ، ولا يتوقف ذلك على اللفظ ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر (وَمَنْ يَفْعَلْ) الأمر واحدا ، وقيل : لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة ، بل لما ذكر لآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل : ومن يمتثل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لأجل طلب رضاء الله تعالى (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) بنون العظمة على الالتفات ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء (أَجْراً عَظِيماً) لا يحيط به نطاق الوصف ، قيل : وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات ، وإن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان ، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي وقال الغزالي : إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا ، وقيل :

هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص ، وفي دلالة الآية ـ على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان ـ نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه ، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه ـ من الشق فإن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، ولظهور الانفكاك بين الرسول ـ ومخالفة فك الإدغام هنا ، وفي قوله سبحانه في [الأنفال : ١٣] (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ـ رعاية لجانب المعطوف ، ولم يفك في قوله تعالى في [الحشر : ٤] (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ).

وقال الخطيب : في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم لازمة بخلافها في الرسول ، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول ، وفي آية الأنفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد ، وما ذكرناه أولى ، والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من المشاقة والمخالفة ، وتعليل الحكم الآتي بذلك ، والآية نزلت كما قدمناه في سارق الدرع أو مودعها ، وقيل : في قوم طعمة لما ارتدوا بعد أن أسلموا ، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد


وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول إلى أنا نضله ، وقيل : معناه نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه ، وقيل : نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في الدنيا من الأوثان (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أي ندخله إياها ، وقد تقدم.

وقرئ بفتح النون من صلاه (وَساءَتْ مَصِيراً) أي جهنم أو التولية ، واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على حجية الإجماع بهذه الآية ، فعن المزني أنه قال : كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لاسطوانة وسوى ثيابه فقال له : ما الحجة في دين الله تعالى؟ قال : كتابه ، قال : وما ذا؟ قال : سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وما ذا؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذا الأخير أهو في كتاب الله تعالى؟ فتدبر ساعة ساكتا ، فقال له الشيخ : أجلتك ثلاثة أيام بلياليهنّ فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس ، وقال : حاجتي ، فقال : نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عزوجل : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ) إلخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض ، قال : صدقت ، وقام وذهب ، وروي عنه أنه قال : قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.

واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قال اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة ، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع ، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان ، ورده في الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول ، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه ، فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه.

واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية ، ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة ، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف ، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة ، فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام ، فيكون الإجماع مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول ، وأوضح القاضي وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما ، أو أحدهما ، أو الجمع بينهما ، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال : من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم ، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم.

«فإن قيل» : لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين «أجيب» بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم ، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة ، واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن «غير سبيل المؤمنين» يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما صاروا به مؤمنين ، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور ، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه


لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا ، واستصعب التفصي عنه ، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر ، وقريب منه قول الأصفهاني ، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما ، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور ، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر ، وعليه دليل آخر ، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما ، أو نعمل بمقابله ، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين ، وعلى الثاني ارتفاعهما ، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل ، فيلزم العمل به قطعا ، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع (غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) مطلقا بل بشرط المشاقة ، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر ، والقرينة عليه غير ظاهرة ، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما ، وأجابوا عما أجابوا عنه منها ، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال ، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد ، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد ، أو لأن للآية سببا آخر في النزول ، فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب ، فما ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا من الشرك ، أو أحدا من الخلق ، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع ، ولا يبعد أن يكون من أفراده (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق ، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل ، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا (فَقَدْ ضَلَ) إلخ ، وفيما تقدم (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [النساء : ٤٨] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى ، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عزوجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا ، ولذلك جاء بعد تلك (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ٤٩] وقوله سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النساء : ٥٠] وجاء بعد هذه قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي ما يعبدون ، أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما ، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وعبر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان ، أو لما أن أسماءها مؤنثة ـ كما قيل ـ وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله :

وما ذكر فإن يكبر فأنثى

شديد اللزم ليس له ضروس

فإنه عنى القراد ، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي حلمة كثمرة ، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر ـ كهبل وودّ وسواع وذي الخلصة ـ وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم ، وقيل : إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها ، ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد ، وقيل : المراد بالإناث الأموات ، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الأنثى كل


ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس ، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز ، وقيل : سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها ، وقيل : لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان ، وقيل : كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا ؛ وروي ذلك عن أبيّ بن كعب ، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله عز اسمه ، وروي ذلك عن الضحاك ، وهو جمع أنثى ـ كرباب وربي ـ في لغة من كسر الراء.

وقرئ ـ إلا أنثى ـ على التوحيد ـ وإلا أنثى ـ بضمتين كرسل ، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب ، وإما جمع أنيث كقليب وقلب ، وقد جاء حديد أنيث ، وإما جمع إناث كثمار وثمر ، وقرئ ـ وثنا وأثنا ـ بالتخفيف والتثقيل ، وتقديم الثاء على النون ـ جمع وثن ـ كقولك : أسد وأسد ، وأسد ووسد ، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.

وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها ـ إلا أوثانا ـ (وَإِنْ يَدْعُونَ) أي وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق ، وقيل : المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال : «ليس من صنم إلا فيه شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس ، وهو المروي عن مقاتل وغيره ، والمريد والمارد والمتمرد : العاتي الخارج عن الطاعة ، وأصل مادة ـ م ر د ـ للملامسة والتجرد ، ومنه (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) [النمل : ٤٤] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها ، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء ، وقيل : لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء (لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده وأبعده عن رحمته ، وقيل : المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به ، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان.

وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الإعراب.

(وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) عطف على الجملة المتقدمة ، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن ، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال ، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي ، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل ، وإما حال مما بعده ، واختاره البعض ، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص ، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه ، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين ، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه‌السلام ما نال طمع في ولده ، وقال ذلك ظنا ، وأيد بقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠] ، وقيل : إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله :

امتلأ الحوض. وقال : قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله ، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة ، وأقول لهم : ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم وقيل : أمنيهم بطول البقاء في الدنيا


فيسوفون العمل ، وقيل : أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلّا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة ، وروى الأول عن الكلبي (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالتبتيك ـ كما قال أبو حيان ـ أو بالضلال كما قال غيره (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، أو ليشقنها ـ كما قال الزجاج ـ بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء ، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها. والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَ) ممتثلين به بلا ريث (خَلْقَ اللهِ) عن نهجه صورة أو صفة ، ويندرج فيه ما فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه ، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا. وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.

وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا ، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خصاء الخيل والبهائم» ، وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك ، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان ، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له ، وعن طاوس أنه خصى جملا ، وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن خصاء الفحول ، فقال : لا بأس به ، وعن الحسن مثله ، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا.

وقال النووي : لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه ، ولا يجوز في كبره ، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف ، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم ، وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك ، وعن قتادة أنه قرأ الآية ، ثم قال : ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه ، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو ، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وحديث النهي محمول على غير ذلك (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته ، وقيد (مِنْ دُونِ اللهِ) لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم ، وأما ما قيل : من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها ، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها ، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشئ من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ظاهرا ، وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟ (يَعِدُهُمْ) ما لا يكاد ينجزه ، وقيل : النصر والسلامة ، وقيل : الفقر والحاجة إن أنفقوا ، وقرأ الأعمش (يَعِدُهُمْ) بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات. (وَيُمَنِّيهِمْ) الأماني الفارغة ، وقيل : طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها ، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة : فلان يعطي ويمنع ، وضمير الجمع المنصوب في (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) راجع إلى ـ من ـ باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في (يَتَّخِذِ) و (خَسِرَ) راجع إليها باعتبار لفظها ، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة


وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر ، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة ، وإما بلسان أوليائه ، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد ، و (غُرُوراً) إما مفعول ثان للوعد ، أو مفعول لأجله ، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور ، أو غارا ، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن (يَعِدُهُمْ) في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين ، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد ، وفي البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما (أُولئِكَ) إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران (مَأْواهُمْ) ومستقرهم جميعا (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي معدلا ومهربا ، وهو اسم مكان ، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى ، ويقال : محيص ومحاص ، وأصل معناه كما قيل : الروغان ، ومنه وقعوا في حيص بيص ، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا ، و (عَنْها) متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا. ولم يجوزوا تعلقه ب (يَجِدُونَ) لأنه لا يتعدى بعن ، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد ، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه ، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدا خبره قوله تعالى :

(سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته ، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين ، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم وعدا وأحقه حقا ، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه ، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل ، وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل (سَنُدْخِلُهُمْ) على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات ، ويكون (حَقًّا) حالا منه.

(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) تذييل للكلام السابق مؤكد له ، فالواو اعتراضية ، و ـ القيل ـ مصدر قال ومثله القال.

وعن ابن السكيت : أنهما اسمان لا مصدران ، ونصبه على التمييز ، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع ، وبناء أفعل ، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة ، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى ، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه ، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق الله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي صدق ولا أصدق منه ، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه ، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلية ، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين : من أصدق من الله قيلا ، فيكون عطفا على (خالِدِينَ) أدهى وأمر.

وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) الخطاب للمؤمنين ، والأماني بالتشديد والتخفيف ـ وبهما قرئ ـ جمع أمنية على وزن أفعولة ، وهي كما قال الراغب : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها ، ويقال : منى له الماني أي قدر له المقدر ، ومنه قيل : منية أي مقدرة ، وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له ، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور


ما ذكر ، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه ، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه : ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت ، والباء في (بِأَمانِيِّكُمْ) مثلها في ـ زيد بالباب ـ وليست زائدة والزيادة محتملة ، ونفاها البعض واسم (لَيْسَ) مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري ، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل : عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله ، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح ، وقيل : عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا ؛ وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى ، فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم و (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ؛ ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نبيكم ، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل الله تعالى (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) ، وقوله سبحانه (وَمَنْ أَحْسَنُ) إلخ أي ليس وعد الله تعالى ، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة ، أو العمل الصالح ، أو الإيمان ، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى ، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر ، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله ، أنه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مرفوعا «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم».

وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا : لانبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم : لا بعث ولا عذاب ، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا : وقرر سبحانه ذلك بقوله عزّ من قائل : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) عاجلا أو آجلا ، فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : «كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت : بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك يا أبا بكر؟ قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة».

وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : «لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها» والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى ، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلّت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات ، والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه ، فقد صح في غير ما طريق «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة».


وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة ، وروي عن ابن مسعود ـ الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا ـ واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات ، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟ ، وظاهر الأحاديث ـ ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ـ أنها تكفرها ، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء» إلى غير ذلك.

ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم ، وخص بعضهم الجزاء بالآجل ، ومن بالمشركين وأهل الكتاب ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا : وهذا كقوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] ، وقيل : المراد من السوء هنا الشرك ، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير ، وكلا القولين خلاف الظاهر ، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين : لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته (وَلِيًّا) يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى (وَلا نَصِيراً) ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به ، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا ، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) أي بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد ، «فمن» تبعيضية ، وقيل : هي زائدة.

واختاره الطبرسي وهو ضعيف ، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر ، وقوله سبحانه (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) في موضع الحال من ضمير (يَعْمَلْ) و (مَنْ) بيانية.

وجوز أن يكون حالا (مِنَ الصَّالِحاتِ) و (مَنْ) ابتدائية أي كائنة (مِنْ ذَكَرٍ) إلخ ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى ، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون المعنى ـ الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى ـ لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم ، وجعلهن محرومات من الميراث ، وقوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال أيضا ، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه ، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل ، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان ، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة.

(يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جزاء عملهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (يَدْخُلُونَ) مبنيا للمفعول من الإدخال (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم ، فإن النقير علم في القلة والحقارة ، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة ، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب ، فإذا لم يرض بالأول ـ وهو أرحم الراحمين ـ فكيف يرضى بالثاني ـ وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب ـ مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا ، والجملة تذييل لما قبلها ، أو عطف عليه.


(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه ، وقيل : أخلص توجهه له سبحانه ، وقيل : بذل وجهه له عزوجل في السجود ، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي ، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه ، و (دِيناً) نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير : ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين ، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية ، و (مِمَّنْ) متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل ، وجوز فيه أن يكون حالا من (وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي آت بالحسنات تارك للسيئات ، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد صح أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام : «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وقيل : الأظهر أن يقال : المراد (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عقيدته ، وهو مراد من قال : أي وهو موحد ، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال ، والجملة في موضع الحال من فاعل (أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها ، وهذا عطف على (أَسْلَمَ) وقوله سبحانه : (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الزائفة حال من (إِبْراهِيمَ).

وجوز أن يكون حالا من فاعل (اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه‌السلام ، والإيذان بأنه نهاية في الحسن ، وإظهار اسمه عليه‌السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح ، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على (وَمَنْ أَحْسَنُ) إلخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا ، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة ، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان ، ولا على صلة (مَنْ) لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أظهر من أن يخفى ، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر ، والعطف على (حَنِيفاً) لا يصح إلا بتكلف ، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء ، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية ، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال :

قد تخللت مسلك الروح مني

ولذا سمي الخليل خليلا

فإذا ما نطقت كنت حديثي

وإذا ما سكت كنت الغليلا

وإما من الخلل كما قيل : على معنى أن كلّا من الخليلين يصلح خلل الآخر ، وإما من الخلة بالفتح ، وهو الطريق في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة ، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق ، وقد جاء ـ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ـ أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلّا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه ، وإطلاقه على إبراهيم عليه‌السلام قيل : لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة ، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى ، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا ، فإن من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر ، وفي بعض الآثار ـ ولست على يقين في صحته ـ أنه عليه‌السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له : وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك ، فقال : يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه. فأوحى الله تعالى : إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي ، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه‌السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك : يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال : إن ربي عاتبني فيك ، وقال : أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك : أو قد وقع هذا؟! مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع


إبراهيم عليه‌السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه. فقيل له في ذلك فقال : تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى إليه أنت خليلي حقا ، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد» ، وقيل ـ واختاره البلخي والفراء ـ لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك قوله لجبريل عليه‌السلام حين قال له يوم ألقي في النار : ألك حاجة؟ أما إليك فلا ، ثم قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل ، وقيل : في وجه تسميته عليه‌السلام خليل الله غير ذلك ، والمشهور أن الخليل دون الحبيب.

وأيد بما أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «جلس ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول : إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر : ما ذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما ، وقال آخر : فعيسى روح الله تعالى وكلمته ؛ وقال آخر : آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك. وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر ، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر» ، وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا ، ثم قال وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي» ، والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة ، وأن المحبة أوسع دائرة ، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه‌السلام ، وهي المرتبة الثابتة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه‌السلام ، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة ، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه في إبراهيم عليه‌السلام ، فقد صح أن خلقه القرآن ، وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وشهد الله تعالى له بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يؤذن بذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام.

وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل أن يتوفى : إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، والتشبيه على حدّ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] في رأي ، وقيل : إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى.

وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما ، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع ، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل ، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق ، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك ، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى


المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى ، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره ـ كما قيل ـ وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول ، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ أجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة فإنها تقتضيها قطعا ، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) علبى أنه كالتعليل لوجوب العمل ، وما بينهما من قوله سبحانه : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلّا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه : (وَاتَّخَذَ اللهُ) إلخ بناء على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى.

وقيل : لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شئونه كما هو دأب المخلوقين ، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم ، بل لمجرد تكرمته وتشريفه ، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه‌السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة بناء على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام ، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلا بدّ من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف ، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس ، أو لتحصيل أحوال الكمالات (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي تنقصوا من الأعمال البدنية (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل ، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتركوا عند ذلك الأعمال البدنية ، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما في بحار «لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي الأعمال البدنية (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وليفعلوا كما تفعل (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة ، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس (فَإِذا سَجَدُوا) وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) ذابين عنكم اعتراض الجاهلين ، أو قائمين بحوائجكم الضرورية (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) منهم (لَمْ يُصَلُّوا) بعد (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) وليفعلوا فعلك (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) كما أخذا الأولون أسلحتهم ، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن ، وقيل : الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص ، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفي في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة ، وفي الثاني أمر الحذر أيضا (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قوى النفس الأمارة (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) وهي


قوى الروح (وَأَمْتِعَتِكُمْ) وهي المعارف الإلهية (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً) بأن أصابكم شؤبوب (مِنْ مَطَرٍ) يعني مطر سحائب التجليات (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) من القوى النفسانية (عَذاباً مُهِيناً) أي مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أي أديتموها (فَاذْكُرُوا اللهَ) في جميع الأحوال (قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محل القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) ووصلتم إلى محل البقاء (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل الاختصاص (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم (كَما تَأْلَمُونَ) منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) أي تأملون منه سبحانه (ما لا يَرْجُونَ) لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة ، ولا يخطر ذلك لهم ببال ، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) فيعلم أحوالكم وأحوالهم (حَكِيماً) فيفيض على القوابل حسب القابليات (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها (بِالْحَقِ) متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) خواصهم وعوامهم (بِما أَراكَ اللهُ) أي بما علمك الله سبحانه من الحكمة (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره (خَصِيماً) تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان ، أو تقول لله تعالى : يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون ، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فيفعل ما تطلبه منه وزيادة (وَلا تُجادِلْ) أحدا عن (الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) بتضييع حقوقها (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) لنفسه (أَثِيماً) مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) بإزالتها وقلعها (وَهُوَ مَعَهُمْ) محيط بظواهرهم وبواطنهم (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من الوهميات والتخيلات الفاسدة (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فيجازيهم حسب أعمالهم (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) بظهور صفة من صفات نفسه (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بنقص شيء من كمالاتها (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) فيستر ويعطى ما يقتضيه الاستعداد (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) بإظهار بعض الرذائل (أَوْ إِثْماً) بمحو ما في الاستعداد (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) بأن يقول : حملني الله تعالى على ذلك ، أو حملني فلان عليه (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود ، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) إلى أن قال : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه (وَرَحْمَتُهُ) حيث وهب لك الكمال المطلق (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لعود ضرره عليهم ،


وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) الجامع لتفاصيل العلم (وَالْحِكْمَةَ) التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) وهو ما كان من جنس الفضول ، والأمر الذي لا يعني (إِلَّا) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة ، (أَوْ مَعْرُوفٍ) قولي كتعلم علم ، أو فعلي كإغاثة ملهوف (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) الذي هو من باب العدل (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) ويجمع بين تلك الكمالات (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) الله تعالى (أَجْراً عَظِيماً) ويدخله جنات الصفات (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالف ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير ما عليه أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) الحرمان (وَساءَتْ مَصِيراً) لمن يصلاها (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها ، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه (لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده عن رياض قربه (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الطريق الحق (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات (لَيْسَ) أي حصول الموعود (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) بل لا بد من السعي فيما يقتضيه ، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس ، (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) أي حالا (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) وسلم نفسه إليه وفني فيه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) في التوحيد (حَنِيفاً) مائلا عن السوي (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه عزوجل فهو عارف به بكل جزء منه ، ومن هنا قيل : إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله ؛ وأنشد :

ما قدّ لي عضو ولا مفصل

إلا وفيه لكم ذكر

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ


الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)(١٤٧)


(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شئونه سبحانه (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود ، وهو رب الكرم والجود ، لا رب غيره ، ولا يرجى إلا خيره (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين بعد بين هنا ، وقال غير واحد : إن المراد (يَسْتَفْتُونَكَ) في ميراثهن ، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا ، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس ، وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ ، ثم قالوا : سلوا فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه ، وإلى الأول مال شيخ الإسلام : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي يبين لكم حكمه فيهن ، والإفتاء إظهار المشكل على السائل ، وفي البحر يقال : أفتاه إفتاء ، وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) في (ما) ثلاثة احتمالات : الرفع والنصب والجر ، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي ـ وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم ـ وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها ، وفي الكتاب متعلق ـ بيتلى ـ أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب ، وإما أن تكون مبتدأ ، و (فِي الْكِتابِ) خبره ، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له ، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو ، وما يتلى متناول لما تلي وما سيتلى ، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في (يُفْتِيكُمْ) وصح ذلك للفصل ، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع ، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل ، والمتلو فاعل مجازي له ، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف ، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه ، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل ، والإيراد أيضا غير وارد ، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد ، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى ، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى ، والجملة إما معطوفة على جملة (يُفْتِيكُمْ) وإما معترضة ، وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وأقسم ـ بما يتلى عليكم في الكتاب ـ وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى ، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه ، نعم فيه اختلال معنوي لا يكاد ينفعه ، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم ، ولا يخفى ما فيه ، وقوله سبحانه : (فِي يَتامَى النِّساءِ) متعلق ـ بيتلى ـ في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون (ما) مبتدأ ، و (فِي الْكِتابِ) خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة ، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا ، وجوزوا أن يكون بدلا من (فِيهِنَ) وأن يكون صلة أخرى ـ ليفتيكم ـ ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى ، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد ، وفي الثاني


هنا سببية كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن امرأة دخلت النار في هرة» فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه ، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه ، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص ، وادعي أنه الأظهر وليس بشيء ـ كما قال الحلبي وغيره ـ وقرئ ـ ييامى ـ بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام ، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله تعالى عنه ، واختاره الطبري ، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، واختاره الجبائي ، وقيل : (ما كُتِبَ لَهُنَ) من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج.

وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم (وَتَرْغَبُونَ) عطف على صلة (اللَّاتِي) أو على المنفي وحده ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (تُؤْتُونَهُنَ) فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو : فظاهر ، وإذا قلنا بعدم الجواز : التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي في (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أو عن (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فإن أولياء اليتامى ـ كما ورد في غير ما خبر ـ كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن ، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن ، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا ، بل إجمال ، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل ، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه ، والشافعية يقولون : إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر ، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ ، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على يتامى النساء ، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدّم آنفا.

(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) عطف على ما قبله ، وإن جعل في يتامى بدلا ، فالوجه النصب في هذا ، و (الْمُسْتَضْعَفِينَ) عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل ، بناء على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا ، ولو عطف على البدل لكان بدلا ، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام ، وجوز في (أَنْ تَقُومُوا) الرفع على أنه مبتدأ ، والخبر محذوف أي خير ونحوه ، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم ـ أن تقوموا ، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم ، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم (وَما تَفْعَلُوا) في حقوق المذكورين (مِنْ خَيْرٍ) حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) فيجازيكم عليه ، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه ، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) شروع في بيان أحكام لم تبين قبل ، وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : «خشيت سودة رضي الله تعالى عنها أن يطلقها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه الآية ، وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره ، فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت ، فهو من باب الاشتغال ، وزعم الكوفيون أن (امْرَأَةٌ) مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي ، وقدر بعضهم هنا ـ كانت ـ لاطراد حذف كان بعد إن ، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور ، والخوف إما على حقيقته ، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل


(مِنْ بَعْلِها) أي زوجها ، وهو متعلق ـ بخافت ـ أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : (نُشُوزاً) أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب ، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين (أَوْ إِعْراضاً) أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه ، وفي البحر : النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا ، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن ، أو دمامة ، أو شين في خلق ، أو خلق ، أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز (فَلا جُناحَ) أي فلا حرج ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ.

(أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة ، أو كسوة ، أو تهبه المهر ، أو شيئا منه ، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله ، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل ، وقرأ غير أهل الكوفة ـ يصالحا ـ بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها ، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت ، وقرأ الجحدري ـ يصلحا ـ بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صادا وأدغم ـ كما قال أبو البقاء ـ لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة.

وقرئ يصطلحا ـ وهو ظاهر ، و (صُلْحاً) على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح ، أو بواسطة حرف أي يصلح ، والمراد به ما يصلح به ، و (بَيْنَهُما) ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من (صُلْحاً) أي كائنا بينهما ، وإما مصدر محذوف الزوائد ، أو من قبيل (أَنْبَتَها) الله (نَباتاً) [آل عمران : ٣٧] و (بَيْنَهُما) هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف ، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل ، ويجوز أن يكون (بَيْنَهُما) ظرفا ، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه ، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا ، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما (صُلْحاً) واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد ؛ وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه المصالحة (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة ، فاللام للعهد ، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر ، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس ؛ وقيل : إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية ، والجملة اعتراضية ، وكذا قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية ، والثانية فعلية ولا مناسبة معنى بينهما ، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة ، والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل ، وحضر متعد لواحد وأحضر لاثنين ، والأول هو (الْأَنْفُسُ) القائم مقام الفاعل ؛ والثاني (الشُّحَ) ، والمراد أحضر الله تعالى (الْأَنْفُسُ الشُّحَ) وهو البخل مع الحرص ، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ، أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها ، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه ، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته ، وكذا شح


نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في العشرة مع النساء (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن ، أو بذل ما يعز عليهن. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والتقوى ، أو بجميع ما تعملون ، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا (خَبِيراً) فيجازيكم ويثيبكم على ذلك ، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب ، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات ، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه ، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أي لا تقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشئون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.

وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال : لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع ، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : في الجماع ، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا : في المحبة ، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبها أكثر من غيرها ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» وعنى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على إقامة ذلك وبالغتم فيه (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها ، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره (فَتَذَرُوها) أي فتدعوا التي ملتم عنها (كَالْمُعَلَّقَةِ) وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : التي ليست مطلقة ولا ذات بعل ، وقرأ أبي ـ كالمسجونة ـ وبذلك فسر قتادة المعلقة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في (فَتَذَرُوها) وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير ، وحذف نون (فَتَذَرُوها) إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي ، إما للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله ، وفي الآية ضرب من التوبيخ ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ، وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال : ـ كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل ، وعن مجاهد قال : كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه ، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما كنتم تفسدون من أمورهن (وَتَتَّقُوا) الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) فيغفر لكم ما مضى من الحيف (رَحِيماً) فيتفضل عليكم برحمته (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي المرأة وبعلها ، وقرئ ـ يتفارقا ـ أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ما أهمه ، وقيل : يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر (مِنْ سَعَتِهِ) أي من غناه وقدرته ، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق ، وقيل : زجر لهما عن المفارقة ، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى (وَكانَ اللهُ واسِعاً) أي غنيا


وكافيا للخلق ، أو مقتدرا أو عالما (حَكِيماً) متقنا في أفعاله وأحكامه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة ، ولا الإيناس بعد الوحشة ـ ولا ولا ـ وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى ، والجملة مستأنفة جيء بها ـ على ما قيل ـ لذلك (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أمرناهم بأبلغ وجه ، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم ، والكتاب عام للكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة ، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص ، و (مِنْ) متعلقة ـ بوصينا ـ أو ـ بأوتوا ـ (وَإِيَّاكُمْ) عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن (أَنِ) مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين ، ووصلها بالأمر ـ كالنهي وشبهه ـ جائز كما نص عليه سيبويه ، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول ، وقوله تعالى :

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عطف على (وَصَّيْنَا) بتقدير قلنا ـ أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم ، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته ـ وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين ، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على (اتَّقُوا اللهَ) وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية ، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا ، والفعل (وَصَّيْنَا) أو أمرنا أو غيره ، وقيل : إن العطف المذكور من باب : علفتها تبنا وماء باردا.

وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها ، أو مع الذين أوتوا الكتاب (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم (حَمِيداً) أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وقيل : إن قوله سبحانه : و (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلخ تهديد على الكفر أي إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء ، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السّماوات والأرض له ، وقوله عزوجل : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم ، وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة ، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) تذييل لما قبله ، والوكيل هو القيم ، والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه ، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى ، وفي النهاية يقال : وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه ، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم بأرزاق العباد ، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه ، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم ، وتوكل على الله تعالى ، وادعى البيضاوي ـ بيض الله تعالى غرة أحواله ـ أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله عزوجل كفاه ، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا ، ولا يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه (إِنْ يَشَأْ) إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين (يُذْهِبْكُمْ) يفنكم ويهلككم.

(أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر ، فالخطاب لنوع من الناس ، وقد


أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨] ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ، وقال : إنهم قوم هذا» وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية ، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس ، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز ـ كما قيل ـ لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن ـ غيرا ـ تقع على المغاير في جنس أو وصف ، ـ وآخر ـ لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.

وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر ، وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] وقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٥] فوصف جل اسمه ـ مناة ـ بالأخرى لما جانست ـ العزى ، واللات ـ ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر ، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال : جاءت هند ورجل آخر ، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من ، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت : قال : الفند الزماني ، وقال آخر : كان تقدير الكلام ، وقال آخر : من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها ، وكثرة استعمال آخر في النطق ، وفي الدر المصون : إن هذا غير متفق عليه ، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة ؛ وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف ، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب ، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف ـ وهنا ليست بخاصة ـ فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف ؛ وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة : إن العرب لا تقول : مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا ، وإفرادا ، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم :

ولقد شفعتهما بآخر ثالث

وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي

وقال أبو حية النميري :

وكنت أمشي على ثنتين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشجر

وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت : جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر ، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى ؛ وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ ، وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الاشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر ، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب ، وبالآخر مقابل البائع ، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف ، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر ، واشترطه ابن جني ، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة :

والخيل تقتحم الغبار عوابسا

من بين منظمة وآخر ينظم


وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار ، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه ، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، فلو قلت : جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز ، ولو قلت : أكلت رغيفا ، وهذا قميص آخر لم يحسن ، وأما قول الشاعر :

صلى على عزة الرحمن وابنتها

ليلى وصلى على جاراتها الأخر

فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها ، ولو لا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات ، بل كان يقول وصلى على بناتها الأخر ، وقد قوبل في البيت أيضا ـ أخر ـ وهو جمع بابنتها وهو مفرد ، وزعم السهيلي أن ـ أخرى ـ في قوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٢٠] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير (مَناةَ) الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد ؛ فجعلها ثالثة اللات والعزى ، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر ، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى ، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى ، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى ، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى.

وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها ، وفي المسائل الصغرى للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله ، فلو قلت : أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام ، وهو يشبه ـ سائر وبقية وبعض ـ في أنه لا يستعمل إلا في جنسه ، فلو قلت : ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما ، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس :

إذا قلت : هذا صاحبي ورضيته

وقرت به العينان بدلت آخرا

وفي الحديث «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد خفة في مرضه فقال : انظروا من أتكئ عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما».

وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا ، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين (قَدِيراً) بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية.

(فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء ، وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران ، فيقال : من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك ، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ،


وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما فعلت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال : عالم ، وقرأت ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها ، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» ، وقيل : إنه الجزاء إلا أنه مؤول بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه ، وقيل : المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى. (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى : ٢٠] الآية (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك ، وقد يقال : ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي ، والأول مسموع ، والثاني مبصر ، وقيل : السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء ، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف.

وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام ، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة ، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك (شُهَداءَ) بالحق (لِلَّهِ) بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي ، وانتصاب (شُهَداءَ) على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن.

وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه ، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية : أي كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد ، وقيل : إنه صفة (قَوَّامِينَ) ، وقيل : إنه خبر (كُونُوا) وقوّامين حال (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار المراد هاهنا ، والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وقيل : الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد ، والجار ـ على ما أشير إليه ـ ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير مستقرا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم ، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه (شُهَداءَ) أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه ـ بقوّامين ـ وفيه بعد ، (وَلَوْ) إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية ، وقيل : جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم ، وعطف الأول ـ بأو ـ لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة (إِنْ يَكُنْ) أي المشهود عليه (غَنِيًّا) يرجى في العادة ويخشى (أَوْ


فَقِيراً) يترحم عليه في الغالب ويحنى ، وقرأ عبد الله ـ إن يكن غني أو فقير ـ بالرفع على أن كان تامة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وانظر لهما من سائر الناس ، ولو لا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد منكم ، وقرأ أبيّ «فالله أولى بهم» بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف ـ بأو ـ الإفراد كما قيل : لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء ، وقيل : إن (أَوِ) بمعنى الواو ، والضمير عائد إلى المذكورين ، وحكي ذلك عن الأخفش ، وقيل : إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام ، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه ، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين ، وقد يكونان فقيرين ، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا ، فحيث لم تذكر الأقسام أتي ـ بأو ـ لتدل على ذلك ، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه ، وقيل : غير ذلك ، وقال الرضي : الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض ـ بأو ـ يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد ، وذلك يدور على القصد ، فيجوز : جاءني زيد أو عمرو وذهب ، أو وهما ذاهبان إلى المسجد ، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير ، نعم قيل : إن الظاهر الإفراد دون التثنية ، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة.

وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد ، فتأمل (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) أي هوى أنفسكم (أَنْ تَعْدِلُوا) من العدول والميل عن الحق ، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له ، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي ، فالاحتمالات أربعة : الأول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي عنه ، فلا حاجة إلى تقدير ، والثاني أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا ، والثالث أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق ، والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول ، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك ، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر ، وقيل : اللي المطل في أدائها ، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

(أَوْ تُعْرِضُوا) أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود ، وقيل : إن الخطاب للحكام ، واللي الحكم بالباطل ، والإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين ، ونسب هذا إلى السدي ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا ، وقرأ حمزة (وَإِنْ تَلْوُوا) بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة ، وقيل : إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة ، أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنى (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من اللي والإعراض ، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر (خَبِيراً) عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك ، وهو وعيد محض على القراءة الأولى ، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنا للوعد ، والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير ، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى ، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر ، وحملها


بعضهم على ما يشمل القسمين ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده.

وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال : كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا ، وأبعد منه بمراحل ـ بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة ـ كون المراد منها كونوا (شُهَداءَ لِلَّهِ) تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك (إِنْ يَكُنْ) أي الشاهد (غَنِيًّا) تضر شهادته بغناه (أَوْ فَقِيراً) تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه (فَاللهُ) تعالى (أَوْلى بِهِما) من أنفسهما ، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما ، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي ؛ وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم ، وهو ظاهر على رأي ، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق ، وفي الشهادة حقوق ، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى ، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه ، وروي هذا عن الحسن ، واختاره الجبائي ، وقيل : الخطاب لهم ، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا ، أو (آمَنُوا) بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي ، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقيل : الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى (آمَنُوا) أخلصوا الإيمان ، واختاره الزجاج وغيره.

وقيل : لمؤمني اليهود خاصة ، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم ، وقيل : لمؤمني أهل الكتابين ، وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : للمشركين المؤمنين باللات والعزى ، وقيل : لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف: ١٧٢] والكتاب الأول القرآن ، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد : (وَكُتُبِهِ) والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب ، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها ، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه.

ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود ، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل : آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ـ نزل ، وأنزل ـ على البناء


للمفعول ، واستعمال ـ نزل ـ أولا و (أَنْزَلَ) ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع ، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو ـ كما قال العلامة الثاني ـ قد يرجع إلى كل واحد ، وقد يرجع إلى المجموع ، والتعويل على القرائن ، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء ، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف ـ ببعد ـ والمشهور أن المراد ـ بالضلال البعيد ـ الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه ، ويجوز أن يراد (ضَلالاً بَعِيداً) عن الوقوع ، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له ، وزيادة ـ الملائكة واليوم الآخر ـ في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا ، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل ، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه ، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عزوجل وبين الرسل في إنزال الكتب ، وقيل : اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة ، وقرئ بكتابه على إرادة الجنس (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي ، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان ، ثم ارتدوا ، ثم أظهروا ، ثم ارتدوا ، ثم ماتوا على كفرهم ، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البر والبحر ، وعن الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ثم يظهرون ، ثم يقولون : قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ويستمرون على الكفر إلى الموت ، وذلك معنى قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران : ٧٢] ، وقيل : هم اليهود آمنوا بموسى عليه‌السلام ، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم ، ثم آمنوا عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى عليه‌السلام ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال الزجاج والفراء : إنهم آمنوا بموسى عليه‌السلام ثم كفروا بعده ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى عليه‌السلام ، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام ، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه‌السلام ، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر ، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير ، ثم كافرين بعيسى عليه‌السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه‌السلام وغيره ، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه‌السلام والإنجيل.

وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس ، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم ، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد : إن كنت لمستتيبه ثلاثا ، ثم قرأ هذه الآية وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال : يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب ، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الاستتابة إذ لا منفعة ، وعليه فالمراد من قوله سبحانه : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا ، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور : المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر


منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.

وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك ، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم ، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.

وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة ، وإن كان ـ بأن ـ ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب باختيار الشق الأول ، وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في حروف الجر الزائدة ، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان ، والفعل المصدر ـ بأن ـ يدل عليهما فيجوز الإخبار به ـ وإن لم يجز بالمصدر ـ ولا يخفى ما فيه ، فإن الإخبار على هذا بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار باسم الفاعل لا به أيضا فافهم واختار قوم في القوم ما ذهب إليه مجاهد. وأيد ذلك بقوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ووضع فيه (بَشِّرِ) موضع أنذر تهكما بهم ، ففي الكلام استعارة تهكمية وقيل : موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) في موضع النصب ، أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين ، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه وجود الفاصل فقد جوزه العرب ، والمراد بالكافرين قيل : اليهود ، وقيل : مشركو العرب ، وقيل : ما يعم ذلك والنصارى ، وأيد الأول بما روي أنه كان يقول بعضهم لبعض : إن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتم فتولوا اليهود.

(مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي متجاوزين ولاية المؤمنين ، وهو حال من فاعل (يَتَّخِذُونَ أَيَبْتَغُونَ) أي المنافقون (عِنْدَهُمُ) أي الكافرين (الْعِزَّةَ) أي القوة والمنعة وأصلها الشدة ، ومنه قيل : للأرض الصلبة : عزاز ، والاستفهام للإنكار ، والجملة معترضة مقررة لما قبلها ، وقيل : للتهكم ، وقيل : للتعجب. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي إنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم.

وقيل : بيان لوجه التهكم ، أو التعجب ، وقيل : إنها جواب شرط محذوف أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء (فَإِنَّ الْعِزَّةَ) إلخ ، وهي على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة ، و (جَمِيعاً) قيل : حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض ، وقوله سبحانه : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم.

وقرأ ـ ما عدا عاصما ـ ويعقوب (نَزَّلَ) بالبناء لما لم يسم فاعله ، والجملة حال من ضمير (يَتَّخِذُونَ) مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء الله تعالى مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك ، وهو ورود النهي عن المجالسة المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل : تتخذونهم أولياء ؛ والحال أنه تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) قبل هذا بمكة (فِي الْكِتابِ) أي القرآن العظيم الشأن.


(أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] الآية ، وهذا يقتضي الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة ، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم؟! و (أَنْ) هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي إنه إذا سمعتم ، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي إنكم ، وكون المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة ـ كما قال أبو حيان ـ في حيز المنع ، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة ، والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب ، و (أَنْ) وما بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به ـ لنزل ـ وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية ، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه عليكم ، وتكون (أَنْ) مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت إليه ، و (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ) في موضع الحال من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة ، فإن قيد القيد قيد ، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات ، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها ، والضمير في (مَعَهُمْ) للكفرة المدلول عليهم ب (يُكْفَرُ وَيُسْتَهْزَأُ) والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء ، وقيل : الكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء واحد ، وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل و (إِذا) ملغاة لأن شرط علمها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجيء بعدها فعل ، و ـ مثل ـ خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه في الأصل مصدر ، فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره ، وقيل : لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير ؛ أو لأنه مضاف لجمع فيعم ، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] ، والجمهور على رفعه ، وقرئ شاذا بالنصب ، فقيل : إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك : زيد مثل عمرو في أنه حال مثله ، وقيل : إنه إذا أضيف إلى مبني اكتسب البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الصافات : ٩٢] ، وفي غيرها كقوله :

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع ـ كدون وغير وبين ـ ولم يصحح ذلك في ـ مثل ـ وأعربه حالا من الضمير المستتر في ـ حق ـ في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ـ ما ـ أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب ، والمراد من المنافقين إما المخاطبون ، وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق ، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر ، واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط ، والعدول عن كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن معه كون جملة (إِنَّ اللهَ) إلخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر ، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة ، فكيف يذكر المنافقون فيها بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟.

وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة ، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا ، وإن ادّعي دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا


فلا دليل عليه ، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد ، بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر ، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة ، فقد قال الله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين : إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون ، والمراد بمن يكفر ويستهزئ أعم من المنافقين والكافرين ، وضمير (مَعَهُمْ) للمفهوم من الفعلين ، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال : كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم ، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة ، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل ، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة.

وقال شيخ الإسلام خواهرزاده : الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت ، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا ، ومن تأمل قوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ) [يونس : ٨٨] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي ، وقول بعضهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال : اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله بايعه فكف صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده ونظر إليه ثلاث مرات وهو معروف في السير ، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا.

واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا ، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر ، فقيل له في ذلك : فتلا الآية ، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر ، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى ، ومن هنا قيل : إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم بخوضهم ، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع ، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط ، وعن الجبائي أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه ، وعلى هذا ـ الذي ذهب إليه بعض المحققين ـ يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم ، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل ، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا ، والخطاب في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) للمؤمنين الصادقين بلا خلاف ، والموصول إما بدل من ـ الذين يتخذون ـ أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين.

وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم ، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف ، والتربص الانتظار ، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر ، والفاء في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء (قالُوا) أي لكم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) أي حظ من الحرب ، فإنها سجال (قالُوا) أي المنافقون للكفار (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم ، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم


وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم : وقيل : المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ) الدخول في جملة (الْمُؤْمِنِينَ) وهو خلاف الظاهر ، وأصل الاستحواذ الاستيلاء ، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ فصيحا ، وقال أبو زيد : إنه قياسي ، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرئ (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار أن ، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين ، وقيل : سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه ، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل : تغليب ، وقيل : حذف أي بينكم وبينهم (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) أي يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء واستدراجا ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال ، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم ، وحكي ذلك عن السدي ، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى ، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه ، ونحن نقول : يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه ، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح ، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته ، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة ، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب ـ وهو ظاهر ـ فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي ، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه.

وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال ، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه ، وعن الحسن ـ واختاره الزجاج ـ أن المراد يخادعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حد (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ، وقيل : خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور. وروي ذلك عن الحسن ، أيضا ـ والسدي ـ واختاره جماعة من المفسرين ـ وقد مر تحقيق ذلك ، ولله تعالى الحمد.

والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر (إِنَ) أو مستأنفة كالأولى.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها ، وقرئ بفتح الكاف وهما جمعا كسلان.

(يُراؤُنَ النَّاسَ) ليحسبوهم مؤمنين ، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد


في كلامهم ـ كنعم وناعم ـ وقراءة عبد الله وإسحاق ـ يروون ـ تدل على ذلك ، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها ، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة ، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه ، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فما ذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل : (يُراؤُنَ) إلخ ، أو حال من ضمير (قامُوا) أو من الضمير في كسالى.

(وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) عطف على (يُراؤُنَ) ، وقيل : حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا ، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله ، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب ، وقيل : إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا ، وروي ذلك عن قتادة ، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه.

وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : ـ لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل ـ وقيل : المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح ، وإليه ذهب الجبائي ، وأيد بما أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا» ، وقيل : الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه ، وجوز أن يراد بالقلة العدم ، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ.

وأجيب بأن المعنى (لا يَذْكُرُونَ اللهَ) تعالى (إِلَّا) ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال ، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز ، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر ، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه ، وقال بعض المحققين : في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وفيه ـ وإن كان أهون من الأول ـ ما فيه ، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط ، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) حال من فاعل (يُراؤُنَ) أو من فاعل (يَذْكُرُونَ) وجوز أن يكون حالا من فاعل (قامُوا) أو منصوب على الذم بفعل مقدر ، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين ، ولذا أضيف (بَيْنَ) إليه ، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله :

الألمعي الذي يظن بك الظن

كأن قد رأى وقد سمعا

والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان ، وأصل الذبذبة كما قال الراغب : صوت الحركة للشيء المعلق ، ثم استعير لكل اضطراب وحركة ، أو تردد بين شيئين ، والذال الثانية أصلية عند البصريين ، ومبدلة من باء عند الكوفيين ، وهو خلاف معروف بينهم ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (مُذَبْذَبِينَ) بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي ـ مذبذبين قلوبهم ، أو دينهم ، أو رأيهم ـ ويحتمل أن يجعل لازما على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين ، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود متذبذبين.

وقرئ بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من ـ الدبة ـ بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما


في النهاية ، ويقال : هو على دبتي أي طريقتي وسمتي ، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر ، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان ، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين ، ومحله النصب على أنه حال من ضمير (مُذَبْذَبِينَ) أو على أنه بدل منه ، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) لعدم استعداده للهداية والتوفيق (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه ، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط ـ كما قيل ـ أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين ، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم ، وقيل : المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون ، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين ؛ وقيل : المراد بالموصول المخلصون ، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء ، وإلى ذلك ذهب القفال ، وفي كلا القولين بعد (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة في العذاب ، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه ، ويشعر بذلك كثير من الآيات ، وقيل : أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون (١) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.

ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف ، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا ، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف ، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا ، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة ، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع ، و (عَلَيْكُمْ) يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من (سُلْطاناً) ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال : أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها ، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل : جهنم ، والثانية لظى ، والثالثة الحطمة والرابعة السعير ، والخامسة سقر ، والسادسة الجحيم ، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها ؛ وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض ، و (الدَّرْكِ) كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط ، والدرج باعتبار الصعود ، وفي كون المنافق (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) إشارة إلى شدة عذابه.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود ـ أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل ـ وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله ، وأما ما روي في الصحيحين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد غدر ، وإذا خاصم فجر» فقد قال المحدثون فيه : إنه مخصوص بزمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه

__________________

(١) قوله : «موافقون» وقوله بعده في الحديث : «وإذا وعد غدر» كذا بخطه.


الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم ، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين ، وقيل : ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك ، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص ، وأطلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له ، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه ، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العر ف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا ، وكأنه مأخوذ من النافقاء ، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باقتضاء المقام ، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».

وقرأ الكوفيون (الدَّرْكِ) بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر ، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال ، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس ، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ ، وزند وأزناد. ـ وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر ، فلا يندفع به الترجيح ، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة ، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار ، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال : إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش ، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة ، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار ، و (مِنَ النَّارِ) في محل النصب على الحال ؛ وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنه (الدَّرْكِ) والعامل الاستقرار ، والثاني أنه الضمير المستتر في (الْأَسْفَلِ) لأنه صفة ، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في (الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) وكون المراد (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى ، والخطاب لكل من يصلح له (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن النفاق وهو استثناء من المنافقين ، أو من ضميرهم في الخبر ، أو من الضمير المجرور في لهم ، وقيل : هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ؛ ودخلت ـ لما ـ في الكلام من معنى الشرط (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق ، وقيل : ثبتوا على التوبة في المستقبل ، والأول أولى (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) أي تمسكوا بكتابه ، أو وثقوا به (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس ، ودفع الضرر كما في النفاق ، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه‌السلام : يا روح الله من المخلص لله؟ قال : الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا ، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة ، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.

وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود ، والتعميم أولى ، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد ، ولو لا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.

وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها ، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا ، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه ، والظاهر ما ذكرناه ، ورسم (يُؤْتِ) بغير ياء ، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل.

وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها


(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) خطاب للمنافقين ـ وقيل : للمؤمنين ، وضعف ـ مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر ، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم ، و (ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده ، وقيل : نافية والباء سببية ، وقيل : زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك ، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار ، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته ، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبعث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه ، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها ، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ؛ ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان ، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان ، ويقول :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان ، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم ، وأما القول : بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب ، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز ، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة ، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال : لعل الوجه في ذلك أن الآية مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني ، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى ، ولا يخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم ، ولا يخلو عن حسن.

وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري ، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين ، وأن قوله سبحانه (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) متصل بقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) إلخ ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى ، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانخراط في زمرة الذين (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) [الفتح: ٢٩] فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران ، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات ، فقوله عزوجل : (إِنْ شَكَرْتُمْ) فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها ، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى ، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه ، فقوله عزّ


من قائل : (وَآمَنْتُمْ) تفسير له وتقرير لمعناه أي (وَآمَنْتُمْ) الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل ، فتقديم الشكر على الإيمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه ، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف ، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا :

(وَكانَ اللهُ شاكِراً) أي مثيبا على الشكر (عَلِيماً) بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر ، وإلى هذا ذهب الإمام ، وقال غير واحد : الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة ، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية ، وقيل : معناه المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قولهعزوجل : (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) فقد قال النيسابوري فيه : إن النفس للروح كالمرأة للزوج ، (فِي يَتامَى النِّساءِ) صفات النفوس ، و (ما كُتِبَ لَهُنَ) ما أوجب الله تعالى من الحقوق.

وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى ، والنفس تشح بترك حظوظها (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) في رفض حظوظ النفس ، فقد جاء في الخبر «إن لنفسك عليك حقا» (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) بين العالم العلوي والعالم السفلي (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي الروح والنفس (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فالروح يجتذب بجذبة ـ خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته ـ فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود ، والنفس تجتذب بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] إلى سعة غنى الله تعالى في عالم (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٢٩ ، ٣٠] انتهى ، ولا يخفى أن باب التأويل واسع ، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد ؛ وأما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا) إلخ فنقول : إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل (قَوَّامِينَ) بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك ، ثم قال جل وعلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من حيث البرهان (آمَنُوا) من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالإيمان التقليدي (آمَنُوا) بالإيمان العيني ، أو المراد (يا أَيُّهَا) المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط ، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالتقليد (ثُمَّ كَفَرُوا) إذ لم يكن للتقليد أصل (ثُمَّ آمَنُوا) بالاستدلال العقلي (ثُمَّ كَفَرُوا) إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بالشبهات والاعتراضات ، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى ، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق : إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة ، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم ما كان الله ليغفر لهم


لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لعدم الجنسية (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عزوجل ، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم ـ إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ـ لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم (يُراؤُنَ النَّاسَ) لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.

حنين أعرابية حنت إلى

أطلال نجد فارقته ومرخه

ومن هنا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبلال : «أرحنا يا بلال» يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها ، وظن الأخير برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر والعياذ بالله تعالى ؛ وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى ، وما قدر السوي عندهم ليراءوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى ، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر ، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا ، ولهذا قال قائلهم :

بذكر الله تزداد الذنوب

وتنكشف الرذائل والعيوب

وترك الذكر أفضل كل شيء

وشمس الذات ليس لها مغيب

لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر ، وأشار إلى مقام عال من قال :

لا يترك الذكر إلا من يشاهده

وليس يشهده من ليس يذكره

والذكر ستر على مذكوره ستر

فحين أذكره في الحال يستره

فلا أزال على الأحوال أشهده

ولا أزال على الأنفاس أذكره

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) لتحيرهم بضعف استعدادهم (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوي (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الصادقين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عزوجل وإخلاص الدين له سبحانه (وَآمَنْتُمْ) الإيمان الحائز لذلك (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) فيثبت ويوصل الثواب كاملا ، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

__________________

(١) «تم والحمد لله الجزء الخامس من تفسير روح المعاني ، ويتلوه الجزء السادس إن شاء الله تعالى» أوله «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول».


روح المعاني

الجزء السادس



بسم الله الرحمن الرحيم

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١٥١)

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) عدم محبته سبحانه لشيء كناية عن غضبه ، والباء متعلقة بالجهر وموضع الجار والمجرور نصب أو رفع ، و (مِنَ) متعلقة بمحذوف وقع حالا من السوء ، و ـ الجهر بالشيء ـ الإعلان به ، والإظهار كما يفهم من القاموس ، وفي الصحاح : جهر بالقول رفع صوته به ، ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أي لا يحب الله سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي إلا جهر من ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى ، وذلك بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء ؛ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هو أن يدعو على من ظلمه ، وعن مجاهد أن المراد لا يحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فيجوز له أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ما قد صنعه ، وعن الحسن والسدي ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ـ المراد لا يحب الله تعالى الشتم في الانتصار (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين ، وجوز الحسن للرجل إذا قيل له : يا زاني أن يقابل القائل له بمثل ذلك ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت ، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبيّ وابن جبير والضحاك وعطاء أنهم قرءوا (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل ، فالاستثناء منقطع ، والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه يفعل ما لا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء ، والموصول في محل نصب ، وجوز الزمخشري أن يكون مرفوعا بالإبدال من فاعل (يُحِبُ) كأنه قيل : لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو ، ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] وهي لغة تميمية ، وعليها قول الشاعر :

عشية ما تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض ، وكفى بنقل شيخ الصناعة سندا للمثبت ، ونقل عن أبي حيان أنه


ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح ، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره ، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت ، ورد ـ كما قال الشهاب ـ بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه ، وأن المراد ـ كما يفهمه كلام الطيبي ـ جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا إنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه ، أو لكونه مظنة توهم الإثبات ، فيقولون : ما جاءني زيد إلا عمرو ، والمعنى ما جاءني إلا عمرو فكذا هاهنا المعنى ـ لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم ـ فأدخل لفظ (اللهُ) تأكيدا لنفي محبته تعالى يعني لله سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك.

فإن قيل : ما بعد (إِلَّا) حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط ، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام ، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو «فإن قيل» : فيكون لفظ (اللهُ) مجازا عن أحد ولا سبيل إليه ، أجيب بأن لا يحب الله مؤول بلا يحب أحد ، وواقع موقعه من غير تجوز في لفظ (اللهُ) كذا قيل وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما ، فإما بتقدير لفظ ـ كما ذكره أبو حيان ـ وإما بالتجوز في لفظ العلم ، وكلاهما مرّ ما فيه ، ولا طريق آخر للعموم ، فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال : إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفي عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال هنا مثلا : إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق ، وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل على أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء ، فالأولى ما ذكره بعد بأن يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر ، والنظر إلى الظاهر.

وجوّز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير أي ـ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، إلا من ظلم ـ وكان يقرؤها كذلك ، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام الله تعالى العزيز (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم (عَلِيماً) بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم ، والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم.

ووجه ربط هذه الآية بما قبلها ـ على ما قاله العلامة الطيبي ـ أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله ، وفيه أن هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة ، وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية ـ كما قرره عصام الملة ـ ورجا أن يكون من الملهمات ، وحينئذ يشتركان في أن كلا منهما متضمنا (١) التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى ، ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق ، وهو إظهار خلاف ما يبطن بيّن جل وعلا أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره ، وقال شهاب الدين : الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه به ومحبة إظهاره تممه

__________________

(١) قوله : «متضمنا» كذا بخطه ا ه مصححه.


عزوجل بذكر ضده ، فكأنه قيل : إنه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه ، وفيه احتباك بديع (إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (خَيْراً) أي خير كان من الأقوال والأفعال ، وقيل المراد (إِنْ تُبْدُوا) جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم شكرا له على إنعامه عليكم ، وقيل : المراد بالخير المال والمعنى إن تظهروا التصدق (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تفعلوه سرا ، وقيل : تعزموا على فعله (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها ، والتنصيص على هذا مع اندراجه في ابتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به ، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان ، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله تعالى عفوّا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة ، وقال الحسن : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى ، وقال الكلبي : هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم ، وقيل : (عَفُوًّا) عمن عفا (قَدِيراً) على إيصال الثواب إليه ، نقله النيسابوري وغيره (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى :

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) في الإيمان بأن يؤمنوا به عزوجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام ، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة ، بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب ، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله ، لأنه عزوجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يشعر (وَيُرِيدُونَ) بهذا القول (أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي الإيمان والكفر (سَبِيلاً) أي طريقا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا ، إذ الحق لا يختلف ، (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢]! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه‌السلام ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه‌السلام وكفروا بالقرآن ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عزوجل وتركوا الإسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث به ورسله ، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله ، وقال بعضهم : الذين يكفرون بالله تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات ، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه ، وإن قيل : إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليه‌السلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا : إنه ثالث ثلاثة ، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه ، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم‌السلام وكفروا ببعضهم كاليهود ، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها ـ بأو ـ لكن أتي بالواو بدلها فهي بمعناها ، وقيل : إن الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته ، وقيل : إن قوله تعالى (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا) إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه : (يَكْفُرُونَ) لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة ، وأما قوله جل وعلا : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) إلخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية ، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله


تعالى ورسوله ؛ والآخرون فرقوا بين رسل الله تعالى عليهم‌السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود ، وعلى كل تقدير فخبر (إِنَ) قوله تعالى : (أُولئِكَ) أي الموصوفون بالصفات القبيحة (هُمُ الْكافِرُونَ) الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره وعامله محذوف أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا ، وجوّزوا أن يكون صفة لمصدر الكافرين ، أي هم الذين كفروا كفرا حقا أي لا شك فيه ولا ريب ، فالعامل مذكور ؛ و (حَقًّا) بمعنى اسم المفعول ، وليس بمعنى مقابل الباطل ، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى ، واحتمال الحالية ـ كما زعم أبو البقاء ـ بعيد ، والآية على ما زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) إلخ على أنها كالتعليل له وما توسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي لهم ، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية ، وقد يراد جميع الكفار وهم داخلون دخولا أوليا.

(عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به العزة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ


وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة ، ودخول (بَيْنَ) على أحد قد مرّ الكلام فيه والموصول مبتدأ خبره جملة قوله : (أُولئِكَ) أي المنعوتون بهذه النعوت الجليلة (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) أي الله تعالى (أُجُورَهُمْ) الموعودة لهم ، فالإضافة للعهد.

وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم ، والإتيان بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين ، فعن الزمخشري أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته ؛ فإذا دخل عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطى ما ليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذا كل واحد من ـ لن وسوف ـ حقيقته التوكيد ، ولهذا قال سيبويه : لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال : أولئك هم المؤمنون ـ حقا ـ مع استفادته مما دل على الضدية ، وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة.

وقرأ نافع وابن كثير وكثير ـ نؤتيهم ـ بالنون فلا التفات (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام (رَحِيماً) بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ما وعدوا (يَسْئَلُكَ) يا محمد.

(أَهْلُ الْكِتابِ) الذين فرقوا بين الرسل (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) فقالوا : إن موسى عليه‌السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده تعالى فطلبوا أن يكون المنزل جملة ، وأن يكون بخط سماوي ، وروي ذلك عن محمد بن كعب القرظي والسدي.

وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم ، وقريب منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله ، وما كان مقصدهم بذلك إلا التحكم والتعنت ، قال الحسن : ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم ما سألوا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) عليه‌السلام شيئا أو سؤلا.


(أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) المذكور وأعظم ، والفاء في جواب شرط مقدر والجواب مؤول ليصح الترتيب. أي إن استكبرت هذا وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر ، وقيل : إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى عليه‌السلام ما هو أكبر ، وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا على سيرتهم في كل ما يأتون ويذرون أسند إليهم ، وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب ، وجوز أن يكون من إسناد فعل البعض إلى الكل بناء على كمال الاتحاد نحو :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فيكون المراد بضمير (سَأَلُوا) جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن بعضهم ، وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون إسناد (يَسْئَلُكَ) إلى أهل الكتاب من ذلك الإسناد ، وأن يكون المراد بهم هذا النوع ويكون المراد بيان قبائح النوع فلا تكلف ولا تجوّز لا في جانب الضمير ولا في المرجع.

وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض إلى الكل مما ألف في الكتاب العزيز ، ووقع في نحو ألف موضع.

وقرأ الحسن أكثر بالمثلثة (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ) الذي أرسلك (جَهْرَةً) أي مجاهرين معاينين فهو في موضع الحال من المفعول الأول ـ كما قال أبو البقاء ـ ويحتمل الحالية من المفعول الثاني أي معاينا على صيغة المفعول ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما للآخر ، فلا يقال : إنه يتعين كونه حالا من الثاني لقربه منه.

وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الإرادة لأن الجهرة في كتب اللغة صفة للأول لا الثاني ؛ فيقال التقدير (أَرِنَا) نره رؤية جهرة ، وقيل : يقدر المصدر الموصوف سؤالا أي سؤالا جهرة ، وقيل : قولا أي قولا جهرة ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا (جَهْرَةً أَرِنَا اللهَ) تعالى فهو مقدم ومؤخر ـ وفيه بعد ـ والفاء تفسيرية (فَأَخَذَتْهُمُ) أي أهلكتهم لما سألوا وقالوا ما قالوا (الصَّاعِقَةُ) وهي نار جاءت من السماء.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : (الصَّاعِقَةُ) الموت أماتهم الله تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء الله تعالى أن يميتهم ، ثم بعثهم ، وفي ثبوت ذلك تردد.

وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ الصعقة ـ (بِظُلْمِهِمْ) أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها ، وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي امتناعها مطلقا ، واستدل الزمخشري بالآية على الامتناع مطلقا ، وبنى ذلك على كون الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم طلبوا الرؤية ثم قال : ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصواعق ، ثم أرعد وأبرق ودعا على مدعي جواز الرؤية بما هو به أحق.

وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو مع أن المعجزات سواسية الإقدام في الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما ، والتنظير بسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العجب العجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) وعبدوه.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي المعجزات التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء ، وفلق البحر وغيرها ، أو الحجج الواضحة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لا التوراة لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ (فَعَفَوْنا


عَنْ ذلِكَ) الاتخاذ حين تابوا ، وفي هذا على ما قيل : استدعاء لهم إلى التوراة كأنه قيل : إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم.

(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم ، وهذا على ما قيل : وإن كان قبل العفو فإن الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل كان توبة لهم ، لكن الواو لا تقتضي الترتيب ، واستظهر أن لا يجعل التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) وهو ما روي عن قتادة جبل كانوا في أصله فرفعه الله تعالى فجعله فوقهم كأنه ظلة ، وكان كمعسكرهم قدر فرسخ في فرسخ وليس هو ـ على ما في البحر ـ الجبل المعروف بطور سيناء ، والظرف متعلق ـ برفعنا ـ وجوز أن يكون حالا من الطور أي رفعنا الطور كائنا فوقهم (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب ميثاقهم ليعطوه ـ على ما روي ـ أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها ، أو ليخافوا فلا ينقضوا الميثاق ـ على ما روي ـ أنهم هموا بنقضه فرفع عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض ، قيل : وهو الأنسب بقوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [الأحزاب : ٧] ، وزعم الجبائي أن المراد بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة فنقضوه بعبادة العجل ، وفيه أن التوراة إنما نزلت بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلا يتأتى هذا ، وقال أبو مسلم : إنما رفع الله تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاء لعهدهم وكرامة لهم ، ولا يخفى أن هذا خرق لإجماع المفسرين ، وليس له مستند أصلا.

(وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان يوشع عليه‌السلام بعد مضي زمان التيه (ادْخُلُوا الْبابَ) قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس ، وقيل : هو إيلياء ، وقيل : أريحا ، وقيل : هو اسم قرية ، أو (قُلْنا لَهُمُ) على لسان موسى عليه‌السلام والطور مظل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ) المذكور إذا خرجتم من التيه ، أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها لأنهم لم يخرجوا من التيه في حياته عليه‌السلام ، والظاهر عدم القيد (سُجَّداً) متطامنين خاضعين ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ركعا ، وقيل : ساجدين على جباهكم شكرا لله تعالى (وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان داود عليه‌السلام (لا تَعْدُوا) أي لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ؛ أو لا تظلموا باصطياد الحيتان (فِي السَّبْتِ) ويحتمل ـ كما قال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله ـ أن يراد على لسان موسى عليه‌السلام حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت لكن كان الاعتداء فيه ، والمسخ في زمن داود عليه‌السلام ، وقرأ ورش عن نافع (لا تَعْدُوا) بفتح العين وتشديد الدال ، وروي عن قالون تارة سكون العين سكونا محضا ، وتارة إخفاء فتحة العين ، فأما الأول فأصلها ـ تعتدوا ـ لقوله تعالى : (اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [البقرة : ٦٥] فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان. فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالا وأدغمت ، وأما السكون المحض فشيء لا يراه النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدّهما ، وأما الإخفاء والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الإتيان بحركة ما ، وقرأ الأعمش «تعتدوا» على الأصل ، وأصل (تَعْدُوا) في القراءة المشهورة ـ تعدووا ـ بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان فحذف الأول ـ وهو الواو الأولى ـ وبقي ضمير الفاعل (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا بأوامر الله تعالى وينتهوا عن مناهيه ، قيل : هو قولهم : سمعنا وأطعنا وكونه (مِيثاقاً) ظاهر ، وكونه (غَلِيظاً) يؤخذ من التعبير بالماضي ، أو من عطف الإطاعة على السمع بناء على تفسيره بها ، وفي أخذ ذلك مما ذكر خفاء لا يخفى ، وحكي أنهم بعد أن قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله


تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد ، فإن صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور ، وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به ، وهو المذكور في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) [آل عمران : ٨١] الآية ، وكونه (غَلِيظاً) باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا ، والباء للسببية وما مزيد لتوكيدها ، والإشارة إلى أنها سببية قوية ، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا ، وجوز أن تكون ـ ما ـ نكرة تامة ، ويكون (نَقْضِهِمْ) بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ، وإن شئت أخرت العامل.

واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [المائدة : ١٣] ، وجوز غير واحد تعلق الجار ـ بحرمنا ـ الآتي على أن قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ) بدل من قوله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، وإليه ذهب الزجاج ، وتعقبه في البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد ، وبيان ذلك أن قولهم ـ على مريم بهتانا عظيما ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، واستحسنه السفاقسي ، ثم قال : وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه ، وفيه بحث ، وجعل العلامة الثاني الفاء في (فَبِظُلْمٍ) على هذا التقدير تكرارا للفاء في (فَبِما نَقْضِهِمْ) عطفا على أخذنا منهم ، أو جزاء شرط مقدر ، واستبعده أيضا من وجهين : لفظي ومعنوي ، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف ، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط ، والثاني بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه ، ثم قال : ولو جعلت الفاء للعطف على (فَبِما نَقْضِهِمْ) كما في قولك : بزيد وبحسنه ، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا ، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف ، أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه ؛ وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.

والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك ، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان في العروض ، أحدهما بالكفر ، والآخر بالنقض ، وقيل : هو متعلق بلا يؤمنون ، والفاء زائدة ، وقيل : بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن ، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به.

(وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع غلاف بمعنى الظرف ، وأصله غلف بضمتين فخفف ، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء ، وقال الكلبي : يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا ، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون كقوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥].

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلام معترض بين المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد


زعمهم الفاسد ، أي ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه ، والباء للسببية ، وجوز أن تكون للآلة ، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي ، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقي عند البعض ، وأيد بما أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترأ على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا» وأخرجه البيهقي أيضا في الشعب إلا أنه ضعفه.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوّة موسى عليه‌السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر ، أو صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا ، أو نصب على الاستثناء من ضمير (فَلا يُؤْمِنُونَ) أي (إِلَّا قَلِيلاً) منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم ، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان ، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر.

وقال عصام الملة : كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم ، فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم (وَبِكُفْرِهِمْ) عطف على ـ بكفرهم ـ الذي قبله ، ولا يتوهم أنه من عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف الكفر بعيسى عليه‌السلام ؛ والمراد بالكفر المعطوف عليه ، إما الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاقترانه بقوله تعالى : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وقد حكى الله عنهم هذه المقالة في مواجهتهم له عليه الصلاة والسلام في مواضع ، ففي العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية.

وقد يعتبر في جانب المعطوف المجموع ، ومغايرته للمفرد المعطوف عليه ظاهرة ، أو عطف على (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجوز اعتبار عطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله ، ولا يتوهم المحذور ، وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم يغاير بعض أجزائه بعضا ، وقد يقال بمغايرة الكفر في المواضع الثلاثة بحمله في الأخيرين على ما أشرنا إليه ، وفي الأول على الكفر بموسى عليه‌السلام لاقترانه بنقض الميثاق ، وتقدم حديث العدو في السبت (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) لا يقادر قدره حيث نسبوها ـ وحاشاها ـ إلى ما هي عنه في نفسها بألف ألف منزل ، وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة بالبراءة ، والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه ، ونصبه على أنه مفعول به ـ لقولهم ـ وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا بهتانا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين (وَقَوْلِهِمْ) على سبيل التبجح.

(إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاء كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] إلخ ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناء على قوله عليه الصلاة والسلام وإن لم يعتقدوه ، وقيل : إنهم وصفوه بغير ذلك من صفات الذم فغير في الحكاية ، فيكون من الحكاية لا من المحكي ، وقيل : هو استئناف منه مدحا له عليه الصلاة والسلام ورفعا لمحله وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في تبجحهم (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) حال أو اعتراض (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن رهطا من اليهود سبوه عليه‌السلام وأمه فدعا عليهم فمسخوا قردة وخنازير فبلغ


ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه‌السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه‌السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه.

وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر : «أتى عيسى عليه‌السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليه‌السلام فقالوا لهم : سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليه‌السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم : أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى فقتلوه وصلبوه ورفع الله تعالى عيسى عليه‌السلام» ، وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق ، وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه‌السلام ألقي على جميعهم بل قالوا : ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليه‌السلام من بينهم.

ورجح الطبري قول وهب ، وقال : إنه الأشبه ، وقال أبو علي الجبائي : إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته ، وقالوا : إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليه‌السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا ، وقيل : كان رجل من الحواريين ينافق عيسى عليه‌السلام فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه‌السلام فرفع عليه‌السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه‌السلام ، وقيل : غير ذلك ، و (شُبِّهَ) مسند إلى الجار والمجرور ، والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليه‌السلام ومن صلب ، أو في الأمر ـ على قول الجبائي ـ أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي (شُبِّهَ لَهُمْ) من قتلوه بعيسى عليه‌السلام ، أو الضمير للأمر و (شُبِّهَ) من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناء على ذلك القول ، وليس المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا مشبه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في شأن عيسى عليه‌السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا ، وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وقال من سمع منه ـ إن الله تعالى يرفعني إلى السماء ـ إنه رفع إلى السماء ، وقالت النصارى الذين يدعون ربوبيته عليه‌السلام : صلب الناسوت وصعد اللاهوت ، ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء أن ذلك يمتنع عنه اليعقوبية القائلين : إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال : مات ولم يمت ، وأهين ولم يهن.

وأما الروم القائلون : بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين ، فيقال لهم : فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا : فارقه فقد أبطلوا دينهم ، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد ، وإن قالوا : لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت ، وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة ، وقلنا لهم : أليس قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص ، فإن كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه ، وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية ، وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه ، ويقولون : لا يجوز ذلك لأنه إضلال ، ورده أظهر من أن يخفى ، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا


لزم تكذيب المسيح ، وإبطال نبوته بل وسائر النبوات على أن قولهم في الفصل : إن المصلوب قال : إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني ، وهو ينافي الرضا بمرّ القضاء ؛ ويناقض التسليم لأحكام الحكيم ، وأنه شكا العطش وطلب الماء والإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن صح مما ينادي على أن المصلوب هو الشبه كما لا يخفى.

فالمراد من الموصول ما يعم اليهود والنصارى جميعا (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي لفي تردد ، وأصل ـ الشك ـ أن يستعمل في تساوي الطرفين وقد يستعمل في لازم معناه ، وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا بقوله سبحانه : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) والاستثناء منقطع ، أي لكنهم يتبعون الظن.

وجوز أن يفسر الشك بالجهل ، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره ؛ فالاستثناء حينئذ متصل ، وإليه ذهب ابن عطية إلا أنه خلاف المشهور ، وما قيل : إن اتباع الظن ليس من العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) الضمير لعيسى عليه‌السلام كما هو الظاهر أي ما قتلوه قتلا يقينا ، أو متيقنين ، ولا يرد أن نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر كذلك فلا حاجة إلى التزام جعل يقينا مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، والتقدير تيقنوا ذلك يقينا ، وقيل : هو راجع إلى العلم ؛ وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة أي وما قتلوا العلم (يَقِيناً) من قولهم : قتلت العلم والرأي ، وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه ، وهو مجاز كما في الأساس ، والمعنى ما علموه يقينا ، وقيل : الضمير للظن أي ما قطعوا الظن (يَقِيناً) ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي ، وحكى ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأن (يَقِيناً) متعلق بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي بل رفعه سبحانه إليه يقينا ، ورده في البحر بأنه قد نص الخليل على أنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها ، والكلام ردّ وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة والسلام ، وفيه تقدير مضاف عند أبي حيان أي إلى سمائه ، قال : وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث المعراج ، وهو هنالك مقيم حتى ينزل إلى الأرض يقتل الدجال ويملؤها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة أو تمامها من سنّ رفعه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت البشر ويدفن في حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو في بيت المقدس ، وقال قتادة : رفع الله تعالى عيسى عليه‌السلام إليه فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا ، وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه ، وفي إنجيل لوقا ما يؤيده ؛ وأما رؤية بعض الحواريين له عليه‌السلام بعد الصلب فهو من باب تطور الروح ، فإن للقدسيين قوة التطور في هذا العالم وإن رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى ، وقد وقع التطور لكثير من أولياء هذه الأمة ، وحكاياتهم في ذلك يضيق عنها نطاق الحصر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب فيما يرده (حَكِيماً) في جميع أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه في أمر عيسى عليه‌السلام وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو هم والنصارى كما ذهب إليه كثير من المفسرين (وَإِنْ) نافية بمعنى ما ، وفي الجار والمجرور وجهان : أحدهما أنه صفة لمبتدإ محذوف ، وقوله تعالى : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) جملة قسمية ، والقسم مع جوابه خبر المبتدأ ولا يرد عليه أن القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم ، ولا ينافيه كون جواب القسم لا محل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كونه له محل باعتبار آخر لو سلم


أن الخبر ليس هو المجموع ، والتقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به ، والثاني أنه متعلق بمحذوف وقع خبرا لذلك المبتدأ ، وجملة القسم صفة له لا خبر ، والتقدير وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب ، وهو كلام مفيد ، فالاعتراض على هذا الوجه ـ بأنه لا ينتظم من أحد والجار والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ـ لا يفيد لحصول الفائدة بلا ريب ، نعم المعنى على الوجه الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته ، والظاهر أنه المقصود ، وأنه أتم فائدة ، والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف ، وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد إلا ، وأهل البصرة يمنعون حذف الموصول وإبقاء صلته ، والضمير الثاني راجع للمبتدإ المحذوف أعني أحد والأول لعيسى عليه‌السلام فمفاد الآية أن كل يهودي ونصراني يؤمن بعيسى عليه‌السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله تعالى ورسوله ، ولا ينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع فيه التكليف ، ويؤيد ذلك أنه قرأ أبي ـ ليؤمنن به قبل موتهم ـ بضم النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه في معنى الجمع ، وعوده لعيسى عليه‌السلام غير ظاهر.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الآية كذلك ؛ فقيل له : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهواء ، فقيل : أرأيت إن ضرب عنقه؟ قال : يتلجلج بها لسانه.

وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجاج : يا شهر آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت : رفعت إليك على غير وجهها إن النصراني إذا خرجت روحه ـ أي إذا قرب خروجها كما تدل عليه رواية أخرى عنه ـ ضربته الملائكة من قبله ومن دبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله تعالى ، وأنه ابن الله سبحانه ، وأنه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته ، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه ، وأن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ودبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان ، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم ، فقال : من أين أخذتها؟ فقلت : من محمد بن علي ، قال : لقد أخذتها من معدنها ، قال شهر : وايم الله تعالى ما حدثنيه إلا أم سلمة ، ولكني أحببت أن أغيظه ، والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض إلى المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه ، وقيل : الضميران لعيسى عليه‌السلام ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وأبي مالك والحسن وقتادة وابن زيد ، واختاره الطبراني ، والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه‌السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا ، وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل. ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما» قال : وتلا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، وقيل : الضمير الأول لله تعالى ولا يخفى بعده ، وأبعد من ذلك أنه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي هذا عن عكرمة ، ويضعفه أنه لم يجر له عليه الصلاة والسلام ذكر هنا ، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه ، لا أنه ـ كما زعم الطبري ـ لو كان صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الإيمان إنما هو في حال زوال التكليف فلا يعتد به (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) أي عيسى عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ) أي أهل الكتاب (شَهِيداً) فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم فيه : إنه ابن الله تعالى ، والظرف متعلق ـ بشهيدا ـ وتقديمه يدل على جواز تقديم خبر كان مطلقا ، أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن


المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله ، وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي تابوا من عبادة العجل ، والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشياء والنظائر صادر عنهم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ولمن قبلهم لا لشيء غيره كما زعموا ، فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم ، ومع ذلك كانوا يفترون على الله تعالى الكذب ويقولون : لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة والسلام حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٩٣] الآية ، وقد تقدم الكلام فيها ، وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام مفصلا.

واستشكل بأن التحريم كان في التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعيسى عليه‌السلام ولا ما أشار إليه قوله تعالى : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي ناسا كثيرا ، أو صدا ، أو زمانا كثيرا وقيل في جوابه : إن المراد استمرار التحريم فتدبر ولا تغفل ، وهذا معطوف على الظلم وجعله ، وكذا ما عطف عليه في الكشاف بيانا له ، وهو ـ كما قال بعض المحققين ـ لدفع ما يقال : إن العطف على المعمول المتقدم ينافي الحصر ، ومن جعل الظلم بمعناه وجعل (بِصَدِّهِمْ) متعلقا بمحذوف فلا إشكال عليه ، ومن هذا يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثاني بيانا للأول كما إذا قلت : بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه ، فإن المراد فيه لا بغير ذنب ، وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم ، وأعيدت الباء هنا ولم تعد في قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه ، وحيث فصل بمعموله لم تعد ، وجملة (وَقَدْ نُهُوا) حالية ، وفي الآية دلالة على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا ، وأن النهي يدل على حرمة المنهي عنه ، وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه ـ (عَذاباً أَلِيماً) سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم ، وذكر في البحر أن التحريم كان عاما للظالم وغيره ، وأنه من باب (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] دون العذاب ، ولذا قال سبحانه : (لِلْكافِرِينَ) دون ـ لهم ـ وإلى ذلك ذهب الجبائي أيضا فتدبر (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) استدراك من قوله سبحانه : (وَأَعْتَدْنا) إلخ ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا ، و (مِنْهُمْ) في موضع الحال أي لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة ، والمراد بهم عبد الله بن سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم ، وفي المذكورين نزلت الآية كما أخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي منهم ، وإليه يشير كلام قتادة ، وقد وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر ، وقوله سبحانه : (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب على الأنبياء والرسل حال من ـ المؤمنون ـ مبينة لكيفية إيمانهم ، وقيل : اعتراض مؤكد لما قبله ، وقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) قال سيبويه وسائر البصريين : نصب على المدح ، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام ، وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتي ، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا


يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره ، وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لا يكون في العطف وإنما يكون في النعوت ، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله :

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضيع مثل السعالي

وقال الكسائي : هو مجرور بالعطف على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قيل : وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس وتشريعها ليكون وصفا خاصا ، وقيل : المراد بالمقيمين الملائكة لقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، وقيل : المسلمون بتقدير مضاف أي وبدين المقيمين ، وقال قوم : إنه معطوف على ضمير (مِنْهُمْ) ، وقيل ضمير (إِلَيْكَ) ، وقيل : ضمير (قَبْلِكَ) والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام ـ لكن ـ المثقلة وضع موضعها (لكِنِ) المخففة ، ولا يخفى ما فيه ، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن ، وأن الصواب والمقيمون بالواو كما في مصحف عبد الله ، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا ، وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتى به إلى عثمان رضي الله تعالى عنه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا ، فقد قال السخاوي : إنه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان رضي الله تعالى عنه جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات ، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟! وتأول قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله :

منطق رائع وتلحن أحيا

نا وخير الكلام ما كان لحنا

أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه ، وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر.

ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي ، والعطف على ضمير (يُؤْمِنُونَ) ليس بشيء وكذا الحال في قوله تعالى :

(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب لا يعترضهم شك ولا تزلزلهم شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه ، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام ، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام ، واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ، ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق جل جلاله ، وانقطاعا عن السوي ، وتوجها إلى المولى كسا المقيمين حلة النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية ، فيا ما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب ، ثم وصفهم بكونهم بالمبتدإ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه ، وإحاطتهم به من طرفيه ، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما (أُولئِكَ) إشارة إلى


الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الذي هو الراسخون ، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا ، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر غير مرة ، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ، ووعد الآخرون بالأجر العظيم ، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة (يُؤْمِنُونَ) وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة ، وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) [النساء : ١٥٣] الآية كأنه قيل : لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرءوا من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك ، وروي هذا عن قتادة وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة «سيؤتيهم» بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى : (الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم ، وقيل : هو تعليل لقوله تعالى : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال سكين وعدي بن زيد : يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه‌السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية» والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح عليه‌السلام ، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء مشبها بإيحائنا إلخ ، وما في الوجهين مصدرية.

وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضي : و (مِنْ) بعده متعلق ـ بأوحينا ـ ولم يجوّزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث ، وبدأ سبحانه بنوح عليه‌السلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه ، وقيل : لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام ، وتعقب بالمنع ، وقيل : لمشابهته بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض ، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه‌السلام اتفاقي لا قصدي ، وعموم الفرق على القول به ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.

(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) عطف على (أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب عليه‌السلام في المشهور ، وقال غير واحد : إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل ، وقد بعث منهم عدة رسل ، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول : أرسلت إلى بني تميم ، وتريد أرسلت إلى وجوههم ، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليه‌السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي ـ وألف فيه الجلال السيوطي رسالة ـ خلافه (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام ، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي ، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره ، وقدم عيسى عليه‌السلام على من بعده تحقيقا


لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه ، وقيل : ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء ـ على ما ذكره أبو البقاء ـ أعجمية إلا الأسباط ، وفي ذلك خلاف معروف ، وفي (يُونُسَ) لغات أفصحها ضم النون من غير همز ، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء ، وكما آتينا داود زبورا ـ وإيثاره على أوحينا إلى داود ـ لتحقق المماثلة في أمر خاص ، وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء ؛ والزبور بفتح الزاي عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول ـ كالحلوب والركوب ـ كما نص عليه أبو البقاء.

وقرأ حمزة وخلف (زَبُوراً) بضم الزاي حيث وقع ، وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب ، أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس ، وقيل : إنه مصدر كالقعود والجلوس ، وقيل : إنه جمع زبور على حذف الزوائد ، وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود عليه‌السلام ، وكان إنزاله عليه عليه‌السلام منجما وبذلك يحصل الإلزام ، وكان فيه ـ كما قال القرطبي ـ مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام ، وإنما هي حكم ومواعظ والتحميد والتمجيد والثناء على الله تعالى شأنه (وَرُسُلاً) نصب بمضمر أي أرسلنا رسلا ؛ والقرينة عليه قوله سبحانه : (أَوْحَيْنا) السابق لاستلزامه الإرسال ، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه ، وقيل : القرينة قوله تعالى : (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) لا أنه منصوب ـ بقصصنا ـ بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل ، ولا أنه منصوب بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل ـ كما قيل ـ لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين شئون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم‌السلام في مطلق الإيحاء ، ثم في إيتاء الكتاب ، ثم في الإرسال ، فإن قوله سبحانه : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) منتظم لمعنى (آتَيْناكَ) و (أَرْسَلْناكَ) حتما فكأنه قيل : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان ، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا ، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ومعنى قصصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية إخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه السورة ، أو اليوم ، قيل : قصصهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة في سورة الأنعام وغيرها ، وقال بعضهم : قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقا فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام ، فيمكن أن يكون قصهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فعلمهم ، فأخبر بما أخبر على أن القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن (لَمْ) في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص ذكر الأخبار ، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفي ذكر عددهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص ، فيمكن أن يقال : لم يذكر سبحانه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبارهم أصلا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه «وحاشاه عليه الصلاة والسلام» عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين. والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية ، فأخطأ في الفهم ومات في ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية.

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) برفع الجلالة ونصب موسى ، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا على القلب.

(تَكْلِيماً) مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير واحد ، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل


فيرفع المجاز عنه ، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا ، مع أنه أكد الفعل ، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان.

بكى الخز من روح وأنكر جلده

وعجت عجيجا من جذام المطارف

فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر. فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة ، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول : التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال ، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة. والجملة إما معطوفة على قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عطف القصة على القصة لا على ـ آتينا ـ وما عطف عليه ، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات ، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها ، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه‌السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك.

هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه‌السلام لكلام الله عزوجل ، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإسراء مع زيادة رفعة ، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى ، بل ما من ذرة نور شعث في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول :

وكل آي أتى الرسل الكرام بها

فإنما اتصلت من نوره بهم

فصلى الله تعالى عليه وسلّم تسليما كثيرا (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) نصب على المدح ، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من (رُسُلاً) الذي قبله ، أو ضميره وهي حال موطئة والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها ، وجوز أن يكون نصبا على البدلية من (رُسُلاً) الأول ، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد ، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي (مُبَشِّرِينَ) من آمن وأطاع بالجنة والثواب (وَمُنْذِرِينَ) من كفر وعصى بالنار والعقاب (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) أي معذرة يعتذرون بها قائلين (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل ؛ وأن العقل لا يغني عن ذلك ، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار ، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة ، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث.

وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه (حُجَّةٌ) مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها ، فلا يبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء ، واللام متعلقة ـ بأرسلنا ـ المقدر ، أو ـ بمبشرين ومنذرين ـ على التنازع ، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه ، و (حُجَّةٌ) اسم كان وخبرها (لِلنَّاسِ) ، و (عَلَى اللهِ) حال من (حُجَّةٌ) ويجوز أن يكون الخبر (عَلَى اللهِ) و (لِلنَّاسِ) حال ، ولا يجوز أن


يتعلق على ـ بحجة ـ لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه ، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا ، وقوله تعالى : (بَعْدَ الرُّسُلِ) ـ أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم ـ ظرف لحجة ، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب في أمر يريده.

(حَكِيماً) في جميع أفعاله ، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين ، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز ، وقيل : (عَزِيزاً) في عقاب الكفار (حَكِيماً) في الأعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بتخفيف النون ورفع الجلالة.

وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة ، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إلخ قيل : إنهم لا يشهدون (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ).

وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد ، وقيل : إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم ، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن ، فالجار والمجرور متعلق ـ بيشهد ـ والباء صلة والمشهود به هو الحقية ، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك ، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «دخل جماعة من اليهود على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله فقالوا : ما نعلم ذلك فنزلت (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ)» وفي رواية ابن جرير عنه «أنه لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)» ، قالوا : ما نشهد لك فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ)» وقرئ «أنزل» على البناء للمفعول (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ذكر فيه أربعة أوجه : الأول أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، واختاره جماعة من المفسرين ، والثاني أن يكون المعنى (أَنْزَلَهُ) وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه ، واختاره الطبرسي ، والثالث أن يكون المعنى (أَنْزَلَهُ) بما علم من مصالح العباد مشتملا عليه ، والرابع أن يكون المعنى (أَنْزَلَهُ) وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ، والعلم على الوجه الأول قيل : بمعنى المعلوم ، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري ، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره ، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال : فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي ، فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة ، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه ، أو هو في الثالث بمعنى المعلوم ، والظرف حال من الفاعل أو المفعول ، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد ، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل ، وعلى الثالث من المفعول ، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي إنزالا متلبسا بعلمه ، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري ، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة وقيل : إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير ـ لأنزل إليك ـ لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص ، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ ، والظرف حال من الفاعل ، ويكون (أَنْزَلَهُ) تكريرا ليعلق به ما علق أو كما قيل ، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام ، وقيل : إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه


من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا ، وقرئ نزله (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أيضا بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة ، والجملة عطف على ما قبلها ، وقيل : حال من مفعول (أَنْزَلَهُ) أي أنزله (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) بصدقه وحقيته ، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر ، وأيّا ما كان ـ فيشهدون ـ من الشهادة ، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عزوجل.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة ؛ أو اتفقت منه كبوة (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها ، وقيل : (لا يُحِبُّ اللهُ) تعالى إفشاء سر الربوبية وإظهار مواهب الألوهية ، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بغلبات الأحوال وتعاقب كئوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني ، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى.

وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله ، وإنما ظلموا أنفسهم كما نطق بذلك الكتاب (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل ، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل ، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل (سَبِيلاً) أي طريقا (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المحجوبون حقا بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط ، وتوحيدهم زندقة وضلال ، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس‌سره (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ (١) يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) من الجنات الثلاث (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يستر ذواتهم وصفاتهم (رَحِيماً) يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) أي علما يقينا بالمكاشفة من سماء الروح (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم (بِظُلْمِهِمْ) وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري النفس الأمارة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الرادعة لهم عن ذلك (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) أي جعلناه مستوليا عليهم (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب أن يعطوا الميثاق ، وأشير بالطور إلى موسى عليه‌السلام ، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الموت (سُجَّداً) خضعا متذللين ، وقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أشير به ـ على ما ذكره بعض القوم ، والعهدة عليه ـ إلى اتصال روحه عليه‌السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي ، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه‌السلام


روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم ، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية ، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية ، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدإ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه‌السلام بالفناء بالله عزوجل ، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدا ، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساوئ.

مساو لو قسمن على الغواني

لما أمهرن إلا بالطلاق

(حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث (أُحِلَّتْ لَهُمْ) بحسب استعدادهم لو لا هذه الموانع (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريقه الموصلة إليه سبحانه (كَثِيراً) أي خلقا كثيرا وهي القوى الروحانية (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له ، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) لما أنه الحجاب العظيم (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية ، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار (وَالْمُؤْمِنُونَ) بالإيمان العياني حال كونهم (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) على أكمل وجه (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ببذل قوامهم في أصناف الطاعة (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالمبدإ والمعاد ، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على قول (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) بتجليات اللطف (وَمُنْذِرِينَ) بتجليات القهر (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محي ذلك بإمداد الرسل (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم (حَكِيماً) فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) لتجليه فيه سبحانه (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي متلبسا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.

ومن هنا علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان وما هو كائن (وَالْمَلائِكَةُ) هم أصحاب النفوس القدسية (يَشْهَدُونَ) أيضا لعدم احتجابهم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) لأنه الجامع ولا موجود غيره ، والله تعالى الموفق للصواب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما أنزل إليك ، أو بكل ما يجب الإيمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا ، والمراد بهم اليهود ، وكأن الجملة لبيان حكم الله سبحانه فيهم بعد بيان حالهم وتعنتهم (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي دين الإسلام من أراد سلوكه بإنكارهم نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقولهم : لا نعرفه في كتابنا وأن شريعة موسى عليه‌السلام لا تنسخ ، وأن الأنبياء لا يكونون إلا من أولاد هارون وداود عليهما‌السلام.

وقرئ «صدوا» بالبناء للمفعول (قَدْ ضَلُّوا) بالكفر والصد (ضَلالاً بَعِيداً) لأنهم جمعوا بين الضلال


والإضلال ولأن المضل يكون أقوى وأدخل في الضلال وأبعد عن الانقلاع عنه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما ذكر آنفا (وَظَلَمُوا) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ، أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم ، والمراد أن الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم.

(لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر ، والآية في اليهود على الصحيح ، وقيل : إنها في المشركين وما قبلها في اليهود ، وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ما ليس بكفر من سائر أنواع الكبائر ، وحمل الآية على معنى أن الذين كان بعضهم كافرين ، وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر (لَمْ يَكُنِ) إلخ ، ولا يخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع إليه إلا اعتقاد أن العصاة مخلدون في النار تخليد الكفار ، والآية تنبو عن هذا المعتقد ، فإنه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده ، ألا تراك إذا قلت : الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع ، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة ، وسياق الآية أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى فلا يبالون بأي واد وقعوا (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة ، والمراد من الهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة كما قال غير واحد : خلقه سبحانه لأعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم ، أو سوقهم إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة ، وذكر بعضهم أن التعبير بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة ، والطريق على عمومه ، والاستثناء متصل كما اختاره أبو البقاء وغيره ، وجوز السمين أن يراد بالطريق شيء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم ، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم ، وقيل : يمكن أن يستغنى عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصلة إلى جهنم ، أو الدلالة إلى طريق يوصل إليها فهو حال عن المفعول باعتبار الإيصال لا الدلالة فتدبر ، وقوله تعالى : (أَبَداً) نصب على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل (وَكانَ ذلِكَ) أي انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم في النار إلى الأبد (عَلَى اللهِ يَسِيراً) سهلا لا صارف له عنه ، وهذا تحقير لأمرهم وبيان لأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)


يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ، ورد جل شأنه عليهم بما رد وأكد ذلك بما أكد ، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان مشفوعا بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول ، وقيل : الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب ـ بيا أيها الناس ـ أينما وقع لهم ، ولا يخفى أن التعميم أولى ، وما ذكر في حيز الاستدلال ، وإن روي عن بعض السلف أغلبي ، وقيل : هو للكفار مطلقا إبقاء للأمر على ظاهره ، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) يعني به محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته (بِالْحَقِ) أي متلبسا به ، وفسر بالقرآن ، وبدين الإسلام وبشهادة التوحيد ، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة ـ بجاء ـ أي جاءكم بسبب إقامة الحق ، وقوله سبحانه : (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق إما بالفعل أيضا أو بمحذوف وقع حالا من الحق ؛ أي جاءكم به من عند الله تعالى ، أو كائنا منه سبحانه ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال لما بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك ؛ وقيل : إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر (فَآمِنُوا) أي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من الحق ، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها ، وقوله سبحانه : (خَيْراً لَكُمْ) منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا أو ائتوا خيرا لكم ، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه ، وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم ، وأورد عليه أنه يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره ، ودفع بأنه صفة مؤكدة ، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر ، وعلى القول باعتباره قد يقال : إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيمانا ببعض ما يجب الإيمان به كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه المرضي.

وذهب الكسائي وأبو عبيد إلى أنه خبر كان مضمرة ، والتقدير يكن الإيمان خيرا لكم ، ورد بأن كان تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته ، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا ، وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل ؛ وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر ، وإن قلنا : بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك ، ونقل مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على الحال وهو بعيد (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده ، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولا أوليا أي كل ذلك له تعالى خلقا


وملكا وتصرفا ، ولا يخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها ، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب ، والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السموات والأرض ، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ، وقال بعضهم : التقدير «وإن تكفروا» فقد كابرتم عقولكم.

(فَإِنَّ لِلَّهِ) سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك ، وقيل : التقدير (وَإِنْ تَكْفُرُوا) فإن عبيدا غيركم لا يكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره ، ولا يخلو عن بعد.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأحوال ، كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولا أوليا (حَكِيماً) في جميع أفعاله وتدبيراته ، ويدخل في ذلك كذلك تعذيب من كفر (يا أَهْلَ الْكِتابِ) تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد ، وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم وجماعة من المفسرين ، وعن الحسن أنه خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أي مجاوزة الحد والإفراط المنهي عنه في قوله تعالى :

(لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وقع منهم جميعا ، أما النصارى ، فقال بعضهم : عيسى عليه‌السلام ابن الله عزوجل ، وبعضهم أنه الله سبحانه ، وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا : إنه عليه‌السلام ولد لغير رشده ، ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي لا تذكروا ولا تعتقدوا إلا القول الحق دون القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد والاستثناء مفرغ ، وهو متصل عند الأكثرين.

وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد ، والأشبه بالاستثناء الانقطاع لأن التنزيه لا يكون مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما عليه الأكثر في الاستثناء المفرغ فافهم (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بالتخفيف ، وقد مر معناه ، وقرئ المسيح بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (عِيسَى) بدل منه أو عطف بيان له ـ كما قال أبو البقاء وغيره ـ وقوله تعالى :

(ابْنُ مَرْيَمَ) صفة له مفيدة بطلان ما زعموه فيه من نبوته عليه‌السلام له عزوجل ، وقوله سبحانه :

(رَسُولُ اللهِ) خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أي أنه عليه‌السلام مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها إلى ما تقولون (وَكَلِمَتُهُ) عطف على (رَسُولُ اللهِ) ومعنى كونه «كلمة» أنه حصل بكلمة كن من غير مادة معتادة ، وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة.

وقال الغزالي قدس‌سره : لكل مولود سبب قريب وبعيد ، فالأول المني والثاني قول كن ، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى عليه‌السلام أضافه إلى البعيد ، وهو قول كن إشارة إلى انتفاء القريب ، وأوضحه بقوله سبحانه : (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي أوصلها إليها وحصلها فيها ، فجعله كالمني الذي يلقى في الرحم فهو استعارة ، وقيل : معناه أنه يهتدي به كما يهتدي بكلام الله تعالى ، وروي ذلك عن أبي علي الجبائي ، وقيل : معناه بشارة الله تعالى التي بشر بها مريم عليها‌السلام على لسان الملائكة كما قال سبحانه : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) [آل عمران : ٤٥] وجملة (أَلْقاها) حال على ما قيل : من الضمير المجرور في (كَلِمَتُهُ) بتقدير قد والعامل فيها معنى الإضافة ، والتقدير ـ وكملته ملقيا إياها ـ وقيل : حال من ضميرهعليه‌السلام المستكن فيما دل عليه (وَكَلِمَتُهُ) من معنى المشتق الذي هو العامل فيها ، وقيل : حال من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد بها المكون ، والتقدير إذ كان (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) عطف على ما قبله وسمي عليه‌السلام


روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه‌السلام في درع مريم عليها‌السلام بأمره سبحانه ، وجاء تسمية النفخ روحا في كلامهم ، ومنه قول ذي الرمة في نار وأحيها بروحك. و ـ من ـ متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح ، وهي لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى.

يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه‌السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقدي قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] فقال : إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحا شديدا ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة ، وقيل : سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح ، وإلى ذلك ذهب الجبائي ، وقيل : الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] على وجه ، وقيل : أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها‌السلام بالبشارة ، وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا : إنه روح فلما كان عيسى عليه‌السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح ، وقيل : أريد بالروح السر كما يقال : روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه‌السلام سر من أسرار الله تعالى وآية من آياته سبحانه ، وقيل : المراد ذو روح على حذف المضاف ، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح ، والإضافة إلى الله تعالى للتشريف ، ونظير ذلك ما في التوراة إن موسى عليه‌السلام رجل الله وعصاه قضيب الله. وأورشليم بيت الله ، وقيل : المراد من الروح جبريل عليه‌السلام ، والعطف على الضمير المستكن في (أَلْقاها) والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم ، ولا يخفى بعده وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه‌السلام بنسبة الروح إليه لغيره عليه‌السلام مشاركة له في ذلك ، ففي إنجيل لوقا قال يسوع لتلاميذه : إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه ، وفي إنجيل متى : إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه ، وفي التوراة : قال الله تعالى لموسى عليه‌السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت ، ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم ، وفيها في حق يوسف عليه‌السلام يقول الملك : هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عزوجل فيه ، وفيها أيضا : إن روح الله تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك.

ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباد حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء ، وإطلاق ذلك على عيسى عليه‌السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد : عدل ، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا ، وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب ، والموت بصورة الكبش ، ويؤيد ذلك في الجملة ما في إنجيل متى في تمام الكلام على تعميد عيسى عليه‌السلام : إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله تعالى جاءت له في صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه‌السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه : وما فيه من وصفه عليه‌السلام بالنبوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه.

(فَآمِنُوا بِاللهِ) وخصوه بالألوهية (وَرُسُلِهِ) أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي الآلهة ثلاثة : الله سبحانه ، والمسيح ، ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] إذ معناه «إلهين» غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة.

وحكي هذا التقدير عن الزجاج ، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون : الله تعالى جوهر واحد ثلاثة


أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود ، وبالثاني العلم أي الكلمة ، وبالثالث الحياة كذا قيل ، وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز. ولا مختص بجبهة ، ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم ، وأنه واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالأقنومية ، والأقانيم صفات للجوهر القديم ، وهي الوجود والعلم والحياة ، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة.

ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها إله ، وصرحوا بإثبات التثليث ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي ، وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي ، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم ، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا ، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى ، والابن على عيسى عليه‌السلام ، وذهب نسطور الحكيم ـ في زمان المأمون ـ إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور.

ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود ، وصرحوا بالتثليث كالملكانية ، ومنهم من منع ذلك ، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم ، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد ، والحدوث راجع إلى الناسوت ، فالمسيح إله تام وإنسان تام ، وهما قديم وحادث ، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث. وقالوا : إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت ، وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح ، وقالوا : إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم ، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا ، وقال : في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة ، ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ومنهم من قال : جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا ، وهو المسيح ، وهو الإله ، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار ؛ صارت نارا ، ولا يقال : صارت النار فحمة ، ويقولون : إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئي دون الكلي ، وإن مريم ولدت إلها وإن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على أحدهما بطل الاتحاد ، ومنهم من قال : المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه ، محدث من وجه ، ومن اليعقوبية من قال : إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب ، ومنهم من زعم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التي كانت تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام ، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه ، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية في المرآة ، ومنهم من قال : إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة ومنهم من قال إن الله تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق للأشياء كلها.


وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه مخلوق بجسمه وروحه ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته ، فرد عليه الاكصيدروس بطريق الإسكندرية وشنع على مقالته عند الملك ، ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم اليوم عليها ، وهي نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شيء. مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع ، إله حق. من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم ؛ وخلق كل شيء الذي من أجلنا معاشر الناس ، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول واتجع ، وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام في اليوم الثالث ـ كما هو مكتوب ـ وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبعمودية واحدة لغفران الخطايا ، والجماعة واحدة قدسية كاطولكية وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى.

وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهي مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول مما لا مستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون بها علما على أن ما سموه أمانة لا أصل له في شرع الإنجيل ولا مأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه ، وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه ، وإذ قد علمت ذلك فاستمع لما يتلى عليك في ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا لإبطال تلك العقائد الفاسدة ، أما قولهم : بأن الله تعالى جوهر بالمعنى المذكور فلا نزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من جهة الإطلاق اللفظي سمعا ، والأمر فيه هين ، وأما حصرهم الأقانيم في ثلاثة : صفة الوجود ، وصفة الحياة ، وصفة العلم فباطل لأنه بعد تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم : بحثنا فلم نجد غير ما ذكرناه وهو غير يقيني كما لا يخفى ، ثم هو باطل بما تحقق في موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع والبصر فإن قالوا : الأقانيم هي خواص الجوهر وصفات نفسه ، ومن حكمها أن تلزم الجوهر ولا تتعداه إلى غيره وذلك متحقق في الوجود والحياة إذ لا تعلق لوجود الذات القديمة وحياتها بغيرها ، وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم به ، وهذا بخلاف القدرة ، والإرادة فإنهما لا اختصاص لهما بالذات القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور ، ومراد ، والذات القديمة غير مقدورة ولا مرادة وأيضا فإن الحياة تجزئ عن القدرة والإرادة من حيث إن الحي لا يخلو عنهما بخلاف العلم فإنه قد يخلو عنه ، ولأنه يمتنع أجزاء الحياة عن العلم لاختصاص الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم ، قلنا : أما قولهم : إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم ـ ولا تعلق لهما بغيره ـ فمسلم ، ولكن يلزم عليه أن لا يكون العلم أقنوما لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا : العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لا من حيث كان متعلقا بغيره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم من حيث إنه يرى نفسه ولم يقولوا به ، ويلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات الله تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه بغيره كما في الوجود والحياة ، فلئن قالوا : البقاء هو نفس الوجود فيلزم أن يكون الموجود في زمان حدوثه باقيا وهو محال.

وقولهم : بأن الإرادة تجزئ عن القدرة والإرادة إما أن يريدوا به أن القدرة والإرادة نفس الحياة ، أو أنهما


خارجتان عنها لازمتان لها لا تفارقانها ، فإن كان الأول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا : إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم ، والقدرة والإرادة غير مختصتين بذات القديم تعالى ، وذلك مشعر بالمغايرة ولا اتحاد معها ، وإن قالوا : إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فإنه كما يجوز خلو الحي ، عن العلم ، فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والإرادة كما في حالة النوم والإغماء مثلا ، وقولهم : إنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل ، فيلزم منه أن لا تكون مجزئة عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل ، وأما قولهم : بأن الكلمة حلت في المسيح وتدرعت به فهو باطل من وجهين.

الأول أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم في غيره ، الثاني أنه ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهي الحياة ، ولئن قالوا : إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه فيها غيره ، قلنا : أولا لا نسلم ذلك. فقد روى النصارى أنه عليه‌السلام سئل عن القيامة فلم يجب ، وقال لا يعرفها إلا الله تعالى وحده ، وثانيا سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبأمور لا يقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم ، والقدرة عندكم في حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن يقال : بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به.

وأما قول الملكانية بالتثليث في الآلهة ، وأن كل أقنوم إله فلا يخلو إما أن يقولوا : إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا يقولوا به ، فإن قالوا به فهو خلاف أصلهم ، وهو مع ذلك ممتنع لقيام الأدلة على امتناع إلهين ، وأيضا فإنهم إما أن يقولوا : بأن جوهر القديم أيضا إله أو ألا يقولوا فإن كان الأول فقد أبطلوا مذهبهم فإنهم مجمعون على الثالوث ، وبقولهم هذا يلزم التربيع ، وإن كان الثاني لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر القديم أصل والأقانيم صفات تابعة ، فكان أولى أن يكون إلها ، وإن قالوا بالثاني فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية ، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك ، وأما قولهم : بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى ، ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والإلزام ، أما الأول فإنهما عند الاتحاد إما أن يقال : ببقائهما أو بعدمهما ؛ أو ببقاء أحدهما وعدم الآخر ، أما على التقدير الأول فهما اثنان كما كانا ، وإن كان الثاني فالواحد الموجود غيرهما وإن كان الثالث فلا اتحاد للاثنينية وعدم أحدهما ، وأما على التقدير الثاني فمن أربعة أوجه : الأول أنه إذا جاز أقنوم الجوهر القديم بالحادث ، فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم؟ فلئن قالوا المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه وهو ممتنع ، واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه ، وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع ، قلنا : فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث فليكن ذلك ممتنعا ، الثاني أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت وناسوت؟ فلئن قالوا : إنما اتحد بالناسوت الكلي دون الجزئي رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى ، الثالث أن مذهبهم أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم يوجب قيامها به الاتحاد فإن لا يوجب اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى.

الرابع أن الإجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف للناسوت كما أن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض ، وصفة نفس العرض تخالف الجوهر ، فإن قالوا : بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر في حكم العرض والعرض في حكم الجوهر ، فقد التزموا محالا مخالفا لأصولهم ، وإن قالوا : بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن


يمتنع في القديم والحادث أولى ، وقولهم إن المسيح إنسان كلي باطل من أربعة أوجه : الأول أن الإنسان الكلي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي من الناس ، وقد اتفقت النصارى أن المسيح مولود من مريم عليهما‌السلام ، وعند ذلك فإما أن يقال : إن إنسان مريم أيضا كلي ـ كما حكي عن بعضهم ـ أو جزئي ، فإن كان كليا فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح أو غيره ، فإن كان عينه لزم أن يولد الشيء من نفسه وهو محال ، ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد ، وإن كان غيره فالإنسان الكلي ما يكون عاما مشتركا بين جميع ، وطبيعته جزء من معنى كل إنسان ، ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال ، وإن كان إنسان مريم جزئيا فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلي الصالح لاشتراك الكثرة منحصرا في الجزئي الذي لا يصلح لذاته وهو ممتنع ، الثاني أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا ومشارا إليه ، والكلي ليس كذلك.

الثالث أنهم قائلون : إن الكلمة حلت في المسيح إما بجهة الاتحاد أولا بجهة الاتحاد. فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به ، الرابع أن الملكانية متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت ، ولو كان ناسوت المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئي عليه.

وأما ما ذهب إليه نسطور من أن الأقانيم ثلاثة ، فالكلام معه في الحصر على طرز ما تقدم ، وقوله : ليست عين ذاته ولا غير ذاته فإن أراد بذلك ما أراد به الأشعري في قوله : إن الصفات لا عين ولا غير فهو حق ، وإن أراد غيره فغير مفهوم ؛ وأما تفسيره العلم بالكلمة ، فالنزاع معه ـ في هذا الإطلاق ـ لفظي ، ثم لا يخلو إما أن يريد بالكلمة الكلام النفسي أو الكلام اللساني ، والكلام في ذلك معروف ؛ وقوله : إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه لا حاصل له لأنه إما أن يريد إشراق الكلمة عليه عليه‌السلام ما هو مفهوم من مثاله ، وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه ، أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات ، أو يريد غير ذلك فإن كان الأول يلزم أن تكون الكلمة ذات شعاع ، وفي جهة من مطرح شعاعها ، ويلزم من ذلك أن تكون جسما ، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم وهو محال ، وإن كان الثاني فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة ، وإن كان الثالث فلا بدّ من تصويره ليتكلم عليه.

وأما قول بعض النسطورية : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله حي ناطق فهو باطل بأدلة إبطال التثليث ، وأما من أثبت منهم لله تعالى صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها في كونها من الصفات تحكم بحت ، والفرق الذي يستند إليه باطل كما علمت ؛ وأما قولهم : إن المسيح إنسان تام وإله تام ، وهما جوهران : قديم وحادث ، فطريق ردّه من وجهين الأول التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها وذلك بأن يقال : إما أن يقولوا : بأن ما اتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم إله كما ذهبت إليه الملكانية ، فإن كان الأول فهو ممتنع لعدم الأولوية ، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لما تقدم ، الثاني أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث فإما أن يقولوا : بالاتحاد ، أو بحلول الأقنوم في الناسوت ، أو حلول الناسوت في الأقنوم ، أو أنه لا حلول لأحدهما في الآخر ، فإن كان الأول فهو باطل بما سبق في إبطال الاتحاد ، وإن كان الثاني فهو باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة في غير ذات الله تعالى ، وحلول الحادث في القديم ، وإن كان الثالث ، فإما أن يقال : بتجاورهما واتصالهما أولا ، فإن قيل : بالأول فإما أن يقال : بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لا يقال به ، فإن قيل : بالانفصال فهو ممتنع لوجهين الأول ما يدل على إبطال انتقال


الصفة عن الموصوف ، الثاني أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال ، وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به ، وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك ، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح ، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس ، وأما قول من قال منهم : إن الإله واحد ، وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون ، ولا خلاف معهم في غير إطلاق اسم الابن ، وأما قول بعض اليعقوبية : إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين : الأول أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن ـ أو الممتنع ـ واجبا ، ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية ، ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا ، واللحم والدم أقنوما ، والأقنوم ذاتا ، والذات أقنوما ، والقديم حادثا والحادث قديما ، ولم يقل به أحد من العقلاء ، الثاني أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما ، فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح ، أو زائدا عليه منضما إليه ، والأول ظاهر الفساد ، والثاني لم يقولوا به ؛ وأما ما نقل عن يوحنا من قوله : في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله هو الكلمة ، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من الأناجيل ، والظاهر أنه كذب ، فإنه بمنزلة قول القائل : الدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار ، ولا يكاد يتفوه به عاقل ، وكذا قوله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت ، وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير. أي إن الجسد الذي صار بالتسمية كلمة حل فينا ، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه‌السلام ، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس ، كبير التلاميذ ووصي المسيح ، فإنه أقام بعده عليه‌السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع إليه على ما تشهد به كتبهم ، فكأنه يقول : إن ذهبت الكلمة أي عيسى الذي سماه الله تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا ، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس.

ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي ، والمراد أصارت وفيه بعد ، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه : إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق ، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه ، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا : ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته ، فإن هذا مع قوله : إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه ، والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت ، فلا نتحمل مئونة التأويل.

وأما قولهم : إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو ، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم : صار هو هو ، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم ، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث ، وأما من قال منهم : بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا هو المسيح فباطل من وجهين : الأول ما ذكر من إبطال الاتحاد ، الثاني أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به ، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار ، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار ، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.


وأما قولهم : إن الاتحاد بالناسوت الجزئي دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث وبذلك يبطل قولهم : إن مريم ولدت إلها ، وقولهم : القتل وقع على اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي البطلان ، وأما قول من قال : إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه ، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه ، أو لغيره فإن كان الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديما لا أول له حادثا له أول وهو متناقض ، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض ، وأما قول من قال : إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى ، وبه يبطل قول من قال : إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى ، وقولهم : إن ما ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت ، فإذا كان ما ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث ما حدث عن الإله عنه ، والقول : بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو كان حادثا لكان الإله قبله غير حي ، ومن ليس بحي لا يكون عالما ولا ناطقا ، وقول من قال : إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولا شيء غيره.

وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه : الأول أن قولهم : نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء ، يناقض قولهم : وبالرب الواحد المسيح إلخ مناقضة لا تكاد تخفى ، الثاني أن قولهم : إن يسوع المسيح ابن الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولدا لم يزل أو لم يكن ، فإن قالوا : ولد ولدا لم يزل ، قلنا : فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن ، فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء ، الثالث أن قولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل : وقد سئل عن يوم القيامة فقال : لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب وحده ، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال ، الرابع أن قولهم : إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ يقول متى : هذا مولد يسوع المسيح ابن داود ، وأيضا خالق العالم لا بد وأن يكون سابقا عليه وأنى يسبق المسيح وقد ولدته مريم؟! وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح : اسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورا في يد بعض العالم؟! نعوذ بالله تعالى من الضلالة.

الخامس أن قولهم : المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد ، فيه عدة مفاسد : منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها‌السلام ولم تكن الكلمة في الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء ، ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت ، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن ناسوته من مريم ، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال : لا يخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم لحوق النقائص للباري عز اسمه ، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة وبقاء الباري بلا علم وذلك باطل.


ومنها أن قولهم : إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه‌السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها ، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال : أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟ ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس ، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف ، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل : إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا ، وأقول لأهل الشمال : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم ، السادس أن قولهم : وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول : متى في الفصل الثاني منه ، إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.

السابع أن قولهم : إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه : إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة ، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه ، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها ، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح ، الثامن أن قولهم : إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث ، التاسع أن قولهم : إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل :

لألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادا

إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية ، العاشر أن قولهم : ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم ، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح ، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه الخطايا ، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة ، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك. وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام :

بطلت أمانتهم فمن مضمونها

ظهرت خيانتها خلال سطورها

بدءوا بتوحيد الإله وأشركوا

عيسى به ، فالخلف في تعبيرها

قالوا : بأن إلههم عيسى الذي

ذر الوجود على الخليقة كلها

خلق أمه قبل الحلول ببطنها

ما كان أغنى ذاته عن مثلها


هل كان محتاجا لشرب لبانها

أو أن يربى في مواطن حجرها

جعلوه ربا جوهرا من جوهر

ذهبوا لما لا يرتضيه أولو النهى

قالوا : وجاء من السماء عناية

لخلاص آدم من لظاه وحرها

قد تاب آدم توبة مقبولة

فضلا لهم جعل الفداء بغيرها

لو جاء في ظلل الغمام وحوله

شرفا ملائكة السماء بأسرها

وفدى الذي بيديه أحكم طينه

بالعفو عن كل الأمور وسترها

ثم اجتباه محببا ومفضلا

ووقاه من غيّ النفوس وشرها

كنتم تحلون الإله مقامه

فيما تراه نفوسكم من شركها

من غير أن يحتاج في تلخيصه

كل الخلائق أن تبوء بضرها

ويشينه الأعداء بما لا يرتضي

من كيدها وبما دهى من مكرها

هذي أمانتهم وهذا شرحها

الله أكبر من معاني كفرها

ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى التلميذ أنه قال : إن المسيح عند ما ودعهم قال : اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس ، ومن هنا جعلوا مفتتح الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم ، ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول ـ على تقدير صحة الرواية ، ودونها خرط القتاد : يحتمل أن يراد بالأب المبدأ ، فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء ، ومن الابن الرسول ، وسمي بذلك تشريفا وإكراما كما سمي إبراهيم عليه‌السلام خليلا ، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء ، وقد رووا عن المسيح عليه‌السلام أنه قال : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وقال : لا تعطوا صدقاتكم قدّام الناس لتراءوهم فإنه لا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء.

وربما يقال : إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه ، ويشير إلى ذلك ما رووه أنه عليه‌السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين : لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامّين كما أن أباكم الذي في السماء تام ، ويراد بروح القدس جبريل عليه‌السلام ، والمعنى عمدوا ببركة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم ، وفي كشف الغين عن الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغني النابلسي قدس‌سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد الأحد : الغيب المطلق ، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق لله تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية ، ويضاف إلى الله تعالى فيقال : روح الله تعالى للتشريف والتعظيم ك (ناقة الله) تعالى ، وروح القدس إشارة إليه أيضا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها‌السلام ، والابن إشارة إلى عيسى عليه‌السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكوّنه بسبب نفخه ، والأب هو الابن ، والابن هو روح القدس في الحقيقة والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة ، فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء ، فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا من مقام الذات الأقدسية.

ثم لا يتوهمن أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق كلامهم ولا ذوق له في مشربهم ، وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى بهم مبرءون عما نسبه


المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول ، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته ، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته ، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب ، وأما إنهم لم يقولوا بالعينية ، فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض ، إلخ ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها ، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات في حضرة البديع بعد بسط : وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا ، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه. فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك ، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف ، وكذا قال غير واحد ، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات نقلا عن الشيخ قدس‌سره أيضا : لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقي متواضعا لكبرياء الله خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته.

ومن هنا يعلم حقيقة قوله سبحانه : «كنت سمعه وبصره» الحديث ، ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال : أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى ، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس ، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.

وفي كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس‌سره إذا كان الاتحاد مصيّر الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة ، وقال في كتاب الياء وهو كتاب الهو الاتحاد محال ، وساق الكلام إلى أن قال : فلا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة ، وقال في الباب الخامس من الفتوحات خطابا من الحق تعالى للروح الكلي : وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها ، إذ لو عرفتها لاتحدت الإنية واتحاد الانية محال ، فمشاهدتك لذلك محال ، هل ترجع إنية المركب البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق ، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية ، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما به ، ومن المعلوم أن الواجب تعالى ـ وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك ـ يستحيل عليه القيام بغيره.

قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من الفتوحات : نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك ، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي ، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه ، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلى ، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى.


وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم على وجهه ، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له ، فإن الظاهر في المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول ، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور ، ومن ذلك قوله :

يا قبلتي قابليني بالسجود فقد

رأيت شخصا لشخص فيه قد سجدا

لاهوته حل ناسوتي فقدسني

إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا

وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا ، ولعل عذرهم واضح عند المنصفين ، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم ، فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم ، وفي بعض آخر قول آخرين ، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها‌السلام كدعواهم ألوهية عيسى عليه‌السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناء على ما حققه الإمام الرازي رحمه‌الله تعالى ، والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق القائلين ، ويمكن أن يقال : إن مدعي ألوهيتها عليها‌السلام صريحا طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن الله تعالى على ما قيل ، ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين فأردف سبحانه النهي بقوله عزّ من قائل : (انْتَهُوا) عن القول بالتثليث (خَيْراً لَكُمْ) قد مر الكلام في أوجه انتصابه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي أسبحه تسبيحا عن ، أو من أن يكون له ولد ، أو سبحوه عن ، أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه والمثل ، وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل والله تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه ، وقد علمت ما أوقع النصارى في اعتقادهم أن عيسى عليه‌السلام ابن الله تعالى.

ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه‌الله تعالى ملخصا من تعريفات أبي البقاء قال : قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور الله تعالى ضريحه : إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده في المسيح عليه‌السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدّم فيها وأخر وفكر وقدّر. فقتل كيف قدّر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة المسيح ابن الله المحرر ، فقلت له : حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها : إنما الله المسيح راحم النحر لأمم لها المسيح رب ، ما برح الله راحم المسلمين ، سل ابن مريم أحل له الحرام ، لا المسيح ابن الله المحرر ، لا مرحم للئام أبناء السحرة رحم حرّ مسلم أناب إلى الله ، لله نبي مسلم حرم الراح ، ربح رأس مال كلمة الإيمان ، فإن قلت : إنه عليه‌السلام رسول صدقتك ، وقالت : إيل أرسل الرحمة بلحم ، وإيل من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم ، وهو المكان الذي ولد فيه عيسى عليه‌السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى ، ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء حلها خيولا وليوثا ، ومن دون طلها سيولا وغيوثا ، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك ، فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها


المكنون ، ألا ترى أن البسملة إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها أن مثل عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ولا أشرك بربي أحدا ، يهدي الله لنوره من يشاء ، بإسقاط ألف الجلالة ، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا ، وجاءك ما لم تستطع عليه صبرا انتهى.

وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويا لما هو عليه أعني صراط على حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا الحروف أيضا فتذكر ، وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه ، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها ، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكا لجميعها ، وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون افتراؤه حمقا وجهلا.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) استئناف مقرر لما سبق من التنزيه ، وروي أن وفد نجران قالوا لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى عليه‌السلام ، قال : وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول : إنه عبد الله ورسوله فنزلت» والاستنكاف استفعال من النكف ، وأصله ـ كما قال الراغب ـ من نكفت الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع ، وقالوا : بحر لا ينكف أي لا ينزح ، ومنه قوله :

فبانوا ولو لا ما تذكر منهم

من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع

وقيل : النكف قول السوء ، ويقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف ، واستفعل فيه للسلب قاله المبرد ، وفي الأساس استنكف ونكف امتنع وانقبض أنفا وحمية.

وقال الزجاج : الاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار ذلك ، والمعنى لن يأنف ولن يمتنع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لن يستكبر المسيح (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) أي عن ، أو من أن يكون عبد الله تعالى مستمرا على عبادته تعالى وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف ، وقد أشار القاضي عياض إلى شرف العبودية بقوله :

ومما زادني عجبا وتيها

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك : يا عبادي

وجعلك خير خلقك لي نبيا

والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه‌السلام عن ذلك مع أن شأنه عليه‌السلام المباهاة به كما تدل عليه أحواله وتفصح عنه أقواله لوقوعه في موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا. وهو السر في جعل المستنكف منه كونه عليه‌السلام عبدا له تعالى دون أن يقال : عن عبادة الله تعالى ونحو ذلك مع إفادته ـ كما قيل ـ فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه‌السلام عن الاستنكاف بالكلية لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة ، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها.

ومما يدل على عبوديته عليه‌السلام من كتب النصارى أن قولس قال في رسالته الثانية : انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن من عند من خلقه مثل موسى عليه‌السلام في جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى عليه


السلام ، وقال مرقس في إنجيله : قال يسوع : إن نفسي حزينة حتى الموت ، ثم خر على وجهه يصلي لله تعالى ، وقال أيها الأب كل شيء بقدرتك أخر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد ، ثم خرّ على وجهه يصلي لله تعالى ، ووجه الدلالة في ذلك ظاهر إذ هو سائل والله تعالى مسئول ، وهو مصل والله تعالى مصلى له ، وأي عبودية تزيد على ذلك ، ونصوص الأناجيل ناطقة بعبوديته عليه‌السلام في غير ما موضع ، ولله تعالى در أبي الفضل حيث يقول فيه :

هو عبد مقرب ونبيّ

ورسول قد خصه مولاه

طهر الله ذاته وحباه

ثم أتاه وحيه وهداه

وبكن خلقه بدا كلما الل

ه إلى مريم البتول براه

والأناجيل شاهدات وعنه

إنما الله ربه لا سواه

هكذا شأن ربه خالق الخلق

بكن خلقهم فنعم الإله

كان لله خاشعا مستكينا

راغبا راهبا يرجى رضاه

ليس يحيا وليس يخلق إلا

أن دعاه وقد أجاب دعاه

إنما فاعل الجميع هو الل

ه ولكن على يديه قضاه

ويكفي في إثبات عبوديته عليه‌السلام ما أشار الله تعالى إليه بقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] وفي التعبير بالمسيح ما يشعر بالعبودية أيضا (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) عطف على المسيح كما هو الظاهر أي لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى ، وقيل : إنه عطف على الضمير المستتر في (يَكُونَ) أو (عَبْداً) لأنه صفة وليس بشيء ، وتقدير متعلق الفعل لازم على ما ذهب إليه الأكثرون ، وقيل : أريد ـ بالملائكة ـ كل واحد منهم فلا حاجة إلى التقدير ، وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو كما ترى ؛ واحتج بالآية القاضي أبو بكر ، والحليمي والمعتزلة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي يقتضيه السياق وقواعد المعاني وكلام العرب الترقي الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح ولا من هو فوقه ، كما يقال : لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس ، وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم في رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية ، وادعاء انتسابهم إلى الله تعالى بما هو من شوائب الألوهية ، وخص (الْمُقَرَّبُونَ) لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم ، ورد هذا الجواب بأن هذا لا ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني ؛ قيل : ولا ورود له لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم ، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت : ما فعل هذا زيد ولا عمرو ، وهو يكفي لدفع حجة الخصم ، وأما كون السباق والسياق يخالفه فليس بشيء لأن المجيب قال : إنه إدماج ، واستطراد ، وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة ، فهذا العطف يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح ، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، قال في الانتصاف : وفيه نظر لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال : يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان أفضل من كل واحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم ، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل ، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى.

وقد كان طار عن بعض الأئمة المعاصرين تفضيله بين التفضيلين ، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل


على الجملة ، ولم يثبت عنه هذا القول ، ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف ، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة ، والأحاديث متظافرة بذلك ، وحينئذ لا يخلو إما أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على الفاضل فيتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا انتهى.

قلت : فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع ليس في محله على هذا فتدبر ، وقيل في الجواب : إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش ، أو من هم أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع ؛ ورد بأن المدعى أن في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية ، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بال على الآحاد وأن المدعى ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه‌السلام ، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من خواص الملك ؛ وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا يقتضي ترتيبا ، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل : ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو ، وكقولك : لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة ـ كما قال في الانتصاف ـ ثم قال فيه : ولكن الحق أولى من المراد وليس بين المثالين تعارض ، ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء ، فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى وفي مواضع تأخيره ، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إلا ما سلف أول الكلام ، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزايدها ، ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية في البلاغة.

وبهذه النكتة يجب أن تقول : لا تؤذ مسلما ولا ذميا ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الإسلام ، فلا يلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذميا فقد جددت فائدة لم تكن في الأول وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت : لا تؤذ ذميا فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي إذ يساوي الذميّ في سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا ، ويمتاز عنه بسبب هو أجلّ وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم ، فإن قلت : ولا مسلما لم تجدد له فائدة ولم تعلمه غير ما أعلمته


أولا ، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق ، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه ، وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ، ولما اقتضى الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة ، وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف ، وذلك تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار.

وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الردّ على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه‌السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة ، فناسب ذلك أن يقال : هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه‌السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار ، ولا خلاف في أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر ، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء ، وليس في الآية عليه دليل ، وقد يقال : لما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى عليه‌السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله تعالى ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه‌السلام ، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما‌السلام ، فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة والسلام وآدم عليه‌السلام من غير أب ولا أم ، ولذلك قال سبحانه : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها. فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى.

وبالجملة المسألة سمعية ، وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية ، والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر.

وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا ، ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية ، وقال أفضل المعاصرين صالح أفندي الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في تعليقاته على البيضاوي : الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ما كلفنا به ، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة فيه ، فالوقف أسلم والله تعالى أعلم (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه هاهنا عبادته تعالى لا ما سبق ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به ، وعبر سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى أمره عزوجل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠].


وقيل : التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة (وَيَسْتَكْبِرْ) أي عن ذلك ، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض بدون حصول المطلوب ، ونظير ذلك على ما قيل : قوله تعالى : (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [الأعراف : ٤٥ ، هود : ١٩ ، إبراهيم : ٣] ، والاستكبار على ما أشار إليه الزجاج ـ وتقدم ـ دون الاستنكاف ؛ وجاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس».

وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في شرح مسلم ، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة هو التكبر على الإيمان ، واختاره مولانا أفضل المعاصرين ، ثم قال : وعليه فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر ، وتنكير الكبر للنوعية ، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول ، وإنما خص صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة ، هذا المبلغ أعني الشقاء المؤبد جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز ، ثم عرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في النوع المذكور.

وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمه‌الله تعالى لهذا التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس ، فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى. والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عليهم‌السلام ، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على انباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال : التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد ، وقيل في توجيه المطابقة : إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) إلخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله تعالى ، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها.

وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول (أَمَّا) على الفريقين لا على قسمي الجزاء ، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات ، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا ، وقرئ «فسيحشرهم» بكسر الشين وهي لغة ، وقرئ ـ فسنحشرهم ـ بنون العظمة ، وفيه التفات (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قال : يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) عن عبادة الله تعالى (وَاسْتَكْبَرُوا) عنها (فَيُعَذِّبُهُمْ) بسبب ذلك (عَذاباً أَلِيماً) لا يحيط به الوصف (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ


دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يلي أمورهم ويدبر مصالحهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بما تخر له صم الجبال ، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر (قَدْ جاءَكُمْ) أتاكم ووصل إليكم (بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة قاطعة ، والمراد بها المعجزات على ما قيل.

وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه إن المراد بالبرهان هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتنوين للتفخيم ، و ـ من ـ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة ـ بجاء ـ أو بمحذوف وقع صفة مشرفة ـ لبرهان ـ مؤكدة لما أفاده التنوين ، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك لتربيتهم وتكميلهم.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الأعذار (نُوراً مُبِيناً) وهو القرآن ـ كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعيد غاية البعد ، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية ، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به ، وإطلاق النور المبين لأنه بيّن بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره ، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل ، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجيء به أحد ، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توفيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به ، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه ـ قاله مولانا شيخ الإسلام ـ والأمر على غير ذلك التقدير هين (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره.

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين ، وهو خلاف الظاهر (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاء لحق واجب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة ، فعلى الأول التجوز في كلمة (فِي) لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف ، وعلى الثاني التجوز في المجرور دون الجار ـ قاله الشهاب ـ والبحث في ذلك شهير و (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة (وَفَضْلٍ) أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) أي إلى الله عزوجل ، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه ، وقيل : الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود ، وقيل : على الفضل (صِراطاً مُسْتَقِيماً) هو الإسلام والطاعة في الدنيا ، وطريق الجنة في الأخرى ، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.

وفي وجه انتصاب (صِراطاً) أقوال ، فقيل : إنه مفعول ثان لفعل مقدر أي يعرفهم (صِراطاً) ، وقيل : إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم ، وقيل : مفعول ثان له بناء على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة.


ومن الناس من جعل (إِلَيْهِ) متعلقا بمقدر أي مقربين إليه ، أو مقربا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول ، ومنهم من جعله حالا من (صِراطاً) ثم قال : ليس لقولنا : (يَهْدِيهِمْ) طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى ، فالأوجه أن يجعل (صِراطاً) بدلا من (إِلَيْهِ) وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا : (يَهْدِيهِمْ) طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح ، ولا وجه لكون (صِراطاً) بدلا من الجار والمجرور فافهم (يَسْتَفْتُونَكَ) أي ـ في الكلالة ـ استغني عن ذكره لوروده في قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والجار متعلق ب (يُفْتِيكُمْ) ، وقال الكوفيون : ب (يَسْتَفْتُونَكَ) وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة ، وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة ، والآية نزلت في جابر بن عبد الله كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره.

وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب عليّ فعقلت ، فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض» وهي آخر آية نزلت ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن البراء قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ، والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام ـ كما نص على ذلك المحققون ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى ـ وتسمى آية الصيف ، أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : «ما سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري ، وقال : يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء» (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) استئناف مبين للفتيا ، وارتفع (امْرُؤٌ) بفعل يفسره المذكور على المشهور ، وقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد ، وقيل : حال منه ، واعترض بأنه نكرة ، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات ، وقال الحلبي : يصح كونه حالا منه ؛ و (هَلَكَ) ، صفة له ، وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن في (هَلَكَ) وقيل عليه : إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير ، وإن رد بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) [الإسراء : ١٠٠] ، وقال أبو حيان : الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع ، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق ، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي ، ووافقه الحلبي ، وقال السفاقسي : الأظهر أن هذا مرجح لا موجب ، والمراد من ـ الولد ـ على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت ـ عند غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والإمامية ـ لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية ، وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص ، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف ، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما ، أما الابن فلأنه يسقط الأخت ، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض ، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما ، وأيضا الكلام في الكلالة ـ وهو من لا يكون له ولد أصلا ـ وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم ، فلا بد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم ، وقوله تعالى : (وَلَهُ أُخْتٌ) عطف على ليس له ولد ، ويحتمل الحالية ، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس ، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة.

(فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) أي بالفرض والباقي للعصبة ، أو لها بالردّ إن لم يكن له عصبة ، والفاء واقعة في جواب الشرط (وَهُوَ) أي المرء المفروض (يَرِثُها) أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه ، والجملة مستأنفة لا


موضع لها من الإعراب ؛ وقد سدت ـ كما قال أبو البقاء ـ مسدّ جواب الشرط في قوله تعالى : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى ، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها ، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به ، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) عطف على الشرطية الأولى ، والضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما ، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ ، ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها ، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا ، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل : إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد ، وإليه ذهب الأخفش ، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال ، وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث ، وأن الأصل والتقدير إن كان من يرث بالأخوة اثنين ، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتي ؛ وإنما قيل : (كانَتَا) و (كانُوا) لمطابقة الخبر كما قيل : من كانت أمك ، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال ، لأنه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى ، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر ، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد.

وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين : الأول أن ضمير (كانَتَا) لا يعود على الأختين بل على الوارثين ، وثم صفة محذوفة لاثنتين ، والصفة مع الموصوف هو الخبر ، والتقدير (فَإِنْ كانَتَا) أي الوارثتان (اثْنَتَيْنِ) من الأخوات فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين ـ كما ذكروا ـ ويكون خبر «كان» محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا ، ويكون (اثْنَتَيْنِ) حالا مؤكدة ، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء الهالك ، ويدل على حذف له (وَلَهُ أُخْتٌ).

(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينة (رِجالاً وَنِساءً) الواقع بدلا ، وقيل : فيه اكتفاء (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها ، وإلى هذا ذهب أبو مسلم (أَنْ تَضِلُّوا) أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد.

وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي (إِنِ) أي لئلا تضلوا ، وقيل : ليس هناك حذف ولا تقدير وإنما المنسبك مفعول (يُبَيِّنُ) أي يبين لكم ضلالكم ، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية ، ولما تم تفصيله قال عزوجل لهم : إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف اجتنب ، والخير إذا عرف ارتكب ، واعترض بأن المبين صريحا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة ، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال : بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه وفيه تأمل ، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض ، وفيها أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم (عَلِيمٌ)


مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ستروا ما اقتضاه استعدادهم (وَصَدُّوا) ومنعوا غيرهم (عَنْ) سلوك (سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الموصلة إليه (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لبطلان استعدادهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لانجذابهم إليها بالطبيعة (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) نهي لليهود ، والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا ، وقد غلا الفريقان في دينهم ، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي البواطن فحطوا عيسى عليه‌السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى ، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى عليه‌السلام إلى درجة الألوهية (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) الداعي إليه (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي حقيقة من حقائقه الدالة عليه (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص ، وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أن سبب تخصيص عيسى عليه‌السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى صادرا من اسم ذاتي ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فإن أرواحهم ـ وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى ـ لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الاسمائية فما سمي عيسى عليه‌السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون ، وكانت دعوته عليه‌السلام إلى الباطن والعالم القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته الغيبية ، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في الجواهر والدرر (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالجمع والتفصيل (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي ، وعيسى عليه‌السلام في الحقيقة فإن وجوده بوجود الله تعالى وحياته عليه‌السلام بحياته جل شأنه وعلمه عليه‌السلام بعلمه سبحانه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له في الوجود (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ما في سماوات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة ، وأما في مقام الجمع ، فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا ...

(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) بظهور أنانيته ويستكبر بطغيانه في الظهور بصفاته (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي بمحو الصفات وطمس الذات (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من جنات صفاته (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بالوجود الموهب لهم بعد الفناء (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) وأظهروا الأنانية (وَاسْتَكْبَرُوا) وطغوا فقال قائلهم : أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) باحتجابهم وحرمانهم


(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو التوحيد الذاتي (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وهو التفصيل في عين الجمع ؛ فالأول إشارة إلى القرآن ، والثاني إلى الفرقان (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث إنها أغيار (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) وهي جنات الأفعال (وَفَضْلٍ) وهو جنات الصفات (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الفناء في الذات ، أو ـ الرحمة ـ جنات الصفات ، و ـ الفضل ـ جنات الذات ؛ و ـ الهداية إليه صراطا مستقيما ـ الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة ، ولا حجر على أرباب الذوق ، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ونسأله التوفيق لفهم كلامه ، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المائدة

وتسمى أيضا العقود والمنقذة ، قال ابن الفرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي : إنها مدنية إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] فإنه نزل بمكة.

وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال : «نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك من ثقل الوحي» وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : المائدة آخر سورة نزلت ، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح ، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة ، ولعل كلا ذكر ما عنده ، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» وهو غير واف بالمقصود لمكان «من».

واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء ، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي الله تعالى عنهما ، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود ، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) [المائدة : ٢] ، وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين ، وثلاث وعشرون عند البصريين ، واثنان وعشرون عند غيرهم ، ووجه اعتلاقها بسورة النساء ـ على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة ـ أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا ، فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان ، والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة ، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود ، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [النساء : ١] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي ، وأول هذه (يا أَيُّهَا


الَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ١] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني ، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.

ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران ، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما ، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.

وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك ، وافتتحت النساء ببدء الخلق ، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء ، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه ، ويقال : وفى ووفى وأوفى بمعنى ، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد ، وأصل العقد الربط محكما. ثم تجوز به عن العهد الموثوق ، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد ، بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين ، والعهد قد يتفرد به واحد ، واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال : أحدها أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وثانيهما العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد البيع. ونحو ذلك وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن


أسلم ، وثالثها العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم ، وروي ذلك عن مجاهد ، والربيع وقتادة وغيرهم ؛ ورابعها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضيه التصديق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح ، وعليه فالمراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) مؤمنو أهل الكتاب ؛ وهو خلاف الظاهر ، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية ، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به ، أو يحسن دينا ، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا ، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.

واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه ـ كما في الكشف ـ من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال ، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم ، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع. ولو لم يكن إلا (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) و (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] لكفى ، وتعقب بما لا يخلو عن نظر.

وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء ، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك. والأمر فيه هين ، وفي القول بالعموم رغب الراغب ـ كما هو الظاهر ـ فقد قال : العقود باعتبار المعقود ، والعاقد ثلاثة أضرب ، عقد بين الله تعالى وبين العبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بينه وبين غيره من البشر ، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان : ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فتوصل إليه إما ببديهة العقل ، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) [الأعراف : ١٧٢] الآية ، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذلك ستة أضرب ، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه ، والثاني أربعة أضرب : فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول : عليّ أن أصوم إن عافاني الله تعالى ، والثاني مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك ، والثالث يستحب ترك الوفاء به ، وهو ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه» ، والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول : عليّ أن أقتل فلانا المسلم ، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها ، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش ، و ـ البهيمة ـ من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقا ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وسمي «بهيمة» لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه.

ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس‌سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها ، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر ، وإضافته إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام ، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها ، واعترض بأن البهيمة اسم جنس ، والأنعام نوع منه ، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة ، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة ـ كمدينة بغداد ـ فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان


مسماه وتوضيحه ـ وكشجر الأراك ـ فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن ، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل ، ولذا لا يقال : النعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به ، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس ، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بها الظباء وبقر الوحش ، وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب ، وروي ذلك عن الكلبي والفراء ، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما ، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصا بينهما ، أي بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس المشبه به ، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل : أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم ، وقيل : المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ـ وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم ـ فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها ، وبه قال الشافعي ، واستدل عليه بغير ما خبر ، ويفهم منها حل الأنعام ، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.

وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا : لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم.

وزعموا لعنهم الله أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور ، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداء بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم ، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولو لا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف.

وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم ، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر ، ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية ، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء ، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون ، ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم ، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة ، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه ، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام وكذا القول بالنور والظلمة ، وقال بعض المحققين : لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناء بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار ، وقال بعض الناس : الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل ، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان ، نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه ، ويسري الإجمال إلى ما تقدم ، ولكن ذاك ليس محل النزاع ، والاستثناء متصل من (بَهِيمَةُ) بتقدير مضاف محذوف م (ما يُتْلى) أي إلا محرم (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، وعني بالمحرم الميتة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة ، أو من فاعل (يُتْلى) أي (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)


آية تحريمه لتكون (ما) عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو ، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد ؛ وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد ـ كما قال الشهاب ـ جدا ، وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناء على الظاهر لأن المتلو لفظ ، والمستثنى منه ليس من جنسه ؛ والأكثرون على الأول ، ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ما حقق في النحو (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من الضمير في (لَكُمْ) على ما عليه أكثر المفسرين ، و (الصَّيْدِ) يحتمل المصدر والمفعول ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عما استكن في «محل» والحرم جمع حرام وهو المحرم ، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد ، أو أكل الصيد في الإحرام ، وفسر الزمخشري عدم إجلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال : كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لئلا يكون عليكم حرج ، ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل ظنّا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه ، وقد يقال : إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشئ من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر ، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الاربلي رحمة الله تعالى عليه.

واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم ، وهي قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره ، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.

وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك ، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من (الْأَنْعامِ) ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت ، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش ، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة ـ غابة التنزيل ـ أن يقصده من مراصد عباراته ، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب (غَيْرَ) على الحالية من ضمير (أَوْفُوا) وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة ، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج ، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال ـ مع أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا ـ وجه.

وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا ، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام ، ثم قال : ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ويستلزم جعل (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أيضا حالا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ.

وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه ، فقد قالوا : لو قلت : أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين : بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضا مقالا ، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في (عَلَيْكُمْ) ويرده أن الذي (يُتْلى) لا يتقيد بحال انتفاء


إحلالهم الصيد وهم حرم ، بل هو يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها ، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء ، وذكر أن فيه تعسفا ، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناء لكان إما من الضمير في (لَكُمْ) أو في (أَوْفُوا) إذ لا جواز لاستثنائه من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وعلى الأول يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها ، أو تبقى على العموم لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء ، وأن يجعل قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن في (مُحِلِّي) ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين ، فسوق العبارة يقتضي أن يقال : وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين ، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة ، وعلى الثاني يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج ، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي ، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى ، وكأنه رحمه‌الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء ، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد ـ كما قاله القرطبي وأبو حيان ـ لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال ، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) على وجه عينه ؛ وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه‌الله تعالى : إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم (مُحِلِّي) بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصل غير محلين الصيد.

والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) من باب قولهم : حسان النساء ، والمعنى النساء الحسان ، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل ، والمحلّ صفة للصيد لا للناس ، ووصف الصيد بأنه محل ، إما بمعنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل ، وأحرم أي دخل في الحرم ، أو بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله تعالى ، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب ، فمن الأول أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم ، ومن الثاني أعشبت الأرض وأبقلت ، وأغد البعير ، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين اتضح كونه استثناء ثانيا ، ثم إن كان المراد ب (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أنفسها فهو استثناء منقطع ، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين ، «فإن قلت» ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟.

قلت : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم.

فإن قلت : ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها.

قلت : قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو «لأذبحنه» بالألف ، والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى.

وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء ، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم ، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس ، وقال الحلبي : إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم يعربوا غير إلا حالا ، وإنما اختلفوا في صاحبها ، ثم قال السفاقسي : ويمكن فيه تخريجان : أحدهما أن يكون غير استثناء منقطعا ، و (مُحِلِّي) جمع على بابه ، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد ، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد ، والثاني أن يكون متصلا من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، وفي الكلام حذف مضاف ، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فلا يحل ، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل ، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف ، أي إلا صيد محلي الاصطياد (وَأَنْتُمْ


حُرُمٌ) ، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل ، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا ، ويحتمل أن يكون حالا من ضمير لكم ، وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو كثير ، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد ، وهو تخريج حسن.

هذا ولا يخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة ، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار ، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا ، وضمن (يَحْكُمُ) معنى يفعل ، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالياء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر ، وهو جمع شعرة ، وهي اسم لما أشعر ، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى ، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر ، وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها ، والمراد منه التهاون بحرمتها ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها ، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر بمعالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه ، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم ، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام ، وقيل : هي الصفا والمروة ، والهدي من البدن وغيرها ، وروي ذلك عن مجاهد (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين ـ كما روي عن ابن عباس وقتادة ـ أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي ، والأول هو الأولى بحال المؤمنين.

واختلف في المراد منه فقيل : رجب ، وقيل : ذو القعدة ، وروي ذلك عن عكرمة ، وقيل : الأشهر الأربعة الحرم ، واختاره الجبائي والبلخي ، وإفراده لإرادة الجنس (وَلَا الْهَدْيَ) بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله ، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء ، وهو جمع هدية ـ كجدي وجدية ـ وهي ما يحشى تحت السرج والرحل ، وخص ذلك بالذكر بناء على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعا للناس ، ولأنه مالي قد يتساهل فيه ، وتعظيما له لأنه من أعظمها (وَلَا الْقَلائِدَ) جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له ، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن ، وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناء بها ، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١] فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى ، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد ، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة ، وروي ذلك عن الحسن ، وروي عن السدي أن المراد من القلائد أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم ، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله ، وقال الفراء : أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر ، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما ، وعن الربيع وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان ، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم (آمِّينَ).

وقرئ ـ ولا آمي البيت الحرام ـ بالإضافة ، و (الْبَيْتَ) مفعول به لا ظرف ، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر ، وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) حال من المستكن في (آمِّينَ) ، وجوز أن يكون صفة ،


وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء ، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول ، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره ، وتنكير (فَضْلاً وَرِضْواناً) للتفخيم ، و (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بنفس الفعل ، أو بمحذوف وقع صفة ـ لفضلا ـ مغنية عن وصف ما عطف عليه بها ، أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم ، والمراد بهم المسلمون خاصة ، والآية محكمة.

وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه كذا قيل ، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا؟ فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال ، ولذا قال الحسن وغيره : المراد بالآمين هم المشركون خاصة ، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم ، ومن الرضوان ما في زعمهم ، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى ، ويؤيد هذا القول إن الآية نزلت ـ كما قال السدي وغيره ـ في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند ، وذلك أنه أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فقال : حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده ، فلما خرج قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :

قد لفها بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بخوار على ظهر قطم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم

مدملج الساقين ممسوح القدم

فطلبه المسلمون فعجزوا ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا. وروي عن ابن زيد «أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون : يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء ، دعنا نغير عليهم ، فأنزل الله سبحانه الآية» واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون في النسخ وعدمه ، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال ، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم ، وقال أبو مسلم : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، وقيل : بآية السيف ، وقيل : بهما ، وقيل : لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد ، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين كافة المسلمين والمشركين وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة.

وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول ، ولا بد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين ، وقرأ حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين ، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في (لا تُحِلُّوا) على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها ، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفى. وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط ، وقال


شيخ الإسلام : إن إضافة الرب إلى ضمير (آمِّينَ) على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى ، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى (وَإِذا حَلَلْتُمْ) من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاصْطادُوا) أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع ، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها ، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير.

وقال صاحب القواطع : إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن ، ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة ، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة ، ثانيها أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه ، ووروده بعد الحظر لا تأثير له ، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في المحصول ، ونقله الشيخ أبو حامد الأسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية ، ثم قال : وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين ، وثالثها الوقف بينهما ، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر ، ولا يبعد على ـ ما قاله الزركشي ـ أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل ، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال : إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال : إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب ، وقيل : إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل : اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء ، وقرئ ـ أحللتم ـ وهو لغة في حل ، وعن الحسن أنه قرئ (فَاصْطادُوا) بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها ، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس ، وقيل : إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء ، وإن كانت من المستعلية (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة ، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما ، وأنشدوا له بقوله :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن تغضبا

فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه ، وإلى الآخر بعلى ، وقال الفراء وأبو عبيدة : المعنى لا يكسبنكم ، وجرم جار مجرى كسب في المعنى ، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال : جرم ذنبا نحو كسبه ، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه ، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني ، ومنه الجريمة ، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه ، وقد يقال : أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال : أكسبته ذنبا ، وعليه قراءة عبد الله «لا يجرمنكم» بضم الياء (شَنَآنُ قَوْمٍ) بفتح النون ؛ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ، وإسماعيل عن نافع بسكونها ، وفيهما احتمالان : الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة ـ كجولان ـ ولا يكون لفعل متعد كما قال : س ، وهذا متعد إذ يقال : شنئته ، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد ، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو ـ لويته ليانا ـ بمعنى مطلته ، والثاني أن يكونا صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران ، وبالفتح ورد فيها قليلا ـ كحمار قطوان عسر السير ، وتيس عدوان كثير العدو ـ فإن كان مصدرا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما ، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم ، والأول أظهر ـ كما في البحر ـ وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض ، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة ـ للشنآن ـ أي لأن صدوكم عام الحديبية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن (أَنْ) شرطية ، وما قبلها دليل الجواب ، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه ، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة.


وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض ، وذلك كقوله تعالى : (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم ، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن (يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) بعد ظهور الإسلام وقوته ، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن زيارته والطواف به للعمرة ، وهذه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ آية بينة في عموم (آمِّينَ) للمشركين قطعا ، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم (أَنْ تَعْتَدُوا) أي عليهم ، وحذف تعويلا على الظهور ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم ، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا ، والمحل بعده إما جر ، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي ، أو لا حذف ، والمنسبك ثاني مفعولي (يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم ، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية ، ويقال : لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب على الحضور.

ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم ، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ.

وقال شيخ الإسلام : لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية ، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى ، ولعله الأولى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) عطف على (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) من حيث المعنى كأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء ، وقال بعضهم : هو استئناف والوقف على (أَنْ تَعْتَدُوا) لازم ، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا ، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام ، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج ، فقد قال تعالى : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج : ٣٢] ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا ، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فيعم النهي كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه ، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم ، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي ، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.

(إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لا يتقيه ، وهذا في موضع التعليل لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) والمراد تحريم أكل الميتة ، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه (وَالدَّمُ) أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه ، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح ، وأما الطحال فالأكثرون على


إباحته ، وأجمعت الإمامية على حرمته ، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إقحام اللحم لما مر ، وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره ، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال : «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب ، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار ، وفيه تأمل (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه ، والمراد بالإهلال هنا ذكر ما يذبح له ـ كاللات والعزى ـ (وَالْمُنْخَنِقَةُ) قال السدي : هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت ، وقال الضحاك وقتادة : هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين ، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقا (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي التي تضرب حتى تموت ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والسدي ، وهو من وقذته بمعنى ضربته ، وأصله أن تضربه حتى يسترخي ، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت (وَالنَّطِيحَةُ) أي التي ينطحها غيرها فتموت ، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء ، وقال بعض الكوفيين : إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل ـ كف خضيب وعين كحيل ـ وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه ، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل ، وقرئ والمنطوحة (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي ما أكل منه السبع فمات ؛ وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه ؛ وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن ، وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد ، وقال بعضهم : يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل : أن يضطرب بعد الذبح لا وقته ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره ، وقيل : هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.

وروي ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة ، واختاره الجبائي ، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد ، والتفصيل في الفقه ، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل.

وقرأ الحسن : «السبع» بسكون الباء ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وأكيل السبع .. (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) جمع نصاب كحمر وحمار ، وقيل : واحد الأنصاب كطنب وأطناب ، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين حجرا ، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ـ فعلى ـ على أصلها ، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى ؛ وقيل : هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى ، و (عَلَى) إما بمعنى اللام ، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.

واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) والأمر في ذلك هين ، والموصول معطوف على المحرمات ، وقرئ (النُّصُبِ) بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا ، وقرئ بفتحتين ، وبفتح فسكون (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) جمع زلم ـ كجمل ـ أو زلم ـ كصرد ـ وهو القدح ، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح


وذلك أنهم ـ كما روي عن الحسن وغيره ـ إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح ، مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الثاني نهاني ربي وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم ، وإن خرج الناهي تجنبوا ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام ، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الفأل.

وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما ، وقيل : لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد ـ بربي ـ الله تعالى ، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم ، وقيل : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به ، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام ، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه ، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى ، ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة ، ولا قائل به.

وقال الإمام رحمه‌الله تعالى : لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب ، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا ، ومعلوم أن كل ذلك باطل ، وتعقب القول ـ بجواز الاستخارة بالقرآن ـ بأنه لم ينقل فعلها عن السلف ، وقد قيل : إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوى الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه ومعاذ رضي الله تعالى عنه.

وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : ـ من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] سبع مرات ، وليقل ثلاث مرات : اللهم بكتابك تفاءلت ، وعليك توكلت ، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك ، ثم يتفاءل بأول الصحيفة ـ ففي النفس منه شيء.

وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه ، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم مثلا ، وفي إخراج النساء لأنا نقول : إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة ، وأما الحرية الواقعة على واحد من البعيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره ، وفي استعمال القرعة النقل ، وخالف الشافعي في ذلك ، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره ، وظواهر الأدلة معه ، وتحقيق ذلك في موضعه.

والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب ، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد ، وأنه لا يخلو عن تشاؤم ، وليس بتقاول محض ، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن ، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول ، وتركها أحب إليّ لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح ، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه ، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب ، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب : أحدها أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء ، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الثاني أن يخبره بما يطرأ ويكون في


أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد ، وهذا لا يبعد وجوده ، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون ، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام ، الثالث المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها ـ كالزجر والطرق بالحصى ـ وهذه الأضراب كلها تسمى كهانة ، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.

ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام ، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب ، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض ، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع ، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم ، وقيل : المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى عنهم ، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام ، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.

وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج (ذلِكُمْ) أي الاستقسام بالأزلام ، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر (فِسْقٌ) أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن (ذلِكُمْ) إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق (الْيَوْمَ) أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية ، وقيل : يوم نزول الآية ، وروي ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد ، وكان ـ كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه ـ عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع ، وقيل : يوم دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ، وقيل : سنة ثمان ، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى : (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.

والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها ، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله.

وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف فلم ير إلا مسلما ، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس (وَاخْشَوْنِ) أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه ، وهذا كما تقول : تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وعن ابن عباس والسدي أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم ، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع ، واختاره الجبائي والبلخي وغيرهما ، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحليل ولا تحريم ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما ، ومضى ـ روحي فداه ـ إلى الرفيق الأعلىصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام : صدقت» ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال


القياس ـ كما زعم بعضهم ـ لأن المراد إكمال الدين نفسه ببيان ما يلزم بيانه ، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد ، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ) حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين ـ واختاره الطبري ـ وقال : يرد على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت ، واعترض بالمنع ، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم ، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) وليس الجار فيه متعلقا ـ بنعمتي ـ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله ، وقيل : متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا ، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة ، ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكها ، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان ، وقيل : بإتمام الهداية والتوفيق بإتمام سببهما ، وقيل : بإكمال الدين ، وقيل : بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدا قبلهم ، وقيل : معنى (أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي اخترته لكم من بين الأديان ، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار.

وأخرج ابن جبير عن قتادة قال : «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة ، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول : رب أنت السلام وأنا الإسلام ، فيقول : إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي» وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام ، ومنهم من جعل الجار ـ صفة لدين ـ قدم عليه فانتصب حالا ، و (الْإِسْلامَ) و (دِيناً) مفعولا (رَضِيتُ) إن ضمن معنى صير ، أو (دِيناً) منصوب على الحالية من الإسلام ، أو تمييز من (لَكُمْ) والجملة ـ على ما ذهب إليه الكرخي ـ مستأنفة لا معطوفة على (أَكْمَلْتُ) وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا ، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على العطف ، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم. وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي ، ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم ، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر ، نعم ثبت عندنا أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك : من كنت مولاه فعلي مولاه وزاد على ذلك ـ كما في بعض الروايات ـ لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد.

وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه ، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها ، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه (فَمَنِ اضْطُرَّ) متصل بذكر المحرمات وما بينهما ، وهو سبع جمل ـ على ما قال الطيبي ـ اعتراض بما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسق عظيم ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي ، والاضطرار الوقوع في الضرورة ، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها أو مبادئه (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه ، فإن ذلك حرام ـ كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال أهل العراق ، وقال أهل


المدينة : يجوز أن يشبع عند الضرورة ، وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغيا ، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصيته ، وروي هذا أيضا عن قتادة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة ، وقد أقيم سببه مقامه ، وقيل : إنه مقدر في الكلام (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات ، أخرج ابن جرير والبيهقي في سننه وغيرهما عن أبي رافع قال : «جاء جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام : قد أذنا لك قال : أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو ، قال أبو رافع : فأمرني صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت ، وجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية.

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان ، وقد ضمن السؤال معنى القول ، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول ، وليس معلقا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له ، فيعلق كما يعلق خلافا لأبي حيان ، فاندفع ما قيل : إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر ، فيقال : سئل عن كذا ، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ما ذا ، والأول مختار الأكثرين ، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول : أقسم زيد ليضربن ، ولو قلت : لأضربن جاز ، والمسئول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل ، وقيل : إن المسئول ما أحل من الصيد والذبائح (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ، وإلى ذلك ذهب البلخي ، وعن أبي علي الجبائي وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيد ، وقيل : ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس ، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده لنص وإن لم نقف عليه ، والطيب ـ على هذين القولين ـ بمعنى الحلال ، وعلى الأول بمعنى المستلذ ، وقد جاء بالمعنيين (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن (ما) موصولة ، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه ، قيل : والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على (الطَّيِّباتُ) من عطف الخاص على العام ، وقيل : الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأنه الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل ، ويحتمل أن تكون (ما) شرطية مبتدأ ، والجواب فكلوا ، والخبر الجواب ، والشرط على المختار ، والجملة عطف على جملة (أُحِلَّ لَكُمُ) ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.

ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه ، وقال تقديره لا يبطل كون (ما) شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه ـ كما تقول ـ غلام من يضرب أضرب ـ كما تقول ـ من يضرب أضرب ، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل (مِمَّا أَمْسَكْنَ) من وضع الظاهر موضع ضمير (ما عَلَّمْتُمْ) فافهم ، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا ، والخبر كلوا ، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر ، و (مِنَ الْجَوارِحِ) حال من الموصول ، أو من ضميره المحذوف ، و (الْجَوارِحِ) جمع جارحة ، والهاء فيها ـ كما قال أبو البقاء ـ للمبالغة ، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف ، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير ، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم ، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ، وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا.

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والسدي والضحاك – وهو المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة ـ أنها


الكلاب فقط (مُكَلِّبِينَ) أي معلمين لها الصيد ، والمكلب مؤدب الجوارح ؛ ومضربها بالصيد ، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرا ما يقع فيه ؛ أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل ، فقد أخرج الحاكم في المستدرك ـ وقال : صحيح الإسناد ـ من حديث أبي نوفل قال : «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ـ أو كلبك ـ فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال : إني أخاف دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به» ، ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا ، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبا عليه.

وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به ، وانتصابه على الحالية من فاعل (عَلَّمْتُمْ) ، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه ، وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرءوا (مُكَلِّبِينَ) بالتخفيف من أكلب ، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال من ضمير (مُكَلِّبِينَ) أو استئنافية إن لم تكن (ما) شرطية وإلا فهي معترضة ، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير (عَلَّمْتُمْ) ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر ، ولم يستحسن جعلها حالا من (الْجَوارِحِ) للفصل بينهما.

(مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من الحيل وطرق التعليم والتأديب ، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه ، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا ، وقيل : المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بإرسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.

ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا ، و ـ من ـ أجلية ، وقيل : تبعيضية أي بعض ما علمكم الله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره ، أو جواب للشرط ، أو خبر للمبتدإ ، و ـ من ـ تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك ، وقيل : «زائدة على رأي الأخفش ؛ وخروج ما ذكر بديهي ؛ و (ما) موصولة أو موصوفة ، والعائد محذوف أي أمسكنه ، وضمير المؤنث للجوارح ، و (عَلَيْكُمْ) متعلق بأمسكن ، والاستعلاء مجازي ؛ والتقييد بذلك لإخراج ما أمسكنه على أنفسهن ، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه ؛ وقد أشار إلى ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روى أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال : «سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك ، فإن أكل منه فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه» وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وعكرمة ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه : إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل ، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج عبد بن حميد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل ، لأن الكلب تستطيع أن تضربه ، والصقر لا تستطيع أن تضربه ، وعليه إمام الحرمين من الشافعية ، وقال مالك والليث : يؤكل وإن أكل الكلب منه ، وقد روي عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الضمير ـ لما علمتم ـ كما يدل عليه الخبر السابق ، والمعنى سموا عليه عند إرساله ؛ وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والسدي ، وقيل : ـ لما أمسكن ـ أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وقيل : للمصدر المفهوم من ـ كلوا ـ أي سموا الله تعالى على الأكل ـ وهو بعيد ـ وإن استظهره أبو حيان ، والأمر


للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وللندب عند الشافعي ، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق (وَاتَّقُوا اللهَ) في شأن محرماته ، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع إتيان حسابه ، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه ، فقد جاء ـ أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم ـ والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم ، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة ، والمحتاجون للصيد ـ الحافظون لدينهم ـ أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.

فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرفطة بن نهيك التميمي قال : يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى ، وعن الصلاة في جماعة ، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحله لأن الله تعالى قد أحله ، نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلي رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى» واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار ، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك ، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة ، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس ، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب المجوسي أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله أنه قال : لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوس ، وإنما قال الله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده ، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس.

وقال النيسابوري : فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره ، والأول أولى. (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) أي حلال ، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة ـ كما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وإبراهيم وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال الجبائي والبلخي وغيرهم.

وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله وعليه أكثر المفسرين ، وقيل : إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وبه قال جماعة من الزيدية ، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء ، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وقال صاحباه : الصابئة صنفان : صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب ، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال : «كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم» وهو وإن كان مرسلا ، وفي إسناده قيس بن الربيع ـ وهو ضعيف ـ إلا أن إجماع أكثر المسلمين ـ كما قال البيهقي ـ عليه يؤكده ، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم


غير الله تعالى ـ كعزير وعيسى عليهما‌السلام ـ فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : لا تحل وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل ـ وهو قول الشعبي وعطاء ـ قالا : فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل ، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) قال الزجاج وكثير من المتأخرين : إن هذا خطاب للمؤمنين ، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم ، فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم ، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين ، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)؟ وعن بعضهم فإن قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعمكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم ، ثم نسخ ذلك في شريعتنا ، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا : هو حلال في شريعتنا ، وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره ، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم ، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات ، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء ، والمراد بهن عند الحسن ، والشعبي وإبراهيم العفائف ، وعند مجاهد الحرائر ، واختاره أبو علي ، وعند جماعة العفائف والحرائر ، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن ، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق ، وكذا نكاح غير العفائف منهن ، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وإن كن حربيات كما هو الظاهر ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يجوز نكاح الحربيات ، وخص الآية بالذميات ، واحتج له بقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] قال الجصاص : وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة ، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب ، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ولقوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠]. وأولو هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن ، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات ، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لا حرج في ذلك ، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم ، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين ، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة ، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر ، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في ذلك ، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة ، نعم أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى


عنهما قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام».

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله «أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن.

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال : ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة ، قال الرجل : وما المسافحة؟ قال : هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينة اتبعته» (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره ـ وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز ، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا ، ولعله أقرب من الأول ، وإن كان المآل واحدا ، و «إذا» ظرف لحل المحذوف ، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) حللن لكم. (مُحْصِنِينَ) أي إعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل (آتَيْتُمُوهُنَ) وكذا قوله تعالى : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، وقيل : هو حال من ضمير (مُحْصِنِينَ) ، وقيل : صفة ـ لمحصنين ـ أي غير مجاهرين بالزنا ، (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي ولا مسرين به ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى ، وقيل : الأول نهي عن الزنا ، والثاني نهي عن مخالطتهنّ ، و (مُتَّخِذِي) يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على (مُسافِحِينَ) وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من غير ، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على (غَيْرَ مُسافِحِينَ) باعتبار أوجهه الثلاثة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي من ينكر المؤمن به ، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ، ويمتنع عن قبولها (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين ، والآية تذييل لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إلخ تعظيما لشأن ما أحله الله تعالى وما حرمه ، وتغليظا على من خالف ذلك ، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف ـ كما قيل ـ أي بموجب الإيمان ، وهو الله تعالى ليس بشيء ، وإن أشعر به كلام مجاهد ، وضمير الرفع مبتدأ ، و (مِنَ الْخاسِرِينَ) خبره ، و (فِي) متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق ، وقيل : بمحذوف دلّ عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة ، وقيل : بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، وقيل : يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله :

ربيته (١) حتى إذا ما تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالإيمان العلمي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي بعزائم التكليف ، وقال أبو الحسن الفارسي : أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات ، والرياضات في المحاسبات ، والحراسة في الخطرات ، والرعاية في المشاهدات ، وقال بعضهم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عقد القلب بالمعرفة ، وعقد اللسان بالثناء ، وعقد الجوارح بالخضوع ، وقيل : أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه ، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من

__________________

(١) قوله : «ربيته» إلخ هكذا بخطه وليس بمستقيم الوزن كما هو ظاهر لمن له إلمام بفن الشعر ، فلعل «ما» زيدت من قلمه اه.


التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) فليرض السالك بحكمه ليستريح ، ويهدي إلى سبيل رشده (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك ، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما فيه (وَلَا الْهَدْيَ) وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة ، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها ، أو تكليفها بما يكون سبب مللها (وَلَا الْقَلائِدَ) وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها ، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) وهم السالكون ، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) بتجليات الأفعال (وَرِضْواناً) بتجليات الصفات ، (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك (أَنْ تَعْتَدُوا) عليها ، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها ، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) بتدبير تلك القوى وسياستها ، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فإن ذلك يقطعكم عن الوصول ، وعن سهل أن (الْبِرِّ) الإيمان (وَالتَّقْوى) السنة و (الْإِثْمِ) الكفر (وَالْعُدْوانِ) البدعة ، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه (الْبِرِّ) الايمان (وَالتَّقْوى) الإخلاص (وَالْإِثْمَ) الكفر (وَالْعُدْوانِ) المعاصي ، وقيل : (الْبِرِّ) ما توافق عليه العلماء من غير خلاف (وَالتَّقْوى) مخالفة الهوى (وَالْإِثْمَ) طلب الرخص (وَالْعُدْوانِ) التخطي إلى الشبهات (وَاتَّقُوا اللهَ) في هذه الأمور (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيعاقبكم بما هو أعلم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة (وَالدَّمُ) وهو التمتع بهوى النفس (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) من الأعمال التي فعلت رياء وسمعة (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها ، (وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان (وَالنَّطِيحَةُ) وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا : لو كان مقدرا لنا لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي (ذلِكُمْ فِسْقٌ) خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي ، والاتكال على المقدر يجعلهما عبثا (الْيَوْمَ) وهو وقت حصول الكمال (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) بأن يصدّوكم عن طريق الحق (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فإنهم لا يستولون عليكم بعد (وَاخْشَوْنِ) لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ببيان ما بينت (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بذلك أو بالهداية إليّ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ) أي الانقياد للانمحاء (دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول لذة في مخمصة ، وهي الهيجان الشديد للنفس (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) غير منحرف لرذيلة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق.


(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) وهي الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية (مُكَلِّبِينَ) معلمين لها على اكتساب الفضائل (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من علوم الأخلاق والشرائع (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) مما يؤدي إلى الكمال (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه لا أنه لذة نفسانية (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) وهو مقام الفرق والجمع (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعا ، ولأهل الجمع فرقا (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) وهي النفوس المهذبة الكاملة (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) بإنكاره الشرائع (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) بإنكاره الحقائق ، والظاهر عدم التوزيع ، والله تعالى أعلم بمراده ، وهو الموفق للصواب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم ، ووجه التقديم والتأخير ظاهر (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيامة إليها والاشتغال بها ، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا ، وفائدة الإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وقيل : يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة ، فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه الآخر وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم (الَّذِينَ آمَنُوا) من غير اختصاص بالمحدثين ، وإن لم


يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل ، وإنما ذلك من خارج على الصحيح ، لكن الإجماع على خلاف ذلك ، وقد أخرج مسلم وغيره «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه ، فقال عليه الصلاة والسلام : عمدا فعلته يا عمر؟؟» يعني بيانا للجواز ، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) محدثين بقرينة دلالة الحال ، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا ، وقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) صريح في البدلية ، وبعض المتأخرين أن في الكلام شرطا مقدرا أي (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) إلخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملاءمة عطف (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) عليه ، وقيل : الأمر للندب ، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة ؛ واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل ، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ، ووجوب بالنسبة إلى آخرين ، وقيل : هو للوجوب ، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ ، فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والحاكم (١) عن عبد الله بن حنظلة الغسيل «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث» ولا يعارض ذلك خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا إلخ لأنه ليس في القوة مثله حتى قال العراقي : لم أجده مرفوعا ، نعم الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا ، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا ، ونسخه عنه آخرا لا يخلو عن شيء كما لا يخفى.

وأخرج مالك والشافعي وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية (إِذا قُمْتُمْ) من المضاجع يعني النوم (إِلَى الصَّلاةِ) والأمر عليه ظاهر ، ويحكى عن داود : أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضئون كذلك ، وكان علي كرم الله تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية ، وفيه أن حديث عمر رضي الله تعالى عنه يأبى استمرار النبي عليه الصلاة والسلام على ما ذكر ، والخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت ، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب ، وقد ورد «من توضأ على طهر كتب الله تعالى له عشر حسنات» (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) أي أسيلوا عليها الماء ، وحد الإسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما ، وعند أبي يوسف رحمه‌الله تعالى لا يشترط التقاطر ، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه ، قيل : ومرجعهم فيه قول العرب : غسل المطر الأرض ، وليس في ذلك إلا الإسالة ، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أيّ دلك. وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض ، وهو إنما يكون بدلك ، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل ، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك.

وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته ، وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب ـ كما قاله ابن الحاج في شرح المنية ـ ومن الغريب أنه قال : باشتراط الدلك في الغسل ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضئ الثلج على العضو فإنه قال : يكفي ذلك وإن لم يذب الثلج ويسيل ، ووافقه عليه الأوزاعي مع أن ذلك لا يسمى غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه ، وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين ، وعرضا ما بين

__________________

(١) قوله : «والحاكم» كذا بخط المؤلف مكررا مع ما قبله فليحرر اه.


شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها ، واشتقاق الثلاثي من المزيد ـ إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه ـ شائع ، وقال العلامة أكمل الدين : إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو في الاشتقاق الصغير ، وأما في الاشتقاق الكبير وهو أن يكون بين كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى فهو جائز ، ويعطي ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته ، وهو قولهما خلافا لأبي يوسف ، ويعطي أيضا وجوب الاسالة على شعر اللحية ، وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وغيره ، فعنه يجب مسح ربعها ، وعنه مسح ما يلاقي البشرة ، وعنه لا يتعلق به شيء ، وهو رواية عن أبي يوسف ، وعن أبي يوسف يجب استيعابها ، وعن محمد أنه يجب غسل الكل ، قيل : ـ وهو الأصح ـ وفي الفتاوى الظهيرية ، وعليه الفتوى لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب.

وقال في البدائع عن ابن شجاع : إنهم رجعوا عما سوى هذا وكل هذا في الكثة ، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها ولو أمرّ الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن ، وفي البقال : لو قص الشارب لا يجب تخليله ، وإن طال وجب تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعة مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط ما تحته بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون ، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في التجنيس إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل ، وأما الشفة فقيل : تبع للفم وقال أبو جعفر : ما انكتم عند انضمامه تبع له وما ظهر فللوجه ، وروي هذا التحديد عن ابن عباس وابن عمر والحسن وقتادة والزهري رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وغيرهم ، وقيل : الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر ، وما بطن كداخل الأنف والفم ، وكذا ما أقبل من الأذنين ، وروي عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا في باطن العين ، والظاهر عدم وجوب غسله عندهم لمزيد الحرج وتوقع الضرر ، ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا ، بل قال بعضهم : يكره ، نعم يخطر في الذهن رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين في الغسل ويفعله ، وأنه كان سببا في كف بصره رضي الله تعالى عنه (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) جمع مرفق بكسر ففتح افصح من عكسه ، وهو موصل الذراع في العضد ، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به أي يتكئ عليه من اليد ، وجمهور الفقهاء على دخولها.

وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها ، ولذلك قيل : «إلى» بمعنى مع كما في قوله تعالى : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) [هود : ٥٢] و (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢] [الصف : ١٤] ، وقيل : هي إنما تفيد معنى الغاية ، ومن الأصول المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لو لا ذكرها دخل وإلا فلا ، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل ، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة والأيمان تبنى على العرف ، وجاز أن يخالف العرف اللغة.

وذكر بعض المحققين أن (إِلَى) جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها ، وجاءت وما بعدها غير داخل ، فمنهم من حكم بالاشتراك ، ومنهم من حكم بظهور الدخول ، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول ، وعليه النحويون ، ودخول المرافق ثابت بالسنة ، فقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أدار الماء عليها.

ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر ، واستدل بتعارض الأشباه وبأن في الدخول في المسمى اشتباها


أيضا فلا تدخل بالشك ، وحديث الإدارة لا يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن يستوعبه ، وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال في الأصل المقرر ، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها فيكون اقتصاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد ، فيتعين دخول ما أدخله ـ واغسل يدك للأكل ـ من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة.

وقال العلامة ابن حجر : دل على دخولها الاتباع والإجماع ، بل والآية أيضا بجعل (إِلَى) غاية للترك المقدر بناء على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة ، وكأنه عنى بالإجماع إجماع أهل الصدر الأول وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد ، وعدوا داود ـ وكذا الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من ذلك ـ ولي في عد الأخير تردد ، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين ، قيل : ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول ، ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما لو فقد اليد مما فوق المرفق ، نعم يندب له غسل ما بقي من العضد محافظة على التحجيل ، هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي فرض كما هو الظاهر من الآية ، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه ، أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا ، والمختار في الضيق الوجوب ، وفي الجامع الأصغر إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتي به ـ كما قال الدبوسي ـ وقيل : يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن لتولده منه.

وقال الصفار : يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر ، واستحسنه ابن الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة ، وفي النوازل يجب في المصري لا القروي لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء بخلاف القروي ، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رءوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا ، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها ، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله ، وما لا فلا ، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية في غسل الأيدي من المرافق ، فلو غسل من رءوس الأصابع لم يصح وضوءه.

وقد حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان ، والظاهر أن هذا البعض من الشيعة ، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، قيل : الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه ؛ وقيل : للتبعيض ، وقد نقل ابن مالك عن أبي علي في التذكرة أنها تجيء لذلك ، وأنشد :

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

وقيل : إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي ، والمفروض في المسح عندنا مقدار الناصية ، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق الأذنين لما روى مسلم عن المغيرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فمسح بناصيته ؛ والكتاب مجمل في حق الكمية فالتحق بيانا له ، والشافعي رضي الله تعالى عنه يمنع ذلك ، ويقول : هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها ، بل إلى الإطلاق فيسقط عنده بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس على أن في حديث المغيرة روايتان : على ناصيته وبناصيته ، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود ، أو القذال ، فلا يدل على مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل ـ مسح على الخفين ـ عليه أيضا ، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم ، وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية ، ويعود التبعيض ، ومن هنا قال بعضهم : الأولى أن يستدل برواية أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وعليه عمامة


قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه» وسكت عليه أبو داود فهو حجة ، وظاهره استيعاب تمام المقدم ، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية ، ومثله ما رواه البيهقي عن عطاء «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه ، أو قال : ناصيته» فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا ، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز ، وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه ، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية ، فيقال حينئذ : إن الباء للإلصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعيض ، فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه ، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس ، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض ، وحينئذ فتعين الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم.

وفي بعض الروايات أن المفروض مقدار ثلاث أصابع ، وصححها بعض المشايخ إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها ، ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها ، وللأكثر حكم الكل ، ولا يخفى ما فيه ، وإن قيل : إنه ظاهر الرواية ، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح ، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى عنه ، ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا ، ولا يشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها ، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز ، وإن أخذه لا يجوز ، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض ، وكذا بإصبعين ـ على ما قيل ـ لا يجوز خلافا لزفر ، وعللوه بأن البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزئ أقل من الربع ، والمشهور في ذلك الجواز ، واختار شمس الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد ، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها ، وهو حسن ـ كما قال ابن الهمام ـ لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر ، وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآية التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر قلنا : بعدم جواز مده ، وقد يقال : عدم الجواز بالإصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الإصبعين ، فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون ، فوجب إثبات الحكم باعتباره ، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع ثالثة ، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز لأن ما بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بإصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز ، والماء طهور عند أبي يوسف لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره ، وغيره لم يلاقه فلا يستعمل.

واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزئ إلا أحمد فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك رواية واحدة ، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة؟ فيه روايتان ، واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها ، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروي عنه


المنع ، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز المسح على العمامة ، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما ، وقد ذكرنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم ، ومنه الكاعب ـ وهي الجارية التي تبدو ثديها للنهود ـ وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم للمفصل ، ومنه كعوب الرمح والذي في وسط القدم مفصل دون ما على الساق ، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين ، ولعل ذلك مراد محمد ، فأما في الطهارة فلا شك أنه ما ذكرنا ، وفي الأرجل ثلاث قراءات : واحدة شاذة واثنتان متواترتان ؛ أما الشاذة فالرفع ـ وهي قراءة الحسن ـ وأما المتواترتان فالنصب ، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب ، والجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم وفي رواية أبي بكر عنه ، ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما. قال الإمام الرازي : فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح ، وهو مذهب الإمامية ، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين : فرضهما الغسل ، وقال داود : يجب الجمع بينهما ، وهو قول الناصر للحق من الزيدية ، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرءوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها والقول إنه جرّ بالجوار كما في قولهم : هذا جحر ضب خرب ، وقوله :

كان ثبيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

باطل من وجوه : أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه ، وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به ، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل ، وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف ، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب ، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا : إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرءوس لقربه فيتشاركان في الحكم ؛ وهذا مذهب مشهور للنحاة ، ثم قالوا أولا : يجوز رفع ذلك بالإخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، ثم قال الإمام : واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين : الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس ، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه ، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها ، والثاني أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين ، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح ، والقوم أجابوا عنه من وجهين : الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم ، وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين ، والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق ، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يسمح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال انتهى.

ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام ، وطالما زلت فيه أقدام ، وما ذكره الإمام رحمه‌الله تعالى يدل على أنه راجل في هذا الميدان ، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان ، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك ، فنقول وبالله تعالى التوفيق ، وبيده أزمة التحقيق : إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم ، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين ، فلا بد لنا أن نسعى


ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ؛ ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ، ثم إذا لم يتيسر لها الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة ، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت ، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض ، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين : الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة ، فيقال للرجل إذا توضأ : تمسح ويقال : مسح الله تعالى ما بك أي أزال عنك المرض ، ومسح الأرض المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرءوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة.

واعترض ذلك من وجوه : أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة ، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة ، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرءوس ـ وكان الفرض في الرءوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف ـ وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك ، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وثالثها أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل

بخبر «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل رجليه» لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا.

ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم : تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز ، ولم يجز أن يقولوا : تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل ، قالوا بدله : تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا ، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد ، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل ، وأجيب عن الأول بأنّا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء ، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في اللغة والشرع ما يأباه ، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم ، وعن الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولا محذور فيه ، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي ، وقالوا : في آية (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) [النساء : ٤٣] : إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي ـ وهو الأركان المخصوصة ـ وفي المعطوف بالمعنى المجازي ـ وهو المسجد ـ فإنه محل الصلاة ، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام ، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم ، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق ، ويكون المسح المتعلق بالرءوس بالمعنى الحقيقي ، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي ، على أن من أصول الإمامية ـ كالشافعية ـ جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكذا استعمال المشترك في معنييه ، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر ؛ ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما ؛ ويبعد وقوع ذلك في التنزيل لأنا نقول : إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام ، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ، ولم تترك الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر ، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد ؛ والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان


المشبع ، وعن الثالث بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع ، فكيف يسقط الاستدلال؟! سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب.

وعن الرابع بأنا لا نسلم أن العدول عن تغسلت لإيهامه الغسل فإن تمسحت يوهم ذلك أيضا بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك ، ويكفي ـ مسح الأرض المطر ـ في الفرض.

والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر ، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب ، والجر للمجاورة ، واعترض أيضا من وجوه : الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا أمن فيما نحن فيه ، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف ، والرابع أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة ، على أن الكلام حينئذ من قبيل ضربت زيدا ، وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا على زيد ، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم ، وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع ، ولا تقبله الأسماع ، فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه؟! وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار ، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى ، ولم ينكره إلا الزجاج ـ وإنكاره مع ثبوته في كلامهم ـ يدل على قصور تتبعه ، ومن هنا قالوا : المثبت مقدم على النافي ، وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة ، نعم قال بعضهم : شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم ، ولذا لم يغي في آية التيمم ، وإنما يغيا الغسل ، ولذا غيي في الآية حين احتيج إليه فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه ، ولا قول المرتضى : إنه لا مانع من تغييه ، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح ، وعن الثالث بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة ، وقوله تعالى : (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود : ٨٤] بجر (مُحِيطٍ) مع أنه نعت للعذاب ، وفي التوكيد كقوله :

ألا بلغ ذوي الزوجات كلهم

أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب

بجر ـ كلهم ـ على ما حكاه الفراء ، وفي العطف كقوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [الواقعة : ٢٢ ، ٢٣] على قراءة حمزة والكسائي ، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجوار (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) ومعطوف على (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة : ١٧] ، وقول النابغة :

لم يبق إلا أسير غير منفلت

وموثق في حبال القد مجنوب

بجر ـ موثق ـ مع أن العطف على أسير ، وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته ولما فيه من المشاكلة ؛ وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك ، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به ، وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) متعلقة بجملة المغسولات فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برءوسكم فلا إخلال ـ كما هو مذهب كثير من أهل السنة ـ من جواز المسح ببقية ماء الغسل ، واليد المبلولة من المغسولات ، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين ، أو معطوف ومعطوف عليه ، بل صرح الأئمة بالجواز ، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك ، نعم توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه ، أو الإيماء إلى


الترتيب ، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حيز المنع ، وربما تكون كذلك لو كان النظم ـ وامسحوا رءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ـ والواقع ليس كذلك ، وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق ، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفيف ، وقراءة النصب على حال دونه ، واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما ، لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة ، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما ، وأيضا المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزئ عليه المسح لأنه لا يجزئ على ساقه ، نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد ، والقلب لا يميل إليه ، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية ، وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا ـ لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة ـ أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة ، وقراءة الجر تعاد إليها وعند الإمامية بالعكس ، الوجه الأول : أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل (بِرُؤُسِكُمْ) فيكون حكم الرءوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه الثاني : أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشبة ، وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه : الأول أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين ، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز وإن استدلوا بقراءة الجر ، قلنا : إنها لا تصلح دليلا لما علمت ، والثاني أنه لو عطف (وَأَرْجُلَكُمْ) على محل (بِرُؤُسِكُمْ) جاز أن نفهم منه معنى الغسل ، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى ـ ويكون لكل منهما متعلق ـ جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقه ، ومن ذلك قوله :

يا ليت بعلك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

فإن المراد وحاملا رمحا ، ومنه قوله :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

فإنه أراد وكحلن العيونا ، وقوله :

تراه كان مولاه يجدع أنفه

وعينيه إن مولاه كان له وفر

أي يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة ، والثالث أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز ، ولا قرينة هاهنا على أنه يلزم كما قيل : فعل المسحين معا بالزمان ، ولا قائل به بالاتفاق ، بقي لو قال قائل : لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسا رهان ، قيل له : إن سنة خير الورى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآثار الأئمة رضي الله تعالى عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل السنة وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى ، وأما من طريق القوم ، فقد روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال : «سألت أبا هريرة عن القدمين فقال : تغسلان غسلا».

وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : «إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك» وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك شيعي خاص ، وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما غسلت قدمي قال : يا علي خلل بين الأصابع».


ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه في نهج البلاغة حكاية وضوئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فيه غسل الرجلين ، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة ، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له ، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم ، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح ، إلا أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإنه قال بطريق التعجب : «لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل» ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته ، ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل ، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ونسبة جواز المسح ـ إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي ـ زور وبهتان أيضا ، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح ، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة ، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير ، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة ، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند ، واتسع الخرق على الراقع ، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة ، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه ، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه «أنه مسح وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ، وشرب فضل طهوره قائما ، وقال : إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع مثل ما صنعت» وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا ، وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ومسح على قدميه فهو كما قال الحفاظ : شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا ؛ واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد ، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال : «سألت أبا جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال : هو الذي نزل به جبريل عليه‌السلام» وما روي عن أحمد بن محمد قال : «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له : لو أن رجلا قال : بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال : لا إلا بكفه كلها» إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب ، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم.

وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا ـ النفحات القدسية في رد الإمامية ـ على أن لنا أن نقول : لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه. فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة ، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة ، فلا يرد ما قيل : من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض ، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده ، وقال بعض المحققين : قد يلزمهم ـ بناء على قواعدهم ـ أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح


فقط ، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل ، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتا ، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت.

هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ما شاء ، ومن هنا قال الزمخشري فيها : إنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة ، لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها ، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس ، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وسمع منهم واشتهر فيما بينهم.

وقد قال عطاء : والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على القدمين ، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) مغسولة أو ممسوحة على الترديد لا سيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى ، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء.

وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس الله تعالى سره ، ونقله مما قدمناه ، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟ فقال الحنفية : إن ظاهره لا يقتضي ذلك ، والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص ، والزيادة فيه تقتضي النسخ ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين ، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي رضي الله تعالى عنه ـ كما قاله المروزي ـ فإذن لا يصح إثبات النية ، وقال بعض الشافعية : إن الآية تقتضي الإيجاب لأن معنى قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ) إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ، والغسل وقع جزاء لذلك ، والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة ، وبذلك يثبت المطلوب ، وقال آخرون ـ وعليه المعول عندهم ـ وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به فيها وهو ظاهر ، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به ، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) [البينة : ٥] والإخلاص لا يحصل إلا بالنية ، وقد جعل حالا للعابدين ، والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية ، وقاسوا أيضا الوضوء على التيمم في كونهما طهارتين للصلاة ، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا في المقيس ، ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة بنية ، والوضوء لا يقع عبادة بدون لكن ليس كلامنا في ذلك بل في أنه لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته ، فقلنا : نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته ، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوي ، ومن ادعى ـ أن الشرط وضوء هو عبادة ـ فعليه البيان ، والقياس المذكور على التيمم فاسد ، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع ، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه ، نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك ، وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين : الأول أن التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه


بخلاف الوضوء ، والثاني أن التراب جعل طهورا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى : (ماءً طَهُوراً) [الفرقان : ٤٨] وقوله سبحانه : (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا.

واعترض الوجه الأول بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة على ما بين في محله ، وإذا كان كذلك فإنما ينبئ عن قصد هو غير المعتبر نية فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة ، ومن هنا يعلم ما في استدلال ـ بعض الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه ـ السابق آنفا ، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لا إيجاب أن يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الجزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط ، وأن وجوبه اعتبر مسببا عن ذلك ، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط فتأمل ، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب ، والوجه الثاني بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم.

وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية ، وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي إيجاب النية ولا نفيها ، واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به ، وتسميته طهورا لا يفيد اعتباره مطهرا بنفسه أي رافعا للأمر الشرعي بلا نية ، وهو المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولا تلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي ، والمفاد من (لِيُطَهِّرَكُمْ) كون المقصود من إنزاله التطهير به ، وهذا يصدق مع اشتراط النية ـ كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه ـ وعدمه كما قلنا ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر فتدبر.

واختلفوا أيضا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب الحنفية إلى الثاني لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم ، والشافعية إلى الأول لأن الفاء في ـ اغسلوا ـ للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه ، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره ، فيلزم في الكل لعدم القائل بالفصل.

وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود ؛ فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء ، وهذا نظير قولك : ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما حيث كان المفاد إعقاب الدخول بشراء ما ذكر كيفما وقع.

وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول ، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم ، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لا ننكر ذلك ، وقال آخرون : الدليل على الترتيب فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبا ، ثم قال : «هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه فلو دل على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولا قائل بها عند الفريقين ، نعم أقوى دليل لهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع : «ابدءوا بما بدأ الله تعالى به» بناء على أن الأمر للوجوب ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لا يخفى ، وهذا المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية ، والزيادة ـ على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به ـ مما لا تفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين ـ فضول لا فضل ، وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) أي عند القيام إلى الصلاة (فَاطَّهَّرُوا) أي فاغتسلوا على أتم وجه ، وقرى «فأطهروا» أي فطهروا أبدانكم ، والمضمضة


والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو ، وهو جملة بدن كل مكلف ، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما فيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود : «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة» وكونهما من الفطرة كما جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين ، وهو أعم منه ، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه ؛ ويؤيد ذلك ما صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماء (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) مرضا تخافون به الهلاك ، أو ازدياده باستعمال الماء.

(أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مستقرين عليه.

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ـ من ـ لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض وهو متعلق ـ بامسحوا ـ وقرأ عبد الله ـ فأموا صعيدا ـ وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء فليراجع ، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة ، ولئلا يتوهم النسخ ـ على ما قيل ـ بناء على أن هذه السورة من آخر ما نزل (ما يُرِيدُ اللهُ) بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة ، أو بالأمر بالتيمم (لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق في الامتثال ، و ـ الجعل ـ يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو (مِنْ حَرَجٍ) و (مِنَ) زائدة ، و (عَلَيْكُمْ) حينئذ متعلق ـ بالجعل ـ وجوز أن يتعلق ـ بحرج ـ وإن كان مصدرا متأخرا ، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير ، فيكون (عَلَيْكُمْ) هو المفعول الثاني (وَلكِنْ يُرِيدُ) أي بذلك (لِيُطَهِّرَكُمْ) أي لينظفكم ، فالطهارة لغوية ، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب ، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا ، فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ حتى يخرج نقيا من الذنوب» فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة ، لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف ، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة بحمله ، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وروي رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام إليه حكما ، وقيل : المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى.

وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء ، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي ، وأما ما نقل عن بعض الشافعية ـ كإمام الحرمين ـ من أن القول : بأن التراب مطهر قول ركيك ، فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» والإرادة صفة ذات ، وقد شاع تفسيرها ، ومفعولها في الموضعين محذوف كما أشير إليه ، واللام للعلة ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين ، وقيل : هي مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم «ولكن يريد أن يطهركم» وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة ، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة ، فقد قال الرضي : الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة ، وكذا في المغني. وغيره ، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن وكلام العرب شائع مقيس ، وهو من مسائل الكتاب قال فيه : سألته ـ أي الخليل ـ عن معنى أريد


لأن يفعل فقال : إنما تريد أن تقول : أريد لهذا كما قال تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر : ١٢] انتهى ، واختلف فيه النحاة فقال السيرافي : فيه وجهان : أحدهما ـ ما اختاره البصريون ـ أن مفعوله مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل ، فاللام تعليلية غير زائدة ، الثاني أنها زائدة لتأكيد المفعول ، وقال أبو علي في التعليق عن المبرد : إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت وإرادتي لكذا فحذف إرادتي واللام زائدة وهو تكلف بعيد ، والمذاهب ثلاثة : أقربها الأول ، وأسهلها الثاني ـ وهو من بليغ الكلام القديم ـ كقوله :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل

البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب (وَلِيُتِمَ) بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم (نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) في الدين ، أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، ومن لطائف الآية الكريمة ـ كما قال بعض المحققين ـ إنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل ، والأصل اثنان : مستوعب وغير مستوعب ، وغير المستوعب ـ باعتبار الفعل ـ غسل ومسح ، وباعتبار المحل محدود وغير محدود ، وأن آلتهما مائع وجامد ، وموجبهما حدث أصغر وأكبر ، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة ، وزاد البعض مثنيات أخر ، فإن غير المحدود وجه ورأس ، والمحدود يد ورجل ، والنهاية كعب ومرفق ، والشكر قولي وفعلي.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وهي نعمة الإسلام ، أو الأعم على إرادة الجنس ، وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم في شكره (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) أي عهده الذي أخذه عليكم وقوله تعالى :

(إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ظرف ـ لواثقكم به ـ أو لمحذوف وقع حالا من الضمير المجرور في (بِهِ) أو من ميثاقه أي كائنا وقت قولكم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قولهم ، والتزامهم بالمحافظة عليه ، والمراد به الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت ، وقيل : هو الميثاق الواقع في العقبة الأولى سنة إحدى عشرة ، أو بيعة الرضوان بالحديبية ، فإضافة الميثاق إليه تعالى مع صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكون المرجع إليه سبحانه كما نطق في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال : هو الميثاق الذي واثق بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه‌السلام وفيه بعد (وَاتَّقُوا اللهَ) في نسيان نعمته ونقض ميثاقه ، أو في كل ما تأتون وتذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي مخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليه فيجازيكم عليها ، فما ظنكم بجليات الأعمال؟؟ والجملة اعتراض وتعليل للأمر وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع في بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر ما يتعلق بأنفسهم (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي كثيري القيام له بحقوقه اللازمة ، وقيل : أي ليكن من عادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح ، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، وقيل : دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي شدة بغضكم لهم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل ، أو فتعدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل (اعْدِلُوا) أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم ، واقتصر بعضهم على الأعداء بناء على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف الله


تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم ، وأن يعدلوا في القول والفعل (هُوَ) راجع إلى العدل الذي تضمنه الفعل ، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل (١) الذي أشار إليه سبب النزول ، وإما العدل مع الكفار (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي أدخل في مناسبتها لأن التقوى نهاية الطاعة وهو أنسب الطاعات بها فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة ، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة ، واللام مثلها في قولك : هو قريب لزيد للاختصاص لا مكملة فإنه بمن أو إلى.

وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال : فإن قيل : كيف ذكر سبحانه (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل : إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعا لكلامه وإظهارا لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا ـ وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه ـ اخدم عمرا فهو أفضل من زيد ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٥٩] وقد علم أن لا خير فيما يشركون ، والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل ، وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا ، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جلّ وعلا : (وَاتَّقُوا اللهَ) إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناء بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال فيجازيكم بذلك ، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء ، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ ، وقيل : لاختلاف السبب ، فإن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ، وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا ، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيامة لله تعالى لأنه أردع للمؤمنين ، ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعول (وَعَدَ) المحذوف كأنه قيل : أي شيء وعده؟ فقيل لهم : مغفرة إلخ.

ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو ما بين بالجملة المذكورة ، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال ، أو المراد حكايته لأنه يحكى بما هو في معنى القول عند الكوفيين ، ويحتمل أن يكون القول مقدرا أي وعدهم قائلا ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخبارا بثبوته لهم وهو أبلغ ، وقيل : إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرا لهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآنية التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى ، وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي ملابسو النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة ، والموصول مبتدأ أول ، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره ، والجملة خبر الأول ، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتي بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعا لرجائهم ، وفي ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاء بحق الدعوة ، وتطييبا لقلوب المؤمنين

__________________

(١) هكذا الأصل «فيه العدل مع الكفار الذي» إلخ ولا معنى له مع ما سيأتي بعد.


بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تذكير لنعمة الإنجاء من الشر إثر تذكير نعمة إيصاله الخير الذي هو نعمة الإسلام وما يتبعها من الميثاق ، أو تذكير نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناء بشأنها ، و (عَلَيْكُمْ) متعلق ـ بنعمة الله ـ أو بمحذوف وقع حالا منها ، وقوله تعالى : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) على الأول ظرف لنفس النعمة ، وعلى الثاني لما تعلق به الظرف ، ولا يجوز أن يكون ظرفا ـ لاذكروا ـ لتنافي زمنيهما فإن (إِذْ) للمضي ، و (اذْكُرُوا) للمستقبل ، أي اذكروا إنعامه تعالى (عَلَيْكُمْ) ، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة (عَلَيْكُمْ) وقت قصد قوم (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أي بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك ، يقال : بسط إليه يده إذا بطش به ، وبسط إليه لسانه إذا شتمه ، والبسط في الأصل مطلق المد ، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملا لهم من أول الأمر على الاعتداد بنعمة دفعه (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) عطف على (هَمَ) وهو النعمة التي أريد تذكيرها ، وذكر ـ الهم ـ للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها ، والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها ، وإظهار الأيدي لزيادة التقرير وتقديم المفعول الصريح على الأصل أن منع أيديهم أي تمد إليكم عقيب همهم بذلك وعصمكم منهم ، وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها إليكم ، وفي ذلك ما لا يخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف.

والآية إشارة إلى ما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعسفان قاموا إلى الظهر معا صلوا ندموا إلا كانوا أكبوا عليهم ، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر ، فردّ الله تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف ، وقيل : إشارة إلى ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عمرو بن أمية الضمري حيث انصرف من بئر معونة لقي رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أمانا فواداهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومضى إلى بني النضير ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعلي فتلقوه فقالوا : مرحبا يا أبا القاسم لما ذا جئت؟ قال : رجل من أصحابي قتل رجلين من كلاب معهما أمان مني طلب مني ديتهما فأريد أن تعينوني قالوا : نعم اقعد حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلي ، وقد تآمر بنو النضير أن يطرحوا عليه عليهالصلاة والسلام حجرا فجاء جبريل عليه‌السلام فأخبره فقام ومن معه.

وقيل : إشارة إلى ما أخرجه غير واحد من حديث جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله ، ثم أقبل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال : الله تعالى ـ قالها الأعرابي مرتين ، أو ثلاثا ـ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ذلك يقول : الله تعالى ، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه ، ولا يخفى أن سبب النزول يجوز تعدده ، وأن القوم قد يطلق على الواحد كالناس في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] وأن ضرر الرئيس ونفعه يعودان إلى المرءوس (وَاتَّقُوا اللهَ) عطف على (اذْكُرُوا) أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها ، أي في الأعم من ذلك ويدخل هو دخولا أوليا.

(وَعَلَى اللهِ) خاصة دون غيره استقلالا ، أو اشتراكا (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه سبحانه كاف في درء المفاسد وجلب المصالح ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لإيجاب التوكل على المخاطبين بطريق برهاني ولإظهار ما يدعو إلى الامتثال ، ويزع عن الإخلال مع رعاية الفاصلة ، وإظهار الأمر


الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية ـ وقد مرت نظائره ـ وهذه الآية كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ـ تقرأ سبعا صباحا وسبعا مساء لدفع الطاعون.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ


(٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٦)

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق ، وتحذيرهم من نقضه ، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش ، وتحقيقه بناء على أنه كان صادرا من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية ، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة ، وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله ، والالتفات في قوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) للجري على سنن الكبرياء ، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق ، و ـ النقيب ـ قيل : فعيل بمعنى فاعل مشتقا من النقب بمعنى التفتيش ، ومنه (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) [ق : ٣٦] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم ، وقيل : بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم ، وتفتيش على أحوالهم.

قال الزجاج : وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل ، ويقال : فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة ، ونقاب للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور ، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق ، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره.

روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون ، وقال سبحانه لهم : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم ، وأمر جل شأنه موسى عليه‌السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق ، واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا فهابوا ، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف عليه‌السلام ، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤].

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة ، ويدخل في شطر الزمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع ، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له : عوج بن عنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج ، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه‌السلام ، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى


عليه‌السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه‌السلام وهو مصروع فقتله. وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه‌السلام ، وكان مجلسها جريبا من الأرض ، فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا وجعلهم في حزمته ، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها ، وقال : ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته : لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى.

وأقول : قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة ، وفي فتاوى العلامة ابن حجر قال الحافظ العماد ابن كثير : قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له ، وهو من مختلقات أهل الكتاب ، ولم يكن قط على عهد نوح عليه‌السلام ولم يسلم من الكفار أحد ، وقال ابن القيم : من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه ـ كحديث عوج الطويل ـ وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ، ولا يبين أمره ، ثم قال : ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى.

وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا عجيبا ، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، ومشى صاحب القاموس على أن أخباره موضوعة ، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب العظمة فيه آثارا قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله : إنه باطل كذب ، وقال الحافظ السيوطي : والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد ، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع ، أو شبه ذلك وأن موسى عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى ، ونعم ما قال ، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه ، ودعوة نوح عليه‌السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف ، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] مما لا يسوغه العارف ، وشبه الحوت بعين الشمس ، مما لا يكاد يعقل ـ على ما ذكره الحكماء ـ فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل إلى الشمس ـ وبعد الوهاد عنها ـ بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير حارا وإلا فلا ، وذكر نحو ذلك شارح حكمة العين ، ولا يرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت ، ولو لا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة ، ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهريرية التي هي الطبقة الثالثة من طبقات العناصر السبع ، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق ، والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض ، وقد ذكروا أيضا أن فوقها طبقتين : الأولى ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل ، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك ، والثانية ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء ، وهي التي يحدث فيها الشهب ، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين. فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر؟! ولا أظن بشرا ـ كيف كان ـ يقوى على ذلك ، على أن أصل الاحتجاز مما لا يمكن بناء على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية.


وفي كتاب نزهة القلوب ـ نقلا عن الحكيم أبي نصر ـ أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخا وستمائة ذراع ، وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخا ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى.

واختلفوا أيضا في غاية انحطاطها ، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا بالسحاب. اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد أخطئوا في قولهم : ابن عنق ، وإنما هو ابن عوق ـ كنوح ـ كما نص على ذلك في القاموس ، وهو أيضا اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضا فليحفظ.

وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية : أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره ؛ وبعث منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، واختاره الجبائي ، ـ والنقباء ـ حينئذ يجوز أن يكونوا رسلا ، وأن يكونوا قادة ـ كما قال البلخي ـ واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم ، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك (وَقالَ اللهُ) أي ـ للنقباء ـ عند الربيع ، ورجحه السمين للقرب ، وعند أكثر المفسرين ـ لبني إسرائيل ـ ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبئ عنه الالتفاف مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد (إِنِّي مَعَكُمْ) أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك ، وقيل : (مَعَكُمْ) بالنصرة ، وقيل : بالعلم ، والتعميم أولى.

(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أي بجميعهم ، واللام موطئة للقسم المحذوف ، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم ـ كما قال غير واحد ـ كانوا معترفين بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) ، وقال بعضهم : إن جملة (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة ، ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل : لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) [المائدة : ٢١] فإن المعنى لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة والسلام ، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين ، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه‌السلام (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] انتهى ، ولا يخلو عن نظر.

وقيل : إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمانهم ، و ـ التعزير ـ أصل معناه المنع والذب ، وقيل : التقوية من العزر ، وهو والأزر من واد واحد ، ولا يخفى أن في التقوية منعا لمن قويته عن غيره فهما متقاربان ، ثم تجوز فيه عن النصرة لما فيها من ذلك ، وعن التأديب وهو في الشرع ما كان دون الحدّ لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح ، ولذا سمي في الحديث نصرة ، فقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، فقال رجل : يا رسول الله انصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تحجزه ـ أو تمنعه ـ عن الظلم فإن ذلك نصره» ، وقال الراغب : التعزير النصرة مع التعظيم ، وبالنصرة فقط ـ فسره الحسن ومجاهد ، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد وأبو عبيدة ، وقرئ ـ عزرتموهم ـ بالتخفيف (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ) أي بالإنفاق في سبيل الخير ، وقيل : بالصدق بالصدقات وأيّا ما كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي


يقضي بمثله ، وفي كلام العرب قديما الصالحات قروض (قَرْضاً حَسَناً) وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال الأخفش ، وقيل : ما لا يتبعه منّ ولا أذى ، وقيل : ما كان من حلال.

وذكر غير واحد أن قرضا يحتمل المصدر والمفعول به (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) دال على جواب الشرط المحذوف وسادّ مسدّه معنى ، وليس هو الجواب له خلافا لأبي البقاء بل هو جواب للقسم ، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر ، وجوز أن يكون هذا جوابا لما تضمنه قوله تعالى : و (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٨٣ ، المائدة : ٧٠] من القسم ، وقيل : إن جوابه (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) فلا تكون اللام موطئة ، أو تكون ذات وجهين ـ وهو غريب ـ وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم.

(وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية (فَمَنْ كَفَرَ) أي برسلي أو بشيء مما عدد في حيز الشرط ، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب (بَعْدَ ذلِكَ) الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني (لَأُكَفِّرَنَ) ، وقيل : بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم بناء على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة ، أو التوفيق للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك ، وقيل : المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام ، وقوله تعالى : (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (كَفَرَ) ، ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على الشرطية السابقة ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب ، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان ، بل ما يعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل : فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه ، وإن كان استمرارا عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي وسط الطريق وحاقه ضلالا لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم عذر.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالا وانضماما ، فالباء سببية ، وما مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس ، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء ، والجار متعلق بقوله تعالى : (لَعَنَّاهُمْ) أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم ـ قاله عطاء وجماعة ـ وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم ، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأنه حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه ، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه ، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق اللعن والنقض بأن يقال مثلا : فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هلية الشيء البسيطة على هليته المركبة ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان ، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ..

وقيل : المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ـ ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ـ وهذا كما تقول لغيرك : أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدئ ، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها ، وقال


الجبائي : المعنى بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال ، وقرأ حمزة والكسائي قسية ، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل ، أو بمعنى ردية من قولهم : درهم قسي إذا كان مغشوشا ، وهو أيضا من القسوة ، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة ، وقيل : إن قسي غير عربي بل معرب وقرئ ـ قسية ـ بكسر القاف للاتباع (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عزوجل ، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة ، وللدلالة على التجدد والاستمرار ، وجوز أن يكون حالا من مفعول (لَعَنَّاهُمْ) ، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف ، وجعله حالا من القلوب ، أو من ضميره في (قاسِيَةً) كما قيل ، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال ، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها (وَنَسُوا حَظًّا) أي وتركوا نصيبا وافيا ، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من التوراة : أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم ، وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود قال : إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها ، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاصي

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي خيانة كما قرئ به على أنها مصدر على وزن فاعلة ـ كالكاذبة ، واللاغية ـ أو فعلة (خائِنَةٍ) أي ذات خيانة ، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو فرقة (خائِنَةٍ) ، أو نفس (خائِنَةٍ) ، أو شخص (خائِنَةٍ) على أنه وصف ، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة ، و (مِنْهُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لها ، خلا أن ـ من ـ على الوجهين ، الأولين ابتدائية أي على خيانة ، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم ، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية ، والمعنى أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) استثناء من الضمير المجرور في (مِنْهُمْ) ؛ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعله بعضهم استثناء من (خائِنَةٍ) على الوجه الثاني ، فالمراد بالقليل الفعل القليل ، ومن ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلا كائنا منهم ، وقيل : الاستثناء من قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية ـ كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر ـ واختاره الطبري ، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره ، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك ، وعلى القولين فالآية محكمة ، وقيل : الضمير عائد على ما اختاره الطبري ، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩] الآية.

وروي ذلك عن قتادة ، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه ، وبدأ بالوجه ـ لأنه سبحانه وتعالى نقشه


بنقش خاتم صفاته ، وفي الفتوحات لا خلاف في أن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقا ، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع : منها البياض الذي بين العذار والأذن ، والثاني ما سدل من اللحية ، والثالث تخليل اللحية ، فأما البياض المذكور فمن قائل : إنه من الوجه ، ومن قائل : إنه ليس من الوجه ، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل : بوجوب إمرار الماء عليه ، ومن قائل : بأنه لا يجب ، وكذلك تخليل اللحية ، فمن قائل : بوجوبه ، ومن قائل : بأنه لا يجب ، وحكم ذلك في الباطن أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض ، وفيه ما هو ليس بفرض ، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك ، وأما السنة منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك ، وإن كان ذلك قد أبيح لك ، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين منه فهو فرض عليك ، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب ، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهرا وباطنا ، ويراقب ربه في باطنه ، فإن وجه قلبه هو المعتبر ، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال : وجه الشيء أي حقيقته وعينه وذاته ، فالحياء خير كله ، والحياء من الإيمان ـ ولا يأتي إلا بخير ، وأما البياض الذي بين العذار والأذن ، وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه ، فالعمل في ذلك إدخال الحد في المحدود ، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره ، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة ؛ وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن ـ وهو محل الشبهة ـ وهو أن يقول : أصغيت إليه لأرد عليه ، وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له : لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول : إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه ، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله ، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك ، وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض ، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه وليست من أصله ، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض ، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله ، وإن لم يتعين عليك طهارته فطرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه ، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجها إلى الفريضة ، ووجها إلى السنة والاستحباب ، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه ، وغير الفرض عمله أولى من تركه ، وذلك سار في جميع العبادات انتهى.

وقال بعض العارفين : هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس ، وأول هذا الأيدي في قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ) بالقوى والقدر أي طهروا أيضا قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس (إِلَى الْمَرافِقِ) أي قدر الحقوق والمنافع ، وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره : أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين ، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل ، فمن قائل : بوجوب إدخالهما ، ومن قائل : بعدم الوجوب ، لكن لم ينازع بالاستحباب ، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل ، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة ، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه ، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في


خلقه فلا يريد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى ، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب ، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب ، وكل من يقول : بأنه لا يجب غسلها يقول : يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها ، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) قال بعض العارفين : أي بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى ، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه ، فإن القلب ذو وجهين : أحدهما إلى الروح ـ والرأس ـ هنا إشارة إليه ، والثاني إلى النفس وقواها ، وأحرى ـ بالرجل ـ أن تكون إشارة إليه.

وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه : وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرئاسة وهي العلو والارتفاع ، ولما كان أعلى ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا ، فإن الرئيس فوق المرءوس وله جهة فوق ، وقد وصل الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر ، فقال سبحانه : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨ ، ٦١] فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية ، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله ، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية ، فلما كانت له هذه الرئاسة من هذه الجهة سمي رأسا ، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية ، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها ، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرئاسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والإقناع ، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها ، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس ؛ ومن رأى تفاوت القوى بالرئاسة فإن القوة المصورة مثلا لها سلطان على القوة الخيالية فهي الرئيسة عليها ، وإن كانت للقوة الخيالية رئاسة قال : الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى ، ثم اختلفوا في هذا البعض ، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوى فيمسح بحسب ما يرى ، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأن المتوضئ بصدد مناجاة ربه وطلب وصلته ، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورئاسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإذلال فمن غلب على خاطره رئاسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق ، فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه ، وتفصيل رياسات القوى معلوم عند أهل هذا الشأن ، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها ، واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء ، فإن المزيل لهذه الرئاسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك ، ومحل ذلك اليد ، فمن مزيل بصفة القهر ، ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما قال : (وَأَرْجُلَكُمْ) أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات ، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة.

وفي الفتوحات اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟ ومذهبنا التخيير ، والجمع أولى ، وما من قول إلا وبه قائل ، والمسح بظاهر الكتاب ، والغسل بالسنة ،


ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها ، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد. والثبات يوم الزحف مما تظهر به الأقدام فلتكن طهارة رجليك بما ذكرناه وأمثاله ، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس ولا تمش مرحا واقصد في مشيك واغضض من صوتك ، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره ، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض ، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وما أوجبه عليك ، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك ، والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد ، فإن ذلك ليس بواجب وإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجدا لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى ، واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس ، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى ، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة ، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال ، والغسل فيما يقتضي العموم ، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت ، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح ، وقد يسعى لذلك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح انتهى.

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه ، وليس إلا العبودية. وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلخ قد تقدم نظيره.

وفي الفتوحات اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة ، فمن قائل : حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل : هو الكف فقط ـ وبه أقول ـ ومن قائل : إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان ، ومن قائل : إن الفرض إلى المناكب ، والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب ، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه ، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل ، وهذه الصفات من صفات الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه ، والكرم والعطاء : طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤] (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر : ٩ ، التغابن : ١٦] (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ٢١] فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى ، واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم ، فمن قائل : واحدة ، ومن قائل : اثنتان ، والقائلون بذلك ، منهم من قال : ضربة للوجه وضربة لليدين ، ومنهم من قال : ضربتان لليد وضربتان للوجه ، ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه ، ومن ضرب اثنتين أجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت ، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة ، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال : بالضربة الواحدة ، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] فأثبت ونفى قال : بالضربتين ومن قال : إن ذلك في كل فعل قال : بالضربتين لكل عضو انتهى.

وقد أطال الشيخ قدس‌سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب. (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الصفات الخبيثة ، وعن سهل :

الطهارة على سبعة أوجه : طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من الإرادات ، وقال : إسباغ طهارة الظاهر


تورث طهارة الباطن ، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى ، والطهارة تكون في أشياء : في صفاء المطعم ، ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر ، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة.

وقال ابن عطاء : البواطن مواضع نظر الحق سبحانه فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» ، فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة ، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهي ، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر ، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بالتكميل ، وقال بعض العارفين : إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم ، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم و (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالهداية إلى طريق الوصول إليه ، (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) وهو عقود عزائمه المذكورة (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة ، وقال بعضهم : المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة ، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه ، وقال أبو عثمان : النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه ، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أي من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه (وَاتَّقُوا اللهَ) واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) برؤية الأفعال كلها منه عزوجل (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع : الأولياء : نفعنا الله تعالى ببركاتهم ؛ ففي الفتوحات : ومنهم النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر برجا ، كل نقيب عالم بخاصية كل برج ، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات ، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ، فإن للثوابت حركات وقطعا في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين ، وإعمار الرصد ، تقصر عن مشاهدة ذلك ؛ واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة ، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها ، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة ، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور ، وإذا رأوا شخصا يقولون : هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء ، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى.

وقد عد الشيخ قدس‌سره فيها أنواعا كثيرة ، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء ، ففي بعض فتاوى ابن تيمية ، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة ، والأبدال الأربعين ، والنجباء الثلاثمائة ، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال ، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن فيهم ـ يعني أهل الشام ـ الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا» ولا توجد أيضا في كلام السلف انتهى ، وأنا أقول :


وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وقال الله تعالى : (إِنِّي مَعَكُمْ) بالتوفيق والإعانة (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) وتحليتم بالعبادات البدنية (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة ، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه ، بل ومن الأفعال والصفات جميعها ، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) التي هي الحجب والموانع لكم (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ) مما عندي (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد ، وتجليات الأفعال والصفات والذات (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) العهد وبعث النقباء منكم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) وهلك مع الهالكين (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) الذي وثقوه (لَعَنَّاهُمْ) وطردناهم عن الحضرة (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها (وَنَسُوا حَظًّا) نصيبا وافرا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود ، (وَمِنَ) متعلقة ـ بأخذنا ـ وتقديم الجار للاهتمام ، ولأن ذكر إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ما ذا؟ كأنه قيل : ومن الطائفة الأخرى أيضا (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) والضمير المجرور راجع إلى الموصول ، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة ، وهو نظير قولك : أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه.

وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدإ محذوف أيضا ، وجملة (أَخَذْنا) صفة أي ـ ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم ـ وقيل : المبتدأ المحذوف (مِنَ) الموصولة ، أو الموصوفة ، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين ، وإنما قال سبحانه : (قالُوا إِنَّا نَصارى) ولم يقل جل وعلا ـ ومن النصارى ـ كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم : إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم وليسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى ، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان ، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل ، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها ، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم


نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور ، ولهذا يقال لهم أيضا : أنصار ، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه‌السلام ولد في سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لحم من المقدس ، ثم سارت به أمه عليها‌السلام إلى مصر ، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة ، أو نصورية وبها سميت النصارى ، ونسبوا إليها ، وقيل : إنهم جمع نصران كندامى وندمان ـ أو جمع نصرى ـ كمهرى ومهارى ـ والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى ، والنصرانية أيضا دينهم ، ويقال لهم : نصارى وأنصار ، وتنصر دخل في دينهم (فَنَسُوا) على إثر أخذ الميثاق (حَظًّا) نصيبا وافرا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض ، وقيل : هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة (فَأَغْرَيْنا) أي ألزمنا وألصقنا ، وأصله اللصوق يقال : غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي ، وقال غيره : غريت به غراء بالمد ، وأغريت زيدا بكذا حتى غري به ، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء ، وقوله تعالى : (بَيْنَهُمُ) ظرف ـ لأغرينا ـ أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) كائنة بينهم.

قال أبو البقاء : ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله ، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفا ، وقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) إما غاية للإغراء ، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة ، ومنها النسطورية : واليعقوبية ، والملكانية ، وقد تقدم الكلام فيهم ، فضمير (بَيْنَهُمُ) إلى النصارى كما روي عن الربيع ، واختاره الزجاج والطبري ، وعن الحسن وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به ، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب ؛ فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم ، لا أن ثمت أخبارا حقيقة ، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب ، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها ، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارا ، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه (وَسَوْفَ) لتأكيد الوعيد (يا أَهْلَ الْكِتابِ) التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما فوقهما ، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع ، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام ، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام (يُبَيِّنُ لَكُمْ) حال من (رَسُولُنا) وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة والإنجيل ، وذلك كنعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال : إن نبي الله تعالى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام : «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل (١) فقال : إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرءوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية» وتأخير (كَثِيراً) عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة ، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء ، و (مِمَّا) متعلق

__________________

(١) أي رعدة اه منه.


بمحذوف وقع صفة ـ لكثيرا ـ وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها ، والعائد محذوف ، ومن (الْكِتابِ) حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح ، وقال الحسن : أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه ، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله ، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق ، وفيه نظر ـ كما قال الشهاب ـ لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة ، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين ، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى هذا ذهب قتادة ، واختاره الزجاج ، وقال أبو علي الجبائي : عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين ، واقتصر على ذلك الزمخشري ، وعليه فالعطف في قوله تعالى : (وَكِتابٌ مُبِينٌ) لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات ، وأما على الأول فهو ظاهر ، وقال الطيبي : إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ) بغير عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثاني وصف الكتاب ، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال : بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل ، والكتاب ، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم فيهدي به إلى آخره ويرجع إلى قوله سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) ويخرجهم إلخ يرجع إلى قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) ويهديهم يرجع إلى قوله عزّ شأنه : (وَكِتابٌ مُبِينٌ) كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] انتهى.

وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع ، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي ، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام ، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة ، والجار والمجرور متعلق بجاء ، و (مِنَ) لابتداء الغاية مجازا ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من نور ، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي ، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم ، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز ، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافيا عليهم.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ) توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات ، أو لكونهما في حكم الواحد ، أو لكون المراد يهدي بما ذكر ، وتقديم المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب ، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة.

وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من (رَسُولُنا) بدلا من (يُبَيِّنُ) وأن تكون حالا من الضمير في (يُبَيِّنُ) ، وأن تكون حالا من الضمير في (مُبِينٌ) ، وأن تكون صفة لنور (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به ، و (مَنِ) موصولة أو موصوفة (سُبُلَ السَّلامِ) أي طرق السلامة من كل مخافة ـ قاله الزجاج ـ فالسلام مصدر بمعنى السلامة.

وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى ، ووضع المظهر موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عزوجل ، ونصبها قيل : على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥].

وقيل : إنها بدل من ـ رضوان ـ بدل كل من كل ، أو بعض من كل ، أو اشتمال ، والرضوان بكسر الراء وضمها


لغتان ، وقد قرئ بهما ، و ـ السبل ـ بضم الباء والتسكين لغة ، وقد قرئ به (وَيُخْرِجُهُمْ) الضمير المنصوب عائد إلى (مَنِ) والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في (اتَّبَعَ) باعتبار اللفظ.

(مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان (بِإِذْنِهِ) أي بإرادته أو بتوفيقه.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى ـ كما قال الحسن ـ وفي إرشاد العقل السليم ، وهذه الهداية عين الهداية إلى (سُبُلَ السَّلامِ) وإنما عطفت عليها تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].

وقال الجبائي : المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) لا غير المسيح كما يقال : الكرم هو التقوى ، وإن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب ، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك : زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد ، والقائلون لذلك ـ على ما هو المشهور ـ هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه.

وقيل : لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى ، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة ، وقولهم : لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح ، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم ، وقال الراغب : فإن قيل : إن أحدا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال : الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر ، ولا يصح أن يقال : اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال : الحيوان هو الإنسان ، قيل : إنهم قالوا : هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت ، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا : ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم : أو تعلمون أحدا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا : لا ، فقال : أو تعلمون أحدا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا : لا ، قالوا : فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه ، وهذا كقولك : الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد ، وعلى هذا قولهم : إن الله تعالى هو المسيح انتهى ، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء (قُلْ) يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر ، وقد يقال : الخطاب لكل من له أهلية ذلك ، والفاء في قوله تعالى : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) عاطفة على مقدر ، أو جواب شرط محذوف ، و (مِنَ) استفهامية للإنكار والتوبيخ ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم ، والمراد هنا ـ فمن يمنع ، أو يستطيع ـ كما في قوله :

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

و (مِنَ اللهِ) متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك ، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ومن حق من يكون إلها أن لا يتعلق به ، ولا بشأن من شئونه ، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه ، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه.

والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا لا عن سخط وغضب ، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه


الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه ، وقيل : وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم ، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح ، ولعل نظمها في سلك من فرض إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه ، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر على دفع ما أريد به فضلا عما أريد بغيره ، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود ، و (جَمِيعاً) حال من المتعاطفات ، وجوز أن يكون حالا من (مِنَ) فقط لعمومها ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها ، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات ، قيل : تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا ، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه ، وقيل : دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلها كان له ملك السموات والأرض وما بينهما ، وقيل : دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم ، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة ، وقوله تعالى : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه‌السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص. وإحياء الموتى ، و (ما) موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه ، فتارة يخلق من غير أصل ـ كخلق السموات والأرض ـ مثلا ، وأخرى من أصل ـ كخلق بعض ما بينهما ـ وذلك متنوع أيضا ، فطورا ينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم ، وكثير من الحيوانات ـ وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده ـ كخلق حواء ـ أو من أنثى وحدها ـ كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام ـ أو منهما ـ كخلق سائر الناس ، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات ـ ككثير من المخلوقات ـ وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر ـ كخلق الطير ـ على يد عيسى عليه‌السلام معجزة له وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد.

وقيل : إن الجملة جيء بها هاهنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ بحسب اقتضاء المقام ، و (ما) نصب على المصدرية أيضا ، وقيل : يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه ، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود ، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم ، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل ، ومرادهم ـ بالأبناء المقربون ـ أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم ، و ـ بالأحباء ـ جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب ، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال : أبناء الدنيا ، وأبناء الآخرة ، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير ، وقالت النصارى : نحن أشياع ابنه المسيح عليهما‌السلام ، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء


في قرب المنزلة ، وهذا كما يقول أتباع الملك : نحن الملوك ، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله :

قدني من نصر الخبيبين قدني

على رواية من رواه بالجمع ، فقد قال ابن السكيت : يريد أبا خبيب ومن كان معه ، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين ، فاندفع ما قيل : إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الابنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) يأباه ظاهرا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان :

وقيل : الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر ، وقائل ذلك من اليهود بعضهم ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة ، فقد أخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمان بن آصى وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، وقالت النصارى ذلك قبلهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا.

وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم ، ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام : اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك ، وفيها أيضا في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جدا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى : لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم ، وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل ، وبأبناء الناس أبناء قابيل ، وكنّ حسانا جدا فصرفن قلوبهن عن عباده الله تعالى إلى عبادة الأوثان ، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك ، وفيها أيضا أنت ابني وحبيبي ، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى : تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم ، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من الرسالة الأولى ـ انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعي أبناء ـ وفي الفصل الثالث ـ أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك لخطيئة والإثم ، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه ـ وقال المسيح : أحبوا أعدائكم ، وباركوا على لاعنيكم ، وأحسنوا إلى من يبغضكم ، وصلوا على من طردكم ، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر على الصديقين والظالمين ، وقال يوحنا التلميذ في قصص الحواريين : يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك ، وقال بولس الرسول في رسالته إلى ملك الروم : إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، وقد جاء أيضا إطلاق الابن على العاصي ولكن بمعنى الأثر ونحوه ، ففي الرسالة الخامسة لبولس إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه ، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور ، ومقصود الفريقين ب (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) هو المعنى المتضمن مدحا ، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق ، فرد سبحانه عليهم ذلك ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) إلزاما لهم وتبكيتا (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل ،


وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن ، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل : ما جزاء من يحب إلا يحب ، أو فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون ، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم ، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر ، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء ، وقد ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ثم الأمثل فالأمثل» ، وقال الشاعر :

ولكنهم أهل الحفائظ والعلى

فهم لملمات الزمان خصوم

وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة ، وقوله سبحانه : (مِمَّنْ خَلَقَ) متعلق بمحذوف وقع صفة (بَشَرٌ) أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم.

(يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم‌السلام مثلكم ، والذي دل على التخصيص قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور ، ومن الغريب ما في شرح مسلم للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصا بهذه الأمة وفيه نظر.

هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح ، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم (بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) ، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة ومن هنا قيل :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون ، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر ، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرا بقوله سبحانه (مِمَّنْ خَلَقَ) حتى لا يبعد أن يكون (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أيضا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم ، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه : المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين ، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم ، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة ، وقيل : كلام من قال : يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف ، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب.


وفي الكشف إن قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) تعالى فيه إثبات الابن ، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملا على هدم القولين فقيل : من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم ، وأيضا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكونوا أشياعه ، وكذلك المحبة المبنية على ذلك ، ثم قال : وجاز أن يقال : إنه لإبطال أن يكونوا أبناء حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ ؛ أو مجازا كما فسره الزمخشري اه.

وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل ، وما ذكرناه كاف في الغرض. نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لا بأس به ، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق ، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها ، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم ، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى ، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم ، وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى ، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم ممّا أشرنا إليه سابقا فلا تغفل (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة ، وإثابة وتعذيبا فأنّى لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! وربما يقال : إن هذا مع ما تقدم ردّ لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه ، فنفى أولا كونهم أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازي كلّا من المحسن والمسيء بما يستدعيه علمه من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف في الدعوة ، وقيل : الخطاب هنا لليهود خاصة (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة ـ الشرائع والأحكام النافعة معادا ومعاشا ـ المقرونة بالوعد والوعيد ، وحذف هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام ، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين ، وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كما قيل ، فقد قيل فيه : مع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه ، و (عَلى فَتْرَةٍ) متعلق ـ بجاءكم ـ على الظرفية كما في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] أي «جاءكم» على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان.

وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير (يُبَيِّنُ) أو من ضمير (لَكُمْ) أي (يُبَيِّنُ لَكُمْ) حال كونه على فترة ، أو حال كونكم على فترة. و (مِنَ الرُّسُلِ) صفة (فَتْرَةٍ) و (مِنَ) ابتدائية ، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم ، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن ، والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد في العمل ، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين.

واختلفوا في مدتها بين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيسى عليه‌السلام ، فقال قتادة : كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة ، وقال الكلبي : خمسمائة وأربعون سنة ، وقال ابن جريج : خمسمائة سنة ، وقال الضحاك : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة ، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة ، وقيل : كان بين


نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخيه عيسى عليه‌السلام ثلاثة أنبياءهم المشار إليهم بقوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤] ، وقيل : بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة : الثلاثة المشار إليهم ، وواحد من العرب من بني عبس ـ وهو خالد بن سنان عليه‌السلام – الذي قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك نبي ضيعه قومه» ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه‌السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناء على أنه كان بأمره عزوجل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك ؛ وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في محاضراته ، وبعضهم لم يثبته ، وبعضهم قال : إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه ورد في حديث : «لا نبي بيني وبين عيسى» صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن في التواريخ إثباته ، وله قصة في كتب الآثار مفصلة ، وذكر أن بنته أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنت به ، ونقش الشيخ الأكبر قدس‌سره له فصا في كتابه فصوص الحكم ، وصحح الشهاب أنه عليه‌السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام ، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن صح الخبر ـ بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤها إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جدا ، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور ، لكن لم يفتر فيها الوحي ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف بني من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم (أَنْ تَقُولُوا) تعليل لمجيء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا ـ كما قدره البصريون ـ أو لئلا تقولوا ـ كما يقدر الكوفيون ـ معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها ، وزيادة (مِنَ) في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء ، وتنكير (بَشِيرٍ) و (نَذِيرٍ) على ما قال شيخ الإسلام : للتقليل ؛ وتعقيب ـ قد جاءكم ـ إلخ بهذا يقتضي أن المقدر ، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد ، والفاء في قوله تعالى : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) تفصح عن محذوف ما بعدها علة له ، والتقدير هنا لا تعتذروا (فَقَدْ جاءَكُمْ) وتسمى الفاء الفصيحة ، وتختلف عبارة المقدر قبلها ، فتارة يكون أمرا أو نهيا ، وتارة يكون شرطا كما في قوله تعالى : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦] ، وقول الشاعر : فقد جئنا خراسانا. وتارة معطوفا عليه كما في قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] وقد يصار إلى تقدير القول ـ كما في الفرقان ـ في قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) ، وإن شئت قدرت هنا أيضا ، فقلنا : لا تعتذروا فقد إلخ ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف ، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال : في البيت مثلا ، وقلنا ، أو فقلنا : إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراسانا ، وكذلك ما نحن فيه فقلنا : لا تعتذروا فقد جاءكم ، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء ، فلا تنافي بين التقادير والتقارير المختلفة ، ولو سلّم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر ـ كما حققه في الكشف ـ وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر ، وتنوين (بَشِيرٍ) و (نَذِيرٍ) للتفخيم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على إرسال الرسل تترى ، وعلى الإرسال بعد الفترة.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم ، وتفصيل كيفية نقضهم له مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم ؛ و (إِذْ) نصب على أنه مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات ، أي واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه‌السلام ناصحا ومستميلا لهم بإضافتهم إليه


(يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه ، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه ، و (عَلَيْكُمْ) متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرا ، وإما بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر ، واذكروا نعمته كائنة عليكم ، وكذا (إِذْ) في قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله ، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء ، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر ، والمراد بهم موسى وهارون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء ، أو الأولون ، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، فقد قال ابن السائب ومقاتل : إنهم كانوا أنبياء.

وقال الماوردي وغيره : المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل ، والفعل الماضي مصروف عن حقيقته ، وقيل : المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) عطف على (جَعَلَ فِيكُمْ) وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه ، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء ، فلذا لم يتجوز في إسنادها ، وقيل : لا مجاز في الإسناد ، وإنما هو في لفظ الملوك فإن القوم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى ، فسمي ذلك الإنقاذ ملكا ، وقيل : لا مجاز أصلا بل جعلوا كلهم ملوكا على الحقيقة ، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعا.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا.

وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار ، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله : ألك زوجة تأوي إليها؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادما ، قال : فأنت من الملوك ، وقيل : الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار ، وقيل : من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق ، وإليه ذهب أبو علي الجبائي ، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضا (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة ، والخطاب لقوم موسى عليه‌السلام كما هو الظاهر ، وأل في (الْعالَمِينَ) للعهد ، والمراد عالمي زمانهم ، أو للاستغراق ، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه ، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل ، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية ، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك ، ولذا أول بما أول ، وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب هنا لهذه الأمة وهو خلاف الظاهر جدا ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم ، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك ، وقد علمت أنه من بعض الظن (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) كرر النداء مع الإضافة التشريفية اهتماما بشأن الأمر ، ومبالغة في حثهم على الامتثال به. و (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) هي ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي وابن زيد ـ بيت المقدس ، وقال


الزجاج : دمشق وفلسطين والأردن (١) ، وقال مجاهد هي أرض الطور وما حوله ، وعن معاذ بن جبل هي ما بين الفرات وعريش مصر ، والتقديس التطهير ، ووصفت تلك الأرض بذلك إما لأنها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو لأنها مطهرة من الآفات ، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة ، أو لأنها طهرت من القحط والجوع ، وقيل : سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب.

(الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي قدرها وقسمها لكم ، أو كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم.

روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض مدى بصره ، وعن قتادة والسدي أن المعنى التي أمركم الله تعالى بدخولها وفرضه عليكم ، فالكتب هنا مثله في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] وذهب إلى الاحتمالين الأولين كثير من المفسرين ، والكتب على أولهما مجاز ، وعلى ثانيهما حقيقة ، وقيدوه بإن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصوا : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٢٦] وقوله سبحانه : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فإن ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا ، والأدبار جمع دبر وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر وغيرها ، والجار والمجرور حال من فاعل (تَرْتَدُّوا) أي لا ترجعوا عن مقصدكم منقلبين خوفا من الجبابرة ، وجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفا غير محسوس أي لا ترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى ، وإليه ذهب أبو علي الجبائي ، وقوله تعالى : (فَتَنْقَلِبُوا) إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر ، وإما منصوب في جواب النهي ، قال الشهاب : على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار ، وهو ممتنع خلافا للكسائي ، وفيه نظر لا يخفى ، والمراد بالخسران خسران الدارين (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) شديدي البطش متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ولا تجز لهم ناصية ، والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا من أجبره على خلافه ـ كالحساس ـ من الإحساس وهو الذي يقهر الناس ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان ، ومعناه في البخل ما فات اليد طولا ، وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم ، أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن ابن حجيرة قال : استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه‌السلام في قحف رجل من العمالقة ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن زيد بن أسلم قال : بلغني أنه رئيت ضبع وأولادها رابضة في فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار ، وهي عندي كأخبار عوج بن عنق وهي حديث خرافة (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) بقتال غيرنا ، أو بسبب يخرجهم الله تعالى به فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها ، وهذا امتناع عن القتال على أتم وجه (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها (فَإِنَّا داخِلُونَ) فيها حينئذ ، وأتوا بهذه الشرطية ـ مع كون مضمونها مفهوما مما تقدم ـ تصريحا بالمقصود وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها ، وأتوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة ـ بإن ـ دلالة على تقرر الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهارا لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي يخافون الله تعالى ، وبه قرئ ، والمراد رجلان من المتقين وهما ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والسدي والربيع ـ يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ، وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو ، وقيل : المراد بالرجلين ما ذكر ، و (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) بنو إسرائيل ؛

__________________

(١) بضم الهمزة وسكون الراء المهملة وضم الدال كذلك وتشديد النون وهي كورة بالشام اه منه.


والمراد يخافون العدو ، ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف ، وقيل : في الخوف أيضا ، والمراد أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه‌السلام ، فعلى هذا يكون (الَّذِينَ) عبارة عن الجبابرة ، والواو ضمير بني إسرائيل ، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير «يخافون» بضم الياء ، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل : من المخوّفين أي يخافهم بنو إسرائيل ، وفيها احتمالان آخران : الأول أن يكون من الإخافة ، ومعناه من الذين يخوّفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة ؛ أو يخوّفهم وعيد الله تعالى بالعقاب ، والثاني أن معنى (يَخافُونَ) يهابون ويوقرون ، ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم : ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين ، وترجيح ذلك بقوله تعالى : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضا لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما ، وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع ، والجملة صفة ثانية ـ لرجلين ـ أو اعتراض ، وقيل : حال بتقدير قد من ضمير (يَخافُونَ) أو من (رَجُلانِ) لتخصيصه بالصفة ، أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي باب مدينتهم وتقديم (عَلَيْهِمُ) عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم ليحصروا ويجدوا للحرب مجالا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ) عليهم الباب (فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) من غير حاجة القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضائق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر ، وقيل : إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه‌السلام ، وقوله : (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، وقيل : من جهة غلبة الظن ، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله ، وما عهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه‌السلام في قهر أعدائه ، قيل : والأول أنسب بتعليق الغلبة بالدخول (وَعَلَى اللهِ) تعالى خاصة (فَتَوَكَّلُوا) بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا تؤثر من دون إذنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله تعالى ، والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق ، وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما (قالُوا) غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه‌السلام إظهارا لإصرارهم على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه‌السلام (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) أي أرض الجبابرة فضلا عن الدخول عليهم وهم في بلدهم (أَبَداً) أي دهرا طويلا ، أو فيما يستقبل من الزمان كله (ما دامُوا فِيها) أي في تلك الأرض ، وهو بدل من (أَبَداً) بدل البعض ؛ وقيل : بدل الكل من الكل ، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين ؛ ومثله في الإبدال قوله :

وأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا

كفى بالممات فرقة وتنائيا

فإن قوله : «ما دمتما» بدل من الدهر (فَاذْهَبْ) أي إذا كان الأمر كذلك (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) أي فقاتلاهم وأخرجاهم حتى ندخل الأرض ؛ وقالوا ذلك استهانة واستهزاء به سبحانه وبرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاة ، وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم ، والمقابلة بقوله تعالى (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، وقيل : أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول : كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا : فأريدا قتالهم واقصداهم ، وقال البلخي : المراد (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) يعينك ، فالواو للحال ، و (أَنْتَ) مبتدأ حذف خبره وهو خلاف الظاهر ، ولا يساعده (فَقاتِلا) ولم يذكروا أخاه هارون عليهما‌السلام ولا الرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا بذهابهم أولم يعبئوا بقتالهم ، وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر أيضا (قالَ) موسى عليه‌السلام لما رأى منهم ما رأى من


العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ، فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه ، فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارا عن عدم الدخول (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هارون عليه‌السلام وهو عطف على (نَفْسِي) أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى (نَفْسِي وَأَخِي) ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما.

وقيل : ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه ، وجوز أن يراد ـ بأخي ـ من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين ، أو بجنس الأخ وفيه بعد ، ويجوز في (أَخِي) وجوها أخر من الإعراب : الأول أنه منصوب بالعطف على اسم ـ إن ـ الثاني أنه مرفوع بالعطف على فاعل (أَمْلِكُ) للفصل ، الثالث أنه مبتدأ خبره محذوف ، الرابع أنه معطوف على محل اسم ـ إن ـ البعيد لأنه بعد استكمال الخبر ، والجمهور على جوازه حينئذ ، الخامس أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين ، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه ، فلا يرد ما قيل : إنه يلزم من عطفه على اسم ـ إن ـ أو فاعل (أَمْلِكُ) أن موسى وهارون عليهما‌السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه‌السلام فقط ، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى ، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم ، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن (فَافْرُقْ بَيْنَنا) يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام ، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله ، وقرئ «فافرق» بكسر الراء (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه ، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم ، وقال الجبائي : سأل عليه‌السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار ، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين ، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها) فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به ، وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال : إن موسى عليه‌السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا ـ وكان ذلك عجلة منه عليه‌السلام عجلها ـ فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) لا يدخلونها ولا يملكونها ، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد ، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه :

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري

إني امرؤ صرعي عليك حرام

يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني ، وجوز أبو علي الجبائي ـ وإليه يشير كلام البلخي ـ أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر (أَرْبَعِينَ سَنَةً) متعلق ـ بمحرمة ـ فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن ـ لا ـ بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن موسى عليه‌السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه‌السلام ، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد ، وقيل : لم يدخلها أحد ممن قال : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) وإنما دخلها مع موسى عليه‌السلام النواشئ من


ذرياتهم ، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريما عليهم لما بينهما من العلاقة التامة ، وقوله تعالى : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) استئناف لبيان كيفية حرمانهم ، وقيل : حال من ضمير (عَلَيْهِمْ) ، والتيه : الحيرة ، ويقال : تاه يتيه ويتوه ، وهو أتوه وأتيه ، فهو مما تداخل فيه الواو والياء ، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق.

وقيل : الظرف متعلق ب (يَتِيهُونَ) ، وروي ذلك عن قتادة فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه ، وكانت مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل ، وقيل : اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ ، وقيل : ستة في عرض تسعة ، وقيل : كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام ، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون ـ كما قاله الحسن ومجاهد ـ قيل : وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) عوقبوا بما يشبه القعود ، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل.

وقيل : لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء ، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة ، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها ، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض.

وقال أبو علي الجبائي : إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله.

وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل معهم حجر موسى عليه‌السلام يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم ، قيل : ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس ، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روي عن طاوس.

وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه.

والعادة تبعد كثيرا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه ، فقال : إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم ، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر ، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له : هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال : لا أرضى بالكذب ثوبا ، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة ، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى ، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه ، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم ، وأكثر المفسرين على أن موسى وهارون عليهما‌السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم ، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم عليه‌السلام ، ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك.

وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما‌السلام فقالوا : قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه ، فبرأه مما يقولون ، وعاد إلى مضجعه ، ومات موسى عليه‌السلام بعده بسنة ، وقيل : بستة أشهر ونصف ، وقيل : بثمانية أعوام ، ودخل يوشع أريحا بعده بثلاثة أشهر ، وقال قتادة : بشهرين ، وكان قد نبئ قبل بمن بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم ، قيل ـ ولا يساعده النظم الكريم ـ فإنه بعد ما قبل دعوته عليه‌السلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا ، ويقدر وفاة النبيين عليهما‌السلام في محل العقوبة ظاهرا ، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة ، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما‌السلام بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه


السلام ، ولا أرى للاستبعاد محلا ، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل.

وقيل : إنهما عليهما‌السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه ، وأن الدعاء ـ وقد أجيب ـ كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا ، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح ، فإن كثيرا من الآيات كالنص في وجود موسى عليه‌السلام معهم فيه كما لا يخفى (فَلا تَأْسَ) أي فلا تحزن لموتهم ، أو لما أصابهم فيه من الأسى ـ وهو الحزن ـ (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم ، فالخطاب لموسى عليه‌السلام كما هو الظاهر ، وإليه ذهب أجلة المفسرين.

وقال الزجاج : إنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد ـ بالقوم الفاسقين ـ معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل : هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ) موسى إلخ ، وتعلقه به قيل : من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به


من البينات وقيل : من حيث إن في الأول الجبن عن القتل ، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية ، وضمير (عَلَيْهِمْ) يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولا ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم ، وقيل : الضمير عائد على هذه الأمة أي اتل يا محمد على قومك (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) هابيل عليه الرحمة ، وقابيل عليه ما يستحقه ، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه‌السلام لصلبه.

وقال الحسن : كانا رجلين من بني إسرائيل ـ ويد الله تعالى مع الجماعة ـ وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه‌السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل ، وكان قابيل صاحب زرع ، وهابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه ، وقال : هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، فقال لهما : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز ، ثم غاب عليه‌السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض : فأبت ، وقال للجبال : فأبت ، فقال لقابيل : فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه‌السلام قربا قربانا ؛ فقرب هابيل جذعة ، وقيل : كبشا ، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وكان ذلك علامة القبول ، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب ، وقال : لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر (اتْلُ) أي اتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة ، أو حال من فاعل (اتْلُ) أو من مفعوله أي متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما في زبر الأولين ، وقوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ظرف لنبأ ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل ، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل ، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منه ، ورد بأنه حينئذ يكون قيدا في عامله وهو (اتْلُ) المستقبل ، و (إِذْ) لما مضى فلا يتلاقيان ، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره ، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل.

وقيل : إنه بدل من (نَبَأَ) على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، ورده في البحر بأن (إِذْ) لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ و (نَبَأَ) ليس بزمان ، وأجيب بالمنع ، ولا فرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ (إِذْ) وكل منهما صحيح معنى وإعرابا ، ودعوى ـ جواز الأول سماعا دون الثاني ـ دون إثباتها خرط القتاد ، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرها ـ كالحلوان ـ اسم لما يحلى أي يعطى ، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر ، وقيل : تقديره إذ قرب كل منهما قربانا (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) لأنه سخط حكم الله تعالى ، وهو عدم جواز نكاح التوأمة (قالَ) استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فما ذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل : قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عزوجل كما يدل عليه الكلام الآتي ، وقيل : على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء (لَأَقْتُلَنَّكَ) أي والله تعالى (لَأَقْتُلَنَّكَ) بالنون المشددة ، وقرئ بالمخففة (قالَ) استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى جسد أخيه (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ) أي القربان والطاعة (مِنَ الْمُتَّقِينَ) في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم ، وليس


المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل ، ومراده من هذا الجواب أنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي ، فلم تقتلني وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.

وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه ونعمته ، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه ، وقيل : مراده الكناية عن أنه لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة ، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده ، ولا يخفى بعده ؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ، فقد كنت وكنت؟ قال : إني أسمع الله تعالى يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) قيل : كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت ، وفي تلك الشريعة ـ كما روي عن مجاهد ـ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ـ قال : كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه ، أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء على جوازه إذ ذاك ، قال بعض المحققين : واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل ، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره : إن المعنى في الآية (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) على سبيل الظلم والابتداء (لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ) على وجه الظلم والابتداء ، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج : منسوخة ، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام ، والدليل عليه قوله تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) [الحجرات : ٩] وغيره من الآيات والأحاديث ، وقيل : إنه لا يلزم ذلك بل يجوز ، واستدل بما أخرجه ابن سعد في الطبقات عن خباب بن الأرت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر «فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه ، وأما من منع ذلك الآن مستدلا بحديث : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة.

وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض ، ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله ، فكأنه قال له : لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ) في جواب (لَئِنْ بَسَطْتَ) للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به ، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال : (بِباسِطٍ) للتبري عن مقدمات القتل فضلا عنه ، وقدم الجار والمجرور المتعلق ـ ببسطت ـ إيذانا على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه ، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل ، وقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله ، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه ، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) تعليل آخر لامتناعه عن البسط ، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لا علة تامة ، وأصل البوء اللزوم ، وفي النهاية : أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع


وأقر ، والمعنى أني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له ، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل ، وإثمك حيث بسطت إلي يدك ، وهذا نظير ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» أي على البادئ إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافئ دافع عن عرضه ، ألا ترى إلى قوله : «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم كذا في الكشاف ، قيل : وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادئ إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادئ ، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه ، وليس في اللفظ ما يشعر بها ، ورده في الكشف بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «فعلى البادئ» مخصص ظاهر ، وقول الكشاف : «إلا أن الإثم محطوط» تفسير لقوله : «فعلى البادئ» وقوله : فعليه إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله : ما قالا ، فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن إثم صاحبه ساقط.

هذا ثم قال : ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل ، والمعنى إثم سبابهما على البادئ ، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والقول : بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادئ إثم ، فكيف يقال : إثم سبابهما ، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادئ إثما وليس على البادي ، وليس بمناف لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤ ، الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧] لأنه بحمله عليه عد جانيا ، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة ، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل ، والحاصل أن سب غير البادئ يترتب عليه شيئان ، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء ، والثاني بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداء لا أنه لا يعفى ، وأورد في التحقيق أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافئ غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم ، والجواب إن صريح الحديث يدل على ما ذكر في الكشاف ، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم ، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم ـ كنحو الرمي بالكفر والفسق ـ فله أن يعارضه بالمثل ، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة : «دونك فانتصري» أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره ، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لم يعتد المظلوم» يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديا انتهى ، وهو تفصيل حسن ، وقيل : معنى (بِإِثْمِي) بإثم قتلي ، ومعنى «بإثمك» إثمك الذي كان قبل قتلي ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك ، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل ، وعن الجبائي ، والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر ، وقيل : معناه بإثم قتلي (وَإِثْمِكَ) الذي هو قتل الناس جميعا حيث سننت القتل ، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قبله ، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب ، والأمر فيه سهل ، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل (تَبُوءَ) أي ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما ، ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة ، وقيل : المراد بالإثم ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة ، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) على تلك


الإرادة ، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر ، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده ـ كما قال شيخ الإسلام ـ قوله سبحانه : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر ، وقيل : بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع ، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ) لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله ـ وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر ـ لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد ، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه ، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له ، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه ، وقرأ الحسن ـ فطاوعت ـ وفيها وجهان : الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره ، وهو أوفق بالقراءة المتواترة ، والثاني أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه ، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته ، و (لَهُ) للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء (فَقَتَلَهُ) أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد ، وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم ، وأخرج عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رءوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب ، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة ، واختلف في موضع قتله ، فعن عمر الشعباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران ، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون ، وقيل : عند عقبة حراء ، وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم ، وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات ، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلا ، قال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ، وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال : إن آدم عليه‌السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة ، فقيل له : حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام ، فعند ذلك ضحك ، وذكر محيي السنة أنه عليه‌السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه‌السلام ، وتفسيره ـ هبة الله ـ يعني أنه خلف من هابيل ، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها ، وأنزل عليه خمسين صحيفة ، وصار وصي آدم وولي عهده ، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما قتل ابن آدم عليه‌السلام أخاه بكى آدم عليه‌السلام ورثاه بشعر ، وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور.

وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال : من قال : إن آدم عليه‌السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء ، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية ، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا ، وذكر بعض علماء العربية إن في ذلك الشعر لحنا ، أو إقواء ، أو ارتكاب ضرورة ، والأولى عدم


نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة.

(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دنيا وآخرة ، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» ، وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم» وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة ، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا.

وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة ، فقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار ، والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة ، واستدل بعضهم بقول سبحانه : (فَأَصْبَحَ) على أن القتل وقع ليلا ـ وليس بشيء ـ فإن من عادة العرب أن يقولوا : أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران ، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت ، وإنما لم يقل سبحانه ـ فأصبح خاسرا ـ للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال : لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله ، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه ؛ وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه‌السلام ، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه ، وقيل : إن أحد الغرابين كان ميتا.

والغراب : طائر معروف ، قيل : والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة ، وقال بعضهم : إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب والمستكن في ـ يريه ـ لله تعالى ، أو للغراب ، واللام على الأول متعلقة ـ ببعث ـ حتما ، وعلى الثاني ـ بيبحث ـ ويجوز تعلقها ببعث أيضا ، و (كَيْفَ) حال من الضمير في (يُوارِي) قدم عليه لأن له الصدر ، وجملة (كَيْفَ يُوارِي) في محل نصب مفعول ثان ـ ليرى ـ البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني ، وقيل : إن ـ يريه ـ بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة (كَيْفَ يُوارِي) موقع حسن ، وتكون الجملة في موقع مفعولين له ، وفيه نظر ، و ـ البحث ـ في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا ، أو في التراب ، والمراد به هنا الحفر ، والمراد ـ بالسوأة ـ جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير ، وقيل : العورة لأنها تسوء ناظرها ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد ، والأول أولى ، ووجه التسمية مشترك ، وضمير (أَخِيهِ) عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم ، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر ، وبعثه حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته ، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته ، وتعلم قابيل ، ففعل مثل ذلك بأخيه ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما ، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل ، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه (قالَ يا وَيْلَتى) كلمة جزع وتحسر ، والويلة ـ كالويل ـ الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي ، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه ، والألف بدل من ياء المتكلم أي ـ يا ويلتي ـ وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع


كونه أشرف منه (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) عطف على (أَكُونَ) وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام ، واعترضه كثير من المعربين ، وقال أبو حيان : إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك ، فإن تقديره إن تزرني أكرمك ، ولو قيل هاهنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي ـ لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه ، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي ، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك ، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين ، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول ، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار ، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو ، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب ، ثم قال : فإن قلت : الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع ، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه ، أما على العفو والمواراة فلا قلت : التوبيخ على جعل كل واحد سببا ، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى ، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد ، وقيل في توجيه ذلك إن الاستفهام للإنكار ـ وهو بمعنى النفي ـ وهو سبب ، والمعنى إن لم أعجز واريت ، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي ، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث ، قال الشهاب : والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام ، والكلام في الثاني ، فكيف يرد الأول نقضا ، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل ـ عجزت ـ بلم اهتد ، وقد قال في التسهيل : إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول ، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.

ولعل الأمر بالتأمل الإشارة أن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي ، والنفي من الخفاء ، وكذا في تأويل ـ عجزت ـ بلم أهتد هنا فليفهم ، وقرئ «أعجزت» بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز ، وقرئ ـ فأواري ـ بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف ، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد ، واعترضه في البحر بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا ، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية ، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها مع وجود محمل صحيح ، وهو الاستئناف لها انتهى ، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر ، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير ، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي صار معدودا من عدادهم ، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل. وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي ما ذكر في تضاعيف القصة ، و (مِنْ) ابتدائية متعلقة بقوله تعالى : (كَتَبْنا) أي قضينا ، وقيل : بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع ، و (كَتَبْنا) استئناف ، واستبعده أبو البقاء وغيره.

و ـ الأجل ـ بفتح الهمزة وقد تكسر ، وقرئ به ـ لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرئ بنقل الفتحة إليها في الأصل ـ الجناية يقال : أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية ، وفي معناه جر عليهم جريرة ، ثم استعمل في تعليل الجنايات ، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره.

(عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم.


وقيل : إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل ، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكأنه قيل : بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل ، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون.

ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح ـ كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم ـ على أن ابني آدم عليه‌السلام كانا من بني إسرائيل ، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغنى عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن ـ تأبى ذلك (أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ قَتَلَ نَفْساً) واحدة من النفوس الإنسانية (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص ، والباء للمقابلة متعلقة بقتل ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا أي متعديا ظالما (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا ، وهو عطف على ما أضيف إليه ـ غير ـ والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد ، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل : من قتل نفسا بغير أحدهما (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم.

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود إن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه ، وقرئ ـ أو فسادا ـ بالنصب بتقدير أو عمل فسادا ـ أو فسد فسادا (وَمَنْ أَحْياها) أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ، وقيل : المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ ، وما في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها ، و (جَمِيعاً) حال من (النَّاسَ) أو تأكيد ، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس ، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه.

والجملة مستقلة غير معطوفة على (كَتَبْنا) وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها ، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم إلخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة.

(ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال ، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن ، و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة والاستبعاد (فِي الْأَرْضِ) متعلق بقوله تعالى : (لَمُسْرِفُونَ) وكذا بعد فيما قبل ، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك ، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم مبالاة به ، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وجودا وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي ، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ الحق بالشرك ، وقيل : إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما ، وإنما قال سبحانه : و (إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم قليل من كثير ، وذكر (الْأَرْضِ) مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم ، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه ، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه


إجمالا من الفساد المبيح للقتل ، فقال جل شأنه : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ذهب أكثر المفسرين ـ كما قال الطبرسي ، وعليه جملة الفقهاء ـ إلى أنها نزلت في قطاع الطريق ، والكلام ـ كما قال الجصاص ـ على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧].

ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام ، وقيل : المراد يحاربون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عزوجل ، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم ، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول ، وقيل : ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له وترفيعا لشأنهم ، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على تمهيد وفيه ما لا يخفى ، والحرب في الأصل السلب والأخذ ، يقال : حربه إذا سلبه ، والمراد به هاهنا قطع الطريق ؛ وقيل : الهجوم جهرة باللصوصية وإن كان في مصر (وَيَسْعَوْنَ) عطف على يحاربون ، وبه يتعلق قوله تعالى : (فِي الْأَرْضِ) ، وقيل : بقوله سبحانه : (فَساداً) وهو إما حال من فاعل (يَسْعَوْنَ) بتأويله بمفسدين ، أو ذوي فساد ، أو لا تأويل قصدا للمبالغة كما قيل ، وإما مفعول له أي لأجل الفساد ، وإما مصدر مؤكد ـ ليسعون ـ لأنه في معنى يفسدون ، و (فَساداً) إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر ، وقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ) مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي حدا من غير صلب إن أفردوا القتل ، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أو لا ، والإتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي ، وكذا التصليب في قوله سبحانه : (أَوْ يُصَلَّبُوا) لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ ، وقيل : صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير ، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا ، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل ، قيل : إنه يوم واحد.

وقيل : حتى يسيل صديده ، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الإقدام على مثل هذه المعصية.

وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلّا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة ، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي ، وقطع الأيدي لأخذ المال ، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد ، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والسجن ؛ والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله ، وقد قال بعض المسجونين :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

عجبنا ، وقلنا : جاء هذا من الدنيا


ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه ، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع ، وبه قال ابن عباس والحسن والسدي رضي الله تعالى عنهم وابن جبير وغيرهم ، وإليه ذهب الإمامية ، وعن عمر بن عبد العزيز وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفى عن بلده فقط ، وقيل : إلى بلد أبعد ، وكانوا ينفونهم إلى ـ دهلك ـ وهو بلد في أقصى تهامة ـ وناصع ـ وهو بلد من بلاد الحبشة ، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفع شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه ، وإخراجه من الدنيا غير ممكن ، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو أشد عليه.

هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه ـ فأو ـ للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح ، وقيل : إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق ، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير ، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها ، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى ، والظاهر أنه أوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا التنويع والتفصيل ، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق ، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام وفيه تأمل فتأمل (ذلِكَ) أي ما فصل من الأحكام والأجزية ، وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (لَهُمْ خِزْيٌ) جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدإ ، وقوله سبحانه : (فِي الدُّنْيا) متعلق بمحذوف وقع صفا لخزي ، أو متعلق به على الظرفية ، وقيل : (خِزْيٌ) خبر ـ لذلك ـ و (لَهُمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من (خِزْيٌ) لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا ، و (فِي الدُّنْيا) إما صفة ـ لخزي ـ أو متعلق به كما مر آنفا والخزي الذل والفضيحة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابا أيضا ، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها ، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها ، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة ، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «من ارتكب شيئا فعوقب به كان كفارة له» فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة ، وهو مشكل مع هذه الآية ، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى ، وأما حقوق العباد فلا ، وهاهنا حقان لله تعالى والعباد ، ونظر فيه (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وأما ما هو من حقوق العباد ـ كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه ـ فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّا ، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا ، فإنهم إن شاءوا عفوا ، وإن أحبوا استوفوا.

وقال ناصر الدين البيضاوي : إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه ، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة ، وأفرد له تنبيها فقال ـ بعد نقله ـ وهو عجيب ، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له لا واجب مطلقا ، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه


قصاصا ، وإن جاز أو وجب من حيث كونه حدا فتأمله انتهى.

وتعقبه ابن قاسم فقال : ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه ، وقوله : إذ لا يتصور إلخ قلنا : لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه ـ وهو صحيح ـ على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين ، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه ، وقوله : لأنا إذا نظرنا إلخ كلام ساقط ، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا ، وقوله : فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى.

وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع فتدبر ، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب ، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار ، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا واجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف ، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلخ ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة ، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها ، وأيضا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.

وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك ، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضا ، وسبب النزول لا يصلح مخصصا فإن العبرة ـ كما تقرر ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر ، فقال : هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال : نعم ، فجاء به إليه فبايعه ، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا ، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه ، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفعله في غير أولئك ، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال : إنما سمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء ، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا ، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم ، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة وقال : بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ


فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح ، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) بحسب الدواعي والمقتضيات (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) عن الناس في أنفسكم (مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) إذا لم تدع إليه داعية (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء (وَكِتابٌ) خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعا لكل كمال ، وهما إشارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي بواسطته (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي من أراد ذلك (سُبُلَ السَّلامِ) وهي الطرق الموصلة إليه عزوجل.

وقد قال بعض العارفين : الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية (إِلَى النُّورِ) وهو نور الرضا والتسليم (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الترقي في المقامات العلية ، وقد يقال : الجملة الأولى إشارة إلى توحيد الأفعال ، والثانية إلى توحيد الصفات ، والثالثة إلى توحيد الذات (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه ـ وهو الوجود المطلق ـ حتى عن قيد الإطلاق (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فإن كل ذلك من التعينات والشئون والله من ورائهم محيط (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ويظهر ما أراد من الشئون (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فادّعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة نور الأنوار ، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه ، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين ، فقال الواسطي : ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون ، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) منهم فضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) منهم عدلا (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) بالولاية ومعرفة الصفات ، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة ، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي ، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانكم ، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه‌السلام (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) وهي حضرة القلب (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) في القضاء السابق حسب الاستعداد (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) في الميل إلى مدينة البدن ، والإقبال عليه بتحصيل لذاته (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) لتفويتكم أنوار القلب وطيباته (قالُوا يا مُوسى إِنَّ (١) فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) وهي صفات النفس (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة ، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) حينئذ (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) سوء عاقبة ملازمة الجسم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالهداية إلى الصراط السوي ـ وهما العقل النظري والعقل العملي ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي باب قرية القلب ـ وهو التوكل بتجلي الأفعال ـ كما أن باب قرية الروح هو الرضا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) بخروجكم عن أفعالكم وحولكم ، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالحقيقة وهو الإيمان عن


حضور ، وأقل درجاته تجلي الأفعال (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الطبيعة ، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس ، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) القلب اللذين هما هابيل العقل ؛ وقابيل الوهم (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) وذلك كما قال بعض العارفين : إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات ، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية ، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل ، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع ، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان ، فقربا قربانا (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته ، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح ، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته ، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية ـ الذي به الحياة ـ عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) الذين يتخذون الله تعالى وقاية ، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي أني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة ، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولو لا الأمل بطل العمل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) وهي نار الحجاب والحرمان (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً) وهو غراب الحرص (يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي أرض النفس (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) عند ظهور الخسران وحصول الحرمان (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع ، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج ، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها ، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي أولياءهما (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) بتثبيط السالكين (أَنْ يُقَتَّلُوا) بسيف الخذلان (أَوْ يُصَلَّبُوا) بحبل الهجران على جذع الحرمان (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ) عن أذيال الوصال (وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) عن الاختلاف والتردد إلى السالكين (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ


الْأَرْضِ) أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) وهوان (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم جنايتهم ، وقد جاء ـ أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب ، ومن آذى وليا فقد آذنته بالمحاربة ـ نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته ـ وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب ـ أمر المؤمنين بتقواه عزوجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد ، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ) أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه (الْوَسِيلَةَ) هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عزوجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء ، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه ، وقيل : متعلق بالفعل قبله ، وقيل : بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة إليه ، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة ، فإنه ملاك الأمر كله والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير ، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد ، وقيل : الجملة الأولى أمر بترك المعاصي ، والثانية أمر بفعل الطاعات ، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة ، وأنشد له قول عنترة :

إن الرجال لهم إليك وسيلة

أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السماوات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة ، وفسر بعضهم ـ الوسيلة ـ بمنزلة في الجنة ، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناء على ما رواه مسلم وغيره «أنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة» وكون الطلب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم ، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى ، واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال : اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا ، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين : يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا ، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ، ويروون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ـ إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور ، أو فاستغيثوا بأهل القبور ـ وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول ، فقد صح أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة : «لا تنسنا يا أخي من دعائك» وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له ، وأمر أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب الوسيلة له كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه ، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف ، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة ؛ فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ـ وهم أحرص الخلق على كل خير ـ أنه طلب من ميت شيئا ، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا : السلام عليك يا رسول الله ؛ السلام عليك


يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئا ـ وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة ـ نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش ، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام ، فعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة ، وقال بعضهم : يستقبل وقت السلام ، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء ، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة ، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار ، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما ذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد ، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟! وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال : اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي ، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه سيد ولد آدم ، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته ، وقد نقل ذلك عنه المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير ، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع الله تعالى أن يعافيني ، فقال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في ، ونقل عن أحمد مثل ذلك.

ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ؛ ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام ، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففيه جعل الدعاء وسيلة ـ وهو جائز ـ بل مندوب ، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث : «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك ، وقد شنع التاج السبكي ـ كما هو عادته ـ على المجد ، فقال : ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى.

وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت ، أو نحو ذلك ـ كما تسمع إن شاء الله تعالى ـ ومن ادعى النص فعليه البيان ، وما رواه أبو داود في سننه وغيره «من أن رجلا قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك ، فسبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه ، فقال : ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك» لا يصلح دليلا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله : «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله : «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب الدعاء منه ، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى ، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وميتا ، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه عليه الصلاة


والسلام بجامع الكرامة ، وإن تفاوت قوة وضعفا ، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام ، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع ، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به ، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص ، ولعل النص على خلافه ، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه ، فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون ـ فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره ، بل كانوا يقولون : اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا ، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس ، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك ، فعدولهم هذا ـ مع أنهم السابقون الأولون ، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع ، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير ، وإنزال الغيث بكل طريق ـ دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.

وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع التفاوت في الكرامة ـ الذي لا ينكره إلا منافق ـ مما لا يكاد يسلم ، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال : إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وكذا بغيره كذلك ، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه : كنا نتوسل بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما الثاني فلقوله : إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل : إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع ، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة ، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته ، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا ، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح ، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته ، وذلك مما لا محذور فيه ، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه ـ وهذا هو محل النزاع ـ وقد علمت الكلام فيه ، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل ـ اللهم أسألك بجاه فلان ـ فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك ، وقال : إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال : أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله ، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث ، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة ، وما يذكره بعض العامة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ـ إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم ـ لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا هو شيء في كتب الحديث ، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس‌سره ـ أنه قال لتلامذته : إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله ـ الآن لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين ، وأما ما رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة ، ففي سنده العوفي ـ وفيه ضعف ـ وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال فيه : إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم ، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم ، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] ، وفي الصحيح من حديث معاذ ـ حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقهم عليه


إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم ـ فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية ، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته.

وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عزوجل بأعمالهم ، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود ، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا ، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها ، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى ، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير ، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير ، وتوحي إليهم شياطينهم خبر ـ إذا أعيتكم الأمور ـ إلخ ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجماع العارفين بحديثه ، لم يروه أحد من العلماء ، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عن ـ اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك ـ فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

وعن أبي يزيد البسطامي قدس‌سره أنه قال : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون ، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله ، ومن دعاء موسى عليه‌السلام ـ وبك المستغاث – وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى ، الخبر ، وقال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله تعالى حيا وميتا ، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى ، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته ، فيكون معنى قول القائل : إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تقضي لي حاجتي ، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي ، ولا فرق بين هذا وقولك : إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا ، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المعنى ، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه ، ولا يجري ذلك ـ في التوسل والإقسام بالذات ـ البحت ، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك ـ وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام ـ شيء ، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين ، وقد ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح ، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم ـ كما يزعمه البعض ـ في التوسل بجاه عريض الجاهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة ، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم ، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا «بقي هاهنا أمران» الأول أن التوسل بجاه غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته ، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه ، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى ، الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات


وغيرهم ، مثل يا سيدي فلان أغثني ، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء ، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه ، وقد عدّه أناس من العلماء شركا وأن لا يكنه ، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه ، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم ، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد (١) ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله تعالى عنه : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا المنافق فجاءوا إليه ، فقال : إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور ـ الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه ـ أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه ، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عزوجل ، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به ، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه ، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام ، وبعض الجهلة يقول : إن ذلك من تطور روح المستغاث به ، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون ، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة ، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك ، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) مع أعدائكم بما أمكنكم.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة ، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه ، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) [يونس : ٥٤] إلخ ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا : لجميعهم (ما فِي الْأَرْضِ) أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة ، وهو اسم (إِنَ) و (لَهُمْ) خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه ، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد (لَوْ) ، وقيل : الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان ، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت لهم ما في الأرض ، وقوله تعالى : (جَمِيعاً) توكيد للموصول أو حال منه ، وقوله سبحانه : (وَمِثْلَهُ) بالنصب عطف عليه ، وقوله عزوجل : (مَعَهُ) ظرف وقع حالا من المعطوف ، والضمير راجع إلى الموصول ، وفائدة التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر ، واللام في قوله تعالى : (لِيَفْتَدُوا بِهِ) متعلقة بما تعلق به خبر (إِنَ) وهو الاستقرار المقدر في (لَهُمْ) وبالخبر المقدر عند من يراه ، وبالفعل المقدر بعد (لَوْ) عند الزجاج ومن نحا نحوه ، قيل : ولا ريب في أن مدار الاقتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له ، والباء في (بِهِ) متعلقة بالافتداء ، والضمير راجع إلى الموصول (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا ، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك ، وقيل : هو راجع إلى الموصول ، والعائد إلى

__________________

(١) هذا هو الحق وهو أنه يجتنب ذلك مطلقا ، وما مال إليه المصنف قبل من الجواز هو رأي له غير مقبول فتنبه.


المعطوف ـ أعني مثله ـ مثله ، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

وقد جوز أن يكون نصب ، ومثله على أنه مفعول (مَعَهُ) ناصبه الفعل المقدر بعد (لَوْ) تفريعا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه ، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد ، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثنى الضمير ، وقال بعض النحاة : الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير مع مثله (مَعَهُ) ، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر (مَعَهُ) معه لملازمة معية كل منهما للآخر ، وأجاب الطيبي بأن (مَعَهُ) على هذا تأكيد ، وقال السفاقسي : جوابه أن التقدير ليس كالتصريح ، و ـ الواو ـ متضمنة معنى مع ، وإنما يقبح لو صرح ـ بمع ـ وكثيرا ما يكون التقدير بخلاف التصريح ، كقولهم : رب شاة وسخلتها ، ولو صرحت ـ برب ـ فقلت : ورب سخلتها لم يجز ، وأجاب الحلبي بأن الضمير في (مَعَهُ) عائد على (مِثْلَهُ) ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد ، نعم أن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به ، وهو هنا (ما) أو ضميرها ، وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر ، وأما صحته على تقدير جعله لهم ، أو متعلقه على ما قيل ، فممتنع أيضا على ما نقل عن سيبويه أنه قال : وأما هذا لك وأباك فقبيح ، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فإن فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجر والظرف لا تعمل في المفعول معه ، وقوله تعالى : (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.

(ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك ، وهو جواب (لَوْ) وترتيبه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال : وافتدوا به ، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مبادئه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر ، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر ، أو للمبالغة في تحقق الرد ، وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما في قوله تعالى : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : ٤٠] حيث لم يقل فأتى به فلما رآه إلخ ، وما في قوله سبحانه : (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) [يوسف : ٣١] من غير ذكر خروجه عليه‌السلام عليهن ورؤيتهن له ، وقال بعض الأفاضل : إنما لم يكتف بقوله : إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه ـ كما هو شأن من هو بصدد أمر ـ ما تقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة ، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل إلخ ، والجملة الامتناعية بحالها خبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه ، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم ، فلما كانت هذه الجملة ، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها ، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلا ، ولعل مراده ـ على ما ذكره القطب ـ ما ذكره ، وقال بعض المحققين : لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم ، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى ، وبهذا الاعتبار يقال له : كناية ، ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال : إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من


العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قيل : محله النصب على الحالية ، وقيل : الرفع عطفا على خبر إن ، وقيل : إنه معطوف على (إِنَّ الَّذِينَ) فلا محل له من الإعراب مثله ، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته ، وقيل : إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام ، وكذلك قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل ، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله ، كأنه قيل : فكيف يكون حالهم ، أو ما ذا يصنعون؟ فقيل : (يُرِيدُونَ) إلخ ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار ، والإرادة قيل : على معناها الحقيقي المشهور ، وذلك أنهم يرفعهم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به ، وروي ذلك عن الحسن ، وقال الجبائي : الإرادة بمعنى التمني أي يتمنون ذلك.

وقيل : المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم ، وهذا كقوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] أي يكاد ويقارب ، لا يقال : كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول : الهول يومئذ ينسيهم ذلك ، وعلى تقدير عدم النسيان يقال : العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك ، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه.

(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) إما حال من فاعل (يُرِيدُونَ) أو اعتراض ، وأيا ما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة ـ بما ـ الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها ، فإن الجملة الاسمية الإيجابية ـ كما مرت الإشارة إليه ـ كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت ، تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفي لا نفي الدوام ، وقرأ أبو واقد (أَنْ يَخْرُجُوا) بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج ، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى : (بِخارِجِينَ) دون بمخرجين ، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار ، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان.

وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة ، قال يزيد الفقير : فقلت لجابر : يقول الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) قال : اتل أول الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ألا إنهم الذين كفروا ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار ، ورواية أنه قال له : يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم إلخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء ، فحقق ما قيل : رمتني بدائها وانسلت ، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها ، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقوله المعتزلة تبا لهم (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدا.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا


الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٤٥)

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى ، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال ، والكلام جملتان ـ عند سيبويه ـ إذ التقدير فيما يتلى عليكم ـ السارق والسارقة ـ أي حكمهما ، وجملة عند المبرد ، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ـ لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه ـ قاله الزمخشري ، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب.

وتعقبه العلامة أحمد في الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته ، فنقول : قال فيه : المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح ، وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح ويشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها ، وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه ، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل ، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب ، وملخصها : أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب ، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب : وأما قوله عزوجل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عزوجل : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمد : ١٥] ثم قال سبحانه بعد : (فِيها أَنْهارٌ) منها كذا ، يريد سيبويه تمييز هذه


الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها ، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل ، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب ، ثم قال : وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا ، فكأنه قال : ومن القصص ـ مثل الجنة ـ فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم ، وكذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) لما قال جل ثناؤه : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] قال جل وعلا في جملة الفرائض : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء (فَاجْلِدُوا) بعد أن مضى فيهما الرفع ـ يريد سيبويه ـ لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد ، بل بني على محذوف متقدم ، وجاء الفعل طارئا ، ثم قال : كما جاء ـ وقائلة : خولان ـ فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر ، وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) فيما فرض عليكم (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث ، وقد قرأ أناس (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم ، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع ، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم ، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع ، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم ، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب ، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه ، والباب مع القرائن مختلف ، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب ، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل ، والرفع متعين ـ لا أقول أرجح ـ حيث يبنى الاسم على كلام متقدم ، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده ، ألا ترى إلى قوله : لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضرب ، كيف رجح النصب على الرفع ، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل ، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم ، ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار ، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير ، بل كان يرفعه على الابتداء ، ويجعل الأمر خبره ـ كما أعربه الزمخشري ـ فالملخص ـ على هذا ـ أن النصب على وجه واحد ، وهو بناء الاسم على فعل الأمر ، والرفع على وجهين : أحدهما ضعيف وهو الابتداء ، وبناء الكلام على الفعل ، والآخر قوي بالغ كوجه النصب ، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق ، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع ، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه‌الله تعالى ورضي عنه انتهى.

والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة ، وقيل : زائدة وكذا على الوجه الضعيف ، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت ، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين : زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش ، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط ، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما ، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه ، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، والفاء أيضا ـ كما قال ابن جني ـ لما في الكلام من معنى الشرط ، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه ، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة ، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إن أردتم حكم (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) إلخ ، ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا ، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأن لا يدل على الوجوب المراد ، وقال أبو حيان : إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما (فَاقْطَعُوا) ، وقيل : إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وليس بشيء ، وبما ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ما قيل : إن سبب الخلاف السابق في


مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط ، وغيرهما لا يشترط ذلك ، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ ، والسرقة أخذ مال الغير خفية ، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز ، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها ، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع ، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعدا ، وقال بعضهم : لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم ، واختاره أبو علي الجبائي ، قيل : يجب القطع في القليل والكثير ـ وإليه ذهب الخوارج ـ والمراد بالأيدي الأيمان ـ كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ـ ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ أيمانهما ـ ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] اكتفاء بتثنية المضاف إليه كذا قالوا ، قال الزجاج : وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه ، فإذا قلت : أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط.

وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع ، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة ، وكذا قال أبو حيان ، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر ؛ واليد اسم لتمام العضو ، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب ، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف ، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه ، واستدلوا عليه أيضا بقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع ، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعى ، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى ، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه» والمخاطب بقوله سبحانه : (فَاقْطَعُوا) على ما في البحر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ولاة الأمور كالسلطان ، ومن أذن له في إقامة الحدود ، أو القضاة والحكام ، أو المؤمنون أقوال أربعة ، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر (جَزاءً) نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء ، أو على أنه مصدر ـ لاقطعوا ـ من معناه ، أو لفعل مقدر من لفظه ، وجوز أن يكون حالا من فاعل ـ اقطعوا ـ مجازين لهما (بِما كَسَبا) بسبب كسبهما ، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى : (نَكالاً) مفعول له أيضا ـ كما قال أكثر المعربين ـ وقال السمين : منصوب كما نصب (جَزاءً) ، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام ، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع ، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه ، وقال الحلبي وبعض المحققين : إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة ، وعليه يكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة ، وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن ، وقال عصام الملة : إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما ـ كما في هذا خلو حامض ـ والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد ، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى ، ولا يخفى ما فيه فتأمل ، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا أتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسا ، وقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائنا منه تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ) في شرع الردع (حَكِيمٌ) في إيجاب القطع ، أو (عَزِيزٌ) في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي (حَكِيمٌ) في فرائضه وحدوده ، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.


ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى أنه قرأ ـ والسرق والسرقة ـ بترك الألف وتشديد الراء ، فقال ابن عطية : إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف ، وقيل في توجيهها : إنهما جمع سارق وسارقة ، لكن قيل : إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث ، فلو قيل : إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب ، واعترض ـ الملحد ـ المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل ، فقال :

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

تحكم : ما لنا إلا السكوت له

وأن نعوذ بمولانا من النار

فأجابه ـ ولله دره ـ علم الدين السخاوي بقوله :

عز الأمانة : أغلاها وأرخصها

ذل الخيانة ، فافهم حكمة الباري

وفي الأحكام لابن عربي أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه ، وقيل : كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ ، فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله ، وعلى الثاني مؤكد للنسخ (فَمَنْ تابَ) من السرّاق إلى الله تعالى (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) الذي هو سرقته ، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته (وَأَصْلَحَ) أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله ، وقيل : المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة ، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه ، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه ، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة ، وأكد ذلك بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو في موضع التعليل لما قبله ، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد يصلح له ، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي : اتصال الحجاج ، والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد ، وقال شيخ الإسلام : المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى ـ على ما سيأتي ـ من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته ، والجار والمجرور خبر مقدم ، و (مُلْكُ السَّماواتِ) مبتدأ ، والجملة خبر (أَنَ) وهي مع ما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي «تعلم» عند الجمهور ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم ، وقوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه ، وإما خبر آخر ـ لأن ـ وكان الظاهر لحديث «سبقت رحمتي غضبي» تقديم المغفرة على التعذيب ، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة ، والمغفرة للتائب منها ، وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق ، أو لأن المراد بالتعذيب القطع ، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى ، والأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، فجيء به على ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد ، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة ، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور ، وفي التعذيب إباء بين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ، ووجه الإظهار كالنهار (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خوطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن ، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة ، وإيثار كلمة (فِي) على ـ إلى ـ للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون ، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه


إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك.

والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن ، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسارعتهم في الكفر ـ لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة ، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله.

وقرئ «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن وهي لغة ، وقرئ «يسرعون» يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا ـ كما قيل ـ من شرهم وموالاتهم للمشركين فإن الله تعالى ناصرك عليهم ، أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) بيان للمسارعين في الكفر ، وقال أبو البقاء : إنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (يُسارِعُونَ) أو من الموصول أي كائنين (مِنَ الَّذِينَ) إلخ ، والباء متعلقة ـ بقالوا ـ لا ـ بآمنا ـ لظهور فساده وتعلقها به على معنى ـ بذي أفواههم ـ أي يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) جملة حالية من ضمير (قالُوا) ، وقيل : عطف على (قالُوا) وقوله سبحانه وتعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) عطف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين : منافقين ويهود ، فقوله سبحانه وتعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر مبتدأ محذوف أي هم (سَمَّاعُونَ) ، والضمير للفريقين أو للذين يسارعون ، وجوز أن يكون ـ للذين هادوا ـ واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل ـ كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ـ وكذا جعل غير واحد (وَمِنَ الَّذِينَ) إلخ خبرا على أن (سَمَّاعُونَ) صفة لمبتدإ محذوف ، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم ، على أنه قد قرئ ـ سماعين ـ بالنصب على الذم وهو ظاهر في أرجحية العطف ، فالوجه ذلك ، واللام للتقوية كما في قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧ ، البروج : ١٦] وقيل : لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه ، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام.

وقد قال الزجاج : يقال : لا تسمع من فلان أي لا تقبل ، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده ، وكلام الجوهري يخالفه أيضا ، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين ، وقال عصام الملة : إن القبول أيضا متعد بنفسه ففي القاموس : قبله ـ كعمله ـ وتقبله بمعنى أخذه ، نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من ، كما في ـ سمع الله لمن حمده ـ أي قبل الله تعالى ممن حمده ، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع.

وجوز أن تكون اللام للعلة ، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم ، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم ، وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية ـ على ما قيل ـ مجرى التعليل للنهي ، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب ، وقوله تعالى شأنه : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) خبر ثان للمبتدإ المقدر للأول ، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين ، واللام هنا مثلها في ـ سمع الله لمن حمده ـ والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين ، واختاره شيخ الإسلام.


وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين ، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم ، وروي ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي الجبائي ، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه ، نعم ما قيل : من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن (سَمَّاعُونَ) الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد ، و (آخَرِينَ) صفة (لِقَوْمٍ) وجملة (لَمْ يَأْتُوكَ) صفة أخرى ، والمعنى لم يحضروا عندك ، وقيل : هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك ، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرط عداوتهم ، واحتمال كونها صفة (سَمَّاعُونَ) أي (سَمَّاعُونَ) لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقوله سبحانه وتعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) صفة أخرى (لِقَوْمٍ) وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي ، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال ، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى ، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر ، وقيل : الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم ، وقيل : إلى الفريقين ، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة ، أو كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله ، أو تغيير وضعه ، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.

ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) دون عن مواضعه ، وقال عصام الملة : إن إدراج لفظ (بَعْدِ) للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع ، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه ، ولا يخفى بعده ، وقال بعضهم : إن (مِنَ) للابتداء ، ولفظ (بَعْدِ) للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد ، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى ، وقرأ إبراهيم ـ يحرفون الكلام (١) عن مواضعه ـ وقوله سبحانه وتعالى : (يَقُولُونَ) كالجملة السابقة في الوجوه ، ويجوز أن تكون حالا من ضمير (يُحَرِّفُونَ) وجوز كونها كالتي قبلها صفة ـ لسماعون ـ أو حالا من الضمير فيه ، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخاطب به ممن يحضره ، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا ، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم ، فالحق الذي لا محيد عنه ـ وعليه درج غالب المفسرين ـ أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم (إِنْ أُوتِيتُمْ) من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو الظاهر (هذا فَخُذُوهُ) واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) من جهته بل أوتيتم غيره (فَاحْذَرُوا) قبوله وإياكم وإياه ، أو فاحذروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى ، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله

__________________

(١) قوله : «عن مواضعه» كذا بخط مؤلفه ؛ وحرر قراءة إبراهيم.


صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ لم يظهر عليهم ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وقوة منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ففكرت العزيزة فقال : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم ، فدسوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه ، فدسوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأمرهم كله وما ذا أرادوا فأنزل (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) الآية ، وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ـ وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت ـ فقالوا : ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما ، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية ـ وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ـ ثم تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه ، فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه ، فأتوه فقالوا : يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما ، فمشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس فقال : يا معشر يهود اخرجوا إلى علمائكم ؛ فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة ، فخلا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ـ فألظ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسألة يقول : يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال : اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلخ.

وأخرج الحميدي في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن عبد الله أنه قال : «زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، فسألوه عن ذلك فقال : أرسلوا إلى أعلم رجلين منكم ، فجاءوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما : أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا : بلى ، قال : فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه‌السلام وأنزل المنّ والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ، فقال أحدهما للآخر : ما أنشدت بمثله قط قالا : نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه بيدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كذلك فأمر به فرجم.

وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع ، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام ـ كالإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة ، واختاره الجبائي وأبو مسلم ، أو


إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك ، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج ، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه ـ كما قيل ـ وليس بشيء ، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا ، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ) فلن تستطيع له (مِنَ اللهِ شَيْئاً) في دفع تلك الفتنة ، والفاء جوابية ، و (مِنَ اللهِ) متعلق ـ بتملك ـ أو بمحذوف وقع حالا من (شَيْئاً) لأنه صفته في الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى ، أو بدل الله عز اسمه ، و (شَيْئاً) مفعول به ـ لتملك ـ وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا (أُولئِكَ) أي المذكورون من المنافقين واليهود ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا ، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من رجس الكفر وخبث الضلالة ، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداء ، وفيها ـ كالتي قبلها على أحد التفاسير ـ دليل على فساد قول المعتزلة : إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد ، وقول بعضهم : إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب ، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان ـ كما قال البلخي ـ لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.

ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال : معنى ـ من يرد الله فتنته ـ من يرد تركه مفتونا وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا ، ومعنى (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع انتهى.

وقد تعقبه ابن المنير بقوله : كم يتلجلج والحق أبلج ، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر ، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد ، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب ، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع ، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله : لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجح تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون ، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع ، فلطف من ينفع؟! وإرادة من تنجع؟!

وليس وراء الله للعبد مطمع انتهى ، وتفصيهم عن ذلك عسير (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين ، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته ، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة. وإجلاء بني النضير من ديارهم ، وتنكير (خِزْيٌ) للتفخيم وهو مبتدأ و (لَهُمْ) خبره ، و (فِي الدُّنْيا) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب ، كأنه قيل : فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وكذا الحال في قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي مع الخزي الدنيوي (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع أعد لهم فيها ، وضمير (لَهُمْ) في الجملتين ـ لأولئك ـ من المنافقين واليهود جميعا ، وقيل : لليهود خاصة ، وقيل : (لَهُمْ) إن استأنفت بقوله سبحانه : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) وإلا فللفريقين ،


والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد ، ولذلك كرر قوله سبحانه : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ، وقيل : إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) إلخ. أو توطئة لما بعده ، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وفيما مر ما يفتريه الأحبار ، ويؤيده الفصل بينهما.

(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام من سحته إذا استأصلته ، وسمي الحرام سحتا ـ عند الزجاج ـ لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار ، وقال الجبائي : لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا ، وقال الخليل : لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان ، والمراد به هنا ـ على المشهور ـ الرشوة في الحكم ، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، قيل : يا رسول الله وما السحت؟ قال : الرشوة في الحكم» وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هدايا الأمراء سحت» وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال : لا ، ولكن كفر ، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية ، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال : الرشا ، فقيل له في الحكم ، قال : ذاك الكفر ، وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك ، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ست خصال من السحت : رشوة الإمام ـ وهي أخبث ذلك كله ـ وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن» ، وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.

قيل : ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر ، وجاء من طرق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما».

ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا ـ ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة ـ السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله تعالى ـ حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين ـ بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه ، وحد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء ، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ ، والنجش بالصدقة ، والسحت بالهدية ، والقتل بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا إثما».

هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «السحت» بضمتين ، وهما لغتان ـ كالعنق والعنق.

وقرئ «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد ، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين (فَإِنْ جاؤُكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح (فَإِنْ جاؤُكَ) متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بما أراك الله تعالى (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) غير مبال بهم ولا مكترث ، وهذا كما ترى تخيير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الأمرين ، وهو معارض لقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص ـ في كتاب الأحكام ـ أن العلماء اختلفوا ، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وإليه ذهب أكثر السلف : قالوا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أولا مخيرا ، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم ، ومثله لا يقال من قبل الرأي ، وقيل : إن هذه الآية فيمن لم


يعقد له ذمة ، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا.

وقال أصحابنا : أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين ، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه ، واختلف في مناكحتهم ، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : يقرون عليها ، وخالفه ـ في بعض ذلك ـ محمد وزفر ، وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا ، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم ، وتمام التفصيل في الفروع (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر ، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك (فَلَنْ يَضُرُّوكَ) بسبب ذلك (شَيْئاً) من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي أمرت به ، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام ، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال : ـ لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ـ إن صح يراد منه لازم المعنى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به ، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون ، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) حال من فاعل (يُحَكِّمُونَكَ) ، وقوله تعالى : (فِيها حُكْمُ اللهِ) حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد ـ كما قال السمين ـ على ذي الحال لكن قال : جعل التوراة ـ مرفوعا بالظرف المصدر بالواو ـ محل نظر ، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة ، أو أنه لا يقرن بالواو ، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن سيبويه.

وقيل : استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، وأنثت التوراة معاملة لها ـ بعد التعريب ـ معاملة الأسماء العربية الموازنة لها ـ كموماة ودوداة ـ (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) عطف على (يُحَكِّمُونَكَ) داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم ، وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب ، و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة ، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا ، والأول أولى ، وقوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب ، وقوله عزوجل : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لفحوى ما قبله ، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة ، أي (وَما أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا ، أو بك وبه ، وقيل : هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحكمه أصلا.

وقيل : المعنى ـ وما أولئك بالكاملين في الإيمان ـ تهكما بهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه (فِيها هُدىً) أي إرشاد للناس إلى الحق (وَنُورٌ)


أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ.

وقال الزجاج : (فِيها هُدىً) أي بيان للحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَنُورٌ) أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق ، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى ، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم ، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز ، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك ، وقد يقال : إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بناء على ما قال الزجاج ـ باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا ، والظرف خبر مقدم ، و (هُدىً) مبتدأ ، والجملة حال من (التَّوْراةَ) أي كائنا فيها ذلك ، وكذا جملة (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) في قول إلا أنها حال مقدرة ، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها ، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل ، وكان بين النبيين عليهما‌السلام ألف نبي.

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم‌السلام ، وعلى هذا بني الاستدلال بالآية من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة ، والمراد يحكم بأحكامها النبيون (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيين ـ كما قيل ـ على سبيل المدح ، والظاهر لهم ، ونظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه ، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم ، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما ؛ فإن أقل متبعيه كذلك ، ثم قال : فالوجه ـ والله تعالى أعلم ـ أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها ، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر ، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها ، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم‌السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم‌السلام ، وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته ، وكذلك قيل في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] ، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره ، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة ، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا ، كيف لا؟! وهم ـ عند ربهم ـ كما في الخبر ، ثم قال جل وعلا : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين ، فلذلك ـ والله تعالى أعلم ـ جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به ، ولقد أحسن القائل : أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف ، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله :

ما إن مدحت محمدا بمقالتي

لكن مدحت مقالتي بمحمد

والإسلام ـ وإن كان من أشرف الأوصاف ، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حكمه ـ إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة ؛ فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح ، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس ، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله :

شمس ضحاها هلال ليلتها

در مقاصيرها زبرجدها

فنزل عن الشمس إلى الهلال ، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته؟ فعلينا


أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها ، والله تعالى الموفق للصواب انتهى.

وفي المفتاح : والتخليص إشارة إلى ما ذكره ، وإيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب ، نعم قد يقال : إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود بأنهم بمعزل عن الإسلام ، على أنه قد ورد في الفصيح ـ بل في الأفصح ـ ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات ، ومن ذلك (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١ وغيرها] حيث كان متضمنا نكتة ، وقال عصام الملة : إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه ، ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشإ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولا يخرم ، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة ، فغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج عن هذا المسلك انتهى ، وفيه تأمل ، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد ، ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم (لِلَّذِينَ هادُوا) أي تابوا من الكفر ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ والمراد بهم اليهود ـ كما قال الحسن ـ والجار إما متعلق ـ بيحكم ـ أي يحكمون فيما بينهم ، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم ، كأنه قيل : لأجل الذين هادوا ، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه ، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين ، وقيل : من باب (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وإما متعلق ـ بأنزلنا ـ ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر ، وقيل : بأنزل على صيغة المبني للمفعول ، وحذف لدلالة الكلام عليه ، وتكون الجملة حينئذ معترضة ، وعلى هذا تكون الآية نصا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم ، وقيل : الجار متعلق ـ بهدى ونور ـ وفيه فصل بين المصدر ومعموله ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي (هُدىً وَنُورٌ) كائنان لهما ، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أي العباد والعلماء قاله قتادة ، وقال مجاهد : (الرَّبَّانِيُّونَ) العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار ، وعن ابن زيد (الرَّبَّانِيُّونَ) الولاة ، (وَالْأَحْبارُ) العلماء ، والواحد: حبر بالفتح والكسر ، قال الفراء : وأكثر ما سمعت فيه الكسر ، وهو مأخوذ من التحبير والتحسين ، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه ، ومن ذلك الحبر ـ بكسر الحاء لا غير ـ لما يكتب به ، وهذا عطف على «النبيون» أي هم أيضا يحكمون بأحكامها ، وتوسيط المحكوم لهم ـ كما قال شيخ الإسلام ـ بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها ، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون ، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم‌السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها ، والجار متعلق «بيحكم» ، وما موصولة ، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والأحبار ، وقوله تعالى : (مِنْ كِتابِ اللهِ) بيان ـ لما ـ وفي الإبهام والبيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة ، وفيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها ، والباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه (مِنْ كِتابِ اللهِ) حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه ، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا ، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له ، وتوهم بعضهم أن ما بمعنى أمر ، و (مِنْ) لتبيين مفعول محذوف ـ لاستحفظوا ـ والتقدير بسبب أمر (اسْتُحْفِظُوا) به


شيئا (مِنْ كِتابِ اللهِ) وهو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله تعالى ، وقيل : الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغني عن تقدير العائد ، وحينئذ لا يتأتى القول بأن (مِنْ) بيان لها ، ومن الناس من جوز كون (بِمَا) بدلا من بها ، وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل ، ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم ، فالمستحفظ حينئذ هو الله تعالى ، وحديث الأنباء لا يتأتى إذ ذاك ، وقيل : إن (الرَّبَّانِيُّونَ) فاعل بفعل محذوف ، والباء صلة له ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) عطف على (اسْتُحْفِظُوا) ومعنى (شُهَداءَ) رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه ، أو (شُهَداءَ) عليه أنه حق.

ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون (الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة ، وهو كما ترى ليس فيه مزيد معنى ، وإرجاع ضمير (كانُوا) للنبيين مما لا يكاد يجوز ، وقيل : عطف على (يَحْكُمُ) المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى.

وكانوا شهداء عليه ، ويجوز على هذا ـ بلا خفاء ـ أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفى منه ، وأمر التعدي بعلى سهل ، ولعل المراد به شيء وراء الحكم ، وقيل : الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه ، والعطف إما على (اسْتُحْفِظُوا) أو على (يَحْكُمُ) وتوهم عبارة البعض ـ حيث قال وبسبب كونهم شهداء ـ أن العطف على ـ ما ـ الموصولة فيؤوّل (كانُوا) بالمصدر ، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا ، وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى ، وإرجاع ضمير (عَلَيْهِ) إلى حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات ، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر ولا قرينة عليه ، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه ، وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدي والكلبي ، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة ، والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) كائنا من كان ، واقتدوا في مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار ، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد (وَاخْشَوْنِ) في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي ، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم (ثَمَناً قَلِيلاً) من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية ، فإنه وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر ، وذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبئ عنه كلام الشعبي.

وعن ابن مسعود ـ وهو الوجه كما في الكشف ـ أنه عام ، والفاء على الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار ، وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية ، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين ، والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام (فَأُولئِكَ) إشارة إلى (مِنْ) والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها ، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه : (هُمُ الْكافِرُونَ) ويجوز أن


يكون (هُمُ) ضمير فصل ، و (الْكافِرُونَ) هو الخبر ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير ، واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن ، ووجه الاستدلال بها أن كلمة (مِنْ) فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى ، فيدخل الفاسد المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى ، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر ، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى ، وأيضا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس ، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره ، وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما أنزل الله تعالى ـ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ـ في اليهود خاصة ، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ) إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك ، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة ، فلإنكارهم ذلك وصفوا ـ بالكافرين ـ ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا ـ بالظالمين ـ ولخروجهم عن الحق وصفوا ـ بالفاسقين ـ أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم ، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر ، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق ، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال : الثلاث الآيات التي في المائدة أولها لهذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى ، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل : إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه.

ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر ، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم ، وهو مخرج مخرج التغليظ ، أو يلتزم أحد الجوابين ، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات ، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين ، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين ، وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه ـ أن الآيات الثلاث ذكرت عنده ، فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل ، فقال حذيفة : نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك ـ يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم ، ويحتمل أن يكون كما قيل : ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين ، وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال : كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك.

هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحو الصفات والفناء في الذات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالمطلوب ، وقيل : ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله :

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي

فليس إلى معن سواه شفيع

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي ما في الجهة السفلية (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) الكبرى (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية


من المعارف والحقائق النورية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة (جَزاءً بِما كَسَبا) من تناول ما لا يحل تناوله لها (نَكالاً) أي عقوبة من الله عزوجل (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ووساوس شيطان النفس (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) وهم القوى النفسانية (لَمْ يَأْتُوكَ) أي ينقادوا لكم ، أو (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ) يسنون السنن السيئة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) وهي التعينات الإلهية (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني ، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة ـ كمن يؤوّل القرآن والأحاديث على وفق هواه ـ وليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى ، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات ، ونحن نبرأ إلى الله عزوجل من ذلك فإنه كفر صريح ، وإنما نقول : المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) قال ابن عطاء : من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي بالمراقبة والمراعاة ، وقال أبو بكر الوراق : طهارة القلب في شيئين : إخراج الحسد والغش ، وحسن الظن بجماعة المسلمين (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وهو ما يأكلونه بدينهم (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم ، والكلام في باقي الآيات ظاهر والله تعالى الموفق.

(وَكَتَبْنا) عطف على (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) والمعنى قدرنا وفرضنا (عَلَيْهِمْ) أي على الذين هادوا ، وفي مصحف أبيّ وأنزلنا على بني إسرائيل (فِيها) أي في التوراة ، والجار متعلق بكتبنا ، وقيل : بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها ، وقيل : صفة لمصدر محذوف أي (كَتَبْنا) كتابة مبينة (فِيها). (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق ، ويقدر في كل مما في قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ (١) بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) ما يناسبه كالفقء والجذع والصلم والقلع ، ومنهم من قدر الكون المطلق ، وقال : إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك.

وقرأ الكسائي : (الْعَيْنَ) وما عطف عليه بالرفع ، ووجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فإن معنى ـ كتبنا عليهم أن النفس بالنفس ـ قلنا لهم : النفس بالنفس ، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل ، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس ، وقيل : إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية ، ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة ، وقيل : إنه مندرج فيه أيضا على هذا ، والتقدير وكذلك ـ العين بالعين ـ إلخ لتتوافق القراءتان.

وقال الخطيب : لا عطف ، والاستئناف بمعناه المتبادر منه ، والكلام جواب سؤال كأنه قيل : ما حال غير النفس؟ فقال سبحانه : (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلخ ، وقيل : إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا ، والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى ، وضعف هذا بأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد ، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة.

وأجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم


على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل ، وهو يقتضي أن الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر ، ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لا يخفى فليفهم.

واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر ، ويقال : ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص ، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير ، وتصغيرها نفيسة لا غير ، والعين بمعنى الجارحة المخصوصة مؤنثة ، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه إذ لا يصح أن يقال : هذه عين هؤلاء الرجال ، وأنت تريد الخيار ، والأذن مثلها ، والأنف مذكر لا غير ، والسن تؤنث ولا تذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب ، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض ، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران ، ونظم ما يجوز فيه ذلك بقوله :

وهاك من الأعضاء ما قد عددته

تؤنث أحيانا وحينا تذكر

لسان الفتى والإبط والعنق والقفا

وعاتقه والمتن والضرس يذكر

وعندي الذراع والكراع مع المعى

وعجز الفتى ثم القريض المحبر

كذا كل نحوي حكى في كتابه

سوى سيبويه وهو فيهم مكبر

يرى أن تأنيث الذراع هو الذي

أتى ، وهو للتذكير في ذاك منكر

وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث ، وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر ، وليس ذاك بمطرد فإن الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في البدن منه اثنين ، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في البدن إلا واحد ، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال ، والكف أولى بمقتضى الحال هذا (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) بالنصب عطف على اسم إن ، و (قِصاصٌ) هو الخبر ، ولكونه مصدرا كالقتال ، وليس عين المخبر عنه يؤوّل بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله ، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضا ، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء ، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل في الكتب الفقهية ، واستدل بعموم (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) من قال : يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة ، ومن خالف استدل بقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) [البقرة : ١٧٨] وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر» وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه ، والمراد بما روى الحربي لسياقه ولا ذو عهد في عهده ، والعطف يقتضي المغايرة ، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلما بذمي ، وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر ، وكانوا كلهم أحرارا لا عبيد فيهم ، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين سائر الأنبياء لأن الاستعباد من الغنائم ، ولم تحل لغيره عليه الصلاة والسلام ، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب ، وآخر ذلك في هذه الأمة رحمة انتهى.

وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك ، فقال قال الأصحاب : لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير محقون الدم على التأبيد ، وكذا كفره باعث على الحرب لأنه على قصد الرجوع ،


ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام المبيح ، ويقتل قياسا للمساواة ، ولا الرجل بابنه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقاد الوالد بولده» وهو بإطلاقه حجة على مالك في قوله : يقاد إذا ذبحه ذبحا ، ولأنه سبب لإحيائه ، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه ، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن ، والقصاص يستحقه المقتول أولا ثم يخلفه وارثه ، والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب ، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا ، ولا الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه ، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم ، واستدل بها على ما روي عن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) بالإفراد ، وأجيب بأن حكمة القصاص ـ وهو صون الدماء والأحياء ـ اقتضت القتل ، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص ، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل (فَمَنْ تَصَدَّقَ) أي من المستحقين للقصاص (بِهِ) أي بالقصاص أي فمن عفا عنه ، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة في الترغيب (فَهُوَ) أي التصدق المذكور (كَفَّارَةٌ لَهُ) للمتصدق كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين ، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية فقال : «هو الرجل يكسر سنه أو يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده ، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه ، وإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه ، وإن كان الدية كلها فخطاياه كلها».

وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت «أن رجلا هتم فم رجل على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت» وقيل : الضمير عائد إلى الجاني ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة ، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط ، وإليه ذهب العلامة الثاني ، وقيل : إن في الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ ، فالتعين ليس بمسلم ، وقال بعضهم إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص ، وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب ، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فضمير له حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به الجاني نفسه ، وفيه بعد ظاهر ، وقرأ أبيّ فهو كفارته له ، فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق ، وكذا الضميران المجروران والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك ، أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء ، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق من غير نقصان ، وفيه ترغيب في العفو ، والآية نزلت ـ كما قال غير واحد ـ لما اصطلح اليهود على أن لا يقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة ، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم ، وعن السيد السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما زيد في شريعتنا ، وقال الضحاك : لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح ، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية.


وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨)

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) شروع في بيان أحكام الإنجيل ـ كما قيل ـ إثر بيان أحكام التوراة ، وهو عطف على (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) وضمير الجمع المجرور ـ للنبيين الذين أسلموا ـ كما قاله أكثر المفسرين ، واختاره علي بن عيسى والبلخي وقيل : للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره ، وحكي ذلك عن الجبائي ـ وليس بالمختار ـ والتقفية الاتباع ، ويقال : قفا فلان أثر فلان إذا تبعه ، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه ، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فالفعل كما قيل : متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء ، والمفعول الأول محذوف ، و (عَلى آثارِهِمْ) كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به ، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد ، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف ، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل ،


وقد جاء منه ألفاظ قالوا : صك الحجر الحجر ، وصككت الحجر بالحجر ، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أي جعلته دافعا له.

وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية ، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا يا عيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء ، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه الصلاة والسلام (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) عطف على (قَفَّيْنا) ، وقرأ الحسن بفتح الهمزة ، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب ، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح ، وأما إفعيل بالكسر فله نظائر ـ كإبزيم وإحليل ـ وغير ذلك (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) كما في التوراة ، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل ، وقوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) عطف على الحال وهو حال أيضا ، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير ، وقوله عزوجل : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية ، وجعل كله هدى ـ بعد ما جعل مشتملا عليه ـ مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم أظهر ، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه ، وجوز نصب (هُدىً وَمَوْعِظَةً) على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته (وَهُدىً) إلخ ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) آتيناه ذلك (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها ، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها ـ كما قرره شيخ الإسلام قدس‌سره ـ واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي ، وقيل : هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على ـ آتيناه ـ أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل ، وحذف القول ـ لدلالة ما قبله عليه ـ كثير في الكلام ، ومنه قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] واختار ذلك علي بن عيسى.

وقرأ حمزة (وَلْيَحْكُمْ) بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة ، والمصدر معطوف على (هُدىً وَمَوْعِظَةً) على تقدير كونهما معللين ، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل ، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى ، وفاعل هذا أهل الكتاب ، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في (هُدىً وَمَوْعِظَةً) أي وآتيناه ليحكم إلخ ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال ، ومنهم من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف ، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا ـ بأنزل ـ ليصح كونه علة لإيتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر.

وعن أبي علي أنه قرأ ـ وأن ليحكم ـ على أن ـ أن ـ موصولة بالأمر كما في قولك : أمرته بأن قم ، ومعنى الوصل أن ـ أن ـ تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته ، ووصل ـ أن ـ المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف ، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا ، كأنه قيل : وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم ، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه ، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان ، وقد مر تحقيقه ، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام ، وأن عيسى عليه‌السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما


في التوراة خاصة ، ويشهد لذلك أيضا حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به» وخالف في ذلك بعض الفضلاء ، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه‌السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه‌السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما ، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام ، وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا (بِما أَنْزَلَ اللهُ) تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة ، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية ـ وهو القرآن العظيم ـ فاللام للعهد ، والجملة عطف على (أَنْزَلْنا) وما عطف عليه ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (أَنْزَلْنا) ، وقيل : حال من الكاف في (إِلَيْكَ) وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال من (الْكِتابَ) أي حال كونه مصدقا لما تقدمه ، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك ، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد ، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله ، وقوله سبحانه : (مِنَ الْكِتابِ) بيان (لِما) واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز ـ كما قال غير واحد ـ أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر ، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) قال الخليل وأبو عبيدة : أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة.

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم : أي شاهدا عليه بأنه الحق ، والعطف حينئذ للتأكيد ؛ وهاؤه أصلية ، وفعله هيمن ، وله نظائر ـ بيطر وخيمر وسيطر ـ وزاد الزجاج : بيقر ، ولا سادس لها ، وقيل : إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن ـ كهراق ـ وقال المبرد وابن قتيبة : إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى ، فصغر وأبدلت همزته هاء ، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر ، وكذا كل اسم معظم شرعا ، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرءا (مُهَيْمِناً) بفتح الميم على بنية المفعول فضمير (عَلَيْهِ) على هذا يعود على الكتاب الأول ، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل ، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الكتاب ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه ، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية ، وتقديم (بَيْنَهُمْ) للاعتناء بتعميم الحكم لهم ، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم ، وترهيبا عن المخالفة ، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الزائغة.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) الذي لا محيد عنه ، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لا تعدل (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ)


متبعا لأهوائهم ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك ، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك ، واعترض ذلك بأن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما ، ولعل القائل لا يسلم ذلك ، و (مِنَ) كما قال أبو البقاء : متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع (جاءَكَ) أو من (ما) ، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء ، والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه ، فلا يقال : كيف نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك ، وقيل : الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد سائر الأحكام (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم ، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ ، والخطاب ـ كما قال جماعة من المفسرين ـ للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب ، و ـ الشرعة ـ بكسر الشين ، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة ، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء ، والمراد بها الدين ، واستعمالها فيه لكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية ، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية.

وقال الراغب : سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع في ذلك على الحقيقة روي وتطهر ، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء : كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب ، وبالتطهر ما قال تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح ، والعطف باعتبار جمع الأوصاف ، وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستقيم ، وقيل : هما بمعنى واحد وهو الطريق ، والتكرير للتأكيد ، والعطف مثله في قول الحطيئة : وهند أتى من دونها النأي والبعد. وقول عنترة :

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقيل : الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا ، وقيل : المنهاج الدليل ، وقيل : الشرعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمنهاج الكتاب ، وقيل : الشرعة الأحكام الفرعية ، والمنهاج الأحكام الاعتقادية ، وليس بشيء ، واللام متعلقة ـ بجعلنا ـ المتعدية لواحد ، وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء ، وتقديمها عليه للتخصيص ، و (مِنْكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين ـ كل ـ أي «ولكل أمة» كائنة (مِنْكُمْ) أيها الأمم الباقية ، والخالية عينا ووضعنا (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها ، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل ، وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه ، وأوجب أبو البقاء تعلق (مِنْكُمْ) بمحذوف تقديره أعني ، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام ، ويوجب أيضا أن يفصل بين (جَعَلْنا) ومعموله وهو شرعة ، وقال شيخ الإسلام : لا ضير في توسط (جَعَلْنا) بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] إلخ ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال ، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر ، وقيل : إنه للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل ، ولا يخفى بعده ، وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق ولا اللحاق ، واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم ، واللام للاختصاص ، فيكون لكل أمة دين يخصها ، ولو كان متعبدا


بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص.

وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الحصر ، لما ذكر مع تقدم الاختصاص ، وفيه أنه لا حاجة في إفادة المتعلق ، وأيضا الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا لأن القائلين به يدّعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق ، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع ، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] إلخ ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها ، والتحقيق في هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث إنها شرعة للأولين (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار ، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ ومفعول (شاءَ) محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه ، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم إلخ ، وقيل : المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه ، وروي عن الحسن نحو ذلك ، وقال الحسين بن علي المغربي : المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم.

(فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها ما يعود نفعه لكم في معاشكم ومعادكم ، أو تزيغون عنها وتبتغون الهوى وتشترون الضلالة بالهدى ، وبهذا ـ كما قال شيخ الإسلام ـ اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء ، بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبئ عنه قوله عزوجل : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لفضل السبق والتقدم ، فالسابقون السابقون أولئك المقربون ، وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد ، و (جَمِيعاً) حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبني للفاعل ، أو لما لم يسم فاعله ، وإما الاستقرار المقدر في الجار ، وقيل ـ وفيه بعد ـ إن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا من أمر الدين ، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) عطف على الكتاب ، كأنه قيل : وأنزلنا إليك الكتاب ، وقولنا : احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم ، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية ، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه في الكشف ، وجوز أن يكون عطفا على الحق ، وفي المحل وجهان : الجر والنصب على الخلاف المشهور ، وقيل : يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ


أي وأمرنا أن احكم ، وزعم بعضهم أن (أَنِ) هذه تفسيرية ، ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك ، ثم فسر هذا الأمر باحكم ، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر ، وقال الطيبي : ولو جعل هذا الكلام عطفا على (فَاحْكُمْ) من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) كان أحسن ، ورد بأن (أَنِ) هي المانعة من ذلك العطف ، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال ، وقال بعضهم : إنما كرر الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مرتين : مرة في زنا المحصن. ومرة في قتيل كان بينهم ، فجاء كل أمر في أمر ، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى ، ونون (أَنِ) فيها الضم والكسر ، والمنسبك من (أَنْ يَفْتِنُوكَ) بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال ، أي واحذر : فتنتهم لك وأن يصرفوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ) ـ تعالى ـ (إِلَيْكَ) ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق ؛ وقال ابن زيد : بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها ، وجوز أن يكون مفعولا من أجله ، أي احذرهم مخافة (أَنْ يَفْتِنُوكَ) وإعادة (ما أَنْزَلَ اللهُ) ـ تعالى ـ (إِلَيْكَ) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب ، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى ، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وإنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) وهو ذنب التولي والإعراض ، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة ، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها ، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

يريد بالبعض نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس ، وقال الجبائي : ذكر البعض ، وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص ، وقيل : المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان ، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك ، وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض ، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الإصابة ـ على ما روي عن الحسن ـ إجلاء بني النضير ، وقيل : قتل بني قريظة ، وقيل : هي أعم من ذلك ، وما عرى بني قينقاع وأهل خيبر وفدك ، ولعله الأولى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود المعهودة ، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه من التسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى ، وقيل : إنه عطف على قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة وقررناه في الإنجيل ، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده ، والمراد من الناس العموم ، وقيل : اليهود ، وقوله سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية ، وقيل : محل الهمزة بعد الفاء ، وقدمت أن لها الصدارة ، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب ، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام ، أو الأمة الجاهلية ، وحكمهم : ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية ، وحكمهم : ما ذكر ،


فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل ، فقال عليه الصلاة والسلام : «القتلى بواء فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك» فنزلت ، وقرأ ابن عامر ـ تبغون ـ بالتاء ، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ ، وإما بتقدير القول أي قل لهم (أَفَحُكْمَ) إلخ ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم (أَفَحُكْمَ) بالرفع على أنه مبتدأ ، و (يَبْغُونَ) خبره ، والعائد محذوف ، وقيل : الخبر محذوف ، والمذكور صفته أي حكم يبغون ، واستضعف حذف العائد من الخبر ، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

وقال أبو حيان وحسن الحذف في الآية شبه (يَبْغُونَ) برأس الفاصلة فصار كالمشاكلة ، وزعم ـ أن القراءة المذكورة خطأ ـ خطأ كما لا يخفى ، وقرأ قتادة «أفحكم» بفتح الفاء والحاء والكاف ، أي أفحاكما كحكام الجاهلية (يَبْغُونَ) وكانت الجاهلية تسمى من قبل ـ كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة ـ عالمية حتى جاءت امرأة ، فقالت يا رسول الله كان في الجاهلية كذا وكذا فأنزل الله تعالى ذكر الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى ، أو مساو له كما يدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي عند قوم ، فاللام بمعنى عند ، وإليه ذهب الجبائي ، وضعفه في الدر المصون ، وصحح أنها للبيان متعلقة بمحذوف كما في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] وسقيا لك ، أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكما من الله تعالى ، ولعل من فسر بعند أراد بيان محصل المعنى ، وقيل : إن اللام على أصلها ، وإنها صلة أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها ، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم ، وإن كان سبب وروده بعضا ـ كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ـ ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه وتعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار ، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود ، وقال الآخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأتنصر معه ، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ.

وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال : «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي» فنزلت (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم ، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم ، وأوثر الإجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس ، والجملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها وتأكيدا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون ،


ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل ، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة ، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء ، والظاهر هو الأول وقوله تعالى :

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي من جملتهم ، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله ، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود ، وقيل : المراد (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ) كافر مثلهم حقيقة ، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى ، وقيل : لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين ، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين ، وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بموالاة الكفار. أو المؤمنين بموالاة أعدائهم ، تعليل آخر على ما قيل يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها ، وقيل : هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة ، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه ، وقوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق ـ كعبد الله بن أبيّ وأضرابه ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه ؛ وبما يؤول إليه أمرهم ، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة.

وجوز الكرخي كونها للعطف على (إِنَّ اللهَ) إلخ من حيث المعنى ، والخطاب إما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين ، وإما لكل من له أهلية ، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من المرض والرؤية إما بصرية ، وقوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم ، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل : فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها ، وإيثار كلمة (فِي) على كلمة ـ إلى ـ للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة ، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها.

وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي ، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدي المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول ، وقرئ ـ فيرى ـ بياء الغيبة على أن الضمير ـ كما قال أبو البقاء ـ لله تعالى ، وقيل : لمن يصح منه الرؤية ، وقيل : الفاعل هو الموصول ، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية ، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله : ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى. وقوله عزوجل : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) حال من فاعل يسارعون ، و ـ الدائرة ـ من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها ، وأصلها داورة لأنها من دار يدور ، ومعناها لغة ـ على ما في القاموس ـ ما أحاط بالشيء ، وفي شرح الملخص إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في جميع الجهات ، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى ، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة ، فقيل : إنها حقيقة في الأول ، مجاز في الثاني ، وقيل : بالعكس ، قال البرجندي : وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور ، على أن صيغة الفاعل للنسبة ، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة ؛ فسمي ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا ، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.


وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال : إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول ، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط ، وهاهنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد ، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر ، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها ، وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دولة بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي.

وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه ـ كالجدب والقحط ـ فلا يميروننا ولا يقرضوننا ، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي ، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبئ عن الشك في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) فإن ـ عسى ـ منه عزوجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين ، والمراد بالفتح فتح مكة ـ كما روي عن السدي ـ وقيل : فتح بلاد الكفار ، واختاره الجبائي ، وقال قتادة ومقاتل : هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين ، وأن يأتي في تأويل المصدر ، وهو خبر ـ لعسى ـ على رأي الأخفش ، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات ، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة ، والجلاء لبني النضير عند مقاتل ، وقيل : إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم ، وروي عن الحسن والزجاج ، وقيل : موت رأس النفاق ، وحكي ذلك عن الجبائي (فَيُصْبِحُوا) أي أولئك المنافقون ، وهو عطف على (يَأْتِيَ) داخل معه في حيز خبر عسى ، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم ، والمراد فيصيروا (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من الكفر والشك في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نادِمِينَ) خبر ـ يصبح ـ وبه يتعلق (عَلى ما أَسَرُّوا) وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها ، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه.

وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ ـ عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين ـ قال عمرو : لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة.

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ويقول» بالنصب عطفا على «فيصبحوا» ، وقيل : على (أَنْ يَأْتِيَ) بحسب المعنى كأنه قيل : عسى أن يأتي الله بالفتح (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بإسناد (يَأْتِيَ) إلى الاسم الجليل دون ضميره ، واعتبر ذلك لأن العطف على خبر ـ عسى ـ أو مفعولها يقتضي أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الإخبار به ، أو ليجرى على استعماله ، ولا ضمير فيه هنا ولا ما يغني عنه ، وفي صورة العطف باعتبار المعنى تكون ـ عسى ـ تامة لإسنادها إلى (أَنْ) وما في حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير ، وهذا كما قيل : قريب من عطف التوهم ، وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا ، وجوز بعضهم أن يكون (أَنْ يَأْتِيَ) بدلا من الاسم الجليل ، والعطف على البدل ، و ـ عسى ـ تامة أيضا كما صرح به الفارسي ، وبعضهم يجعل العطف على خبر ـ عسى ـ ويقدر ضميرا أي (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) به ، وذهب ابن النحاس


إلى أن العطف على الفتح وهو نظير ، ولبس عباءة وتقر عيني.

واعترض بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة ، وهو لا يجوز وبأن المعنى حينئذ عسى الله تعالى أن يأتي بقول المؤمنين وهو ركيك وأجيب عن الأول بالفرق بين الإجزاء بالفعل ، والإجزاء بالتقدير ، وعن الثاني بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتي بما يوجب قول المؤمنين من النصرة المظهرة لحالهم.

واختار شيخ الإسلام قدس‌سره ما قدمناه ، ولا يحتاج إلى تكلف مئونة تقدير الضمير لأن ـ فتصبحوا ـ كما علمت معطوف على (يَأْتِيَ) والفاء كافية فيه عن الضمير ، فتكفي عن الضمير في المعطوف عليه أيضا لأن المتعاطفين كالشيء الواحد ، ولا حاجة مع هذا إلى القول بأن العطف عليه بناء على أنه منصوب في جواب الترجي إجراء له مجرى التمني ـ كما قال ابن الحاجب ـ لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون فقط بخلاف الوجه الذي ذكرناه ، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه ، ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي بالنصرة والمعونة ـ كما قالوه ـ فيما حكي عنهم ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره ، والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك ـ قاله شيخ الإسلام ، وغيره ، واختار غير واحد ـ أن المعنى يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) تعالى لليهود (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) والخطاب على التقديرين لليهود إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين ، وعلى الثاني من جهة المقسمين ، وفي البحر أن الخطاب على التقدير الثاني للمؤمنين أي يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل باليهود ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم والتمالؤ على المؤمنين ، وإليه يشير كلام عطاء وليس بشيء كما لا يخفى ، وجملة (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل : إنا معكم ، وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال : حلف زيد لأفعلن وليفعلن ، و (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) منصوب على أنه مصدر ـ لأقسموا ـ من معناه ، والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه ، أو هو حال بتأويل مجتهدين ، وأصله يجتهدون جهد أيمانهم ، فالحال في الحقيقة الجملة ، ولذا ساغ كونه حالا كقولهم : افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الأصل.

وقال غير واحد : لا يبالى بتعريف الحال هنا لأنها في التأويل نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها ، فحاصل المعنى أهؤلاء الذين أكدوا الأيمان وشددوها (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والقسم على المعية في كل حال إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام ، وأن يكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة ، وقد قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة ، ومنه قوله سبحانه : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه : ٢٠] ، أو يجعل هو الخبر والموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدإ ، فالاستفهام حينئذ للتقرير ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ، والمعنى بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكابدة المشاق ، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى ـ قاله شيخ الإسلام ـ وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهي في محل نصب بالقول بتقدير أن


قائلا يقول : ما ذا قال المؤمنون بعد كلامهم ذلك؟ فقيل : قالوا : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إلخ ، والجملة إما إخبارية ، وشهادة المؤمنين بمضمونها على تقدير أن يكون المراد به خسران دنيوي وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ما أملوه من دولة اليهود مما لا إشكال فيه ، وعلى تقدير أن يكون المراد أمرا أخرويا فيحتمل أن يكون باعتبار ما يظهر من حال المنافقين في ارتكاب ما ارتكبوا ، وأن تكون باعتبار إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وإما جملة دعائية ولا ضير في الدعاء بمثل ذلك على ما مرت الإشارة إليه ، وأشعر كلام البعض أن في الجملة معنى التعجب مطلقا سواء كانت من جملة المقول ، أو من قول الله تعالى ، ولعله غير بعيد عند من يتدبر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) شروع في بيان حال المرتدين على الإطلاق بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى ، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين ، وفصل مصير من يواليهم من المنافقين قيل : وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها ، فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار ـ وهو الأسود العنسي ـ كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن ، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله ، وأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد ، وأتى خبره في شهر ربيع الأول ، وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلام عليك ، أما بعد : فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون ، فقدم عليه عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك فحين قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابه ، قال لهما : فما تقولان أنتما؟ قال : نقول كما قال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ، ثم كتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، وكان ذلك في سنة عشر فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس ، وقيل : اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي وضربه عبد الله بسيفه ، وهو القائل :

يسائلني الناس عن قتله

فقلت : ضربت ، وهذا طعن

في أبيات ، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام ، فأسلم وحسن إسلامه ، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، فزارة قوم عيينة بن حصين ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة ، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد ، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه ـ وهم غسان ـ قوم جبلة ابن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته ، وقيل : إنه أسلم ، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه : إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه ، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص ، فقال : أتقتص مني وأنا ملك ، وهو سوقة؟! فقلت : شملك وإياه الإسلام فما تفضله


إلا بالعافية ، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا ، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد :

تنصرت بعد الحق عارا للطمة

ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر

فأدركني منها لجاج حمية

فبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني

صبرت على القول الذي قاله عمر

هذا واعترض القول بأن هذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها بأن من شرطية ، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله أن يستعمل في الأمور المفروضة ، وأجيب بأن الشرط قد يستعمل في الأمور المحققة تنبيها على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي أن تدرج في الفرضيات وهو كثير ، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا ، وقرأ نافع وابن عامر ـ ومن يرتدد ـ بفك الإدغام وهو الأصل لسكون ثاني المثلين ، وهو كذلك في بعض مصاحف الإمام ، وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) جواب (مَنْ) الشرطية الواقعة مبتدأ ، واختلف في خبرها ، فقيل : مجموع الشرط والجزاء ، وقيل : الجزاء فقط فعلى الأول لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه ، وعلى الثاني يحتاج إليه وهو هنا مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ) محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده (وَيُحِبُّونَهُ) أي يميلون إليه جل شأنه ميلا صادقا فيطيعونه في امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، وهو معطوف على (يُحِبُّونَهُ) ، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه ، وفي الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه ، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم ، وأما ما يعتقده أجهل الناس ـ وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة ـ وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء ـ شيئا ، وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المرد إن الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه‌السلام ، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا ، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات ، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامه.

وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر ، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا ـ مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤ ، الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧].

وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في الانتصاف أنه لا شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب ، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا ، فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في المطعوم. ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك ، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرئاسة والعلوم وما يجري


مجراها ، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس ، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برئاسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرئاسة على أقاليم معتبرة ، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات ، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق ، فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم ، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن ، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات ، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه ، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم ، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عزوجل بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها ، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أعددت لها؟ قال : ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : المرء مع من أحب» فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب ، وأقرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، ثم أثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا ، فهو المحبة البالغة المتأكدة ، والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال : أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما قاله بعض ساداتنا الحنفية ـ في حيز المنع عندي ، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره ، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رئاسة أو جاه أو نحو ذلك ، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء.

قال حجة الإسلام الغزالي روّح الله تعالى روحه : والمحبون الله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) [هود : ٣٨] انتهى ، مع أدنى زيادة ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد ، وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة ، وقد قدمنا طرفا من الكلام في هذا المقام فتذكر.

والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده ، والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري ـ وهو من صميم اليمن ـ وقال : هم قوم هذا ، وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة ، وعن السدي أنهم الأنصار ، وقيل : هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس ، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر ، وقال الإمامية : هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين ، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه ، ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة ، وقيل : هم الفرس لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ، وقال : هذا وذووه ، وتعقبه العراقي قائلا : لم أقف على خبر فيه ، وهو هنا وهم ، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد: ٣٨] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) عاطفين عليهم متذللين لهم ، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل ، وكان الظاهر أن يقال : أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له ، ولا يقال : تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدي بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها ، وقيل : للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.


ولعل المراد بذلك أنه استعيرت (عَلَى) لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة ، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء ، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو ـ يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع ـ لا يخفى ما فيه ، لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه ، وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى ـ لقوم ـ ومع علو طبقتهم إلخ تفسير لقوله سبحانه (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وخافضون إلخ تفسير ـ لأذلة ـ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقيل : عديت الذلة بعلى لأن العزة في قوله تعالى : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) عديت بها كما يقتضيه استعمالها ، وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة ، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير ، وقيل : لأن العزة تتعدى بعلى ، والذلة ضدها ، فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جني وغيره ، وجر «أذلة» و «أعزة» على أنهما صفتان ـ لقوم ـ كالجملة السابقة ، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة ، وقد جاء ذلك في غير ما آية ، ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف ، ومعنى كونهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه ، ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم ، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به على حد قوله :

جلوس في مجالسهم رزان

وإن ضيف ألمّ فهم خفوف

وقرئ «أذلة» و «أعزة» بالنصب على الحالية من ـ قوم ـ لتخصيصه بالصفة (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بالقتال لإعلاء كلمته سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه ، وهو صفة أخرى ـ لقوم ـ مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم ، وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في (أَعِزَّةٍ) أي يعزون مجاهدين ، وأن يكون مستأنفا (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فيما يأتون من الجهاد أو في كل ما يأتون ويذرون ، وهو عطف على (يُجاهِدُونَ) بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة والتصلب في الدين ، وفيه تعريض بالمنافقين ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (يُجاهِدُونَ) أي يجاهدون وحالهم غير حال المنافقين ، والتعريض فيه حينئذ أظهر ، وقيل : إنه على الأولى لا تعريض فيه بل هو تتميم لمعنى (يُجاهِدُونَ) مفيد للمبالغة والاستيعاب وليس بشيء ، واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي ـ بلا أو ـ ما ـ كالمثبت في عدم جواز دخول الواو عليه ، وأجيب بأن ذلك مبني على مذهب الزمخشري القائل بجواز اقتران المضارع المنفي ـ بلا ، وما ـ بالواو ، فإن النحاة جوزوه في المنفي ـ بلم ، ولما ـ ولا فرق بينهما ، و ـ اللومة ـ المرة من اللوم أي الاعتراض وهو مضاف لفاعله ، وأصل لائم لاوم فاعل كقائم ، وفي اللومة مع تنكير لائم مبالغتان على ما قيل ، ووجه ذلك العلامة الطيبي بأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم ، ثم إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوّام ، فيكون هذا تتميما في تتميم أي لا يخافون شيئا من اللوم من أحد من اللوّام.

وقيل عليه : بأنه كيف يكون (لَوْمَةَ) أبلغ من لوم مع ما فيها من معنى الوحدة ، فلو قيل : لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس ، وأتي بالتاء للإشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة ، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه ، وقد يقال : إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف لا بعضها كما قيل ، والإفراد لما تقدم ، وكذلك ما فيه من معنى البعد (فَضْلُ اللهِ) أي لطفه وإحسانه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به (وَاللهُ


واسِعٌ) كثير الفضل ، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه (عَلِيمٌ) مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل الفضل ومحله ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات على ما قاله بعض العارفين : إنا (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) يحتمل أن يكون الكتاب الأول إشارة إلى علم الفرقان ، والثاني إشارة إلى علم القرآن ، والأول هو ظهور تفاصيل الكمال ، والثاني هو العلم الإجمالي الثابت في الاستعداد ، ومعنى كونه (مُهَيْمِناً عَلَيْهِ) حافظا عليه بالإظهار ، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى ما بين أيدينا من المصحف ، والثاني إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التي دعوتها للظاهر ، والإنجيل الذي دعوته للباطن ، وكتابنا مشتمل على الأمرين حافظ لكل من الكتابين (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل الوحدة التي انكشفت عليك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في تغليب أحد الجانبين إما الظاهر ، وإما الباطن (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) موردا كمورد النفس ومورد القلب ، ومورد الروح (وَمِنْهاجاً) طريقا كعلم الأحكام والمعارف التي تتعلق بالنفس وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات ، وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة الذات ، وقال بعضهم : إن لله سبحانه بحارا للأرواح وأنهارا للقلوب ، وسواقي للعقول ، ولكل واحد منها شرعة في ذلك ترد منها كشرعة العلم. وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعة المحبة إلى غير ذلك ، وله عزوجل طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس‌سره ، والمراد بها الطرق الشخصية لا مطلقا وكلها توصل إليه سبحانه ، وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم ، وقد قال جلّ وعلا : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة : ٦٠ الأعراف : ١٦٠] وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين في ذلك ، وقلما يتفق اثنان في مشرب ومنهج ، ومن هنا ينحل الإشكال فيما حكي عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قدس‌سره أنه قال : ـ لا زلت أسير في مهامه القدس حتى قطعت الآثار فلاح لي أثر قدم من بعيد فكادت روحي تزهق فإذا النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ظاهره يقتضي سبقه للأنبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى ، ووجهه أنه قدس‌سره قطع الآثار في الطريق الذي هو فيه ، وذلك يقتضي السبق على سالكي ذلك الطريق لا غير ، فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق ، وهذا أحسن ما يخطر لي في الجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربي ، ومشارب القوم شتى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين في المشرب والطريق (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي الأمور الموصلة لكم إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل «إلى الله مرجعكم» في عين جمع الوجود على حسب المراتب (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وذلك بإظهار آثار ما يقتضيه ذلك الاختلاف (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) حسب ما تقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد (بِما أَنْزَلَ اللهُ) إليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ) فتقصر على الظاهر البحت أو الباطن المحض وتنفي الآخر (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) كذنب حجب الأفعال لليهود وذنب حجب الصفات للنصارى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) وأنواع الفسق مختلفة ، ففسق اليهود خروجهم عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس أفعالها ، وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها ، والفسق الذي يعتري بعض هذه الأمة الالتفات


إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) وهو الحكم الصادر عن مقام النفس بالجهل لا عن علم إلهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) الحق فيحتجب ببعض الحجب (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ) في الأزل لا لعلة (وَيُحِبُّونَهُ) كذلك ومرجع المحبة التي لا تتغير عند الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطي ، وطعن فيه ـ كما قدمنا ـ الزمخشري ، وحيث أحبهم ـ ولم يكونوا إلا في العلم ـ كان المحب والمحبوب واحدا في عين الجمع.

وقال السلمي : إنهم بفضل حبه لهم أحبوه وإلا فمن أين لهم المحبة لله تعالى وما للتراب ورب الأرباب؟! وشرط الحب ـ كما قال ـ أن يلحقه سكرات المحبة ، وإلا فليس بحب حقيقة ، وقالت أعرابية في صفة الحب : خفي أن يرى وجل أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر ، وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب القديم جل شأنه ، والكلام في ذلك طويل (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) المحجوبين لضد ما ذكر (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب المشاهدة (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) لفرط حبهم الذي هو الرشاد الأعظم للمتصف به :

وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه

هانت عليه ملامة العذال

بل إذا صدقت المحبة التذ المحب بالملامة كما قيل :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمني اللوّم

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) الذي لا يدرك شأواه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده الذين سبقت لهم العناية الإلهية (وَاللهُ واسِعٌ) الفضل (عَلِيمٌ) حيث يجعل فضله ، نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بفضله الواسع وجوده الذي ليس له مانع ، ثم إنه سبحانه لما قال : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) وعلله بما علله ، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر ، فقال عزوجل : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فكأنه قيل : لا تتخذوا أولئك أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى الغير ، وأفرد الولي مع تعدده ليفيد كما قيل : إن الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالتبع ، فيكون التقدير إنما وليكم الله سبحانه وكذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا ، فيكون في الكلام أصل وتبع لا أن (وَلِيُّكُمُ) مفرد استعمل استعمال الجمع كما ظن صاحب الفرائد ، فاعترض بأن ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعا ، ثم قال : ويمكن أن يقال : التقدير (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أولياؤكم فحذف الخبر لدلالة السابق عليه ، وفائدة الفصل في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليا ، ثم بجعله إياهم أولياء ، ففي الحقيقة هو الولي انتهى.

ولا يخفى على المتأمل أن المآل متحد والمورد واحد ، ومما تقرر يعلم أن قول الحلبي ، ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل ، وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد ـ كصديق ـ غير واقع موقعه لأن الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ ، ولا يرد على ما قدمنا أنه لو كان التقدير كذلك لنا في حصر الولاية في الله تعالى ثم إثباتها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، لأن الحصر باعتبار أنه سبحانه الولي أصالة وحقيقة ، وولاية غيره إنما هي بالإسناد إليه عز شأنه (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بدل من الموصول الأول ، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل


والوصف لا يوصف إلا بالتأويل ، ويجوز أن يعتبر منصوبا على المدح ، ومرفوعا عليه أيضا ، وفي قراءة عبد الله «ـ و ـ الذين يقيمون الصلاة» بالواو (وَهُمْ راكِعُونَ) حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى.

وقيل : هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة ، والركوع ركوع الصلاة ، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه ، وغالب الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه ، فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متصل قال : «أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس وإن قومنا لما رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما وليكم الله ورسوله ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل ، فقال : هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال : نعم خاتم من فضة ، فقال : من أعطاكه؟ فقال : ذلك القائم ، وأومأ إلى علي كرم الله تعالى وجهه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على أي حال أعطاك؟ فقال : وهو راكع ، فكبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم تلا هذه الآية» فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحيك المحبر ضائعا

وما المدح في جنب الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا

زكاة فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وأثبتها أثنا كتاب الشرائع

واستدل الشيعة بها على إمامته كرم الله تعالى وجهه ، ووجه الاستدلال بها عندهم أنها بالإجماع أنها نزلت فيه كرم الله تعالى وجهه ، وكلمة (إِنَّما) تفيد الحصر ، ولفظ الولي بمعنى المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وظاهر أن المراد هنا التصرف العام المساوي للإمامة بقرينة ضم ولايته كرم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره ، وإلا لبطل الحصر ، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع ، فقد جاء في غير ما موضع ؛ وذكر علماء العربية أنه يكون لفائدتين : تعظيم الفاعل وأن من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢] ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله ، وتعظيم الفعل أيضا حتى أن فعله سجية لكل مؤمن ، وهذه نكتة سرية تعتبر في كل مكان بما يليق به.

وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه : الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل بزعمهم على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير ، فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لا يخفى ، ولا يمكن أن يقال : الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه لأنا نقول : إن حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقيا ، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كرم الله تعالى وجهه ، وإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الولاية في الأمير كرم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات أعني وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم «قلنا» فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماما لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثة ، ولا بعده وهو زمان خلافة من ذكر.


«فإن قالوا» إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه لما لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية «يقال» هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه على مقدمتين : الأول أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر ـ ولو في وقت من الأوقات ـ غير مستقل بالولاية نقص له ، والثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص ما بأي وجه وأي وقت كان ، وكلتاهما لا يفهمان من الآية أصلا كما لا يخفى على ذي فهم ، على أن هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه ، بل وبالأمير أيضا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني أنا لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير كرم الله تعالى وجهه ، فقد اختلف علماء التفسير في ذلك ، فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في المهاجرين والأنصار ، وقال قائل : نحن سمعنا أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه ، فقال : هو منهم يعني أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن أبي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضا نحو ذلك ، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية ، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، والثالث أنا لا نسلم أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما ، بل المراد به الناصر لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ما ذكره ، ولا يأباه الضم كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته ، ومن أنصف نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) آب عن حمل الولي على ما يساوي الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما ، وإنما اتخذوا أنصارا وأحبابا ، وكلما (إِنَّما) المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ؛ بل كان في النصرة والمحبة ، والرابع أنه لو سلّم أن المراد ما ذكروه فلفظ الجمع عام ، أو مساو له ـ كما ذكره المرتضى في الذريعة ، وابن المطهر في النهاية ـ والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان ، فمفاد الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل لا يصح ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.

«فإن قالوا» : الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه «قلنا» ليست الآية نصا في كون التصدق واقعا في حال ركوع الصلاة لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشع والتذلل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع كما في قوله :

لا تهين الفقير علك أن

تركع يوما والدهر قدر رفعه

وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضا كما قيل في قوله سبحانه : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع ، وكذا في قوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً) [ص : ٢٤] وقوله عزوجل (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) [المرسلات : ٤٨] على ما بينه بعض الفضلاء ، وليس


حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدق ، وهو لازم على مدعى الإمامية قطعا.

وقال بعض منا أهل السنة : إن حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالا من فاعل (يُؤْتُونَ) يوجب قصورا بينا في مفهوم (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تؤثر قصورا في معنى إقامة الصلاة البتة ، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك انتهى.

وبلغني أنه قيل لابن الجوزي رحمه‌الله تعالى : كيف تصدّق علي كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة والظن فيه ـ بل العلم الجازم ـ أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلق بها ، وقد حكي مما يؤيد ذلك كثير ، فأنشأ يقول :

يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته

عن النديم ولا يلهو عن الناس

أطاعه سكره حتى تمكن من

فعل الصحاة فهذا واحد الناس

وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس‌سره عن أصل الاستدلال بأن الدليل قائم في غير محل النزاع ، وهو كون علي كرم الله تعالى وجهه إماما بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير فصل لأن ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب ، لأن ذلك عهد النبوة ، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا لم يكن زمان الخطاب مرادا تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حدّ للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد مضي زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامية ، ومن العجائب أن صاحب إظهار الحق قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح الاستدلال بزعمه ، ولم يأت بأكثر مما يضحك الثكلى وتفزع من سماعه الموتى ، فقال : إن الأمر بصحبة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون بطريق الوجوب لا محالة ، فالأمر بمحبة المؤمنين المتصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضا كذلك إذ الحكم في كلام واحد يكون موضعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا وإلا لزم استعمال اللفظ بمعنيين ، فإذا كانت محبة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لأن معرفة كل منهم ليحب ويوالي مما لا يمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه ، وأيضا قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة فتعين أن يراد منهم البعض ، وهو على المرتضى كرم الله تعالى وجهه انتهى.

ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى وكيف استنتاج المتعين من المطلق ، وأيضا لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة ، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة ، والبغض لسبب غير ضار فيها ، وأيضا ما ذا يقول في قوله سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] الآية ، وأيضا ما ذا يجاب عن معاداة الكفار وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا. وأنت تعلم أن ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة مما لا شك في وقوعها فضلا عن إمكانها ، والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك ، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس إذ الأولى أصل ، والثانية تبع والثالثة تبع التبع ، فالمحمول مختلف ، ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور العامة وكالعوارض المشككة ، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته ، فالموجود في الخارج


الواجب والجوهر ، والعرض مع أن نسبة الوجود إلى كل غير نسبته إلى الآخر ، والجهة مختلفة بلا ريب ، وهذا قوله سبحانه : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يونس : ١٠٨] مع أن الدعوة واجبة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مندوبة في غيره ، ولهذا قال الأصوليون : القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم ، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة ، ثم انه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء (إِنَّما) له بأنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستخلاف ، فقد روى الترمذي عن حذيفة «أنهم قالوا : يا رسول الله لو استخلفت؟ قال : لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرءوه» وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمن يكون إماما بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج أحمد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا عليا ـ ولا أراكم فاعلين ـ تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم» وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزول الآية ، فلم يبطل مدلول (إِنَّما) انتهى ، وفيه أن محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد ، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جواب ما سألوه لتحقق المدلول ، وليس فليس ، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض ـ لإنما ـ ولا من مقاماته بل هو من مقامات ـ إن ـ والفرق مثل الصبح ظاهر ، وأيضا لو سلمنا التردد ، ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا ، ولا بد من إثبات القبيلة والاتصال والسببية ، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال.

وبعد هذا كله الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين ، فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن أو بالعكس لزم التكذيب ، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر ، ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل.

فإن قالوا : الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في باب الإمامة «قلنا» وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسك بالآية ، والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه ـ كما تفهمه الآية بزعمهم ـ تركه ، وهم لا يجوزونه فتأمل ، وذكر الطبرسي في مجمع البيان وجها آخر غير ما ذكره صاحب إظهار الحق في أن الولاية مختصة ، وهو أنه سبحانه قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) فخاطب جميع المؤمنين ، ودخل في الخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره ، ثم قال تعالى : (وَرَسُولُهُ) فأخرج نبيه عليه الصلاة والسلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ، ثم قال جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية ، وإلا لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وأن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه وذلك محال انتهى.

وأنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه ، وكيف يتوهم من قولك مثلا : أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهي لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه ، وفي الخبر أيضا «صوموا يوم يصوم الناس» ولا يختلج في القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس ، ومثل ذلك كثير في كلامهم ، وما قدمناه في سبب النزول ظاهر في أن المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه ، وعليه لا إشكال إلا أن ذلك لا يعتبر مخصصا كما لا يخفى ، فالآية على كل حال لا تدل على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية ، وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية.


(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ومن يتخذهم أولياء ، وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) حيث أضيف الحزب ـ أي الطائفة والجماعة مطلقا ، أو الجماعة التي فيها شدة ـ إليه تعالى خاصة ؛ وفي هذا ـ على رأي وضع الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى (مَنْ) أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى ـ تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل : ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون.

والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ورتب سبحانه النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة ، والهزؤ ـ كما في الصحاح ـ السخرية ، تقول : هزئت منه ، وهزئت به ـ عن الأخفش ـ واستهزأت به وتهزأت ، وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة ـ عن أبي زيد ـ ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به ، وهزأة بالتحريك يهزأ بالناس ، وذكر الزجاج أنه يجوز في (هُزُواً) أربعة أوجه : الأول ـ «هزؤ» ـ بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود ، والثاني ـ «هزو» ـ بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ما قبلها ، والثالث ـ «هزأ» ـ بإسكان الزاي مع الهمزة ، والرابع ـ هزى ـ كهدى ، ويجوز القراءة بما عدا الأخير ، و ـ اللعب ـ بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب ، واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين ، والتلعاب مصدر لعب كسمع ، وهو ضد الجد كما في القاموس ، وفي مجمع البيان : هو الأخذ على غير طريق الجد ، ومثله العبث ، وأصله من لعاب الصبي يقال : لعب كسمع ، ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة ، والمصدران : إما بمعنى اسم المفعول ، أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة ، وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) في موضع الحال من (الَّذِينَ) قبله ، أو من فاعل ـ اتخذوا ـ والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم (هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ) أي المشركين ، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم ، وهو عطف على الموصول الأول ، وعليه لا تصريح باستهزائهم هنا ، وإن أثبت لهم في آية (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] إذ المراد بهم مشركو العرب ، ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداء ، وقرأ الكسائي وأهل البصرة (وَالْكُفَّارَ) بالجر عطفا على الموصول الأخير ، ويعضد ذلك قراءة أبيّ ـ ومن الكفار ـ وقراءة عبد الله «ومن الذين أشركوا» فهم أيضا من جملة المستهزئين صريحا ، وقوله تعالى : (أَوْلِياءَ) مفعول ثاني ـ للا تتخذوا ـ والمراد جانبوهم كل المجانبة (وَاتَّقُوا (١) اللهَ) في ذلك بترك موالاتهم ، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة (وَإِذا نادَيْتُمْ) أي دعا بعضكم بعضا (إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها) أي الصلاة ، أو المناداة إليها (هُزُواً وَلَعِباً).

أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا ، فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزءوا بهم وضحكوا منهم ، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي ـ أشهد أن محمدا رسول الله ـ قال : حرق الكاذب ، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله ، والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد


بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم (ذلِكَ) أي الاتخاذ المذكور (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به ، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة ، قيل : وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده ، واعترض بأن قوله سبحانه : (وَإِذا نادَيْتُمْ) لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال : حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرا له ، قال في الكشف : أقول فيه : إن اتخاذ المناداة (هُزُواً) منكر من المناكير لأنها من معروفات الشرع ، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي كانوا عليها حق مشروع منه تعالى ، وهو المراد بثبوته بالنص بعد أن ثبت ابتداء بالسنة ، ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث بطوله ، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة ، والمائدة من آخر القرآن نزولا ، وقوله : لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لا مؤثرات وموجبات ؛ وترادف المعرفات لا ينكر انتهى ، ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه من المكابرة الظاهرة ، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه : حي على الصلاة حي على الفلاح.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن قول المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر ، ووصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) أي هل تنكرون وتعيبون منا ، وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حد ضرب ، وقرأ الحسن (تَنْقِمُونَ) بفتح القاف من حدّ علم ، وهي لغة قليلة ، وقال الزجاج : يقال : نقم بالفتح والكسر ، ومعناه


بالغ في كراهة الشيء ، وأنشد لعبد الله بن قيس :

ما نقموا من بني أمية

إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وفي النهاية يقال : نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط ، ويقال : نقم من فلان الإحسان إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة ، ومنه حديث الزكاة «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى» أي ما ينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة ، فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى ، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لا يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله : ونشتم بالأفعال لا بالتكلم. وهو كما قال الشهاب : مما يعدى ـ بمن ، وعلى ـ وقال أبو حيان : أصله أن يتعدى بعلى ، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه ، وهنا فعل بمعنى افتعل ولم يذكر له مستندا في ذلك (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن المجيد. (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أي متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر ، فإن الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى ، والواو للعطف وما بعدها عطف على (أَنْ آمَنَّا).

واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له ـ لتنتقمون ـ والمفعول به الدين وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة ، فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره ، والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه ، خلا أنه في معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه ، فالاستثناء على هذا من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به ، وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئا ولا أرى فيه بأسا ، وقيل : العطف على (أَنْ آمَنَّا) باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما يلزمهما من المخالفة ، فكأنه قيل : هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون ، وقيل : العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) وبأن أكثركم كافرون ، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله.

وقيل : العطف على علة محذوفة ، وقد حذف الجار في جانب المعطوف ، ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون ، وقيل : هو منصوب بفعل مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون إن أكثركم فاسقون ، وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، ويقدر مقدما عند بعض لأن (أَنْ) المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر.

وقال أبو حيان : إن (أَنْ) لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط ، وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها ، والجملة على التقديرين حالية ، أو معترضة أي وفسقكم ثابت أو معلوم ، وقيل : الواو بمعنى مع أي هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم إلخ.

وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل ، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين ، نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة في الوجود مستدلا بقولهم : سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس ، وبحث فيه بأن


ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو بمعنى مع ، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف.

وقيل : الواو زائدة «وأن أكثركم» إلخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون.

وقرأ نعيم بن ميسرة «وإن أكثركم» بكسر الهمزة ، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين ، والمراد بالأكثر من لم يؤمن (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف ، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها ، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد ، وخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين ، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به ، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر ، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم ، واعتبرت الشرّية بالنسبة إليه ـ مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية ـ مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته ، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر ، من كل شر ، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها البتة لجواز كون العيب من جهة العائب :

فكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها ، وقيل : إنما قال : (بِشَرٍّ) لوقوعه في عبارة المخاطبين ، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير ، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال : أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به ، ثم قالوا ـ كما في رواية الطبراني ـ لا نعلم دينا شرا من دينكم ، فأنزل الله تعالى الآية ، وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين ـ بأنبئكم ـ هم أهل الكتاب. وقال بعضهم : المخاطب هم الكفار مطلقا ، وقيل : هم المؤمنون ، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك ، فالجمهور على ما قدمناه ، وقيل : الإشارة إلى الأكثر الفاسقين ، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره ، وليس كالضمير ، أو لتأويله بالمذكور ونحوه.

وقيل : الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب ، والمراد أن السلف شر من الخلف (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي جزاء ثابتا عنده تعالى ، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب ، ويقال في الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] حيث لم يقل سبحانه ـ يرى جزاءه ـ إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير ، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التحكم كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع. ونصبها على التمييز من (بِشَرٍّ) ، وقيل : يجوز أن تجعل مفعولا له ـ لأنبئكم ـ أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء ، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم ، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها ، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر ، وقرئ «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، ومثلها مشورة. ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة ، وقوله سبحانه : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) خبر لمبتدإ محذوف بتقدير مضاف قبله


مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله إلخ ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك ، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية ـ كما قال الزجاج ـ إما على حالها ـ أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل : ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل : هو دين من لعنه إلخ ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل : هو من لعنه الله إلخ.

وجوز ـ ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل ـ أن يكون بدلا من شر ، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا ، والاحتياج إليه هاهنا ـ ليخرج من كونه بدل ـ غلط ، وهو لا يقع في فصيح الكلام ، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى ، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه ، والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أي مسخ بعضهم قردة ـ وهم أصحاب السبت ـ وبعضهم خنازير ـ وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام ـ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت ، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ، وضمير (مِنْهُمُ) راجع إلى ـ من ـ باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه ، وكذا الضمير في قوله سبحانه : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فإنه عطف على صلة ـ من ـ كما قال الزجاج ، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد ، وهو معطوف على منصوب (جَعَلَ) أي وجعل منهم من عبد إلخ ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين ، والمراد بالطاغوت ـ عند الجبائي ـ العجل الذي عبده اليهود ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان ، وقيل : الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى ، والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة ، قال شيخ الإسلام : وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان ، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد ، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به ، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية. ولو روعي ترتيب الوجود ، وقيل : من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه إلخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى.

وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي ، وأن كون الاتصاف ـ باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود به ـ في حيز المنع ، كيف وهم يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] إلا أن يقال : إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة ، وقيل : قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون ، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم ؛ وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك ، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالا ، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي ، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام ، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ما قال : والمراد من الطاغوت العجل ، وقيل : الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى ، فيعم الحكم دين النصارى أيضا ، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراك الفريقين في تلك العقوبات انتهى ، فتدبر حقه.

وفي الآية كما قال جمع : عدة قراءات اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ ، فقرأ الجمهور غير حمزة «عبد» على


صيغة الماضي المعلوم ، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها ، وقرأ حمزة «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال ، وخفض الطاغوت على أن (عَبَدَ) واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة ، ولذا قال الزمخشري : معناه الغلو في العبودية ، وأنشد عليه قول طرفة:

أبني لبني إن أمكم

أمة وإن أباكم عبد

أراد عبدا ، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا : ضمت الباء للمبالغة ، كقولهم ، للفطن والحذر : فطن وحذر ، بضم العين ، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة ، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم ، والنصب بالعطف على (الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) وقرئ (وَعَبَدَ) بفتح العين وضم الباء. وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة ، والعطف على ـ من ـ بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف ، أو بالبدلية على ما قيل ، ولم يرتض.

وقرأ أبيّ «عبدوا» بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها ، والعطف مثله في قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن «عباد» جمع عبد «وعبد» بالإفراد بجر «الطاغوت» ونصبه ، والجر بالإضافة ، والنصب إما على أن الأصل «عبد» بفتح الباء ، أو عبد بالتنوين فحذف كقوله. ولا ذاكر الله إلا قليلا. بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر ، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان «عبد» على صيغة الماضي المجهول مع رفع «الطاغوت» على أنه نائب الفاعل ، والعطف على صلة ـ من ـ وعائد الموصول محذوف أي (عَبَدَ) فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث ، فقرأ «عبدت» بتاء التأنيث الساكنة ، والطاغوت : يذكر ويؤنث كما مر ؛ وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل.

وقرأ ابن مسعود «عبد» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية ـ لعبد ـ وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له ، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا ، والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «عبد» بضم العين والباء وفتح الدال ، وجر «الطاغوت» فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع. أو جمع عابد ـ كشارف وشرف ـ أو جمع عبد كسقف وسقف. أو جمع عباد ـ ككتاب وكتب ـ فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر.

وقرأ الأعمش أيضا «عبّد» بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر «الطاغوت» جمع عابد وعبد ـ كحطم وزفر ـ منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا «عبّد» بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال ، ونصب «الطاغوت» على حد :

ولا ذاكر الله إلا قليلا

بنصب الاسم الجليل ، وقرئ «وعابد الشيطان» بنصب عابد ، وجر الشيطان بدل الطاغوت ، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرئ ـ «عباد» ـ كجهال ـ «وعباد» ـ كرجال جمع عابد أو عبد ، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم ، وقرئ «عابد» بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر ، وجر «الطاغوت» وقرئ «عابدوا» بالجمع والإضافة ، وقرئ «عابد» منصوبا ، وقرئ «عبد الطاغوت» بفتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله :

وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا

أي عدته كإقام الصلاة ، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد ـ كخادم وخدم ـ وقرئ «أعبد» كأكلب ، وعبيد جمع أو اسم جمع ، «وعابدي» جمع بالياء ، وقرأ ابن مسعود أيضا «ومن عبدوا» (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك القبائح


والفضائح وهو مبتدأ ، وقوله سبحانه : (شَرٌّ) خبره ، وقوله تعالى : (مَكاناً) تمييز محول عن الفاعل ، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم ، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم : سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه ، فكأن شرهم أثر في مكانهم ، أو عظم حتى صار مجسما.

وجوّز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر ، وقيل : يجوز أن يكون المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفا ، والمراد به جهنم وبئس المصير ، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال ، وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام ، وتشديدا للتبكيت ، وجعلها ـ جوابا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق ـ مما لا يكاد يستقيم.

(وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل ، وهو دين الإسلام والحنيفية ، وهو عطف على (شَرٌّ) مقرر له ، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم ، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه ، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك ، وقيل : للتفضيل على زعمهم وقيل : إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار.

وقال بعضهم : لا مانع أن يقال : إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) نزلت ـ كما قال قتادة والسدي ـ في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا ، فالخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجمع للتعظيم ، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاءوكم أظهروا لكم الإسلام.

(وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك ، والجملتان في موضع الحال من ضمير (قالُوا) على الأظهر.

وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في آمنا ، وباء بالكفر ، و (بِهِ) للملابسة ، والجار والمجرور حالان من فاعل (دَخَلُوا) و (خَرَجُوا) والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال ، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول : إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا ، ودخول (قَدْ) في الجملة الحالية الماضوية ـ كما قال العلامة الثاني ـ لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة ، وإلا ـ فقد ـ إنما تقرب إلى حال التكلم ، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في حاشية المتوسط من أنه قيل : إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم ، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله ، فإن كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى ، وإن كان حالا كان حالا ، وإن كان مستقبلا كان مستقبلا ، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر ـ وهو الذي يقابل الماضي ـ وبين ما يبين الحالة المذكورة ، ثم قال : ويمكن أن يقال : إن الفعل إذا وقع قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد ، فإذا قيل : جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه ، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في شرح القواعد ، ثم قال : وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة (قَدْ) لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي انتهى.

ولذلك زيادة تفصيل في محله ، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته ـ أفرغ من يد تفت البرمع ـ لم يعلق بهم شيء


مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عزوجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ ، ولذلك قال سبحانه : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) وفيه من الوعيد ما لا يخفى ، وفي الكشاف إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه ، فدخل حرف التوقع لذلك ، واعترضه الطيبي بأن (قَدْ) موضوعة لتوقع مدخولها ، وهو هاهنا عين النفاق ، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا ، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله : «إن أمارات النفاق» إلخ فيجب المصير إلى المجاز ، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه ، وقال في الكشف معرضا به : إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له ، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره ، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل ، وإنما لم يقل سبحانه و (قَدْ خَرَجُوا) على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية ، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من أولئك اليهود ـ كما روي عن ابن زيد ـ والخطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب ، والرؤية بصرية ، وقيل : قلبية ، وقوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) في موضع الحال من (كَثِيراً) الموصوف بالجار والمجرور ، وقيل : مفعول ثان ـ لترى ـ والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة ، وإيثار (فِي) على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه ، وإحاطته بأعمالهم ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.

والمراد بالإثم الحرام ، وقيل : الكذب مطلقا ، وقيل : الكذب بقولهم (آمَنَّا) لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم ، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه ، وقيل : المراد به الكفر ، وروي ذلك عن السدي ، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل ، والمراد من العدوان الظلم ، أو مجاوزة الحد في المعاصي ، وقيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم ، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام مطلقا ، وقال الحسن : الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور ـ فما ـ نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في ـ بئس ـ والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه ، وجوز جعل (ما) موصولة فاعل ـ بئس ـ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) قال الحسن : الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة ، وقال غيره : كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم ، و (لَوْ لا) الداخلة على المضارع ـ كما قرره ابن الحاجب وغيره ـ للتحضيض ، والداخلة على الماضي للتوبيخ ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم ، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.

(عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) مع علمهم بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما ، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا ، فإن


كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة ، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ ، ولذا يقال للحاذق ، صانع ، وللثوب الجيد النسج : صنيع ـ كما قاله الراغب ـ ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب ، ووجه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له ، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من الزانيين.

واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد ، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا ، أو غيرهما ، وقال الشهاب : إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار ، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل ، وفي الآية ـ مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ـ ما لا يخفى ، ومن هنا قال الضحاك : ما أخوفني من هذه الآية ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية ، وقرئ ـ لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (وَقالَتِ الْيَهُودُ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعكرمة والضحاك قالوا : إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف عنهم ما كان بسط لهم ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس (يَدُ اللهِ) عزوجل (مَغْلُولَةٌ) وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل ، ولذلك نظائر تقدم كثير منها ، وأرادوا بذلك ـ لعنهم الله تعالى ـ أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، أو كناية عن ذلك ، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله :

أضل صواره وتضيفته

نطوف أمرها بيد الشمال

«وقول لبيد» :

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال : بسط اليأس كفيه في صدر فلان ، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان ، قال الشاعر :

وقد رابني وهن المنى وانقباضها

وبسط جديد اليأس كفيه في صدري

وقيل : معناه أنه سبحانه فقير ، كقوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وقيل : اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا ، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل ، وكأنه حمل اليد على القدرة ، والغل على عدم التعلق.

وقيل : لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة ، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي ، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا ، والأقوال كلها كما ترى ، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير


الحسن ، ولعل نسبته إليه غير صحيحة ، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول ، ولا يبعد من قوم قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] وعبدوا العجل ـ أن يعتقدوا اتصاف الله عزوجل بالبخل ويقولوا ما قالوا ، وقال أبو القاسم البلخي : يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر ، فحكي عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.

وقال آخر : إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه ؛ ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك ، وقيل : إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب ، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا ، ولا يخفى بعده (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بالبخل المذموم ـ كما قال الزجاج ـ ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم ، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق ، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة ، وقيل : تغل الأيدي حقيقة ، يغلون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم ، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا ، وقيل : هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله تعالى دابره ، أي قطعه لأن السبب أصله القطع ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ، واستطيبه الطيبي ، وقال : إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله :

قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت : اطبخوا لي جبة وقميصا

واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة ، وحكاه الطبرسي عن الحسن ، ثم قال : فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو ، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر ، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى ، ومن ذلك قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] ، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني ، ولا حاجة فيه إلى تجشم مئونة التقدير ، على أن كلام الحسن ـ فيما نرى ـ ليس نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك (وَلُعِنُوا) أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه (بِما قالُوا) أي بسبب قولهم ، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع ، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول ، والقائل بخبريته قائل بخيريته ، وقرئ (وَلُعِنُوا) بسكون العين.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود ، وإليه ـ كما قيل ـ أشير بتثنية اليد ، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم ، وقيل : اليد هنا أيضا بمعنى النعمة ، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة ، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام ، وقيل : وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الأولى ، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب ، وقيل : المراد من التثنية التكثير كما في (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] والمراد من التكثير مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة ، ونظير ذلك قول الشاعر :

فسرت أسرة طرتيه فغورت

في الخصر منه وأنجدت في نجده

فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة.

وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم : إن هذا من المتشابه ، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم ، وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أثبت لله عزوجل يدين ، وقال : «وكلتا يديه يمين» ولم يرو عن أحد من أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أنه


أول ذلك بالنعمة ، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا ، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن ، وفي مصحف عبد الله ـ بل يداه بسطان ـ يقال : يد بسط بالمعروف ، ونحوه مشية سجح وناقة سرح (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من (كَيْفَ) وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها ، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد ، وقد اقتضت الحكمة ـ إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يضيق عليهم ، و (كَيْفَ) ظرف ـ ليشاء ـ والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير (يُنْفِقُ) أن ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا ، وقيل : إن جملة (يُنْفِقُ) في موضع الحال من الضمير المجرور في (يَداهُ) واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه ، والحال لا يجيء منه ، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] إذ قيل : إن «شيخا» حال من اسم الإشارة ، والعامل فيه التنبيه ، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا ، وهاهنا المضاف جزء من المضاف إليه ، أو كجزء فليس بممتنع ، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما ، ورد بأنه لا ضمير لهما فيها ، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق بهما ، ومن هنا قيل : بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدإ ، نعم التقدير خلاف الأصل ، والظاهر ، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع ، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) وهم علماؤهم ورؤساؤهم ، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن المشتمل على هذه الآيات ، وتقديم المفعول للاعتناء به (مِنْ رَبِّكَ) متعلق ـ بأنزل ـ كما أن (إِلَيْكَ) كذلك ، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام ـ كما قال شيخ الإسلام ـ الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف ، والموصول فاعل ـ ليزيدن ـ والإسناد مجازي ، و (كَثِيراً) مفعوله الأول ، و (مِنْهُمْ) صفته ، وقوله تعالى : (طُغْياناً وَكُفْراً) مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين ، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها ، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو ، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار ، وهذا كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا ، ويحتمل أن يراد ـ بما أنزل ـ النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم ، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه ، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد ، ولم أر من ذكره.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) أي اليهود.

وقال في البحر : الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى) ولشمول قوله عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) للفريقين ، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد.

(الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم ، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة ، و (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق ، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية


والنسطورية ، وحالهم حالهم في ذلك ، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى ، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم ، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين ، وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير للطائفتين : إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى ، ولا تجتمعان على قتالك وحربك ، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام.

وفرق السمين بين (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق ـ بألقينا ـ وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا ، وليست حقيقة الغاية مرادة ، ولم يجوز أن يتعلق ـ بالعداوة ـ لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين ، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم ، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب ، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، ويسمونها نار الحرب ، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم ، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم ، وحكي في البحر قولين في الآية : فعن قوم أن الإيقاد حقيقة ، وكذا الإطفاء أي إنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفئوها ، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي.

وعن الجمهور أن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة ، والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار ، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين ، ولعل القول بالكناية ألطف منهما ، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد ، وقيل : هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا ، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم عزوجل رسوله عليه الصلاة والسلام ، فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم. وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع ، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر ، وغلب على فدك ، ودان له أهل وادي القرى ، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدا ، وإطفاء النار ـ على هذا ـ عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى ، و (لِلْحَرْبِ) متعلق ـ بأوقدوا ـ واللام للتعليل ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار ، وهو الأوفق بالتسمية (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله ، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب ؛ كتغيير صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك ، و (فَساداً) إما مفعول له وعليه اقتصر أبو البقاء ، أو في موضع المصدر ، أو حال من ضمير (يَسْعَوْنَ) أي يسعون للفساد ، أو سعي فساد ، أو مفسدين.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يبغضهم ، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم ، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ، وإما للعهد ، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد.

والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر ، وجعلها بعضهم في موضع الحال ، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل ، ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط ، وذكر الإنجيل ليس نصا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم ، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم ، والمراد بهم معاصر و


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولا وفعلا (آمَنُوا) بما نفي عنهم الإيمان ، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) [المائدة : ٥٩] إلخ ، وما لحق من قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) إلخ.

وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلزم للكفر بكتابهم ، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم ، وقدر قتادة فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره ، المتعلق بما أنزل الله ، وهو ميل إلى التعميم ، وكذا عمم في قوله تعالى : (وَاتَّقَوْا) فقال : أي ما حرم الله تعالى.

وقال شيخ الإسلام : ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة ، ولم نؤاخذهم بها ، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى ، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) مع ذلك (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، وجعل أبو حيان تكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى ، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، فالآية من باب التوزيع ، والظاهر عدمه ، وتكرير اللام لتأكيد الوعد ، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم ، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد ، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بين جنات الفردوس وجنات عدن ، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة ، قيل : فمن يسكنها؟ قال : الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه ، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي ، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وإن اختلفت مراتب النعيم فيها (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبشرات بعثته ، وليس المراد مراعاة جميع ما فيها من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها ، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ واختاره الجبائي وغيره ، وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل ـ ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال ـ فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختاره أبو حيان ، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم ، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه ، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه ، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل ، وتقديم (إِلَيْهِمْ) لما مر آنفا ، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.

(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها : كما قال سبحانه : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد ، وقيل : المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع ، وقيل : بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض ، وقيل : بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم ، وقيل : المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة ، وجعله الطبرسي نظير قولك : فلان في الخير من


قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها ، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها ، ومفعول ـ أكلوا ـ محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك : فلان يعطي ويمنع ، و (مِنْ) في الموضعين لابتداء الغاية.

وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل ، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي ، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض ، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية والنعيم المقيم ، وخولف بين العبارتين ، فقيل : أولا : (آمَنُوا وَاتَّقَوْا) وثانيا (أَقامُوا) ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل : ويشبه أن يكون (ما) في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم ، فكأنه قيل في حقهم : (لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا) لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا ، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره ، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام ، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله ، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص ، وجعلها كالشرطية الأولى ، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية ـ كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا ـ لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال ، والقول ـ بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم ـ لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.

وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه : (لَأَكَلُوا) إلخ بقوله : لوسع عليهم الرزق ، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها ، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين ، ولو حمل على الترقي ، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى ، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه ، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء ، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين ، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة ـ كما روي عن الربيع ـ وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما قال مجاهد والسدي وابن زيد ـ واختاره الجبائي ، وأولئك ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود ـ وثمانية وأربعون من النصارى ، وقيل : المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل : هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل : (مِنْهُمْ) إلخ ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) وهم الأجلاف المتعصبون ـ ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم ..

(ساءَ ما يَعْمَلُونَ) من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه.


وقيل : من الإفراط في العداوة (وَكَثِيرٌ) مبتدأ ، و (مِنْهُمْ) صفته ، و (ساءَ) كبئس للذم.

وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب ـ كقضو زيد ـ أي ما أقضاه ، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم ، وبعضهم يقول : هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام ، وتمييزها محذوف ، و (ما) موصولة فاعل لها أي ساء عملا الذي يعملونه ، ويجوز أن تكون (ما) نكرة في موضع التمييز ، والجملة الإنشائية خبر للمبتدإ ، والكلام في ذلك شهير.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي صلاة الشهود والحضور الذاتي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي زكاة وجودهم (وَهُمْ راكِعُونَ) أي خاضعون في البقاء بالله.

والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه ، والإمامية ـ كما علمت ـ يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا فصل ، وقد علمت منا ردهم ـ والحمد لله سبحانه ـ رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان ، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة ، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب ، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة ، وبها يذب عن حقيقة الإسلام ، وبالظاهرة يذب عن صورته ، وهي مرتبة القطب في كل عصر ، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام إمارته ، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره ، وهي والنبوة رضيعا ثدي ، وإلى ذلك الإشارة بما يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله : «خلقت أنا وعلي من نور واحد» وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم.

ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عزوجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق ، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم ، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا ، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الترتيب المعلوم ، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل ، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة ، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الأخبار ، وقال بحقيقة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة ، وبعضهم يصرح بذلك ، ويقول : بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال : ليس بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل ، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) على أعدائهم الأنفسية والآفاقية ، وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك» (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك (هُزُواً وَلَعِباً) فطعنوا فيه (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم المقتصرون على الظاهر فقط ـ كاليهود ـ أو على الباطن فقط ـ كالنصارى ـ (وَالْكُفَّارَ)


الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق (أَوْلِياءَ) للمباينة في الأحوال (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) به عز شأنه (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي الحضور في حضرة الرب (اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار ، فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ) وتنكرون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي إنهم انقادوا إليه وخضعوا له ، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم ، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية ، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية (وَقالَتِ الْيَهُودُ) لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر (يَدُ اللهِ) تعالى عما يقولون (مَغْلُولَةٌ) فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار (وَلُعِنُوا) أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية (بِما قالُوا) من تلك الكلمة العظيمة (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ) بهما (كَيْفَ يَشاءُ) فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك ، وإلى الظاهر والباطن أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بالليل والنهار» فيما

أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار» (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (وَاتَّقَوْا) شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم ، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة (وَاتَّقَوْا) الإنكار والاعتراض على من روى من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل :

وإذا لم تر الهلال فسلم

لأناس رأوه بالأبصار

(لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي ارتكبوها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) في مقابلة إيمانهم واتقائهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات (وَالْإِنْجِيلَ) بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية ، وبالأول يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت ، وبالثاني يهتدون إلى معرفة عالم الملك ، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات ، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب ، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في (لَأَكَلُوا) إلخ : أي لوسع عليهم خير الدارين ، وقلت : هذا في حق من عدد سيئاتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل ، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته ، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض ، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر ، واختصاص (مِنْ) الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام : «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله


سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات ، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عزوجل بركات هي أزكى من الأولى ، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين ، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم ، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام ، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى.

وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه : (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِمْ) الأمور الحاصلة بمجرد الفيض ، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين.

ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر ، فتدبر (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) ، قيل : عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا


أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٨١)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى ، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبليغ ما أوحي إليه. (بَلِّغْ) أي أوصل الخلق (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي جميع ما أنزل كائنا ما كان (مِنْ رَبِّكَ) أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك ، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.

(فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به ، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به ، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاء وخفاء أصلا وفرعا ، وأجاب في الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب ، وأيضا أن ذلك راجع إلى المبلغ ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته ، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة ، فكأنه لم يتمثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع ، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.

ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء ، ومن ادّعاه بناء على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة ـ جعله نظير : أنا أبو النجم وشعري شعري. حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ ، وأراد ـ وشعري شعري ـ المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته ، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها ، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها ، وكذلك كما قال ابن المنير : أريد في الآية ـ لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام ـ أنه عظيم شنيع ينعي على مرتكبه ، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع؟ فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام ، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد ، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ولم يقل : وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى ، وهذا أحسن رونقا وأظهر


طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر ، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز ، فلا معاب عليه في ذلك ، وقيل : إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا ، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت».

وقيل : إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا ، وقيل ـ وليته ما قيل ـ المراد بما أنزل القرآن ، وبما في الجواب بقية المعجزات ، وقيل : غير ذلك ، واستدل بالآية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكتم شيئا من الوحي ، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.

وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام ، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه ، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه ، وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] قال : أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه ، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته ، وقال الواسطي ـ ألقى إلى عبده ما ألقى ـ ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا ، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا ، قال الطيبي : وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين : فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم ـ أراد عنقه ـ وأصل معناه مجرى الطعام ، وبذلك فسره البخاري ، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة ، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ، وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

ومن ذلك علم وحدة الوجود ، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل ، وقالوا : إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل ، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار ، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.

وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة ، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده ، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام ، حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق على فهمي ، فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن ، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى ، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق ، فاعلم ذلك انتهى.


وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) دون ما تعرفنا به إليك ، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة ، وقيل : يفهم ذلك من لفظ الرسالة ، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير ، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام ، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل. فقد قال سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وقال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الترمذي وغيره : «ستكون فتن ، قيل : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم» ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : جميع ما حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مما فهمه من القرآن ، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» ، وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ، فنوّعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.

وقال بعضهم : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها ـ بالتغابن ـ ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان ، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له ، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد ، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة ، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان ، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية.

وقول بعضهم : أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت ، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة ، قال : قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه : هل عندكم كتاب خصكم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ـ وكانت متعلقة بقبضة سيفه ـ قال : قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.

ويفهم منه ـ كما قال القسطلاني ـ جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة ، وما عند الصوفية ـ على ما أقول ـ كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء ، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار ، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في صحيح البخاري ـ حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون


أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده.

وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة ، قال : كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل ، فقال : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس ، فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوداء في بيضاء ، وحمل ـ وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار ـ غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن. وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش ، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت ، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم ، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكنى عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم بقوله : أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان ، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، فمات قبلها بسنة ، وأيضا قال القسطلاني : لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال : إن الناس يقولون : أكثر أبو هريرة الحديث ، ولو لا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) إلى قوله تعالى : (الرَّحِيمِ) [البقرة : ١٥٩ ، ١٦٠] إلى آخر ما قال ، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار ؛ فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم ، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص ، فكيف يستدل به لذلك ، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى فعليه البيان ، ودونه قطع الأعناق.

فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه ، ومثله ما روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه ، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل ، أو أنه أمر وراء الشريعة ، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا ، فقد قال الشعراني قدس‌سره في الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية : سمعت سيدي عليا المرصفي يقول : لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يري الحقيقة مؤيدة للشريعة ، وإن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية ، وإنما هو عينها.

وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا : من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا ، حتى قالوا : شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة ، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء ، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما‌السلام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.

ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية : من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا ، وإن كان مخالفا لهما فهو ردّ عليهم ، وما بعد الحق إلا الضلال ، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد ، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل ، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين ، وكم ترك الأول للآخر ، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث ، مع مخالفة بعضهم بعضا ؛ فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم


من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة ، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة ، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما لا يخفى على المنصف ، وزعمت الشيعة أن المراد «بما أنزل إليك» خلافة علي كرم الله تعالى وجهه ، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم ، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأخرج الجلال السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أن عليا ولي المؤمنين (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال إسماعيل بن محمد الحميري ـ عامله الله تعالى بعدله ـ من قصيدة طويلة :

عجبت من قوم أتوا أحمدا

بخطة ليس لها موضع

قالوا له : لو شئت أعلمتنا

إلى من الغاية والمفزع

إذا توفيت وفارقتنا

وفيهم في الملك من يطمع؟

فقال : لو أعلمتكم مفزعا

كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا

كصنع أهل العجل إذ فارقوا

هارون فالترك له أورع

ثم أتته بعده عزمة

من ربه ليس لها مدفع

أبلغ وإلا لم تكن مبلغا

والله منهم عاصم يمنع

فعندها قام النبي الذي

كان بما يأمره يصدع

يخطب مأمورا وفي كفه

كف على نورها يلمع

رافعها ، أكرم بكف الذي

يرفع ، والكف التي ترفع

من كنت مولاه فهذا له

مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا

وظل قوم غاظهم قوله

كأنما آنافهم تجدع

حتى إذا واروه في لحده

وانصرفوا عن دفنه ضيعوا

ما قال بالأمس وأوصى به

واشتروا الضر بما ينفع


وقطعوا أرحامهم بعده

فسوف يجزون بما قطعوا

وأزمعوا مكرا بمولاهم

تبا لما كانوا به أزمعوا

لا هم عليه يردوا حوضه

غدا ، ولا هو لهم يشفع

إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال ، وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا ، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث منه والسمين ، ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال ، فنقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له : غدير خم ، فبين فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا ، والحق مع علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك ، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك.

فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال : لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة تعجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى وجهه ، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل ، قال : ويلك ما هذا؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، قال : ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فانتزع الحلل من الناس فردها في البز ، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.

وأخرج عن زينب بنت كعب ـ وكانت عند أبي سعيد الخدري ـ عن أبي سعيد قال : اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى ـ أو في سبيل الله تعالى. ورواه الإمام أحمد ، وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال : غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تغير ، فقال بريدة : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات ، وروي بإسناد آخر تفرد به ، وقال الذهبي : إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن ، ثم قال : كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض ، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه ، فقال : من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه.

وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه ، فقال : ألست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه : هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ـ وهذا ضعيف ـ فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم ، وفي السند أيضا ـ أبو إسحاق ـ وهو شيعي مردود الرواية.


وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال : لما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد علي كرم الله تعالى وجهه قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فأنزل الله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] ثم قال أبو هريرة : وهو يوم غدير خم ، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا ، وهو حديث منكر جدا ، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع ، وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه ، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين ، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة ، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه ، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة ، وعن الذهبي أن من كنت مولاه فعلي مولاه متواتر يتيقن أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ، وأما اللهم وال من والاه ، فزيادة قوية الإسناد ، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح ـ ولا والله نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام.

والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحهما لعدم وجدانهما له على شرطهما ، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك ، ووجه استدلال الشيعة بخبر ـ من كنت مولاه فعلي مولاه ـ أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف ، وأولوية التصرف عين الإمامة ، ولا يخفى أن أول الغلط في هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى ، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا : لم يجىء مفعل بمعنى أفعل أصلا ، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى : (هِيَ مَوْلاكُمْ) [الحديد : ١٥] أي أولى بكم.

وردّ بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى من فلان ، واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله ، وتفسير أبي عبيدة بيان لحاصل المعنى ، يعني النار مقركم ومصيركم. والموضع اللائق بكم ، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى ، والثاني أنا لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته بالتصرف ، بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك ، وكم قد جاء الأولى في كلام لا يصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ٦٨] على أن لنا قرينتين على أن المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى : المحبة ، إحداهما ما رويناه عن محمد بن إسحاق في شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه في اليمن ـ كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما ـ ولم يمنع صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشاكين بخصوصهم مبالغة في طلب موالاته وتلطفا في الدعوة إليها كما هو الغالب في شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثل ذلك ، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وثانيهما قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فإنه لو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام : اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك ، فحيث ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحبة والعداوة فقد نبه على أن المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه ، ولو كان المراد الخلافة لصرح صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها.

ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر ، هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه؟ فقال : لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد خلافته لقال : أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا ، ثم قال الحسن : أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو آثر عليا لأجل هذا الأمر ـ ولم يقدم علي كرم الله تعالى وجهه عليه ـ لكان أعظم الناس خطأ ، وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي ، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد ، ولا يتصور


الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة ، وتمسك الشيعة في إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الخبر على إحدى الروايات ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ونحن نقول : المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعني ألست أولى : بالمؤمنين من أنفسهم بالمحبة ، بل قد يقال : الأولى هاهنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة ، والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم؟ ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام ، ويكون حاصل المعنى هكذا : يا معشر المؤمنين إنكم تحبوني أكثر من أنفسكم ، فمن يحبني يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه ، ويرشد إلى أنه ليس المراد بالأولى ـ في تلك الجملة ـ الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأحزاب : ٦] وهو مسوق لنفي نسب الأدعياء ممن يتبنونهم ، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال : إنه ابن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن نسبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد ، وأزواجه عليه والسلام أمهاتهم ، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم ، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة في الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم ، وهذا ما «في كتاب الله» تعالى أي في حكمه ، ولا دخل لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا ، فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذي أريد في المأخوذ منه ، ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كمال التوجه ويلتفتوا إليه غاية الالتفات ، فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر ، وذلك كما يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة : ألست أباكم؟ وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والبنوة ويعملوا على طبقهما ، فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ مثل «ألست رسول الله تعالى إليكم؟» أو لست نبيكم ، ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلا للمناسبة ، ومن الشيعة من أورد دليلا على نفي معنى المحبة ، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في ضمن آية (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا ولا يخفى فساده ، ومنشؤه أن المستدل لم يفهم أن إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء ، وإيجاب محبته بالخصوص شيء آخر ، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر ، ومما يزيد ذلك ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى ، ورسله عليهم الصلاة والسلام ، ولم يتعرض لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا ، وأيضا لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو ، بل غاية ما يلزم التقرير والتأكيد ، وذلك وظيفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها ، بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك ، ولم يقل أحد إن ذلك من اللغو ـ والعياذ بالله تعالى ـ وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة ، فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوي ، ويجل كلام الشارع عنه ، ثم إن ما أشار إليه الحميري في قصيدته التي أسرف فيها من أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الهيئة الاجتماعية جاءوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبوا منه تعيين الإمام بعده مما لم يذكره المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم ، بل هو محض زور وبهتان نعوذ بالله تعالى منه.

ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها وما يرويه الشيعة فيها ، وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع القوم كصرير باب أو كطنين ذباب ، ثم إن الأخبار الواردة من طريق أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه ـ على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها ـ ليس فيها أكثر من الدلالة


على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولي المؤمنين بالمعنى الذي قررناه ، ونحن لا ننكر ذلك وملعون من ينكره ، وكذا ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من ذلك ، والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه بالذكر لما قدمنا ، وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزل : إن الآية على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير ـ على الرواية المشهورة ـ على تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لا بد أن يقيدا بما يدل على ذلك في المآل ، وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل السنة قائلون بذلك حين إمامته ، ووجهه تخصيص الأمير كرم الله تعالى وجهه حينئذ بالذكر ما علمه عليه الصلاة والسلام بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته ، وإنكار بعض الناس لإمامته الحقة ، وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لا دليل عليه ، والخبر المصدر ـ بكأني قد دعيت فأجبت ـ ليس نصا في المقصود كما لا يخفى ، ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرّم الله تعالى وجهه ، وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار ، ويهديك إليه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فإنه في موضع التعليل لعصمته عليه الصلاة والسلام ، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك ، ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة ، بل لو قيل : لم تصح لم يبعد لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحاشاه في تبليغ أمر الخلافة ـ إنما هو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، حيث إن فيهم ـ معاذ الله تعالى ـ من يطمع فيها لنفسه ، ومتى رأى حرمانه منها لم يبعد منه قصد الإضرار برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتزام القول ـ والعياذ بالله عزوجل ـ بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو هو ، أو نسبة الجبن إليه ـ وهو أسد الله تعالى الغالب ـ أو الحكم عليه بالتقية ـ وهو الذي لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا يخشى إلا الله سبحانه ـ أو نسبة فعل الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل الأمر الإلهي إلى العبث والكل كما ترى ، لا يقال : إن عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة ، أحدهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام الشرعية التي يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة والسلام : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر : ٩٤] فلو لم يكن المراد هنا فرد هو أهم الأفراد وأعظمها شأنا ـ وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر الدين والدنيا ـ لخلا الكلام عن الفائدة ، وثانيهما أن ابن إسحاق ذكر في سيرته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس في حجة الوداع خطبته التي بين فيها ما بين ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، ثم أوصى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنساء ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : فاعقلوا قولي فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى أن قال : بأبي هو وأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اللهم هل بلغت؟ قال ابن إسحاق : فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم اشهد» انتهى.

فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر ـ كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ـ ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنوّرة ، وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخر غير ما بلغه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ، وشهد الناس على تبليغه ، وأشهد الله تعالى على ذلك ، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى ، فكأنه سبحانه يقول : يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائما مقامك بعدك (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وإن قال لك الناس حين قلت : اللهم هل


بلغت؟ اللهم نعم ، لأنا نقول : إن الشرطية في الأمر الأول ـ بعد غمض العين عما فيه ـ ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن ، وأمر ونهي ذكر مرارا للتأكيد والتقرير ، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك ويترك تبليغ شيء من الوحي تقية ، ويرد على الأمر الثاني أمران : الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم ، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر ، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ـ اللهم هل بلغت ـ أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة ، وما ورد في غير ما أثر ـ من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب ، وظاهر حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الحجة ـ من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، وقد ذكره أهل السير ـ يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب ، والثاني أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير ، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة ، وكم قد بلغصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام ، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع ، فقد أخرج ابن مردويه والضياء في مختاره عن ابن عباس قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال : «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية ، قال : فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة ، قال عليه الصلاة والسلام : فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه».

قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ، ويقولون : فيهم نزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] هوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا طالب ، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب ، وأصرح من هذا ما أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله عزوجل قد عصمني» فإن أبا طالب مات قبل الهجرة ، وحجة الوداع بعدها بكثير ، والظاهر اتصال الآية ، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناء على ما أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أخرج رأسه من القبة فقال : «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود ، والذي أميل إليه جمعا بين الأخبار أن هذه الآية مما تكرر نزوله ، والله تعالى أعلم ، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك ، فلا يرد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد ، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد ، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى قال : «لا زالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطعت أبهري وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي ، وأما ما فعل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس ، ولا يخفى بعده.


وقال الراغب : عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر ، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل ، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم ، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق ، وقيل : المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب ، والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس ، أي يعصمك بسبب ذلك دونهم ، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) حيث قال : لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان ، وزعم أن الذي دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه ، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر ، وقال الجبائي : المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب ، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل ، وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا ـ وهو كما ترى ـ فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «رسالاته» على الجمع ، وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشافهتهم بها ، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم ، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) ، والمراد بهم اليهود والنصارى ـ كما قال بعض المفسرين ـ وقال آخرون : المراد بهم اليهود ، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة «فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم. قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك» فأنزل الله تعالى فيهم قال يا أهل الكتاب (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده ، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير ، ومن أمثالهم أقل من لا شيء (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشواهد نبوته ، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره ، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما وردّ لشهادتهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن المجيد ، وإقامته بالإيمان به ، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته ـ مع أنها المقصودة بالذات ـ رعاية لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق.

وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : الكتب الإلهية ، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له ، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى :

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) والجملة مستأنفة ـ كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا ، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع نسبته فيما مر إليهم ـ للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة ، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر النسبة ظاهر جدا.


(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم ، وفي المؤمنين غنى لك عنهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر ، وقيل : المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم ، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى ، ولا يخلو عن بعد (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.

وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد ـ من الذين آمنوا ـ والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم ـ وهم المنافقون ـ وهو الذي اختاره الزجاج ، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلصين كانوا أو منافقين ، وقيل : غير ذلك (وَالَّذِينَ هادُوا) أي دخلوا في اليهودية (وَالصَّابِئُونَ) ، وهم كما قال حسن جلبي وغيره : قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة ؛ وقد تقدم الكلام على ذلك ، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه : ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث ـ وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين ـ وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر ، وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه ، فسكن شيث فوق الجبل ، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي ، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قونان ، واستخلف قونان ابنه مهلائيل ، واستخلف مهلائيل ابنه يرد ، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم ، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام ، وولد ليرد أخنوخ ـ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ـ ويقال له : هرمس ، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل ، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة ، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة ، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها ، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض ، وكانت ملته الصابئة ، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصوم ، وغير ذلك من رسوم التعبدات ، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها ، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها ، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به ـ إلى آخر ما قاله ـ ونقله عن التيفاشي ، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه : والصابئي بهمز آخره ، قيل : نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام ، وكان على الحنيفية الأولى ، وقيل : الصابئي بن ماوي ، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام ، وقيل : الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى (وَالنَّصارى) جمع نصران ، وقد مر تفصيله ، ورفع (الصَّابِئُونَ) على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر ـ إن ـ عليه ، والنية فيه التأخير عما في خبر (إِنَ) والتقدير (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى) حكمهم كيت وكيت (وَالصَّابِئُونَ) كذلك بناء على أن المحذوف في إن زيدا ، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة ، واستدل عليه بقول: صابئ بن الحارث البرجمي :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني ، وقيار بها لغريب

فإن قوله : «لغريب» خبر إن ، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر «إن» لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا ، وقيل : إن «غريب» فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره نحو (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للاثنين ، وإن ورد للجمع ، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] : إن المراد قعيدان ، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا ، فالصواب


منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد ، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين ، وبقول بشر بن أبي حازم :

إذا جزت نواصي آل بدر

فأدوها وأسرى في الوثاق

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

فإن قوله : «بغاة ما بقينا» خبر إن ولو كان خبر ـ أنتم ـ لقال : ما بقيتم ، و ـ بغاة ـ جمع باغ بمعنى طالب ، وقيل : إنه جمع باغي من البغي والتعدي ـ وأنتم بغاة ـ جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة. و ـ ما بقينا في شقاق ـ خبر إن ، وحينئذ لا يصلح البيت شاهدا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله ، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر ، وليعلم أن الخبر ما ذا دلالة ـ كما قيل ـ على أن الصابئين ـ مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم ـ إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك ، ومن هنا قيل : إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر ، وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة لأنها معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ) وخبرها ، وأورد عليه ما قاله ابن هشام : من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوفة عليها ، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر ، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع ، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة ، كقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] إلخ ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة ، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير ، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى : (وَالصَّابِئُونَ) وجعل خبر إن محذوفا ، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب ، وهو موافق للاستعمال أيضا كما في قوله :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

فإن قوله ـ راض ـ خبر ـ أنت ـ وخبر ـ نحن ـ محذوف ، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب ، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول ، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول ، وعكسه قليل لكنه جائز ، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب ، فصرف الخبر إليهم أولى ، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد ، وأيضا في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه : (وَالصَّابِئُونَ) قطعا ، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال ، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرا عنهما ، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلا على هذا المعنى ، وقيل : إن (الصَّابِئُونَ) عطف على محل (إِنَ) واسمها ، وقد أجازه بعضهم مطلقا ، وبعضهم منعه مطلقا ، وفصل آخرون فقالوا : يمتنع قبل مضي الخبر ويجوز بعده.

وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو : إنك وزيد ذاهبان ، وإلا امتنع ، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين ، وهما (إِنَ) والابتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر ، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآي وبنوا على مذهب الكوفيين ، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا ـ وحينئذ لا يلزم التوارد ـ ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة ، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء ، ومن قال : إن خبر (إِنَ) مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد.

ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في (هادُوا) وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع


المتصل من غير فصل ، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير ـ وهاد الصابئون ـ فيقتضي أنهم هود ـ وليس كذلك ـ ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول ، وقيل : (إِنَ) بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه ، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت (إِنَ) بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين.

وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقا له ولا يجيء أول الكلام ، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك ، وقيل : إن ـ الصابئين ـ عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون ، ولا يخفى بعده ، وإن عدّ أحسن الوجوه ، وقيل : إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه ، واعترض بأن لغة ـ بلحارث وغيرهم ـ الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو ـ رأيت الزيدان. ومررت بالزيدان ـ وأعربوه بحركات مقدرة ، إنما هي في المثنى خاصة ، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء ، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك ، وقرأ أبي وكذا ابن كثير «والصابئين» وهو الظاهر «والصابيون» بقلب الهمزة ياء على خلاف القياس «والصابون» بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى ، وقرأ عبد الله «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» وقوله سبحانه وتعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه ، والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد أي من آمن منهم ، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم (إِنَ) وما عطف عليه ، أو ما عطف عليه فقط ، وهو بدل بعض ، ولا بد فيه من الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضا ، وقوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ) إلخ خبر ، والفاء كما في قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] الآية ، والمعنى ـ كما قال غير واحد ـ على تقدير كون المراد ـ بالذين آمنوا ـ المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدإ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك ، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) حين يخاف الكفار العقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب ، والمراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة وأما على تقدير كون المراد ـ بالذين آمنوا ـ المتدينين بدين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلصين كانوا أو منافقين ، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام ـ كما في المخلصين ـ أو بطريق الإحداث والإنشاء ـ كما هو حال من عداهم من المنافقين. وسائر الطوائف ـ وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة ، وفيه إخلال بتكريمهم ، وربما يقال : إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام ؛ وتمام الكلام قد مر في آية البقرة فليراجع (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم ، وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة ، وهو قوله سبحانه : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] ولا يخفى بعده.

والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابتاعه فيما يأتي ويذر ، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة.


(وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ذوي عدد كثير ، وأولي شأن خطير ، يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف ، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم ، وكلمة (كُلَّما) كما قال أبو حيان : منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط ، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول ، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهي مثل ـ إذا ـ ولا بعد فيه ، وجوابها ـ كما قيل ـ قوله تعالى : (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ).

وقيل : الجواب محذوف دل عليه المذكور ، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً) [البقرة : ٨٧] إلخ ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم ، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح ، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى ، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة ، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام ، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل : استكبرتم فناصبتم (فَفَرِيقاً) إلخ ، وفيه نظر ، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب ، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل ، أي ـ كلما جاءهم رسول من الرسل ـ والمذكور بقوله سبحانه : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) إلخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع ، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل ـ إن أكرمت أخي ، أخاك أكرمت ـ لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول ، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل ، ولأن تقديم المفعول على ما قيل : يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط ، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء ، وقيل : فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما ، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو ، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع ، قال بعض المحققين : أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق ، وقيل : المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير ؛ ويؤيده (كُلَّما) الدالة على الكثرة ، وأما الثاني فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله ، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها ولا يوجد مثله في كتب النحو ، ومنه يعلم دفع الأخير ، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا ، وقد قال في شرح التسهيل : ويجوز أن ينطلق خيرا يصب ـ خلافا للفراء ـ فقال شراحه : أجاز سيبويه ، والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه ، وأنشد الكسائي :

وللخير أيام فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيامها الخير يعقب

تقديره يعقب الخير ، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم ، وقال : بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء ، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام ، كأنه قال : أيامها الصالحة.

واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه ، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا ، وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.

والجملة الشرطية صفة (رُسُلاً) والرابط محذوف أي رسول منهم ، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين.

واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه قيل : فما ذا فعلوا بالرسل؟ فقيل : كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم


المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه ، واعترض رحمه‌الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم ، ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له ، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له ، ومن هنا قالوا : إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف ، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى.

وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته ، فإن قوله سبحانه : و (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود ، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصا ، وقلت له : فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى ـ كما لا يخفى ـ على الخبير بأساليب الكلام ، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى ، ولا يخفى ما في قوله ، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة إلخ من المنع الظاهر ، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه : فعلت كيت وكيت ـ وهو أعلم بما فعل ـ فيه خفاء ، والذي يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز الأمرين ، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وأنصف.

والتعبير ـ بيقتلون ـ مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل ، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل ، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه ، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة ، وتقديم (فَرِيقاً) في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى مما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم ـ كما قال الزجاج ـ أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك ، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط ، والأولى حملها على العموم ، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «أن لا تكون» بالرفع على أن «أن» هي المخففة من الثقيلة ، وأصله أنه لا تكون فخفف «أن» وحذف ضمير الشأن ـ وهو اسمها ـ وتعليق فعل الحسبان بها ، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته ، و «أن» بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه ، وقيل : إن «حسب» هنا بمعنى علم ، و «أن» لا تخفف إلا بعد ما يفيد اليقين ، وقيل : إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائنا ، ونقل ذلك عن الأخفش ، و (تَكُونَ) على كل تقدير تامة ، وقوله تعالى : (فَعَمُوا) عطف على (حَسِبُوا) والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد. وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه (وَصَمُّوا) عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم ، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا ، وقيل : حبسوا أرميا عليهما‌السلام (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة ، فوجه الله عزوجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه ، وقيل : لما ورث بهمن بن إسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام ، وملك


عليهم دانيال عليه‌السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ، وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) [الإسراء : ٦] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم ، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى ، وقصدهم قتل عيسى عليهم‌السلام ، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل ، وثانيا إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية ، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه‌السلام ، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه‌السلام بأعصار ، وكذا القول ـ على زعمه ـ في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه‌السلام حين توجه للمناجاة ، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل (ثُمَ) للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه ، وقيل : إن العمى والصمم أولا إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما‌السلام ، وثانيا إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفر والعصيان ، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته ، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى ، وقرئ (عَمُوا وَصَمُّوا) بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك ، وركبته إذا ضربته بركبتك ، وقوله تعالى : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير في الفعلين ، وقيل : هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير ، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة ـ بأكلوني البراغيث ـ أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم.

وقيل : أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر ، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره ، وضعف بأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل ، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا ، والتباسه بالفاعل في لغة ـ أكلوني البراغيث ـ لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها ، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل ، نحو ـ أنا قمت ـ فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل ، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر ، وإنما قال سبحانه : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل ، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ؛ ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل ، ولا يخفى موقع (بَصِيرٌ) هنا مع قوله سبحانه : (عَمُوا). (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) شروع في تفصيل قبائح النصارى ، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود ، وقائل ذلك : طائفة منهم كما روي عن مجاهد ، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر (وَقالَ الْمَسِيحُ) حال من فاعل (قالُوا) بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به ، أي قالوا ذلك ، «و ـ قد ـ قال المسيح» عليه‌السلام مخاطبا لهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإني مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي شيئا في عبادته سبحانه ، أو فيما


يختص به من الصفات والأفعال ـ كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات ـ إلى عيسى عليه‌السلام (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) لأنها دار الموحدين ، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم ، فالتحريم مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة (وَمَأْواهُ النَّارُ) فإنها المعدة للمشركين ، وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب ، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي لإدخاله النار (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار : وإدخالهم الجنة ، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة ، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين.

وقيل : ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير ، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟!.

وقيل : إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة ، فنفي ذلك تهكما بهم ، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها ، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولا أوليا ، ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك ، وعدلوا عن طريق الحق ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه‌السلام ، وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه‌السلام وتقريرا لمضمونها (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم ، وقد تقدم لك من هم ، و (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء ، وكذا ـ رابع أربعة ـ ونحوه ، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة ، ولو قلت : ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران : الإضافة والنصب.

وقد نص على ذلك الزجاج أيضا ، وعنوا بالثلاثة ـ على ما روي عن السدي ـ الباري عز اسمه ، وعيسى وأمه عليهما‌السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم ، والإلهية مشتركة بينهم ، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة ـ لأنه مبدأ جميع الموجودات ـ (إِلَّا إِلهٌ) موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه ، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية ـ كما يدل عليه برهان التمانع ـ فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد ، فما ظنك بالتثليث؟ و (مِنْ) مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة ، وقالوا في وجهه : لأنها في الأصل (مِنْ) الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي ، فأصل لا رجل : لا (مِنْ) رجل إلى ما لا نهاية له.

وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك ، وقيل : إنهم يقولون ، الله سبحانه جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، ويعنون بالأول الذات ، وقيل : الوجود وبالثاني العلم ، وبالثالث الحياة ، وإن منهم من قال بتجسمها ، فمعنى قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها ، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه ، فارجع إن أردت ذلك إليه (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه ، وهو التوحيد والإيمان (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط ـ على ما قاله أبو البقاء ـ والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر ـ كما اختاره الجبائي والزجاج ـ وإما النصارى كما قيل ، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر ، و «من» على هذا بيانية ، وعلى الأول تبعيضية ، وإنما جيء بالفعل المنبئ عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه ـ بعد ورود ما ورد مما يقتضى القلع عنه ـ كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر ، والاستفهام في قوله تعالى : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) للإنكار ، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم


إلى التوبة ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفروه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عزوجل ، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا ، والجملة في موضع الحال ، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب ، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة.

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه ، وبيان حقيقة حاله عليه‌السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى ما امتازوا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس ، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر ، بل أفراد الحيوانات ، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار ، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليه‌السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام ، وهو قوله سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية ، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه ، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها ، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به ، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة ، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد ، وإن كان قد خلق من غير أب ، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم ، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟! (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به ، فمن أين لكم وصفها بما عرى عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى ، وقيل : صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود ، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) [التحريم : ١٢].

وروي هذا عن الحسن ، واختاره الجبائي ، وقيل : تصديقها بالأنبياء ، والصيغة كيفما كانت للمبالغة ـ كشريب ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف ، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف ـ كما قال العلامة الثاني ـ وتوقف في ذلك بعضهم ، وليس في محله ، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها‌السلام ، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية ، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض ، فلو كان لها عليها‌السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك ، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام ، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر ، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء ، فالمراد من ـ أكل الطعام ـ حقيقته ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وقيل : هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض ، وهذا أمرّ ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية ، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه ، قيل : والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال ، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا توحشه مفاجأته بذلك ، وقوله تعالى :

(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين


لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب ، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام ، أو لكل من له أهلية ذلك ، و (كَيْفَ) معمول ـ لنبين ـ والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها ، والمراد من (الْآياتِ) الدلائل أي ـ انظر كيف نبين لهم الدلائل ـ القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.

(ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم ، والكلام فيه كما مر فيما قبله ، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ، و (ثُمَ) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت ، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح ، وإعراضهم عنها ـ مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها ـ أعجب وأبدع ، ويجوز أن تكون على حقيقتها ، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده ، أي إنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون ، و (يُؤْفَكُونَ).

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم ، والمراد بما لا يملك عيسى ، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام ، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب والصحة والسعة ، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا ، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات ، وإنما قال سبحانه : (مَا) نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته ، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا ، وتنبيها على أنه من هذا الجنس ، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها ، وقيل : إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى ـ كالأصنام وغيرها ـ فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا ، وقيل : أريد بها النوع كما في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣].

وقيل : يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب ـ فما ـ على بابها ، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير ، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله سبحانه وتعالى :

(وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في موضع الحال من فاعل (أَتَعْبُدُونَ) مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد ، والواو هو الواو ، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه ، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة ، وقد يقال : المعنى (أَتَعْبُدُونَ) العاجز (وَاللهُ هُوَ) الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء ، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وفرق بين الوجهين بأن (ما) على هذا الوجه للتحقير ، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن (ما) للوصف والحال مقررة لذلك ، وعلى الأول للتحقير المجرد ، والحال كما علمت فافهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بإرادة الجنس من المحلى بال على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أي لا تجاوزوا الحدّ ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة ، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها‌السلام ، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه‌السلام ، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع ، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب


للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم (غَيْرَ الْحَقِ) نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق ـ أي باطلا ـ وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب ، وقال بعض المحققين : إنه للتقييد ، وما ذكره الراغب غير مسلم ، فإن الغلو قد يكون غير حق ، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية.

وفي الكشاف الغلو في الدين غلوان : حق ـ وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد ـ وغلو باطل ـ وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الأهواء والبدع ـ انتهى ، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد ، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين ، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا ، وجوز أن يكون (غَيْرَ) حالا من ضمير الفاعل أي (لا تَغْلُوا) مجاوزين الحق ، أو من دينكم أي (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شريعتهم ، ـ والأهواء ـ جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس ، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أي أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة ، أو إضلالا كثيرا ، والمفعول به حينئذ محذوف (وَضَلُّوا) عند بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي قصد السبيل الذي هو الإسلام ، وذلك حين حسدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذبوا وبغوا عليه ، فلا تكرار بين (ضَلُّوا) هنا و (ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) ، والظاهر أن (عَنْ) متعلقة بالأخير ، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة ، ويراد ـ بسواء السبيل ـ الطريق الحق ، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام ، وقيل : في الإخراج عن التكرار أن الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل ، والثاني إلى ضلالهم عما جاء به الشرع ، وقيل : إن ضمير (ضَلُّوا) الأخير عائد على ـ الكثير ـ لا على (قَوْمٍ) والفعل مطاوع للإضلال ، أي ـ إن أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس ، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم ـ فلا تكرار ، وقيل : أيضا قد يراد ـ بالضلال ـ الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال ، ويراد ـ بالضلال عن سواء السبيل ـ الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية ، وقال الزجاج : المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي ـ إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم ـ كقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] ، ونقل هذا ـ كالقيل الأول ـ عن الراغب ، وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى : (عَنْ سَواءِ) متعلقا ب (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره ، كقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم ، والله تعالى أعلم بمراده (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي لعنهم الله تعالى ، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل (كَفَرُوا) ، وقوله سبحانه وتعالى : (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) متعلق ـ بلعن ـ أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهما‌السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما ـ ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم‌السلام ، وعن الزجاج أن المراد أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشرا به وأمرا باتباعه ولعنا من كفر به من بني


إسرائيل ، والأول أولى ، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : إن أهل إيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام : اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين ، فمسخهم الله تعالى قردة ، وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام : اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي ، وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة ، وروي مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه ، واختاره غير واحد ، والمراد باللسان الجارحة ، وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك ، وقيل : المراد به اللغة (ذلِكَ) أي اللعن المذكور ، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة ، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيانهم ، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله ، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام ، كأنه قيل : بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل : ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم ، وقوله تعالى : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يحتمل أن يكون معطوفا على (عَصَوْا) فيكون داخلا في حيز السبب ، أي وبسبب اعتدائهم المستمر ، وينبئ عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل.

وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر ، أي بسبب ذلك لا غير ، ولعله ـ كما قيل ـ استفيد من العدول عن الظاهر ، وهو تعلق (بِما عَصَوْا) بلعن دون ذكر اسم الإشارة ، فلما جيء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر ، وقيل : استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك ، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضا ـ كما يشعر به أخذه في حيز الصلة ـ لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء ، وتجاوز الحد في العصيان ، وقوله تعالى : (انُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات ، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر ـ كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل ـ بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا ، كما في تراءوا الهلال ، وقيل : التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع ، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء ، ومفيدة لاستمرارهما صريحا ، وعلى الأول إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله ، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبي حيان.

والمراد بالمنكر قيل : صيد السمك يوم السبت ، وقيل : أخذ الرشوة في الحكم ، وقيل : أكل الربا وأثمان الشحوم ، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا ، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية ، وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي ، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في (فَعَلُوهُ) بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال ، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال : إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا ، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه ، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه ، وهذا إما بتقدير مضاف قبل (مُنكَرٍ) أي معاودة منكر ، أو بفهم من السياق ، أو بأن المراد فعلوا مثله ، أو بحمل (فَعَلُوهُ) على أرادوا فعله ، كما في قوله سبحانه : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨].


واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول ، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين ، وفيهما من التعسف ما لا يخفى ، وقيل : إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا : كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا ، فإنه لا خفاء في صحته ، وليس في الكلام ما يأباه ، فليحمل على نحو ذلك ، وقوله سبحانه : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه ، والقسم لتأكيد التعجيب ، أو للفعل المتعجب منه ، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ، وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة» ، وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون» والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وفيها ترهيب عظيم ، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية ، وهي هنا بصرية ، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفا ، وضمير (مِنْهُمْ) لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل ، واستظهره في البحر ، والمراد من الكثير ـ كعب بن الأشرف وأصحابه ـ ومن (الَّذِينَ كَفَرُوا) مشركو مكة ؛ وقد روي أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فلم يتم لهم ذلك.

وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من (الَّذِينَ كَفَرُوا) الملوك الجبارون ؛ أي ترى كثيرا منهم ـ وهم علماؤهم ـ يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم ، وهذا في غاية البعد ، ولعل نسبته إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والحسن ومجاهد أن المراد من ـ الكثير ـ منافقو اليهود ، ومن (الَّذِينَ كَفَرُوا) مجاهروهم ، وقيل : المشركون (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي لبئس شيئا فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذم على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم موجب سخط الله تعالى عليهم ، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموما بل المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى ، وفي إعراب المخصوص بالذم ، أو المدح أقوال شهيرة للمعربين ، واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبئ عنه الجملة المتقدمة ، كأنه قيل : ما هو ، أو أي شيء هو؟ فقيل هو (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ونقل عن سيبويه أنّ (أَنْ سَخِطَ اللهُ) مرفوع على البدل من المخصوص بالذم ، وهو محذوف ، وجملة (قَدَّمَتْ) صفته ، و (ما) اسم تام معرفة في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم ، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى ، وقيل : إنه في محل رفع بدل من (ما) إن قلنا : إنها معرفة فاعل لفعل الذم ، أو في محل نصب منها إن كانت تمييزا ، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة ، وقيل : إنه على تقدير الجار ، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم (وَفِي الْعَذابِ) أي عذاب جهنم (هُمْ خالِدُونَ) أبد الآبدين ، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها ، وليست داخلة في حيز الحرف


المصدري إعرابا كما توهمه عبارة البعض ، وتعسف لها عصام الملة بجعل ـ أن ـ مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) ، وجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني مفعولي (تَرى) بجعلها علمية أي تعلم كثيرا منهم (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويخلدون في النار ، وكل ذلك مما لا حاجة إليه ، (وَلَوْ كانُوا) أي الذين يتولون المشركين (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) أي نبيهم موسى عليه‌السلام (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) من التوراة ، وقيل : المراد ـ بالنبي ـ نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما (أُنْزِلَ) القرآن ، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا صحيحا (مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي المشركين أو اليهود المجاهرين (أَوْلِياءَ) ، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعا (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن الدين ، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه. (١)

__________________

(١) قد تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع الجزء السادس ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع أوله :(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ) الآية.


فهرس المجلد الثالث

من

روح المعاني



تتمة تفسير سورة النساء

الآيات : ٢٤ ـ ٣٦.............................................................. ٣

الآيات : ٣٧ ـ ٤٣............................................................. ٢٩

الآيات : ٤٤ ـ ٥٥............................................................. ٤٣

الآيتان : ٥٦ و ٥٧............................................................ ٥٦

الآيات : ٥٨ ـ ٧٠............................................................. ٥٩

الآيات : ٧١ ـ ٨٥............................................................. ٧٦

الآيات : ٨٦ ـ ٩٣............................................................. ٩٥

الآيات : ٩٤ ـ ١٠٨........................................................... ١٣

الآيات : ١٠٩ ـ ١٢٥........................................................ ١٣٦

الآيات : ١٢٦ ـ ١٤٧........................................................ ١٥٢

الآيات : ١٤٨ ـ ١٥١........................................................ ١٧٧

الآيات : ١٥٢ ـ ١٦٩........................................................ ١٨٠

الآيات : ١٧٠ ـ ١٧٦........................................................ ١٩٧

تفسير سورة المائدة

الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٢٢٢

الآيات : ٦ ـ ١١............................................................. ٢٤١

الآيات : ١٢ ـ ٢٦........................................................... ٢٥٧

الآيات : ٢٧ ـ ٣٧........................................................... ٢٨١

الآيات : ٣٨ ـ ٤٥........................................................... ٣٠٠

الآيات : ٤٦ ـ ٥٨........................................................... ٣١٨

الآيات : ٥٩ ـ ٦٦........................................................... ٣٣٩

الآيات : ٦٧ ـ ٨١........................................................... ٣٥٤

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - ٣

المؤلف:
الصفحات: 381