بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِ ىرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ


تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

(تِلْكَ الرُّسُلُ) استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل : إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا ، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وما فيه من معنى البعد ـ كما قيل ـ للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم ، واللام للاستغراق ، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المذكورة قصصها في السورة ، واللام للعهد ، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر ، وقيل : المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع ، ومنهم من لم يشرع ، وقيل : هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل ، ويؤيد الأول قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا ، والجملة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : بل من (فَضَّلْنا) والمراد بالموصول إما موسى عليه‌السلام فالتعريف عهدي ، أو كل من كلمه الله تعالى عن رضا بلا واسطة ، وهم آدم ـ كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ـ وموسى وهو الشهير بذلك ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب ، وقرئ (كَلَّمَ اللهُ) بالنصب وقرأ اليماني ـ كالم الله ـ من المكالمة قيل : وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة ، وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف ، والمراد ببعضهم هنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما ينبئ عنه الأخبار بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى. وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا. ورقي أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام. وطأطأت له رءوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث رحمة للعالمين. والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين ، والمنزل عليه قرآن مجيد (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] والمؤيد دينه المؤيد بالمعجزات المستمرة الباهرة. والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة ، والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين ، وقيل : المراد به إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي أعلى المراتب ولا يخفى ما فيه ، وقيل : إدريس لقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧] ، وقيل : أولو العزم من الرسل ، وفيه ـ كما في الكشف ـ أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام البتة ، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى ، و ـ درجات ـ قيل : حال من بعضهم على معنى ذا درجات ، وقيل : انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل : ورفعنا بعضهم رفعات ، وقيل : التقدير ـ على ـ أو ـ إلى ـ أو ـ في ـ درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه ، وقيل : إنه مفعول ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ ، وقيل : إنه بدل اشتمال وليس بشيء (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى. والاخبار بما يأكلون ويدخرون ، أو الإنجيل ، أو كلما يدل على نبوته ، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه ، وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قد تقدم تفسيره ، وإفراده عليه‌السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط ، والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم‌السلام متفاوتة الأقدار


فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن الظن في الاعتقاديات لا يغني من الحق شيئا (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي جاءوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق واتباع الرسل الذين جاءوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة ، ومن قدر ـ ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل ـ إلخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت شيء (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من جهة أولئك الرسل ، وقيل : الضمير عائد إلى الذين من قبلهم وهم الرسل ، المجرور متعلق ـ باقتتل ـ وقيل : بدل من نظيره مما قبله (الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الاعراض المؤدي إلى الاقتال (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استدراك إن الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشئ من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل : ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه ، وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة (مَا اقْتَتَلُوا) وما رفعوا رأس التطاول والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك بقوله عزوجل : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس‌سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد الباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس ، وذكر أنه خلاف استعمال (لَوْ) عند أرباب العربية وأرباب الاستدلال ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل ، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فما أعلم ، والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه ـ كما ذكره صاحب الانتصاف ـ وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها ، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد ، وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النحل : ١٠٦] وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح له السر ولعله أحسن من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس ، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) قيل : أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن ، وقيل : يدخل فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج


واختاره البلخي ، وجعل الأمر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب ، وقال الأصم : المراد به الإنفاق في الجهاد ، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى ، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الإنفاق المذكور فيه دخولا أوليا ، وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الإنفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه ، و (مَا) موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق والترغيب فيه.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) أي لا مودة ولا صداقة (وَلا شَفاعَةٌ) أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة ، والمراد ـ من وصفه بما ذكر ـ الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به. وإما أن يعينه أصدقاؤه. وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا بالله عزوجل ؛ و (مِنْ) متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير ـ هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة ـ والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح ، وقد فتحها ابن كثير. وأبو عمرو. ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا ، ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات ، والمغلوب منقاد لحكم الغالب ، وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد (يَوْمٌ) جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة غير مقطوعة ، ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا ، واعتبار كون النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم ، والجملة معطوفة على محذوف ـ أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون ـ إلخ والمراد بهم تاركو الإنفاق رأسا ، وعبر عن التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر ، أو جعل مشارفة عليه ، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج ، وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال : أن عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة ، وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، والمراد هو المستحق للعبودية لا غير ، قيل : وللناس ـ في رفع الضمير المنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله ـ أقوال خمسة : قولان معتبران ، وثلاثة لا معول عليها ، فالقولان المعتبران : أحدهما أن يكون رفعه على البدلية ، وثانيهما أن يكون على الخبرية ـ والأول هو الجاري على ألسنة المعربين ـ وهو رأي ابن مالك ، وعليه إما أن يقدر للأخير أولا ، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والإمكان ؛ ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق ، واعترض تقدير العام بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة ، وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء ، ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما ، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي الوجود يستلزم نفي


الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب ، وأما على تقدير الإمكان فلأنّا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفى بها من أكثر العوام ، وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم : إن إيجاب النفي جاء والآلهة غير الله تعالى موجودة ، وقد قامت عبادتها على ساق ، وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق ، فأمر الناس بنفي وجودها من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان ، ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه ، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال : إن المراد إما نفي المستحق غيره تعالى بالفعل أو الإمكان ، والأول لا ينفي الإمكان ، والثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل ، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا ، والقائلون بعدم تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن (لا) هذه لا خبر لها ، واعترض بأنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من (لا) واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم (لا) وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى ، واستشكل الإبدال من جهتين ، الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه ، الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي ، وأجيب عن الأول بأن (إِلَّا) تغني عن الضمير لإفهامها البعضية ، وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل ، وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد.

والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد (إِلَّا) ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل (لا) في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن اسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا ، وقد قالوا : بامتناع الحيوان إنسان ، وأجيب عن الأول بأن (لا) لا عمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى ، وعن الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم ، والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام وفيه ما فيه.

وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة لا اسم لا باعتبار المحل ، والتقدير لا إله غير الله تعالى في الوجود ، وثانيها ـ وقد نسب للزمخشري ـ أن لا إله في موضع الخبر ، و (إِلَّا) وما بعدها في موضع المبتدأ ، والأصل هو ، أو الله إله فلما أريد قصر الصفة على


الموصوف قدم الخبر وقرن المبدأ ـ بإلا ـ وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه ، وثالثها أن ما بعد (إِلَّا) والمقصور هو الواقع في سياق النفي ، والمبتدأ إذا اقترن ـ بإلا ـ وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه ، وثالثها أن ما بعد (إِلَّا) مرفوع ـ بإله ـ كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادّا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران ، ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان (إِلَّا) فيها للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق ، وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وأما إثباتها له عز اسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة ، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه ، ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبنيا مع (لا) وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ ، وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد (إِلَّا) في مثل هذا التركيب وجه ، وقد جوزه فيه جماعة ، وعلى الثالث أنا لا نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به.

هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام ، وفي قوله تعالى : (الْحَيُ) سبعة أوجه من وجوه الإعراب : الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة ، الثاني أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف أي هو الحي ، الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، الرابع أن يكون بدلا من (هُوَ) وحده ، الخامس أن يكون مبتدأ خبره (لا تَأْخُذُهُ) ، السادس أنه بدل من الله ، السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت ، وفي أصله قولان : الأول أن أصله ـ حيي ـ بياءين من حيي يحيي ، والثاني أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياء ، ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل ، ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه ، ووزنه قيل : فعل ، وقيل : فيعل فخفف كميت في ميت ، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية. أو قوة التغذية ، أو قوة الحس ، أو قوة تقتضي الحس والحركة. والكل مما يمتنع اتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة ـ كما قيل بكل ـ فالحي ذات قامت به تلك الصفة ، وفسره بعض المتكلمين بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر ، واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات. ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات ، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية انتهى ، ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله : إن الحي ـ بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن


يمدح الله تعالى به نفسه ـ في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع ، والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات ، وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة ، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب ، وبين الأزلي والزائل ، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة ، وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال : إنها مجاز في الله تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الأشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان ، فإن قال : كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا : فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به ، وليس كمثل الله تعالى شيء ، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم ويا حبذا هند وأرض بها هند والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء ، ولعلي من وراء المنع لذلك ، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعى (الْقَيُّومُ) صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ؛ ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي ، ويجوز فيه قيام وقيم وبهما قرئ ، وروى أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه ، وقرئ القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك. وابن جبير : الدائم الوجود ، وقيل : القائم بذاته ، وقيل : القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء ، وإيصال أرزاقهم إليهم ـ وهو المروي عن قتادة ـ وقيل : هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه ، وقال بعضهم : هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وذكر الراغب أنه يقال : قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه ، والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطى له ما به قوامه ، والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الادامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام ، ولعله من حيث إن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى ، وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى ، فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل ، وذهب جمع إلى أن القيوم هو اسم الله تعالى الأعظم ، وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره ، وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك ، وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام ، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة ـ بكسر أوله ـ فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع :

وسنان أقصده النعاس فرنقت

في عينه (سنة) وليس بنائم

والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش ، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله ، وتقديم ـ السنة ـ عليه وقياس المبالغة


يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ ، وقيل : إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي ـ السنة ـ يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ ، ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] ولهذا توسطت كلمة (لا) تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما ، وقيل : إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن ، وقال بعض المحققين : هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والاعتراء ، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة ـ كما ذكره الراغب ، وغيره من أئمة اللغة ـ ومنه قوله تعالى : (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه ـ السنة ، ولا النوم ـ الذي هو أكثر غلبة منها ، والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه ، وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمة ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك؟ قال : اتقوا الله تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك» ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم ، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم الجليل (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ـ تقريرا ـ لقيوميته تعالى ـ واحتجاج على تفرده في الإلهية ، والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر. وسائر النجوم. والملائكة. والأصنام. والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) استفهام إنكاري ولذا دخلت (إِلَّا) والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكافر حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي أمر الدنيا (وَما خَلْفَهُمْ) أي أمر الآخرة قاله مجاهد ، وابن جريج ، وغيرهما ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ، عكس ذلك ، وقيل : يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم ، وقيل : ما بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك ، وقيل : ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل ، ووجه الإطلاق فيه ظاهر ، وضمير الجمع يعود على ما في (ما فِي السَّماواتِ) إلخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره ، وقيل : للعقلاء في ضمنه فلا تغليب ، وجوز أن يعود على ما دل عليه (مَنْ ذَا) من الملائكة والأنبياء ، وقيل : الأنبياء خاصة ، والعلم ـ بما بين أيديهم وما خلفهم ـ كناية عن إحاطة علمه سبحانه ، والجملة إما استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في ـ بإذنه ـ (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي معلومه كقولهم : اللهم اغفر لنا علمك فينا ، والإحاطة بالشيء علما علمه كما هو على الحقيقة ، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى : (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلم ، وجوز أن يراد من علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره


ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الكرسي جسم بين يدي العرش محيط السماوات السبع ، وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته ـ أي الكرسي ـ إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكرسي فقال : «يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وفي رواية الدار قطني. والخطيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) إلخ «قال : كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره» وقيل : هو العرش نفسه ، ونسب ذلك إلى الحسن ، وقيل : قدرة الله تعالى ، وقيل : تدبيره ، وقيل : ملك من ملائكته ، وقيل : مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل ، وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : عن الملك أخذا من كرسي الملك ، وقيل : أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة ، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف ـ فرارا من توهم التجسيم ، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا ، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري ـ الكرسي ـ موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل ؛ وفي رواية عن عمر مرفوعا «له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع» وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له.

وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك ، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين ، وقد وسع السماوات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ، ولا «الأطيط» عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع ، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين ، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك ، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا ، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى ، ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب ، واشتقاقه من الكرس ـ وهو الجمع ـ ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم ، وقيل : كأنه


منسوب إلى ـ الكرس ـ بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي ـ كبختي وبخاتي ـ وفيه لغتان ضم كافة ـ وهي المشهورة ـ وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين ، وكسر السين في (وَسِعَ) على أنه فعل والكرسي فاعله ، وقرئ بسكون السين مع كسر الواو ـ كعلم ـ في علم ، ويفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر ـ كرسيه ـ ورفع السماوات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده و (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خبره (وَلا يَؤُدُهُ) ـ أي لا يثقله ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته ، وماضيه آد ، والضمير لله تعالى ؛ وقيل : الكرسي (حِفْظُهُما) أي السماوات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه ، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس ، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرها مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي المتعالي عن الأشباه ، والأنداد ، والأمثال ، والأضداد ، وعن امارات النقص ، ودلالات الحدوث ، وقيل : هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء (الْعَظِيمُ) ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية ، والوحدانية ، والحياة ، والعلم ، والملك ، والقدرة ، والإرادة ، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم وحده يجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد.

أخرج مسلم ، وأحمد ، وغيرهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي» وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد» وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي» والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له كخبر من قرأها بعث لله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة ، وبعضها منكر جدا كخبر «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين».

ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال : إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري. والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لا نقص فيه ، وأوّلوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل ، وأجازه إسحاق بن راهويه ، وكثير من العلماء ، والمتكلمين ـ وهو المختار ـ ويرجع إلى عظم أجر قارئه ولله تعالى إن يخص ما شاء بما شاء لما شاء ، ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب أن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون


على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ٣] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)(١) بسيوف الهوى ونبال الضلال (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بما جاء به الوحي (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الاختلاف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي ، والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها (وَما ظَلَمْناهُمْ) [هود : ١٠١ ، النحل : ١١٨ ، الزخرف : ٤٣] إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول (اللهُ لا إِلهَ) في الوجود العلمي (إِلَّا هُوَ الْحَيُ) الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته (الْقَيُّومُ) الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به ، وقيل : الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به ، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه.

و (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) إذ كلهم له ومنه وإليه وبه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من الخطرات (وَما خَلْفَهُمْ) من العثرات ، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما خلفهم من الحالات ، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ) معلوماته التي هي مظاهر أسمائه (إِلَّا بِما شاءَ) كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) الذي هي قلب العارف (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد ، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي : لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به ، وقيل : كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت (وَلا يَؤُدُهُ) ولا يثقله

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولفظة «جاءوا» ليست من ضمن الآية.


(حِفْظُهُما) في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه (وَهُوَ الْعَلِيُ) الشأن الذي لا تقيده الأكوان (الْعَظِيمُ) الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه حتى عن قيد الإطلاق.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : (خالِدُونَ) من بقية آية الكرسي ، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله ، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا ، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى ، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية ـ وهو المحكي عن الحسن ، وقتادة. والضحاك ـ وفي سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك».

وأل في (الدِّينِ) للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام ، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى ، من الناس من قال : إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولو لا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وإلى ذلك ذهب القفال (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و ـ الرشد ـ بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر ـ رشد ـ بفتح الشين يرشد بضمها : ويقرأ بفتح الراء والشين ، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض ـ الغي ـ وأصله سلوك طريق الهلاك ، وقال الراغب ، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد ، والغيّ اعتبارا بالأفعال ، ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغيّ بالرشد ، ويقال لمن أصاب : رشد ، ولمن أخطأ غوى ، ويقال لمن خاب : غوى أيضا ، ومنه قوله :

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما)

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب ، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال مجاهد ، وقتادة ـ وعن سيعد بن جبير ، وعكرمة أنه الكاهن ، وعن أبي العالية أنه الساحر ، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى ، وعن بعضهم الأصنام ، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى ، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت ، واختلف فيه فقيل : هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ـ وإلى ذلك ذهب الفارسي ـ وقيل : هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير ـ وإليه ذهب سيبويه ـ وقيل : هو جمع ـ وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان. والثاني الطغوان ، وأصله على الأول طغيوت ، وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت ، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي


(وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) وهي الإيمان ـ قاله مجاهد ـ أو القرآن ـ قاله أنس بن مالك ـ أو كلمة الإخلاص ـ قاله ابن عباس ـ أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد ، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية ، ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات ، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن ، وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق ـ كما قيل ـ ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حيز الشرط أصلا (لَا انْفِصامَ لَها) أي لا انقطاع لها ؛ والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح ـ كما قال الفراء ـ وفرق بعضهم بينهما بأن الأول انكسار بغير بينونة ، والثاني انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية ، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة ، والعامل (اسْتَمْسَكَ) أو من الضمير المستكن في (الْوُثْقى) لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق ، و (لَها) في موضع الخبر (وَاللهُ سَمِيعٌ) بالأقوال (عَلِيمٌ) بالعزائم والعقائد ، والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد ، قيل : وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد من الإيمان من الاعتقاد والإقرار.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي معينهم أو محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل (يُخْرِجُهُمْ) بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في (وَلِيُ مِنَ الظُّلُماتِ) التابعة للكفر أو ظلمات المعاصي أو الشبه كيف كانت. (إِلَى النُّورِ) أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه ، وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات ، واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات ، والنور ـ على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فإن المراد بهما هناك الليل والنهار ، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه ، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان ، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة ، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك «مما لا ، ولا» وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال ، أو أن الأول إيماء إلى القلة والثاني إلى الكثرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل (أَوْلِياؤُهُمُ) حقيقة أو فيما عندهم (الطَّاغُوتُ) أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق ، والموصول مبتدأ أول ، و (أَوْلِياؤُهُمُ) مبتدأ ثان ، و (الطَّاغُوتُ) خبره ، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها ، قيل : ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع (الطَّاغُوتُ) في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الاسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا ، وقرء «الطواغيت» على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار اسما لما يعبد من دون الله تعالى (يُخْرِجُونَهُمْ) بالوساوس وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى ، والتعبير عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك (مِنَ النُّورِ) أي


الفطري الذي جبل عليه الناس كافة ، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه ، وقيل : التعبير بذلك للمقابلة ، وقيل : إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول ، وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان (إِلَى الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى ، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال ، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح ، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم ، وفيه بعد (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ماكثون أبدا ، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء ، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة ، وقيل : إن قوله سبحانه (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٦٨] دل على الوعد وكفى به.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف ، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون ، وقيل : استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها ، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عزوجل ، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته ، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي ، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي ـ ألم تنظر ، أو ألم ينته علمك ـ إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل ، وأين مقام الخليل من الحبيب ، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين ، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب ـ وهو أول من تجبر وادعى الربوبية ، كما قاله مجاهد وغيره ـ وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها ، واختلف في وقتها فقيل : عند كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار ـ وهو المروي عن مقاتل ـ وقيل : بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما ـ وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ـ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي لئن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في ـ أن ، وإن ـ وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل ، والتعليل فيه على وجهين : إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما ، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية ، وعلى الثاني تهكمية ـ كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه ـ وجوز أن يكون (آتاهُ) إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه


أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها ، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه ـ كجئت خفوق النجم ، وصياح الديك ـ ولا يجوز إن خفق وإن صاح.

وأجيب باعتبار الوقت ممتدا ، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن «ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح ، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب ، والحق أن التعليل لما أمكن ـ وهو متفق عليه ـ خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام ـ قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور ـ في غاية من التعسف ، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع ، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح ـ ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان ، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير (آتاهُ) لإبراهيم عليه‌السلام لأنه تعالى قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] وقال سبحانه : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي ـ ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح ، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه‌السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.

وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي ، وإيجاب الطاعة على الخلق ، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان ، والقول : بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول ، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال ، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب ـ والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ـ وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف لحاج ، وجوّز أن يكون بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت ، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له ـ وقد كان أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في (آتاهُ) وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا ، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية ، وقد جاء ذلك ، وقال الحلبي : ـ وهذا بناء ـ منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل ـ غلط بل بدل كل من كل ، وفيه ما تقدم من الكلام ، وقيل : يجوز أن يكون بدلا من (آتاهُ) بدل اشتمال ، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال ، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك ، ومن هنا قيل : إن الظرف متعلق بقوله سبحانه : (قالَ أَنَا) إلخ ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل : كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب ، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء ، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه : (حَاجَ) ، و (رَبِّيَ) بفتح الياء ، وقرئ بحذفها ، وأراد عليه‌السلام ـ بيحيي ويميت ـ يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال : ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا


يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها ، وهي مسألة متنازع فيها ، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية ، وثانيهما أن الانتقال إنما في هو المثال كأنه قال : ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بمثال أجلى دفعا للمشاغبة ، قال الإمام : والإشكال عليهما من وجوه.

الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب ، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر ، والثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز ، والثالث أنه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح ، وأقرب وهاهنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسماوات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي ، والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الاحياء والاماتة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب ، ومن المعلوم طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول ، وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك ، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه‌السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل ، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء.

فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل الأول ، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه‌السلام بالإماتة والإحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء والإماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه‌السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والإماتة صادرين منهم ، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس أنها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب ، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له : إنك أحييت الحي ولم تحي الميت ، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له : أحي من قتلته إن كنت صادقا


لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاء بظهور الفساد جدا ، وأما ثانيا فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة ، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه ، وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب ـ فما هو الجواب هنا هو الجواب ـ وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الإتيان بالشمس من مغربها فسكت ، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه‌السلام ـ وهو ضعيف ـ بل الجواب أنهعليه‌السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية ، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال : هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها ـ مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات ـ كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق ، والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب ، وأما رابعا فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه ، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الإحياء والإماتة منه تعالى شأنه ـ ولا أظنك في مرية من هذا ـ ولعل الأظهر مما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصابئة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن ، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه‌السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولودا حدث بعد أن لم يكن وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود البتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداء ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على إنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله ، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء ـ كما عند بعض القاصرين من المتكلمين ـ مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير ، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلا عن الأغبياء ، وقال : ـ أنا أحيي وأميت وأبدي ـ فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياء إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه‌السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء ـ فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب ـ منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إله ابتداء مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة ، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض ، وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال ، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل : ربي الذي يوجد الممكنات وأتي بالإحياء والإماتة مثالا ، فلما اعترض جاء بآخر أجلي دفعا للمشاغة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق ـ كما لا يخفى ـ هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر.


وإنما أتي في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتي بها في الجملة الأولى بأن يقال : إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه‌السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها ، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ) إلخ. والباء للتعدية ، و (مِنَ) في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل ، وقيل : متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخّرة أو منقادة (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه ، وقرئ ـ بهت ـ بفتح الباء وضم الهاء ـ وبهت ـ بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم ـ وبهت ـ بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا ، و (الَّذِي) فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم ، و (الَّذِي) مفعوله ـ أي فغلب إبراهيم عليه‌السلام الكافر وأسكته ـ وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم ، قال الكيا : وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه ، وقيل : لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة ـ لأرأيت ـ محذوفا أي ـ أو أرأيت. مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة ـ ألم تر ـ عليه على أنه قد قيل : إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله :

قال لها كلابها أسرعي

كاليوم (مطلوبا ، ولا طالبا)

وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك ـ الفعل الماضي ـ مثل : نصر ، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل : لأن منكر الأحياء كثير ، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية ، وقيل : إنها زائدة ـ وإلى ذلك ذهب الأخفش ـ أي (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أو (كَالَّذِي مَرَّ) إلخ ، وقيل. إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : (أَلَمْ تَرَ) كالذي حاج ، أو (كَالَّذِي مَرَّ) وقيل : إنه من كلام إبراهيم عليه‌السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر ، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مرّ ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير ، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على (الَّذِي) نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول إلى على الكاف ، وفيه إشكال لأنها إلى كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم ، وهو عن ـ وذلك على قلة أيضا ، وقال بعضهم : إن كلا من لفظ (أَلَمْ تَرَ) و (أَرَأَيْتَ) [الكهف : ٦٣ ، الفرقان : ٤٣ ، العلق : ٩ و ١١ و ١٣ ، الماعون : ١] مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب منه فيقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي) صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله ، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي) صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله ، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال ـ أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح (أَلَمْ تَرَ إِلَى) مثله إذ يكون المعنى انظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع ، ولذا لم يستقم عطفك (كَالَّذِي مَرَّ) على (الَّذِي حَاجَ) ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف ـ أي أرأيت كالذي مر ـ فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى ـ أرأيت كالذي حاج ـ فيصح العطف عليه ؛ ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) أو مثل (كَالَّذِي مَرَّ) فعدم


الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام ، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب بكلمة (أَرَأَيْتَ) من إثبات كاف ، أو ما في معناه ـ ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان ـ فإن (أَلَمْ تَرَ) يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه ، (أَرَأَيْتَ) كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه ، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه ، وفي الثاني بمثله ، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولا سوى أن تقدير (أَرَأَيْتَ) مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر.

و (أَوْ) للتخيير أو للتفصيل ـ والمار ـ هو عزيز بن شرخيا ـ كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله تعالى وجهه. وإسحاق بن بشر عن ابن عباس ، وعبد الله بن سلام ، واليه ذهب قتادة ، وعكرمة ، والربيع ، والضحاك ، والسدي ، وخلق كثير ـ وقيل : هو أرميا بن خلقيا من سبط هارون عليه‌السلام ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ـ وإليه ذهب وهب ، وقيل : هو الخضر عليه‌السلام ـ وحكي ذلك عن ابن إسحاق ـ وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد ، وأن أرميا هو الخضر بعينه ، وقيل : شعيا ، وقيل : غلام لوط عليه‌السلام ، وقال مجاهد : كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما ، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) [آل عمران : ٤٠ ، مريم : ٨ و ٢٠] و (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) [آل عمران : ٤٧] وعورض بما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر ـ وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره ـ قوى المعارض جدا ، وإن قلنا : بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى ، ـ والقرية ـ قال ابن زيد : هي التي خرج منها الألوف ، وقال الكلبي : دير سابرآباد ، وقال السدي : دير سلماباذ ، وقيل : دير هرقل ، وقيل : المؤتفكة ، وقيل : قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس ، وقال عكرمة ، والربيع ، ووهب : هي بيت المقدس وكان قد خربها بختنصر وهذا هو الأشهر ، واشتقاقها من القرى وهو الجمع (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه ، وقيل : المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق ـ بخاوية ـ وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد خبر ـ لهي ـ والجملة قيل : في موضع الحال من الضمير المستتر في (مَرَّ) وقيل : من (قَرْيَةٍ) ويجيء الحال من النكرة على القلة ، وقيل : في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو ، ومن الناس من جوز كون (عَلى عُرُوشِها) بدلا من (قَرْيَةٍ) بإعادة الجار وكونه صفة لها ، وجملة (وَهِيَ خاوِيَةٌ) إما حال من ـ العروش ـ أو من ـ القرية ـ أو من ـ ها ـ والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه (قالَ) في نفسه أو بلسانه (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر ، فالاحياء والاماتة مجازان عن العمارة والخراب ، أو بتقدير مضاف ـ أي أصحاب هذه القرية ـ فالإحياء والإماتة على حقيقتها ، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة ، والسياق دال على ذلك ، والاحياء والاماتة على حالهما أيضا ، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه ، ثم في غيره ، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده ، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظاما لقدرة


المحيي إذا قلنا : إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا ، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء ـ لأهل ، أو عظامهم ـ يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر ، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه ، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل ، و (أَنَّى) نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى ، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف ، والعامل فيه على أي حال (يُحْيِي).

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد ـ والعام ـ السنة من العوم وهو السباحة ، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها (ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه ، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية ، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له : كوسك فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى (قالَ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قال له؟ فقيل قال : (كَمْ لَبِثْتَ) ليظهر له العجز عن الإحاطة بشئون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و «كم» نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره (كَمْ) وقتا والناصب له (لَبِثْتَ) والظاهر أن القائل هو الله تعالى ، وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه ، وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس : (يَوْماً) ثم التفت فرأى بقية منها فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) على الإضراب ، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) قيل : كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة ، واشتقاقه من ـ السنة ـ وفي لامها اختلاف فقيل : هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء ، وقيل : واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه ، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج ، وقيل : أصله لم يتسنن. ومنه ـ الحمأ المسنون ـ أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت : تظنيت ، وفي تقضضت : تقضيت ، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء ، ثم أبدلت الياء ألفا ، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال ، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [الأنعام : ١٩ ، ٩٣] و (أُوحِيَ إِلَيَّ) [هود : ٣٦](وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام: ٩٣] وصاحبها إما الطعام والشراب ، وإفراد الضمير لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله ، وهذا شريك ـ لم يتسنه ـ وقرأ أبي ـ لم يسنه ـ بإدغام


التاء في السين واستشكل تفرع (فَانْظُرْ) على ـ لبث المائة ـ بالفاء وهو يقتضي التغير ، وأجيب بأن المفرع عليه ليس ـ البث الماء بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء ، وقيل : إن التقدير ـ إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث ـ فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده ، وكون المراد ـ انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب ـ ليس بشيء ولا يساعده المأثور (وَلِنَجْعَلَكَ) متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك ، ومنهم من قدره متأخرا ، وقيل : إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على (لَبِثْتَ) أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى ولنجعلك ، وقيل : إنه عطف على (قالَ) ففيه التفات (آيَةً) أي عبرة أو مرشدا (لِلنَّاسِ) أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة ، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي عظام الحمار ـ كما قاله السدي ـ وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد ، وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها ، وقيل : عظام أموات أهل القرية ، وعن قتادة ، والضحاك ، والربيع عظام نفسه قالوا : أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها ، وقيل : عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. (كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ، وقال الكسائي : نلينها ونعظمها ، وقرأ أبي ننشيها ، وابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب ـ ننشرها ـ من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى : (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس ، وقرأ أبان عن عاصم ـ ننشرها ـ بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي ـ كما قال الفراء ـ فالمعنى كيف نبسطها ، والجملة قيل : إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية انشازها وبسط اللحم عليها ، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا ، وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من الحالية ، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح ـ كما قيل ـ لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها ، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء بمباديه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل : فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) ومن جملته ما شوهد (قَدِيرٌ).

وقيل : فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين ، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدا قيل : وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور ، وقد صرح بازات الفن بخلافه ـ كأبي علي وغيره ـ مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] و ـ لما ـ رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم


يصرحوا به ، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما حصل له التبين (قالَ أَعْلَمُ) إلخ ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله عنهما (فَلَمَّا تَبَيَّنَلَهُ) على البناء للمفعول ، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه ، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر ، وقرأ ابن مسعود ـ قيل أعلم ـ على وجه الأمر ، وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ (قالَ أَعْلَمُ) ويقول : لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه‌السلام قال الله تعالى له : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ) [البقرة : ٢٦] وبذلك قرأ حمزة ، والكسائي ، والآمر هو الله تعالى ، أو النبي ، أو الملك ، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد ، يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها : يا هذه أهذا منزل عزيز؟ قالت : نعم وبكت وقالت : ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال : فإني أنا عزيز قالت : سبحان الله فإن عزيز قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال : فإني عزيز كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإن عزيزا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحّتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم ، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز فقالت بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل ، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر : حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد ـ فعند ذلك قالوا : عزيز ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه (قَدْ تَبَيَّنَ) ووضح (الرُّشْدُ) الذي هو طريق الوحدة وتميز (مِنَ الْغَيِ) الذي هو النظر إلى الأغيار (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) وهو ما سوى الله تعالى (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا حقيقيا شهوديا (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التي هي الوحدة الذاتية (لَا انْفِصامَ لَها) في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشئون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع قول كل ذي دين (عَلِيمٌ) بنيته (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره (يُخْرِجُهُمْ مِنَ) ظلمات ـ النفس وشبه


الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالميل إلى الأغيار (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا إليه (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ) نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات (أُولئِكَ) المبعدون عن الحضرة (أَصْحابُ النَّارِ) الطبيعية (هُمْ فِيها خالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما ، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه‌السلام (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الروح أو إبراهيم الخليل (رَبِّيَ) أني من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته (الَّذِي يُحْيِي) من توجه إليه (وَيُمِيتُ) من أعرض عنه ، أو يحيي ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين (قالَ) نمروذ النفس الأمارة ، أو الجبار (أَنَا أُحْيِي) بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات (وَأُمِيتُ) بعضها بتعطيله عن ذلك برهة ، أو أحي بالعفو وأميت بالقتل (قالَ إِبْراهِيمُ) الروح ، أو الخليل (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي) بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ الفياض (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي أظهرها عد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها ، أو أن الله ـ يأتي بشمس الروح من مشرقها ـ وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن ـ فأت بها بعد ما غربت ـ أي فأرجعها إلى من قتله وأمته ، وعلى هذا يكون من تتمة الأول (فَبُهِتَ) وغلب (الَّذِي كَفَرَ) وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ) وهو العقل الإنساني (عَلى قَرْيَةٍ) القلب الذي هو البيت المقدس ، أو هو عزيز النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي باسمه تعالى المحيي (وَهِيَ خاوِيَةٌ) خالية من التجليات النافعة ثابتة (عَلى عُرُوشِها) صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم (قالَ) لذهوله عن النظر إلى الحقائق (أَنَّى) متى ، أو كيف (يُحْيِي هذِهِ) القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال (بَعْدَ مَوْتِها) بداء الجهل والالتفات إلى السوي (فَأَماتَهُ اللهُ) أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة طويلة ، وقيل : هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها ـ إلا يوما أو بعض يوم ـ استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى ، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال : بل لبثت في الحقيقة مائة عام (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وكان التين أو العنب ، والأول إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين ، والثاني إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم (وَشَرابِكَ) وكان عصير العنب واللبن ، والأوّل إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق ، والثاني إشارة إلى العلم النافع كالشرائع (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) وهو القالب الحامل للقلب أو المعنى الظاهر (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً) أي دليلا للناس بعثناك (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) من القوى (كَيْفَ نُنْشِزُها) ونرفعها عن أرض الطبيعة (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) وهو العرفان الذي يكون لباسا لها ، وعبر عنه باللحم لنموه وزيادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال ، والمعنى الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك (قالَ أَعْلَمُ) علما مستمرا (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) ومن جملته ما كان (قَدِيرٌ) لا يستعصى عليه ولا يعجزه (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا


إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) [الأعراف : ٦٩ ، ٧٤] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما ـ يقال ـ الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك (رَبِ) كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة (أَرِنِي) من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأوّل وقوله تعالى : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) في محل مفعوله الثاني المعلق عنه ، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين ، واعترض بأن البصرية لا تعلق ، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة ، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها ، وفي شرح التوضيح يجوز كونها علمية ، ومن الناس من لم يجعل «ما» هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة (كَيْفَ) إلخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥] ثم الاستفهام ـ بكيف ـ إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي ـ بصرني كيفية إحيائك للموتى ـ وإنما سأله عليه‌السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ، وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة» وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن ، والضحاك ، وقتادة ، وهو المروي عن أهل البيت ، وروى عن ابن عباس ، والسدي ، وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه‌السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى بدعائه فسأل لذلك ، وروى عن محمد بن إسحاق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الأحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحيي الله تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ (قالَ) استئناف مبني على السؤال والضمير للرب (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) عطف على مقدر ـ أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه ـ أو بأني قد اتخذتك خليلا ، أو بأن الجبار لا يقتلك (قالَ) أي إبراهيم (بَلى) آمنت بذلك (وَلكِنْ) سألت (لِيَطْمَئِنَ) أي يسكن (قَلْبِي) بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك ، أو (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني ، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلا ، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية ـ وما ذكر هو المشهور فيها ـ ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه‌السلام من الكلام ، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر دينيّ والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها ، فالخليل عليه‌السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه ، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة (كَيْفَ) وموضوعها السؤال عن الحال ، ونظير هذا أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال ـ أيحكم زيد في الناس ـ ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى ، وقيل : إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا ، ومن هذا الباب (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان : ٣٧] أي لا خير في الفريقين ، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد ، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه ، ولا أرى


رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه‌السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به ، ومن هنا تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله : لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] والطمأنينة لا يتصور طروّ ذلك عليها ـ ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي ـ وفي القلب منه شيء ، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية ، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه ، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا ، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما‌السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنية كما أبانا عن أنفسهما ـ برب أرني كيف تحيي الموتى ، ورب أرني انظر إليك ـ وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله : «لو كشف» إلخ ، وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم ، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إني لأسهو فقال : يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وحسنات المقربين سيئات النبيين ، وهذا أولى مما سبق ، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية محتجبين بما روى عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس‌سره أنه قال : يا معاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه ، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس‌سره ينطق بذلك ، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين ، ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به ، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس‌سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه ، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس‌سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس‌سره ـ وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة ـ والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق ، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول : إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه ، والوقوف عند رتبته ـ وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة ـ وبعيد عنه بمراحل ، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى ، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة ، ولكل مقام مقال ، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معنى ذلك ، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا


ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم ، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه ـ على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره ـ وقد قيل عليه ما قيل فتدبر ، واللام في (لِيَطْمَئِنَ) لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن ، وليس بمبني كما ـ زلق السمين ـ ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف ـ ما ـ منه الاستدراك وقيل المتعلق (أَرِنِي) ولا أراه شيئا ، والماضي للفعل ـ اطمأن على وزن اقشعر ، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من ـ اطأمن ـ فالطاء فاء الكلمة. والهمزة عينها. والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل ، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول ـ اطأمن واطمأن ـ مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة ، وقيل : طمأنينة بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرف عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان ، وقرئ ـ أرني ـ بسكون الراء (قالَ) أي الرب (فَخُذْ) الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ.

(أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائر كتاجر وتجر ـ وإليه ذهب أبو الحسن ـ وقيل : بل هو مخفف من طير بالتشديد ، وقال أبو البقاء : هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق ـ بخذ ـ والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة ، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب ، وفي رواية بدل الحمامة بطة ، وفي رواية نسر ، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع في الحديث «لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها من يد ظهور القدرة ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته (فَصُرْهُنَ) قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد ، والباقون بضمها مع التخفيف من ـ صاره يصوره ويصيره ـ لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي ، وقال الفراء : الضم مشترك بين المعنيين ، والكسر بمعنى القطع فقط ، وقيل : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة ، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعة ، والصحيح أنه عربي ، وعن عكرمة أن نبطي ، وعن قتادة أنه حبشي ، وعن وهب أنه رومي ، فإن كان المراد ـ أملهن ـ فقوله تعالى : (إِلَيْكَ) متعلق به وإن كان المراد ـ فقطعهن ـ فهو متعلق ـ بخذ ـ باعتبار تضمينه معنى الضم ، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي ـ فقطعهن مقربة ممالة ـ إليك ـ وزعم ابن هشام ـ تبعا لغيره ـ أنه لا يصح تعليق الجار ـ بصرهن ـ مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل ، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ـ «فصرّهن» ـ بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه ، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف ، أو مكسورة لالتقاء الساكنين ، وعنه أيضا ـ «فصرّهن» ـ من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياء وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع ـ أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا.

(ثُمَّ اجْعَلْ) أي ألق ، أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة.


(عَلى كُلِّ جَبَلٍ) يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك ـ كما روي عن مجاهد. والضحاك ـ وروي عن ابن عباس والحسن ، وقتادة أن الجبال كانت أربعة ، وعن ابن جريج. والسدي أنها كانت سبعة ، وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة (مِنْهُنَ) أي من تلك الطير (جُزْءاً) أي قطعة ، وبعضا ربعا ، أو سبعا ، أو عشرا ، أو غير ذلك ، وقرئ «جزوءا» بضمتين «وجزا» بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول ـ لا جعل ـ والجاران قبله متعلقان بالفعل ، ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير ، و (مِنْهُنَ) حال من (جُزْءاً) لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي نادهنّ ، أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال. والصبا. والجنوب. والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين ، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول ، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين ، وقيل : في الآية حذف كأنه قيل : فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن.

(يَأْتِينَكَ سَعْياً) فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده ، وأعظم منه فسادا ما قيل : إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء ، وفي بعضها أن رءوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رءوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة ، وسعيا حال من فاعل ـ يأتينك ـ أي ساعيات مسرعات ، أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا ، وقيل : إطلاق السعي على الطيران مجاز ، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا ، ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل. قال : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : (يَأْتِينَكَ سَعْياً) هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال : لا قلت : فما معناه؟ قال : معناه (يَأْتِينَكَ) وأنت تسعى سعيا ـ وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان ـ وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام ، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للايذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا ، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا : خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الامتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم ، و ـ الرؤية ـ هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح ، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه ، ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه ـ بقال ـ أو حال ـ ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا ، وقال : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه ، والمراد ـ بصرهن ـ أملهن ومرنهنّ على الإجابة ـ أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ـ


والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين ، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الاسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم ، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة يجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية ، واحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو ، وقال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة ، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة ـ وفيه تأمل ـ والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال ، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين ، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الايمان ونقصه بناء على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى ؛ وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه ، وأرى عزيزا عليه‌السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح ، حكى أن الله سبحانه لما وفى لابراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له : يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث أصلا.

(ومن باب الاشارة في هذه القصة) البقرة ٢٦١ ـ ٦٧٢ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) أي موتى القلوب بداء الجهل (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي ألم تعلم ذلك علما يقينا (قالَ بَلى) أعلم ذلك :

ولكن للعيان لطيف معنى

له سأل المشاهدة الخليل

وهو المشار إليه بقوله سبحانه : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الذي هو عرشك (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم ، وهي أربعة من أطيار الغيب : العقل ، والقلب ، والنفس ، والروح (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي ضمهن واذبحهن ، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت ، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت ، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية ، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في ، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكير منعوتا بصرف نور المحبة ، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية ، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في


التجليات (ثُمَّ ادْعُهُنَ) ونادهنّ بصوت سر العشق (يَأْتِينَكَ سَعْياً) إلى محض العبودية بجمال الأحدية (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة (حَكِيمٌ) في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك ، وقد يقال : أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية ، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا ، وديكا ، وغرابا ، وحمامة ، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب ، والديك إلى الشهوة ، والغراب إلى الحرص ، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج ، وفي أثر بدل الحمامة بطة ، وفي آخر نسر ، وكأن الأوّل إشارة إلى الشره الغالب ، والثاني إلى طول الأمل ، ومعنى (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها ، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رءوسها عنده ـ أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه ـ ثم أمر أن يجعل على كل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهنّ وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه ، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن ، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة ، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً


مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢٧٦)

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره ، وقيل : المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف ، وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر أمثالها (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) خبر عن المبتدأ قبله ولا بد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أو مثلهم كمثل باذر حبة ولو لا ذلك لم يصح التمثيل ، والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة. (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك ، والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل ، وقيل : وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات ـ والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى ـ وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.

(وَاللهُ يُضاعِفُ) هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى ، واقتصر بعض على الأول ، وبعض على الثاني ، والتعميم أتم نفعا (لِمَنْ يَشاءُ) من عبادة المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه ، أخرج ابن ماجه ، وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين ،


وأبي أمامة ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية وعن معاذ بن جبل «إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد» (وَاللهُ واسِعٌ) لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة (عَلِيمٌ) بنية المنفق وسائر أحواله ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية ، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ وكانا من أدل دليل على البعث ـ ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة : ٢٤٣] بقوله تعالى عز شأنه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥ ، الحديد : ١١] وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) [البقرة : ٢٥٣] بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٢٥٤] إلخ.

وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع اشتركا فيه من التغذية والنمو (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) استئناف جيء به لبيان كيفية الانفاق الذي بين فضله.

(ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) أي انفاقهم أو ما أنفقوه (مَنًّا) على المنفق عليه (وَلا أَذىً) أي له ـ والمنّ ـ عبد الإحسان وهو في الأصل القطع ، ومنه قوله : حبل منين ـ أي ضعيف ـ وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه ، و ـ الأذى ـ التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه ، وإنما قدم المنّ لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة (لا) لشمول النفي لاتباع كل واحدة منهما ، و (ثُمَ) للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة ، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك ـ وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات ـ وذكر في الانتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الأشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠ ، الأحقاف : ١٣] أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات ، وكذلك (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) إلخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المنّ ، وبسببه مثله يقع في السين نحو (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوان الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها ـ وهو كلام حسن ـ ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة.

والآية كما أخرج الواحدي عن الكلبي ـ والعهدة عليه ـ نزلت في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله تعالى وسلم : «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال : عليّ جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين ، وقال أبو سعيد الخدري : رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول : «يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر» فأنزل الله تعالى فيه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) إلخ (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) حسبما


وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول ، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى (لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي ، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق ، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا (وَمَغْفِرَةٌ) أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه (خَيْرٌ) للسائل (مِنْ صَدَقَةٍ) عليه (يَتْبَعُها) من المتصدق (أَذىً) له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر ، وقيل : يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسئول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول (خَيْرٌ) للمسئول من تلك الصدقة ، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد ـ وعلى هذين الوجهين ـ ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه (خَيْرٌ) في الجملة مع بطلانها بالمرة ، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء ، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى ، وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره ، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه ، وصح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة ، وقد يقال : إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها ، أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مئونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى (حَلِيمٌ) فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما ، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه ، والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المنّ على الله تعالى ، وبالأذى الأذى للفقير ، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ؛ ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة ، والآية أحد متمسكاتهم ، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل : إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها ، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك ، فمعنى (لا تُبْطِلُوا) حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) فيه نوع تأييد له بناء على أن (كَالَّذِي) في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من فاعل (لا تُبْطِلُوا) أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء ، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا ، وإنما أتي به باطلا مردودا ، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر ، وانتصاب (رِئاءَ) إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم ؛ أو على أنه حال من فاعله أي


ينفق ماله مرائيا ، وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء ، وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه ، وأصل رياء (رِئاءَ) فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة ، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة ، وقد قرأ به الخزاعي ، والشموني ، وغيرهما ، والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له ؛ والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر ـ كما قيل ـ وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا (فَمَثَلُهُ) أي المرائي في الإنفاق ، والفاء لربط ما بعدها بما قبلها (كَمَثَلِ صَفْوانٍ) أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة (١) أو صفاء ، أو اسم جنس. ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى : (عَلَيْهِ تُرابٌ) أي شيء يسير منه (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي مطر شديد الوقع. والضمير للصفوان ، وقيل : للتراب.

(فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا ، وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات ، ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح ، وقيل : إنه هو الوجه والأول ليس بشيء.

(لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياء ولا ينتفعون به قطعا ، والجملة مبينة لوجه الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا يكون حالهم حينئذ فقيل : لا يقدرون ، وجعلها حالا من الذي كما قال : السمين مهزول من القول كما لا يخفى ، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى ما بعد روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى كالجمع والتفريق ، أو هو مستعمل للجمع كما في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] على رأي ، وقوله :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد (٢)

وقيل : إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته ، ولا يخفى بعده ، ورجوع الضمير إلى (الَّذِينَ آمَنُوا) من قبل بالالتفات مما لا يلتفت إليه. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى ما ينفعهم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيه تعريض بأن كلّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها. (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لطلب رضاه أو طالبين له. (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان ـ فمن تبعيضية ـ كما في قولهم هزّ من عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال ، وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس ، وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم. فمن ابتدائية كما في قوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] ويحتمل أن يكون المعنى (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد : «وتبيينا من أنفسهم» وجوز أن تكون (مِنْ) بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى. وإلى ذلك ذهب أبو علي

__________________

(١) قوله : وهو جمع إلخ كذا بخطه رحمه‌الله.

(٢) هو من شعر للأشهب النهشلي وهو شاعر إسلامي من طبقة الفرزدق ، وقيل : للحارث بن مخفض ، و «حانت» بمعنى هلكت وذهبت ، و «فلج» بالسكون موضع بقرب البصرة ، والمراد بدمائهم نفوسهم ا ه إدارة الطباعة المنيرية.


الجبائي ـ وليس بالبعيد ـ وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة.

(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي بستان بنشز من الأرض ، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة ، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربا تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده.

وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح ، والباقون بالضم ، وابن عباس بالكسر ، وقرئ «رباوة» وكلها لغات وقرئ : «كمثل حبة» بالحاء والباء. (أَصابَها وابِلٌ) مطر شديد (فَآتَتْ) أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. (أُكُلَها) بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير. ونافع بسكون الكاف تخفيفا. (ضِعْفَيْنِ) أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير ، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل ، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان ، وقيل : المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٥] ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها ، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها و ـ الطل ـ الرذاذ من المطر وهو اللين منه.

وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك ، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل ، والطل ، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم ، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل : ـ وهو محتمل ـ لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق ـ ويحتمل أن يكون من المركب ـ والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب ، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني.

والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها ، واختار بعضهم الأول ، وأبى آخرون الثاني فافهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به ، ففي الجملة ترغيب للأوّل ، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) أي أيحب أحدكم ، وكذلك قرأ عمر رضي الله عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) وقرئ جنات (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما ، والنخيل ـ قيل : اسم جمع ، وقيل : جمع نخل وهو اسم جنس جمعي ، و (أَعْنابٍ) جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك ـ لأن النخلة كلها منافع ـ ونعمت العمات : هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره ، وفي


بعض الآثار ـ ولم أجده في كتاب يعول عليه ـ إن الله تعالى يقول : أتكفرون بي وأنا خالق العنب ، و ـ الجنة ـ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة ، وعلى الأرض المشتملة عليها ، والأول أنسب بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا ؛ والجملة في موضع رفع صفة (جَنَّةٌ) أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الظرف الأول في محل رفع خبر مقدم ، والثاني حال من الضمير المستتر في الخبر ، والثالث نعت لمبتدإ محذوف أي رزق ، أو ثمر كائن من كل الثمرات ، وجوز زيادة (مِنْ) على مذهب الأخفش ، وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير ، ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع ، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء الجنة على ما سواهما ، ومنهم من قال : إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشيء (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر ، والواو للحال ، والجملة بتقدير قد في موضع نصب على الحال من فاعل ـ يود ـ أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش ، وقيل : الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء ، أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر ، واعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) لا يتمناها أحد ، والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن الاستفهام للانكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) في موضع الحال من الضمير في ـ أصابه ؛ أي أصابه الكبر ، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم ، و ـ الضعفاء ـ جميع ضعيف كشركاء جمع شريك ، وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى ، وقرئ ـ ضعاف ـ (فَأَصابَها إِعْصارٌ) أي ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة ، وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية ، وسبب الأولى أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه ، وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين ، وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر ، وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص ، وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نار تدور أيضا ، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه : (فِيهِ نارٌ) وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل : لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار للتعظيم وروى عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر ، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال ـ فأصابها نار (فَاحْتَرَقَتْ) لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر ، والفعل المقرون بالفاء عطف على (أَصابَها) وقيل : على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها ـ فاحترقت ـ وهذا كما روى عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباء منثورا بحال من هذا شأنه.


وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى : أيحب أحدكم أن تكون له (١) إلخ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر : فلم تحقر نفسك؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال : فوقعت على قلب عمر وأعجبته.

وفي رواية البخاري ، والحاكم ، وابن جرير ، وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) إلخ؟ قالوا : الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله ، قيل : وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء ، وفصل عنه لاتصاله بما ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له ، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور ، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها ، أو لعلكم تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ) أي جياد أو حلال (ما كَسَبْتُمْ) أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي.

وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في (طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) : من الذهب والفضة وفي قوله تعالى : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة ، والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد (مِنْ) في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل ، أو للتأكيد ـ ولعله أولى ـ وترك ذكر ـ الطيبات ـ لعلمه مما قبله ، وقيل : لعلمه مما بعد ، وبعض جعل (ما) عبارة عن ذلك (وَلا تَيَمَّمُوا) أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف ، وقرأ عبد الله ولا تأمموا ، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى (الْخَبِيثَ) أي الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق ـ بتنفقون ـ والتقديم للتخصيص ، والجملة حال مقدرة من فاعل (تَيَمَّمُوا) أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه ، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق ، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.

فعن عبيدة السلماني قال : سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال : نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من الرديء فقال الله تعالى : (وَلا

__________________

(١) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (أَيَوَدُّ).


تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث ، والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين ، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثروا كذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه ، و (تُنْفِقُونَ) حال من الفاعل المذكور ـ أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال ـ أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) حال على كل حال من ضمير (تُنْفِقُونَ) أي ـ والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات ـ أو بوجه من الوجوه (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم ، وقد استعير هنا ـ كما قال الراغب ـ للتغافل والتساهل ، وقيل : إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل ، وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا ـ وهو الأكثر ـ ولازما مثل أغضى عن كذا ، والآية محتملة للأمرين ، وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم ، والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم ، فقرأ الزهري ـ تغمضوا ـ بتشديد الميم وعنه أيضا ـ تغمضوا ـ بضم الميم وكسرها مع فتح التاء ، وقرأ قتادة ـ تغمضوا ـ على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمنسبك من (أَنْ) والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه ، وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية ، وسيبويه لا يجوز أن تقع (أَنْ) وما في حيزها حالا ، وزعم الفراء (أَنْ) هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم ، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه ، ومن البعيد في الآية ما قيل : إن الكلام تم عند قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) والحال ـ أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم ـ فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل : أمنه تنفقون إلخ ، وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لانتفاعكم ، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهورعلمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه (حَمِيدٌ) أي مستحق للحمد على نعمه ، ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به ، وقيل: حامد بقبول الجيد والإثابة عليه ، واحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة حتى البقل ، واستدل بها على أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر ، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم ، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا ، ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم : لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الأخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الأخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته ، ولوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة ، ومن الناس من زعم أن استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع ، والمراد أن ما يخوفكم به هو وعد الخبر لأن الفقر للإنفاق أجل خير ، ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل ، وقرئ ـ الفقر ـ بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب :


أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته

ولا برم عند اللقاء هيوب

والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية ، وقيل : المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه ؛ وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم (مَغْفِرَةً) لذنوبكم ، وعن قتادة لفحشائكم ، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى : (مِنْهُ) فهو مؤكد لفخامتها ، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان (وَفَضْلاً) أي رزقا وخلفا ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة ، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا.

وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها ، وقيل : المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها (وَاللهُ واسِعٌ) بالرحمة والفضل (عَلِيمٌ) بما تنفقونه فيجازيكم عليه ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وفي رواية عنه الفقه في القرآن ، ومثله عن قتادة ، والضحاك ، وخلق كثير ، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم» وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء ـ الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه ـ وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل ، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه ، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته ، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى ، وقال أبو عثمان : هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام ، وقيل : غير ذلك ، وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها ، وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة.

قيل : ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها (مَنْ يَشاءُ) من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على


المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم ، وقرأ يعقوب ـ يؤتى ـ على البناء للفاعل وجعل (مَنْ) الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف ، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن ـ يؤته الحكمة ـ (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً) عظيما (كَثِيراً) إذ قد جمع له خير الدارين.

أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» وأخرج البخاري ، ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم» وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول : «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس ، وديمقراطيس ، وأفلاطون ، وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد. وأبو يعلى من حديث جابر «أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية «يكفيكم كتاب الله تعالى» ووجه الاستدلال أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا ، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر ، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي.

ومن باب الإشارة في الآيات أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة ، الأول الانفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال ، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] إلخ ، والثاني الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا الله تعالى ، وإليه أشار بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة ، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة ، ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض ، والثالث الانفاق بالله تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) والنفس مكتسبة بهذا الاعتبار وجزاء الانفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة ، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف ؛ وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى ، وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم


الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر ـ وهو حال له بالنسبة إليه تعالى ـ وكونه مزيلا لرذائل البخل ـ وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه ـ وكونه نافعا مريحا ـ وهو حال له بالنسبة إلى المستحق ـ فإذا منّ صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل ، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية ، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل : وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب :

هم (ينذرون دمي) وأن

ذر إن لقيت بأن أشدا

وفعله كضرب ونصر ، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب : نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم ، والفاء داخلة في الجواب إن كانت (ما) شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين ، وقال ابن عطية : إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان ـ بأو دونهما ، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث ، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى ، نعم جوز إرجاع الضمير إلى (ما) لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.

(وَما لِلظَّالِمِينَ) أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى ، والمتحرين للخبيث في الإنفاق ، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق ، والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله ، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ؛ ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى (مِنْ أَنْصارٍ) أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير ـ كحبيب ، وأحباب ـ أو ناصر ـ كشاهد وأشهاد ـ والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد.

والقول ـ بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت (مِنْ) زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله ، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر ، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه ،


واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء ، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ، ويكره ما يكفر اليمين» وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) أي تظهروا إعطاءها ، قال الكلبي : لما نزلت (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الآية قالوا : يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت ، فالجملة نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما ، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع ، وقيل : الصدقات المفروضة ، وقيل : العموم (فَنِعِمَّا هِيَ) ـ الفاء ـ جواب للشرط ، ـ ونعم ـ فعل ماض ، وما كما قال ابن جني : نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف ، والجملة خبر عن هي ، والرابط العموم ، وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل قيل : ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم ، وقرأ أبو عمرو ، وقالون : وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وروي عنهم الإسكان أيضا ـ واختاره أبو عبيدة ـ وحكاه لغة ، والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة ، وممن أنكره المبرد ، والزجاج ، والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حدة (وَإِنْ تُخْفُوها) أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناء على أن المراد بالصدقات المبدأة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب ـ عندي درهم ونصفه ـ أي نصف درهم آخر ، وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قوله تعالى : (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل : ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدّعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس ، وتخصيص الفقراء بالذكر اهتماما بشأنهم ، وقيل : إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم ، والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط ـ ودون إثبات ذلك الموت الأحمر ـ وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي فالإخفاء (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإبداء ، و (خَيْرٌ لَكُمْ) من جملة الخيور ، والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى.

أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال : يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل؟ قال : «صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية» ، وأخرج الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب».

وأخرج البخاري «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ إلى أن قال ـ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا» وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي والله يكفر أو الإخفاء ، والإسناد مجازي ، و (مِنْ) تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات ،


وقيل : مزيدة على رأي الأخفش ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية ابن عياش ، ويعقوب ـ «نكفّر» ـ بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي ونحن نكفر ، وقيل : لا حاجة إلى تقدير المبتدأ ، والفعل نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط ، وقرأ حمزة. والكسائي ـ نكفر ـ بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد ، واستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء ، وما دخلت عليه في محل جزم ، وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدبر ، وقرئ ـ وتكفر ـ بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء (خَبِيرٌ) عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله ، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية ، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء ـ إن أنت إلا بشير ونذير ، وما عليه إلا البلاغ المبين ـ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا (مَنْ يَشاءُ) هدايته منهم ، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن. وأبو علي الجبائي ، وهو مبني على رجوع ضمير (هُداهُمْ) إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة ، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية» وأخرج ابن جرير عنه قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت.

وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات ، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط ، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على التقديرين ظاهر ، وجعلها مرتبطة ـ بقوله سبحانه : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩] إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها ـ ليس بشيء (وَما تُنْفِقُوا) في وجوه البر (مِنْ خَيْرٍ) أي مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم «فلا تيمموا الخبيث» ولا تبطلوه بالمنّ والأذى ورئاء الناس ، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به دينيّ ونفع الكافر منهم دنيوي ، و (ما) شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ، (مَنْ) تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب ، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) فإنما يكون لكم لا عليكم


إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى ، أو الا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مراءين ولا متيممين الخبيث ، أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم ، وقيل : إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجلّ من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا ، وأيضا قول القائل : فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال : فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا ، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد إلا (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧ ، ٢٦٥ ، النساء : ١١٤] تعالى والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق ، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل : كيف يمنّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما لو عوض وزيادة ، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل ، وقيل : إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا» والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى (ما) مجازي وحقيقته ما سمعت ، والآية بناء على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر ، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز ، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف ، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه ، وظاهر قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان : ٨] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.

(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم ، والجملة حال من ضمير (إِلَيْكُمْ) والعامل يوف (لِلْفُقَراءِ) متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء ، والجملة استئناف مبني على السؤال ، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا) ، وقوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) اعتراض أي وما تنفقوا للفقراء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي حبسهم الجهاد أو العمل في مرضاة الله تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم بذلك (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم ، قاله ابن عباس. ومحمد بن كعب القرظي ـ وكانوا نحوا من ثلاثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين حقا ؛ ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق إلى يوم الدين (يَحْسَبُهُمُ) أي يظنهم (الْجاهِلُ) الذي لا خبرة له بحالهم.

(أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي من أجل تعففهم على المسألة ـ فمن ـ للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل ، وقيل : لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم ، والتعفف ترك الشيء وهو اتحاد الفاعل ، وقيل : لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم ، والتعفف ترك الشيء


والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه ، ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه ، وحال هذه الجملة كحال سابقتها (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال.

أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال : «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين».

وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم ، ووزن ـ سيما ـ عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي إلحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده ، وقيل : سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته. ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين ، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا ـ وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وإليه ذهب الفراء ، والزجاج ، وأكثر أرباب المعاني ـ وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد قول الأعشى :

لا يغمز الساق من ـ أين ومن وصب ـ

ولا يغص على ـ شرسوفه الصغر

واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وما هنا ليس كذلك إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه ، وأجيب بأن هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا ، وأيضا (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان ـ بالسيما ـ وقيل : المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء ، أخرج البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف ، واقرءوا إن شئتم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة ، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال ، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار ، وانتصاب (سِرًّا وَعَلانِيَةً) على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرّين ومعلنين ، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه ، أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا ، والباء بمعنى في ، واختلف فيمن نزلت ، فأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما ، وسرا درهما وعلانية درهما ، وفي رواية الكلبي ، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما حملك على هذا؟ قال : حملني أن استوجب على الله تعالى الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ألا إن ذلك لك».

وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والواحدي من طريق حسن بن عبد الله الصنعاني أنه سمع ابن


عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) إلخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله تعالى ـ وهو قول أبي أمامة ، وأبي الدرداء ، ومكحول ، والأوزاعي ، ورباح بن يزيد ـ ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى ، وقال بعضهم : إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية ، وتعقبه الإمام السيوطي ـ بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وخبر أنّ الآية نزلت فيه ـ لم أقف عليه وكان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : لما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية الكريمة ، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعى (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) المخبوء لهم في خزائن الفضل (عِنْدَ رَبِّهِمْ) والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها ، وقيل : للعطف والخبر محذوف أي ـ ومنهم الذين ـ إلخ ، ولذلك جوز الوقف على علانية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة.

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به ، والربا في الأصل الزيادة من قولهم : ربا الشيء يربو إذا زاد ، وفي الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا ـ وإن كان أحد العوضين أزيد ـ وقيل : الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما ، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الالتباس بالجمع ، وقال الفراء : إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم ـ ربوا ـ بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين ، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله ، قال أبو البقاء : وهو خطأ عندنا (لا يَقُومُونَ) أي يوم القيامة ـ وبه قرئ كما في الدر المنثور.

(إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا ـ و ـ التخبط ـ تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة ، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود ، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إياك الذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له ، ويشهد لذلك ـ أن هذه الأمة ـ يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ـ وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ـ واختاره الزجاج ـ وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ، وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات (مِنَ الْمَسِ) أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن


الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون ، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب ـ وما تشير إليه الآية سبب بعيد ـ وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي ، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا ، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها ، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها ، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا ، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات.

وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية : إن كون الصرع والجنون من الشيطان ـ باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) [إبراهيم : ٢٢] الآية وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة ـ وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته» ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران : ٣٦] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين» وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال : «فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه» إلى غير ذلك من الآثار ، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها ، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك ، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل ، وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن» صريح في ذلك ، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال : إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا ، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه ، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات ـ ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد ، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب ـ وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس ـ لأحد سوانا فليحفظ.

والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء ـ على أن ما قبل (إِلَّا) يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب ـ أكلهم الربا ـ أو ـ بيقوم ـ أو ـ يتخبطه ـ


(ذلِكَ) إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله :

ومهمه مغبرة أرجاؤه

كأن (لون أرضه سماؤه)

وقيل : يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم ، وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا ، وهو أن من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابله شيء من الثوب ، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابله المال ، وقيل : الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها ، وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ حالية ، وفيها ـ قد ـ مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان ، والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان ، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا واستحلاله ، و «من» شرطية أو موصولة ، (مَوْعِظَةٌ) فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير ، وقرأ أبيّ ، والحسن : جاءته بإلحاق التاء (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده و (مِنَ) لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف (فَانْتَهى) عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه ، وهذا هو المروي عن الباقر ، وسعيد بن جبير ، وقيل : المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل ، والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر ، و (ما) في موضع الرفع بالظرف إن جعلت (مِنَ) موصولة ، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد ، وكون المرفوع اسم حدث ، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف (وَأَمْرُهُ) أي المنتهى بعد التحريم (إِلَى اللهِ) إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل ، وقيل : المراد أنه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه.

ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما (سَلَفَ) أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر (وَمَنْ عادَ) أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع (فَأُولئِكَ) إشارة إلى ـ من عاد ـ والجمع باعتبار المعنى (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ماكثون أبدا لكفرهم ، والجملة مقررة لما قبلها ؛ وجعل الزمخشري متعلق ـ عاد ـ الربا فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا ـ وهو التفسير المأثور ـ لا يبقى للاستدلال بها مساغ ، واعترض بأن الخلود لو جعل جزاء للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك


جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود ، وأجيب بأن ما يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره ، وقال بعض المحققين في الجواب : إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا ، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا.

وأما قوله سبحانه : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) وقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ) فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد ، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ، أخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن جريج ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».

وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال : سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق ، ولعل هذا مخرج الغالب ، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى لأهله منه شيء (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة.

أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ـ فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج الشافعي ، وأحمد مثل ذلك. والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال ، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان ـ كذا قيل ـ وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا.

(وَاللهُ لا يُحِبُ) لا يرتضي (كُلَّ كَفَّارٍ) متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له (أَثِيمٍ) منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد ، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله ، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا الله تعالى من ذلك.

فقد أخرج الطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : «درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال : «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» وخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه».

وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال : «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام». وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه».

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ


وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بعضكم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بما وجب الإيمان به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) على الوجه الذي أمروا به (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما ، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) الموعود لهم حال كونه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لوفور حظهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الظاهر (اتَّقُوا اللهَ) أي قوا أنفسكم عقابه (وَذَرُوا) أي اتركوا (ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) لكم عند الناس (إِنْ كُنْتُمْ


مُؤْمِنِينَ) عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله ، و (مِنَ) تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي ، وقيل : متعلقة ـ يبقي ؛ وقرأ الحسن ؛ بقي ؛ بقلب الياء ألفا على لغة طيئ ، والآية كما قال السدي : نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو ، وربيعة بن عمرو ، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون ، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة : والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل ـ ويقال ـ عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رءوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله وذلك قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف (فَأْذَنُوا) أي فأيقنوا ـ وبذلك قرأ الحسن ـ وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني ، وقيل : لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف ـ وجمهور المفسرين على الأول ـ وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم ، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير ـ حرب ـ للتعظيم ، ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة ، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يدي لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. (وَإِنْ تُبْتُمْ) عما يوجب الحرب (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) تأخذونها لا غير (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل ، وقرأ المفضل عن عاصم ـ لا تظلمون ـ الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى ، والجملة إما مستأنفة ـ وهو الظاهر ـ وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا ـ وهو رأي الأخفش ـ ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه ، وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم ، قال المولى أبو السعود. وغيره : واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) أي إن وقع المطلوب ـ ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على ـ إن ـ كان تامة ، وجوز بعض الكوفيين ـ إن ـ تكون ناقصة ،


و (ذُو) اسمها والخبر محذوف أي ـ وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم.

وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ ـ ومن كان ذا عسرة ـ وعلى القراءتين (كانَ) ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم ، وإن لم يذكر ، والآية نزلت ـ كما قال الكلبي : حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير : نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم (فَنَظِرَةٌ) الفاء جواب الشرط ـ ونظرة ـ مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي ـ فالأمر ، أو فالواجب نظرة ، والنظرة كالنظرة ـ بسكون الظاء الانتظار ، والمراد به الإمهال والتأخير ، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير (ذُو عُسْرَةٍ) أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق ـ لابن ، وتامر ـ وعنه أيضا ـ فناظره ـ أمر من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة (إِلى مَيْسَرَةٍ) أي إلى وقت أو وجود يسار ، وقرأ حمزة ، ونافع ـ ميسرة ـ بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة ، وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل ، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة ـ كما قيل في مكرم ـ جمع مكرمة ، وقيل : أصله ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برءوس أموالكم كلا أو بعضا (خَيْرٌ لَكُمْ) أي أكثر ثوابا من الإنظار ، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا.

أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة ، وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لما أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة» وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه : (خَيْرٌ لَكُمْ) لا يليق بالواجب بل بالمندوب ، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، والحسن ، والضحاك ، وأئمة أهل البيت ، وذهب شريح ، وإبراهيم النخعي ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جواب «إن» محذوف ـ أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه ـ وفيه تحريض على الفعل (وَاتَّقُوا يَوْماً). وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا (تُرْجَعُونَ فِيهِ) على البناء للمفعول من الرجع ، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل : في التهويل ، وقرئ ـ يرجعون ـ على طريق الالتفات ، وقرأ أبيّ ـ تصيرون ـ وعبد الله ـ تردون. (إِلَى اللهِ) أي حكمه وفصله (ثُمَّ تُوَفَّى) أي تعطى كملا (كُلُّ نَفْسٍ) كسبت خيرا أو شرا (ما كَسَبَتْ) أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار ، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى ، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن ، ولك أن تقول : إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله.

أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية (وَاتَّقُوا يَوْماً) إلخ آخر ما نزل من القرآن ، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل : تسع ليال ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاث ساعات ،


وقيل : أحدا وعشرين يوما ، وقيل : أحدا وثمانين يوما ثم مات ـ بنفسي هو ـ حيا وميتا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روي أنه قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وفي رواية أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «جاءني جبرائيل فقال : اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة» ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير. والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية الربا ، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب ـ كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي ـ أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا ، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد ، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله تعالى وبما جاء منه (إِذا تَدايَنْتُمْ) أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا (بِدَيْنٍ) فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن (تَدايَنْتُمْ) يجيء بمعنى تعاملتم بدين ، وبمعنى تجازيتم ، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن ، وقيل : ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام ، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) [المائدة : ٨] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس ، وقيل : ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل ، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك (إِلى أَجَلٍ) أي وقت وهو متعلق بتداينتم ، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل (مُسَمًّى) بالأيام أو الأشهر ، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض (فَاكْتُبُوهُ) أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوثق ؛ والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣] والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك ، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه ـ ثم قرأ الآية ـ واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا ، ومفعول ـ يكتب ـ محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة ، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب ـ أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص ـ ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ـ بكاتب ـ أو بفعله ، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم ، فالكلام ـ كما قال الطيبي ـ مسوق لمعنى ، ومدمج فيه آخر بإشارة النص ـ وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيها ـ ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون ، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحب المفسدين.

(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر (أَنْ يَكْتُبَ) بين المتداينين كتاب الدين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق ـ بيكتب ـ والكلام على حد ـ وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك ـ أي ـ لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه


وميزه ـ ويجوز أن يتعلق الكاف ـ بأن يكتب ـ على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه ، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه : (بِالْعَدْلِ) وجوز أن يتعلق بقوله تعالى : (فَلْيَكْتُبْ) والفاء غير مانعة كما في (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] لأنها صلة في المعنى ، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد ، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة ، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل ، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا ، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى ، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد ، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد ، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟!

و «ما» قيل : إما مصدرية أو كافة ـ وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ـ وعليهما فالضمير لها ، وعلى الأولين للكاتب ، وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم (وَلْيُمْلِلِ) من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت ، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال : إملاء فهو والإملال بمعنى أي ، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى (وَلْيَتَّقِ) أي الذي عليه الحق (اللهَ رَبَّهُ) جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال (وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص (مِنْهُ) أي من الحق الذي يمليه على الكاتب (شَيْئاً) وإن كان حقيرا ، وقرئ «شيا» بطرح الهمزة و «شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير ، وقيل : يجوز أن يرجع ضمير ـ يتق ـ للكاتب وليس بشيء لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة ، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي عن كليهما ، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل ، وإرجاع كل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل ، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن ، وفي (مِنْهُ) وجهان : أحدهما أن يكون متعلقا ببخس و ـ من ـ لابتداء الغاية ، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا. و (شَيْئاً) إما مفعول به وإما مصدر (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره ، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل ، وجوز أن يكون (عَلَيْهِ) خبرا مقدما ، (الْحَقُ) مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية ، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (سَفِيهاً) أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد ، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد ، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي (أَوْ ضَعِيفاً) أي صبيا ، أو شيخا خرفا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي ـ أو غير مستطيع


للاملاء بنفسه لخرس ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة ، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في ـ أن يمل ـ وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، وقيل : إن الضمير فاعل ـ ليمل ـ وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن النفي ، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم ، ومثله الفك في قوله تعالى : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم ، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه (بِالْعَدْلِ) بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس ، واستدل بعضهم ـ بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس ـ وليس بشيء كما لا يخفى.

ومن الناس من استدل بقوله سبحانه : (فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ) على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي ، والجبائي ، والرماني إلا أنهم قالوا : إنها واجبة على الكفاية ـ وإليه يميل كلام الحسن ـ وقال مجاهد ، والضحاك : واجب عليه أن يكتب إذا أمر ، وقيل : هي مندوبة ، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك.

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما ، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا ، وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك ، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق باستشهدوا ـ و (مِنْ) لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين ، و (مِنْ) تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية ، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين ، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم ، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله ، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة ، وإلى ذلك ذهب شريح ، وابن سيرين ، وأبو ثور ، وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ـ فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم.

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي الشهيدان (رَجُلَيْنِ) أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فان لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان ، أو فرجل وامرأتان يشهدون. أو يكفون ، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان ، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا ، وإن جعلت ـ يكن ـ تامة استغنى عن تقدير شهود ، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا ، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح ، وقال مالك : لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص ، ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق ، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين في الكتب الفقهية ، وقرئ ـ «وامرأتان» ـ بهمزة ساكنة ، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به


فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين ، وقيل : هو صفة لشهيدين ـ وضعف بالفصل الواقع بينهما ، وقيل : بدل من ـ رجالكم ـ بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا ، واختار أبو حيان تعلقه ـ باستشهدوا ـ ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله ـ وهو كما ترى ـ والخطاب للمؤمنين وقيل : للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر (مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن ، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك ، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد ، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار ، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا ، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ) قيل : والنكتة في إيثار (أَنْ تَضِلَ) إلخ على ـ أن تذكر إن ضلت ـ الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه ، و (إِحْداهُما) الثانية يجوز أن تكون فاعل ـ تذكر ـ وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية ، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر ـ والأخرى ـ فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى ـ كما وهم ـ حتى يتعين الأول بل من قبيل ـ أرضعت الصغرى الكبرى ـ لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا ـ كما قيل ـ عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي ، وذكر غير واحد أن العدول عن ـ فتذكرها ـ الأخرى ـ وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش ـ إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال ـ بإحداهما ـ بعينها والتذكير بالأخرى ، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير (إِحْداهُما) الأولى راجعا إلى الشهادتين ، وضمير (إِحْداهُما) الأخرى إلى المرأتين فالمعنى ـ أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما ـ وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال : ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه : (ضَلُّوا عَنَّا) [الأعراف : ٣٧] أي ضاعوا منا ، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام ، وما ذكر في التأييد ينبئ عن قلة الاطلاع على اللغة.

ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي ، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وغيرهم ، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل : إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى (فَتُذَكِّرَ) إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى


واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن ، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه ـ وبعد التجوز ليس على ظاهره ـ لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما ، وقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا ـ والتزام توجيه مثل ذلك ، وعرضه في سوق القبول ـ لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول ، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار ـ إحدى ـ معرضا بما ذكره المغربي فقال :

يا رأس أهل العلوم السادة البررة

ومن نداه على كل الورى نشره

ما سر تكرار ـ إحدى ـ دون تذكرها

في آية لذوي الاشهاد في البقرة

وظاهر الحال إيجاز الضمير على

تكرار (إِحْداهُما) لو أنه ذكره

وحمل الاحدى على نفس الشهادة في

أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة

فغص بفكرك لاستخراج جوهره

من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

«فأجاب القاضي» :

يا من فوائده بالعلم منتشره

ومن فضائله في الكون مشتهره

يا من تفرد في كشف العلوم لقد

وافى سؤالك والأسرار مستتره

(تضل إحداهما) فالقول محتمل

كليهما فهي للاظهار مفتقره

ولو أتى بضمير كان مقتضيا

تعيين واحدة للحكم معتبره

ومن رددتم عليه الحل فهو كما

أشرتم ليس مرضيا لمن سبره

هذا الذي سمح الذهن الكليل به

والله أعلم في الفحوى بما ذكره

وقرئ «أن تضلّ» بالبناء للمفعول والتأنيث ، وقرئ ـ «فتذاكر» ـ وقرأ ابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، والحسن ـ «فتذكر» ـ بسكون الذال وكسر الكاف ، وحمزة (أَنْ تَضِلَ) على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين ، والفاء في الجزاء قيل : لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة ، وقيل : لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه ، وقيل : الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير ـ الذاكرة ـ و (إِحْداهُما) بدل عنه أو عن الضمير في (فَتُذَكِّرَ) وقال بعض المحققين : الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما ـ تذكر إحداهما الأخرى ـ وعليه كلام كثير من المعربين ، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء الشهادة أو لتحملها ـ وهو المروي عن ابن عباس ، والحسن رضي الله تعالى عنهم ـ وخص ذلك مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة ، و (ما) صلة وهي قاعدة مطردة بعد (إِذا وَلا تَسْئَمُوا) أي تملوا أو تضجروا ، ومنه قول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم


(أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي الدين ، أو الحق ـ أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به ـ لتسأموا ـ ويتعدى بنفسه ، وقيل : يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به ، وقيل : المراد من ـ السأم ـ الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [النساء : ١٤٢] ولذا وقع في الحديث «لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت» وقرئ ـ و «لا يسأموا» ـ «أن يكتبوه» بالياء فيهما (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا ، وقيل : منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى (إِلى أَجَلِهِ) حال من الهاء في ـ تكتبوه ـ أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير (ذلِكُمْ) أي الكتب ـ وهو الأقرب ـ أو الإشهاد ـ وهو الأبعد ـ أو جميع ما ذكر ـ وهو الأحسن ـ والخطاب للمؤمنين (أَقْسَطُ) أي أعدل (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه سبحانه. (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ ، وقيل : من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم ، وقال أبو حيان : قسط يكون بمعنى جار وعدل ، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع ـ وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط ـ وقيل : هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل ، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك ، قيل : وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام ، وحرف الجر مقدر هنا ـ وهو إلى كما سمعت ـ وقيل : مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام ، وحرف الجر مقدر هنا ـ وهو إلى كما سمعت ـ وقيل : اللام ، وقيل : من ، وقيل في ، ولكل وجهة (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد ـ كذا قيل.

وفي الدر المصون يجوز أن يكون استثناء متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة ، وقيل : إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة ؛ وقيل : غير ذلك ـ ولعل الأول أولى ـ ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة ـ كما قال الفراء ـ وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام ، وقال بعضهم : يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام ، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين ، ورفعها الباقون على أنها اسم (تَكُونَ) والخبر جملة (تُدِيرُونَها) ويجوز أن تكون (تَكُونَ) تامة فجملة (تُدِيرُونَها) صفة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان ، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي هذا التبايع المذكور أو مطلقا (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) نهي عن المضارة ـ والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول ـ والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه ـ ولا يضار ـ بالفك والكسر ، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح ـ والمعنى على الأول ـ نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان ، وعلى الثاني النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو لا يعطى


الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مئونة المجيء من بلد ، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال : لما نزلت هذه الآية (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) إلخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي فيقول : إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول : إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك ، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى ، وقرأ الحسن ـ ولا يضار ـ بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم (فَإِنَّهُ) أي ذلك الفعل (فُسُوقٌ بِكُمْ) أي خروج عن طاعة متلبس بكم ، وجوز كون الباء للظرفية ، قيل : وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله : فما للنوى جذ النوى قطع النوى* حتى قيل : سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح ، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير ، وما في البيت من القسم الثاني لأن ـ جذ النوى قطع النوى ـ فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن (اتَّقُوا اللهَ) حث على تقوى الله تعالى (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وعد بإنعامه سبحانه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعظيم لشأنه عز شأنه ، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء ، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل (اتَّقُوا) أي اتقوا الله مضمونا لكم التعليم ، ويجوز أن تكون حالا مقدرة ، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم حسبما بين قبل ، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال.

وقرأ أبو العالية كتبا ، والحسن ، وابن عباس ـ كتابا جمع كاتب (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم ، أو فليؤخذ ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول ـ وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري ـ بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها ، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب ، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا ، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن ، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي :

فالخبز واللحم لهن راهن

وقهوة راووقها ساكب

وفي التعبير ـ بمقبوضة ـ دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ ـ فرهن ـ كسقف وهو جمع رهن أيضا ، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن ، وقرأ أبي ـ فإن أو من ـ أي أمنه


الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله ، و (بَعْضاً) على هذا منصوب بنزع الخافض ـ كما قيل ـ (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الأداء (أَمانَتَهُ) أي دينه ، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه ، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان به.

وقرئ ـ «الذيتمن» ـ بقلب الهمزة ياء ، وعن عاصم أنه قرأ ـ «الذتمن» ـ بإدغام الياء في الستار ، وقيل هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم ، ورد بأنه مسموع في كلام العرب ، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال : إنه مقصور على السماع ، ومنه قراءة ابن محيصن ـ «اتمن» ـ ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين ، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم ، ففي البخاري عنها كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطئ مخطئ (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في الخيانة وإنكار الحق ، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى ، وقد أمر سبحانه ـ بالتقوى ـ عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة ، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح ، وقرئ يكتموا على الغيبة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) الضمير في أنه راجع إلى (مَنْ) وهو الظاهر ، وقيل : إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له ، و (آثِمٌ) خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجيء هذا على القول بإن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري. والكوفي يجيز ذلك ، وقيل : إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون ـ لمن ـ وقيل : (آثِمٌ) خبر إن وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير ـ إنه ـ وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل ، وقيل : (آثِمٌ) مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر ، والجملة خبر إن ، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين ، والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوّزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل : (فَإِنَّهُ آثِمٌ) لتم المعنى مع الاختصار ، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها ، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح ، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب ، وقيل : أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقة ومعدن اقترافه ، وقيل : للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه» ، أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله ، فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والكل ليس بشيء كما لا يخفى ، وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه بالمفعول به.

و (آثِمٌ) صفة مشبهة ، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل ، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء ، وقرأ ابن أبي عبلة (آثِمٌ قَلْبُهُ) أي جعله آثما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك (عَلِيمٌ) فيجازيكم بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر.


(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت ، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها (وَإِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا للناس (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن لا تظهروه.

(يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي يجازيكم به يوم القيامة ، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان ، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها ، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا : إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] لأنا نقول : المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله :

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا

فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

فالآية على ما قررنا محكمة ، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما أخرجه أحمد ، ومسلم عن أبي هريرة قال : «لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (و (١) إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] إلخ ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أحسبه ابن عمر (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نسختها الآية التي بعدها ، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه ، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني.

ومن هنا قال الطبرسي : وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة ، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد ، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا ، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره ؛ وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) [البقرة : ١٠٩] كأنه قيل : كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم


التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى ، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال : «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبت بعضها وأخطأت بعضها» ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما ، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى ، وقيل : معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء ، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه ، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام ، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك ـ يحاسبكم به الله ـ وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال : نزلت في الشهادة ، وقيل : الآية على ظاهرها ، و «ما في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى «يحاسبكم» يخبركم به الله تعالى يوم القيامة ، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم ، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر ، وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب.

وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به ، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) [آل عمران : ٢٩] فلما قيل : إن المعلق ـ بما في أنفسهم ـ هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية ، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية (فَيَغْفِرُ) بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله (لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من عباده (وَيُعَذِّبُ) بعدله. (مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه من عباده ، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه ، وقرأ غير ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار ـ أن ـ وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق ، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب ، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك :

والفعل من بعد الجزاء إن يقترن

بالفاء أو الواو بتثليث قمن

وقرأ ابن مسعود ـ «يغفر» ، و «يعذب» ـ بالجزم بغير فاء ـ ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر ـ وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من (يُحاسِبْكُمْ) بدل البعض من الكل أو الاشتمال ، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه ـ بيحاسبكم ـ ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل ، وقيل : إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال ـ كأحب زيدا علمه ـ وإن


أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض ـ كضربت زيدا رأسه ـ وقيل : غير ذلك ، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال : ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد ، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله:

متى تأتنا ـ تلمم ـ بنا في ديارنا

تجد خير نار عندها خير موقد

فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف ، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام ، وطعن الزمخشري ـ على عادته في الطعن ـ في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي ، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجع بكونه إثباتا ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له ـ وممن روي ذلك عنه ـ أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات ، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين ، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا ، منهم الكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرواسي ، ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط ، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب ، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر (آمَنَ الرَّسُولُ) قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى عزوجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة ، الزكاة ، والطلاق ، والحيض والإيلاء ، والجهاد ، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدين ، والربا ، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل ، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.

أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال : «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (آمَنَ الرَّسُولُ) قال عليه الصلاة والسلام : وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة ـ وهي شاهد لحديث أنس ـ «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن» (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا ، وأجمله إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة


والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه ، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف (وَالْمُؤْمِنُونَ) يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه ، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ـ وآمن المؤمنون ـ وعليه يكون قوله تعالى : (كُلٌّ آمَنَ) جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ ، و (كُلٌ) مبتدأ ثان ، و (آمَنَ) خبره ، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون (كُلٌ) تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها ـ ورجح الوجه الأول ـ بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك ، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة ، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ؛ ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير ، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك ، وتوحيد الضمير في (آمَنَ) مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله ـ آمن ـ (بِاللهِ) أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك (وَمَلائِكَتِهِ) من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى : (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وكتابه ـ بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع ـ على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري ـ وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد ـ وهذا المبحث من معضلات علم المعاني ـ وقد فرغ من تحقيقه هناك.


(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير (كُلٌ) مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع ـ ولعله أولى ـ والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير (آمَنَ) أو مرفوعة على أنها خبر آخر ـ لكل ـ أي يقولون ، أو يقول : لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.

ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها ، ومن اعتبر إدراج الرسول في (كُلٌ) واستبعد هذا قال : بالتغليب هاهنا ، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب ، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٣٦] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر ، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات ، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية عنه ـ لا يفرق ـ بالياء على لفظ (كُلٌ) وقرئ لا يفرقون حملا على معناه ، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا ، والكلام على (أَحَدٍ) وإدخال (بَيْنَ) عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)(وَقالُوا) عطف على (آمَنَ) والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم (سَمِعْنا) أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع (وَأَطَعْنا) وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي ، وقيل : (سَمِعْنا) ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته ، و (أَطَعْنا) ما فيه من الأمر والنهي (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك ، أو نسألك غفرانك ذلك ، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به ـ ولعل الأول أولى ـ لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص ، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول ، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي ، والجملة قيل : معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء ـ والتكليف ـ إلزام ما فيه كلفة ومشقة ، و ـ الوسع ـ ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه ـ لا يكلف نفسا ـ من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة.


وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» ـ بفتح السين (١) والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فبطريق الأولى ، وقيل : إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.

(لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته ـ قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس‌سره ـ وهو الذي ذهب إليه الكثير ، وقيل : يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم ـ ولا يخفى أنه بعيد ـ من جهة ـ قريب من أخرى ـ والضمير في (لَها) للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر ، ومبين (ما) الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه ، ومبين (ما) الثانية الشر لدلالة ـ على ـ الدالة على الضر عليه : وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال ، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف ، وقيل : استيفاء لحكاية الأقوال ، وفي البحر ـ وهو المروي عن الحسن ـ أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم ، ولذلك قيل وقد تقدم :

لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه

من فيض جودك ما علمتني الطلبا

والمؤاخذة : المعاقبة ، وفاعل هنا بمعنى فعل ، وقيل : المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف ، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه ، الأول أن المراد من الأول الترك ومنه قوله :

ولم أك عند الجود للجود قاليا

ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا

والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطإ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل : ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات ، الثاني أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال

__________________

(١) قوله : بفتح السين كذا بالأصل ولعله محرف عن فتح الواو لأن الواو مثلث كما في القاموس ا ه مصححه.


إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير ، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر ، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه.

ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني ، وقال النووي حديث حسن : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه.

والمراد به التكاليف الشاقة ، وقيل : الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه ، وقرئ آصارا على الجمع ، وقرأ أبيّ ـ ولا تحمّل ـ بالتشديد للمبالغة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا ، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا ـ وهو ما كلفه بنو إسرائيل ـ من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها ، وقيل : من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه ، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة ، وقيل : هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي ، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير (وَاعْفُ عَنَّا) أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة.

(وَاغْفِرْ لَنا) بستر القبيح وإظهار الجميل (وَارْحَمْنا) وتعطف علينا بما يوجب المزيد ، وقيل : (اعْفُ عَنَّا) من الأفعال (وَاغْفِرْ لَنا) من الأقوال (وَارْحَمْنا) بثقل الميزان ، وقيل : (وَاعْفُ عَنَّا) في سكرات الموت (وَاغْفِرْ لَنا) في ظلمة القبور (وَارْحَمْنا) في أهوال يوم النشور ، قال أبو حيان : ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ (رَبَّنا) لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء ـ فاعف عنا ـ مقابلا لقوله تعالى : (لا تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا) لقوله سبحانه : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا) لقوله عز شأنه : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ والعفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب (أَنْتَ مَوْلانا) أي مالكنا وسيدنا ، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال : مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء :

وإن صخرا ـ لمولانا وسيدنا ـ

وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار

وخطئوا من قال : سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى ـ كما قاله ابن أبيك ـ ولي فيه تردد قيل : والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق


الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار.

(ومن باب الاشارة في هذه الآيات) (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه (وَما فِي الْأَرْضِ) أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) يشهده بأسمائه وظواهره (يُحاسِبْكُمْ بِهِ) وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لفساد اعتقاده ووجود شكه ، أو رسوخ سيئاته في نفسه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب (آمَنَ الرَّسُولُ) الكامل الأكمل (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق (وَقالُوا سَمِعْنا) أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بالفناء فيك (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات (لَها ما كَسَبَتْ) من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وتوجهت إليه بالقصد من السوء (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة (أَوْ أَخْطَأْنا) بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك (وَاعْفُ عَنَّا) سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر (وَارْحَمْنا) بالوجود الموهوب بعد الفناء (أَنْتَ مَوْلانا) أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم ، هذا وقد أخرج مسلم ، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت ، واخرج أبو سعيد ، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها ، وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين ، وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل» وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن


الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء» وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن ، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه ، والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال : ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة.

والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب ، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب ، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه ، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم ، وكنزك المطلسم ، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك ، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.


سورة آل عمران

«وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس ، والنحاس ، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة ، واسمها في التوراة ـ كما روى سعيد بن منصور ـ طيبة ، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين ـ وتسمى الأمان ، والكنز ، والمعنية ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار ، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم ، وتكررت آية (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ) [البقرة : ١٣٦] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له ، فذكر هناك خلق الناس ، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام ، وذكر هناك مبدأ خلق آدم ، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده ؛ وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم ، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى ، ولذلك ضرب له المثل بآدم ، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق ، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب ، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها ، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم ـ والسورة التي هي فيها ـ جديرة بالتقديم.

وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا ، وقال في آخر هذه : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة ، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٣٠ ، ٢٢٠] وافتتحت الأولى بقولهسبحانه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] وختمت آل عمران بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) [آل عمران : ١٩٩] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [البقرة : ٢٤٥ ، الحديد : ١١] الآية : يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] وهذا مما يقوي التلازم أيضا ، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] الآية وهنا (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] الآية إلى غير ذلك.


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قرأ أبو جعفر ، والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة ـ كص ـ ولا موازنة المفرد ـ كحم ـ حسبما ذكر في الكتاب الحكاية فقط ساكنة الاعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء ، أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا ، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم ، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل : وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقوله : واحد ، اثنان لا لالتقاء الساكنين ـ كما قال سيبويه ـ فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام ـ وإلى ذلك ذهب الفراء ـ وفي البحر إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته ـ كما قاله أبو علي وقولهم : إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف لإجماع العرب ، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء في ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز في (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١ ، الأعلى : ١٤ ، الشمس : ٩] إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال «قد» بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا ، وأما تنظيرهم بواحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ـ ولم يحك الكسر ـ لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه كما


زعموا ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم : اثنان فالتقى ساكنان دال واحد ، وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل ، وأما قولهم : إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام ، فجوابه إن الذي قال : إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من ـ الم ـ في الوقف بل أراد الميم الأخير من ـ الم ـ ولام التعريف فهو كالتقاء نون من ، ولام الرجل ـ إذا قلت من الرجل؟ على أن في قولهم تدافعا فإن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض ، ولذا قال الجاربردي : الوجه ما قاله سيبويه ، والكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل ، واختار ذلك ابن الحاجب ـ وادعى أن في مذهب الفراء حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة.

وقال غير واحد : لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف ، والقول : بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما المطلوب منه الخفة ـ كثلاثة أربعة ـ وهاهنا الاحتياج إلى التخفيف أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح ، وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن يوقف عليها ، و (الم) رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعارا بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر ـ وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب ففي الكشاف اختار مذهب الفراء ، وفي المفصل اختار مذهب سيبويه ، ولعل الأول مبني على الاجتهاد ، والثاني على التقليد والنقل لما في الكتاب ـ لأن المفصل مختصره فتدبر.

وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره ، وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده ، والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير ، و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدإ محذوف أي هو (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لا غير ، وقيل : هو صفة للمبتدإ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الاسم الكريم ، أو حال منه على رأي من يرى صحة ذلك وأيّا ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه ، وقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم في ثلاث سور : سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه. وقال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت في البقرة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] وفي آل عمران (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي طه (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١١١].

وقرأ عمر ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلقمة ـ «الحي القيام» وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسىعليه‌السلام كان ربا ، فقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : «قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول لله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب ، وعبد المسيح ، والأيهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون : هو الله تعالى ، ويقولون : هو ولد الله تعالى ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية.


وهم يحتجون لقولهم يقولون : هو الله تعالى فإنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، ويحتجون في قولهم إنه ولد الله تعالى : بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ، ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة : إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو وعيسى ومريم ، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما ـ العاقب ، والسيد ـ كما في رواية الكلبي ، والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أسلما قالا : قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير؟ قالا : فمن أبوه يا محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه ، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي ليس معك غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت وقد مات عيسى عليه‌السلام في قولهم : (الْقَيُّومُ) القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى ، وفي رواية ابن جرير عن الربيع قال : «إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له : من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا : بلى. قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا : بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا : بلى قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم التوراة والإنجيل ، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب ، وإيثار ـ على ـ على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام ؛ والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر ، وما قبل كله اعتراض أو حال ، (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) صفة أو بدل ، وقرأ الأعمش (نَزَّلَ) بالتخفيف ، ورفع الكتاب والجملة حينئذ منقطعة عما قبلها ، وقيل : متعلقة به بتقدير من عنده (بِالْحَقِ) أي بالصدق في أخباره أو بالعدل ـ كما نص عليه الراغب ـ أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبسا بالحق أو محقا ، وفي البحر يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق (مُصَدِّقاً) حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الكتب السالفة والظرف مفعول مصدقا واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ذكرهما تعيينا لما بين يديه وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا


عليه والتعبير ـ بأنزل ـ فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين ، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزول من ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه : نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل : إن ـ نزل ـ يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] حيث قرن ـ نزل ـ بكونه جملة ، وقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) [النساء : ١٤٠] وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل ، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة ـ نزل ـ تدل عليه ، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم ، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه ، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام.

واختلف في اشتقاق التوراة والإنجيل فقيل : اشتقاق الأول من ورى الزناد إذ قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال وقيل : من ورى في كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة ، ووزنها عند الخليل. وسيبويه فوعلة كصومعة ، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاء وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت ـ توراة ـ وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت ، وقال الفراء : وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا في توصية توصاة ، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها ، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا ، وقيل : اشتقاق الثاني من ـ النجل ـ بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض ، ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد ـ كما قاله الزجاج ـ وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة ، وقيل : من النجل وهو التوسعة ، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها ، وقيل : مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي به لكثرة التنازع فيه ـ كذا قيل ـ ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر ، وأما على تقدير ـ أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر ـ فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته ، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل. والاستدلال ـ على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الإعلام العجمية محل نظر ـ محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف ـ كما في الإسكندرية ـ فإن أبا زكريا التبريزي قال : إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته. ومما يؤيد أعجمية الإنجيل ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة ، وأفعيل ليس من أبنية العرب (مِنْ قَبْلُ) متعلق ـ بأنزل ـ أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، وقيل : من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم ، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه : (هُدىً لِلنَّاسِ) أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباعه حين يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير ، والقول بأنه يهتدي بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن ـ ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف ، ويجوز أن ينتصب هدى على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس


الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى ، وجعله حالا من الكتاب مما لا ينبغي أن يرتكب فيه (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته ، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانه ، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه‌السلام وغيره ، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه‌السلام وعليه يكون المراد ـ بالفرقان ـ بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناء به ، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة ، وقيل : المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر ، وقيل : نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي ، وقيل : المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر ، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام ، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به ، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به ، وقيل : المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل ، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أن أطلق الفاعل مبالغة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب ، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولا أوليا (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (ذُو انْتِقامٍ) افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ، ومجرده ـ نقم ـ بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم ، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقا ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حيا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه‌السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية ، والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره ، وجعله الكثير مجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، ومن قال : إنه لا يصح في «كل» كل وجزء بناء على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازا ، وتقديم الأرض على السماء إظهارا للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماما بما يشير إلى وعيد ذوي الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل : ولذا وسط حرف النفي بينهما ، والجملة


المنفية خبر لأن ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة ـ في ـ متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائن في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية ، والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعلم ، وجوز أبو البقاء تعلق الظرف ـ بيخفى ..

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة على الصحيح ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى مشيرة إلى تقرير علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل وجودها ، و ـ التصوير ـ جعل الشيء على صورة لم يكن عليها ، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف ، و (الْأَرْحامِ) جمع رحم وهي معلومة وكأنها أخذت من الرحمة لأنها مما يتراحم بها ويتعاطف ، وكلمة (فِي) متعلقة ـ بيصور ـ وجوز أن يكون حالا من المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ ، و (كَيْفَ) في موضع نصب ـ بيشاء ـ وهو حال ، والمفعول محذوف تقديره يشاء تصويركم ، وقيل : (كَيْفَ) ظرف ـ ليشاء ـ والجملة في موضع الحال أي (يُصَوِّرُكُمْ) على مشيئته أي مريدا إن كان الحال من الفاعل أو يصوركم متقلبين على مشيئته تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا ـ ثم ، وثم ـ وفي الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك ، وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه‌السلام مع تقلبه في الأطوار ودوره في فلك هذه الأدوار حسبما شاءه الملك القهار وركاكة عقولهم ما لا يخفى ، وقرأ طاوس ـ تصوركم ـ على صيغة الماضي من التفعل أي اتخذ صوركم لنفسه وعبادته فهو من باب توسد التراب أي اتخذه وسادة فما قيل : كانه من تصورت الشيء بمعنى توهمت صورته فالتصديق أنه توهم محض (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى وانحصارها فيه توكيدا لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه‌السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من آثار ذلك (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه‌السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه.

قيل : إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه؟ قال : بلى قالوا : فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه ـ كذا قيل ـ ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها ، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في غيرها ، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد ، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في الدر المنثور عن أبي حاتم ، وابن جرير عن الربيع ، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود ، وذلك حين «مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢] فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال : أتعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه (الم ذلِكَ الْكِتابُ) فقال : أنت سمعته؟ قال : نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك (الم ذلِكَ الْكِتابُ)؟ فقال : بلى فقال : لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟ قال : نعم (المص) [الأعراف : ١] قال : هذه أثقل وأطول : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع


هذا غيره؟ قال : نعم (الر) [يونس : ١] قال : هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال : بلى (المر) [الرعد : ١] قال : هذه أثقل وأطول ثم قال : لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه : وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا : لقد تشابه علينا أمره».

وقد أخرج ذلك البخاري في التاريخ ، وابن جرير ، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية «إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية» وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاء كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرا وتكميلا في الجملة ناسب ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف ، وقوله سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ) الظرف فيه خبر مقدم ، و (آياتٌ) مبتدأ مؤخر أو بالعكس ، ورجح الأول بأنه الأوفق بقواعد الصناعة ، والثاني بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب ، والجملة إما مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أي منقسما إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال (آياتٌ) مرتفع به على الفاعلية (مُحْكَماتٌ) صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعا ـ أمّا ـ والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد ـ الأم ـ مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة (و (١) أُخَرُ) نعت لمحذوف معطوف على (آياتٌ) أي ـ وآيات أخر ـ وهي كما قال الرضى جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخرا فمعنى ـ جاءني زيد ، ورجل آخر ـ جاءني زيد ، ورجل أشد تأخرا منه في معنى من المعاني ، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أو لا فلا يقال جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى ، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعني ـ من ـ والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران ، ورجال آخرون ، وامرأة أخرى ، وامرأتان أخريان ، ونسوة أخر ، وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا : لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام ـ كالكبر والصغر ـ فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجردا ما لا يعطي غيره إلا مقرونا ، وقيل : الدليل على عدل (أُخَرُ) أنه لو كان مع من المقدرة كما في ـ الله أكبر ـ للزم أن يقال بنسوة أخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده ، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف ، أو مع سادّ مسد المضاف إليه ، أو مع دلالة ما أضيف اليه تابع المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام ، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى ، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبني ، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف ، ولما لم يقصد في (أُخَرُ) إرادة الألف واللام أعرب ، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه.

وقال ابن جني : إنه معدول عن آخر من ، وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبي حيان اختياره ـ واستدلوا


عليه بما لا يخلو عن نظر ـ ووصف آخر بقوله سبحانه (مُتَشابِهاتٌ) وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق ، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال ، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل : إن واحد (مُتَشابِهاتٌ) متشابهة ، وواحد (أُخَرُ) أخرى ، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال : أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا ـ وليس المعنى على ذلك ـ وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) [القصص : ١٥] إذ الرجل لا يقتتل ، وقيل : إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في إشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة عليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس ـ وعليه الشافعية ..

وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناء على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد ، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسما كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناء بشأن المظهر وتفخيما له والإضافة على معنى في ـ كما في واحد العشرة ـ فلا يلزم كون الشيء أصلا لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه ، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه ـ وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين ـ بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف ، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول ، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء ـ أما ـ لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك ، وبعض فضلاء العصر ـ المعاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر ـ جوز كون الإضافية ـ لامية ـ و (الْكِتابَ) المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء ـ أما ـ لنفسه وأصلا لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن ـ أمومته ـ لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له ـ وأمومته ـ لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه ، ولا يخفى عليك أن ـ الأم ـ إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين ، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازا في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز ، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلي إلى جزئياته فأل في ـ الكتاب ـ للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم ، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض


الأفراد وهو المتشابه ، ويجوز أن يراد من الثاني أيضا مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق ، قيل : وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك ، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر.

وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور ؛ وقيل : المحكم الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال ، أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال ـ المحكمات ـ ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه ، و ـ المتشابهات ـ ما يؤمن به ولا يعمل به ، وأخرج الفريابي عن مجاهد قال ـ المحكمات ـ ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه ، وأخرج عبيد بن عمير عن الضحاك قال ـ المحكمات ـ ما لم ينسخ ـ والمتشابهات ـ ما قد نسخ ، وقال الماوردي : المحكم ما كان معقول المعنى ، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان ، وقيل : المحكم ما لم يتكرر ألفاظه ، المتشابه ما يقابله ، وقيل : غير ذلك ، وهذا الخلاف في ـ المحكم ، والمتشابه ـ هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم ، والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضا في البلاغة، وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن وعلى ذلك خرج قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] وقوله سبحانه : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣](فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء.

وقال الراغب : الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ـ وزاغ. وزال. ومال ـ متقاربة لكن زاغ لا يقال : إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا ، والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود ـ وإليه ذهب ابن عباس ـ وقيل : منكر والبعث ، وقيل : المنافقون ، وأخرج الإمام أحمد. وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم الخوارج وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص ، وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد له تعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إلحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه ـ كما نقل عن الواقدي ـ وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهونه ، فالإضافة في (تَأْوِيلِهِ) للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقا للتشهي ، والتأويل التفسير ـ كما قاله غير واحد ـ وقال الراغب : إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ـ ومنه الموئل ـ للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا ، ومن الأول ما ذكر هنا ، ومن الثاني قوله : وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه وقوله سبحانه : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] قيل : أحسن ترجمة ومعنى ، وقيل : أحسن ثوابا في الآخرة انتهى.

وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) طلبة بعض وابتغاء التأويل حسب التشهي طلبة آخرين ، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد


فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما ادعاه ، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى ـ ودليلا ، وفي تعليل الاتباع ـ بابتغاء تأويله ـ دون نفس (تَأْوِيلِهِ) وتجريد ـ التأويل ـ عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل ـ في عير ولا نفير ، ولا قبيل ولا دبير ـ وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) في موضع الحال من ضمير ـ يتبعون ـ باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله ، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الإفهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين ، وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال : «سمعت أنس بن مالك يقول : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال : من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه ، والمراد بالعلم العلم الشرعي المقتبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون».

(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل ، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما ـ أي هم يقولون ـ وقد قيل : إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر ، وجوز أن يكون حالا من الراسخين ـ والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لأن ماله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين ، ثم هذا القول وإن لم يخص ـ الراسخين ـ لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن المحكم ـ أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما ، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه ، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا ، وقد قالوا : إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب ، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) عطف على جملة (يَقُولُونَ) سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق ، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على (الرَّاسِخُونَ) وهو الذي ذهب إليه الشافعية ، وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه ، وأما على تقدير أن يكون الوقف على (إِلَّا اللهُ) وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة (يَقُولُونَ) خبر عنه ، ورجح الأول بوجوه : أما أولا فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون ، وأما ثانيا فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم ، وأما ثالثا فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر


العبارة حيث لم يقل ـ ومنه متشابهات ـ لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء إلى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكما ولا متشابها بالمعنى المذكور وهو كثير جدا ، وأما رابعا فلأن المحكم حينئذ لا يكون ـ أم الكتاب ـ بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلا ، وأما خامسا فلأنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى ، وأما سادسا فلأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يقول : أنا ممن يعلم تأويله ، وأما سابعا فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك ، وأما ثامنا فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ، والقول : بأن ـ أما ـ للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل. غاية الأمر أنه حذفت ـ أما ـ والفاء ، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله سبحانه : (أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) والتقسيم في قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) والتفريق في قوله عزّ شأنه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) إلخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) إلخ مجاب عنه بأن كون ـ أما ـ للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم.

ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني (يَقُولُونَ) إلخ كاف في ذلك ، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة ، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعاني وغيره ـ ويد الله تعالى مع الجماعة ـ ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة ، الأول ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ ـ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به ـ فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه ، وحكى الفراء أن في قراءة أبيّ بن كعب أيضا ـ ويقول الراسخون في العلم.

وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود ـ وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ـ الثاني ما أخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله تعالى».

«الحديث الثالث» ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به».

الرابع ما أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا».

وأخرج البيهقي في الشعب نحوه عن أبي هريرة ، الخامس ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا «أنزل


القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب» إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ، وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز ـ ولكل منهما وجه وجيه ـ وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه ، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب : متشابه من جهة اللفظ فقط ، ومن جهة المعنى ، ومن جهتهما معا. فالأول ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون ، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لاختصار الكلام نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] وضرب لبسطه نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] لأنه لو قيل : ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [الكهف : ١] إذ تقديره ـ أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ـ والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه ، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب. الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ). والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢]. والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها الآية نحو (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩](إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه ، والخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح ، ثم قال : وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم ؛ ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك ، وقسم للانسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة ، وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم. وهو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنه : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».

وإذا عرفت هذا ظهر جواز الأمرين الوقف على (إِلَّا اللهُ) والوقف على (الرَّاسِخُونَ) وقال بعض أئمة التحقيق : الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على (إِلَّا اللهُ) وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف ، ويجوز الوقف أيضا لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا الله تعالى ، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان : فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه ، ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده. والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه ، فعن الأول بأنه أريد ببيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل ـ وأما الراسخون ـ مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب من هذا قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] حيث لم يقل ـ والطاغوت أولياء الذين كفروا ، ولا الذين آمنوا وليهم الله ـ تعظيما لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين ،


وعن الثاني بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى.

وعن الثالث بأنه يلتزم القول بعدم الحصر ، وفي الإتقان أن بعضا قال : إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولو لا ذلك لأشكل قوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: ٤٤] لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وعن الرابع بالتزام أن إضافة ـ أم ـ إلى (الْكِتابَ) على معنى في ، والمحكم ـ أم ـ في (الْكِتابَ) ولكن لا للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو ـ أم ـ وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيرا ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار ، وعن الخامس بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره.

وعن السادس بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار ، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال : مراده رضي الله تعالى عنه ـ أنا ممن يعلم تأويله ـ أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا وإن قيل : إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد ، وعن السابع بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حدّ لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازا أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل ، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] وعن الثامن بأنه لا بعد في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها ، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل ، وكسر سورة الفكر ، وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر ، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبي أو لوليّ فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع ، ولعل القائل يكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الوليّ الكامل مفصلا لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة ـ كعلم الله تعالى ـ وإن لم يكن مفصلا فلا أقل من أن يكون مجملا ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفته على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفة المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر


الكلام خرط القتاد ، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم.

ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال : أخبرني شيخنا علي الخواص قدس‌سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما وكان يقول : لا يسمى عالما أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة ، وقال في الكشف في نحو (ق) [ق : ١] ، (ص) [ص : ١](حم) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١](طس) [النمل : ١] : لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد ، ففيض الباري عم نواله غير محصور ، واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور ، ومن لم يصدق إجمالا ـ بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا أو أطوارا حظ العقل منها حظ الحسّ من المعقولات ـ فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغطا في هذا التيه ، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيبا وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فهذا ما يجب أن يعتقد كيلا يلحد.

ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه ، ومذهب السلف والأشعري رحمه‌الله تعالى من أعيانهم ـ كما أبانت عن حاله الإبانة (١) ـ أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل ، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون : الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء والغلبة ، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي ـ وليته سكت ـ أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبا ، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب ، وذكر الشعراني في الدرر المنثورة أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر :

قد ـ استوى ـ بشر على العراق

من غير حرب ودم مهراق

وأين استواء ـ بشر على العراق ـ من استواء الرحمن على العرش ، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مئونة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه ، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها ـ وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها ـ وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه ، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ضبيع : قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت؟ فقال : أنا عبد الله ضبيع فأخذ عمر عرجونا من تلك

__________________

(١) الإبانة اسم كتاب للإمام الأشعري ألفه في آخر عمره فجنح فيه لمذهب السلف ومذهب السلف هو الأعلم والأسلم فعليك به ا ه إدارة.


العراجين فضربه حتى أدمى رأسه ـ وفي رواية ـ فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود فقال : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين «لا يقال» إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا : إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول : نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفس الظاهر من غير تعيين للمراد ، أحدهما ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له ، وثانيهما بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال : بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله ، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بيّن الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول ، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا. نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون : إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة ، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة ـ وأين التراب من رب الأرباب ـ وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل ، و (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل. والكلبي عن ابن عباس في «استوى» أنه بمعنى استقر ، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] إنها قالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.

وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا : إن هذه المتشابهات تجري على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق ، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل.

وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر ، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتا وصفات أيضا لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان : قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة ، ولا يقال : فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا ـ لا دواة ولا قلما ـ وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للانسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان ، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جليلة الحال ، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : «من عرف الله تعالى كل لسانه» وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح ، ولعل إدراكها عند أهلها


كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه ، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] مثلا إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول. نعم لو قيل : إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنا ، وجمعا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال : لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك ، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين ، والمحكم (أُمُ) يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما فرعه الإيماني. والثاني فرعه الإيقاني ، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل ، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرا من المتشابه فقال : إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين ، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم ـ أي قولوا (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى معالم الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين ، أو التأويل الصحيح ، ويؤول المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب في مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الإضلال ، وصحة نسبة ذلك إلى الله تعالى ـ على مذهب أهل السنة في أفعال العباد ـ ظاهرة ، والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ بسببها قلوبنا ولا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا ، وإنما دعوا بذلك أو أمروا بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب ، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال : ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

وأخرج الحكيم الترمذي من طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه» والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد الإيمان بطرو الشك مثلا والعياذ بالله تعالى ، وفي كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول : أي رب لا أزنين أي رب لا أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له : أو تخاف؟ قال : آمنت بمحرف القلوب ثلاثا ، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال : كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال : اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال : يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنت قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا. وعن أبي أيوب الأنصاري : ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من إيمان.

وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلا لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال


والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك ، ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر ، و (بَعْدَ) منصوب على الظرفية والعامل فيه (تُزِغْ) ، و (إِذْ) مضاف إليه وهي متصرفة كما ذكره أجلة النحويين ، وأما القول بأنها بمعنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة ، والمعنى ـ بعد هدايتنا فمما ذكره الحوفي في إعراب القرآن ولم ير لغيره ، والمذكور في النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤول مع ما بعدها بالمصدر نحو (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف : ٣٩] أي لظلمكم فإن كان أخذ من هذا فهو كما ترى ، وقرئ ـ «لا تزغ» ـ بالياء والتاء ورفع القلوب (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) كلا الجارين متعلق ـ بهب ـ وتقديم الأول اعتناء به وتشويقا إلى الثاني ، ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك ، و (مِنْ) لابتداء الغاية المجازية ، و ـ لدن ـ ظرف ، وهي لأول غاية زمان ، أو مكان ، أو غيرهما من الذوات نحو ـ من لدن زيد ـ وليست مرادفة لعند بل قد تكون بمعناها ، وبعضهم يقيدها بظرف المكان وهي ملازمة للإضافة فلا تنفك عنها بحال ، فتارة تضاف إلى المفرد ، وتارة إلى الجملة الاسمية أو الفعلية وقلما تخلو عن (مِنْ) ، وفيها لغتان ، الإعراب ـ وهي لغة قيس ـ والبناء وهي اللغة المشهورة ـ وسببه شبهها بالحرف في لزوم استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف ـ عند ، ولديّ ـ فانهما لا يلزمان استعمالا واحدا إذ يكونان فضلة ، وعمدة ، وغاية ، وغير غاية ، قيل : ولقوة هذا الشبه لا تعرب إذا أضيفت في المشهور واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصان ـ بلدن ـ المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون ، وأما بقية لغاتها فإنها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة منها ما تقدم ـ ولدن ولدن ـ بفتح الدال وكسرها ـ ولدن ، ولدن ـ بفتح اللام وضمها مع سكون الدال ـ ولدن ـ بفتح اللام وضم الدال وبإبدال الدال تاء ساكنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رد النون (رَحْمَةً) مفعول ـ لهب ـ وتنوينه للتفخيم ، والمراد بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقا ، وقيل : الإنعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق ، وفي سؤال ذلك بلفظ لأنه إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول الصريح للتشويق (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) تعليل للسؤال أو لاعطاء المسئول ، و (أَنْتَ) إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم ـ إن ـ وحذف المعمول لإفادة العموم كما في قولهم : فلان يعطي واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل : لمناسبة رءوس الآي (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) المكلفين وغيرهم (لِيَوْمٍ) أي لحساب يوم ، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تهويلا لما يقع فيه ، وقيل : اللام بمعنى إلى أي جامعهم في القبور إلى يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء. وقيل : الضمير المجرور للحكم أي لا ريب في هذا الحكم ، فالجملة على الأول صفة ليوم ، وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا ـ كما قال غير واحد ـ عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم ، والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة. وقرئ (جامِعُ النَّاسِ) بالتنوين (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب ، وقيل : تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للاشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب الهائل ، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف ؛ وهذا بخلاف ما في آخر السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الانعام ، وقال الكرخي : الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالا لفظيا فقط وما في الآخر متصل اتصالا معنويا ولفظيا لتقدم لفظ الوعد ، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ ، قال السفاقسي : وهو الظاهر ، و (الْمِيعادَ) مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعولية ـ


يخلف ـ وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها ، واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصي عليه تعالى وإلا يلزم الخلف ، وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا ، وقيل : هو إنشاء فلا يلزم محذور في تخلفه ، وقيل : ما في الآية ليس محلا للنزاع لأن الميعاد فيه مصدر بمعنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد عدم خلف الوعيد لأن الأول مقتضى الكرم كما قال :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

واعترض بأن الوعيد الذي هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل قوله تعالى : (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] وأجيب بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهي على حد (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] واعترض أيضا بأن كون ـ الخلف في الإيعاد ـ مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على الله تعالى لأنه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين ، وأجيب عنه بما تركه أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (الم) تقدم الكلام عليه ، وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن أإشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق ، ول إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى ، وم إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو آخر الوجود ، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم. وقال بعضهم : إن ل ركبت من ألفين أي وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها فهو اسم من أسمائه تعالى ، وأما م فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا ترى أن أالتي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن (الم) الإشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطئوا في التوحيد ولم يعرفوه على وجهه ، ولهذا أردفه سبحانه بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موجود في سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله (الْحَيُ) أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته (الْقَيُّومُ) القائم بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الأزلي الغير المجعول (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد متلبسا بالحق وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير في ذاته (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوحيد الأول الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) إلى معالم التوحيد (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وهو التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا بآيات الله تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله الظهور والتجلي بما شاء (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في البعد والحرمان عن حظائر العرفان (وَاللهُ عَزِيزٌ) قاهر (ذُو انْتِقامٍ) شديد بمقتضى صفاته الجلالية (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) في أرحام الوجود (كَيْفَ يَشاءُ) لأنكم المظاهر لأسمائه والمجلى لذاته (لا إِلهَ) في الوجود (إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها أبدا (الْحَكِيمُ) الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسبما تقتضيه الحكمة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) متنوعا في الظهور (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أحكمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) والأصل (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) تحتمل معنيين


فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ) لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الذي يرجع إليه إلا الله ويعلمه الراسخون في العلم ـ الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية ، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على (إِلَّا اللهُ) والوقف على (الرَّاسِخُونَ وَما يَذَّكَّرُ) بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي للقوابل حسب القابليات (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) على اختلاف مراتبهم (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء ، هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف ، وقيل : وفد نجران ، أو اليهود من قريظة والنضير ، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أو مشركو العرب (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي لن تنفعهم ، وقرئ بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين (أَمْوالُهُمْ) التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح (وَلا أَوْلادُهُمْ) الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي ـ كما قال الشيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب (مِنَ اللهِ) أي من عذابه تعالى ـ فمن ـ لابتداء الغاية كما قال المبرد ، وقوله تعالى : (شَيْئاً) نصب على المصدرية أي شيئا من الإغناء ، وجوز أن يكون مفعولا به لما في «أغنى» من معنى الدفع و (مِنَ) للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا ، وأن يكون مفعولا ثانيا بناء على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه ، وقال أبو عبيدة : (مِنَ) هنا بمعنى عند وهو ضعيف ، وقال غير واحد : هي بدلية مثلها في قوله :

فليت لنا «من» ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان

ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ) [الزخرف : ٦٠] والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة الله تعالى ، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته.

وقريب من ذلك قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ : ٣٧] واعترض بأن أكثر النحاة ـ كما في البحر ـ ينكرون إثبات البدلية ـ لمن ـ مع أن الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وكذا بما بعد ، و ـ الوقود ـ بفتح الواو ـ وهي قراءة الجمهور ـ


الحطب ـ أي أولئك المتصفون بالكفر المبعدون عن عز الحضور ـ حطب النار التي تسعر به لكفرهم ، وقيل : الوقود بالفتح لغة في الوقود بالضم ـ وبه قرأ الحسن ـ مصدر بمعنى الإيقاد فيقدر حينئذ مضاف أي أهل وقودها ـ والأول هو الصحيح ـ وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره ، أو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم ، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبرا لأن ، و (هُمْ) يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلا.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب العادة والشأن ، وأصله من دأب في الشيء دأبا ودءوبا إذا اجتهد فيه وبالغ ـ أي حال هؤلاء في الكفر واستحقاق العذاب كحال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدإ محذوف والجملة منفصلة عما قبلها مستأنفة استئنافا بيانيا بتقدير ـ ما سبب هذا ـ على ما قاله بعض المحققين.

ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر ـ تغنى ـ أي إغناء كائنا كعدم إغناء أو بوقود أي توقد بهم كما توقد بأولئك ـ ولا يخفى ما في الوجهين ـ أما الأول فقد قال فيه أبو حيان : إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي ، و (أُولئِكَ) إلخ إذا قدرت معطوفة فإن قدرت استئنافية وهو بعيد جاز. وأما الثاني فقد اعترضه الحلبي بأن الوقود على المشهور الأظهر فيه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له «فإن قيل» إنه مصدر كما في قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معا أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون (مِنْ) بدلية ـ ولا ـ لإيقاد النار (١) فليفهم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم كفار الأمم الماضية فالضمير لآل فرعون ، وقيل : للذين كفروا ، والمراد بالموصول معاصر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم الذي فعلوا على سبيل الاستئناف البياني ، والمراد «بالآيات» إما المتلوة في كتب الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تفسير ـ لدأبهم ـ الذي فعل بهم أي فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا ، وقيل : إن جملة (كَذَّبُوا) إلخ في حيز النصب على الحال من (آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بإضمار قد ، ويجوز على بعد أن تكون في حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات للتكلم أولا في آياتنا للجري على سنن الكبرياء ، وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة.

(بِذُنُوبِهِمْ) أي بسببها أو متلبسين بها غير تائبين ، والمراد من الذنوب ـ على الأول ـ التكذيب بالآيات المتعددة ، وجيء بالسببية تأكيدا لما تفيده الفاء ، وعلى الثاني سائر الذنوب ، وفي ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبا أخر ، وأصل الذنب التلو والتابع ، ثم أطلق على الجريمة لأنها يتلو ـ أي يتبع ـ عقابها فاعلها (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن كفر بآياته ، والجملة تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر : هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى عليه الصلاة والسلام ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكوا وقالوا : لا والله ما هو به وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف إلى ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا :

__________________

(١) هكذا الأصل تدبر ا ه ادارة.


لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

وأخرج ابن جرير ، وابن إسحاق ، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى بما أصاب قريشا فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلنا» فأنزل الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله سبحانه : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] فالمراد من الموصول اليهود ، والسين لقرب الوقوع أي تغلبون عن قريب وأريد منه في الدنيا ، وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقتل ـ كما قيل ـ من بني قريظة في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم ـ وهذا من أوضح شواهد النبوة ـ (وَتُحْشَرُونَ) عطف على (سَتُغْلَبُونَ) والمراد في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ) وهي غاية حشرهم ومنتهاه ـ فإلى ـ على معناها المتبادر ، وقيل : بمعنى ـ في ـ والمعنى أنهم يجمعون فيها ، والآية كالتوكيد لما قبلها فإن الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالأموال والأولاد ، والحشر إلى جهنم مبدأ كونهم وقودا لها ، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ـ سيغلبون ويحشرون ـ بالياء ، والباقون بالتاء ، وفرق بين القراءتين بأن المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا إليه ، وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدي ما أخبر الله تعالى به من الحكم بأنهم ـ سيغلبون ـ بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى ، وقوله سبحانه : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها ، ومهاد ـ كفراش لفظا ومعنى ، والمخصوص بالذّم مقدر وهو جهنم ، أو ما مهدوه لأنفسهم.

(قَدْ كانَ لَكُمْ) من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا ـ واختاره شيخ الإسلام ـ وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم (آيَةٌ) أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ـ ستغلبون ـ (فِي فِئَتَيْنِ) أي فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما أصابها (الْتَقَتا) يوم بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحا لهم بما يليق بالمقام ورمزا إلى الاعتداد بقتالهم ، وقرئ ـ يقاتل ـ على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق (وَأُخْرى كافِرَةٌ) بالله تعالى فهي أبعد من أن تقاتل في سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنه لم يتصدوا له لما عراهم من الهيبة والوجل ، و (كانَ) ناقصة ـ وعليه جمهور المعربين و (آيَةٌ) اسمها وترك التأنيث في الفعل لأن المرفوع غير حقيقي التأنيث ولأنه مفصول ولأن الآية والدليل بمعنى ، وفي الخبر وجهان : أحدهما (لَكُمْ) و (فِي فِئَتَيْنِ) نعت ـ لآية ـ والثاني أن الخبر هو هذا النعت و (لَكُمْ) متعلق ب (كانَ) على رأي من يرى ذلك ، وجوز أن يكون (لَكُمْ) في موضع نصب على الحال ـ وقد تقدم مرارا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالا و (الْتَقَتا) في حيز الجر نعت ـ لفئتين ـ وفئة خبر لمحذوف أي إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أي ـ وفئة أخرى ـ والجملة مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية ، وقيل : فئة وما عطف عليها بدل من الضمير في (الْتَقَتا) وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضمير أي فئة منهما تقاتل إلخ ، وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ وما بعدهما خبر أي فئة منهما تقاتل إلخ ، وفئة أخرى كافرة ، وقيل : كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة إلخ ، وقرئ ـ فئة


وأخرى كافرة ـ بالنصب فيهما وهو على المدح في الأولى والذم في الثانية ، وقيل : على الاختصاص ، واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة ، وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له في النحو كما في «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا ـ كما قاله الحلبي ـ وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل : (الْتَقَتا) مؤمنة وكافرة ، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال ، وقرئ بالجر فيهما على البدلية من (فِئَتَيْنِ) بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا كما في قوله :

وكنت كذي رجلين ـ رجل صحيحة

ورجل رماها صائب الحدثان

وقوله سبحانه : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) في حيز الرفع صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية.

والمراد كما قال السدي : ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة مثلي عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا كلهم شاكو السلاح ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن مسعود كانوا ألفا وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل ، وأبو سفيان ، وغيرهما ، ومن الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس ، روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال : أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفا وتسعمائة ـ وهو المراد من (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت : عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين إليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم ، وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام ، أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين علي الكرار كرم الله تعالى وجهه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا ، ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، ومن السلاح ست أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة ، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ـ وقد مرت إليه الإشارة ـ وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم عند الترائي ليجترءوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب ، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية : والأول هو أولى لأن رؤية المثلين غير معينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال : ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر ـ كما في الأنفال ـ لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل


بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس انتهى.

ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المؤمنين المشركين مثلي أنفسهم بأنه التفسير المأثور عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادي للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم وأوفر من عددهم فكأنه قيل : يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتكم فإنهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون وينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل.

«لا يقال» : إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم أو يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول : نعم الأمر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن التكثير كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ولا إلى القول بأن ضمير (مِثْلَيْهِمْ) راجع إلى ـ الفئة ـ الأخيرة أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي عدد الفئة الكافرة أعني قريبا من ألفين ـ وإن ذهب إلى ذلك البعض ـ ويرد أيضا على قوله : على أن إبانة إلخ بعد تسليم أن الإراءة نفسها كانت هي الآية أن إراءة القليل كثيرا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك أقرب لاعترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف ـ يخيل إليه أن أشجار البيداء شجعان شاكية ، وأسد ضارية ـ وإثبات كل من هذه الأمور صعب على أن فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ من أن اليهود قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تلك الواقعة : لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ـ ما يشعر في الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدّقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا ، وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل أشد إلخ ، فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعي أولوية جعل أول المذكورين السابقين فعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن في العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام ـ وهنا قد كان ذلك ـ لا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة في سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذي هو الأساس إليه ولا شك أن مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى ، وقرأ نافع ، ويعقوب ترونهم بالتاء ـ واستشكلت ـ على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلي أنفسهم ولا مثلي الكافرين ولم يروا الكافرين أيضا مثلي أنفسهم ولا مثلي المؤمنين ، وأجيب بأنه يصح أن يقال : إنهم رأوا المؤمنين مثلي أنفسهم أو مثلي الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم ، وكذا يصح أن يقال : إنهم


رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين ، وتحمل الرؤية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى.

ولما في هذين الجوابين ـ كيفما كان ـ التزم بعضهم كون الخطاب من أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه : (قَدْ كانَ لَكُمْ) خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلا تحت الأمر بناء على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها ، وجعل ذلك داخلا في مفعول الأمر إلا أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء ، وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب السابق لهم أيضا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به ، وقيل : إنه لجميع الكفرة ، وقال بعض أئمة التحقيق : القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) إلخ موقع المسك في الختام ، ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في الآية على بعض احتمالاتها ، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر.

وقرأ ابن مصرف ـ يرونهم ـ على البناء للمفعول بالياء والتاء أي يريهم الله تعالى ذلك بقدرته (رَأْيَ الْعَيْنِ) مصدر مؤكد ـ ليرونهم ـ على تقدير جعلها بصرية ـ فمثليهم ـ حينئذ حال ، ويجوز أن يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية ـ أي رأيا مثل رأي العين ـ فمثليهم حينئذ مفعول ثان ، وقيل : إن ـ رأى ـ منصوب على الظرفية أي في رأي العين (وَاللهُ) المتصف بصفات الجمال والجلال (يُؤَيِّدُ) أي يقوي (بِنَصْرِهِ) أي بعونه ، وقيل : بحجته وليس بالقوى (مَنْ يَشاءُ) أن يؤيده من غير توسط الأسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول المأمور به (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من النصر ، وقيل : من تلك الرؤية (لَعِبْرَةً) أي اتعاظا ودلالة ، وهي فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز ، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة ، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف أي لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه ، وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ


إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٦)

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك ، والمراد من الناس الجنس (حُبُّ الشَّهَواتِ) أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض : ما تشتهي؟ فقال : أشتهي أن أشتهي ، أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى ، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وروي عن الحسن ـ الشيطان ـ والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها. وفي الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو ، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها ، وكلام الحسن رحمه‌الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والاسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم ، ومن قال : الظاهر أنه من قبيل ـ أقدمني بلدك حق لي عليك ـ إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة ، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف ، ومن قال : المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به.

والقائل : بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته ، وقرأ مجاهد ـ زين ـ بالبناء للفاعل ونصب (حُبُ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى ، وقيل : (مِنَ) لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في


معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان ، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ويقال : فيهن ، فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن ، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «الولد مبخلة مجبنة» ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال ، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن ، وقيل : إن البنين تشملهن على سبيل التغليب (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك.

وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» وأخرج الحاكم عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : «القنطار ألف أوقية».

وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار ، وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القنطار ألف أوقية ومائتا دينار» وعن معاذ ألف ومائتا أوقية ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار ، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وعن أبي سعيد الخدري ملء جلد الثور ذهبا ، وعن مجاهد سبعون ألف دينار ، وعن ابن المسيب ثمانون ألفا ، وعن أبي صالح مائة رطل ، وعن قتادة قال : كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق ، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطا ، وقيل : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقيل : ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك ، ولعل الأولى كما قيل : ما روي عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص ، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات ، واختلف في وزنه فقيل : فعلال ، وقيل : فعنلان فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة ، ولفظ (الْمُقَنْطَرَةِ) مأخوذ منه ، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة ـ كظل ظليل ـ وهو كثير في وزن فاعل ويرد في المفعول ك (حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢ و ٥٣] و (نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] وقيل : المقنطرة المضعفة ، وخصها بعضهم بتسعة قناطير ، وقيل : المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته ، وقيل : المضروبة دنانير أو دراهم ، وقيل : المنضدة التي بعضها فوق بعض ، وقيل : المدفونة المكنوزة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها ، والذهب مؤنث يقال : هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة ، وقال الفراء : وربما ذكر ، ويقال في جمعه : أذهاب وذهوب وذهبان ، وقيل : إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب ، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق (وَالْخَيْلِ) عطف على (النِّساءِ) أو (الْقَناطِيرِ) لا على (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لأنها لا تسمى قنطارا وواحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير ، وقال قوم : لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل (الْمُسَوَّمَةِ) أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى ، أو المطهمة الحسان ـ قاله مجاهد ـ فهي من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل ـ قاله عكرمة ـ فهي من السمة أو السومة بمعنى العلامة (وَالْأَنْعامِ) أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه ، والنعم مختصة بالإبل (وَالْحَرْثِ) مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا (ذلِكَ) أي ما زين لهم من المذكور ـ ولهذا ذكر ـ وأفرد اسم الاشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول عن صاحبه (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يئوب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب.


أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال : (حُسْنُ الْمَآبِ) حسن المنقلب وهي الجنة ، وفي تكرير الإسناد إلى الاسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذّ الدنيا السريعة الزوال ، ومن غريب ما استنبط من الآية ـ كما قال أبو حيان ـ وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، والثاني النساء والبنون ولا يخفى ما فيه.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا ، والمراد من الإنباء الإخبار (ذلِكُمْ) إشارة إلى المذكور من النساء وما معه ، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما مفتوحة والثاني مضمومة كما هنا وكما في سورة ص (أَأُنْزِلَ) [ص : ٨] وسورة القمر (أَأُلْقِيَ) [القمر : ٢٥] على خمس مراتب : إحداها مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين. الثانية مرتبة ورش ، وابن كثير وهي تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة مرتبة الكوفيين. وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف. الرابعة مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه : الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه ؛ والظرف الأول متعلق بالفعل قبله. والثاني متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة ـ كما قال أبو البقاء ـ لأنه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها ، وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن الذين خبر مقدم ، و (جَنَّاتٌ) مبتدأ مؤخر ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يحتمل وجهين كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالا منها ، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم ، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه ـ كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية ـ وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه. وجوز أن تكون اللام متعلقة ـ بخبر ـ أيضا أو بمحذوف صفة له ، و ـ جنات ـ حينئذ خبر لمحذوف ـ أي ـ هي جنات ـ والجملة مبينة ـ لخير ـ و ـ عند ربهم ـ حينئذ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص ، وجاز أن يجعل خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ ، واعترض بأنه يقال : عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة ، وبذلك يصرح كلام السعد وغيره ـ وفي النفس منه شيء ـ وقرئ ـ جنات ـ بكسر التاء وفيه وجهان : أحدهما أنه مجرور على البدلية من لفظ ـ خير ـ وثانيهما أنه منصوب على إضمار أعني مثلا أو البدلية من محل ـ بخير ـ (تَجْرِي) في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة ـ لجنات ـ على القراءتين (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تقدم ما فيه (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من المستكن في ـ للذين ـ والعامل ما فيه من معنى الاستقرار ، وجوز أبو البقاء كونه حالا من الهاء في ـ تحتها ـ أو من الضمير في ـ اتقوا ـ ولا يخفى ما فيه (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا ، والعطف على ـ جنات ـ على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بدّ من تقدير ـ لهم ـ في الكلام (وَرِضْوانٌ) أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين ، وقرأه عاصم ـ بضم الراء ـ وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن إلا في قوله تعالى : (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) [المائدة : ١٦] فإنه بالكسر بالاتفاق ، وقيل : المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له (مِنَ اللهِ) صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسيء عدلا ، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم ما أعدّ ، فالعباد على الأول عام ؛


وعلى الثاني خاص ، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولا بذكر ـ المقرّ ـ وهو الجنات ، ثمّ ثنّى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة ، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا اللهعزوجل.

«وفي الحديث» أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل : من أولئك المتقون؟ فقيل : هم الذين إلخ ، وأن يكون في موضع نصب على المدح ، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع ـ للذين اتقوا ـ نعتا أو بدلا ، أو العباد كذلك ، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد ، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم ، واعترض أيضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا ـ بخير ـ لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع ، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل ، وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل ، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال : إنه لدفع توهم الأخبار ، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية ، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط ، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى :

(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات ، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر (الصَّابِرِينَ) يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة ـ للذين ـ إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان هذا منصوبا على المدح.

والمراد بالصبر ـ الصبر على طاعة الله تعالى ، والصبر عن محارمه ـ قاله قتادة ، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس (وَالصَّادِقِينَ) في نياتهم وأقوالهم سرا ـ وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا (وَالْقانِتِينَ) أي المطيعين ـ قاله ابن جبير ـ أو المداومين على الطاعة والعبادة ـ قاله الزجاج ـ أو القائمين بالواجبات ـ قاله القاضي ـ (وَالْمُنْفِقِينَ) من أموالهم في حق الله تعالى ـ قاله ابن جبير ـ أيضا (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) قال مجاهد والكلبي. وغيرهما : أي المصلين بالأسحار.

وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح ، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع أسحرنا؟ فيقول : لا فيعاود الصلاة فإذا قال : نعم قد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح ، وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة» وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله «أن من استغفر الله تعالى في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية» والباء في ـ بالأسحار ـ بمعنى في ، وهي جمع ـ سحر ـ بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء ـ كالسحر ـ للشيء الخفي. وقال بعضهم : السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.

وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذا العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع


أجمع ، وفي الصحيح «أنه تعالى وتنزه عن سمات الحدوث ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر».

وأخرج ابن جرير. وأحمد عن سعيد الجريري قال : «بلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه‌السلام فقال : يا جبريل أيّ الليل أفضل قال : يا داود ما أدري سوى أن العرش يهتز في السحر» وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها ، وقول أبي حيان : لا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال رده الحلبي بأن علماء البيان علموه وهم هم.

هذا «ومن باب الاشارة في الآيات» (قَدْ كانَ لَكُمْ) يا معشر السالكين إلى مقصد الكل (آيَةٌ) دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) للحرب (فِئَةٌ) منهما وهي فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) وطريق الوصول إليه (وَأُخْرى) منهما وهي جنود النفس وأعوان الشيطان (كافِرَةٌ) ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها (مِثْلَيْهِمْ) عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها مثل رؤية العين ، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية ، وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة (وَاللهُ) تعالى (يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) تأييده لقبول استعداده لذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ) التأييد لعبرة أي اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق المظاهر الإلهية (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) بسبب ما فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية (مِنَ النِّساءِ) وهي النفوس (وَالْبَنِينَ) وهي الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة ، أو الأصول والفروع (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) وهي مراكب الهوى وأفراس اللهو (وَالْأَنْعامِ) وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية (وَالْحَرْثِ) وهو زرع الحرص وطول الأمل (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلي والموطن القديم.

ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) المذكور للذين اتقوا النظر إلى الأغيار (جَنَّاتٌ) جنة يقين. وجنة مكاشفة. وجنة مشاهدة. وجنة رضا. وجنة لا أقولها ـ وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عزوجل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب (خالِدِينَ فِيها) ببقائهم بعد فنائهم (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة في خيام الصفات الإلهية (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) لا يقدر قدره (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) بأنوار أفعالك وصفاتك (فَاغْفِرْ لَنا) ذنوب وجوداتنا بذاتك (وَقِنا عَذابَ) نار الحرمان ووجود البقية (الصَّابِرِينَ) على مضض المجاهدة والرياضة (وَالصَّادِقِينَ) في المحبة والإرادة (وَالْقانِتِينَ) في السلوك إليه (وَالْمُنْفِقِينَ) ما عداه فيه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) من ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات ، ويقال : (الصَّابِرِينَ) الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى (وَالصَّادِقِينَ) الذين صدقوا في الطلب فوردوا ، ثم صدقوا فشهدوا ، ثم صدقوا فوجدوا ، ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد. ثم ورود. ثم شهود. ثم وجود.


ثم خمود (وَالْقانِتِينَ) الذين لازموا الباب وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب (وَالْمُنْفِقِينَ) الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ، ثم جادوا بميسورهم من الأموال ، ثم جادوا بقلوبهم لصدق الأحوال ، ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في أنوار الوصال (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه «هل من سائل. هل من مستغفر. هل من كذا. هل من كذا» ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال سبحانه:

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال الكلبي : لما «ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم قالا : أنت أحمد؟ قال : نعم قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سلاني فقالا له : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى الآية وأسلما. وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجّوا في أمر عيسى عليه‌السلام وهو الذي يشعر به ما أشرنا إليه قبل من الآثار ـ ويميل إليه كلام محمد ابن جعفر بن الزبير ـ وقيل : نزلت في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية ، وقيل : إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت.

والجمهور على قراءة (شَهِدَ) بلفظ الماضي وفتح همزة (أَنَّهُ) على معنى بأنه أو على أنه ، وقرئ «إنه» بكسر الهمزة إما بإجزاء (شَهِدَ) مجرى قال ، وإما يجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على (إِنَّ الدِّينَ) إلخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه والضمير راجع اليه تعالى ، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن وقرئ ـ شهداء لله ـ بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد ـ كظرفاء ـ في جمع ظريف ، أو جمع شاهد ـ كشعراء ـ في جمع شاعر ، والنصب إما على الحالية من المذكورين ، وإما على المدح ، والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ومآله المدح أي هم شهداء ، والاسم الجليل في الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده ، وقرئ ـ شهداء الله ـ بالرفع والإضافة. وفي (شَهِدَ) مسندا إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك ـ كسورة الإخلاص ، وآية الكرسي ـ وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل ، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم للشهادة ، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم ، وهذا الحمل ضروري على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي شامل لما يسند إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي أقر الملائكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه ، وبعضهم قدر في كل من المعطوفين لفظ (شَهِدَ) مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه ، ولعل القول بعموم المجاز أولى منه ، وقيل : والمراد ـ بأولو العلم ـ الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : المهاجرون والأنصار ، وقيل : علماء مؤمني الكتاب ، وقيل : جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة والحجج الباهرة ، وقدم ـ الملائكة ـ لأن فيهم من هو واسطة لإفادة العلم لذويه ، وقيل : لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم ضروري واكتسابي ، ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ما شذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي (وَالْمَلائِكَةُ


وَأُولُوا الْعِلْمِ) شهداء بذلك ، وقيل : بالعطف على الضمير في شهداء وصح ذلك للفصل ، واعترض بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولو العلم ـ وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى.

وقوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته ، و ـ القسط ـ العدل ، والباء للتعدية أي مقيما بالعدل ، وفي انتصاب (قائِماً) وجوه : الأول أن يكون حالا لازمة من فاعل (شَهِدَ) ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذ قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية ، ومنه (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما ، والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ولعله السر في تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به ، والثاني أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا في المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضا ، والثالث أن يكون وصفا لاسم ـ لا ـ المبني ، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه ، والمعطوف على فاعل (شَهِدَ) أجنبي مما هو في صلة ـ أن ـ لفظا ومعنى ، وبأنه متلبس بالحال فينبغي على هذا أن يرفع حملا على محل اسم ـ لا ـ رفعا للالتباس.

والرابع أن يكون مفعول العلم أي (وَأُولُوا) المعرفة (قائِماً بِالْقِسْطِ) ولا يخفى بعده ، الخامس ـ ولعله الأوجه ـ أن يكون حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه ، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا محالة.

وقرأ عبد الله ـ القائم بالقسط ـ على أنه خبر لمبتدإ محذوف وكونه بدلا من (هُوَ) لا يخلو عن شيء ، وقرأ أبو حنيفة : «قيما بالقسط» (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تكرير للمشهود به للتأكيد ، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل ، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيعلم أنه المنعوت بهما ، وقيل : لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده ، والثاني شهادة الملائكة ، وأولي العلم ، وهو ظاهر عند من يرفع ـ الملائكة ـ بفعل مضمر ، ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التي يفهمها (الْعَزِيزُ) على العلم بحكمته تعالى التي يؤذن بها (الْحَكِيمُ) ، وجعل بعضهم (الْعَزِيزُ) ناظرا إلى قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) و (الْحَكِيمُ) ناظرا إلى قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) ورفعهما على الخبرية لمبتدإ محذوف أو البدلية من (هُوَ) أو الوصفية له بناء على ما ذهب إليه السكاكي من جواز وصف ضمير الغائب ، وجعلهما نعتا لفاعل (شَهِدَ) بعيد ، وقد روى في فضل الآية أخبار.

أخرج الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا «لما نزلت الحمد لله رب العالمين. وآية الكرسي. وشهد الله وقل اللهم مالك الملك ـ إلى بغير حساب ـ تعلقن بالعرش وقلن : أتنزلنا على قوم يعملون بمعاصيك؟ فقال : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد عند دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة».

وأخرج ابن عدي ، والطبراني ، والبيهقي ـ وضعفه ـ والخطيب ، وابن النجار عن غالب القطان قال «أتيت الكوفة


فنزلت قريبا من الأعمش فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام بتهجد من الليل فمر بهذه الآية (شَهِدَ اللهُ) إلخ فقال : وأنا أشهد بما شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت : لقد سمع فيها شيئا فسألته فقال : حدثني أبو وائل بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» وروي عن سعيد بن جبير «أنه كان حول المدينة ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا للكعبة».

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مبتدأة وقعت تأكيدا للأولى ، وتعريف الجزأين للحصر ـ أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام ـ وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة «شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به». وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له : لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل ، وقرأ أبيّ ـ إن الدين عند الله للإسلام ـ والكسائي ـ أن الدين ـ بفتح الهمزة على أنه بدل الشيء من الشيء إن فسر الإسلام بالإيمان وأريد به الإقرار بوحدانية الله تعالى والتصديق بها الذي هو الجزء الأعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لأن ذلك عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يلزمها فهي عينه مآلا ، وأما إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لأن الشريعة شاملة للايمان والإقرار بالوحدانية ، وفسرها بعضهم بعلم الأحكام وادعى أولوية هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الأصول بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الأمر لا تدور على الاعتبار ولهذا تتحد فيها الأديان الحقة كلها ، وقيد كون الدين الإسلام بالعندية لأن الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ولهذا تغير وتبدل بحسب المصالح والأوقات ، ولا يخفى ما فيه ، أو على أن (شَهِدَ) واقع عليه على تقدير قراءة ـ إنه ـ بالكسر كما أشير إليه ، و (عِنْدَ) على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذي يشير إليه الجملة ، وقيل : متعلق بكون خاص ينساق إليه الذهن يقدر معرفة وقع صفة للدين أي ـ إن الدين المرضي عند الله الإسلام ـ وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الدين ، وقيل : متعلق به ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مبتدأ محذوف ، والجملة معترضة أي هذا الحكم ثابت عند الله ، وأرى الكل ليس بشيء «أما الأول» فلأنه خلاف القاعدة المعروفة في الظروف إذا وقعت بعد النكرات ، وأما الثاني فلأن المشهور أن (إِنَ) لا تعمل في الحال ، وأما الثالث فلأنه لا وجه للتعلق بلفظ (الدِّينَ) إلا أن يكتفى بأنه في الأضل بمعنى الجزاء ، وأما الرابع فلأن التكلف فيه المستغني عنه أظهر من أن يخفى ، هذا وقد اختلف في إطلاق الإسلام على غير ما جاء به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأكثرون على الإطلاق وأظن أنه بعد تحرير النزاع لا ينبغي أن يقع اختلاف (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قيل : المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام ، أخرج ابن جرير عن الربيع قال : «إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم» ، وقيل : النصارى ، واختلفوا في التوحيد. وقيل : المراد بالموصول اليهود والنصارى ، و ـ بالكتاب ـ الجنس ، واختلفوا في


التوحيد ، وقيل : في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : في الإيمان بالأنبياء ، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين ، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح ، وقوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات ، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه ، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي ، وقوله سبحانه : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) زيادة تشنيع ، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه (مَا) و (إِلَّا) من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديبا ، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث ، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر ، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناء على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول : ما ضرب إلا زيد عمرا ـ أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) قيل : المراد بها حججه ، وقيل : التوراة ، وقيل : هي والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : آياته الناطقة بأن الدين عند الله الإسلام ، والظاهر العموم أي أية آية كانت ، والمراد ـ بمن ـ أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) قائم مقام جواب الشرط علة له ـ أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب ـ فإنه سريع الحساب ـ أي يأتي حسابه عن قريب. أو يتم ذلك بسرعة ، وقيل : إن سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد ، وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير ، ولعله أولى وأدق نظرا.

وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة ، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدّة عقابهم (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي جادلوك في الدين بعد أن أقمت الحجج ، والضمير ـ للذين أوتوا الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ قاله الحسن ـ وقال أبو مسلم : لجميع الناس ، وقيل : وفد نصارى نجران ؛ وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي أخلصت وخضعت بقلبي وقالبي (لِلَّهِ) لا أشرك به غيره ، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي خالدوا به أمر مكشوف ، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة ، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم ، وقيل : إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال : هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه ، وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية. والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه‌السلام ، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات ، ونظير ذلك (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران : ٦٤] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] فكأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه‌السلام وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحظ مقدارهم ، وعبر عن الجملة ـ بالوجه ـ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شيء ، وفتح الياء نافع. وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على الضمير المتصل في (أَسْلَمْتُ) وحسن للفصل. أو


مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم في إسلام وجهه وليس المعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح ـ أكلت رغيفا وزيدا وو زيدا ، وقد أكل كل منهما رغيفا ، فالواجب أن يكون ـ من ـ مبتدأ والخبر محذوف أي (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) كذلك ، أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة ، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مئونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا ، وأثبت الياء في ـ اتبعني ـ على الأصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ـ وحذفها أحسن ـ لموافقة خط المصحف ، وقد جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى :

فهل يمنعني ارتيادي البلا

د من حذر الموت أن (يأتين)

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) عطف على الجملة الشرطية ، والمعنى فإن حاجّك أهل الكتاب فقابلهم بذلك فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر (أَسْلَمْتُمْ) متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد ـ وهذا كما تقول إذا لخصت لسائل مسألة ولم تدع من طرق البيان مسلكا إلا سلكته ـ فهل فهمتها على طرز (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] إثر تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم تعاطيه ، وفي ذلك تعيير لهم بالمعاندة وقلة الانصاف وتوبيخ بالبلادة وجمود القريحة ، والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفي ضمنه الأمر ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين ، والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركي العرب قاله ابن عباس وغيره.

(فَإِنْ أَسْلَمُوا) أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق (فَقَدِ اهْتَدَوْا) على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل ، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا أنفسهم قالوا : وسبب إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء ، وفيه منع ظاهر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) قائم مقام الجواب أي لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه ، وهذا قبل الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أية آية كانت ، ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقيقة الإسلام دخولا أوليا (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) هم أهل الكتاب الذين كانوا في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا معنى لإنذار الماضين قال القطب : وإسناد القتل إليهم ولم يصدر منهم قتل لوجهين : أحدهما أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت إضافتها إليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الابن لا سيما إذا كان راضيا به ، الثاني أن المراد من شأنهم القتل إن لم يوجد مانع ، والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت ـ أل ـ هنا دون ما سبق لتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك في هذه الآية فتذكر.

وقرأ الحسن «يقتلون النبيين» (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي بالعدل ، ولعل تكرير الفعل للاشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت ، أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح «قال : قلت : يا رسول الله : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ـ ثم قرأ الآية ـ ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من


ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى» وقرأ حمزة ـ «ويقاتلون الذين» ـ وقرأ عبد الله ـ «وقاتلوا» ـ وقرأ أبيّ ـ «ويقتلون النبيين» و ـ «الذين يأمرون» ـ (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر (إِنَ) ودخلت الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذي لم يغير معنى الابتداء من الدخول ومتى غير ـ كليت ، ولعل ـ امتنع ذلك إجماعا ـ وسيبويه ، والأخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وجملة فبشرهم معترضة بالفاء كما في قولك زيد ـ فافهم ـ رجل صالح ، وقد صرح به النحاة في قوله :

فاعلم ـ فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كل ما قدرا

ومن لم يفهم هذا قال : إن الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير والتقدير زيد رجل صالح ؛ وإذا قلنا لك ذلك ـ فافهم ـ وعلى الأول هو استئناف ، و (أُولئِكَ) مبتدأ ، وما فيه من البعد على المشهور للايذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال ، والموصول خبره ـ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الشنيعة الذين بطلت أعمالهم وسقطت عن حيز الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تحقن دماؤهم وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحا وثناء وفي الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب ـ وهذا شامل للأعمال المتوقفة على النية ولغيرها.

ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط بالكفر ، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول ، وإن أريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين ، وجمع ـ الناصر ـ لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعي أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية ، والمراد من انتفاء ـ الناصرين ـ انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى ، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠ ، آل عمران : ١٩٢ ، المائدة : ٧٢] إلا أن له هنا موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق ـ على ما أشار إليه الحديث ـ ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين لهم فيه.

ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء الكفر بالعذاب ، وقتل الأنبياء بحبط الأعمال. وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) تعجب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة ، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم. وقيل : إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم ، والمراد بالموصول اليهود ـ وبالنصيب ـ الحظ ، و (مِنَ) إما للتبعيض وإما للبيان على معنى (نَصِيباً) هو الكتاب ، أو نصيب منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه ، وعلى التقديرين اللام في (الْكِتابِ) للعهد ، والمراد به التوراة ـ وهو المروي عن كثير من السلف ـ والتنوين للتكثير ، وجوز أن يكون اللام في (الْكِتابِ) للعهد والمراد به اللوح ، وأن يكون للجنس ؛ وعليه ـ النصيب ـ التوراة ، و (مِنَ) للابتداء في الأول ويحتملها ، والتبعيض في الثاني والتنوين للتعظيم ، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضا كذلك ، وجوز على تقدير أن يراد ـ بالنصيب ـ ما حصل لهم من العلم أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم ، والتعبير عما أوتوه


بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حق من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها ، وقوله تعالى: (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب ، وإما حال من الموصول. والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة ، والإضافة للتشريف وتأكيد وجوب المراجعة ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره.

وقد أخرج ابن إسحاق وجماعة عنه قال : «دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو ، الحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ قال : على ملة إبراهيم ودينه قالا : فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية» وفي البحر «زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام : جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت» وهو المروي عن ابن جريج ـ وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا ـ وذهب الحسن. وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قيل : أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا ـ وهم اليهود ـ وبين الداعي لهم ـ وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر إبراهيم عليه‌السلام. أو في حكم الرجم. أو في شأن الإسلام. أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف في الدين الحق ، وعلى هذا ـ وهو المرضي عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول ـ وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) عطف على يدعون ، و (ثُمَ) للتراخي الرتبي ، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه ، و (مِنْهُمْ) صفة لفريق ، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل : وهذا سبب العدول عن ـ ثم يتولون ـ وقيل : الذين لم يسلموا ، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف ، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في (مِنْهُمْ) أو من (فَرِيقٌ) لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والاعراض بمعنى ، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناء على ما قيل: إن التولي عن الداعي والاعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والأعراض بالقلب. أو الأول كان من العلماء. والثاني من أتباعهم ، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلا أو معترضة ، والمراد وهم قوم ديدنهم الاعراض ، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها (ذلِكَ) أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب ، والمراد ـ بالأيام المعدودات ـ أيام عبادتهم العجل ، وجاء هنا (مَعْدُوداتٍ) بصيغة الجمع دون ما في البقرة فإنه (مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] بصيغة المفرد تفننا في التعبير ، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال : هذه جبال راسية ، وإن شئت قلت راسيات ، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات ، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ)


أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) إلخ ـ قاله مجاهد ـ أو من قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ـ قاله قتادة ـ أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم : «إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم» والظرف متعلق ـ بما عنده ـ أو ـ بيفترون ـ واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله ؛ وأجيب بالتوسع (فَكَيْفَ) استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه ، وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف ـ أي كيف تكون حالهم ـ أو كيف يصنعون أو كيف يكونون ، وجوز أن تكون خبرا لمبتدإ محذوف أي كيف حالهم ، وقوله تعالى : (إِذا جَمَعْناهُمْ) ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في كيف إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر ، وإن قلنا : إنها خبر لمبتدإ مضمر كان العامل في (إِذا) ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم (لِيَوْمٍ) أي في يوم أو لجزاء يوم. (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في وقوعه ووقوع ما فيه ، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ما عملت من خير أو شر ، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطى كل منهم مقدار ما كسبه ، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس ، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته ، وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه لا سيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى ، وبشارة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله ، وبهذا تنظيم هذه الآية الكريمة بما قبلها.

روى الواحدي عن ابن عباس ، وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال : حدثني أبي عن أبيه قال : خط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان الفارسي ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا : يا سليمان ارق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن تعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال : فرقي سلمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي


فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون : ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] وأنزل هذه الآية (قُلِ اللهُمَ) إلخ ، وأصل (اللهُمَ) ـ يا الله ـ فحذفت «يا» وعوض عنها ـ الميم ـ وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة ، وشددت لكونها عوضا عن حرفين وجمعها مع ـ يا ـ كما في قوله :

إني إذا ما حدث ألمّا

أقول ـ (يا اللهم) ـ يا اللهما

شاذ ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو ـ لله لا يؤخر الأجل ـ ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضا ، وميم في ـ م الله ـ ووقوع همزة الاستفهام خلفا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو ـ لاها الله ذا ـ وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب ، وزعم الكوفيون أن أصله ـ يا الله آمنا بخير ـ أي اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته ، ويجوز الجمع عندهم بين يا ـ والميم بلا بأس ـ ولا يخفى ما فيه ـ ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الإبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف ـ وأل ـ في الملك للجنس أو الاستغراق ، و (الْمُلْكِ) بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق ـ نسبة بين من قام به ومن تعلق ، وإن شئت قلت : صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار ـ فمالك الملك ـ هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا مانع ، ولهذا لا يقال «ملك الملك» إلا على ضرب من التجوز ، وحمل (الْمُلْكِ) على هذا المعنى أوفق بمقام المدح ، وقيل : المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد ـ وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة ، وانتصاب (مالِكَ) على الوصفية عند المبرد. والزجاج ، وسيبويه يوجب كونه نداء ثانيا ، ولا يجوز أن يكون صفة ـ لاللهم ـ لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف ، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف ، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه ، ومن هنا قال أبو علي : قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ـ اللهم ـ ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف ـ والعلامة التفتازاني على هذا ـ وأيد أيضا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية


(الْمُلْكِ) وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف ، وصحح الجواز لأنه مفعول به ، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل ، وجعل الجملة خبرا لمبتدإ محذوف أي أنت تؤتي ـ وإن اختاره أبو البقاء ـ ليس فيه كثير نفع (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) عطف على (تُؤْتِي) وحكمة حكمه ، ومفعول (تَشاءُ) في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه ممن تشاء نزعه منه ، و (الْمُلْكِ) الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس. أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية ، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتي لا يمكن أن يكون الجميع والمنزع هو ذاك لأنه معرفة معادة ، ويراد بها إن لم يمنع مانع عن الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول.

ومن الناس من حمل (الْمُلْكِ) هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتي النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب ، وقيل : المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون ، وروي ذلك عن الكلبي ، وقيل : تنزعه من صناديد قريش (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) أن تعزه في الدنيا والآخرة. أو فيهما بالنصر والتوفيق (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير ، وقيل : المراد تعز محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين (وَتُذِلُ) أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب ، وقال عطاء : (تُعِزُّ) المهاجرين والأنصار (وَتُذِلُ) فارس والروم ، وقيل : (تُعِزُّ) المؤمنين بالظفر والغنيمة (وَتُذِلُ) اليهود بالقتل والجزية ، وقيل : (تُعِزُّ) بالإخلاص (وَتُذِلُ) بالرياء ، وقيل : (تُعِزُّ) الأحباب بالجنة والرؤية (وَتُذِلُ) الأعداء بالنار والحجاب ؛ وقيل : (تُعِزُّ) بالقناعة والرضا (وَتُذِلُ) بالحرص والطمع «وقيل : وقيل :» وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، و (تُعِزُّ) مضارع أعز ضد أذل ، والمجرد من الهمزة منه ـ عز ـ ومضارعه يعز بكسر العين ، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية ، وله استعمالان آخران الضم والفتح ، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله :

يا قارئا كتب الآداب كن يقظا

وحرر الفرق في الأفعال نحريرا

«عز» المضاعف يأتي في مضارعه

تثليث عين بفرق جاء مشهورا

فما كقل وضد «الذل» مع عظم

كذا كرمت علينا جاء مكسورا

وما ـ كعز ـ علينا الحال أي صعبت

فافتح مضارعه إن كنت نحريرا

وهذه الخمسة الأفعال لازمة

واضمم مضارع فعل ليس مقصورا

«عززت» زيدا بمعنى قد غلبت كذا

أعنته فكلا ذا جاء مأثورا

وقيل : إذا كنت في ذكر القنوت ولا

«يعز» يا رب من عاديت مكسورا

واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا

لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرا

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) جملة مستأنفة ، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها ، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي (بِيَدِكَ) التي لا يكتنه كنهها ، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك ، وإنما خص الخير بالذكر تعليما لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه ، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق ، وتحقيقه (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء ، وقيل : إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية


ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات ، وقيل : لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام : الأول ما لا شر فيه أصلا ، والثاني ما يغلب خيره على شره ، والثالث ما يكون شرا محضا ، والرابع ما يكون شره غالب على خيره ، والخامس ما يتساوى الخير والشر فيه. والموجود من هذه الأقسام في العالم ـ القسم الأول ، والثاني ـ والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا ؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق ، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة يحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل ، ولهذا ورد في الحديث «لا تتهم الله تعالى على نفسك» وورد «ولا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين».

وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب» ومن هنا قيل : يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا : جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح ودبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما ، وهذا من باب ـ ليس في الإمكان أبدع مما كان ـ وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه ، وفي شرح الهياكل أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح ، ولا ينافيه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] إذ لا يفعل ما يسأل عنه كرما وحكمة وجودا ومنة «ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع».

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)


إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٧)

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان ـ وروي ذلك عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ـ ولا يضر تساوي الليل والنهار دائما عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب ، وقال الجبائي : المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول : ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء.

وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل ، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها ، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلاثمائة وستين يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني ، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها ، وزيادتها ، ونموها ، وصحتها ، وسقمها ، وحياتها ، وموتها ، فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية ، وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥] وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه ، ويرد كل فرع إلى أصله ، ويلحق كل ابن بأبيه ، وقال في الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي (١) النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] فجعل بين الليل والنهار نكاحا معنويا لما كانت الأشياء تتولد منهما معا وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلا : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤ ، الرعد : ٣] ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذا حكم الإيلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من


أجل الظاهر ، والباطن ، والغيب ، والشهادة ، والروح والجسم ، والحرف ، والمعنى ـ وشبه ذلك ـ فالإيلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح ، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار ، وجاء السلخ واحدا للظاهر لأربابه ، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر ، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا ، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري أولئك كتب في قلوبهم الإيمان فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامّهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة ، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني ، ولما كانت الأيام شيئا وكل شيء عندهم ظاهر ، وباطن ، وغيب ، وشهادة ، وروح ، وجسم ، وملك ، وملكوت ، ولطيف ، وكثيف قالوا : إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر ، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه ، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الإلهية ، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب ، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أن ليلة الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس ، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة ، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت ، ومن ليلة الخميس نهار الأحد ، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذات الجهات ، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف ، والنهارات منها للفوق واليمين والأمام فلا يكون الإنسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله ، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات ، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعدادتها ولهذا قال سبحانه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] ولم يقل ـ في شئون ـ وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميرا في ذلك ، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو ، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه ، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل : (يُولِجُ اللَّيْلَ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات ، والحاكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الإيلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس ، والثانية منها ، والثالثة من يوم الخميس ، والعاشرة منها ، والخامسة من ليلة الجمعة ، والثانية عشرة منها ، والسابعة من يوم الجمعة ، والثامنة من ليلة السبت ، والتاسعة منها ، والرابعة من يوم السبت ، والحادية عشرة منه ، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله.

وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد. والثامنة. والثالثة من يوم الاثنين. والعاشرة منه،


والخامسة من يوم الاثنين. والثانية عشرة منه. والسابعة من ليلة الثلاثاء. والثانية من يوم الثلاثاء. والتاسعة منه ، والرابعة من ليلة الأربعاء. والحادية عشرة منها. والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد ، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام ، ويظهر ذلك من أيام التكوير.

وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره الشأن في كل يوم في رسالته المسماة بالشأن الإلهي ، ولعلي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] وهذه الأيام أيضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا ، ويوم الرب ، ويوم المعارج ، ويوم القمر ، ويوم الشمس ، ويوم زحل ، ويوم الحمل. ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم ـ وقد ذكر كل ذلك في الفتوحات ـ وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء في بيان مشرب القوم ليس بدعا في هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون ، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة ، وعليه ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ومجاهد ، والسدي ، وخلق كثير (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف.

وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال : هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر» فذلك قوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الآية ـ وإلى هذا ذهب الحسن ـ وروي عن أئمة أهل البيت ، فالحي والميت مجازيان ، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى والقائلون بعموم المجاز قالوا : المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات ، والنخلة من النواة والنواة من النخلة ، والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ، والعالم من الجاهل والجاهل من العالم ، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدئ إذ غاية ما تفهمه الآية أن الله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئا إلا من شيء فلا كما لا يخفى ، وقرأ (الْمَيِّتِ) بالتخفيف في الموضعين (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من تشاء غير محاسب له ، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له ، أو غير مضيق عليه ، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أو مفعول محذوف أي رزقا غير قليل ، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين.

هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية ، وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال : شكوت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دينا كان عليّ فقال : «يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت : نعم قال : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عن ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدي عنك» وفي رواية للطبراني الآية بتمامها.


«ومن باب الاشارة في الآيات» (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أبان بدلائل الآفاق والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه ، أو شهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره ، وشهد ـ الملائكة وأولو العلم ـ بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام التفصيل ، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة ، وأيضا قالوا : شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من رؤية الصفات ، وقيل : شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف ، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادة بعض من الحالات ، وشهادة آخرين من المقامات ، وشهادة طائفة من المكاشفات ، وشهادة فرقة من المشاهدات ؛ وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية ، فشهادتهم مستغرقة في شهادة الحق لأنهم في محل المحو (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي مقيما للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد فيتجلى عليه على قدر دعائه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) فلا يصل أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته (الْحَكِيمُ) الذي يدبر كل شيء فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق (إِنَّ الدِّينَ) المرضي (عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله تعالى ففنيت فيه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) الداعين إلى التوحيد وهم العباد الواصلون الكاملون (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى من الناس ، ويحتمل أن يشار ـ بالذين كفروا ـ إلى قوى النفس الأمارة ـ وبالنبيين ـ إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام الغيوب ، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود أولئك الأنبياء وأتباعهم ، فبشر أولئك الكافرين بعذاب أليم وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار (أَعْمالُهُمْ) لعدم شرطها وهو التوحيد في الدنيا وهي عالم الشهادة والآخرة وهي عالم الغيب (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) لسوء حظهم وقلة استعدادهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كعلماء السوء وأحبار الضلال (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) الناطق بمقام الجمع والفرق (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وبين الموحدين (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) نار البعد (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي قليلة يسيرة (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) الذي هم عليه (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من القضايا والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال (فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ) بعد تفرقهم في صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) وهو يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره ، ووفيت كل نفس صالحة طالحة ما كسبت بواسطة استعدادها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) جزاء ذلك (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) وهو من اخترته للرئاسة الباطنة وجعلته متصرفا بإرادتك وقدرتك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة ، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله «وأنت» القادر مطلقا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) تدخل ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما وتخرج حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي القلب ، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من النعم الظاهرة والباطنة ، أو من إحداهما فقط (بِغَيْرِ حِسابٍ) إذ لا حجر عليك.


هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والإعزاز من الله تعالى وأنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نبه المؤمنين على أنه لا ينبغي أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) قال ابن عباس : كان الحجاج بن عمرو ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ـ والكل من اليهود ـ يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية ، وقال الكلبي : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم.

وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى (لا يَتَّخِذِ) إلخ ، والفعل مجزوم بلا الناهية ، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين ، وجوز أن يكون متعديا لواحد ـ فأولياء ـ مفعول ثان ، أو حال وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب ، والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا : إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار ، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا ـ وعليه الجمهور ـ أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به ، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «ارجع فلن أستعين بمشرك» فمنسوخ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن ، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة ، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول ـ وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز ـ على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها ، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى.

ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس ، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨] ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفى (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حال من الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار


دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع ، وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء.

وقيل : الظرف في حيز الصفة لأولياء ، وقيل : متعلق بفعل الاتخاذ ، و (مِنْ) لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الاتخاذ ، والتعبير عنه بالفعل ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره و (مِنْ) شرطية ، و (يَفْعَلْ) فعل الشرط ، وجوابه. (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) والكلام على حذف مضاف أي من ولايته ، أو من دينه ، والظرف الأول حال من (شَيْءٍ) والثاني خبر ـ ليس ـ وتنوين (شَيْءٍ) للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل :

تودّ عدوي ثم تزعم أنني

صديقك ليس النوك عنك بعازب

وقيل أيضا :

إذا والى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

والجملة معترضة ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) على صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه فعل النهي معتبرا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم ، وقيل : استثناء مفرغ من المفعول لأجله أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية (مِنْهُمْ) أي من جهتهم ؛ و ـ من ـ للابتداء متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : (تُقاةً) لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها ، والمراد ـ بالتقاة ـ ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول يكون مفعولا به لتتقوا ، وعلى الثاني مفعولا مطلقا له ، و (مِنْهُمْ) متعلق به ، وتعدى ـ بمن ـ لأنه بمعنى خاف ، وخاف يتعدى بها نحو (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) [النساء : ١٢٨](فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) [البقرة : ١٨٢] والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعم به أي ضررا ونحوه ، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاء كتجاه وأبدلت الياء المتحركة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة ـ كتخمة ، وتؤدة ـ وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء ـ كاقتداء ـ وقرأ أبو الرجاء ، وقتادة «تقيّة» ـ بالياء المشددة ووزنها فعلية والتاء بدل من الواو أيضا «وفي الآية دليل» على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس ، أو العرض ، أو المال من شر الأعداء ، والعدو قسمان : الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم ، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين : أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل ، أو قتل الأولاد ، أو الآباء ، أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق ، أو بحبس القوت ، أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم ، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه


لذلك فإنه شهيد قطعا ، ومما يدل على أنها رخصة ـ ما روي عن الحسن ـ أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ثم دعا بالآخر فقال له : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم قالها ثلاثا ، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه «وأما القسم الثاني» فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم : تجب لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وبدليل النهي عن إضاعة المال ، وقال قوم : لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن ، وقال بعضهم : الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لاصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة ، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض ، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك ، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة ، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم التبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع.

فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة».

وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «استأذن رجل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «بئس ابن الشعيرة ـ أو أخو العشيرة ـ ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال : يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا ، وإبراهيم الحرمي بزيادة ، «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.

ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس ، وهم الخوارج ، والشيعة : أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة ، منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كيلا يهرب ، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان ، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم :


إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها الضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين ؛ وقال المفيد : إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها ، وقال أبو جعفر الطوسي : إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ، وقال غيره : إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به ، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي ، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف ، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا ، وفي أفضلية التقية من سني واحد ـ صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن ـ خلاف أيضا ، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز ـ بل وجوب ـ إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز ـ بل وجوب ـ إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان ، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم ـ وهو الشائع الآن فيما بينهم ـ حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم‌السلام ؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.

ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه ففي كتاب نهج البلاغة الذي هو أصح الكتب ـ بعد كتاب الله تعالى ـ في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال : علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] بأكثركم تقية؟ وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال : إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج.

وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع ، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين ، وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال : توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال : ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال : أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال : انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر : أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.

وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال : يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال عليّ : إنك هاهنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر : الله الله تعالى يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان : فلما كان الليل دعاني عليّ فقال : سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي : أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك. قال سلمان : فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال : أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال : يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستقين بك والصواب أن تفارقه


وتصير من جملتنا قلت : ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا ، قال : ارجع إليه فقل : السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال : أحدثك عما جرى بينكما فقلت : أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال : إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت ، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه وتقية.

وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال : إن الله عزوجل أنزل على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا فقال جبريل : يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال : ومن النجباء يا جبريل؟ فقال : عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه ، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل ، ثم دفعه إلى على بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل ، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك ، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل ، ثم دفعه إلى موسى ـ وهكذا إلى المهدي ... ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله ، وفي الخاتم الخامس ـ وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة ، وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال : لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة : الزبير ، وسلمان ، وأبو ذر ، والمقداد. وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه.

وفي كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال : انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيري ، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فاصحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته ، وفيه أيضا أن عمر قال لعلي : بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال : إن لم أفعل ذلك؟ قال : إذا والله تعالى لأضربن عنقك قال : كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألام وأضعف من ذلك. فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية ، وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر : يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.

وروي أيضا أنه قال لعمر مرة إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس


ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليمّ نسفا فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى هذا العجب العجاب والداء العضال ، ومما يرد قولهم أيضا : إن التقية لا تكون إلا لخوف ، والخوف قسمان : الأول الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين : أحدهما أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في الكافي ، وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية ، وثانيهما أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين ، القسم الثاني خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله تعالى عليه وسلم.

وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر وما ذا منعه من أداء الواجب أول وهلة ، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم‌السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [الأحزاب : ٣٩] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] إلى غير ذلك من الآيات ، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه ، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، والثاني حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو التفصيل الذي ذكرناه.

ومن الناس من أوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه ، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم ، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض. وحنانيك بعض الشر أهون من بعض. وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم «وقد يقال» ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة ، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا ، ويؤيد هذا ما ذكره الشعراني قدس‌سره في الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة مما نصه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الإفهام حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ـ وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن ، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.


فعلى هذا الإنكار على القوم ليس في محله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي عقاب نفسه ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه ، وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح ، وقيل : النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين ، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع ، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة قيل : والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) أي تسروا ما في قلوبكم من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفار ، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب (أَوْ تُبْدُوهُ) أي تظهروه فيما بينكم.

(يَعْلَمْهُ اللهُ) فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم إخفاؤه ، وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مرت الإشارة إلى سره (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا ، والجملة مستأنفة غير معطوفة على جواب الشرط.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير ، فكأنه سبحانه قال : ـ ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها ـ والإظهار في مقام الإضمار لما علمت (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس المكلفة.

(ما عَمِلَتْ) في الدنيا (مِنْ خَيْرٍ) وإن كان مثقال ذرة (مُحْضَراً) لديها مشاهدا في الصحف ، وقيل : ظاهرا في صور ، وقيل : تجد جزاء أعمالها محضرا بأمر الله تعالى ، وفيه من التهويل ما ليس في ـ حاضرا ـ وهو مفعول ثان لتجد (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) عطف على (ما عَمِلَتْ) و (مُحْضَراً) محضر فيه معنى إلا أنه خص بالذكر في ـ الخير ـ للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية ـ كما قال شيخ الإسلام ـ وتقدير (مُحْضَراً) في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز ـ كما في الدر المصون ـ ولم يجعلوه من قبيل ـ علمت زيدا فاضلا وعمرا ـ وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول من قبيل ـ زيد قائم. وعمرو ـ وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به فيلزم الاقتصار ضرورة ، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا الباب وهم ، ولك أن تجعل (تَجِدُ) بمعنى تصيب فيتعدى لواحد ، و (مُحْضَراً) حال (تَوَدُّ) أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى يوم ذلك.

(لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) أي بين ذلك اليوم (أَمَداً بَعِيداً) وقيل : الضمير ـ لما عملت ـ لقربه ولأن اليوم أحضر فيه الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع الضمير ـ اليوم ـ وإلى ذلك ذهب في البحر ، ورد بأنه أبلغ لأنه يودّ البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما فيه من السوء ، و ـ الأمد ـ غاية الشيء ومنتهاه ، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة ، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة ، وقيل : مقدار العمر ، وقيل : قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب ، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ـ ولعله الأظهر ـ فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير ، وقال أبو حيان : إن الظاهر في بادئ الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل


المتقدم نحو غلام هند ضربت هي ، والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيودّ عائد على شيء اتصل بمعمول ـ يودّ ـ وهو يوم لأنه مضاف إلى تجد كل نفس ، والتقدير تودّ كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر (مُحْضَراً) لو أن بينها إلخ ، وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح ، ومنه قوله :

أجل المرء يستحث ـ ولا يد

ري ـ إذا يبتغي حصول الأماني

أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري ، والفراء. والأخفش. وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه «وفي الآية أوجه أخر» منها أن ناصب الظرف قدير ، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى ، ومنها أنه منصوب بالمصير. أو بالذكر. أو بيحذركم مقدرا فيكون مفعولا به. أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو ـ اذكروا ـ يجوز في (ما عَمِلَتْ) أن يكون مبتدأ خبره حملة (تَوَدُّ) وأن يكون معطوفا على (ما) الأولى ، وجملة (تَوَدُّ) إما مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم. فما ذا يكون إذ ذاك؟ فقيل : (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها) إلخ ، أو حال من فاعل (تَجِدُ) أي ـ اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادّت تباعد ما بينها وبينه ـ وجوز أن يكون حالا من ضمير (عَمِلَتْ) لقربه ، واعترض بأن ـ الوداد ـ إنما هو وقت وجدان العمل حاضرا في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا ، والحالية من ضمير (عَمِلَتْ) تقتضيه فلا وجه لها ، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) كذا مقدرا وداده ـ أي حال كونه ثابتا في قدرنا وداده ـ فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له ، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢] ، واعترض أيضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير (عَمِلَتْ) يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب ، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به ، وجوز أيضا أبو البقاء أن تكون ما في (ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) شرطية ـ وإلى ذلك مال السفاقسي ـ ورفع (تَوَدُّ) ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط ، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاد كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير :

«وإن» أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه ، نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] يرفع يدرك عليه ، وأجيب بأنا لا نسلم الشذوذ ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرا في لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول أبي صخر:

ولا بالذي إن بان منه حبيبه

يقول ويخفي الصبر إني لجازع

وقول الآخر :

إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا

في الجهد أدرك منهم طيب إخبار

برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط ، وقوله :

وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه

تشوف أهل الغائب المنتظر

إلى غير ذلك ، وفي البحر : إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في


الآية جزاء لما ذكر سيبويه أن النية في المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب وحينئذ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير ـ وبينه ـ عائد على اسم الشرط وهو (ما) فيصير التقدير ـ تودّ كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء ـ وذلك لا يجوز ، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور أيضا لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الأكثر ، وإن كان متقدما عليه في النية ، وقرأ عبد الله ـ ودّت ـ وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثاني قال : إن في الصحة كلاما لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على (تَجِدُ) والشرطية لا تقع حالا ولا مضافا إليها الظرف فلم يبق إلا عطفها على اذكر ـ وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى ـ وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالا بتقدير مبتدأ أي ـ وهي ما عملت من سوء ودّت ـ ولا يخفى ما فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها ، وقال غير واحد من الأئمة : إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لأنه كلام ـ كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم ـ فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه ، وحديث الاستقبال يدفعه تقدير ـ وما كان عملت كما في نظائر له ، فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) قيل : ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا. وجوز أن يكون معطوفا على (تَوَدُّ) أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيئ (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه ، وأهون منه عطفه على (تَجِدُ) والظرف معمول ـ لا ذكروا ـ أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته. وقد يقال : إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده ، وقوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم ، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضا.

فالجملة على الأول تذييل ، وعلى الثاني حال ، وإلى الأول يشير كلام الحسن رضي الله تعالى عنه ، و ـ أل ـ في العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجه الذهن إلى هذا الحكم أتم توجه.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلا لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص أي ـ إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه ـ كذا قيل ، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة ، قال الغزالي عليه الرحمة في الاحياء : الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى عشقا ، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتا ، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال : إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب لأنه صلى الله تعالى


عليه وسلم سمى الصلاة ـ قرة عين ـ وجعلها أبلغ المحبوبات ، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى ، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجز إدراكه الحواس أصلا ، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

والقول : بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب ـ فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى ـ ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) جواب الأمر وهو رأي الخليل. وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم ـ رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة ، وقيل : يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة ، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي يتجاوز لكم عنها (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تحبب اليه بطاعته وتقرب اليه باتباع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة ، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر للاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة ، وقرئ ـ تحبوني. ويحبكم. ويحببكم ـ من حبه يحبه ، ومنه قوله :

أحب ـ أبا ثروان من ـ حب ـ تمره

وأعلم أن الرفق بالجار أرفق

ووالله لو لا تمره ـ ما حببته

ولا كان أدنى من عبيد ومشرق

ومناسبة الآية لما قبلها كما قال الطيبي : أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) إلخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت ، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلا : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) إلخ ؛ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلا يقول : بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب؟ فقيل : بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود «واختلف في سبب نزولها» فقال الحسن ، وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد : إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : «وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال : يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش : يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ) إلخ ، وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت


عرضها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها» وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : «نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم» يروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبيّ : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي في جميع الأوامر والنواهي ويدخل في ذلك الأمر السابق دخولا أوليا ، وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها ، وفيه إشارة إلى رد شبهة المنافق كأنه يقول : إنما أوجب الله تعالى عليكم متابعتي لا لما يقول النصارى في عيسى بل لكوني رسول الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا أو تعرضوا على أن تكون إحدى التاءين محذوفة فيكون حينئذ داخلا في حيز المقول ، وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة تلويح إلى أنها غير محتملة منهم (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي لا يقربهم أو لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر عزه ويسخط عليها يوم رضاه عن المؤمنين.

والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر وبأن محبته عزوجل مخصوصة بالمؤمنين لأن نفيها ـ عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك العلة ـ يقتضي الحصر في ضدهم.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا : نحن أبناء إبراهيم. وإسحاق. ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت : وقيل : إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلها نزلت ردا عليهم وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها.

وقال شيخ الإسلام رحمه‌الله تعالى في وجه المناسبة : إنه سبحانه لما بين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الايمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى ـ وهو وجه وجيه ـ.

وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع وثنى بنوح عليه الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر آل عمران مع اندراجهم في الآل الأول لإظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين.

وقيل : المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي ـ اصطفى آدم ، ونوحا ، وإبراهيم ، وعمران. وذكر الآل فيهما اعتناء بشأنهما وليس بشيء. والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل : إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط. وروي عن


ابن عباس. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحد الإطلاقات ، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام قاله الحسن ووهب ، وقيل : المراد بهم موسى وهارون عليهما‌السلام ، فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى ـ قاله مقاتل ـ وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة. والظاهر هو القول الأول ـ لأن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة ، وأما موسى ، وهارون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم ، وأيضا يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ونص عليه وأنه قال سبحانه : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) [آل عمران : ٣٥] إلخ ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى : (وَآلَ عِمْرانَ) فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيدا إن زيدا رجل فاضل ، وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع ، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر ليس في القوة ـ كمرجح الأول كما لا يخفى ، والاصطفاء الاختيار ، وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء ، ولتضمينه معنى التفضيل عدي بعلى ، والمراد ـ بالعالمين ـ أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه ، ويدخل الملك في ذلك ، والتأويل خلاف الأصل.

ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة ، ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى إنهم امتازوا كما قيل : على سائر الخلق خلقا وخلقا وجعلوا خزائن أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص من عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه ، وهذا ظاهر في المصطفين المذكورين في الآية من الرسل ، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك ، وقيل : اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه جواره ، واصطفى نوحا بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وسائر ذوي المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين ، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب ، ويكفيهم فخرا أن سيد الأصفياء منهم ، واصطفى عيسى وأمه بأن جعلهما آية للعالمين.

وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده ، ووجه اصطفاء هارون جعله وزيرا لأخيه ، وأما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للايذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة ، وكونه شيخ الأنبياء وقدوة المرسلين ، وأما اصطفاء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيفهم من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ الإسلام ، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرءون ـ وآل محمد على العالمين ـ وعلى ذلك لا سؤال ، ومن الناس من قال : المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جعل كأنه كل الآل مبالغة في مدحه ، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة الأنبياء كلهم فضلا عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا بعيدة ، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله تعالى عليه وسلم وإطاعته ، وجعل إطاعته ومتابعته سببا لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سببا لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفا لهؤلاء المتمردين عن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر اصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم ، واصطفاء موسى وهارون على العالم


فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا وأهلكهم ، ولذا خص آدم بالذكر ونوحا والآلين ، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما وسلم إذ إبراهيم لم يغلب ، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سيغلب ـ وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفي وجه التخصيص ـ وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى.

وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل ، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة ـ ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن ـ وأيضا حمل آل عمران على موسى. وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت ، وكأن القائل لما لم يتيسر له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر ، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) نصب على البدلية من الآلين أو الحالية منهما ، وقيل : بدل من «نوح» وما بعده ، وجوز أن يكون بدلا من (آدَمَ) وما عطف عليه ، ورده أبو البقاء بأن آدم ليس بذرية ، وأجيب بأنه مبني على ما صرح به الراغب وغيره من أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق ، والأب ذرئ منه الولد ، والولد ذرئ من الأب إلا أن المتبادر من الذرية النسل ـ وقد تقدم الكلام عليه.

والمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة البعض من البعض في النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونهم ذرية ، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ـ واختاره الجبائي ـ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في النية والعمل والإخلاص والتوحيد ، و (مِنْ) على الأول ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثاني اتصالية والاستمالة برهانية ، وقيل : هي اتصالية فيهما (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بأفعالهم وما تكنه صدورهم فيصطفي من يشاء منهم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته ، والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت قولها ، وقيل : هو منصوب على الظرفية لما قبله ، وهو (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) على سبيل التنازع أو ـ السميع ـ ولا يضر الفصل بينهما بالأجنبي لتوسعهم في الظروف ، وقيل : هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه ـ باصطفى ـ المذكور كأنه قيل : واصطفى آل عمران (إِذْ قالَتِ) إلخ فكان من عطف الجمل على الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت ، و (امْرَأَتُ عِمْرانَ) هي حنة بنت فاقوذا ـ كما رواه إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحاكم عن أبي هريرة ـ وهي جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة والسلام ـ هي أم يحيى ـ فعيسى ابن بنت خالة يحيى ـ كما ذكر ذلك غير واحد من الأخباريين ـ ويشكل عليه ما أخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا» وأجاب صاحب التقريب بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه ، والغرض أن بينهما عليهم الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة الخئولة ، وقيل : كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم ، وفيه أنه مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين.

أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض


فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكرا فحاضت من ساعتها فلما ظهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت : لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها : أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى ـ والأنثى عورة ـ فكيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك :

(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الأنثى فيكون المعنى ـ رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله ذكرا على حد أعتق عبدك عني ـ وجعله بعض الأئمة تأكيدا لنذرها إخراجا عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من (لَكَ) للتعليل ، والمراد لخدمة بيتك ـ والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ، ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة الكنيسة ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وقال مجاهد : المحرر الخادم للبيعة ، وفي رواية عنه الخالص الذي لا يخالطه شيء من أمر الدنيا ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : أرادت عتيقا خالصا لطاعتك لا أصرفه في حوائجي ، وعلى كل هو من الحرية ـ وهي ضربان ـ أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية.

وانتصابه على الحالية من (ما) والعامل فيه (نَذَرْتُ) وقيل : من الضمير الذي في الجار والمجرور ؛ والعامل فيه حينئذ الاستقرار ـ ولا يخفى رجحان الوجه الأول ـ والحال إما مقدرة أو مصاحبة ، وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أي ـ تحريرا ـ لأنه بمعنى النذر ، وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء ، و ـ التقبل ـ أخذ الشيء على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء ـ وتقبل ـ هنا بمعنى اقبل (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لسائر المسموعات فتسمع دعائي (الْعَلِيمُ) بما كان ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا ، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال ـ قاله شيخ الإسلام ـ وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها ليست كتعلقات صفة العلم في الكثرة (فَلَمَّا وَضَعَتْها) الضمير ـ لما ـ ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكرا ، وأما التأنيث في قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة ، و (أُنْثى) حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى «ما» نظرا إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث ـ كالنفس ، والحبلة ، والنسمة ـ فلا يشكل التأنيث ولا يلغو (أُنْثى) حال مبينة ـ كذا قيل ـ ولا يخلو عن نظر ، فالحق أن الضمير لما ـ في بطني ـ والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه بترتب جواب (لما) لا على وضع ولد ما ، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل ، و (أُنْثى) حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه ، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها ، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن ، وقد قال الإمام المرزوقي : إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الاخبار كما في قوله :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت «يصيبني سهمي»

فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار ، وحاصل المعنى هنا على ما قرر ـ فلما وضعت بنتا تحسرت إلى


مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها ـ وعلى هذا لا إشكال أصلا في التأنيث. ولا في الجزاء نفسه. ولا في ترتبه على الشرط ، وما قيل : إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام ـ التحقير للمحرر استجلابا للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه ـ فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا ؛ والتأكيد هنا قيل : للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد بقيود الحرمان أسير (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره ـ أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات ، وهي غافلة عن ذلك كله ، و «ما» على هذا عبارة عن الموضوعة ، قيل : والإتيان بها دون ـ من ـ يلائم التجهيل فإنها كثيرا ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة ـ أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه ـ مما لا وجه له وجزالة النظم تأباه ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (بِما وَضَعَتْ) على خطاب الله تعالى لها ، والمراد به تعظيم شأن الموضوع أيضا أي إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله تعالى فيه.

وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب «بما وضعت» على أنه من كلامها قالته اعتذارا إلى الله تعالى حيث وضعت مولودا لا يصلح للغرض ، أو تسلية لنفسها أي ولعل لله تعالى في ذلك سرا وحكمة ـ ولعلى هذه الأنثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفي العلم لا للتجهيل لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يقف على ما في خلاله من الأسرار ، وحمل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على هذا المعنى بجعل الخطاب منها لنفسها في غاية البعد ، ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهارا لغاية الإجلال (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول من التعظيم وليس بيانا لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف.

واللام في الذكر والأنثى للعهد ، أما التي في الأنثى فليسبق ذكرها صريحا في قوله سبحانه حكاية : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وأما التي في الذكر فلقولها : (إِنِّي نَذَرْتُ) إلخ إذ هو الذي طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري ـ وهو غير الذهني لأن قولها : (ما فِي بَطْنِي) صالح للصنفين ، وقولها : (مُحَرَّراً) تمن لأن يكون ذكرا فأشير إلى ما في البطن حسب رجائها ، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي مماثلة الذكر للأنثى ، فاللام للجنس ـ كما هو الظاهر ـ لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس ، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس ، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضا لأن مراد أم مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى بل العكس تعظيما لعطية الله تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين ، وأما ثانيا فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى ، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي ، فالأولى في الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في الانتصاف بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة : وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ)


[الأحزاب : ٣٢] فنفي عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء ـ وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ـ ومنه أيضا (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] انتهى.

وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفي بلا. أو غيرها. أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه ، أو ببعضها احتمل معنيين تفضيل لمشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى ـ كقولك ليس زيد كحاتم في الجود ـ ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب ـ ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك ـ وقوله :

طرف الخيال ولا كليلة مدلج

ووقع في شروح المقامات وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري في قوله :

غدوت ولا اغتداء الغراب

وعيب قول صاحب التلويح في خطبته : نال حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار ، ومبنى الاعتراض على هذا ، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب الانتصاف ، بما أورد من الآيات ، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضا في كتابه المنتخب ـ فلان حسن ولا القمر. وجواد ولا المطر ـ على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى.

وهو كما قال : من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها ـ وقوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) المنصوبة المحل على المفعولية للقول ـ وما بينهما كما علمت اعتراض بجملتين غير محكيتين الثانية من تتمة الأولى معنى على ما بين ـ ولهذا أجراه البعض مجرى الاعتراض في الاعتراض فجعله نظير قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦].

واعترض بأنه كيف يجوز الاعتراض بين كلامي أم مريم وكلام متكلم لا يجوز أن يكون معترضا بين كلامي متكلم آخر ، وأجيب بأن كلام أم مريم من كلام الله تعالى نقلا عن أم مريم ولا بعد في أن يكون كلامه تعالى اعتراضا بين كلاميها اللذين هما من كلام الله تعالى نقلا عنها ، هذا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناء على ما سبق من القراءة والاحتمال فلا اعتراض.

قيل : والغرض من عرض التسمية على (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩ ، ١١٦ ، التوبة : ٧٨ ، سبأ : ٤٨] التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن (مَرْيَمَ) في لغتهم بمعنى العابدة ـ ولا يخفى بعده ـ إذ مجرد ذكر تسميتها بنتها مريم لا يكاد يكون مقربا لها إليه تعالى لأن التقرب إليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة ـ ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة ، فكيف يكون مقربا إليهم إلا أن يقال : إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعبادة الذي أشعر به تسميتها بنتها عابدة ، أو اعتقاد أن الله تعالى مستعاذ يجير من يستعيذ به عما يخافه.

واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هي باقية أيضا لأن المقرب حينئذ ما في القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لا تخفى عليه خافية ، والأولى أن يقال : إن الغرض من ذلك إظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم المسند إليه للتخصيص يعني التسمية مني لا يشاركني فيها أبوها ، قيل : وفي ذلك تعريض بيتمها استعطافا له تعالى وجعلا ليتمها شفيعا لها ، والقول : بأن فائدة عرض تسميتها التحسر والتحزن أيضا أي إني سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته إليها لكراهة الرجال في الغالب البنات فمع أنه خلاف ما دل عليه أكثر


الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى ، وقد تقدم الكلام في (مَرْيَمَ) وزنا ومعنى ، وقد اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى ـ جارية ـ ويقرب أن يكون القول المعول عليه ، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع ، واستدل بتغاير المفعولين على تغاير الاسم والمسمى ، وقد تقدم البحث فيه (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) عطف على (إِنِّي سَمَّيْتُها) وأتى هنا بخير إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف (وَضَعَتْها) و (سَمَّيْتُها) حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ به على المعطوف الآتي اهتماما به ، ومعنى (أُعِيذُها بِكَ) أمنعها وأجيرها بحفظك ، وأصل العوذ كما قال الراغب : الالتجاء إلى الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به ، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية ؛ وقرأ أبو جعفر ، ونافع ـ «إنّي» ـ بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين (بِعَهْدِي أُوفِ) [البقرة : ٤٠] و (آتُونِي أُفْرِغْ) [الكهف : ٩٦](وَذُرِّيَّتَها) عطف على الضمير المنصوب ، وفي النصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر ، وطلب للتناسل منها هذا إذا أريد بالإعاذة (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي المطرود ، وأصل الرجم : الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله ، وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير ، ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسّه صارخا إلا مريم وابنها» وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب ، وفي رواية إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما» وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأنها خبر واحد على خلاف الدليل ، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين ، وأيضا لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء ، وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس ، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠ ، ص : ٨٢ ، ٨٣] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

 ـ يكون بكاء الطفل ساعة يولد ـ

وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه انتهى.

ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في الصحاح والأمر لا امتناع فيه ، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتق بالقبول ، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخا فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك ، وقوله : لامتلأت الدنيا عياطا قلنا : هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف وفي الصحيح «لو لا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل»؟ وفي رواية «لاختطفتكم الجن» وفسر قوله


تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) [الرعد : ١١] في أحد الوجوه به ، وبهذا يندفع أيضا قول القاضي : من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضا ليس أمرا ضروريا للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه‌السلام وأمه إيذانا باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم ، أو يقدر له ما يخصصه ، وعلى التقديرين يخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى ، ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه ، وقد قال به جمع ويشهد له ما روى الجلال في البهجة السنية عن عكرمة قال : لما ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشرقت الأرض نورا فقال إبليس : لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده : لو ذهبت إليه فجاءه فركضه جبريل عليه‌السلام فوقع بعدن ، وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه ، والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم‌السلام ولا يلزم منه تفضيله عليهم‌السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل ، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الأخبار من تلك الحيثية ، نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي يكون حين الولادة ، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة. غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل ، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شربا ولا يضيق عليهم سربا ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه (فَتَقَبَّلَها) أي رضي بمريم في النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول (رَبُّها) أي رب مريم المبلغ لها إلى كمالها اللائق بها ، وقيل : الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها) إلخ ، والأول أولى (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الباء مثلها في ـ كتبت بالقلم ـ و ـ ما يقبل به الشيء ـ كالسعوط واللدود ـ ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى ، أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة والخدمة.

فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : لما وضعتها خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محررة فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء فتساهم القراء عليها ـ لأنها كانت بنت إمامهم ـ أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الأحبار : أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي ، فقالت القراء : ولكنا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها ، وقال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس : أدخل يدك فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا : لا نرضى ولكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جري الماء فقالوا : نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا. ويجوز أن تكون الباء للملابسة ، و ـ القبول ـ مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف ، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي قبول ، ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الإكرام ، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل ـ كتعجل بمعنى استعجل ـ والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول أحسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ ـ وفي المثل خذ الأمر بقوابله ـ وجوز أن تكون الباء زائدة ، و ـ القبول ـ مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولا حسنا ، وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فان صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع


بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته ، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع ـ أي تقبل نذرها ـ مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية عنه أنه سوّى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام ، وقيل : تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات. و (نَباتاً) هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات ، وقيل : التقدير فنبتت نباتا ، والنبات والنبت بمعنى. وقد يعبر بهما عن النابت (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ـ أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ـ على ما ذكر في حديث ابن عباس ، وكل ذلك من آثار قدرته تعالى ، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك ، وقرأ بتشديد الفاء حمزة ، والكسائي ، وعاصم وقصروا (زَكَرِيَّا) غير عاصم في رواية ابن عياش ـ وهو مفعول به لكفلها ـ وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا (زَكَرِيَّا) ورفعوه على الفاعلية ـ وفيه لغتان أخريان ـ إحداهما «زكريّ» ـ بياء مشددة من غير ألف ، وثانيتهما «زكر» بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل : لألف التأنيث ، وقرأ أبي «وأكفلها» ، وقرأ مجاهد ـ «فتقبّلها ربّها» و «أنبتها» و «كفلها» على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب «ربها» على النداء أي فاقبلها يا ربها وربها ، واجعل زكريا كافلا لها ، وقد استجاب الله تعالى دعائها في جميع ذلك ، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها ، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) بيان لقبولها ولهذا لم يعطف ، والمحراب على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعل بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة ، وقيل : المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب ؛ وقيل : أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي ، وأصله مفعال صيغة مبالغة ـ كمطعان ـ فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه ، وقيل : إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح :

جمع الشجاعة والخشوع لربه

ما أحسن المحراب في المحراب

وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها ، ونصب (الْمِحْرابَ) على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي أو بإلى وإظهار الفاعل قيل : لفصل الجملة ، و (كُلَّما) ظرف على أن «ما» مصدرية ، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط ، ومن الناس من وهم فقال : إن ناصبه فعل الشرط ، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها ، أخرج ابن جرير عن الربيع قال : إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة ، فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط ، وقيل : إن هذا كان بعد أن ترعرعت ، ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في


المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه» (قالَ يا مَرْيَمُ) استئناف بياني (أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذا الرزق لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك ، ومجيء (أَنَّى) بمعنى من أين ، أو كيف تقدم الكلام عليه ، واستشهد للأول بقوله :

تمنى بوادي الرمث زينب ضلة

فكيف ومن «أنّى» بذي الرمث تطرق

وللثاني بقوله :

أنى ومن أين ـ أبك الطرب

من حيث لا صبوة ولا ريب

 وحذف حرف الجر من (أَنَّى) نحو حذف ـ في ـ من الظروف اللازمة للظرفية من نحو ـ مع ، وسحر ـ لأن الشيء إذا علم في موضع جاز حذفه ، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها ـ لأن اتصالها بمظروفها بتلك الحروف ـ فجاز حذفها كما جاز حذف ـ في ـ إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة ، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يكثر من غير المتصرفة حطا لرتبتها عن رتبة ـ في ـ كما في الكشف ، واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور ، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة ، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام ، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك ، ولعله مبني على الظاهر ، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لاظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه ، والقول ـ بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى (قالَتْ) استئناف كالذي قبله (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قيل : أرادت من الجنة ، وقيل : مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد ، وقيل : تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا ، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال :

تكلم في المهد النبي «محمد»

«ويحيى ، وعيسى ، والخليل ، ومريم»

ومبري «جريج» ثم «شاهد يوسف»

«وطفل لذي الأخدود» يرويه مسلم

«وطفل» عليه مر بالأمة التي

يقال لها تزني ولا تتكلم

وماشطة في عهد فرعون «طفلها»

وفي زمن الهادي «المبارك» يختم

أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) لأني سيد المحبين (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق ، وروح الروح بلذة العشق ، واستغراق الحواس في بحر الأنس ، وظهارة النفس بمياه القدس ، ورؤية الحبيب بعين الكل ، وغمض عين الكل عن الكونين ، وطيران السر في غيب الغيب ، وتخلق المحب بخلق المحبوب ـ وهذا أصل المحبة ـ وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفاء ، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات ، والمراقبات ، واستنشاق نفحات الصفات ، والتواضع والذل في الحركات والسكنات :

مساكين أهل العشق حتى قبورهم

عليها تراب الذل بين المقابر

وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم


لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب ، ولذا قالوا : لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه :

خليلي لو أحببتما لعلمتما

محل الهوى من مغرم القلب صبه

تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى

يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

غرام على يأس الهوى ورجائه

وشوق على بعد المراد وقربه

وقد يقال : المحبة ثلاثة أقسام ، القسم الأول محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون ، وفيه يقول أبو الطيب :

وما أنا بالباغي على الحب رشوة

ضعيف هوى يرجى عليه ثواب

(القسم الثاني) محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك ، وإلى هذا القسم أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» ،وقالت رابعة رحمها الله تعالى :

أحبك حبين حب الهوى

وحب لأنك أهل لذاكا

وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد (والقسم الثالث) محبة خواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن «كنت كنزا مخفيا» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة ، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى ، وفي مثل ذلك قيل :

يقولون إن الحب كالنار في الحشا

ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد

وما هو إلا جذوة مس عودها

ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد

يكفي في شرح الحب لفظه فإنه ـ حاء ، وباء ـ والحاء من حروف الحلق ، والباء شفوية ، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له : حب ، وشرح ذاك يطول ، وهذه محبة العبد لربه ، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا ، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) من عباده أن يرزقه (بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدم معناه ، والجملة تعليل لكونه من عند الله ، والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل النصب داخلة تحت القول ، وقال الطبري : إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه تعالى إخبارا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ، والأول أولى ، وقد أخرج أبو يعلى عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شيء أكله فإني جائع؟ فقالت : لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع إليها فقالت له : بأبي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال : هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآه حمد الله تعالى ، وقال : من أين لك هذا يا بنية؟ قالت : يا أبتي هو من عند الله إن


الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها».

هذا (ومن باب الاشارة في الآيات) (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهي عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور ، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يجب المرائين ولا المنافقين ، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار ـ والعياذ بالله تعالى ـ تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان ، ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شيء معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا ، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فلا تحذروا إلا إياه ، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) قال إبراهيم الخواص : وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) من الموالاة (أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) لأنه مع كل نفس وخطرة (وَيَعْلَمُ ما فِي) سماوات الأرواح وأرض الأجسام (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النفوس ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءا تود نفسه وتتمنى (لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) لتعذبها به (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) أي بسائرهم فلهذا حذرهم ، الرحمة فكأنه قيل لهم : اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته ، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم : اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال ، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم : اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه ، وهناك يرتفع البون من البين ، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير :

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة

ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما قال : «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث (وَاللهُ غَفُورٌ) يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم (رَحِيمٌ) يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من ذلك (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فإن المريد يلزمه متابعة المراد (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون و (اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى :


(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فأخص المراتب هو المحبة ، وإليه يشير قوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) ثم الخلة ، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له ، ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه ، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم ، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان : صورية ومعنوية ، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه ، ويمكن أن يقال : آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها ، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات ، وآله القوى الروحانية ، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن ، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به ، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) قال الواسطي : محفوظ عن إدراك الخلق (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) لطهارة سره ، وشبيه الشيء منجذب إليه (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) هو ما علمت ، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.

وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال رزقا أي علما ، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) وهو غلام القلب (مُحَرَّراً) ليس في رق شيء من المخلوقات (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة ، والجنس يلد الجنس (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب ، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) وهي العابدة (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) الاستعداد (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا) وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) الرزق العظيم قالت : هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الافكار (إِنَّ اللهَ) الجامع لصفات الجمال والجلال (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم (بِغَيْرِ حِسابٍ) فسبحانه من إله جواد كريم وهاب.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً


وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٧)

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له ، و (هنا) ظرف مكان ، و ـ اللام ـ للبعد ، و ـ الكاف ـ للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب ، وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى ؛ وجوز أن يراد بها الزمان مجازا فإن (هنا) و (ثم) و (حيث) كثيرا ما تستعار له وهي متعلقة ـ بدعا ـ وتقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير ، وقال الزجاج : إن (هنا) هنا مستعارة للجهة والحال ـ أي من تلك الحال دعا زكريا ـ كما تقول : من هاهنا قلت كذا ، ومن هنالك قلت كذا ـ أي من ذلك الوجه وتلك الجهة.

أخرج ابن بشر ، وابن عساكر عن الحسن قال : لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به جبريل قال لها : أنى لك هذا في غير حينه؟ قالت : هو رزق من عند الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع زكريا في الولد فقال : إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا فعند ذلك دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى ، وقيل : أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخا فانيا وكانت امرأته عاقرا لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من وجوه : الأول ما أشار إليه الأثر من حيث إن الولد بمنزلة الثمر والعقر بمنزلة غير أوانه ، والثاني أنه لما رأى تقبل أنثى مكان الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام الناتج ، والثالث أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير تنبه لذلك.

والرابع أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد امرأته في غير أوانه ، والخامس أنه لما سمع من مريم (اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تنبه لجواز أن تلد من غير استعداد ؛ ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش ، وعلى العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للإقبال على الدعاء بل كان جزءا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنه عليه‌السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم (قالَ) شرح للدعاء وبيان لكيفيته (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) الجاران متعلقان بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى ، و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا أي أعطني من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي مباركة كما قال السدي ، وقيل : صالحة تقية نقية العمل ، ويجوز أن يتعلق الجار الأخير بمحذوف وقع حالا من ذرية ، وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابله شيء وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنه ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال: أعطني ذرية من غير وسط معتاد ، والذرية في المشهور النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى.


والمراد هاهنا ولد واحد ؛ قال الفراء : وأنث ـ الطيبة ـ لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة يجيئان على اللفظ وأخرى على المعنى وهذا في أسماء الأجناس كما في قوله :

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

بخلاف الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال : جاءت طلحة لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أراد كثير الإجابة لمن يدعوك من خلقك وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الاجابة ، وفي ذلك اقتداء بجده الأعلى إبراهيم عليه‌السلام إذ قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [إبراهيم : ٣٩] قيل : قد ذكر الله تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ ، إحداها هذه ، والثانية (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤] إلخ ، والثالثة (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) [الأنبياء : ٨٩] إلخ ، فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات كل مرة بصيغة ، ويدل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا ، ويصرح به ما نقل في بعض الآثار أن بينهما أربعين سنة ، وفيه منع ظاهر لجواز أن تكون الصيغ الثلاث حكاية لدعاء واحد مرة على سبيل الإيجاز ، وتارة على سبيل الإسهاب ، وأخرى على سبيل التوسط ، وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى إذ لم يكن لسانهم عربيا ؛ ولهذا ورد عن الحسن أنه عليه‌السلام حين دعا قال : يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء وثمار الشتاء في الصيف (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً) ولم يذكر في الدعاء ـ يا رب ـ قيل : ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) وفي قوله سبحانه : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) [الأنبياء : ٩٠] وظاهر قوله جل شأنه في مريم : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) [الحجر : ٥٣ ، مريم : ٧] اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه ، وأثر ـ إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة ـ لم نجد له أثرا في الصحاح ، نعم ربما يشعر بعض الأخبار الموقوفة أن بين الولادة والتبشير مدة كما سنشير إلى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى ، والمراد من الملائكة جبريل عليه‌السلام فإنه المنادى وحده ـ كما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود ـ وذكر عبد الرحمن بن أبي حماد أنه كان يقرأ فتناداه جبريل ، فالجمع هنا مجاز عن الواحد للتعظيم ، أو يكون هذا من إسناد فعل البعض للكل ، وقيل : الجمع فيه مثله في قولك : فلان يركب الخيل ويلبس الديباج ، واعترض بأن هذا إنما يصح إذا أريد واحد لا بعينه وهاهنا أريد المعين فلعل ما تقدم أولى بالإرادة ، وقيل : الجمع على حاله والمنادى كان جملة من الملائكة ، وقرأ حمزة. والكسائي فناديه بالإمالة والتذكير.

وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : ذكروا الملائكة ثم تلا (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) [النجم : ٢٧] وكان يقرؤها ـ فناداه الملائكة ـ ويذكر في جميع القرآن ، وأخرج الخطيب عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ كذلك (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية من مفعول النداء مقررة لما أشارت إليه الفاء على ما أشرنا إليه ، وقوله تعالى : (يُصَلِّي) حال من المستكن في (قائِمٌ) أو حال أخرى من المفعول على القول بجواز تعددها من غير عطف ولا بدلية ، أو خبر ثان للمبتدإ على رأي من يرى مثل ذلك ، وقيل : الجملة صفة ـ لقائم ـ والمراد بالصلاة ذات الأقوال والأفعال كما هو الظاهر ـ وعليه أكثر المفسرين.

وأخرج ابن المنذر عن ثابت قال : الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي) ، وقيل : المراد بها الدعاء والأول يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم (فِي الْمِحْرابِ) أي في المسجد ، أو في موقف الإمام منه ، أو في غرفة مريم ، والظرف متعلق ـ بيصلي ـ أو ـ قائم ـ على تقدير كون (يُصَلِّي) حالا من ضمير (قائِمٌ) لأن العامل فيه وفي الحال شيء واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبي


كما يلزم على التقادير الباقية كذا قالوا ، والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع فإن كلا من (قائِمٌ) و (يُصَلِّي) يصح أن يتسلط على (فِي الْمِحْرابِ) على أي وجه تقدم من وجوه الاعراب.

ثم اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة ـ وإلى ذلك ذهب علي كرم الله وجهه ، وإبراهيم رحمه‌الله فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة ـ وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول ، فعن أبي موسى الجهني قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى» وعن عبد الله بن أبي الجعد قال : «كان أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : «إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد» وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «اتقوا هذه المذابح»يعني المحاريب ، والروايات في ذلك كثيرة ، وللإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي بأن الله ، وبعد إسقاط حرف الجر المطرد في ـ أن وإن ـ يجوز في المنسبك اعتبار النصب واعتبار الجر ، والأول مذهب سيبويه ، والثاني مذهب الخليل ، وقرأ نافع وابن عامر بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول ، وهو مذهب البصريين ، أو على إجراء النداء مجرى القول لأنه نوع منه ـ وهو مذهب الكوفيين ـ وقرأ حمزة ، والكسائي «يبشرك» من الإبشار ، وقرأ «يبشرك» من الثلاثي.

أخرج ابن جرير عن معاذ الكوفي قال : من قرأ يبشر مثقلة فإنه من البشارة ، ومن قرأ يبشر مخففة بنصب الياء فإنه من السرور ـ ويحيى ـ اسم أعجمي على الصحيح ، وقيل : عربي منقول من الفعل والمانع له من الصرف على الأول العلمية والعجمة ، وعلى الثاني العلمية ووزن الفعل ، والقول ـ بأنه لا قاطع لمنع صرفه لاحتمال أن يكون مبنيا يجعل العلم جملة بأن يكون فيه ضمير كما في قوله : نبئت أخوالي بني يزيد ـ ليس بشيء لما في ذلك الاحتمال من التكلف المستغنى عنه ما يكاد يكون دليلا قطعيا للقطع ، والقائلون بعربيته منهم من وجه تسميته بذلك بأن الله تعالى أحيا به عقر أمه ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومنهم من وجه ذلك بأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، وروي عن قتادة ، وقيل : سمي (بِيَحْيى) لأنه علم الله سبحانه أن يستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، وقيل : لأنه يحيا بالعلم والحكمة اللتين يؤتاهما ، وقيل : لأنه الله يحيي به الناس بالهدى ، قال القرطبي : كان اسمه في الكتاب الأول حيا ، ورأيت في إنجيل متى أنه عليه‌السلام كان يدعى يوحنا المعمداني لما أنه كان يعمد الناس في زمانه على ما يحكيه كتب النصارى ، وجمع ـ يحيى ـ يحيون رفعا ، ويحيين جرا ونصبا ، وتثنيته كذلك يحييان ويحيين ، ويقال في النسب إليه : يحي بحذف الألف ، ويحيوي ـ بقلبها واوا ـ ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الأصلية ، وفي تصغيره ـ يحيي ـ بوزن فعيعل قال مولانا شيخ الإسلام : وينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارة من الله عزوجل على منهاج (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] الآية كما يلوح به مراجعته عليه‌السلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك ، والعدول عن إسناد التبشير بنون العظمة حسبما وقع في ـ سورة مريم ـ للجري على سنن الكبرياء ـ كما في قول الخلفاء : أمير المؤمنين يرسم لك كذا ـ وللإيذان بأن ما حكي هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه لا بالذات ـ كما هو المتبادر ـ وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل انتهى ، وكان الداعي إلى اعتبار ما هنا محكيا بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة مريم من عبارة الملك غير محكي من الله تعالى ، وأن الظاهر اتحاد الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لو لا ذلك ، والملوح غير موجب كما لا يخفى ـ ولا بد في الموضعين من تقدير مضاف كالولادة إذا التبشير لا يتعلق بالأعيان ، ويؤول في المعنى إلى ما


هناك أي ـ إن الله يبشرك بولادة علام اسمه يحيى (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) نصب على الحال المقدرة من يحيى: والمراد بالكلمة عيسى عليه‌السلام ـ وهو المروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ـ وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه‌السلام بذلك لأنه وجد بكلمة ـ كن ـ من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر ، و (مِنَ) لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة ـ أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه‌السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور.

أخرج أحمد عن مجاهد قال : «قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك». وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : «كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك» فلذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره ، وقيل : بثلاث سنين ، قيل : وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين ، واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه‌السلام زمن طفولية مريم قبل العشر أو الثلاثة عشرة ، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه‌السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا ، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادى الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه وفي الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه‌السلام دوام الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها ، وهذا قلما يوجد في الأطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحا على أن بين الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا ، نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما‌السلام وهو مما اتفق عليه المسلمون وغيرهم ، ففي إنجيل متى ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمّد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وحكي عن أبي عبيدة أن معنى (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) بكتاب منه ، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم ـ كلمة الحويدرة ـ للعينية المعروفة بالبلاغة (وَسَيِّداً) عطف على مصدقا ، وفسره ابن عباس بالكريم ، وقتادة بالحليم ، والضحاك بالحسن الخلق ، وسالم بالتقى ، وابن زيد بالشريف ، وابن المسيب بالفقيه العالم ، وأحمد بن عاصم بالراضي بقضاء الله تعالى ، والخليل بالمطاع الفائق أقرانه ، وأبو بكر الوراق بالمتوكل ، والترمذي بالعظيم الهمة ، والثوري بمن لا يحسد ، وأبو إسحاق بمن يفوق بالخير قومه ، وبعض أهل اللغة بالمالك الذي تجب طاعته ، إلى غير ذلك من الأقوال وكل ما فيها من الأوصاف مما يصلح ليحيى عليه‌السلام لأنها صفات كمال ، وأحق الناس بصفات الكمال النبيون إلا أن التحقيق أن أصل معنى السيد من يسود قومه ويكون له أتباع ثم أطلق على كل فائق في دين أو دنيا ، ويجوز أن يراد به هنا الفائق في الدين حيث إنه عليه‌السلام لم يهم بمعصية أصلا كما ورد ذلك من طرق عديدة.

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن أبي هريرة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا» وجوز أن يراد ما هو أصل معناه فإنه عليه‌السلام كان سيد قومه وله أتباع منهم. غاية الأمر أن تلك رئاسة شرعية والإتيان به إثر قوله تعالى : (مُصَدِّقاً) للإشارة إلى أنه نبي ـ كعيسى عليه‌السلام ـ وليس من أمته كما يفهمه ظاهرا قوله سبحانه : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ) منه.

(وَحَصُوراً) عطف على ما قبله ومعناه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ـ قاله ابن عباس في إحدى


الروايات عنه ـ وفي بعضها إنه العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل ، وروى الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ما معه عليه‌السلام كان كالأنملة ، وفي بعض الروايات كالقذاة ، وفي أخرى كالنواة. وفي بعض كهدبة الثوب ، قيل : والأصح الأول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء ، وبتسليم أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح ، والكلام مخرج مخرج المدح ، وما أخرجه الحفاظ على تقدير صحته يمكن أن يقال : إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليه‌السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك.

ومن هنا قيل : إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح استدلالا بحال يحيى عليه‌السلام ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة ، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء ، وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال ، والذي يضل الأعمى ، ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن زكريا» وفي رواية «لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا» ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة وقد كان حاله عليه‌السلام أيضا كذلك.

أخرج عبد الرزاق عن قتادة موقوفا. وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا أنه عليه‌السلام مرّ في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت (وَنَبِيًّا) عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ناشئا منهم أو معدودا في عدادهم ـ فمن ـ على الأول للابتداء ، وعلى الثاني للتبعيض قيل : ومعناه على الأول ذو نسب ، وعلى الثاني معصوم ، وعلى التقديرين لا يلغو ذكره بعد ـ نبيا ـ وقد يقال : المراد من الصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه‌السلام (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ولعله أولى مما قبل.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قال زكريا عليه‌السلام حينئذ؟ فقيل : (قالَ رَبِ) إلخ ، وخاطب عليه‌السلام ربه سبحانه ولم يخاطب الملك المنادى طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل ، و (أَنَّى) بمعنى كيف ، أو من أين ، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها (غُلامٌ) و (أَنَّى) واللام تعلقان بها ، ويجوز أن تكون ناقصة ، و (لِي) متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة ، وفي الخبر حينئذ وجهان : أحدهما (أَنَّى) لأنها بمعنى كيف ، أو من أين ، والثاني أن الخبر الجار ، و (أَنَّى) منصوب على الظرفية ، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧](وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر فيّ ، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب.

روي عن ابن عباس أنه كان له عليه‌السلام ـ حين بشر بالولد ـ مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، وقيل : كان له من العمر تسع وتسعون سنة ، وقيل : اثنتان وتسعون ، وقيل خمس وثمانون ، وقيل: خمس وسبعون ، وقيل سبعون ، وقيل : ستون (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) جملة حالية أيضا إما من ياء (لِي) أو ياء (بَلَغَنِيَ) و ـ العاقر ـ العقيم التي لا تلد من العقر ـ وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد ، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ـ قاله أبو البقاء ـ وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما (وكانت) الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها ، وإنما قال ذلك عليه‌السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه‌السلام الشواهد


السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال ـ قاله الحسن ـ وقيل : اشتبه عليه الأمر أيعطى الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال ، وقيل : قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للانسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره : كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟! تعجب من جوده ، وقيل : إن الملائكة لما بشرته (بِيَحْيى) لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني ؛ أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال ، وقيل : إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد ووعده السيد بإعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه‌السلام هذا من هذا الباب ، وقيل : قال ذلك استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان شيخا بناء على ما قيل : إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة أو ستين سنة ـ كما حكي عن سفيان بن عيينة ـ وكان قد نسي دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد ، وأبعد منها ما نقل عن السدي ـ أن زكريا عليه‌السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال : إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر عليه فقال : رب أنى يكون لي ولد ـ وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان ، ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال : «أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه فقال : هل تدري من ناداك؟ قال : نعم ناداني ملائكة ربي قال : بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك قال : رب أنى يكون لي ـ إلخ ، واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم‌السلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ، وأجيب بأنه يمكن أن يقال : إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه ، وأما فيما يتعلق بمصالح الدنيا ـ والولد أشبه شيء بها ـ فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز ، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال ، وأنت تعلم أن الاعتراض ـ ذكر ـ والجواب ـ أنثى ـ ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] الآية.

وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه‌السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر عن قتادة أنه قال : إن الملائكة شافهته عليه‌السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى (قالَ) أي الرب ، والجملة استئناف على طرز ما مر (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هم خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة ، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، والإشارة لذلك المصدر ، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره ، ويحتمل الكلام أوجها أخر : الأول أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك ، الثاني أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم ، و (اللهُ) مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى ، وتكون جملة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانا لذلك الشأن المبهم ، الثالث أن يكون (كَذلِكَ) في موضع الخبر لمبتدإ محذوف أي الأمر (كَذلِكَ) وتكون جملة (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانا أيضا ، الرابع أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه‌السلام كأنه قال : رب على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له : كما أنت


يكون الغلام لك ، وتكون الجملة حينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا ، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد ، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة تدلني على العلوق ، وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن ، وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا معتادا ، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه‌السلام ، وقول السدي : إنه سأل الآية ـ ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ـ ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفا ، والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما (آيَةً) ، وثانيهما (لِي) والتقديملأنه المسوغ لكون (آيَةً) مبتدأ عند الانحلال ، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو (آيَةً) و (لِي) حينئذ في محل نصب على الحال من (آيَةً) لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها ، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها ـ كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة ـ ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام ، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح ، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري ، وقال أبو مسلم بأنه اختياري ، والمعنى ـ آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح ـ ولا يخفى بعده هنا ، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا ـ وإلى ذلك ذهب عطاء ـ وهو خلاف الظاهر ، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف ، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي متوالية ، وقال بعضهم والمراد ثلاثة أيام ولياليها ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة مريم : (ثَلاثَ لَيالٍ) [مريم : ١٠] والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) منها وأخرى على (ثلاث ليال) وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر ، قيل : وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه ، واعترض بأن ـ آية الليالي ـ متقدمة نزولا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها ـ آية الأيام ـ مدنية ، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر.

فالبحث محتاج إلى تحرير بعد ، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء حق النعمة كأنه قيل له : آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها ، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام : لم تقول ما لا نفهم؟ فقال : لم لا تفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه‌السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر ، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى.

وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه‌السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب ـ حسنات الأبرار سيئات المقربين ـ ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول ، ومذهب قتادة ـ لا آمن على الأقدام الضعيفة ـ قتادة (إِلَّا رَمْزاً) أي إيماء وأصله التحرك يقال : ارتمز أي تحرك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال : الإشارة باليد والوحي بالرأس فقال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول الشاعر :

ما في السماء من الرحمن «مرتمز»

إلا إليه وما في الأرض من وزر


وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين ، وقيل : الكتابة على الأرض ، وقيل : الإشارة بالمسبحة ، وقيل : الصوت الخفي ، وقيل : كل ما أوجب اضطرابا في الفهم كان رمزا وهو استثناء منقطع بناء على أن الرمز الإشارة والإفهام من دون كلام ـ وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه ـ وجوز أن يكون متصلا بناء على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذاك القبيل ، ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلا إذ ما من استثناء إلا ويمكن تأويله بمثل ذلك مما يجعله متصلا ولا قائل به ، وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطلقا وادعى أن (رَمْزاً) مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض ، والأصل أن لا تكلم الناس إلا برمز ، فالعامل الذي قبل (أَلَّا) مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت (أَلَّا) وحرف النفي استقام الكلام تقول في نحو ـ ما لقيت إلا زيدا ـ لقيت زيدا ، وفي ـ ما خرج إلا زيد ـ خرج زيد ، وكذا لو قلت ـ آيتك أن تكلم الناس رمزا ـ استقام. وليس كذلك الاستثناء ، فلو قلت : ليس القوم في الدار إلا زيدا أو إلا زيد ـ ثم حذفت النفي وإلا ـ فقلت : القوم في الدار زيدا ، أو زيد لم يستقم ، فكذا المنقطع نحو ـ ما خرج القوم إلا حمارا ـ لو قلت : خرج القوم حمارا لم يستقم قاله السفاقسي ، وقرأ يحيى بن وثاب «إلا رمزا» بضمتين جمع رموز كرسول ورسل. وقرئ «ورمزا» بفتحتين جمع رامز ـ كخادم وخدم ـ وهو من نادر الجمع وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين. ومثله قول عنترة :

متى ما تلقني «فردين» ترجف

روانف أليتيك وتستطارا

وجوز أبو البقاء أن يكون (رَمْزاً) على قراءة الضم مصدرا ، وجعله مسكن الميم في الأصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر ، وعليه لا يختلف إعرابه فافهم (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي في أيام الحبسة شكرا لتلك النعمة كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية ، وقيل : يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرا للنعمة مطلقا لا في خصوص تلك الأيام ، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه ، والمنساق إلى الذهن هو الأول ، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها ، واستشكل العطف من وجهين : الأول عطف الإنشاء على الإخبار ، والثاني عطف المؤكد على المؤكد ، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر ، وقيل : لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر عطفا على لا تكلم فيكون في تقدير (أَلَّا تُكَلِّمَ) وتذكر ربك ، ولا يخفى ما فيه (كَثِيراً) صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي ذكرا كثيرا وزمانا كثيرا (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ) وهو من الزوال إلى الغروب ـ قاله مجاهد ـ وقيل : من العصر إلى ذهاب صدر الليل (وَالْإِبْكارِ) أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى ، وإنما قدر المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت فلا تحسن المقابلة كذا قيل : وهو مبني على أن (بِالْعَشِيِ) ـ جمع عشية ـ الوقت المخصوص ، وإليه ذهب أبو البقاء ، والذي ذهب إليه المعظم أنه مصدر أيضا على فعيل لا جمع.

وإليه يشير كلام الجوهري فافهم ؛ وقرئ (وَالْإِبْكارِ) بفتح الهمزة فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظا ومعنى ـ وهو نادر الاستعمال ـ قيل : والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] وقبل : الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي ، وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر التسبيح مع الذكر ، و ـ أل ـ في الوقتين للعموم. وأبعد من جعلها للعهد أي عشي تلك الأيام الثلاثة وأبكارها ، والجار والمجرور متعلق بما عنده ، وليس من باب التنازع في المشهور ، وجوزه بعضهم فيكون الأمر بالذكر مقيدا بهذين الوقتين أيضا ، وزعم بعضهم أن تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار ، وفيه بعد تسليم أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار.


وهذا «ومن باب البطون» في الآيات أن زكريا عليه‌السلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفردة عن إراداتها مقدسة من شهواتها (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ) على ساق الخدمة (يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) وهو محل المراقبة ومحاربة النفس (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة ، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة (وَسَيِّداً) وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق ، وقال الصادق : هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا ؛ وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه ، وقال ابن عطاء : هو المتحقق بحقيقة الحق ، وقال ابن منصور : هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلي بنعوت الربوبية ، وقال محمد بن علي : هو من استوت أحواله عند المنع والإعطاء والرد والقبول (وَحَصُوراً) وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية ، وقال الاسكندراني : هو المنزه عن الأكوان وما فيها (وَنَبِيًّا) أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودا (مِنَ الصَّالِحِينَ) وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) والحال (قَدْ (١) بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وهو أحد الموانع العادية (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) وهو مانع آخر (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) حسبما تقتضيه الحكمة (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الإلهية (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به (إِلَّا رَمْزاً) تدفع به ضيق القلب عند الحاجة ، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات (وَسَبِّحْ) أي نزه ربك عن الشركة في الوجود (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) بالفناء والبقاء.

وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا) الاستعداد (رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ممن صدق في الطلب (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) القوى الروحانية (وَهُوَ قائِمٌ) منتهض لتكميل النشأة (يُصَلِّي) ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق (وَسَيِّداً) لم تملكه الشهوات النفسانية (وَحَصُوراً) أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية (وَنَبِيًّا) بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا (مِنَ الصَّالِحِينَ) لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء (قالَ) رب (أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وضعف القوى الطبيعية (وَامْرَأَتِي) وهي النفس الحيوانية (عاقِرٌ) عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية (قالَ كَذلِكَ اللهُ) في غرابة الشأن (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات ، وبقي أسيرا في سجن العادات (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات (إِلَّا رَمْزاً) أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية (كَثِيراً) حيث منّ عليك بخير كثير (وَسَبِّحْ) أي نزه


ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي وقتي الصحو والمحو.

وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) العقل مصدقا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الإجرام (وَسَيِّداً) لجميع أصناف القوى (وَحَصُوراً) عن مباشرة الطبيعة (وَنَبِيًّا) بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظما في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) ذلك (وَقَدْ بَلَغَنِيَ) كبر منتهى الطور (وَامْرَأَتِي) وهي طبيعة الروح النفسانية (عاقِرٌ) بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له : علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين (أَلَّا) بالإشارة الخفية ، وأمر بالذكر في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سنن التمييز أربعون سنة انتهى ـ وهو قريب مما ذكرته ـ ولعل ما ذكرته على ضعفي أولى منه ، وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران ، ووقعت قصة زكريا. ويحيى عليهما‌السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء ، (وَإِذْ) في المشهور منصوب بذكر ، والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت ، والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه‌السلام والكلام هنا كالكلام فيما تقدم ، وجوز أبو البقاء كون الظرف معطوفا على الظرف السابق وناصبه ناصبه والأول أولى ، والمراد اذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم‌السلام (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية ، والتأكيد اعتناء بشأن الخبر وقول الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر ، وفي بعض الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق أنه قال : كانت مريم حبيسا في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا فكانا في الكنيسة جميعا وكانت مريم إذا نفذ ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه‌السلام قال : إن لابنة عمران لشأنا. وقيل : إن الملائكة عليهم‌السلام ألهموها ذلك ، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا على أنه قول لا يعضده خبر أصلا ، وعلى القول الأول يكون التكليم من باب الكرامة التي يمنّ بها الله سبحانه على خواص عباده ، ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه‌السلام أو معجزة لزكريا عليه‌السلام ، وأورد على الأول أن الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كاظلال الغمام لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتكلم الحجر معه ، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه ، ويمكن أن يدفع بالعناية ؛ وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه‌السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له ، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها ، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روي


أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخيه فيه ولم يقل أحد بنبوته ، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب.

ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) [الأنبياء : ٧] ولا يخفى ما فيه ، أما أولا فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة ـ كحواء ، وآسية ، وأم موسى ، وسارة ، وهاجر ، ومريم ـ موجود خصوصا مريم فإن القول بنبوتها شهير ، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات ، وابن السيد إلى ترجيحه ، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك.

وأما ثانيا فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فافهم (وَطَهَّرَكِ) أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد ـ قاله الزجاج ـ وروي عن الحسن ، وابن جبير أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية ، وقيل : نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة ، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية.

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه‌السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء ، وجعلها وإياه آية للعالمين ، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن ، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه‌السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير وله نظائر قد مر بعضها ، وعلى الثاني لإشكال في الترتيب ، وتكون حكمة تقدم هذه المقاولة ـ على البشارة ـ الإشارة إلى كونها عليها‌السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الأمر ، ولعل الأول أولى ـ كما قال الإمام ـ لما أن التأسيس خير من التأكيد «والمراد من نساء العالمين» قيل : جميع النساء في سائر الأعصار ، واستدل به على أفضليتها على فاطمة ، وخديجة ، وعائشة رضي الله تعالى عنهن ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال : «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم : سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ، ثم فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية امرأة فرعون» وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول ، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا» وبما أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم أنها قالت : «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول».

وقيل : المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «أربع نسوة سادات عالمهن : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفضلهن عالما فاطمة» وما رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء عالمها» وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت ـ والذي أميل إليه ـ أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا ، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها غليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات ـ وبه يجمع بين الآثار ـ وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء* وأين الثريا يد


المتناول* ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء» وقوله عليه الصلاة والسلام : «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام» وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي كرم الله تعالى وجهه ، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه.

وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء ، وأما أولا فلأن قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين ، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام ، ولعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك ، ولو علم لربما قال : خذوا كل دينكم عن الزهراء ، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام : «إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض» يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة ـ كما لا يخفى ـ كيف لا وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟!

وأما ثانيا فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها ، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال : «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين» بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد : إن ـ أل ـ في النساء فيه للعهد ؛ والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الاخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث.

وأما ثالثا فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به.

وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة. ثم أمها ، ثم عائشة. بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا ، وعندي بين مريم. وفاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة ، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه ، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال : الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل. ثم أمها. ثم عائشة ـ ووافقه في ذلك البلقيني ـ وقد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا أفضل من عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت : قد رزقك الله تعالى خيرا منها ، فقال لها : لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس. وأيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من جبريل ، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها ، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها ـ وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الاستروشني منا ـ وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم.

وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد ، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) الظاهر أنه من مقول الملائكة أيضا


وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة ، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له.

والقنوت إطالة القيام في الصلاة ـ قاله مجاهد ـ أو إدامة الطاعة ـ قاله قتادة ـ وإليه ذهب الراغب ، أو الإخلاص في العبادة ـ قاله سعيد بن جبير ـ أو أصل القيام في الصلاة ـ قاله بعضهم ـ والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلة وجوب امتثال الأوامر (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلا تقريرا ليس في الإجمال ، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في صلاتهم ، وقيل : لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ، وفي الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن (ارْكَعِي) ـ بالراكعين ـ للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين ، وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة ، أما أولا فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام الشافعي ، وأما الثاني فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة ، وأما الثالث فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين؟ وكأن وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع ، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) واعترضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع ، وقيل : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَاسْجُدِي) يحصل ذلك المقصود ، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك ، وقيل : المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [ق : ٤٠] والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة ، والاحتمال الأول هو الظاهر ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الأوزاعي قال : «كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها» وما أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال : «كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها» والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) الإرشاد إلى صلاة الجماعة ، وإليه ذهب الجبائي ، وذكر بعض المحققين أن نكتة التعبير بذلك في هذا المقام دون ـ واسجدي مع الساجدين ـ الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك ركعة من الصلاة ، وعورض بأنه لو قيل : ـ واسجدي مع الساجدين ـ لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك الجماعة ، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام ، واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع ، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند المنصفين ، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب الكشاف ، وزعم بعضهم أن (مَعَ) مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع ـ أي افعلي كفعل (الرَّاكِعِينَ) وإن لم توقعي الصلاة معهم ـ قال : لأنها كانت تصلي في محرابها ، وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة ، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل من غير داع ، وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا يدل على المدعى ، ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعى أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب ، وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا ، على أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة ، وقلنا : بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا ، وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصموا في ضمها وإمساكها ، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب ،


ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة ، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل وإن قلنا : إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الإشكال ، وجاء (مَعَ الرَّاكِعِينَ) دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة رءوس الآي ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا : إنها مأمورة بصلاة الجماعة.

وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها‌السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاء بالتقييد من أول وهلة ، وقال شيخ الإسلام : إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك ، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها ، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت ، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ واركعي واسجدي في الساجدين (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وقوله تعالى : (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) جملة مستقلة مبينة للأولى ، و ـ الإيحاء ـ إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء ، وبمعنى الإلهام ، والضمير في (نُوحِيهِ) عائد إلى ذلك في المشهور ، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى ، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها ، (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) إما متعلق ـ بنوحيه ـ أو حال من مفعوله أي (نُوحِيهِ) حال كونه بعض (أَنْباءِ الْغَيْبِ) وجعله حالا من المبتدأ رأى البعض ، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير الأمر (ذلِكَ) فيكون (ذلِكَ) خبرا لمبتدإ محذوف والجار والمجرور حال منه ، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل.

وصيغة الاستقبال عند قوم للايذان بأن الوحي لم ينقطع بعد (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى ، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الإخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل : إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب ، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء ، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه‌السلام أيضا لما أن «تلك» هي المقصودة بالأخبار أولا ، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة ، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها ، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها‌السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، ومع هذا هو أولى مما قيل : إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه‌السلام ، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية ، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع ، و ـ الأقلام ـ جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة واختاروها تبركا بها ، وقيل : هي السهام من النشاب وهي القداح ، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع ، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي ـ وفي عدة الأقلام خلاف ـ وعن الباقر أنها كانت ستة ، والظرف معمول للاستقرار العامل في (لَدَيْهِمْ) وجعله ظرفا لكان ـ كما قال أبو البقاء ـ ليس بشيء


(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) من تتمة الكلام الأول ، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى ، ولما لم يصلح (يُلْقُونَ) للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجلّ له ثلاثة أوجه :

«أحدها» أن يقدر ينظرون (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية ـ كما صرح به ابن الحاجب. وابن مالك في التسهيل ـ وثانيها أن يقدر ليعلموا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) وعلى الأول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له ، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد ، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام ، وثالثها أن يقدر يقولون ، أو ليقولوا (أَيُّهُمْ) واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع (أَيُّهُمْ) وأجيب بأنه مفيد ، وينساق المعنى إليه بناء على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين ، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له ، وأجيب بتأويله كما أول في سابقة ، وقيل : يؤول بالحكم أي ليقولوا وليحكموا (أَيُّهُمْ) إلخ ، والسكاكي يقدر هاهنا ينظرون لعلموا ، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر ، أو العلم يغني عن الآخر ، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل (أَيُّهُمْ) بدلا عن ضمير الجمع ـ أي يلقى كل من يقصد الكفالة ـ وتتأتى منه ، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي ، وقبله في آخر ، وتكرير (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) مع تحقق المقصود بعطف (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على (إِذْ يُلْقُونَ) للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء ، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك ـ قاله شيخ الإسلام.

واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاحّ على قولين : أحدهما وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل ، وثانيهما أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه‌السلام عن تربيتها ، وهو قول مرجوح ، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر ، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق ، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عزوجل إلا خرج سهم المحق ، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه ، أليس الله تعالى يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١] وقال الباقر رضي الله تعالى عنه : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) شروع في قصة عيسى عليه‌السلام ، والمراد بالملائكة جبريل عليه‌السلام على المشهور ، والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة ، و (إِذْ) المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل ، وقيل : بدل اشتمال ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا : وترك العطف بناء على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان ، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا ، وأن يكون ظرفا ـ ليختصمون ـ وقيل : إنه بدل من (إِذْ) المضافة إليه ، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة ـ فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط ـ غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام ، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال : إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها ، قيل : ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناء


على ما روي عن الحسن أنها عليها‌السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك ، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.

(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) كلمة ـ من ـ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة ـ لكلمة ـ وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهروا وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا : محض الجود ـ وعلى ذلك أكثر المفسرين ـ وأيدوا ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ، وقيل : أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة ، ففي التوراة ـ في الفصل العشرين من السفر الخامس ـ أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران ـ وسينا ـ جبل التجلي لموسى ـ وساعير ـ جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه ـ وفاران ـ جبل مكة ، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به : قد جاء كلامي ، وقيل : لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته.

ومن الناس من زعم أن ـ الكلمة ـ بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء : ١٧١] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك ، وفي (يُبَشِّرُكِ) هنا من القراءات مثل ما فيها فيما تقدم (اسْمُهُ) الضمير راجع إلى ـ الكلمة ـ وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره (الْمَسِيحُ) وقوله تعالى : (عِيسَى) يحتمل أن يكون بدلا ، أو عطف بيان ، أو توكيدا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري ، أو خبرا آخر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوبا بإضمار أعني مدحا ، وحذف المبتدأ والفعل قيل : على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب ، وقوله تعالى: (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أورد عليه بأن الاسم في الحقيقة (عِيسَى) و (الْمَسِيحُ) لقب ؛ و (ابْنُ) صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق ، وإن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب ، وقيل : المراد بالاسم معناه اللغوي ـ وهو السمة والعلامة المميزة ـ لا العلم.

ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة خبرا إذ التمييز بذلك أشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا ـ كما في الانتصاف ـ خلاص من إشكال يوردونه فيقولون : (الْمَسِيحُ) في الآية إن أريد به التسمية ـ وهو الظاهر ـ فما موقع (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والتسمية لا توصف بالنبوة؟! وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه : (اسْمُهُ) ووجه الخلاص ظاهر ، ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى : (اسْمُهُ) والمراد التسمية ، وأما (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو ، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن (الْمَسِيحُ) والمشهور أن (الْمَسِيحُ) لقبه عليه‌السلام وهو له من الألقاب المشرفة كالفاروق ، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك ، وعن إبراهيم النخعي الصديق ، وعن ابن عمرو بن العلاء الملك ، و (عِيسَى) معرب أيشوع ، ومعناه السيد ، وعن كثير من السلف أن (الْمَسِيحُ) مشتق من المسح ، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه


السلام فقيل : لأنه مسح بالبركة واليمن ، وروي ذلك عن الحسن ، وابن جبير ، وقيل : لأنه كان يمسح عين الأكمه فيبصر ، وروي ذلك عن الكلبي ، وقيل : لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برىء ، ورواه عطاء. والضحاك عن ابن عباس ، وقال الجبائي : لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء تتمسح به ، وقيل : لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان الرجيم ، وقيل : لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم عليه‌السلام فاستخرج من ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح «وقيل : وقيل :» وهذه الأقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري ، وكثير من المحققين على الثاني ، واختاره أبو عبيدة ، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة في الأسماء الأعجمية ، وفي الكشف أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف لهعليه‌السلام ـ كالخليل ـ لإبراهيم ، وجعله معربا ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر.

ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن ـ التوراة ، والإنجيل ، والإسكندر ـ لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية ، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيا ، نعم قيل في عيسى : إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه‌السلام لأنه كان في لونه عيسى أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر «كأنما خرج من ديماس» إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له ، وأن القائل به كالراقم على الماء.

وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعا وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة وفرق النخعي بين لقب روح الله. وعدوه بأن الأول يفتح الميم والتخفيف. والثاني بكسر الميم وتشديد السين ـ كشرير ـ وأنكره غيره ـ وهو المعروف ـ ثم القائلون باللقبية في الآية وكون عيسى بدلا مثلا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاء أما إذا كان أشهر كما هنا فإنه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الأنباري ولا يختص بغير الفصيح كما فيما إذا لم يكن كذلك.

والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الأول للثاني ، وفي المفصل تعينها ، وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك ، ومن جوز التبعية استدل بقولهم : هذا يحيى ـ عينان ـ إذ لو أضيف لقيل عينين ، وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم الاستدلال ، وكذا لو كانت بالفتح لأنه يمكن حينئذ أن يكون اللقب مجرورا بالإضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناء على القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كما لا ينصرف لكن أنت تعلم أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي. وأما أنه يثبت الاطراد فلا ، ولعل المانع إنما يمنع ذلك ، ويدعي أن المطرد هو الإضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز فيما إذا قارنت ـ أل ـ الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال : الحرث ـ كرز ـ بالإضافة ، وكذا إذ كان اللقب وصفا في الأصل نحو إبراهيم الخليل ـ على ما نص عليه ابن الحاجب في شرح المفصل ـ لأن الموصوف لا يضاف إلى صفته في المشهور.

ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل ، وهو مبني على مذهب من يقول : إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضا وتمام البحث في كتبنا النحوية فليفهم ، وإنما قيل : (ابْنُ مَرْيَمَ) مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب إليه ، وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضا ، وقيل : إن في ذلك ردا للنصارى ، وأبعد من ادعى أن هذه الإضافة لمدح عيسى عليه‌السلام لأن الكلام حينئذ في قوة ابن عبادة ، هذا واعلم أن لفظ (ابْنُ) في الآية يكتب بغير همزة بناء على وقوعه صفة بين


علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم ـ كزيد ابن السلطان ـ أو تقدمه غير علم ، وأضيف إلى علم ـ كالسلطان ابن زيد ـ أو وقع بين ما ليسا علمين ـ كزيد العاقل ابن الأمير عمرو ـ كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور ، والكتاب كثيرا ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع ، وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة. وغيره.

ومن هنا قيل : إن الرسم يرجح التبعية ، نعم في كون ذلك مطردا فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف ، والذي أختاره الحذف أيضا إذا كان ذلك مشهورا (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الوجيه ذو الجاه. والشرف. والقدر. وقيل : الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد ، ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته ، وقيل : وجاهته في الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وقيل : بسبب أنه كان مبرءا من العيوب التي افتراها اليهود عليه ، وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة بمعنى الهيئة والبزة ليقال : كيف كان ـ وجيها ـ في الدنيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك المعاملة فيه كما لا تقدح على التقادير الأول كما لا يخفى على المتأمل ، ونصب (وَجِيهاً) على أنه حال مقدرة من كلمة وسوغ مجيء الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار المعنى ـ كما أشير إليه ـ وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت بعد البشارة.

ومن الناس من جعل الحال من (عِيسَى) وقال أبو البقاء : لا يجوز ذلك وكذا لا يجوز جعله حالا من (الْمَسِيحُ) أو من (ابْنُ مَرْيَمَ) لأنها أخبار ، والعامل فيها الابتداء ، أو المبتدأ أو هما وليس شيء من ذلك يعمل في الحال ، وكذا لا يجوز أيضا أن يكون حالا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في الحال ، والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة ، وقيل : هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة ، وقيل : من المقربين من الناس بالقبول ، والإجابة وهو معطوف على (وَجِيهاً) أي ومقربا من جملة المقربين (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) عطف على الحال الأولى أيضا وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع ـ وهو في القرآن كثير ـ والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفا لغوا متعلقا به مع صحته لعطف (وَكَهْلاً) عليه ، والمراد يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا ، والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة ، وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه‌السلام وليس فيه غرابة ، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال ، وقيل : إن كلا منهما حال ، والثاني تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره ، و (الْمَهْدِ) مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه (فِي الْمَهْدِ) ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أو إن الكلام قاله ابن عباس ، وقيل : كان يتكلم دائما وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب إليه ابن الأخشيد وعليه يكون قوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم : ٣٠] إخبارا عما يؤول إليه ، وقال الجبائي : إنه سبحانه أكمل عقله عليه‌السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة ، وجوز أيضا أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها ، والقول : بأنه معجزة لها بعيد ـ وإن قلنا بنبوتها ـ وزعمت النصارى أنه عليه‌السلام لم يتكلم (فِي الْمَهْدِ) ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار ـ وهذا من أكبر فضائحهم الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهية له عليه‌السلام ـ وكذا تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن الألوهية ، واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب


الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى أولى الناس بمعرفته ، وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ التواتر ، ولما نقلوا كذبوا فسكتوا ، وبقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن به ، وهذا قريب على قول ابن عباس : إنه لم يتكلم إلا ساعة من نهار ـ وعلى القول الآخر ـ وهو أنه بقي يتكلم يقال : إن الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار عن الغيوب ، والخلق من الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال الأمر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوما إلى أن أظهره القرآن.

وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه في المهد ، وظاهر الأخبار ، وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم قائل بذلك ، وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد إخبار الصادق لا يسمن ولا يغني من جوع عند من رسخ إيمانه. وقوى إيقانه ، وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق بخلافها والحق أحق بالاتباع ، ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور الله بأفواههم (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢] والكهل ما بين الشاب والشيخ ، ومنه اكتهل النبت إذا طال وقوى ، وقد ذكر غير واحد أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين ، فإذا ولد فهو وليد ؛ ثم ما دام يرضع فهو رضيع ، ثم إذا قطع اللبن فهو فطيم ، ثم إذا دب ونما فهو دارج ، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور ، فإذا نبتت أسنانه فهو ـ مثغر بالتاء والثاء ـ كما قال أبو عمرو ـ فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ ، فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق ، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور ، واسمه في جميع هذه الأحوال غلام فإذا اخضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل : قد بقل وجهه ، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب ، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين.

ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب ، ثم يقال شاب ، ثم شمط ، ثم شاخ ، ثم كبر ، ثم هرم ، ثم دلف ، ثم خرف ، ثم اهتر ، ومحا ظله ـ إذا مات ـ وهذا الترتيب إنما هو في الذكور ـ وأما في الإناث فيقال للأنثى ما دامت صغيرة : طفلة ، ثم وليدة إذا تحركت ، ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد ، ثم معصر إذا أدركت ، ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الاعصار ، ثم خود إذا توسطت الشباب ، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين ، ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز ، ثم شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر ـ وفيها بقية وجلد ـ ثم شهربة إذا عجزت ـ وفيها تماسك ـ ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل ، ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدّها وسقطت أسنانها.

وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه‌السلام كهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السن بناء على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، وغيرهما «أنه عليه‌السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيا فيها أربعا وعشرين سنة» كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومعدودا في عدادهم وهو معطوف على الأحوال السابقة (قالَتْ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك؟ فقيل : قالت (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) يحتمل أن يكون الاستفهام مجازيا والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي ، ويحتمل أن يكون حقيقيا على معنى أنه يكون بتزوج أو غيره ، وقيل : يحتمل أن يكون استفهاما عن أنه من أي شخص يكون ، وإعراب هذه الجملة على نحو إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه‌السلام (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) جملة حالية محققة لما مر ومقوية له ، والمسيس هنا كناية عن الوطء وهذا نفي عام للتزوج وغيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ،


والتنكير للعموم ، والمراد عموم النفي لا نفي العموم ، وسمي بشرا لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر أباه وخلقه بيديه (قالَ) استئناف كسابقه ، والفاعل ضمير الرب ، والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

إما بلا تغيير فيكون فيه التفات ، وإما بتغيير ، وقيل : إن الله تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك ، والأول مبني على أنه تعالى لم يكلم غير الأنبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : القائل جبريل عليه‌السلام وليس على سبيل الحكاية والقرينة عليه ذكر الملائكة عليهم‌السلام قبله ، وحمل (رَبِ) فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد ، وقد مر عليك الكلام في مثل هذه الجملة خلا أن التعبير هنا ـ بيخلق ـ وهناك ـ بيفعل ـ لاختلاف القصتين في الغرابة فإن الثانية أغرب فالخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه : (إِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا ـ فالأمر ـ واحد الأمور ، والقضاء في الأصل الأحكام ، وأطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لا لإيجابها ما تعقلت به البتة ويطلق على الأمر ، ومنه (وَقَضى رَبُّكَ) [الإسراء : ٢٣](فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي فهو ـ يكون : أي يحدث وهذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة ، والممثل به أمر الآمر المطاع لمأمور به مطيع على الفور ، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه.

وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه ، وعلى كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا يعجزه أن يخلق ولدا بلا أب لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة كيف لا وكثيرا ما نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر. والحيات عن الشعر المتعفن. والعقارب عن البادروج. والذباب عن الباقلاء إلى غير ذلك غايته الاستبعاد. وهو لا يوجب ظنا فضلا عن علم ، وبعد إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته ، والقول : بأن المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الإمكان دون ما نحن فيه لأن مادة الآدمي منيان وليس هناك إلا مني واحد أو لا مني أصلا فكيف يمكن الخلق ـ ليس بشيء أما على مذهبنا فلان الإيجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر ، وأما على مذهب المنكرين فيجوز أن يكون مني الأنثى بنفسه أو بما ينضم إليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة ، وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعا في أمثال هذه المقامات ، ويجوز أيضا أن يقيم الله تعالى غير المني مقام المني ، وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام المني في أصل النوع ودعوى أن الإقامة مشروطة يكون ذلك الغير خارج الرحم ، وأما الإقامة في الرحم فمما لا إمكان لها غير بينة ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الأمرين في الإمكان وإنما يفرق بينهما في موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه.

ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلافه لو كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات ـ فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد انتهى ـ وليس بشيء لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول. وإنها لتنزه ساحتها عن


مثل هذا التخيل كما لا يخفى ، وفي جواب هذه الظاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه ، فقد أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن وهب أنه قال : لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا ، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف ، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها : هل يكون زرع من غير بذر؟! قالت : نعم قال : وكيف يكون ذلك قال : إن الله تعالى خلق البذر أول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر ، ولعلك تقول : لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر؟ ولعلك تقول : لو لا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته؟ قال يوسف أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم ، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت : ألم تعلم أن للبذر. والماء. والمطر. والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول لو لا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت : بشرني الله تعالى (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إلى قوله تعالى : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من المحراب فخرجت.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) عطف على (يُبَشِّرُكِ) أي إن الله (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة (الْكِتابَ) ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله ، أو على ـ يخلق ـ أي كذلك الله يخلق ما يشاء (وَيُعَلِّمُهُ) أو على ـ يكلم فتكون في محل نصب على الحال والتقدير ـ يبشرك بكلمة مكلما الناس ومعلما الكتاب ـ أو على (وَجِيهاً) وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم‌السلام ، و ـ الواو ـ تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة ـ كما قال الشهاب ـ إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي (وَإِذْ قالَتِ) إلخ ولا إلى مقدرة ، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير ، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان ، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية ، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه ، و (الْكِتابَ)


مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد ـ قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج ، وروي عنه أنه قال : أعطى الله تعالى عيسى عليه‌السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءا واحدا ، وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم‌السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره ، وذهب كثيرون إلى أن ـ أل ـ فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول ، والقول ـ بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل ، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلا أو عطف بيان ـ من الهذيان بمكان.

وقرأ أهل المدينة ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل ـ ويعلمه ـ بالياء ، والباقون بالنون قيل : وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله ـ يبشرك بعيسى ـ ويقول : (يُعَلِّمُهُ) أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب (وَالْحِكْمَةَ) أي الفقه وعلم الحلال والحرام ـ قال ابن عباس ـ وقيل : جميع ما علمه من أمور الدين ، وقيل : سنن الأنبياء عليهم‌السلام ، وقيل : الصواب في القول والعمل ، وقيل : إتقان العلوم العقلية ، وقد تقدم الكلام على ذلك (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما ، وتعليمه ذلك قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم ، وقد صح أنه عليه‌السلام لما رعرع ـ وفي رواية الضحاك عن ابن عباس ـ لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة ، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية ، وذكر ـ الإنجيل ـ لكونه كان معلوما عند الأنبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على نعلمه أي ونجعله رسولا ـ وهو الذي اختاره أبو حيان ـ وقيل : إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على ـ يعلمه ـ أي ويقول عيسى أرسلت رسولا ، ولا يخفى أن عطف هذا القول على (يُعَلِّمُهُ) إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس ، وأما على تقدير عطفه على (يُبَشِّرُكِ) أو (يَخْلُقُ) فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير ـ إن الله يبشرك ـ أو إن الله يخلق ما يشاء ـ ويقول عيسى كذا ، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم ، وفي البحر : إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه ـ وجيها ـ (وَرَسُولاً) ناطقا بكذا ، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور ، وفعول هنا بمعنى مفعل ، واحتمال ـ أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر : أبلغ أبا سلمى (رَسُولاً) تروعه ويجعل معطوفا فاعلي (الْكِتابَ) أي ويعلمه رسالة ـ بعيد لفظا ومعنى ، أما الأول فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية ، وأما ثانيا فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم ، والظرف إما متعلق ـ برسولا ـ أو بمحذوف وقع صفة له أي ـ رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم ، قيل : وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته ، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم.

ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد ـ وليس ذلك في الكتب المشهورة ـ والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان : فرقة ترميه ـ وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها ـ وهم أكثر اليهود ، وفرقة يقال لهم العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون : إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها ، وإنه من المستجيبين لموسى عليه‌السلام ، ومن بني إسرائيل المتعبدين


وليس برسول ولا نبي ، ويقولون : إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرامه ومغزاه ، نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية ـ أصحاب أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم بعرقيد الوهيم ـ يزعمون : إن لله تعالى رسولا بعد موسى عليه‌السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله ـ وكل من هذه الأقوال بعيد ـ عما ادعاه صاحب القيل بمراحل ـ ولعله وجد ما يوافق دعواه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

هذا واختلف في زمن رسالته عليه‌السلام فقيل : في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي البحر : أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل : وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور ، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف. وقيل : موسى وآخرهم عيسى ـ على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ـ وقرأ اليزيدي ـ ورسول ـ بالجر على أنه معطوف على كلمة ـ أي يبشرك بكلمة وبرسول ـ (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) معمول ـ لرسولا ـ لما فيه من معنى النطق. وجوز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة ـ لرسولا ـ أي رسولا ناطقا. أو مخبرا بأني. وكونه بدلا من (رَسُولاً) إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه أنى قد جئتكم ، أو خبرا لمبتدإ محذوف على تقدير المصدرية أيضا أي هو أني ، فالمنسبك إما في محل جر. أو نصب. أو رفع ، وقوله تعالى : (بِآيَةٍ) في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية أو متعلق ـ بجئتكم ـ والباء للملابسة أو للتعدية ، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها ، وقرئ بآيات (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة ـ لآية ـ وجوز تعلقه بجئت ، و (مِنْ) في التقديرين لابتداء الغاية مجازا ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر ، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم ، وقوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) بدل من قوله سبحانه : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) أو من آية أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني ، أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أي هي (أَنِّي) إلخ ؛ وقرأ نافع «إني» بكسر الهمزة على الاستئناف ، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة ، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق ، وقيل : إنها اسم لحال الشيء وليست مصدرا وإنما المصدر الهيء والتهيؤ فهي على الأول جوهر وعلى الثاني عرض ، وفسروها بالكيفية الحاصلة ـ من إحاطة الحد الواحد أو الحدود ـ بالجسم ، والمعنى أنى أقدر ـ لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي ـ من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته. والكاف إما اسم ـ كما ذهب إليه أبو الحسن ـ في موضع نصب على المفعولية ـ لأخلق ـ أو نعت لمفعول محذوف له ، وإما حرف ـ كما ذهب إليه الجمهور ـ فتتعلق بمحذوف وقع نعتا أيضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية. وقرأ يزيد وحمزة ـ كهية ـ بتشديد الياء. وكان ابن المقسم يقول : بلغني أن خلفا يقول : إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. وقرأ أهل المدينة ويعقوب ـ الطائر ـ ومثله في المائدة (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ. وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل : وصح هذا لعدم الإلباس ، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناء على أنها اسم. ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها. واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت ـ بكالأسد ـ وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود. وقرئ ـ فيها ـ (فَيَكُونُ طَيْراً) حيا طيارا كسائر الطيور.

وقرأ المفضل ـ فتكون ـ بتاء التأنيث ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، ونافع ـ طائرا ـ (بِإِذْنِ اللهِ) متعلق ـ بيكون ـ أو ـ


بطيرا ـ والمراد بأمر الله ، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه‌السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه‌السلام وهو روح محض ـ كما قيل ـ بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء ، قيل : وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب ، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا : إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا : ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا ، ويحيض ، ويلد ، ويطير بغير ريش ، وله آذان ، وثدي ، وضرع ، ويخرج منه اللبن ، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان ، ولا يبصر في ضور النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش ، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة ، وقيل : خلق أنواعا من الطير.

وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق أن عيسى عليه‌السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا : أو تستطيع ذلك؟ قال : نعم بإذن ربي ، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه ، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) عطف على (أَخْلُقُ) فهو داخل في حيز (أَنِّي) و (الْأَكْمَهَ) هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة ، قيل: ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير ، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وعن عكرمة أنه الأعمش أي أخلص (الْأَكْمَهَ) من الكمه (وَالْأَبْرَصَ) وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه ، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه‌السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر ، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاغة ، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما لقد روى أنه عليه‌السلام أبرأ أيضا غيرهما ، وروى عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه‌السلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه‌السلام فمشى إليه ، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير» ومن خواص هذا الدعاء ـ كما قال وهب ـ أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى ـ (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) عطف على خبر (أَنِّي) وقيد الأحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه ـ يا حي يا قيوم ـ وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى تبارك الذي بيده الملك ، وفي الثانية تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم


دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد» قال البيهقي : ليس بالقوي ، وقيل : إنه كان إذا أراد أن يحيي ميتا ضرب بعصاه الميت ، أو القبر ، أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا.

وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال : قد أحيا عليه‌السلام أربعة أنفس : عازر ، وابن العجوز ، وابنة العاشر ، وسام بن نوح. فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لاخته : انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي زمانا وولد له. وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه‌السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له ، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زمانا وولد لها.

وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه‌السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال : أقد قامت الساعة؟ قال : لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له : مت قال : بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل ، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساما كان بعد قولهم له عليه‌السلام إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم : صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا : هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون ، وقد ورد أيضا أنه عليه‌السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة ، وأحيا خشفا وشاة وبقرة ؛ ولفظ (الْمَوْتى) يعم كل ذلك.

(وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) «ما» في الموضعين موصولة ، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف ـ أي تأكلونه وتدخرونه ـ والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع والادخار ـ الخبء ـ وأصل (تَدَّخِرُونَ) تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت ، ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم ، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه‌السلام على ما في بعض الأخبار ، وقيل : قبل ، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : كان عيسى عليه‌السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول : نعم فيقول : خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها : أطعميني ما خبأت لي فتقول : وأي شيء خبأت لك؟ فيقول : كذا وكذا فتقول : من أخبرك؟! فيقول : عيسى ابن مريم فقالوا : والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضأهم في بيت فسأل عنهم فقال : ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا : لا إنما هي قردة وخنازير قال : اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك ، وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) من المائدة (وَما تَدَّخِرُونَ) منها ، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فجعلوا قردة وخنازير ، ويمكن أن يقال : إن كل ذلك قد وقع ـ وعلى سائر التقادير ـ فالمراد الأخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر ، وقيل : المراد الأخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة ، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم.


وقرئ ـ «تذخرون» ـ بالذال المعجمة والتخفيف (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة ، وهذا من كلام عيسى عليه‌السلام حكاه الله تعالى عنه ، وقيل : هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ (لَآيَةً) أي جنسها ، وقرئ لآيات (لَكُمْ) دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون.

ومن هنا يعلم أن علم الجفر ، وعلم الفلك ، ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها : إنها علم غيب أبدا إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم ، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الالهية والمنحة الأزلية على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد. وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان. ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين. وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى : (بِآيَةٍ) أي قد جئتكم محتجا ، أو متلبسا (بِآيَةٍ) إلخ (وَمُصَدِّقاً لِما) إلخ ، وإما على (رَسُولاً) وفيه معنى النطق مثله ، وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه (قَدْ جِئْتُكُمْ) أي وجئتكم مصدقا إلخ. وقوله سبحانه : (مِنَ التَّوْراةِ) في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار ، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل ، ويجوز أن يكون حالا من «ما» فيكون العامل فيه (مُصَدِّقاً) ومعنى تصديقه عليه‌السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب. وقيل : إن تصديقه لها مجيئه (رَسُولاً) طبق ما بشرت به (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) معمول لمقدر بعد الواو أي ـ وجئتكم لأحل ـ فهو من عطف الجملة على الجملة ، أو معطوف على (بِآيَةٍ) من قوله سبحانه : (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) لأنه في معنى ـ لأظهر لكم آية ولأحل ـ فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به ، أو معطوف على (مُصَدِّقاً) ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد ، وإن كان الأول حالا ، والثاني مفعولا له فكأنه قيل : جئتكم لأصدق ولأحل ، وقيل : لا بد من تقدير ـ جئتكم ـ فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر.

(بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي في شريعة موسى عليه‌السلام.

أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال : كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما‌السلام وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى عليه‌السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له ، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله ، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى ، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر ، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض ، وذهب بعضهم إلى أن الإنجيل لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز ، وأمثال ، ومواعظ ، وزواجر ، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة ، وإلى أن عيسى عليه‌السلام لم ينسخ شيئا مما في التوراة ، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس ، ويحرم لحم الخنزير ، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم


الأسبوع ، ومبدأ الفيض ، وصلوا نحو المشرق لما تقدم ، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الالهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في إنجيله أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته : لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب ، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء ، وفيها صور الحيوانات ، وصورة الخنزير ، وقيل له : يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه ، والذاهبون إليه أولو الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيا أو خطأ في الاجتهاد ، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه‌السلام قال في الإنجيل : ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها ، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه ، ويزيده بعدا أنه قرئ ـ «حرّم» ـ بالبناء للفاعل وهو ضمير ما (بَيْنَ يَدَيَ) أو الله تعالى ، وقرئ أيضا ـ «حرم» ـ بوزن كرم ، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه‌السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول ، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه‌السلام ـ على ما قيل ـ أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان ، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم ، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الكلام فيه كالكلام في نظيره ، وقرئ ـ بآيات ـ (فَاتَّقُوا اللهَ) في عدم قبول ما جئتكم به (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) بيان للآية المأتي بها على معنى هي قولي : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ). ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس اليه كان آية دالة على رسالته ، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم‌السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس ، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر ، ويقال : إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات.

أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال : أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق ، وقرئ ـ «أن الله» ـ بفتح همزة ـ أن ـ على أن المنسبك بدل من آية أو أن المعنى (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) دالة على أن الله إلخ ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضا لكن بتقدير القول ، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراضا ، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة (جِئْتُكُمْ) الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ رَبِّي) أو للاستيعاب كقوله تعالى : «فارجع البصر كرتين» (١) أي (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، والأحياء ، والإنباء بالمخفيات ، ومن ولادتي بغير أب. ومن كلامي في المهد ونحو ذلك ، والكلام الأول لتمهيد الحجة عليهم ، والثاني لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في (فَاتَّقُوا اللهَ) كأنه قيل : لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات (فَاتَّقُوا اللهَ) إلخ ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) إلخ ابتداء كلام

__________________

(١) كذا في المصدر ، والقراءة في مصاحفنا (ثُمَّ ارْجِعِ).


وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل ، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق ، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر ـ لأن الله ـ ربي وربكم فاعبدوه ـ فهو كقوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١] إلخ ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين ، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول ، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض ، وجملة (هذا) إلخ على ما قيل : استئناف لبيان المقتضى للدعوة.

هذا «والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة» سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول : قال الله سبحانه : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لكمال استعدادك ووفور قابليتك (وَطَهَّرَكِ) عن الرذائل والأخلاق الردية (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ) النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي دوامي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى (وَاسْجُدِي) في مساجد الذل (وَارْكَعِي) في محاريب الخضوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية ، ولله تعالى در من قال :

ويحسن إظهار التجلد للعدا

ويقبح إلا العجز عند الحبائب

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار غيب وجودك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا نبي الروح (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي لدى القوى الروحانية والنفسانية ، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم (إِذْ يُلْقُونَ) أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) ويدبر (مَرْيَمَ) النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرئاسة قبل الرياضة وفي حالها (إِذْ قالَتِ) ملائكة القوى الروحانية حين غلبت (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) بمقتضى التوجه إليه (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) لأنه يمسحك بالنور ، أو لأنه مسح به (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة ، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح ، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال ، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات ، وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك (وَكَهْلاً) بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) مثل هذا (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات ، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير ، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الالهية ، وهذا شأن المرادين وبعض المريدين :

رب شخص تقوده الأقدار

للمعالي وما لذاك اختيار

غافل والسعادة احتضنته

وهو عنها مستوحش نفار


(وَيُعَلِّمُهُ) بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الالهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن ؛ ويجعله رسولا إلى الروحانيين من بني إسرائيل الروح قائلا : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) من عالم الغيب بآية عظيمة وهي (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) بالتربية من طين النفوس البشرية (كَهَيْئَةِ) الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف (فَأَنْفُخُ فِيهِ) بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقة (فَيَكُونُ طَيْراً) أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه (بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار (وَالْأَبْرَصَ) المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية (وَأُحْيِ) موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية (بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) أي تتناولون من الشهوات واللذات (وَما تَدَّخِرُونَ) في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً لَكُمْ) نافعة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ) توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره ، وأشير بذلك إلى علم الباطن ، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه ، فقد قال مولانا زين العابدين :

ورب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنا

ولا استحل أناس مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) بعد أخرى (مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفتي (وَأَطِيعُونِ) فيما فيه كمال نشأتكم (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم (فَاعْبُدُوهُ) بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يوصلكم إليه ويفد بكم عليه (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) شروع في بيان مآل أحواله عليه‌السلام ، وقيل : يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول ، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ولا يكون (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) إلخ متعلقا بما قبله ، ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل ـ بأني قد جئتكم بآية من ربكم ـ الآية ، والفاء هنا مفصحة بمثل المقدر هناك على التقدير الثاني ، وأصل الاحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة ، وقيل : إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس ، والقول ـ بأن المراد إحساس آثار الكفر ـ ليس بشيء ، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه من العزيمة على إيقاع مكروه به عليه‌السلام ، وقد صح أنه عليه‌السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة.

أخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه‌السلام ويستهزءون به ويقولون له : يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه‌السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت : ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر. ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنقض رأسها من التراب فقالت : يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا


حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا» وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه ، و ـ من ـ لابتداء الغاية متعلق ـ بأحس ـ أي ابتدأ الاحساس من جهتهم ؛ وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرا منهم.

(قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية ـ الصف ـ كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية. وكونه ـ جميع بني إسرائيل لقوله تعالى : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) [الصف : ١٤] ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع ، و ـ الأنصار ـ جمع نصير كالأشراف جمع شريف ، وقال قوم : هو جمع نصر ، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصرى ، أو تجعله مصدرا وصف به ، والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من الياء وهي مفعول به معنى ، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا إلى الله ، إما أن يتعلق ـ بأنصاري ـ مضمنا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري ، وفي الكشاف في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار ـ للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة ، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز ، أو إضمار في نصرهم لله تعالى ويضمر ما تحصل به المطابقة ، نعم كون (إِلَى) بمعنى ـ مع ـ لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلا ، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال ، ولا تقول : وإليه مال ـ وكذا نظائره ـ فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الإضمار أولى ، و (مَنْ) هنا اختار بعضهم كون إلى بمعنى اللام ، وآخرون كونها بمعنى ـ في ..

وقال في الكشف لعل الأشبه في معنى الآية ـ والله تعالى أعلم ـ أن يحمل على معنى ـ من ينصرني منهيا نصره إلى الله تعالى ـ كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه‌السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله ، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه :

(قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) شديد الطباق له كأنهم قالوا : نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه ، ولو قالوا مكانه : نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى.

وأنت تعلم أن جعل (إِلَى) بمعنى اللام ، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفا مما ذكر ، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج : من أنه لا يجوز أن يقال : إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم ، و ـ الحواريون ـ جمع حواري يقال : فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره ، وليس الحواري جمعا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون ، وذكر العلام التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب ؛ وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله ، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به ، وبه قرئ في الآية ، وأصله من التحوير أي التبييض ، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى ؛ والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس ، ويطلق الحواري على ـ القصار ـ أيضا لأنه يبيض الثياب وهو بلغة النبط ، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله


الضحاك «واختلف» في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم ـ وهو المروي عن سعيد بن جبير ـ وقيل : لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس ـ وهو المروي عن مقاتل وجماعة ـ وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ـ وإليه يشير كلام قتادة ـ وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضا فقيل : قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب ، وشمعون ، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه‌السلام فقال لهم : أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له : من أنت؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمر عيسى عليه‌السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه‌السلام ، وقيل : هم اثنا عشر رجلا ، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه‌السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون ، وقيل : إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه‌السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له : من أنت؟ قال : عيسى ابن مريم فقال الملك : إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون ، وقيل : إنه أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يوما لمهم وقال له : هاهنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه‌السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : أفسدت علي الثياب قال : قم فانظر فكان يخرج ثوبا أحمر ، وثوبا أخضر ، وثوبا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين ، ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك. وبعضهم من الصيادين. وبعضهم من القصارين. وبعضهم من الصباغين. وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه‌السلام والمخلصين في محبته وطاعته.

والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيا وإما أن يؤخذ مجازيا وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار ، وقيل : إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع. ومنه قوله تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق : ١٤] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى.

ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه‌السلام أمر به ؛ وادعاه بعضهم مستدلا بقوله تعالى : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] ولا يخفى أن الآية ليست نصا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة ، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك.

نعم استشكل أن عيسى عليه‌السلام إذا لم يكن مأمورا بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه‌السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم ـ كما قاله الحسن ـ ومجاهد ـ ولم يستنصر للقتال معهم على الايمان بما جاء به ، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعي أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس ، وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقي فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم ، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه‌السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه‌السلام : حسبك ثم


أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت ، وقيل : يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف ، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور (آمَنَّا بِاللهِ) مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها (وَاشْهَدْ) عطف على (آمَنَّا) ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله ، وقيل إن (آمَنَّا) لإنشاء الإيمان أيضا فلا اختلاف بأنّا مسلمون أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولا أوليا نصرتهم له ، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه‌السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه‌السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانا ـ كما قال الكرخي ـ بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء فيه المائدة «بأننا» لأن ما فيها ـ كما قيل ـ أول كلام الحواريين فجاء على الأصل ، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع ، والفرع بالفرع أولى (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارا لسحائب إجابة دعائهم الآتي ، وقيل : مبالغة في إظهار أمرهم (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشهد لهم بالصدق ـ رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم ، وقيل : المراد من (الشَّاهِدِينَ) الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها ، وقال مقاتل : هم الصادقون ، وقال الزجاج : هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، وقيل : أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك ، وقيل : أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] ولا يخفي ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك ، أو في عداد أتباعهم ، وقيل : وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ (فَاكْتُبْنا) إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال ، وقيل : المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل.

ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة ، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول ـ اكتبنا ـ (وَمَكَرُوا) أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة (وَمَكَرَ اللهُ) بأن ألقى شبهة عليه‌السلام على غيره فصلب ورفعه إليه ، قال ابن عباس : لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه‌السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه‌السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث : ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه‌السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى وقال وهب : أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا ـ وهو الذي دلهم على عيسى ـ وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال : ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه‌السلام فأدخل البيت ورفع وقال : أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه ـ وهم يظنون أنه عيسى ـ فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى : اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه


الله سبحانه ، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.

وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه‌السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم : أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه‌السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه‌السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه ، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة : كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء ، وقالت فرقة أخرى : كان فينا ابن الله عزوجل ثم رفعه الله سبحانه إليه ، وقالت فرقة أخرى منهم : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون ، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي عن ابن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه‌السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له : إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ـ فعل وفعل ـ فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه‌السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقا عظيما ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه‌السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة ، والنضير إلى الحجاز.

هذا وأصل المكر قيل : الشر ، ومنه «مكر الليل» إذا أظلم ، وقيل : الالتفات ومنه ـ المكوّر ـ لضرب من الشجر ذي التفاف ، واحده مكر ، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة ، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر ، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار ، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق ، وقالوا : لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداء مكر الله سبحانه ـ وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة ـ وخالفهم الأبهري. وغيره فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ) [الأعراف : ٩٩] فإنه نسب إليه سبحانه ابتداء.

ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفي فيه ، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة ، وقال غير واحد : إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى ، وفي الحديث «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» ومن ذهب إلى عدم الإطلاق ـ إلا بطريق المشاكلة ـ أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨] ولا يخفى ما فيه ، فالأولى القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداء بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله ، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم مكرا وأشدهم ، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة (إِذْ قالَ اللهُ) ظرف ـ لمكر ـ أو بمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر اذكر ـ كما في أمثاله ـ لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : هذا من


المقدم والمؤخر أي رافعك إلي ومتوفيك ، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى ، وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».

وثانيها أن المراد إني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه‌السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك.

وثالثها أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض ـ من توفى المال ـ بمعنى استوفاه وقبضه.

ورابعها أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر ، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء وهو نائم رفقا به ، وحكي هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن.

وخامسها أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه ، وسادسها أن المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون (وَرافِعُكَ إِلَيَ) كالمفسر لما قبله ، وسابعها أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت ، وثامنها أن المراد مستقبل عملك ، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عز بعد لا سيما الأخير ، وقيل : الآية محمولة على ظاهرها ، فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال : توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه.

وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه ، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين ، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين ، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس ـ والصحيح كما قاله القرطبي ـ أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم ـ وهو اختيار الطبري ـ والرواية الصحيحة عن ابن عباس ، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحاق أنها من زعم النصارى.

ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود ، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم ، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ دعواهم فيه عليه‌السلام الربوبية على أتم وجه ، فنقول : قالوا : بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا : الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال : السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع : مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلا وجلس ناحية منها متنكرا ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال : أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس : ما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسا من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتيا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال : ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ما ذا ترون في أمره؟ فقالوا : هذا مستوجب الموت فحينئذ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزءوا به وجعلوا يلطمون ويقولون : بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره ـ يصلب يصلب ـ فتحرج فيلاطس من قتله ، وقال : أي شر فعل هذا فقال الشيوخ : دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذ ساقه جند القائد


إلى الابروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسا أحمر وضفروا إكليلا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزءون به ويقولون : السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلا مضافا بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحا مكتوبا هذا يسوع ملك اليهود استهزاء به ، ثم جاءوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرا له وكان اليهود يقولون له : يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب ، وقال اليهود : هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلا على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم ـ آلوى آلوى أيما صاصا ـ أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه ، وقال آخر : دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرا عظيما وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا : يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كيلا يأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرا من الأولى فقال لهم القائد : اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا ، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر.

وفي إنجيل مرقص إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة : لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر فقالوا : لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاءوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل وقد شك بعضهم ، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم : اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به ، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى.

«وهاهنا أمور» الأول أنه يقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أو آحادا فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب ، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فيكف يحتج بقولهم في القطعيات؟ وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم : أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم ـ وعليه معولكم : إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت : هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب. ولم يكد يذهب وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل ، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا


نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحادا وهو أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاما منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر.

ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصا من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة ، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضا.

الثاني أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه ، وما تضحك الثكلى منه ، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة : إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان ـ يريدون بالإنسان الرب سبحانه ـ فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب ، وقوله : إن ناسا من القيام هاهنا إلخ فانه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه‌السلام آتيا في ملكوته ، وقول الملك للنسوة : تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه : أرب يقبر وإله يلحد ، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله ، وتبا لكفن ستر محاسنه ، وعجبا للسماء كيف لم تبد ـ وهو سامكها ـ وللأرض لم تمد ـ وهو ماسكها ـ وللبحار كيف لم تغض ـ وهو مجراها ـ وللجبال كيف لم تسر ـ وهو مرسيها ـ وللحيوان كيف لم يصعق ـ وهو مشبعه ـ وللكون كيف لم يمحق ـ وهو مبدعه ـ سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود ، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه ، وعدمه لا أبا لك قومه؟! وقوله : إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمرّ ـ القضاء ، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم ، وذلك لا يليق بالصالحين فضلا عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها ، وقولهم : إنه قام كثير من القديسين من قبورهم إلخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع ، وقولهم : مضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل إلخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح : ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع يزعمكم قال لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهودا الاسخريوطي الذي أسلمه للقتل إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثنى عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل ، وقولهم : إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه : إن لي طعاما لا تعرفونه إلى غير ذلك.

«الثالث» إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه متى في إنجيله فإنه قال فيه : سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال : الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي ـ يعني يونس عليه‌السلام ـ لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال.

«والرابع» أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه‌السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٥٧] هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناء به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه ، وأراد سبحانه بقوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) رافعك إلى سمائي ، وقيل : إلى كرامتي ، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارئ سبحانه ليس بمتحيز في جهة ، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف والذي اختاره الكثير من العارفين أنه


رفع إلى السماء الرابعة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس.

وفي الخازن أن سبحانه لما رفعه عليه‌السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا ، وأورد بعض الناس هاهنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه‌السلام كما قال سبحانه : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧ ، ٢٥٣] ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟! وأيضا أنه عليه‌السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم. أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له؟ وأيضا لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار ، ولو أقدر الله تعالى جبريل ، أو عيسى عليهما‌السلام على دفع الأعداء ، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، والقول ـ بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر ، وأيضا إن في ذلك الإلقاء تمويها وتخليطا وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى ـ ليس بشيء ، أما أولا فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له ، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين ، وأما ثانيا فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويها لأنهم كانوا عارفين يقينا إن المطلوب الشبه لا عيسى عليه‌السلام كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، والقول ـ بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حيا زمانا طويلا فلو لا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر ـ ليس بشيء أيضا ، أما أولا فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان. والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن ، ومقدار أربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يخفى ، وأما ثانيا فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح ، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه فلم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه‌السلام أن يفصح الرجل عن أمره ، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة ، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه‌السلام التلاميذ ـ على ما نقلوا قبل ـ بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم‌السلام فهو من (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روي أنه جعل يقول لليهود عند الصلب : لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه ، والقول ـ بأنه لو كان ذلك لتواتر ـ لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل أن يكون تطهيره عليه‌السلام بتبعيده منهم بالرفع ، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل ، وفي الأول جعلهم كأنهم نجاسة ، وفي الثاني جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر ـ وإلى الثاني ذهب الجبائي.


والمراد من الموصول اليهود ، وأتى بالظاهر ـ على ما قيل ـ دون الضمير : إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر.

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول : اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، وكفار قومه (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) قال قتادة. والحسن ، وابن جريج. وخلق كثير : هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم اليهود وسائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة ، أو السيف في غالب الأمر.

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى ، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها ، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم ، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين ، وهذا الأتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجيء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ونسخ شريعته ، ومن آمن بزعمه بعد ذلك ـ وقد يراد من الأتباع ـ الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المتبعين المسلمون ، والقسم الأول من النصارى ، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة ـ وحمل الأتباع على المجيء بعد ـ مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن الوقف على (الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف ، وليس المراد إن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص (الَّذِينَ كَفَرُوا) من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد.

ومن الناس من حمل الفوقية ـ على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأبيد كما في قولهم ما دامت السماء ، وما دار الفلك بناء على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل ـ وليس بذلك (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم ، والضمير لعيسى عليه‌السلام والطائفتين ، وفيه تغليب على الأظهر ، و (ثُمَ) للتراخي ؛ وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد ، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط ، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء.

(فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إليّ ومصيركم بين يدي (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين ، أو من أمر عيسى عليه‌السلام ، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل.

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه : (فَأَحْكُمُ) وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع ، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين ، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة ، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)؟ وأجيب بوجوه ، الأول أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة ، الثاني أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر ، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جدا.

الثالث ما ذكر صاحب الكشف من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي ، وقوله سبحانه : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية الفوقية لا غاية الجعل ، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك : سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع ، وعلى هذا توفية الأجر لغنم الدارين ، ولا يخفى أن في لفظ (كُنْتُمْ) في قوله جل وعلا : (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) بعض نبوة


عن هذا المعنى ، وأن المعنى ـ أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا.

الرابع أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم ، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في الكشف : وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته ، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود ، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جدا إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال : إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة.

الخامس أن في الدنيا والآخرة متعلق ـ بشديد ـ تشديدا لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى ، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى (ثُمَ) على التراخي والرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور ، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذ لا هم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك ، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذابا ، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله ، وصيغة الجمع ـ كما قال مولانا مفتي الروم ـ لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان الحال القسم الثاني ، وبدأ بقسم (الَّذِينَ كَفَرُوا) لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادئ النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنه أقرب في الذكر لقوله تعالى : (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه‌السلام وهموا بقتله (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيا من غير نقص.

وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة ـ والظاهر أنها أعم من ذلك ـ وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاء إليها وإيذانا بعظم قبح الكر ، وقرأ حفص ، ورويس عن يعقوب ـ فيوفيهم ـ بياء الغيبة ، وزاد رويس ضم الهاء ، وقرأ الباقون بالنون جريا على سنن العظمة والكبرياء ، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الاجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب ، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء ، وجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره ما ذكر ، وموضع المحذوف بعد الصلة ـ كما قال أبو البقاء ـ ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن ـ أما ـ لا يليها الفعل.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم ، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة ، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه (ذلِكَ) أي المذكور من أمر عيسى عليه‌السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف.

(نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) أي نسرده ونذكره شيئا بعد شيء ، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الحاصلة اعتناء بها ، وقيل : يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه‌السلام لم يفرغ منها بعد (مِنَ الْآياتِ) أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب ، أو معلم ، ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي (وَالذِّكْرِ) أي القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه ، و (مِنَ) تبعيضية على الأول ، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد (الْحَكِيمِ) أي


المحكم المتقن نظمه ، أو الممنوع من الباطل ، أو صاحب الحكمة ، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته ؛ إما على وجه الاستعارة التبعية في لفظ حكيم ، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه ، وجعله من باب الاستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف ـ بحكيم ـ تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل ، وجوز في الآية أوجه من الإعراب ، الأول أن ذلك مبتدأ ، و (نَتْلُوهُ) خبره ، و (عَلَيْكَ) متعلق بالخبر ، و (مِنَ الْآياتِ) حال من الضمير المنصوب ، أو خبر بعد خبر ، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الإشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل : لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي ، الثاني أن يكون ذلك خبرا لمحذوف أي الأمر (ذلِكَ) ، و (نَتْلُوهُ) في موضع الحال من (ذلِكَ) و (مِنَ الْآياتِ) حال من الهاء ، الثالث أن يكون ذلك في موضع نصب فعل دل عليه ـ نتلو ـ فيكون (مِنَ الْآياتِ) حالا من الهاء أيضا (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما لك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد الله قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا ، وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه (طس) [النمل : ١] «سليمان» بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام ، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل ابن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف : ما رأيك؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبيا وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل. وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) إلى قوله سبحانه : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : إني أرى أمرا ثقيلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك؟ فقال : رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له : أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إني رأيت خيرا من ملاعنتك قال : وما هو؟ قال :

حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية ، وروي غير ذلك كما سيأتي قريبا ، و ـ المثل ـ هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة ـ كما قيل به ـ بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي إن صفة عيسى (عِنْدَ اللهِ) أي في تقديره


وحكمه ، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه ، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه : (كَمَثَلِ آدَمَ) أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين ، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته ، و (مِنْ) لابتداء الغاية متعلقة بما عندها ، والضمير المنصوب ـ لآدم ـ والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي صر بشرا فصار ، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه ، مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل ، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح ؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن ، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله ، وذهب كثير من المحققين إلى أن (ثُمَ) للتراخي في الأخبار لا في المخبر به ، وحملوا الكلام على ظاهره ، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي ـ كما لا يخفى ، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب ، والقول ـ بأنه عائد على عيسى ـ ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه ، قيل : وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه‌السلام من غير أب يخلق آدم عليه‌السلام من غير أب ولا أم ، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه‌السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها‌السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم.

والقول ـ بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب ـ مما لا مستند له من عقل ولا نقل «ونفخنا فيه من روحنا» (١) لا يدل عليه بوجه أصلا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر لمحذوف أي هو الحق ، وهو راجع إلى البيان ، والقصص المذكور سابقا ، والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر ، وجوز أن يكون (الْحَقُ) مبتدأ ، و (مِنْ رَبِّكَ) خبره ، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما‌السلام هو (الْحَقُ) لا ما يزعمه النصارى ، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتى إلا بتكلف إرادة أن كل حق ، أو جنسه من الله تعالى ، ومن جملته هذا الشان ، أو حمل اللام على العهد بإرادة (الْحَقُ) المذكور ، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطافة الظاهرة (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى : «فلا تكونن من المشركين» (٢) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين :

«إحداهما» أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور «وثانيتهما» أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره ، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب (فَمَنْ حَاجَّكَ) أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك (فِيهِ) أي في شأن عيسى

__________________

(١) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (فَنَفَخْنا ...)

(٢) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (وَلا تَكُونَنَّ ...)


عليه‌السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة ، وقيل : الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الآيات الموجبة للعلم ، وإطلاق العلم عليها إما حقيقية لأنها كما قيل : نوع منه ، وإما مجاز مرسل ، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة ، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل (جاءَكَ) الراجع إلى (ما) الموصولة ، و (مِنْ) من ذلك تبعيضية ، وقيل : لبيان الجنس (فَقُلْ) أي لمن حاجّك ـ (تَعالَوْا) أي أقبلوا بالرأي والعزيمة ، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع ، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة ، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان التلف والرجل يخاطر لهم بنفسه إيذانا بكمال أمنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم ، ولذلك ـ مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع له في الاسناد ـ قدم صلى الله تعالى عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتباهل ، فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة ، وافتعل وتفاعل أخوان في كثير من المواضع ـ كاشتور وتشاور ، واجتور وتجاور. والأصل في البهلة ـ بالضم ، والفتح فيه ـ كما قيل ـ اللعنة ، والدعاء بها ، ثم شاعت في مطلق الدعاء كما يقال : فلان يبتهل إلى الله تعالى في حاجته ، وقال الراغب : بهل الشيء والبعير إهماله وتخليته ثم استعمل في الاسترسال في الدعاء سواء كان لعنا أو لا إلا أنه هنا يفسر باللعن لأنه المراد الواقع كما يشير إليه قوله تعالى : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي في أمر عيسى عليه‌السلام فإنه معطوف على نبتهل مفسر للمراد منه أي نقول لعنة الله على الكاذبين ، أو اللهم العن الكاذبين.

أخرج البخاري ، ومسلم «أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له : نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال : قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة ، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء ، والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم العاقب ، والسيد فأنزل الله تعالى (فَقُلْ تَعالَوْا) الآية فقالوا : أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى بني قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وقالوا : هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم» وروي أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة وثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا.

وأخرج في الدلائل أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد ـ وهو الكبير ـ والعاقب ـ وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم ـ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أسلما قالا : أسلمنا قال : ما أسلمتما قالا : بلى قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما ، عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وزعمكما أن لله ولدا ، ونزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) الآية فلما قرأها عليهم قالوا : ما نعرف ما تقول ، ونزل (فَمَنْ حَاجَّكَ) الآية فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب : قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم وما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبث صغيرهم فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ومعه


علي ، والحسن ، والحسين ، وفاطمة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أنا دعوت فآمنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية».

وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه : «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة» وعن جابر «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا». وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا ومعه علي ، وفاطمة ، والحسنان رضي الله عنهم قال : يا معشر النصارى : إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا وتهلكوا».

هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، وأكمل نكاية بالعدو وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة ، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته ، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن ، والنصب جازم الإيمان ، واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنار على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن. والحسين ، وبنسائنا فاطمة ، وبأنفسنا الأمير ، وإذا صار نفس الرسول ـ وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل ـ تعين أن يكون المراد المساواة ، ومن كان مساويا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟! فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره ، ولا معنى للخليفة إلا ذلك ، وأجيب عن ذلك أما أولا فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويجعل الأمير داخلا في الأبناء ، وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة ، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا : إن إطلاق الابن على ابن البنت حقيقة ، وإن قلنا : إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية.

وقول الطبرسي ، وغيره من علمائهم ـ إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود (نَدْعُ) والشخص لا يدعو نفسه ـ هذيان من القول ، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث ـ دعته ـ نفسه إلى كذا ، ودعوت نفسي إلى كذا ، وطوعت له نفسه ، وآمرت نفسي ، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل (نَدْعُ أَنْفُسَنا) نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله : (تَعالَوْا) كما لا يخفى.

وأما ثانيا فبأنّا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة. ومن ذلك قوله تعالى ؛ «يخرجون أنفسهم من ديارهم» (١)(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١](لَوْ (٢) لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس ، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك ـ وهو باطل بالإجماع ـ لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل

__________________

(١) لا يوجد آية بهذا النص ، والذي في الآية ٨٥ من سورة البقرة : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ).


وأولى بالتصرف بالضرورة ، وأما ثالثا فبأن ذلك لو دل على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماما في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وهو باطل بالاتفاق ـ وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع ، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر من دعوى كون الأمير ، والبتول ، والحسين أعزة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه ـ إظهار الحق.

وقد أخرج مسلم ، والترمذي ، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : «لما نزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ) إلخ دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا ، وفاطمة ، وحسنا ، وحسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي» وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين. وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم «أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر ، وولده ، وبعمر ، وولده ، وبعثمان ، وولده ، وبعلي ، وولده» وهذا خلاف ما رواه الجمهور.

واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين ، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز ، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به ـ وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم.

وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء ، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا ، وحطهم ولا حط عنهم وزرا أن ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام ، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان ، وأثر من مس الشيطان :

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة ، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه ، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب (إِنَّ هذا) أي المذكور في شأن عيسى عليه‌السلام قاله ابن عباس (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) جملة اسمية خبر (إِنَ) ويجوز أن يكون ـ هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب ، و (الْقَصَصُ) هو الخبر ، وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين و (الْحَقُ) صفة القصص وهو المقصود بالإفادة أي ـ إن هذا هو الحق ـ لا ما يدعيه النصارى من كون المسيح عليه‌السلام إلها. وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ، وقيل : إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك


وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد ، والأول هو المشهور ـ وعليه الجمهور ولعله الأوجه ، واللام لام الابتداء والأصل فيها أن تدخل على المبتدأ إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم.

(الْقَصَصُ) على ما في البحر مصدر قولهم : قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا ، وأصله تتبع الأثر يقال : خرج فلان يقص أثر فلان أي يتتبعه ليعرف أين ذهب ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص : ١١] أي تتبعي أثره ، وكذلك القاص في الكلام لأنه يتتبع خبرا بعد خبر ، أو يتتبع المعاني ليوردها ، وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق ، وقرئ «لهو» بسكون الواو (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) رد النصارى في تثليثهم ، وكذا فيه رد على سائر الثنوية و (مِنْ) زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات ، وقد فهم أهل اللسان ـ كما قال الشهاب ـ أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر ، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية ، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان ، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد فالأولى أن يقال : إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب غلبة تامة ، أو القادر قدرة كذلك ، أو الذي لا نظير له (الْحَكِيمُ) أي المتقن فيما صنع ، أو المحيط بالمعلومات ، والجملة تذييل لما قبلها ، والمقصود منها أيضا قصر الإلهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل : إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات ، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا ، ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفا ، وأصله تتولوا (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بهم ، أو بكم ، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه (بِالْمُفْسِدِينَ) من معاقبته لهم ، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد ، وقيل : المعنى على أن (اللهَ عَلِيمٌ) بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك ، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلا أنه ليس الجزاء والعقاب ، والكلام منساق لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى ما فيه.

«ومن باب الإشارة في الآيات» (فَلَمَّا أَحَسَ) أي شاهد عيسى بواسطة النور الإلهي المشرق عليه (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي ظلمته ، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها.

وحكي عن الباز قدس‌سره أنه قال : إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما ، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها (قالَ مَنْ أَنْصارِي) في حال دعوتي إلى الله سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال (قالَ الْحَوارِيُّونَ) المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه‌السلام (آمَنَّا بِاللهِ) الإيمان الكامل (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي منقادون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك ، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك (وَمَكَرُوا)


أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] فهو الماكر في الحقيقة وهذا معنى (وَمَكَرَ اللهُ) عند بعض ، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق ، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال : لا علة لصنعه وأنشأ يقول :

فديتك قد جبلت على هواكا

ونفسي لا تنازعني سواكا

أحبك لا ببعضي بل بكلي

وإن لم يبق حبك لي حراكا

ويقبح من ـ سواك الفعل ـ عندي

وتفعله فيحسن منك ذاكا

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ


لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٨٢)

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عن رسم الحدوثية (وَرافِعُكَ إِلَيَ) بنعت الربوبية (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بشغل سرك عن مطالعة الأغيار ، أو متوفيك عنك ، وقابضك منك ، ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية ، وقيل : إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي ، فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلك الشمس ، وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة والسلام ويشاركه المسيح في سر النفخ.

ومن قال : إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه‌السلام وهو عبارة عن روحانية فلك القمر ، وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه‌السلام ، ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول : بأنه يدور حول العرش لأن ذلك مقام النهاية في الكمال ، ولهذا لم يعرج إليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) في أن كلا منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة والسلام بلا ذكر


بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخرة قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة ، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى خلقه من تراب أي صور قالبه من ذلك (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي الحق ، أو في عيسى عليه‌السلام بالحجج الباطلة (فَقُلْ تَعالَوْا) إلخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة.

قال بعض العارفين : اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم‌السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه ، كالغضب ، والخوف ، والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك. وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به ، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى.

وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد ـ وفيه كلام طويل ـ ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه ، هذا وتطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأول ، والله تعالى الموفق.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) نزلت في وفد نصارى نجران ـ قاله السدي ، والحسن ، وابن زيد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ـ وروي عن قتادة ، والربيع ، وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة. وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب ، واستظهره بعض المحققين لعمومه (تَعالَوْا) أي هلموا (إِلى كَلِمَةٍ) أي كلام ـ كما قال الزجاج ـ وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء ، وقيل : إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد ـ وقرئ (كَلِمَةٍ) بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل (سَواءٍ) أي عدل ـ قاله ابن عباس ، والربيع ، وقتادة ـ وقيل : إن (سَواءٍ) مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن ، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع ، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت ـ لكلمة ـ وقرئ بنصبه على المصدر.

(بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) متعلق بسواء (أَلَّا نَعْبُدَ) أي نحن وأنتم (إِلَّا اللهَ) بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها ، وفي موضع أن وما بعدها وجهان ـ كما قال أبو البقاء ـ الأول الجر على البدلية من (كَلِمَةٍ) ، والثاني الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نعبد إلا الله ، ولو لا عمل أن لجاز أن تكون تفسيرية ، وقيل : إن الكلام تم على (سَواءٍ) ثم استؤنف فقيل : (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أن لا نعبد ، فالظرف خبر مقدم ، وأن وما بعدها مبتدأ مؤخر (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد ، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة ، وقيل : المراد (لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من الشرك وهو بعيد جدا (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى ـ قاله ابن جريج ـ ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم «أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم


فقال عليه الصلاة والسلام هو ذاك» قيل : وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عزّ من قائل : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض ، وقيل : هو مثل اعتقاد اليهود في عزيز أنه ابن الله ، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك ، وضمير ـ نا ـ على كل تقدير للناس لا للممكن ـ وإن أمكن ـ حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها.

وفي التعبير ـ بالبعض ـ نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا؟

«فإن قلت» إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه «أجيب» بأنه أريد من دون الله وحده ، أو يقال : بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا ـ قاله بعضهم ـ وللنصارى ـ سود الله تعالى حظهم ـ الحظ الأوفر من هذه المنهيات ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) المراد فان تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبوا عنادا فقولوا لهم : أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا : إنا لسنا كذلك ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وقيل : المراد فإن تولوا فقولوا : إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر ـ فاشهدوا بأنا مسلمون ـ فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعرفون به لعدم وثوقكم بنصر الله تعالى ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون ، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم ، (تَوَلَّوْا) هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن (فَقُولُوا) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين ، وتتولوا خطاب للمشركين ، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب (يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه‌السلام كان على دينه ، أخرج ابن إسحاق. وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «اجتمعت نصارى نجران. وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني ، و ـ ما ـ استفهامية ، والغرض الإنكار والتعجب ـ عند السمين ـ وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة ، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) على موسى عليه‌السلام (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى عليه‌السلام (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) حيث كان بينه وبين موسى عليهما‌السلام خمسمائة وخمس وستون سنة ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : ألف سنة وبين موسى ، وعيسى عليهما‌السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة ، وقيل ألفا سنة ، وهناك أقوال أخر (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي ـ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم ـ أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه ، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق ، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا ـ كما قال الشهاب ـ إنه عليه‌السلام منهم حقيقة ، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى ، أو دين عيسى فهو يهودي ، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم ، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة الإنجيل بعده ـ مشكل إلا أن يدعي بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه‌السلام التوراة ، ولا عيسى عليه‌السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم ـ كذا قيل ـ وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول : أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن


مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث ، ثم ما قاله الشهاب ـ إن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا ، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة ، وفيهم أحبار اليهود ، ووفد نجران ، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث ، فقد أخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال : «سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني» من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم إلا أن يقال : إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه ، أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى ، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب ـ وما ذكره ابن الحرث ـ لا يدل على علمهم كما لا يخفى ، وقيل : إن مراد اليهود بقولهم : إن إبراهيم عليه‌السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه‌السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به ، وأن مراد النصارى بقولهم : إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم ، والمفخر العظيم ، والمنة الكبرى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما ، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا :

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم (هؤُلاءِ) الحمقى (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) كأمر موسى ، وعيسى عليهما‌السلام (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهو أمر إبراهيم عليه‌السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم ، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى. وعيسى قبل بعثتيهما أصلا ، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشاراته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر ، ولا رمز له في كتابكم البتة؟! و (ها) حرف تنبيه ، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو ـ ها أنا ذا ـ وكررت هنا للتأكيد ، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاء ، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاء في كلامهم إلا في بيت نادر ، ثم الفصل بين الهاء المبدلة. وهمزة (أَنْتُمْ) لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء ، والإشارة للتحقير والتنقيص ، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل ، وجملة (حاجَجْتُمْ) مستأنفة مبينة للأولى ، وقيل : إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو ـ ها أنا ذا قائما ـ وهذه الحال لازمة ؛ وقيل : إن الجملة غبر عن (أَنْتُمْ) و (هؤُلاءِ) منادى حذف منه حرف النداء ، وقيل : (هؤُلاءِ) بمعنى الذين خبر المبتدأ ، وجملة (حاجَجْتُمْ) صلة ؛ وإليه ذهب الكوفيون ، وقراؤهم يقرءون (ها أَنْتُمْ) بالمد والهمز ، وقرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن ، وقرأ ابن كثير. ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد ، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز (وَاللهُ يَعْلَمُ) حال إبراهيم وما كان عليه.

(وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا ، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه‌السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر فقال سبحانه : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) كما قالت اليهود (وَلا نَصْرانِيًّا) كما قالت النصارى (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) أي مائلا عن العقائد الزائغة (مُسْلِماً)


أي منقادا لطاعة الحق ، أو موحدا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا ؛ قيل : وينصره قوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دينه ، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس ، وعبدة الكواكب كالصابئة ، وقيل : أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] وقول النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون ، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها ، وتفسير الإسلام بما ذكر ـ هو ما اختاره جمع المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فيرد عليه ما ورد عليهم ، ويشترك الإلزام بينهما ، وفسره بعضهم بذلك ، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان (مُسْلِماً) وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق ، قال العلامة النيسابوري : فإن قيل : قولكم : إن إبراهيم عليه‌السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام ، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل : يختار الأول ، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزيز عليه‌السلام إلى غير ذلك ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه‌السلام ثم نسخ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى ، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد ، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى ، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضا : إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه‌السلام ، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالبديهة ، ونحو ذلك كثير.

وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات ، وقوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣] ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملمة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] واعترض الشهاب على الجواب ـ على الاختيار الأول ـ بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا ، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد يكون إبراهيم (مُسْلِماً) أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي ، وادعى أنه سالم من القدح ، ونظر فيه ـ بأن أخذ الإسلام لغويا لا يناسب بحث الأديان ، والكلام فيه ـ فلا يخلو هذا الوجه عن بعد ، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.

هذا وفي الآية وجه آخر ـ ولعله يخرج من بين فرث ودم ـ وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود: إبراهيم منا ، وقالت النصارى : إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه‌السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعما على معنى موافقة الأصول للأصول ، أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى


عليهم بقوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان ، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم ، ثم صرح سبحانه بما أشار أولا فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه‌السلام في نفس الأمر (وَلا نَصْرانِيًّا) أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه‌السلام كذلك (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً (١) مُسْلِماً) أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء ، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فعلى هذا يكون المسلم ـ كما قال الجصاص ، وأشرنا إليه فيما مرّ مرارا ـ المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة ـ هذا ما عندي في هذا المقام ـ فتدبر فلمسلك الذهن اتساع.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أَوْلَى) أفعل تفضيل من وليه يليه وليا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واوا فلا تكون لامه واوا إذا ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو ، وأصل معناه أقرب ، ومنه ما في الحديث «لأولى رجل ذكر» ويكون بمعنى أحق كما تقول : العالم أولى بالتقديم ، وهو المراد هنا ـ أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي كانوا على شريعته في زمانه ، أو اتبعوه مطلقا فالعطف في قوله سبحانه : (وَهذَا النَّبِيُ) من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر (إِنَ) وقرئ بالنصب عطفا على الضمير المفعول ، والتقدير ـ للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي ـ وقرئ بالجر عطفا على إبراهيم أي ـ إن أولى الناس بإبراهيم ، وهذا النبي للذين اتبعوه ـ واعترض بأنه كان ينبغي أن يثنى ضمير (اتَّبَعُوهُ) ويقال اتبعوهما ، وأجيب بأنه من باب (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إن كان عطفا على ـ الذين اتبعوه ـ يكون فيه ذلك أيضا ، وإن كان عطفا على هذا النبي ـ فلا فائدة فيه إلا أن يدعي أنها للتنويه بذكرهم ، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى ، ثم إن كون المتبعين لابراهيم عليه‌السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر ، وكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الابراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها ، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيما جاء به ومنه الموافق (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي ، ولم يقل ـ وليهم ـ تنبيها على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليا لعباده ـ وهو الإيمان ـ بناء على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق.

ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود: الله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأخرج عيد بن حميد من طريق شهر بن حوشب قال : حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة يريدون أن يحيلوا عليك ملكك ويفسدوا عليك أرضك ويشتموا ربك فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال : ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان ـ لعمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط ـ يزعمان إنما جئتم لتحيلوا عليّ ملكي وتفسدوا عليّ أرضي فقال عثمان بن مظعون ، وحمزة : إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به ، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر ، فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانيته وترجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من


عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا : نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه وما قد سمع منه ويأمر بالمعروف ، ويأمر بحسن المجاورة ، ويأمر باليتيم ، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه إلها آخر فقرأ عليه ـ سورة الروم. والعنكبوت. وأصحاب الكهف. ومريم فلما أن ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم قال : والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى : قال يقول : إن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين فخلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة ـ يعني بلسان الحبشة ـ اللوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص : ما حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المدينة (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة ، وعمارا ، ومعاذا إلى اليهودية ، فالمراد بأهل الكتاب اليهود ، وقيل : المراد بهم ما يشمل الفريقين ، والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون ، وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى. ولعله جار مجرى الغالب ، و (مِنْ) للتبعيض ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم ، وقيل : لبيان الجنس ـ والطائفة ـ جميع أهل الكتاب وفيه بعد ، و (لَوْ) بمعنى أن المصدرية ، والمنسبك مفعول ـ ودّ ـ وجوز إقرارها على وضعها ، ومفعول ودّ محذوف ، وكذا جواب (لَوْ) والتقدير (وَدَّتْ) إضلالكم (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) لسروا بذلك ، ومعنى (يُضِلُّونَكُمْ) يردونكم إلى كفركم ـ قاله ابن عباس ـ أو يهلكونكم ـ قاله ابن جرير الطبري ـ أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ـ قاله أبو علي ـ وهو قريب من الأول (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الواو للحال ، والمعنى على تقدير إرادة الإهلاك من الإضلال أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه ، وإن كان المراد من الإهلاك الإيقاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالا فيقال : إن المراد من الإضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل ، أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم ، أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجانسون لهم ، وفيه على ما قيل : الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أمثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم ـ ولله تعالى الحمد ـ وقيل : إن معنى إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج ، ولا يخلو عن شيء (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يفطنون بكون الإضلال مختصا بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة ـ قاله أبو علي ـ وقيل : (وَما يَشْعُرُونَ) بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم ، وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل ، وقيل : المراد (لِمَ تَكْفُرُونَ) بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) الحجج الدالة على ذلك ، أو (لِمَ تَكْفُرُونَ) بما في كتبكم من (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وأنتم تشاهدون ذلك ، أو (لِمَ تَكْفُرُونَ) بالحجج الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو ـ أنتم تشدون ـ إذ خلوتم بصحة دين الإسلام ، أو (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) جميعا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي تسترونه به ، أو تخلطونه به ، والباء صلة ، وفي المراد أقوال :


أحدها أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل ـ قاله الحسن. وابن زيد ـ وثانيها أن المراد إظهارهم الإسلام وإبطانهم النفاق ـ قاله ابن عباس. وقتادة ـ وثالثها أن المراد الإيمان بموسى ، وعيسى ، والكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام ، ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه ، عن أبي علي ، وأبي مسلم ، وقرئ (تَلْبِسُونَ) بالتشديد وهو بمعنى المخفف ، وقرأ يحيى بن وثاب (تَلْبِسُونَ) وهو من لبست الثوب ، والباء بمعنى مع ، والمراد من اللبس الاتصاف بالشيء ، والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق ، وقيل : تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف وليس بشيء.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ) أي جماعة وسميت بها لأنه يسوى بها حلقة يطاف حولها (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود لبعضهم (آمِنُوا) أي أظهروا الإيمان (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه (وَجْهَ النَّهارِ) أي أوله كما في قول الربيع بن زياد :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا «بوجه نهار»

وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه ، وقيل : لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه ؛ وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم ـ قال الحسن ، والسدي ـ تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر ، وقرى عرينة ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد ـ أول النهار ـ باللسان دون الاعتقاد ـ واكتفروا آخر النهار ـ وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذاك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم فقالوا : إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون ، والتعبير بما أنزل بناء على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئا على المؤمنين ، وظاهر الآية ، يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك. وأما امتثال الأمر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه ، وعن بعضهم أن في الأخبار ما يدل على وقوعه.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين ، أحدها أن التقدير (وَلا تُؤْمِنُوا) بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى ـ وبأن يحاجوكم ـ ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم ، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين المسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى ـ بأو ـ على وزان (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] وهو أبلغ.

والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح ، وأتى بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) معترضا بين الفعل ومتعلقه ، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام أو زيادة التصلب فيه.

ويفيد أيضا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف :


٨] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري ، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي ، والمراد من التابعين المتصلب منهم ، وإلا وقع ما فروا منه ، وثانيها أن المراد (وَلا تُؤْمِنُوا) هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع ، وهم فيه أرغب وأطمع ، وعند هذا تم الكلام ، ثم قيل : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى) إلخ على هذا معللا لمحذوف أي ـ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ـ ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبرتم.

وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد ، وإنما أتى ـ بأو ـ تنبيها على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة ، وأما ـ أو ـ فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير ، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا.

ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير ـ أن يؤتى ـ بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار ، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه ؛ وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضا ، وعن الزمخشري أن (أَنْ يُؤْتى) إلخ من جملة المقول كأنه قيل : قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم ، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله ـ كأنه قيل ـ قل : إن الهدى هدى الله ، وقل ـ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ـ قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم ، وثالثها أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني ، ويجعل أن يؤتى خبر (إِنَ) و (هُدَى اللهِ) بدل من اسمها ـ وأو ـ بمعنى حتى على أنها غاية سببية ، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة ، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام ، ورابعها أن يكون (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ) إلخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون (قُلْ إِنَّ الْهُدى) إلخ أمرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم على معنى قل : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا ؛ وقرينة الإضمار أن (وَلا تُؤْمِنُوا) إلخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن ، وحمل ـ أو ـ على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون ، وقرئ ـ أن يؤتى ـ بكسر همزة إن على أنها نافية ـ أي قولوا لهم ما يؤتى ـ وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود ، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة ـ فأو ـ بمعنى حتى ، وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى) إلخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه ؛ وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه ، وأقرب إلى المساق انتهى.

«وأقول» ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا (أَنْ يُؤْتى) إلخ هو قول قتادة ، والربيع ، والجبائي لكنهم لم يجعلوا ـ أو ـ بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي. وابن جريج إلا أنهم قدروا ـ لا ـ بين أن ويؤتى ، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن ـ لا ـ ليست مما تحذف هاهنا ، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة ، والمعنى إن الهدى كراهة ـ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ـ أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين ، ولا يخفى


أنه معنى متوعر ، وليس بشيء ، ومثله ما قاله قوم من أن (أَنْ يُؤْتى) إلخ تفسير للهدى ، وأن المؤتى هو الشرع وأن (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على أوتيتم ، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل ، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال : والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان ، وجعل (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة ـ ولا يخفى ما فيه ـ واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك ـ إن اليهود قالوا : إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون ـ ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الجمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم ، والضمير المرفوع من يحاجوكم على كل تقدير عائد إلى أحد لأنه في معنى الجمع إذا المراد به غير أتباعهم.

واستشكل ابن المنير قطع (أَنْ يُؤْتى) عن (لا تُؤْمِنُوا) على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار ، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق ، ثم قال : ويمكن أن يقال : روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد في سياقه لذلك ـ وفيه تأمل ـ فتأمل وتدبر ، فقد قال الواحدي : إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة ، والمراد من الفضل الإسلام ـ قاله ابن جريج ـ وقال غيره : النبوة وقيل : الحجج التي أوتيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون ، وقيل : نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا أوليا (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي من عباده (وَاللهُ واسِعٌ) رحمة ، وقيل : واسع القدرة يفعل ما يشاء (عَلِيمٌ) بمصالح العبادة ، وقيل : يعلم حيث يجعل رسالته (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال الحسن : هي النبوة ، وقال ابن جريج : الإسلام والقرآن ، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى ، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال :

والباء بعد الاختصاص يكثر

دخولها على الذي قد قصروا

وعكسه مستعمل وجيد

ذكره الحبر الإمام السيد

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) قال ابن جبير : يعني الوافر.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) شروع في بيان نوع آخر من معايبهم ، و (تَأْمَنْهُ) من أمنته بمعنى ائتمنته والباء ، قيل : بمعنى على ، وقيل : بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم ـ قنطار من الكلام فيه ـ يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده ، وقيل : المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة ، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وروي هذا عن عكرمة ، و ـ الدينار ـ لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياء لوقوعه بعد كسرة ، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يردّ الشيء إلى أصله ، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا : ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما ، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال : إنما سمي الدينار دينارا لأنه ـ دين ونار ـ ومعناه أن من


أخذه بحقه فهو دينه ، ومن أخذه بغير حقه فله النار ، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على ـ مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار ـ وقرئ (يُؤَدِّهِ) بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ بالكسر من غير ياء ، وبالإسكان إجراء للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) استثناء من أعم الأحوال ، أو الأوقات أي (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) في حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك ، أو في وقت دوام قيامك ، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة ، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالالحاح ، والسدي بالملازمة والاجتماع معه ، والحسن بالملازمة والتقاضي ، والجمهور على ضم دال ـ دمت ـ فهو عندهم كقلت ، وقرئ بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة ، والمضارع على اللغة الأولى يدوم كيقوم ، وعلى الثانية يدام كيخاف (ذلِكَ) أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى : (لا يُؤَدِّهِ).

(بِأَنَّهُمْ قالُوا) ضمير الجمع عائد على (مِنْ) في (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) وجمع حملا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم.

أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي إنهم كاذبون ، وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن سعيد بن جبير قال : «لما نزلت «ومن أهل الكتاب» إلى قوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» والجار والمجرور متعلق بيقولون ، والمراد يفترون ، ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه ، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره (بَلى) جواب لقولهم ليس علينا في الأميين سبيل ، وإيجاب لما نفوه ، والمعنى (بَلى) عليهم في الأميين سبيل.

(مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها (بَلى) حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا ، و (مَنْ) إما موصولة أو شرطية ، و (أَوْفى) فيه ثلاث لغات : إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها ، والضمير في ـ عهده ـ عائد على (مَنْ) وقيل : يعود على (اللهِ) فهو على الأول مصدر مضاف لفاعله ، وعلى الثاني مصدر مضاف لمفعوله ، أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على (مَنْ) من الجملة الثانية ، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان (الْمُتَّقِينَ) من (أَوْفى) وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان المتقين عاما ؛ وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرءوس الآي ، ورجح الأول بقوة الربط فيه ، وقال ابن هشام : الظاهر أنه لا عموم وأن (الْمُتَّقِينَ) مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا ، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله ، ويدل عليه (فَإِنَّ اللهَ) إلخ ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه ، وقوله : الظاهر إنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير (بِعَهْدِهِ) إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين.


(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) أخرج الستة ، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس : في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألك بينة؟ قلت : لا فقال لليهودي : احلف. فقلت : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ)» إلخ.

وأخرج البخاري ، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية.

وأخرج أحمد ، وابن جرير ـ واللفظ له ـ عن عدي بن عميرة قال : كان بين امرئ القيس ورجل من حضر موت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «فقال للحضرمي : بينتك وإلا فيمينه قال : يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس : يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال : الجنة قال : فإني أشهدك إني قد تركتها» فنزلت ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع. ولبابة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف. وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة ، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.

والمراد ـ يشترون ـ يستبدلون ، وبالعهد أمر الله تعالى ، وما يلزم الوفاء به ، وقيل : ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق ، و ـ الأيمان ـ الأيمان الكاذبة ، و ـ بالثمن القليل ـ الأعواض النزرة ، أو الرشا ، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم ـ قاله الجبائي ـ أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم ، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده ، واستظهر أن يكون ذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم.

(وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل ـ انظر إليّ ـ يريد ارحمني ، وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر ، وفي الكشف إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أو لا غير واضحة بخلاف لمعنى المكنى عنه ، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر.


والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة ـ قاله القاضي ـ وقال الجبائي : لا ينزلهم منزلة الأزكياء ، وقيل : لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع ، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاء بالأول ، وقيل : إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناء على أن الآية في اليهود.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي يحرفونه ـ قاله مجاهد ـ وقيل : أصل ـ اللّي ـ الفتل من قولك : لويت يده إذا فتلتها ، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر :

تطيلين لياني وأنت «ملية»

وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا

وفي الخبر «ليّ الواجد ظلم» فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد ، وقريب منه ما قيل : إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب ، و ـ الألسنة ـ جمع لسان. وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث ، ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن ، ومن ذكره جمعه على ألسنة ، وعن الفراء أنه قال : اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي ؛ والباء صلة ، أو للآلة ، أو للظرفية ، أو للملابسة ، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب ، وقرأ أهل المدينة ـ يلوون ـ بالتشديد فهو على حد (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) [المنافقون : ٥] وعن مجاهد وابن كثير ـ يلون ـ على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل ، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة ، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف ، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا.

نعم قرئ ـ يلؤون ـ بالهمز في الشواذ وهو يؤيده ، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير ، وأما جعله من ـ الولي ـ بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.

(لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه ـ باللي ـ أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، وقرئ ليحسبوه بالياء والضمير أيضا للمسلمين.

(وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) ولكنه من قبل أنفسهم (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف ، أو المشابه نازل من عند الله (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي وليس هو نازلا من عند الله تعالى ، و ـ الواو ـ للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر ، وفي جملة (وَيَقُولُونَ) إلخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف ، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه ، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم هو من عند الله تعالى لكن الله ردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف منه عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله ، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا.

والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إلى نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه ، ونفي


الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العبادة مخلوقة لهم لا لله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ ، وقيل : (يَعْلَمُونَ) ما عليهم في ذلك من العقاب ، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه ، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود ، وهم كعب بن الأشرف ، ومالك ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.

واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة أو تأويلا باطلا للنصوص ، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا ، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم : «ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال.

وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال التواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته ، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره ، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل إن يكون قولا عن اجتهاد ، أو ناشئا عن عدم استقراء تام ، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض ، فإنها أربعة أناجيل : الأول إنجيل متى وهو من الاثني عشر الحواريين ـ وإنجيله باللغة السريانية ـ كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدد إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا ، والثاني إنجيل مرقس وهو من السبعين ـ وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة ـ وعدد إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا ، والثالث إنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا ـ كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الاسكندرية بعد ذلك ـ وعدد إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا ، والرابع إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح ـ كتب إنجيله بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة ـ وعدد إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا. وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر ، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها ، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلا ، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه ، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال : إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له : أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح : يا سيدي اذكرني في ملكوتك فقال : حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس. ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر ، وأغفل هذه القصة مرقس ، ويوحنا ، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع : إن ابن الإنسان لم


يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيي وخالفه أصحابه ، وقالوا بل قال : إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا ، ولا شك أن هذا تناقض ، أحدهما يقول جاء رحمة للعالمين ، والآخر يقول : جاء نقمة على الخلائق أجمعين ، ومن ذلك أن متى قال : قال يسوع للتلاميذ الاثني عشر : أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبطا إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال : مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع : الويل له خير له أن لا يولد ، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال : أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا : يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماء وغسل يديه وقال : أنا بريء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر ، وأكذب يوحنا ذلك فقال : لما حمل يسوع إليه قال لليهود : ما تريدون؟ قالوا : يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول ، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخريهم :

وإذا كان في الأنابيب حيف

وقع الطيش في صدور الصعاد

ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب؟!

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه ، وقيل : تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه‌السلام.

وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى الآية.

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال : «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» فنزلت ، وأخرج ابن أبي حاتم قال : «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال : ما كان لبشر» إلخ ، والمعنى ما يصح ، وقيل : ما ينبغي ، وقيل لا يجوز لأحد ، وعبر بالبشر إيذانا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام.

والجار خبر مقدم ـ لكان ـ والمنسبك من (أَنْ) والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه ، وعطف الفعل على منصوب أن ـ بثم ـ تعظيما لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة ، وقد تقدم معناها ، و ـ العباد ـ جمع عبد قال القاضي : وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى ، ولهذا يقال : هؤلاء عبيد زيد ولا يقال : عباده ، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عبادا كائنين (لِي)


و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بلفظ (عِباداً) لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا ـ كما قال الجبائي ـ فإن التجاوز متحقق فيهما حتما ، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) إثبات لما نفي سابقا ، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل : ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين ، فالفعل هنا منصوب أيضا عطفا عليه ، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول ، وقيل : يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) وفسر علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس الرباني بالفقيه العالم ، وقتادة. والسدي بالعالم الحكيم ، وابن جبير بالحكيم التقي ، وابن زيد بالمدبر أمر الناس ـ وهي أقوال متقاربة ، وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح.

وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كإلهي ، والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا ـ كلحياني ـ لعظيم اللحية ، والجماني لوافر الجمة ، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة ، وقيل : إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربى (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) الباء السببية متعلقة ـ بكونوا ـ أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له ، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر ، وقيل : متعلقة ـ بربانيين ـ لأن فيه معنى الفعل ، وقيل بمحذوف وقع صفة له ـ والدراسة ـ التكرار يقال : درس الكتاب أي كرره ، وتطلق على القراءة ، وتكرير (بِما كُنْتُمْ) للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم ، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر «كان» مضارعا بالفضل ، وتحصيل الربانية ، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها ، أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم ، والثاني لمن دونهم ، وقيل : لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن ، ومتعلق الدراسة الفقه ـ وفيه بعد بعيد ـ وإن أشعر به كلام بعض السلف.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، ومجاهد «تعلمون» بمعنى عالمين ، وقرئ «تدرّسون» بالتشديد من التدريس ، وتدرسون من الإدراس بمعناه ، ومجيء أفعل بمعنى فعل كثير ، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، ويعقوب «ولا يأمركم» بالنصب عطفا على يقول ، (وَلا) أما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل ، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة (وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فهو كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي ، وإما غير زائدة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة ، والمسيح ، وعزير عليهم‌السلام فلما قيل له : أنتخذك ربا؟ قيل لهم : «ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له : ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي» وعلى هذا يكون المقصود ـ من عدم الأمر ـ النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ ، بالمقصود وأوفق للواقع ، وقرأ باقي السبعة (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالرفع على الاستئناف ، ويحتمل الحالية ، وقيل : والرفع على الاستئناف أظهر ، وينصره قراءة «ولن يأمركم» ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي ، وبأن العطف يستدعي تقديمه على (لكِنْ) وكذا الحالية أيضا.

وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراءات ضمير الفاعل عائد على ـ بشر ـ وجوز


عوده في بعضها على الله تعالى ، وجوز الأمران أيضا في قوله تعالى : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عاما (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين «أفلا نسجد لك؟» بناء على الظاهر ، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا ، والقول ـ بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة ـ في غاية السقوط كما لا يخفى.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أي اذكر وقت ذلك ـ واختار السمين كونه معمولا «لأقررتم» الآتي ، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب (أَأَقْرَرْتُمْ) بعد تحقق أخذ الميثاق ، وفيه تردد ، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) كما نقله الطبرسي بعيد.

واختلف في المراد من الآية فقيل : إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لم يبعث الله تعالى نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم ، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين ، وقيل : إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل ، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم ـ وإلى هذا ذهب ابن عباس ـ فقد أخرج ابن المنذر. وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرءون «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم» إلخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس : إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم ، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر ، وغيره أن (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) خطأ من الكتاب ـ وأن الآية كما قرأ عبد الله ـ وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح ، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه ـ في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية ـ وقيل : المراد أمم النبيين على حذف المضاف ، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه ؛ وقيل : المضاف المحذوف أولاد ، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم ، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها ـ وهي قراءة أبي بن كعب ـ أيضا ، وقيل : المراد ـ وإذ أخذ الله ميثاقا مثل ميثاق النبيين ـ أي ميثاقا غليظا على الأمم ، ثم جعل ميثاقهم نفس ميثاقهم بحذف أداه التشبيه مبالغة ، وقيل : المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكما لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون وكانوا منا ، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة : يا أمين ما ذا صنعت بأمانتي؟؟ وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدا إذ لا قرينة تبين ذلك ، وأجيب بأن القائل به لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية ، وقيل : إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين ، ثم بينه بقوله سبحانه : (لَما آتَيْتُكُمْ) إلخ ولا يخفى أن هذا أيضا من البعد بمكان ، وقال الشهاب : لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل ، واختار كثير من العلماء القول الأول ، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله تعالى عليه وسلم ـ على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته ـ لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له


صلى الله تعالى عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب ، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان ـ كما عليه البعض ـ ويؤيد القول ـ بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به ـ ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل ، وإما أن تكذبوا بحق وأنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا ، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي ، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه. ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول : قال غير واحد : اللام في (لَما آتَيْتُكُمْ) على قراءة الفتح والتخفيف ـ وهي قراءة الجمهور ـ موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع ، وعرفها النحاة كما قال الشهاب : بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء ـ إن ـ وغيرها لكنها غلبت في ـ إن ـ بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا لتؤذن أن الجواب له لا للشرط ـ كقولك : لئن أكرمتني لأكرمنك ـ ولو قلت أكرمك ، أو فإني أكرمك ، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب ـ وخالفه الفراء فيه ـ فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور ـ وخالف فيه بعض النحاة ، قال : يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقا أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود : إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة ، ونقله الأزهري عن الأخفش ، وذكر أن ثعلبا غلطه فيه فالمسألة خلافية ، و ـ ما ـ شرطية في موضع نصب ـ بآتيت ـ والمفعول الثاني ضمير المخاطب ، و (مِنْ) بيان ـ لما ـ واعترض بأن حمل (مِنْ) على البيان شائع بعد الموصولة ، وأما بعد الشرطية محتاج لما ذكر ، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة ، وفي جنى الداني.

ومن الناس من قال : إن (مِنْ) تزاد بالشروط في غير باب التمييز ، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درّك من رجل ، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي : يجوز ان تكون (مِنْ) تبعيضية ذكرت لبيان ما الشرطية ، أو زائدة داخلة على التمييز ، و (لَتُؤْمِنُنَ) جواب القسم وحده على الصحيح ، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادّا مسد الجوابين ، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول لا محل له ، والثاني له محل ، والقول : بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم ، وجوزوا كون ما موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء ، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة ـ كما مر ـ وهي على هذا التقدير مبتدأ ، والخبر إما مقدر أو جملة (لَتُؤْمِنُنَ) مع القسم المقدر ، والكلام في مثله شهير ، وأورد عليه أن الضمير في (بِهِ) إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم ، والمقصود من الآية أخذ الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته ، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا دفعا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد ، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول ، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير (بِهِ) راجعا للرسول مع ملاحظة (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) القائم مقام الضمير العائد على ما اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في


خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض ، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في الروض الانف ، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه ، وما هو معهم ، وفي ذلك إشكال ـ لأن آتيناكم ، وجاءكم ـ إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد ـ بما آتيناكم ـ القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها ، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقا للقرآن وهو لازم عى ذلك التقدير. وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجئ إذ ذاك ، وإن كان الفعل الأول ماضيا. والثاني مستقبلا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظا ، وفيه نوع بعد ، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره ، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب ، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفا ـ أي جاءكم به ـ مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته ؛ والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي ، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك ، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة ، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى ، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقا لما معكم كالمستغني عنه فتدبر.

وقرأ حمزة ـ لما آتيتكم ـ بكسر اللام على أن ما مصدرية ـ واللام ـ جارّة أجلية متعلقة ـ بلتؤمنن ـ أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه ، واعترض بأن فيه إعمال ما بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز ، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه ، ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفا لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، نعم الأولى حسبما للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف. وجوز أن تكون ما في هذه القراءة موصولة أيضا. والجار متعلق ـ بأخذ ـ وروي عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ ـ لما آتيتكم ـ بالتشديد. وفيها احتمالان : الأول أن تكون ظرفية بمعنى حين ـ كما قاله الجمهور ـ خلافا لسيبويه ، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم ـ كما ذهب إليه الزمخشري ـ أي ـ لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته ـ وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها ـ أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ـ وكذا وقع في تفسير الزجاج ، و «مآل» معناها التعليل ، الثاني أن أصلها من «ما» فأبدلت النون ميما لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها ، ورجحه أبو حيان في البحر.

وزعم ابن جني أنها الأولى ، ونظر فيه الحلبي ، و (مِنْ) إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش ، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل : وهو الأصح ـ لاتضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف ـ واللام إما زائدة ، أو موطئة بناء على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط ، وقرأ نافع ـ آتيناكم ـ على لفظ الجمع للتعظيم ، والباقون ـ آتيتكم ـ على التوحيد ، ولكل من القراءتين حسن من جهة ـ فافهم ذاك ـ فبعيد أن تظفر بمثله يداك (قالَ) أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق ، أو مقول بعده للتأكيد (أَأَقْرَرْتُمْ) بذلك المذكور (وَأَخَذْتُمْ) أي قبلتم على حدّ (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) [المائدة : ٤١].

وقيل : معناه هل أخذتم (عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) على الأمم ـ والإصر ـ بكسر الهمزة العهد كما قال ابن عباس ،


وأصله من ـ الإصار ـ وهو ما يعقد به ويشد. وكأنه إنما سمي العهد بذلك لأنه يشد به. وقرئ بالضم. وهو إما لغة فيه ـ كعبر وعبر ـ في قولهم ناقة عبر أسفار. أو هو بالضم جمع ـ إصار ـ استعير للعهد. وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر ، أو للمبالغة (قالُوا) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قالوا : عند ذلك؟ فقيل : قالوا : (أَقْرَرْنا) ، وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاء بالأول (قالَ) أي الله تعالى لهم (فَاشْهَدُوا) أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار ، فاعتبر المقر بعضا ، والشاهد بعضا آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد ، وقيل : الخطاب فيه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم. ونسب ذلك إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه ، وقيل : للملائكة فيكون ذلك كناية عن غير مذكور. ونسب إلى سعيد بن المسيب (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي على إقراركم وتشاهدكم ـ على ما يقتضيه المعنى ـ لأنه لا بد في الشهادة من مشهود عليه. وهنا ما ذكرناه (١) للمقام. وعن ابن عباس إن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم. وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم ، والجار والمجرور خبر ـ أنا ـ و (مَعَكُمْ) حال ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير (فَاشْهَدُوا فَمَنْ تَوَلَّى) أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته ـ قاله علي كرم الله وجهه ـ (بَعْدَ ذلِكَ) أي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من مراعى معناه كما روعي من قبل لفظها (هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه ، والمشهور عدم دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية ، أو ما هي في حكمها لأنهم أجلّ قدرا من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا ، وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى أتباعهم. وجوز أن يراد العموم. والآية من قبيل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ

__________________

(١) كذا بخطه رحمه‌الله ، ولعله ـ وهو ما ذكرناه ـ كما يستفاد من عبارة الشهاب كتبه مصححه.


أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٩٢)

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال : «اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه‌السلام كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء ، وقيل : على الجزاء فقط ، وعطف الإنشاء على الإخبار مغتفر هنا عند المانعين ، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للإنكار ، وقيل : إنها معطوفة على محذوف تقديره ـ أيتولون فغير دين الله يبغون ـ قال ابن هشام : والأول مذهب سيبويه ، والجمهور ، وجزم به الزمخشري في مواضع ، وجوز الثاني في بعض ـ ويضعفه ما فيه من التكلف ـ وأنه غير مطرد ، أما الأول فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم : أقل لفظا مع أن في هذا التجوز تنبيها على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر ، وأما الثاني فلأنه غير ممكن في نحو (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] انتهى.

وتعقبه الشمس ابن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات ـ فمن هو قائم على كل نفس ـ على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع ، والمعنى ـ أينتفي المدبر فلا أحد قائم على كل نفس ـ ولا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو ـ وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني ـ أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه ، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي ، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال : إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل) بالتقدير ، وإلا قيل بما قاله الجماعة ، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله ربا ولو معه ، ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب ، فالتقديم للتخصيص ، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب ـ تكلف ، وقول أبي حيان : إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه يبغون بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية الحفص ، ويعقوب ـ يبغون ـ بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى ـ أتتولون ـ أو ـ أتفسقون ، وتكفرون فغير دين الله تبغون ـ وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير ، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة حالية مؤكدة للإنكار ـ أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه ، والحالة هذه (طَوْعاً وَكَرْهاً) مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين ، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأن أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل: وفيه نظر لأنه ظاهر في (طَوْعاً) لموافقة معناه ما قبله لا في (كَرْهاً) والقول : بأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع ، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضا ، والطوع مصدر طاع يطوع ، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما ، وقيل : طاعه يطوعه انقاد له ، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره ، وطاوعه بمعنى وافقه ، وفي معنى الآية أقوال : الأول أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشئ عن العلم مطلقا سواء كان حاصلا للاستدلال كما في الكثير منا ، أو بدون استدلال وإعمال فكر ـ كما في الملائكة ـ ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلا بالسيف ومعاينة ما


يلجئ إلى الإسلام ، الثاني أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره ـ كالملائكة ، والمؤمنين ـ ومسخرين لإرادته ؛ كالكفرة ـ فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم إذ لا يقع ما لا يريده تعالى ، وهذا لا ينافي على ما قيل : الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولا بمذهب الجبرية ، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناء على أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم ، الثالث ما أشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعا هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية ، والإسلام كرها هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط ، والأول مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار ، والثاني مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنبا إلى جنب حتى غدا يقول :

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعا أيضا إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦](وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت : ٢٩] وإلى هذا يشير كلام مجاهد ، وأخرج ابن جرير ، وغيره عن أبي العالية أنه قال : كل آدمي أقر على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها ، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعا ، وقرأ الأعمش ـ «كرها» ـ بالضم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه ، ولا تخالفوا الإسلام ، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد ، وأن تكون معطوفة على (وَلَهُ أَسْلَمَ) فهي حالية أيضا ، وقرأ عاصم بياء الغيبة ، والضمير ـ لمن ـ أو لمن عاد إليه ضمير (يَبْغُونَ) فإن قرئ بالخطاب فهو التفات ، وقرأ الباقون بالخطاب ، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير (يَبْغُونَ) فعلى الغيبة فيه التفات أيضا (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) أمر للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالإيمان بما ذكر ، فضمير آمنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة ، وقال المولى عبد الباقي : لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه أمر محمدا أيضا صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون (آمَنَّا) في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام ، أو لما عهد مع النبيين وأممهم أن يؤمنوا أمر محمدا عليه الصلاة والسلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم.

والحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة ، أو للإشارة إلى أن شريعتهم منسوخة في زمن هذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة والسلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف ، ويؤيد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال : أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن المنزل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم أولا وعليهم بواسطة تبليغه إليهم ، ومن هنا أتى بضمير الجمع ، وقد يعتبر الإنزال عليه الصلاة والسلام وحده ، ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجازا على ما قيل ، ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة ، وعدي الإنزال هنا ـ بعلى ـ وفي البقرة ـ بإلى ـ لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه ، وانتهاء باعتبار آخره ، وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم فناسب الانتهاء كذا قيل ، ويرد عليه قوله تعالى :


(آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ٧٢] والتحقيق أنه لا فرق بين المعدى ـ بإلى ـ والمعدى ـ بعلى ـ إلا بالاعتبار ، فإن اعتبرت مبدأه عديته ـ بعلى ـ لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاء إلى من هو له عديته ـ بإلى ـ ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفننا بالعبارة ، وفرق الراغب بأن ما كان واصلا من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ ـ على ـ المختص بالعلو أولى به ، وما لم يكن كذلك كان لفظ ـ إلى ـ المختص بالإيصال أولى به وقيل : أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره ، وأنزل اليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال ـ وكلا القولين ـ لا يخلو عن نظر (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) قيل : خص هؤلاء الكرام بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم ، والمراد بالموصول الصحف ـ كما هو الظاهر ـ وقدم المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على المنزل عليهم إما لتعظيمه والاعتناء به ، أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف ، والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات ، والمراد بهم على رأي أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم ، وليس كلهم أبناء خلافا لزاعمه (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة ، والإنجيل ، وسائر المعجزات ـ كما يشعر به إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب ـ وقيل : هو خاص بالكتابين ، وتغيير الأسلوب للاعتناء بشأن الكتابين ، وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى (وَالنَّبِيُّونَ) عطف على موسى ، وعيسى أي ـ وبما أوتي النبيون ـ على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بأوتي ، وفي التعبير بالرب مضافا إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي بالتصديق والتكذيب ـ كما فعل اليهود والنصارى ـ والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه ، أو مخلصون له في العبادة ، وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الإيمان كما هو ظاهر ، وقيل : إن أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا كلهم يقرون بالإيمان ولم يكونوا يقرون بلفظة الإسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) نزلت في جماعة ارتدوا كانوا اثني عشر رجلا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا ، منهم الحرث بن سويد الأنصاري ، والإسلام قيل : التوحيد والانقياد ، وقيل : شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله تعالى عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه ، وقبول الشيء هو الرضا به وإثابة فاعله عليه ، وانتصاب (دِيناً) على التمييز من (غَيْرَ) وهي مفعول (يَبْتَغِ) وجوز أن يكون (دِيناً) مفعول (يَبْتَغِ) و (غَيْرَ) صفة قدمت فصارت حالا ، وقيل : هو بدل من (غَيْرَ الْإِسْلامِ) والجمهور على إظهار الغينين ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الأولى تدل على الياء المحذوفة (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم ، وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب ، وإما مستأنفة فلا محل لها من الإعراب ، و (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ـ أي وهو خاسر في الآخرة ـ أو متعلق ـ بالخاسرين ـ على أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف ، والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب ، وقيل : أصل الخسران ذهاب رأس المال ، والمراد به هنا تشييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار إليها في حديث «كل مولود يولد على الفطرة» وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقق ضده (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨] والتعبير ـ بالخاسرين ـ أبلغ من التعبير بخاسر كما أشرنا إليه فيما قبل ؛ وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله ، والمعنى ـ وهو من جملة الواقعين في الخسران ـ واستدل بالآية على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل ، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله ، وأجيب بأن (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ينفي قبول كل دين يباين دين الإسلام والإيمان ، وإن كان (غَيْرَ الْإِسْلامِ)


لكنه لا يغاير دين الإسلام بل هو هو بحسب الذات. وإن كان غيره بحسب المفهوم ، وذكر الإمام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة وقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] يدل على المغايرة ، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي ، والثانية على الوضع اللغوي (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) إلى الدين الحق (قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) أخرج عبد بن حميد ، وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله ، وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب ، والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا ، والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم ـ أي يدلهم دلالة موصلة ـ لا مطلق الدلالة قاله بعضهم ، وقيل : إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا ، وقيل : إن الآية على طريق التبعيد كما يقال : كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره ، وقيل : إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى؟! (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ) وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (حَقٌ) لا شك في رسالته (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه ، وقيل : القرآن ، وقيل : ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام ، (وَشَهِدُوا) عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا ، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) [الحديد : ١٨] لا على التوهم كما نوهم ؛ واختار بعضهم تأويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي «إن شهدوا» أي وشهادتهم على حد قوله :

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحب إلي من لبس الشفوف

وإلى هذا ذهب الراغب ، وأبو البقاء ، وجوز عطفه على (كَفَرُوا) وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة عليه ، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه ، أو قبله ؛ وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر ، وقيل : يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر ، وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معا ، ومن الناس من جعله معطوفا على (كَفَرُوا) ولم يتكلف شيئا مما ذكر ، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول ، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في (كَفَرُوا) وقد معه مقدرة ، ولا يجوز أن يكون العامل ـ يهدي ـ لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه ، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان ، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلا في حقيقة الإيمان خلا ذكره عن الفائدة ، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه ، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله ، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والأمر حينئذ واضح فتدبر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق ، وعرفه ثم أعرض عنه ؛ ويجوز حمل الظلم على مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولا أوليا ، والجملة اعتراضية أو حالية (أُولئِكَ) أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ ، وقوله سبحانه : (جَزاؤُهُمْ) أي جزاء فعلهم


مبتدأ ثان ، وقوله عزّ شأنه : (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) خبر المبتدأ الثاني ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل : وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم ، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم ، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خباثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم ، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم ـ كشارب خمر معين مثلا مشهور ـ والنووي على جوازه استدلالا بما ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله تعالى من فعل هذا وبما صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها ، وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضا ، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك ـ والاحتياط لا يخفى ـ والمراد من ـ الناس ـ إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة ، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق ، وإن لم يكن غير متبع بناء على زعمه (خالِدِينَ فِيها) حال من الضمير في (عَلَيْهِمْ) والعامل فيه الاستقرار ، والضمير المجرور ـ للعنة ـ أو للعقوبة ، أو للنار ، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاء بدلالة اللعنة عليها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر ، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم ، والجملة إما مستأنفة ، أو في محل نصب على الحال.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان (وَأَصْلَحُوا) أي دخلوا في الصلاح بناء على أن الفعل لازم من قبيل ـ أصبحوا ـ أي دخلوا في الصباح ، ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف ـ أي أصلحوا ما أفسدوا ـ ففيه إشارة كما قيل : إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد ، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق ، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم ، فالظاهر أنه ليس تقييدا بل بيان لأن يصلح ما فسد. وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها ، فالمآل واحد عند التحقيق.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فيغفر كفرهم ويثيبهم ، وقيل : (غَفُورٌ) لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم «رحيم» بهم في الآخرة بالعفو عنهم ـ ولا يخفى بعده ـ والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال عطاء وقتادة : نزلت في اليهود ؛ كفروا بعيسىعليه‌السلام ، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن ، وقيل : في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه ، ثم كفروا به بعد مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصد عن السبيل ، ونسب ذلك إلى الحسن ، وقيل : في أصحاب الحارث بن سويد فإنه لما رجع قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث ، وقيل : في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الإسلام ، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانئ.

و (كُفْراً) تمييز محول عن فاعل ، والدال الأولى في (ازْدادُوا) بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) قال الحسن ، وقتادة ، والجبائي : لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب ، وإنما كانت نفاقا ، وقيل : إن هذا من قبيل* ولا ترى الضب بها ينجحر* أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية ـ كما قال العلامة ـ دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم ، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى ، وقيل : إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع


إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال : هؤلاء اليهود. والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة ، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول.

(وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) عطف إما على خبر (إِنَ) فمحلها الرفع ، وإما على (إِنَ) مع اسمها فلا محل لها ، و (الضَّالُّونَ) المخطئون طريق الحق والنجاة ، وقيل : الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم أيضا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي على كفرهم.

(فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ) من مشرقها إلى مغربها (ذَهَباً) نصب على التمييز ، وقرأ الأعمش ـ ذهب ـ بالرفع ، وخرج على البدلية من (مِلْءُ) أو عطف البيان ، أو الخبر لمحذوف ، وقيل : عليه إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة ، وجعله خبرا إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة ، أو حالا ولا يخلو عن ضعف ، و (مِلْءُ) الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه ، وأما (مِلْءُ) بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة وهنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر (إِنَ) هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهرا؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر ، وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال : من جاءني له درهم كان إقرارا بخلاف ما لو قرنه بالفاء ـ كما هو معروف بين الفقهاء ـ ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت دونها غول

وقد فصل ذلك في المعاني ؛ وقرئ ـ «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض» ـ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ـ ملء ومل الأرض ـ بتخفيف الهمزتين (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) قال ابن المنير في الانتصاف : إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك : أكرم زيدا ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره ـ أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء ـ إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى ؛ ومنه (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النساء : ١٣٥] فإن معناه ـ والله تعالى أعلم ـ لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب ، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى ، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم ـ بملء الأرض ذهبا ـ هي أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ـ خاض المفسرون بتأويلها ـ فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الأول : أن عدم قبول ـ ملء الأرض ـ كناية عن عدم قبول فدية ما لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويرا للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف ، وفي الضمير يراد (مِلْءُ الْأَرْضِ) على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى ـ بملء الأرض ذهبا ـ ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما ، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها ، وحاصل الثاني : إن المراد


ولو افتدى بمثله معه كما صرع به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضا كأنه قيل : لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف ، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع ، وتقدير مثل بعده أي مع مثله ، وحاصل الثالث : إنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقا به ، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطا محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه ـ ملء الأرض ذهبا لو تصدق ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه ـ وضمير (بِهِ) للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] ، وعندي درهم ونصفه انتهى ، ولا يخفى ما في ذلكمن الخفاء والتكلف ، وقريب من ذلك ما قيل : إن الواو زائدة ، ويؤيد ذلك أنه قرئ في الشواذ بدونها وكذا القول : بأن (لَوِ) ليست وصلية بل شرطية ، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده ، وذكر ابن المنير في الجواب مدعيا أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) تكون على أحوال تارة تؤخذ قهرا كأخذ الدية ، وكرة يقول المفتدي : أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل ، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهي أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختيارا ، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله : أبذل المال وأقدره عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة ، وقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) [المائدة : ٣٦] مصرح بذلك ، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المذلق لا يقدرون على شيء ، ونظير هذا قولك : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي انتهى. وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلا : إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن (لَوِ) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصار وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنا لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام : «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» «وردوا السائل ولو بظلف محرق» كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتي بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به. وكذلك حالة الافتداء يناسب أن يقبل منه (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) لكنه لا يقبل ، ونظيره (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧] لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له.

هذا وقد أخرج الشيخان. وابن جرير ـ واللفظ له ـ عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول : نعم فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) اسم الإشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل ، ويجوز أن يكون (لَهُمْ) خبرا مقدما ، و (عَذابٌ) مبتدأ مؤخرا ، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن ، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) في رفع العذاب أو تخفيفه ، و (مِنْ) مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو


جمع خلافا لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد ، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير ، وفيها توافق الفواصل ، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد.

«ومن باب الإشارة» (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوي فإن ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط (ما كانَ إِبْراهِيمُ) الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه (وَلا نَصْرانِيًّا) قائلا بالتثليث (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن الكون برؤية المكون (مُسْلِماً) منقادا عند جريان قضائه وقدره ، أو ذاهبا إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضره القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَهذَا النَّبِيُ) العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم (أَوْلَى) أيضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته (وَالَّذِينَ آمَنُوا) به صلى الله تعالى عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراره (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) جعله أهل الله سبحانه خطابا للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم (قُلْ إِنَّ الْهُدى) أعني (هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من علم الباطن ، أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر.

وحاصل المعنى (إِنَّ الْهُدى) الجمع بين الظاهر ، والباطن. وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلم التابع للمعلوم في أزل الآزال (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) الخاصة (مَنْ يَشاءُ) من عباده وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي لا يكتنه (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) وهو عهد الروح بنعت الكشف ؛ وعهد القلب بتلقي الخطاب ، وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي (وَاتَّقى) من خطرات النفوس وطوارق الشهوات (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية إشارة إلى من مال إلى حضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرئاسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيقا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوبا بها ، وبين الأمرين تناقض ولكن يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي منسوبين إلى الرب ، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب ، ولهم في الرباني عبارات كثيرة ، فقال الشبلي : الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه ، وقال سهل : الرباني الذي لا يختار على ربه حالا ، وقال القاسم : هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما ، وقيل : هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده. وقيل : هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها «وقيل : وقيل :» وكل الأقوال ترد من منهل واحد،


(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها ، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة ، وقيل : إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم ، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) إلخ (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس ، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك (طَوْعاً) باختياره وشعوره (وَكَرْهاً) من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الأغيار ، ولهذا سقط عن درجة القبول (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) في العاقبة حين يكشف عن ساق (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) وهو التوحيد (دِيناً) له (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) ويوم القيامة الكبرى (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة ، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي ، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) ولله در من قال :

إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت

ظنون مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر

وموسى الذي رباه فرعون مرسل

هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم ـ إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم ، و ـ تنال ـ من تنال نيلا إذا أصاب ووجد ، ويقال : نال العلم إذا وصل إليه واتصف به ، (الْبِرَّ) الإحسان وكمال الخير ، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك ، والخير هو النفع مطلقا وإن وقع سهوا ، وضد (الْبِرَّ) العقوق ، وضد الخير الشر ، و ـ أل ـ فيه إما للجنس والحقيقة ، والمراد لن تكونوا أبرارا حتى (تُنْفِقُوا) وهو المروي عن الحسن ، وإما لتعريف العهد ، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا ، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء.

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير (الْبِرَّ) بالجنة ، وروي مثله عن مسروق ، والسدي ، وعمرو بن ميمون ، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي ـ لن تنالوا ثواب البر ، و (حَتَّى) بمعنى إلى ، و ـ من ـ تبعيضية ، ويؤيده قراءة عبد الله بعض ما تحبون ، وقيل : بيانية ، وعليه أيضا لا تخالف بين القراءتين معنى ، و «ما» موصولة ، أو موصوفة ، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي.

وفي المراد من قوله سبحانه : (مِمَّا تُحِبُّونَ) أقوال ، فقيل المال وكني بذلك عنه لأن جميع الناس يحبون ، وقيل : نفائس الأموال وكرائمها ، وقيل : ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها ، والإنفاق على هذا مجاز ، وعلى الألين حقيقة وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى ، فقد أخرج الشيخان ، والترمذي ، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان


أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله تعالى يقول: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي رواية لمسلم. وأبي داود «فجعلها بين حسان بن ثابت ، وأبي بن كعب».

وأخرج ابن أبي حاتم ، وغيره عن محمد بن المنكدر قال : «لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال : هي صدقة فقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال : إن الله تعالى قد قبلها منك».

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال : «حضرتني هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) إلخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعوذ في شيء جعلته لله تعالى نكحتها فأنكحتها نافعا ، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له : لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا فيقول : أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وأن ابن عمر يحب السكر.

وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب ، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل : لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم ـ وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه ، فقول النيسابوري : إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ناشئ من قلة التأمل ، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن ، وحبر الأمة ، ونقل الواحدي عن مجاهد. والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة ، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى ، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله برّ الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك ، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب ، وقيل : الأولى أن يكون المراد (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الكامل الواقع على أشرف الوجوه (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله برّ الله تعالى الكامل بأهل طاعته ، وقيل : الأولى من هذا الأولى أن يقال : إن المراد (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) على الإنفاق (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر ، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب ، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها ، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق بارا أو نائلا برّ الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى ، وربما تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البرّ ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه الإنفاق المجرد منه ؛ وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر ، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) أي أي شيء تنفقونه من الأشياء ، أو أي شيء تنفقوا طيب تحبونه ، أو خبيث تكرهونه ـ فمن ـ على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط ، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه ـ أي فيجازيكم بحسبه ـ فإنه تعالى (عَلِيمٌ) بكل ما تنفقونه ، وقيل: إنه


جواب الشرط ، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجود على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها ، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل ، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل : وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة (١).

__________________

(١) تم بحمده تعالى وحسن معونته طبع الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله «كل الطعام».



روح المعاني

الجزء الرابع



بسم الله الرحمن الرحيم

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٩٧)

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) روى الواحدي عن الكلبي أنه حين «قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه‌السلام فنحن نحله فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم» والطعام بمعنى المطعوم ، ويراد به هنا المطعومات مطلقا أو المأكولات وهو لكونه مصدرا منعوتا به معنى يستوي فيه الواحد المذكر وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضي : إنه يقال : رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى ، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام ، والحل مصدر أيضا أريد منه حلالا ، والمراد الاخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الإنفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام.

و (إِسْرائِيلَ) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وعن أبي مجلز أن ملكا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) قال مجاهد : حرم لحوم الأنعام ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر ، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه ، وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكل أبدا ، وقيل : حرمه على نفسه تعبدا وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك ، ونسب هذا إلى الحسن ، وقيل : إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد ، اللذائذ على نفسه.

وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه ، وقال بعض : كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم ، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده ، وقيل : منقطع ، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى : (كانَ حِلًّا) ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز ، وذلك على


مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا أو حالا ، وقيل : متعلق بحرم ، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه ، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجا وتضييقا ، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف ، والتقدير (كانَ حِلًّا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل : متى كان حلا؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدا للحل.

ولا يخفى ما فيه ، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم ، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعي عليهم قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) [النساء : ١٦٠] وقوله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [الأنعام : ١٤٦] الآيتين ، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه‌السلام على ما دل عليه سبب النزول.

وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب عليه‌السلام ، وقال الكلبي : لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة ، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم. فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا وصب عليهم رجزا ، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئا من ذلك في التوراة ولا بعدها ، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله ، وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها ، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا.

وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة (فَمَنِ) عبارة عن أولئك اليهود ، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذ دخولا أوليا ، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال : فرى الأديم يفريه فريا إذا قطعه ، واستعمل في الابتداع والاختلاق ، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة (فَأْتُوا) فتدخل تحت القول ، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة.

(فَأُولئِكَ) أي المفترون المبعدون عن عز القرب (هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم ، وقيل : هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية ـ مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال ـ للدلالة على كمال القبح ، وقيل : لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل ، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب


لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى ، وقيل : إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه‌السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة (قُلْ صَدَقَ اللهُ) أي ظهر وثبت صدقه في أن (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) وقيل : في أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على دين إبراهيم عليه‌السلام وأن دينه الإسلام ، وقيل : في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وفيه كما قيل : تعريض بكذبهم الصريح (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون ، وقيل : اتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم ، وقيل : اتبعوا ملته في استباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها مما كان حلا له (حَنِيفاً) أي مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق ، أو مستقيما على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي في أمر من أمور دينهم أصلا وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين ، والجملة تذييل لما قبلهم (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ).

أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جريج قال : بلغنا أن اليهود قالت : بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة ، فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت إلى مقام إبراهيم.

وروي مثل ذلك عن مجاهد ، ووجه ربطها بما قبلها أن الله تعالى أمر الكفرة باتباع ملة إبراهيم ومن ملته تعظيم بيت الله تعالى الحرام فناسب ذكر البيت وفضله وحرمته لذلك ، وقيل : وجه المناسبة أن هذه شبهة ثانية ادعوها فأكذبهم الله تعالى فيها كما أكذبهم في سابقتها ، والمعنى أن أول بيت وضع لعبادة الناس ربهم أي هيئ وجعل متعبدا ، والواضع هو الله تعالى كما يدل عليه قراءة من قرأ (وُضِعَ) بالبناء للفاعل لأن الظاهر حينئذ أن يكون الضمير راجعا إلى الله تعالى وإن لم يتقدم ذكره سبحانه صريحا في الآية بناء على أنها مستأنفة واحتمال عوده إلى إبراهيم عليه‌السلام لاشتهاره ببناء البيت خلاف الظاهر ، وجملة (وُضِعَ) في موضع جر على أنها صفة (بَيْتٍ) و (لِلنَّاسِ) متعلق به واللام فيه للعلة ، وقوله تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) خبر إن واللام مزحلقة وأخبر بالمعرفة عن النكرة لتخصيصها ، وهذا في باب إن ، و ـ بكة ـ لغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا ، ومنه نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم ، وقيل : هما متغايران فبكة موضع المسجد ومكة البلد بأسرها وأصلها من البك بمعنى الزحم يقال بكه يبكه بكا إذا زحمه ، وتبارك الناس إذا ازدحموا وكأنها إنما سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها ، وقيل : بمعنى الدق وسميت بذلك لدق أعناق الجبابرة إذا أرادوها بسوء وإذلالهم فيها ولذا تراهم في الطواف كآحاد الناس ولو أمكنهم الله تعالى من تخلية المطاف لفعلوا ، وقيل : إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها ، وقيل : ومن هنا سميت البلد مكة أيضا أخذا لها من أمتك الفصيل ما في الضرع إذا امتصه ولم يبق فيه من اللبن شيئا ، وقيل : هي من مكة الله تعالى إذا استقصاه بالهلاك ، ثم المراد بالأولية الأولية بحسب الزمان ، وقيل : بحسب الشرف ، ويؤيد الأول ما أخرجه الشيخان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل : كم بينهما؟ فقال : أربعون سنة ، واستشكل ذلك بأن باني المسجد الحرام إبراهيم عليه‌السلام وباني الأقصى داود ثم ابنه سليمان عليهما‌السلام ، ورفع قبته ثمانية عشر ميلا وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها ، وأجيب بأن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما بين وضعيهما لا عن مدة ما بين بناءيهما فيحتمل أن واضع الأقصى بعض الأنبياء


قبل داود وابنه عليهما‌السلام ثم بيناه بعد ذلك ، ولا بد من هذا التأويل ـ قاله الطحاوي ـ وأجاب بعضهم على تقدير أن يراد من الوضع البناء بأن باني المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه‌السلام وأنه بني الأقصى بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الحرام وادعى فهم ذلك من الحديث فتدبر.

وورد في بعض الآثار أن أول من بنى البيت الملائكة وقد بنوه قبل آدم عليه‌السلام بألفي عام ، وعن مجاهد وقتادة والسدي ما يؤيد ذلك ، وحكي أن بناء الملائكة له كان من ياقوتة حمراء ثم بناه آدم ثم شيث ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ثم عبد الله بن الزبير ثم الحجاج واستمر بناء الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب والعتبة ووقع الترميم في الجدار والسقف غير مرة وجدد فيه الرخام ، وقيل : إنه نزل مع آدم من الجنة ثم رفع بعد موته إلى السماء ، وقيل : بني قبله ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة ، وقيل : الرابعة ، وذهب أكثر أهل الأخبار أن الأرض دحيت من تحته ، وقد أسلفنا لك ما ينفعك هنا فتذكر (مُبارَكاً) أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله ابن عباس ، وقيل : لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به واعتكف عنده.

وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] ، وقيل : بركته دوام العبادة فيه ولزومها ، وقد جاءت البركة بمعنيين : النمو وهو الشائع ، والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل ، ووجه الكرماني كونه مباركا بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أن فيهم أشخاصا أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جرا ، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائما كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة.

وجوز أبو البقاء جعله حالا من الضمير في (وُضِعَ وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) أي هاد لهم إلى الجنة التي أرادها سبحانه أو هاد إليه جل شأنه بما فيه من الآيات العجيبة كما قال تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) كإهلاك من قصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل وغيرهم وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه وعدم نفرة الطير من الناس هناك ، وإن أيّ ركن من البيت وقع الغيث في مقابلته كان الخصب فيما يليه من البلاد فإذا وقع في مقابلة الركن اليماني كان الخصب باليمن ، وإذا كان في مقابلة الركن الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عم البيت كان في جميع البلدان وكقلة الجمرات على كثرة الرماة إلى غير ذلك وعدوا منه انحراف الطير عن موازاته على مدى الأعصار ، وفيه كلام للمحدثين لأن منها ما يعلوه ، وقيل : لا يعلوه إلا ما به علة للاستشفاء ، واعترض بأن العقاب علته لأخذ الحية ، وقيل : إن الطير المهدر دمها تعلوه والحمام مع كثرته لا يعلوه وبه جمع بعضهم بين الكلامين ـ ومع هذا في القلب منه شيء ـ فقد نقل بعض الناس أنه شاهد أن الطير مطلقا تعلوه في بعض الأحايين والضمير المجرور عائد على البيت ، والظرفية مجازية وإلا لما صح عدّ هذه الآيات ، والجملة إما مستأنفة جيء بها بيانا تفسيرا للهدى ، وإما حال أخرى ولا بأس في ترك الواو في الجملة الاسمية الحالية على ما أشار إليه عبد القاهر وغيره ، وجوز أن تكون حالا من الضمير في العالمين والعامل فيه هدى ، أو من الضمير في (مُبارَكاً) وهو العامل فيها ، أو يكون صفة لهدى كما أن العالمين كذلك ، وقوله

__________________

(١) هكذا النسخة ولعله عشر قدما.


تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ أي منها أو أحدها مقام إبراهيم ، واختار الحلبي الأخير ، وقيل : بدل البعض من الكل واليه ذهب أبو مسلم ، وجوز بعضهم أن يكون عطف بيان وصح بيان الجمع بالمفرد بناء على اشتمال المقام على آيات متعددة لان أثر القدمين في الصخرة الصماء آية وغوصهما فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض هذا النوع دون بعض آية وإبقاؤه على ممر الزمان آية وحفظه من الأعداء آية أو على أن هذه الآية الواحدة لظهور شأنها وقوة دلالتها على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه‌السلام منزلة منزلة آيات كثيرة ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن الأنباري عن مجاهد أنه كان يقرأ ـ فيه آية بينة ـ بالتوحيد ، وفيه أن هذا وإن ساغ معنى إلا أنه يرد عليه أن (آياتٌ) نكرة ، و (مَقامُ إِبْراهِيمَ) معرفة ، وقد صرح أبو حيان أنه لا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين ، ثم إن سبب هذا الأثر في هذا المقام ما ورد في الأثر عن سعيد بن جبير أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه وقد تقدم غير ذلك في ذلك أيضا (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) الضمير المنصوب عائد إلى مقام إبراهيم بمعنى الحرم كله على ما قاله ابن عباس لا موضع القدمين فقط ، ويمكن أن يكون هناك استخدام ، وقال الجصاص : أورد الآيات المذكورات في الحرم ، ثم قال : (وَمَنْ دَخَلَهُ) الله فيجب أن يكون المراد جميع الحرم ، والجملة إما ابتدائية وليست بشرطية وإما شرطية عطف كما قال غير واحد من حيث المعنى على (مَقامُ) لأنه في المعنى أمن من دخله أي ومنها أو ثانيها أمن من دخله أو ـ فيه آيات مقام إبراهيم ـ وأمن من دخله وعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلف في توجيه الجمعية لأن الآيتين نوع من الجملة كالثلاثة والأربعة ، ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، ومثل هذا الطي واقع في الأحاديث النبوية والأشعار العربية ، فالأول كرواية «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» على ما هو الشائع وإن صححوا عدم ذكر ثلاث ، وأما الثاني فمنه قول جرير :

كانت حنيفة (أثلاثا) فثلثهم

من العبيد (وثلث من مواليها)

و (مَنْ) إما للعقلاء أو لهم ولغيرهم على سبيل التغليب لأنه يأمن فيه الوحش والطير بل والنبات فحينئذ يراد بالأمن ما يصح نسبته إلى الجميع بضرب من التأويل ، وعلى التقدير الأول يحتمل أن يراد بالأمن الأمن في الدنيا من نحو القتل والقطع وسائر العقوبات فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية أنه قال : كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل ثم يدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يحركه.

وأخرج ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وأخرج ابن جرير عن ابنه أنه قال : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته ، وعن ابن عباس لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أتعرض له ، ومذهبه في ذلك أن من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤذى ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ما جرّ فإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم والروايات عنه في ذلك كثيرة وقد تقدم تفصيل الأقوال في المسألة ، وأما أن يراد به كما ذهب إليه الصادق رضي الله تعالى عنه الأمن في الآخرة من العذاب ، فقد أخرج عبد بن حميد وغيره عن يحيى بن جعدة أن من دخله كان آمنا من النار ، وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من دخل البيت دخل في حسنة ، وخرج من سيئة مغفورا له ، وروي من غير طريق عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ، وفي رواية عن ابن عمر قال : من قبر بمكة مسلما بعث آمنا يوم القيامة ، ويجوز إرادة العموم بأن يفسر بالأمن في الدنيا والآخرة ولعله الظاهر من إطلاق اللفظ.


(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جملة ابتدائية فيها حج والخبر (لِلَّهِ) و (عَلَى النَّاسِ) متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه الاستقرار.

وجوز أن يكون (عَلَى النَّاسِ) خبرا ، و (لِلَّهِ) متعلق بما تعلق به ، ولا يجوز أن يكون حالا من المستكن في الناس لأن العامل في الحال حينئذ يكون معنى ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي عند الجمهور ، وجوزه ابن مالك إذا كان الحال ظرفا أو حرف جر وعامله كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما لا يتقدمان على عاملهما المعنوي ، وجوز أن يرتفع الحج بالجار الأول أو الثاني وهو في اللغة مطلق القصد أو كثرته إلى من يعظم ، والمراد به هنا قصد مخصوص غلب فيه حتى صار حقيقة شرعية ، وأل في البيت للعهد ، وقرأ حمزة والكسائي. وعاصم في رواية حفص (حِجُ) بالكسر كعلم وهو لغة نجد (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بدل من الناس بدل البعض من الكل والضمير في البدل مقدر أي منهم ، وقيل : بدل الكل من الكل ، والمراد من الناس خاص ولا يحتاج إلى ضمير ، وقيل : خبر لمحذوف أي هم من استطاع أو الواجب عليه من استطاع.

وجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل أعني أعني ، وأن يكون فاعل المصدر وهو مضاف إلى مفعوله أي ـ ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم البيت ـ وفيه مناقشة مشهورة ، و (مَنْ) على هذه الأوجه موصولة.

وجوز أن تكون شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفسه على الخلاف المقرر بين البصريين والكوفيين ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط (عَلَى النَّاسِ) والتقدير من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه أن يحج ، ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، والضمير المجرور للبيت أو للحج لأنه المحدث عنه ، وهو متعلق بالسبيل لما فيه من معنى الإفضاء وقدم عليه للاهتمام بشأنه ، والاستطاعة في الأصل استدعاء طواعية الفعل وتأتيه ، والمراد بالاستدعاء الإرادة وهي تقتضي القدرة فأطلقت على القدرة مطلقا أو بسهولة فهي أخص منها وهو المراد هنا ، وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى ، والقدرة إما بالبدن أو بالمال أو بهما. وإلى الأول ذهب الإمام مالك فيجب الحج عنده على من قدر على المشي والكسب في الطريق ، وإلى الثاني ذهب الإمام الشافعي ولذا أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه ، وإلى الثالث ذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه ، ويؤيده ما أخرجه البيهقي ، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به.

واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بما أخرجه الدار قطني عن جابر بن عبد الله قال : «لما نزلت هذه الآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قام رجل فقال : يا رسول الله ما السبيل؟ قال : الزاد والراحلة» وروي هذا من طرق شتى وهو ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي حيث قصر الاستطاعة على المالية دون البدنية ، وهو مخالف لما ذهب إليه الإمام مالك مخالفة ظاهرة ، وأما إمامنا فيؤول ما وقع فيه بأنه بيان لبعض شروط الاستطاعة بدليل أنه لو فقد أمن الطريق مثلا لم يجب الحج عليه ، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتعرض لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة ، ومما يؤيد أن ما في الحديث بيان لبعض الشروط أنه ورد في بعض الروايات الاقتصار على واحد مما فيه ، فقد أخرج الدار قطني أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن السبيل فقال : أن تجد ظهر بعير ولم يذكر الزاد.

هذا واستدل بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل وفساد القول بأنها معه ، ووجه الاستدلال ظاهر ، وأجيب بأن الاستطاعة التي ندعي أنها مع الفعل هي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل وتطلق الاستطاعة على معنى آخر هو سلامة


الأسباب والآلات والجوارح أي كون المكلف بحيث سلمت أسبابه وآلاته وجوارحه ولا نزاع لنا في أن هذه الاستطاعة قبل الفعل وهي مناط صحة التكليف وما في الآية بهذا المعنى كذا قالوا.

وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما قالوا : إن المشهور عن الأشعري أن القدرة مع الفعل بمعنى أنها توجد حال حدوثه وتتعلق به في هذه الحال ولا توجد قبله فضلا عن تعلقها به ، ووافقه على ذلك كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي ، وأبي عيسى الوراق ، وغيرهم ، وقال أكثر المعتزلة : القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذ ويستحيل تعلقها به قبل حدوثه ، ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال : ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه ومنهم من نفاه ، ودليلهم على ذلك وجوه.

الأول أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال : أوجده فوجد ، وأجيب بأن هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه يقال : إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده ، والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه أن التأثير مع حصول الأثر بحسب الزمان ، وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما.

الثاني إن جاز تعلق القدرة حال الحدوث يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل ، بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة به ليس إلا كونه متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا ، وأجيب بأنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بما يبطل به الملازمة من احتياج الموجود عن عدمه إلى المقتضي دون الباقي فلو لم تتعلق القدرة بالأول لبقي على عدمه وقد فرض وجوده هذا خلفه ولو لم تتعلق بالثاني لبقي على الوجود وهو المطابق للواقع ، أو ننقض الدليل أولا بتأثير العلم أو العالمية بالاتفاق فإن ذلك مشروط حال حدوث الفعل دون بقائه ، وثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا فإن الفعل مؤثر في ذلك حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقيا لا يؤثر حال البقاء ، وثالثا بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء فكذا الحال في القدرة.

الثالث أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية وتعلقها في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدوراتها قبل الحدوث ولو كان ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القدرة القديمة وليس فليس ، وأجيب بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ثم إن القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه موجب لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها.

«الرابع» لأنه يلزم على ذلك التقدير أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان أنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول : يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف فلا عصيان ، وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب رفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة ، وأيضا لو جاز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض ، وأجيب بأنه يجوز تكليف


المحال عندنا جواز التكليف بالخلق المذكور ، ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها ، وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقا للقدرة ، وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له أصلا لا فعلا ولا تركا فلا يجوز التكليف به ، وأما ما ذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في المواقف وشرحه.

ودليل ما شاع عن الأشعري قيل : هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من امتناع بقاء الأعراض ؛ واعترض عليه بما في أدلة امتناع بقاء الأعراض من النظر القوي وأنه قد يقال على تقدير تسليم الامتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة؟ وأجيب بأنا إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة ، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان.

وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلا في دعوى الأشعري وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه ، وذكر في المواقف دليلا آخر للأشعري على ما ادعاه ونظر فيه أيضا ـ هذا كلامهم ـ والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة الإرادة الله تعالى لقوله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر ، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في شفاء العليل ، ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل ، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها ، وبهذا جمع الإمام الرازي ـ كما في المواقف ـ بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل ، والمعتزلة القائلين بأنها قبله ، وقال : لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين ، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح ، وقول السيد قدس‌سره ـ في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال : إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير ـ مدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته.

والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالا كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده ، وأما قوله في شرح المواقف : إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد


مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، ففيه بحث من وجوه.

«أما أولا» فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحا مرجوعا عنه «وأما ثانيا» فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمرا أو نهيا بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري ، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلا ، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته ، وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص الإبانة ، ويزيده وضوحا حديث أبي هريرة «أنه لما نزل (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها» الحديث فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك «وأما ثالثا» فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارنا لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدورا للعبد أصلا لأن معنى كون الشيء مقدورا له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث «من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه» وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدورا للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدورا له ابتداء لزم أن لا يكون مترتبا على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدورا للعبد واللازم باطل بشقيه ، بعد القول ، بنفي التأثير أصلا فكذا الملزوم «وأما رابعا» فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك ، واعترض هذا من وجوه.

الأول أن القول : بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال.

يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بدّ فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لا بدّ أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه اطلاع من دونه على وجه الحقيقة ـ كما قاله القفال في محاسن الشريعة ـ وحينئذ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها. ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا ثابت بقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨] وقوله سبحانه : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه.

والثاني أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق إلخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد ،


فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير ، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه ، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة ، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور «وجوابه» ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير من توابع القدرة ، وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسب ـ بالتعلق الذي لا تأثير معه مردا به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط ـ مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى ، ولا دليل على خلافه يوجب العدول ، والله خالق كل شيء لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادئ الأفعال الاختيارية ، ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء ، وأما ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في الاقتصاد من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير ، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة والإرادة تعلقت أزلا بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقا فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة.

والحاصل أن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلا على القول بنفي التأثير عنها كليا فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة.

والثالث أن القول في الاعتراض الثالث إنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا إلخ يقال عليه : نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه ، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحا ولا التزاما ، والقول إنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص رأي محذور أشنع من هذا.

والرابع أن القول هناك أيضا إن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل ، وإن شئت قلت : قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوبا وهو المكلف به ، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثرة بإذنه وأن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفا به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفا به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلف به قطعا لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية «والخامس» أن القول في الاعتراض إن المقارنة لكونها أمرا مترتبا على فعل الله تعالى لا تختلف إلخ ، فيه أمران : الأول أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف وأي مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبرا وعزما وتارة جزعا وفتورا إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الاعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب


ألما لذة. والثاني أن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلا وهذا صعبا وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان ، ويجاب أما عن الأول بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلا للمكسوب والتحصيل لكونه قائما بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعا ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» والمقارنة لكونها أمرا مرتبا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلا ، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرا في العبد إلخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف ، وأما عن الثاني فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) [غافر : ٨٢] وقوله سبحانه : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً) [غافر : ٢١] وقوله عزّ شأنه : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) [الزخرف : ٨] وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة ، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم ، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق ، والله تعالى الموفق لا رب غيره.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا» ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين ، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناء على ما أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة «أنه لما نزلت (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران : ٨٥] الآية قال اليهود : فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا : لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل (وَمَنْ كَفَرَ)» الآية.

ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال : إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه (وَمَنْ كَفَرَ) إلخ وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس ، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية : (وَمَنْ كَفَرَ) بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما ، وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله من تركه كفر؟ قال : من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك ، وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر ، و (مَنْ) تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغني فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم.

ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفي عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والاستغناء


في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل ، ولهذا صح جعله جزاء وإن أبيت فهو دليله ، وفي الآية ـ كما قالوا ـ فنون من الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس وتعميم الحكم أولا وتخصيصه ثانيا وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة وذكر الاستغناء والعالمين.

وذكر الطيبي أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكرا المبالغة في وصفه أقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب ؛ وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفا الأشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا ، وفي تذييل (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لأنها في المعنى تأكيد الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة وأن مباشرة مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضا كاملا كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما ، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه‌السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بعد خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة ، واستأنس بعضهم لكونه عبادة عظيمة بأنه من الشرائع القديمة بناء على ما روي أن آدم عليه‌السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا وأن جبريل قال له : إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة؛ وادعى ابن إسحاق أنه لم يبعث الله تعالى نبيا بعد إبراهيم إلا حج ، والذي صرح به غيره أنه ما من نبي إلا حج خلافا لمن استثنى هودا وصالحا عليهما الصلاة والسلام ، وفي وجوبه على من قبلنا وجهان قيل : الصحيح أنه لم يجب إلا علينا واستغرب ، وادعى جمع أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن ، وفي وقت وجوبه خلاف فقيل : قبل الهجرة ، وقيل : أول سنيها وهكذا إلى العاشرة وصحح أنه في السادسة ، نعم حج صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججا لا يدري عددها والتسمية مجازية باعتبار الصورة بل قيل ذلك في حجة الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا في التاسعة لكن الوجه خلافه لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يؤمر إلا بحج شرعي ، وكذا يقال في الثامنة التي أمر فيها عتاب بن أسيد أمير مكة وبعد ذلك حجة الوداع لا غير.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا


كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)(١١٥)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والاستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل : هاتوا عذركم إن أمكنكم.

والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به ، وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها ، وسبب نزولها ما أخرجه ابن إسحاق وجماعة عن زيد بن أسلم قال : مر شماس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ـ أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ـ فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح. موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة الحرة ـ فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض


والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس ، وأنزل الله تعالى في شأن شماس ، وما صنع (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) إلى قوله سبحانه : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا) الآية ، وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهر اليهود.

وقيل : المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) جملة حالية العامل فيها تكفرون وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع ، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه ، وما إما عبارة عن كفرهم ، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأي سبب تكفرون ، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلا (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) أي تصرفون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام (مَنْ آمَنَ) أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به (تَبْغُونَها) أي السبيل (عِوَجاً) أي اعوجاجا وميلا عن الاستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض ، ومنه (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتصب كالقناة والحائط مثلا وهو أحد مفعولي ـ تبغون ـ فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر باللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله :

فتولى غلامهم ثم نادى

أظليما أصيدكم أم حمارا

أراد أصيد لكم ، وقال ابن المنير : الأحسن جعل الهاء مفعولا من غير حاجة إلى تقدير الجار ، و (عِوَجاً) حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج ، وادعى الطيبي أن فيه نظرا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون (عِوَجاً) هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلا بد من تقدير : الجار وفيه تأمل وقيل : (عِوَجاً) حال من فاعل ـ تبغون ـ والكلام فيه كالكلام في سابقه ، وجملة ـ تبغون ـ على كل حال إما حال من ضمير (تَصُدُّونَ) أو من ـ السبيل ـ وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد ، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضا ، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل : لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الأمرين ، وقيل : الخطاب لأهل الكتاب مطلقا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة ـ وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا : لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذم لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال.


وقرئ (تَصُدُّونَ) من أصد (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) حال إما من فاعل (تَصُدُّونَ) أو من فاعل ـ تبغون ـ والاستئناف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم مطلعون على صحة نبوته أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد لهم على ما صنعوا قيل : لما كان كفرهم ظاهرا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة لأنها تكون لما يظهر ويعلم ، أو ما هو بمنزلته ـ وصدهم عن سبيل الله ـ وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلّا من الآيتين بما ختم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ ، وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقدير قل لهم.

والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شماس بن قيس اليهودي ، وفي الاقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل ، وقال بعضهم : هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية و (كافِرِينَ) إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الردّ معنى التصيير كما في قوله :

رمى الحدثان نسوة آل سعد

بمقدار سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضا

ورد وجوههن البيض سودا

أو حال من مفعوله ، قالوا : والأول أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر ، وبعد يجوز أن يكون ظرفا ـ ليردوكم ـ وأن يكون ظرفا ـ لكافرين ـ وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنده واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل : بعد إيمانكم الراسخ ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أي على أيّ حال يقع منكم الكفر (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه ، والجملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين في (تَكْفُرُونَ) والمراد استبعاد أن يقع منهم الكفر وعندهم ما يأباه.

وقيل : المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها ؛ وليس المراد إنكار الواقع كما في (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) [البقرة : ٢٨] الآية ؛ وقيل : المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الاستفهام لإنكار الواقع ، والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه ، والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الأوس والخزرج منهم ، ومنهم من جعله عاما لسائر المؤمنين وجميع الأمة ، وعليه معنى كونه صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم أن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب ، وإيذانا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت.


(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) إما أن يقدر مضاف أي ومن يعتصم بدين الله ؛ والاعتصام بمعنى التمسك استعارة تبعية ، وإما أن لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للالتجاء إليه سبحانه قال الطيبي : وعلى الأول تكون الجملة معطوفة على (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي ـ كيف تكفرون ـ أي والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بحال المعتصم به جل شأنه ، وعلى الثاني تكون تذييلا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا) إلخ لأن مضمونه أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون من شرورهم ومكائدهم فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله تعالى في دفع شرورهم ولا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه ، فعلى الأول جيء بهذه الجملة لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي المفهوم من قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ) إلخ ، وعلى الثاني للحث على الالتجاء ، ويحتمل على الأول التذييل ، وعلى الثاني الحال أيضا فافهم ، و (مَنْ) شرطية ، وقوله تعالى :

(فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) جواب الشرط ولكونه ماضيا مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل ، قيل : والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا ، والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] انتهى.

وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الاعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله ابن جريج ، وأما إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه كما روي عن أبي العالية فيبعد الاحتياج ، وعلى هذا يكون المراد من الاهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج ، فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال : أوحى الله تعالى داود عليه‌السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجا ، وما من عبد يعتصم بمخلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفا لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي حق تقواه ، روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ، وادعى كثير نسخ هذه الآية وروي ذلك عن ابن مسعود.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] فنسخت الآية الأولى ، ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس ، وروى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم ، ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من حق تقاته ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره ، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن (حَقَ) من حق الشيء بمعنى وجب وثبت ، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا الله اتقاء حقا أي ثابتا وواجبا على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] بيانا لقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي ، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما


ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال ، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر (حَقَّ تُقاتِهِ) على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب ، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنيا على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداء كما لا يخفى ، وأصل (تُقاةً) وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا ، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه : تقاة ، ووقاة ، وإقاة (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي مخلصون نفوسكم لله عزوجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلا ، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولا والإيمان ثانيا لما أن لكل مقام مقالا ، والاستثناء من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل (إِلَّا) بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت ، ويؤول إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلا لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه ، وفي التحبير للإمام السيوطي. ومن عجيب ما اشتهر في تفسير (مُسْلِمُونَ) قول العوام : أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ، ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى ، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه (مُسْلِمُونَ) بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منقادون له ؛ وفي الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) أي القرآن وروي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود.

وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض».

وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عزوجل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض»

وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة ، وقيل : المراد بحبل الله الطاعة والجماعة ، وروي ذلك عن ابن مسعود أيضا.

أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال : سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول: أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به ، وفي رواية عنه حبل الله تعالى الجماعة ، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنه الإخلاص لله تعالى وحده ، وعن الحسن أنه طاعة الله عزوجل ، وعن ابن زيد أنه الإسلام ، وعن قتادة أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة.

وفي الكلام استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من استظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات ، واستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه ، وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلا استعارة مصرحة أصلية والقرينة الإضافة ، ويستعار الاعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الاستعارة المصرحة التبعية والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية ، وقد يكون في (اعْتَصِمُوا) مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق


والتقييد ، وقد يكون مجازا بمرتبتين لأجل إرسال المجاز وقد تكون الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام باقيا على معناه ترشيحا لها على أتم وجه ، والقرينة قد تختلف بالتصرف فباعتبار قد تكون مانعة وباعتبار آخر قد لا تكون ، فلا يرد أن احتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له فمع وجودها كيف يتأتي إرادة الحقيقة ليصح الأمران في (اعْتَصِمُوا) وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية وفي الاعتصام تخييلية لأن المكنية ، مستلزمة للتخييلية قاله الطيبي ، ولا يخفى أنه أبعد من العيوق.

وقد ذكرنا في حواشينا على رسالة ابن عصام ما يرد على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فارجع إليه إن أردته (جَمِيعاً) حال من فاعل (اعْتَصِمُوا) كما هو الظاهر المبادر أي مجتمعين عليه فيكون قوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا) تأكيدا بناء على أن المعنى ولا تتفرقوا عن الحق الذي أمرتم بالاعتصام به ، وقيل : المعنى لا يقع بينكم شقاق وحروب كما هو مراد المذكرين لكم بأيام الجاهلية الماكرين بكم ، وقيل : المعنى لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وروي ذلك عن الحسن (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي جنسها ومن ذلك الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الأضغان ، ويحتمل أن يكون المراد بها ما بينه سبحانه بقوله: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) أي في الجاهلية (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام ، و (نِعْمَتَ) مصدر مضاف إلى الفاعل ، و (عَلَيْكُمْ) إما متعلق به أو حال منه ، و (إِذْ) إما ظرف للنعمة أو للاستقرار في (عَلَيْكُمْ) إذا جعلته حالا ، قيل : وأراد سبحانه بما ذكر ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام فزالت الأحقاد ـ قاله ابن إسحاق ـ وكان يوم بعاث آخر الحروب التي جرت بينهم وقد فصل ذلك في الكامل ، وقيل : أراد ما كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض ، ومنه حرب البسوس ، ونقل ذلك عن الحسن رضي الله تعالى عنه (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) أي فصرتم بسبب نعمته التي هي ذلك التأليف متحابين ـ فأصبح ـ ناقصة ، و (إِخْواناً) خبره ، وقيل : (فَأَصْبَحْتُمْ) أي دخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم متلبسين بنعمته حال كونكم إخوانا ، والإخوان جمع أخ وأكثر ما يجمع أخو الصداقة على ذلك على الصحيح ، وفي الإتقان الأخ في النسب جمعه إخوة وفي الصداقة إخوان ، قاله ابن فارس ـ وخالفه غيره ـ وأورد في الصداقة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] وفي النسب (أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) [النور : ٣١](وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب ، ويثنى على شفوان ، ويجمع على أشفاء ويضاف إلى الأعلى ك (شَفا جُرُفٍ هارٍ) [التوبة : ١٠٩] وإلى الأسفل قيل : كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قاله ابن عباس ـ والضمير المجرور عائد إما على النار ، أو على (حُفْرَةٍ) أو على (شَفا) لأنه بمعنى الشفة ، أو لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم

فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضا منه أو فعلا له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول ، ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند ، واختار الزمخشري الاحتمال الأخير ، وقال ابن المنير : وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوي إلى الحفرة فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة أبلغ وأوقع مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر


خلاف رأيه في الإيضاح ، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها لو لا الإنقاذ الرباني فبولغ في الامتنان بذلك ألا ترى إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وإلى قوله تعالى : (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) [التوبة : ١٠٩] فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه : (هارٍ) انتهى ، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان من أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة.

وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناء على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقا ـ كما هو قول ابن المنير ـ أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير أرى مرّ السنين «أخذن» مني ـ فإن مرّ السنين من جنسها ، وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التبيين الواضح (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تدوموا على الهدى وازديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين أو صيغة المضارع من الافتعال (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون ، والجمهور على إسكان لام الأمر ، وقرئ بكسرها على الأصل ، وتكن إما من كان التامة فتكون (أُمَّةٌ) فاعلا وجملة (يَدْعُونَ) صفته و (مِنْكُمْ) متعلق ـ بتكن ـ أو بمحذوف على أن يكون صفة ـ لأمة ـ قدم عليها فصار حالا. وإما من كان الناقصة فتكون (أُمَّةٌ) اسمها ، و (يَدْعُونَ) خبرها ، و (مِنْكُمْ) إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة ، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر ما ، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ؛ ومنه (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] وعلى الدين والملة ، ومنه (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢ ، ٢٣] وعلى الزمان ، ومنه (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] إلى غير ذلك من معانيها ، والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه :

(وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من باب عطف الخاص على العام إيذانا بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل ، قال ابن المنير : إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات ، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا ، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر ، وما أرى هذا العرف ثابتا انتهى ، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه ، على أنه قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال : «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ثم قال : الخير اتباع القرآن وسنتي» وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا.


ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله ابن المنير أيضا ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته ، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم ، وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حدّ فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها ، والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج ، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهم الرواة ، والأكثرون على جعله عاما ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا ، ومن هنا قيل : للتبعيض ، وقيل : للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان.

ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء اتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر ، ومنهم الشيخ أبو جعفر من الامامية قالوا : إنها من فروض الأعيان ، واختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض ، ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره ، وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في الأم ، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجبا عليهم كلهم لما أثموا بالترك.

وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم ، واعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به.

والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط من غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه : بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعا من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور.

واعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد بأنه إنما يتأتى لو ارتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون لأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال كل أن تكون مكلفة به فالاستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في اسم الجميع ولا يصير النزاع بهذا بين الطائفتين لفظيا حيث إن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه ، وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية تعلقه بالمشترك ، وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه على القول بالابتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير ، ومن هنا يستغني عن الجواب عما اعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل : ليس الدين نظير ما نحن فيه كليا لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة


بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر واستوائها مع غيرها في التعلق.

وأما قولهم : ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعى تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه ـ وهو مختار ابن السبكي ـ خلافا لأبيه ، إذا تحقق هذا فاعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا : إن من للتبعيض ، وإن القائلين بأن المكلف الكل قالوا : إنها للتبيين ، وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالإجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل (وَأُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفات الكاملة.

(هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الكاملون في الفلاح وبهذا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الطرفين ، أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درة بنت أبي لهب قالت : «سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خير الناس؟ قال : آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم».

وروى الحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وخليفة كتابه ، وروي ـ لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله تعالى عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون ـ والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر كذلك أيضا إن قلنا إن المكروه منكر شرعا ، وأما إن فسر بما يستحق العقاب عليه كما أن المعروف ما يستحق الثواب عليه فلا يكون إلا واجبا ، وبه قال بعضهم إلا أنه يرد أنهما ليسا على طرفي نقيض والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه نهي كل فاعل وترك نهي بعض وهو نفسه لا يسقط عنه وجوب نهي الباقي وكذا يقال في جانب الأمر ولا يعكر على ذلك قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] لأنه مؤول بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ولا قوله سبحانه : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] لأن التوبيخ إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر ، وعن بعض السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا ، نعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط معروفة محلها والأصل فيهما افعل كذا ولا تفعل كذا ، والقتال ليمتثل المأمور والمنهي أمر وراء ذلك وليس داخلا في حقيقتهما وإن وجب على بعض كالأمراء في بعض الأحيان لأن ذلك حكم آخر كما يشعر به قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع.

وأخرج ابن ماجة عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل : يا رسول الله من هم؟ قال : الجماعة» وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعا أن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة ، وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعا أيضا «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة» ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الافتراق حصل


لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر (وَاخْتَلَفُوا) في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد ، قيل : وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد ، وقيل : التفرق بالعداوة والاختلاف بالديانة.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة ، وقال الحسن: التوراة ، وقال قتادة وأبو أمامة : القرآن (وَأُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور ، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب ، ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه ، وقيل : إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها ـ كالماتريدي والأشعري ـ فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد.

واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام : اختلاف أمتي رحمة. وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة ، وأراد بهم صلى الله تعالى عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافا لمن وهم ، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة.

فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال : اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى ، وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس ، وفي المدخل عن عمر بن عبد العزيز قال : ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة ، واعترض الإمام السبكي بأن اختلاف أمتي رحمة ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثا فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له. واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف والآيات أكثر من أن تحصى ، ومن الأحاديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم قال : والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام : أحدها في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن ، والثاني في الآراء والحروب ويشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية ، والثالث في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف ، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول ، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني ، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال : الاختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف ، فالخيرية في العلم


بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك ، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت ما في حالة ما على وجه ما فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه ، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به ، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا : إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطئ وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.

فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين ، وأما إذا قلنا : كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهيا عنه ، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا : المصيب واحد ، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع ، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في شعب الإيمان ، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه ، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف ، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المبادر وتأويل الخبر بما تقدم.

هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به ، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء ، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف ، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما ، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة ، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) نصب بما في لهم من معنى الاستقرار أو منصوب باذكر مقدرا ، وقيل : العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل ، وقيل : عظيم ، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له ، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال : إن التقييد ليس بمراد ، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد ، والجمهور على الأول قالوا : يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع ، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك ، والظاهر أن الابيضاض والاسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه.

واختلف في وقت ذلك فقيل : وقت البعث من القبور ، وقيل : وقت قراءة الصحف ، وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان ، وقيل : عند قوله تعالى شأنه : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ، وقيل :


وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده ، ولا يبعد أن يقال : إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حدّ الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطئ كما لا يخفى ، وقرأ : «تبيضّ وتسودّ» بكسر حرف المضارعة وهي لغة و «تبياضّ وتسوادّ».

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك ، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى ، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما ، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافا للسمين ، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه ـ وإليه ذهب عكرمة ـ واختاره الزجاج والجبائي.

وقيل : هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وروي ذلك عن أبيّ بن كعب ، ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي ، وقيل : إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة ، وروي ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبي أمامة وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.

(فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه ، وقيل : يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه ، والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فالباء للسببية ، وقيل : للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست بمعنى اللام ولعله سبحانه أراد (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية ، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذ مجازية كما يقال : في نعيم دائم وعيش رغد ـ وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعارا بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا رد في الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له : حتى أنت يا رسول الله؟ فقال : حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وجملة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) استئنافية وقعت جوابا عما نشأ من السياق كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم ، وقيل : خبر بعد خبر وليس بشيء ، وتقديم الظرف للمحافظة على رءوس الآي ، والضمير المجرور للرحمة ، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافا لمن قال به ، وجعل الكلام عليه بيانا لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل : ما بالهم في رحمة الله تعالى؟ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات ، وقرئ «ابياضت واسوادت» (تِلْكَ) أي التي مرّ ذكرها وعظم قدرها (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) أي نقرؤها شيئا فشيئا ، وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه‌السلام


بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الالتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه ، والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة.

وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك ، و (آياتُ) بدل منه ، وقرئ «يتلوها» على صيغة الغيبة.

(بِالْحَقِ) أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) بأن يحلهم من العقاب ما لا يستحقونه عدلا أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه فضلا ، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر ظلما ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد بمعونة المقام دوام الانتفاء وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف والتفت إلى الاسم الجليل ؛ والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفي المستحيل كما في قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣٠] وقيل : الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هو ظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلما منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره ، ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلما لا يستفاد هذا ، وفيه ما لا يخفى.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتصرفا والتعبير ب (ما) للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أمورهم فيجازي كلّا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب ، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا ، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين ، وقيل : معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة ، وقرأ يحيى بن وثاب ـ «ترجع» ـ بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل ، وقيل : هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضا على الانقياد والطواعية ـ وكان ـ ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام ، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو (كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب : ٤٠ ، الفتح : ٢٦] وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤] ، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن ، وقيل : المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك ، وقال الحسن : معناه أنتم خير أمة ، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة (أُخْرِجَتْ) أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به (لِلنَّاسِ) متعلق بما عنده ، وقيل : بخير أمة ، وجملة (أُخْرِجَتْ) صفة ـ لأمة ـ وقيل : لخير ، والأول أولى ، والخطاب قيل : لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك ، وقيل : للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس ، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم» وأخرج ابن


أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عاما للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة «يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها» وأشار بذلك إلى قوله سبحانه (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإنه وإن كان استئنافا مبينا لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء ، والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية ، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما ، وأما ذكره فكالتتميم ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ ولو قيل قدما ـ وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لم يبعد أي لو آمنوا إيمانا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان (خَيْراً لَهُمْ) مما هم عليه من الرئاسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم ، والآخرة لدفع العذاب المقيم ، وقيل : لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما‌السلام ، وقيل : المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم ، وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة.

(وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذانا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم ، وقيل : للإشارة إلى أنهم في ـ الكفار ـ بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) استثناء متصل لأن الأذى بمعنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الاستعمال فكأنه قيل : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) ضررا ما إلا ضررا يسيرا ، وقيل : إنه منقطع لأن الأذى ليس بضرر وفيه نظر والآية كما قال مقاتل : نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاء قوليا على ما يفهمه كلام قتادة وغيره ، وكان


ذلك الافتراء على الله تعالى كما قاله الحسن (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء ، وتولية الأدبار كناية عن الانهزام معروفة.

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف على جملة الشرط والجزاء ، و (ثُمَ) للترتيب والتراخي الأخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم. وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه.

وقرئ ـ ثم لا ينصروا ـ والجملة حينئذ معطوفة على جزاء الشرط ، و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته ، وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناء على اعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف ، وقراءة الرفع أبلغ لخلوها عن القيد ، وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئا منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي ذلة هدر النفس والمال والأهل ، وقيل : ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية قال الحسن : أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم ، قيل : ففيه استعارة مكنية تخييلية وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية ، وقيل : هو من قولهم : ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا ، وقيل : أخذوا وظفر بهم ، و (أَيْنَ ما) شرط ، و (ما) زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال.

وقيل : أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقا أن يقتل به ، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى (ذلِكَ) أي المذكور من المذكورات (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أصلا ، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم‌السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار ، وقيل : معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم ، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر ، ثم إن جملة (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) وكذا جملة (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) وما عطف عليها واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعا من الكلام ، وقال بعض المحققين : إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ) مبين له ، فقوله سبحانه : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) مبين لذلك باعتبار أن المفروض إيمان الجميع ، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعا لسوء الظن بالبعض ، وقوله عزّ شأنه : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرئاسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة ، ولو آمنوا لنجوا من


جميع ذلك انتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له ، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل.

هذا «ومن باب الإشارة» (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الذي هو القرب من الله (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي بعضه ، والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فينبغي تحرّي ما يرضيه ، ويحكى عن بعضهم أنه قال المنفقون على أقسام : فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض. ومنهم من ينفق على مراقبة رفع البلاء والمحن. ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه ولله تعالى در من قال :

ويهتز للمعروف في طلب العلى

لتذكر يوما عند سلمى شمائله

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) قيل : فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا : إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه‌السلام (مُبارَكاً) بما كساه من أنوار ذاته (وَهُدىً) بما كساه من أنوار صفاته (لِلْعالَمِينَ) على حسب استعدادهم (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة ، أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو ، أو جميع ذلك (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين «وتطبيق ذلك على ما في الأنفس» أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي ، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن ، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن ، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدما بالرتبة إذ الألف رتبة تامة ، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره ، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) الصدر صورة ، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى اليه ، ومعنى كونه (مُبارَكاً) أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه ، وكونه (هُدىً) أنه يهتدي به إلى الله تعالى ـ والآيات ـ التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق ، و (مَقامُ إِبْراهِيمَ) إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ولا شك أن من دخل ذلك (كانَ آمِناً) من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهم أهل معرفته عز شأنه ، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا ، يحكى عن بعضهم أنه قال : قلت للشبلي : إني حججت فقال : كيف فعلت؟ فقلت : اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي : عقدت به الحج؟ فقلت : نعم قال : فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد؟ قلت : لا قال : فما عقدت ، ثم قال نزعت ثيابك؟ قلت : نعم قال : تجردت عن كل فعل فعلت؟ قلت : لا قال : ما نزعت ، فقال : تطهرت؟ قال : نعم قال : أزلت عنك كل علة؟ فقلت : لا قال فما تطهرت ، قال لبيت؟ قلت : نعم قال : وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت : لا قال :


ما لبيت ، قال : دخلت الحرم؟ قلت : نعم قال : اعتقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت : لا قال : ما دخلت ، قال : أشرفت على مكة؟ قلت : نعم قال : أشرف عليك حال من الله تعالى؟ قلت لا قال : ما أشرفت ، قال : دخلت المسجد الحرام؟ قلت : نعم قال : دخلت الحضرة؟ قلت : لا قال : ما دخلت المسجد الحرام ، قال : رأيت الكعبة؟ قلت : نعم قال : رأيت ما قصدت له؟ قلت : لا قال ما رأيت الكعبة ، قال رملت وسعيت؟ قلت : نعم قال : هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت؟ قلت : لا قال : ما فعلت شيئا ، قال : صافحت الحجر؟ قلت : نعم قال : من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك؟ قلت : لا قال : ما صافحت ؛ قال : أصليت ركعتين بعد؟ قلت : نعم قال : أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى؟ قلت : لا قال : ما صليت. قال : خرجت إلى الصفا. قلت : نعم قال : أكبرت؟ قلت : نعم فقال : أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان ، قلت : لا قال : ما خرجت ولا كبرت. قال : هرولت في سعيك؟ قلت : نعم قال : هربت منه إليه؟ قلت : لا قال : ما هرولت ، قال : وقفت على المروة؟ قلت : نعم قال : رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها : قلت لا قال : ما وقفت على المروة ، قال : خرجت إلى منى؟ قلت : نعم قال. أعطيت ما تمنيت؟ قلت : لا قال : ما خرجت ، قال : دخلت مسجد الخيف؟ قلت : نعم قال : تجدد لك خوف؟ قلت : لا قال : ما دخلت. قال : مضيت إلى عرفات؟ قلت : نعم قال : عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء؟ قلت : لا قال : ما مضيت. قال : نفرت إلى المشعر الحرام؟ قلت : نعم. قال : ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه؟ قلت لا قال : ما نفرت ، قال : ذبحت؟ قلت : نعم قال : أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق؟ قلت : لا قال ما ذبحت ، قال : رميت؟ قلت : نعم قال : رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت : لا قال ما رميت ، قال : زرت؟ قلت : نعم قال : كوشفت عن الحقائق؟ قلت : لا قال ما زرت ، قال : أحللت؟ قلت : نعم قال : عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت. لا قال : ما أحللت ، قال : ودعت قلت نعم قال : خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت : لا قال : ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى.

فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج ، ولله تعالى عباد أهلهم لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القربة على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار ، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس فإن الله غني عن العالمين فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على توحيده (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) إذ هو أقرب من حبل الوريد (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالإنكار على المؤمنين (مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) بإيراد الشبه الباطلة (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) خوفا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الراسخ فيكم (كافِرِينَ) لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به ، قال الواسطي : ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية ، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة ، وقيل : الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي ، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) بصون العهود


وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا ، وقيل : حق التقوى عدم رؤية التقوى (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢](وَلا تَفَرَّقُوا) باختلاف الأهواء (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) عليكم (إِخْواناً) في الدين (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) المقرب إلى الله تعالى (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المبعد عنه تعالى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) واتبعوا الأهواء والبدع (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب الحرمان من الحضرة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قالوا : ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم (أَكَفَرْتُمْ) أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل (فَذُوقُوا الْعَذابَ) وهو عذاب الاحتجاب عن الحق (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) به (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) الخاصة التي هي شهود الجمال (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون بعد الفناء (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) من مكامن الأزل (لِلنَّاسِ) أي لنفعهم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الموصل إلى مقام التوحيد (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) كإيمانكم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما هم عليه (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كإيمانكم (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن حرم الحق (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) وهو الإنكار عليكم بالقول (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ) ولم يكتفوا بذلك الإيذاء (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) ولا ينالون منكم شيئا لقوة بواطنكم وضعفهم (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) لا ينصرهم أحد أصلا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم ، والله تعالى الموفق.

(لَيْسُوا سَواءً) أخرج ابن إسحاق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى في ذلك (لَيْسُوا سَواءً) إلى قوله سبحانه وتعالى : (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب ، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين خاصة وهو اسم ـ ليس ـ و (سَواءً) خبره ، وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدرا والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح لا نفي المساواة في الاتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف ومثله كثير في الكلام.

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام ، وقال أبو عبيدة :


إنه مع الأول كلام واحد ، وجعل (أُمَّةٌ) اسم ـ ليس ـ والخبر (سَواءً) فهو على حد أكلوني البراغيث ، وقيل : (أُمَّةٌ) مرفوع ـ بسواء ـ وضعف كلا القولين ظاهر ، ووضع (أَهْلِ الْكِتابِ) موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم ـ والقائمة ـ من قام اللازم بمعنى استقام أي (أُمَّةٌ) مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه ، وحكي عن ابن عباس وغيره ، وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة ، وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل.

والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول ، وجعل بعضهم (أَهْلِ الْكِتابِ) عاما لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) صفة لأمة بعد وصفها بقائمة ، وجوز أن تكون حالا من الضمير في (قائِمَةٌ) أو من الأمة لأنها قد وصفت ، أو من الضمير في الجار الواقع خبرا عنها ، والمراد يقرءون القرآن (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته وواحده أني بوزن عصا ، وقيل : إنى كمعا ، وقيل : أني بفتح فسكون أو كسر فسكون ؛ وحكى الأخفش أنو كجرو ؛ فالهمزة منقلبة عن ياء أو واو وهو متعلق ـ بيتلون ـ أو ـ بقائمة ـ ومنع أبو البقاء تعلقه بالثاني بناء على أنه قد وصف فلا يعمل فيما بعد الصفة (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) حال من ضمير (يَتْلُونَ) على ما هو الظاهر ، والمراد وهم يصلون إذ من المعلوم أن لا قراءة في السجود وكذا الركوع بل وقع النهي عنها فيهما كما في الخبر ، والمراد بصلاتهم هذه التهجد على ما ذهب إليه البعض وعلل بأنه أدخل في المدح وفيه تيسر لهم التلاوة لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام ، واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلوات المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة ، وإنما لم يعبر على هذا بالتهجد دفعا لاحتمال المعنى اللغوي الذي لا مدح فيه ، والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة.

واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : أخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب قال : وأنزلت هذه الآية (لَيْسُوا سَواءً) حتى بلغ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وعليه تكون الجملة معطوفة على جملة يتلون ، وقيل : مستأنفة ويكون المدح لهم بذلك لتميزهم واختصاصهم بتلك الصلاة الجليلة الشان التي لم يتشرف بأدائها أهل الكتاب كما نطق به الحديث بل ولا سائر الأمم ، فقد روى الطبراني بسند حسن أيضا عن المنكدر أنه قال : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال : أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ثم قال : أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم ولعل هذا هو السر في تقديم هذا الحكم على الحكم بالإيمان ، ولا يرد عليه أن التلاوة لا تتيسر لهم إلا بصلاتهم منفردين ولا تمدح في الانفراد مع أنه خلاف الواقع من حال القوم على ما يشير إليه الخبران لأنه لم تقيد التلاوة فيه بالصلاة وإنما يلزم التقييد لو كانت الجملة حالا من الضمير كما سبق وليس فليس.

والتعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال الخضوع وهو سر التعبير به عنها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لمن طلب أن يدعو له بأن يكون رفيقه في الجنة لفرط حبه له وخوف حيلولة الفراق يوم القيامة أغني بكثرة السجود ، وكذا في كثير من المواضع ، وقيل : المراد بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي المسماة بصلاة الغفلة ، وقيل : المراد بالسجود سجود التلاوة ، وقيل : الخضوع كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥] واختيرت الجملة الاسمية للدلالة على الاستمرار وكرر الإسناد تقوية للحكم


وتأكيدا له ، واختيار صيغة المضارع للدلالة على التجدد (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صفة أخرى لأمة ، وجوز أن تكون حالا على طرز ما قبلها وإن شئت ـ كما قال أبو البقاء استأنفتها ، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول ، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهارا لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدعون أيضا الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النفس ، وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن سبيل الله تعالى (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا ، أو يعملون الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك ، وأصل المسارعة المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة ، واختيار صيغة المفاعلة للمبالغة ، قيل : ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم ، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الأناة وهي محمودة. وإيثار (فِي) على ـ إلى ـ وكثيرا ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام : بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون منتهون إليها ؛ وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا يخفى (وَأُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن بسبب اتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول اليهود : ما آمن به إلا شرارنا.

وقد ذهب الجلّ إلى أن في الآية استغناء بذكر أحد الفريقين عن الآخر على عادة العرب من الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر ، والمراد ومنهم من ليسوا كذلك (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي طاعة متعدية أو سارية (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لن يحرموا ثوابه البتة ، وأصل الكفر الستر ولتفسيره بما ذكرنا تعدى إلى مفعولين والخطاب قيل : لهذه الأمة وهو مرتبط بقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) وجميع ما بينهما استطراد ، وقيل : لأولئك الموصوفين بالصفات المذكورة وفيه التفات ؛ ونكتته الخاصة هنا الإشارة إلى أنهم لا تصافهم بهذه المزايا أهل لأن يخاطبوا ، وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين ، والباقون بالتاء فيهما غير أبي عمرو فإنه روي عنه أنه كان يخير بهما ، وعلى قراءة الغيبة يجوز أن يراد من الضمير ما أريد من نظائره فيما قبل ويكون الكلام حينئذ على وتيرة واحدة ، ويحتمل أن يعود للأمة ويكون العدول إلى الغيبة مراعاة للأمة كما روعيت أولا في التعبير ـ بأخرجت ـ دون أخرجتم وهذه طريقة مشهورة للعرب في مثل ذلك.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي بأحوالهم فيجازيهم وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله.

والمراد بالمتقين إما عام ويدخل المخاطبون دخولا أوليا وإما خاص بالمتقدمين وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى ، وعلى هذا يكون قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا


بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١٣٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) مؤكدا لذلك ولهذا فصل. والمراد من الموصول إما سائر الكفار فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم ، وإما بنو قريظة وبنو النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد.


وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : مشركو قريش (وقيل : وقيل :) ولعل من ادعى العموم ـ وهو الظاهر ـ قال بدخول المذكورين دخولا أوليا ، والمراد من الإغناء الدفع ، ويقال : أغنى عنه إذا دفع عنه ضررا لولاه لنزل به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من عذاب الله تعالى لهم شيئا يسيرا منه ، وقال بعضهم : المراد بالاغناء الإجزاء ، ويقال : ما يغنى عنك هذا أي ما يجزي عنك وما ينفعك ، و (مِنَ) للبدل أو الابتداء ، و (شَيْئاً) مفعول مطلق أي لن يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئا من الإجزاء ، وعلى التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقيا له دونه يقال بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ (وَأُولئِكَ) أي الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم (أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها وهو معنى الأصحاب عرفا.

(هُمْ فِيها خالِدُونَ) تأكيد لما يراد من الجملة الأولى واختيار الجملة الاسمية للإيذان بالدوام والاستمرار وتقديم الظرف محافظة على رءوس الآي (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) كالدليل لعدم إغناء الأموال ، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفارا ـ وهو الظاهر ـ كان حكمهم حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا ، وبغضهم لهم في الآخرة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩](يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى ، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير ، والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت ـ وهو المروي عن مجاهد ـ وقيل : مثل لما ينفقه الكفار مطلقا في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : لما أنفقته قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبة (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة ، وقال الزجاج ـ الصر ـ صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح ، وقيل : أصل الصر كالصرصر الريح الباردة ، وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه ، وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله :

ولو لا ذاك قد سوّمت مهري

وفي الرحمن للضعفاء كاف

أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر واستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد ، وقيل : إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل ـ وفيه بعد ـ لأن المعروف في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد ، وقيل : هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريرا إذا صوت ، أو من الصرة الضجة والصيحة وقد استعمل هنا على أصله ، وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الاستعمال ، والريح واحدة الرياح ، وفي الصحاح والأرياح ، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو ، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك : أروح الماء وتروحت بالمروحة ، ويقال أيضا : ريح وريحة كما قالوا : دار ودارة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام ، وأفرد الريح لما في البحر أنها مختصة بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روى اللهم ـ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا (أَصابَتْ حَرْثَ) أي زرع.

(قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك لما قيل : إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر وأما


غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره ، وقيل : المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها (فَأَهْلَكَتْهُ) عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم ، وقيل : تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) [يونس : ٢٤] وإلا لوجب أن يقال : كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق ، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو الحرث ، والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع ، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح ، والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباء منثورا بما في الريح الباردة من جعله حطاما ، وقرئ ـ تنفقون ـ بالتاء (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتد به ، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا ، وقرئ «ولكنّ» بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ، وجملة (يَظْلِمُونَ) خبرها والعائد محذوف ، والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما في قراءة التخفيف ، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في الشعر كقوله :

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه

ولكن من يبصر جفونك يعشق

وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي تدخل عليها النواسخ وتقديم أنفسهم على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية ، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنون أن يتولوهم ، وظاهر ما يأتي يؤيده ، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و (مِنْ) متعلقة ب (لا تَتَّخِذُوا) أو بمحذوف وقع صفة لبطانة ، وقيل : زائدة و ـ دون ـ إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء ، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى (لا تَتَّخِذُوا) الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته ، منزلتكم في الشرف والديانة ، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصا فإن اتخاذ المخالف وليا مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج.

وأخرج البيهقي ، وغيره عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ولا تستضيئوا بنار المشركين» فذكر ذلك للحسن فقال : نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم ، ثم قال الحسن : وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أصل الألو التقصير يقال : ألا كغزا ـ يألو ألوا إذا قصر وفتر وضعف ، ومنه قول امرئ القيس :


وما المرء ما دامت خشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا «آلى»

أراد ولا مقصر في الطلب وهو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك ذلك وقد يجعل بمنع الترك فيتعدى إلى واحد ، وفي القاموس ما ألوت الشيء أي ما تركته ، والخبال في الأصل الفساد الذي يلحق الإنسان فيورثه اضطرابا كالمرض والجنون ، ويستعمل بمعنى الشر والفساد مطلقا ، ومعنى الآية على الأول لا يقصرون لكم في الفساد والشر بل يجهدون في مضرتكم ، وعليه يكون الضمير المنصوب والاسم الظاهر منصوبين بنزع الخافض وإليه ذهب ابن عطية ـ وجوز أن يكون الثاني منصوبا على الحال أي مخبلين ، أو على التمييز.

واعترض ذلك بأنه لا إبهام في نسبة التقصير إلى الفاعل ولا يصح جعله فاعلا إلا على اعتبار الإسناد المجازي والنصب بنزع الخافض ، ووقوع المصدر حالا ليس بقياس إلا فيما يكون المصدر نوعا من العامل نحو أتاني سرعة وبطأ كما نص عليه الرضي في بحث المفعول به والحال ـ واعتمده الساليكوتي ـ ونقل أبو حيان أن التمييز هنا محول عن المفعول نحو (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] وهو من الغرابة بمكان لأن المفروض أن الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحول عنه؟! وملاحظة تعديه إليه بتقدير الحرف قول بالنصب على نزع الخافض وقد سمعت ما فيه.

وأجيب بالتزام أحد الأمرين الحالية أو كونه منصوبا على النزع مع القول بالسماع هنا والمعنى على الثاني لا يمنعونكم خبالا أي أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون عندهم شيئا منه في حقكم وهو وجه وجيه ، والتضمين قياسي على الصحيح والخلاف فيه واه لا يلتفت إليه ، والمعنى والإعراب على الثالث ظاهران بعد الإحاطة بما تقدم (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي أحبوا عنتكم أي مشقتكم الشديدة وضرركم.

وقال السدي : تمنوا ضلالتكم عن دينكم ، وروي مثله عن ابن جرير (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم ، وقال قتادة : ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه ، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعد ، والأفواه جمع فم وأصله فوه ، فلامه هاء والجموع ترد الأشياء إلى أصولها ويدل على ذلك أيضا تصغيره على فويه والنسبة إليه فوهيّ ، وقرأ عبد الله قد بدا البغضاء (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من البغضاء (أَكْبَرُ) أي أعظم مما بدا لأنه كان عن فلتة ومثله لا يكون إلا قليلا (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي أظهرنا لكم الآيات الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي يتميز بها الولي من العدو (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن كنتم من أهل العقل ، أو إن كنتم تعلمون الفضل بين الولي والعدو ، أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها ، وجواب إن محذوف لدلالة الكلام عليه ، ثم إن هذه الجمل ما عدا (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جوابا عن السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذانا باستقلال كل منها في ذلك ، وقيل : إنها في موضع النعت ـ لبطانة ـ إلا (قَدْ بَيَّنَّا) لظهور أنها لا تصلح لذلك ، والأول أحسن لما في الاستئناف من الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه ، وقيل : إن (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) بيان وتأكيد لقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) فحكمه حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالا لأنهم يودّون شدة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من استثناء (قَدْ بَيَّنَّا) إذ لا يصلح تعليلا لبدو البغضاء


ويصلح تعليلا للنهي فافهم (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) تنبيه على أن المخاطبين مخطئون في اتخاذهم بطانة ، وفي إعراب مثل هذا التركيب مذاهب للنحويين فقال الأزهري وابن كيسان وجماعة : إن (ها) للتنبيه ؛ و (أَنْتُمْ) مبتدأ وجملة (تُحِبُّونَهُمْ) خبره ، و (أُولاءِ) منادى أو منصوب على الاختصاص ، وضعف بأنه خلاف الظاهر والاختصاص لا يكون باسم الإشارة ، وقيل : (أَنْتُمْ) مبتدأ ، و (أُولاءِ) خبره ، والجملة بعد مستأنفة ، ويؤيد ذلك ما قاله الرضي من أنه ليس المراد من ـ ها أنا ذا أفعل ، وها أنت ذا تفعل ـ تعريف نفسك أو المخاطب إذ لا فائدة فيه بل استغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من المتكلم أو المخاطب ، فالجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة ، وقال البصريون : هي في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلا ، والحال هاهنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم ، والعامل فيها حرف التنبيه أو اسم الإشارة.

واعترضه الرضي بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار إليه في حال فعلك ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من كلام العرب لأنهم قالوا : ها أنت ذا قائما فصرحوا بالحالية وإن كان المعنى على الاخبار بالحال لأنه المقصود بالاستبعاد ، ومدلول الضمير واسم الإشارة متحد واعتبار معنى الإشارة لمجرد تصحيح العمل لا أن المعنى عليه ـ وبه يندفع بحث الرضي ـ على أنه قد أجيب عنه بغير ذلك ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون (أُولاءِ) بمعنى الذين خبرا عن المبتدأ ، و (تُحِبُّونَهُمْ) في موضع الصلة وليس بشيء ، وقيل : (أَنْتُمْ) مبتدأ أول و (أُولاءِ) مبتدأ ثان ، وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأول على حد أنت زيد تحبه ، وقيل : إن (أُولاءِ) هو الخبر ، والجملة ما بعده خبر ثان ، وقيل : (أُولاءِ) في محل نصب بفعل يفسره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فاستعملت هنا للتوبيخ كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ.

والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة ، ومثلها ـ وإن كان غريب يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين ، وقيل. المراد (تُحِبُّونَهُمْ) لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك ، ولا يخفى ما فيه.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي الجنس كله وجعل ذلك من قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ويكون الكتاب حينئذ إشارة إلى القرآن تعسف ، والجملة حال من ضمير المفعول في (لا يُحِبُّونَكُمْ) واعترضه في البحر بأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا ـ قمت وأصك عينيه ـ على حذف المبتدأ أي قمت وأنا أصك عينيه ، ومثل هذا التأويل وإن جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله إلا أن العطف على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف ، وفيه أن الكلام في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب ، والحمل ـ على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون بشيء منه لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة ـ سديد كما قال العلامة الثاني في تقرير الحالية دون العطف ، وبهذا يندفع ما في البحر من الاعتذار والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا (وَإِذا خَلَوْا) أي خلا بعضهم ببعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ) أي لأجلكم (الْأَنامِلَ) أي أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز ، ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس المراد أن هناك عضا بالفعل (قُلْ) يا محمد بلسانك ، وقيل : المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز


الإسلام من غير أن يكون هناك قول ، وقيل : هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى : (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) مجرد الخطاب بما يكرهونه ، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم : قاتلك الله تعالى ، وقولهم : دم بعز ، وبت قرير عين ، وغيره مما لا يحصى ، والمراد كما قيل : الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به ، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به.

وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها خلافا ، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري ، وأيضا ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ إلخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما خفي فيها ، وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازى به وأن يكون خارجا عنه أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم ، والنهي عن التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازا بناء على أن المخاطب عالم بمضمون هذه الجملة ، وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب فلا إشكال على التقديرين خلافا لمن وهم في ذلك (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) أيها المؤمنون (حَسَنَةٌ) نعمة من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء (تَسُؤْهُمْ) أي تحزنهم وتغظهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي محنة كإصابة العدو منكم واختلاف الكلمة فيما بينكم (يَفْرَحُوا) أي يبتهجوا (بِها) وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة ، والمس قيل : مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى ، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) [التوبة : ٥٠] وقوله سبحانه : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج: ٢٠] والتعبير هنا بالمسّ مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير ، وقال بعض المحققين : الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل : إنه للدلالة على إفراطهم في السرور والحزن لأن المسّ أقل من الإصابة كما هو الظاهر فإذا ساءهم أقلّ خير نالهم فغيره أولى منه ، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم لا ترجى موالاتهم أصلا فكيف تتخذونهم بطانة؟! والقول بأنه لا يبعد أن يقال : إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض الجهاد في سبيله (وَتَتَّقُوا) ما حرم عليكم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) أي مكرهم وأصل الكيد المشقة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (لا يَضُرُّكُمْ) بكسر الضاد وجزم الراء على أنه جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره ، وضم الراء في القراءة المشهورة لاتباع ضمة الضاد كما في الأمر المضاعف المضموم العين كمد ، والجزم مقدر ، وجوزوا في مثله الفتح للخفة والكسر لأجل تحريك الساكن ، وقيل : إنه مرفوع بتقدير الفاء وهو تكلف مستغنى عنه (شَيْئاً) نصب على المصدر أي (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) من الضرر لا كثيرا ولا قليلا ببركة الصبر والتقوى


لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو ، وقيل : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) لأنه أحاط بكم فلكم الأجر الجزيل ، إن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الكيد.

وقرأ الحسن وأبو حاتم ـ تعملون ـ بالتاء الفوقانية وهو خطاب للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى (مُحِيطٌ) علما أو بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه (وَإِذْ غَدَوْتَ) أي واذكر إذ خرجت عدوة (مِنْ) عند (أَهْلِكَ) والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل : تنزلهم ، وقيل : تسوي وتهيئ لهم ، ويؤيده قراءة ـ «للمؤمنين» ـ إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي مواطن ومواقف ومقامات له ، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم وسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقا وإن لم يكن فيه قيام وقعود ، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم ـ وجملة (تُبَوِّئُ) حال من فاعل (غَدَوْتَ) ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناويا وقاصدا للتبوئة ، و (مَقاعِدَ) مفعول ثان ـ لتبوئ ـ والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد ، ولا يجوز ـ كما قال أبو البقاء ـ أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل.

روى ابن إسحاق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان ابن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة (١) فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر : اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا

__________________

(١) وعبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح البقرة بذبح أناس من أصحابه والثلم الذي بذباب سيفه بقتل رجل من أهل بيته ا ه من مؤلف رحمه‌الله كتبه مصححه.


أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا فلم يزل الناس برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله تعالى أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال : لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف : شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال : تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلا وقال : انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة ـ ثلاث من الهجرة ـ وكان ما كان» وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية ، والقول بأنها إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب خلاف ما عليه الجمهور (وَاللهُ سَمِيعٌ) لسائر المسموعات ويدخل ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولا أوليا (عَلِيمٌ) بسائر المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ ، والجماعة اعتراض للإيذان بأنه قد قدر من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدوره منهم ، ومن ذلك قول أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة المسلمين على كفار قريش : قد غنم ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا ينسلون رجلا فرجلا حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبد الله سوى اثني عشر رجلا مع إيصاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثبوتهم مكانهم (إِذْ هَمَّتْ) قيل : بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير.

وجوز أن يكون ظرفا ـ لتبوئ ـ أو ـ لغدوت ـ أو ـ لسميع عليم ـ على سبيل التنازع أو لهما معا في رأي ، وليس المراد تقييد كونه سميعا عليما بذلك الوقت (طائِفَتانِ مِنْكُمْ) أي فرقتان من المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وخلق كثير وقال الجبائي : همت طائفة من المهاجرين ، وطائفة من الأنصار (أَنْ تَفْشَلا) أي تضعفا وتجبنا حين رأوا انخذال عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمنسبك من (أَنْ) والفعل متعلق ـ بهمت ـ والباء محذوفة أي همت بالفشل وكان المراد به هنا لازمه لأن الفعل الاختياري الذي يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله :


أقول لها إذا جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي ناصرهما والجملة اعتراض.

وجوز أن تكون حالا من فاعل (هَمَّتْ) أو من ضميره في (تَفْشَلا) مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله تعالى ، وقرأ عبد الله «والله وليهم» بضمير الجمع على حد (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩](وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي عليه سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول ، وإظهار الاسم الجليل للتبرك به والتعليل وأل في (الْمُؤْمِنُونَ) للجنس ويدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا ، وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان بالله تعالى من موجبات التوكل عليه ، وحذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما أو مساقة (١) لا يجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه. وبدر ـ كما قال الشعبي ـ بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت به ، وقال الواقدي: اسم للموضع ، وقيل : للوادي وكانت ـ كما قال عكرمة ـ متجرا في الجاهلية.

وقال قتادة : إن بدرا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة اثنتين من الهجرة ، والباء بمعنى ـ في ـ أي نصركم الله في بدر (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) حال من مفعول (نَصَرَكُمُ) و (أَذِلَّةٌ) جمع قلة لذليل ، واختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم ، والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل دخول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به ، وقيل : لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم ، وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك (فَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر اكتفاء بما سبق وما لحق مع الاشعار ـ على ما قيل ـ بشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مبادئها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الاخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى :

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه ، ويحتمل أن يكون كناية أو مجازا عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل : فاتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف لنصركم ، والمراد به وقت ممتد وقدم عليه الأمر بالتقوى إظهارا لكمال العناية ، وقيل : بدل ثان من (إِذْ غَدَوْتَ) وعلى الأول يكون هذا القول ببدر ، وعلى ذلك الحسن وغيره.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إلخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين ؛ وعلى الثاني يكون القول بأحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم يوجدا منهم فلم يمدوا ، ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى الروايتين عنه.

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناء على

__________________

(١) وقوله : أو مساقة كذا بخطه رحمه‌الله ، ولعلها منساقة أو مسوقة ، كتبه مصححه.


أنه الزيادة على نفي الحاجة ، والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال ، ويقال مد في السير إذا استمر عليه ، وامتد بهم السير إذا طال واستمر ، وعن بعضهم ما كان بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه : مده مدا ، وقيل : يقال : مده في الشر وأمده في الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك ، وأتي بلن لتأكيد النفي بناء على ما ذهب إليه البعض ، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم ، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار ، و (أَنْ يُمِدَّكُمْ) في تأويل المصدر فاعل ـ بيكفيكم و (مِنَ الْمَلائِكَةِ) بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه و (مُنْزَلِينَ) صفة لثلاثة آلاف ، وقيل : حال من الملائكة وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من أشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس‌سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في الفتوحات ، وقرئ (مُنْزَلِينَ) بالتشديد للتكثير أو للتدريج ، وقرئ مبنيا للفاعل من الصيغتين على معنى (مُنْزَلِينَ) الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة ، وقد أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاء أيضا على أنه أجرى الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد (بَلى) إيجاب لما بعد (لَنْ) أي بلى (يَكْفِيَكُمْ) ذلك ثم وعدهم الزيادة بالشرط فقال سبحانه وتعالى : (إِنْ تَصْبِرُوا) على مضض الجهاد وما أمرتم به (وَتَتَّقُوا) ربكم بالاجتناب عن معاصيه وعدم المخالفة له (وَيَأْتُوكُمْ) أي المشركون أو أصحاب كرز كما قال الشعبي.

(مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أصل الفور مصدر من فارت القدر إذا اشتد غليانها ومنه «أن شدة الحر من فور جهنم» ويطلق على الغضب لأنه يشبه فور القدر وعلى أول كل شيء ، ثم إنه استعير للسرعة ، ثم أطلق على الحال التي لا بطء فيها ولا تراخي ، والمعنى ويأتوكم في الحال ووصف بهذا التأكيد السرعة بزيادة التعيين والتقريب ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد ومداريه مع تحقق الإمداد لا محالة أسرعوا أو أبطئوا إيذانا بتحقق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله ، أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده حيث علقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالأولى فإن هجوم الأعداء بسرعة من مظان عدم لحوق المد دعاة فمتى علق به تحقق الإمداد مع منافاته له أفاد تحققه لا محالة مع ما هو غير مناف له كذا قيل ، وربما يفهم منه أن الإمداد المرتب على الشرط في قوله تعالى : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) وقع لهم وفي ذلك ترديد وتردد لأن هذا الكلام إن كان في غزوة أحد فلا شبهة في عدم وقوع ذلك ولا بملك واحد لعدم وقوع الشرط ولذا وقعت الهزيمة وإن كان في غزوة بدر كما هو المعتمد فقد وقع الاختلاف في أنهم أمدوا بهذه الخمسة الآلاف أولا. فذهب الشعبي إلى أنهم أمدوا بغيرها ولم يمدوا بها بناء على تعليق الإمداد بها بمجموع الأمور الثلاثة وهي الصبر والتقوى وإيتاء (١) أصحاب كرز وقد فقد الأمر الثالث كما نقلناه أولا فلم يوجد المجموع لانعدامه بانعدام بعض أجزائه فلم يوجد الإمداد المذكور كما صرح به الشعبي ، نعم ذهب جمع إلى خلافه ولعله مبنى صاحب القيل لكن يبقى أن تفسير الفور بما فسر به غير متعين بل لم يوجد صريحا في كلام السلف ، والذي ذهب إليه عكرمة ومجاهد وأبو صالح مولى أم هانئ أنه بمعنى الغضب فحينئذ تكون من للسببية أي يأتوكم بسبب غضبهم عليكم ، والإشارة إما لتعظيم ذلك الغضب من حيث إنه شديد ومتمكن في القلوب ، وإما لتحقيره من حيث إنه ليس على الوجه اللائق والطريق المحمود فإنه إنما كان على مخالفة المسلمين لهم في

__________________

(١) قوله : وإيتاء كذا بخطه رحمه‌الله ولعل المناسب ، وإتيان كما لا يخفى. كتبه مصححه.


الدين وتسفيه آرائهم وذم آلهتهم أو على ما أوقعوا فيهم وحطموا رءوس رؤسائهم يوم بدر ، وإلى الثاني ذهب عكرمة ـ وهو مبني على أن هذا القول وقع في أحد.

وذهب ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير إلى تفسيره بالسفر أي ويأتوكم من سفرهم هذا ، قيل : وهو مبني أيضا على ما بني عليه سابقه لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم حيث لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ إليهم ، ثم قال : إن صبرتم على الجهاد واتقيتم وعادوا إليكم من سفرهم هذا أمدكم الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة فأخذوا في الجهاد وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خرج يتبعكم فخاف المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين وأن يكون قد التأم إليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم فدسوا نعيما الأشجعي حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش وأسرعوا بالذهاب إلى مكة وكفى الله تعالى المسلمين أمرهم والقصة معروفة ، ثم إن تفسير الفور بالسفر مما لم نظفر به فيما بين أيدينا من الكتب اللغوية فلعل الفور بمعنى الحال التي لا بطء فيها وهذا التفسير بيان لحاصل المعنى ، وذهب الحسن والربيع والسدي وقتادة وغيرهم أن من (فَوْرِهِمْ) بمعنى وجههم وليس بنص فيما ذهب إليه متأخرو المفسرين أصحاب القيل لأنه يحتمل أن يكون المراد من الوجه الجهة التي يقصدها المسافر ، ويحتمل أن يكون من وجه الدهر بمعنى أوله اللهم إلا أن يقال : إنه وإن لم يكن نصا لكنه ظاهر قريب من النص لأن كون الوجه بمعنى الجهة المذكورة وإن جاء في اللغة إلا أن كون الفور كذلك في حيز المنع واحتمال كونه من وجه الدهر بمعنى أوله يرجع إلى ما قالوا فتدبر.

واعلم أن هذا الإمداد وقع تدريجا فكان أولا بألف ، ثم صاروا ألفين ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير ؛ فمعنى يمددكم بخمسة آلاف يمددكم بتمام خمسة آلاف ، وإليه ذهب الحسن ، وقال غيره : كانت الملائكة ثمانية آلاف فالمعنى يمددكم بخمسة آلاف أخر (مُسَوِّمِينَ) من التسويم وهو إظهار علامة الشيء ، والمراد معلمين أنفسهم أو خيلهم ، وقد اختلفت الروايات في ذلك ، فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير كانت عليه عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر ، وأخرج ابن إسحاق. والطبراني عن ابن عباس أنه قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين عمائم حمر ، وفي رواية أخرى عنه لكن بسند ضعيف أنها كانت يوم بدر بعمائم سود ويوم أحد بعمائم حمر.

وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : كانت سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها وكانوا كما قال الربيع على خيل بلق ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم كانوا مسومين بالعهن الأحمر ، وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : كانوا معلمين مجزوزة أذناب خيولهم ونواصيها فيها الصوف والعهن ، وأنت تعلم أنه لا مانع من أن يكونوا معلمين أنفسهم وخيولهم أيضا وذا على قراءة ابن كثير : وأبي عمرو وعاصم (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو ، وأما على قراءة الباقين (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو على أنه اسم مفعول فقيل : المراد به معلمين من جهة الله تعالى ، وقيل مرسلين مطلقين ، ومنه قولهم : ناقة سائمة أي مرسلة في المرعى ، وإليه ذهب السدي ، والمتبادر على هذه القراءة أن الإسامة لهم ، وأما أنها كانت لخيلهم فغير ظاهر (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد المفهوم من الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل : فأمدكم الله تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) وقيل : الضمير للوعد بالإمداد ، وقيل : للتسويم أو للتنزيل أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره ، وقيل : للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين ، والكل ليس بشيء كما لا يخفى ، والبشرى إما


مفعول له ، و ـ جعل ـ متعدية لواحد أو مفعول لها إن جعلت متعدية لاثنين ، وعلى الأول الاستثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم تنصرون ، وعلى الثاني مفرغ من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ).

والجملة ابتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه سبحانه وتعالى ، فإن حقيقة النصر مختص به عز اسمه ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة على فعل مقدر كما أشرنا إليه ، ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفا لهم وإيذانا بأنهم هم المحتاجون لما ذكر ، وأما رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فغني عنه بما منّ به عليه من التأييد الروحاني والعلم الرباني (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي ولتسكن قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عددكم وهذا إما معطوف على (بُشْرى) باعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة غائية للجعل إلا أنه نصب الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها ، وقيل : للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به ، فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء ، والثاني متعين على الاحتمال الثاني في الأول.

(وَمَا النَّصْرُ) أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولا أوليا (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو (وَمَا النَّصْرُ) المعهود (إِلَّا مِنْ) عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل استقلالا ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى. والآية على هذا لا تكون دليلا لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر تحقيقه فتذكر ، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لاحتمالها الأمرين ، وبكل قال بعض.

والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر ، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول ، فعن ابن إسحاق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به. وقال له : ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق ، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف ، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة ، وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه‌السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأمورا بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ، وأيضا أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين ، وأيضا إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحدا من الملائكة قتل أحدا منهم ، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا ، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة بدر ألوفا عديدة ولم يقل بذلك أحد ، وهو أيضا خلاف قوله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ولو كانوا في غير صورة ابن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل البتة ، وعلى الثاني يلزم حز الرءوس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دل على أنه لم يكن ،


وأيضا أنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل انتهى.

ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد ، ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه ، وقد روى عبد بن عمير قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر ، والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين : إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادرا على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب ، وكذا وهو قادر على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق الابتداء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى ، وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه ، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها ، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجرى الأمر فيها كما أجرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب ، ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية.

وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلا من غير انقلاب العين وتبدل الماهية ـ كما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه‌السلام في صورة دحية الكلبي ـ ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف بصورة فيقول لهم : أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق ، ومن سلم هذا ـ ولا يسلمه إلا ذو قلب سليم ـ لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليها حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحيانا ويخفون أحيانا ويرى البعض ويخفى البعض ، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الاستبعاد لا يجدي نفعا ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم ، فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى (الْعَزِيزِ) أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به ، وقيل : القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه (الْحَكِيمِ) أي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة ، وفي الإتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق بقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية وقوعه ، وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن يجعل (إِذْ تَقُولُ) ظرفا ـ لنصركم ـ لا بدلا من (إِذْ غَدَوْتَ) لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد.

والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه ، وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله


سبحانه : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده ، وقيل : هو متعلق بنفس الصبر ، واعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى ، وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر كما في الأول أو النصر المعهود كما في الثاني على ذلك ، والقول بأنه متعلق بمحذوف والتقدير فعل ذلك التدبير ، أو أمدكم بالملائكة ليقطع منقطع عن القبول ، والقطع الإهلاك ، والمراد من ـ الطرف ـ طائفة منهم قيل : ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف لأن أطراف الشيء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته ، وقيل : لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] وقيل : للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا ، ففي الأساس هو من أطراف العرب أي أشرافها ، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم في السير ، ومن ذلك قالوا : الأطراف منازل الأشراف لا يرد أن الوسط أيضا يشعر بالشرف ، فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بقتل وأسر ، وقد وقع ذلك في بدر كما قال الحسن والربيع وقتادة ، فقد قتل من أولئك سبعون وأسر سبعون ، واعتبار ذلك في أحد حيث قتل فيه ثمانية عشر رجلا من رؤسائهم قول لبعضهم وقد استعبدوه كما أشرنا إليه (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي يخزيهم قاله قتادة والربيع: ومنه قول ذي الرمة :

لم أنس من شجن لم أنس موقفنا

في حيرة بين مسرور ومكبوت

وقال الجبائي والكلبي : أي يردهم منهزمين ، وقال السدي : أي يلعنهم وأصل الكبت الغيظ والغم المؤثر ، وقيل : صرع الشيء على وجهه ، وقيل : إن كبته يكون بمعنى كبده أي أصاب كبده كرآه بمعنى أصاب رئته ، ومنه قول المتنبي :

لأكبت حاسدا وأرى عدوا

كأنهما وداعك الرحيل

والآية محمولة على ذلك ، ويؤيد هذا القول أنه قرئ أو يكبدهم ، وأو للتنويع دون الترديد لوقوع الأمرين (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي فينهزموا منقطعي الآمال فالخيبة انقطاع الأمل ، وفرقوا بينها وبين اليأس بأن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل واليأس يكون بعده وقبله ، ونقيض الخيبة الظفر ، ونقيض اليأس الرجاء (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أخرج غير واحد «أن رباعية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلخ فتيب عليهم كلهم ، وعن الجبائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودا فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية ، وقال محمد بن إسحاق. والشعبي لما رأى صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير قالوا : لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية.


وهذا الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين.

وعن مقاتل أنها نزلت في أهل بئر معونة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل أربعين وقيل : سبعين رجلا من قراء أصحابه وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق فلما علم بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك ، والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف إما على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم ، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله تعالى عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة.

وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى ، وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام ـ كما قال العلامة الثاني ـ لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة (أَوْ) نظر ، وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن ـ ولك أن تجعله بمعنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب ـ فليس هناك عطف الخاص على العام ، وفيه أن الحمل على التكليف تكلف ، والحمل على الشأن أرفع شأنا.

ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن (أَوْ) بمعنى إلا أن ، والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح ، أو يعذبهم فتشتفي بهم وأيا ما كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث إن كلا منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه عمن سواه ، وقيل : إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه ، وقيل : إن قوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ) إلخ عطف على ينقلبوا أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم ، أو عطف على (يَكْبِتَهُمْ) و (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصور إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من باب أولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة ، والمعنى أن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا ، وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم.

والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق كذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب وأكثر ما


يعلل به التعذيب الأخروي ، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه ، واستشكلت هذه الآية بناء على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] ، وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناء على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاد المأذون به.

وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الإذن وأيّا ما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة له ؛ وتقديم الخبر للقصر ، (وَما) عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين ، أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا واقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة (مَنْ) في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه.

وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لا ثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم ، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح ـ وهو مذهب الجماعة ـ وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا ، وتمسكوا في ذلك بوجهين : الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة ، الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة ، وقالوا : إن المراد (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه : (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بقوله جل شأنه : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر (لِمَنْ يَشاءُ) وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين ، وبما روي عن عطاء (يَغْفِرُ لِمَنْ) يتوب عليه (وَيُعَذِّبُ مَنْ) لقيه ظالما ؛ والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات ، وأجابوا عن متمسك المخالف ، أما عن الأول فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب ، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد ، وأما عن الثاني فبأن مجرد


جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلا عن الجزم به ، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرا فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريرا وإغراء على الذنب مع هذا الزاجر.

وأيضا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزما كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال : إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه ، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بقوله عزوجل : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيرا (لِمَنْ يَشاءُ) وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكا في الجملة ، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلا ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين ، ومما يدل على كذبه أن فيه حجرا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع.

فإن قال الخصم : نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا : يكون رجوعا إلى الاستدلال بالمعقول ، وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها. وهو مطلوبنا هنا ـ على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات ، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مع زيادة ، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام ، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة.

هذا «ومن باب الإشارة» (لَيْسُوا سَواءً) من حيث الاستعداد وظهور الحق فيهم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب الإلهي الأزلي (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) بالله تعالى له (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار (آناءَ اللَّيْلِ) أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يخضعون لله تعالى ولا يحدث فيهم الأنانية إنهم عالمون وأن من سواهم جاهلون (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالمبدإ والمعاد (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) حسبما اقتضاه الشرع ولكون ما تقدم نظرا للخصوص لأن إيداع الأسرار عند الأحرار ، وهذا بالنظر إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) من تكميل أنفسهم وغيرهم (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) القائمين بحقوق الحق والخلق (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) يقربكم إلى الله تعالى (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) فقد جاء «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) واحتجبوا عن الحق برؤية الأغيار (أَشْرَكُوا بِاللهِ) تعالى ما لا وجود له في عير ولا نفير (لَنْ تُغْنِيَ) لن تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي عذابه (شَيْئاً) من الدفاع لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوا (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) وهي الحجاب والبعد عن الحضرة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لاقتضاء صفة الجلال مع استعدادهم ذلك (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبا للشهوات ومحمدة الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي برد شديد (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والكفر (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاك حرثهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لسوء استعدادهم الغير المقبول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) أي خاصة تطلعونه على أسراركم (مِنْ دُونِكُمْ) كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ولا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة المحبة في ذلك العالم فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور على الأغراض ؛ ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم فإذا كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف ، وأنى يتجانس النور والظلمة ، وكيف يتوافق مشرق ومغرب؟!

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يماني

ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقية وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى ناراهما ، وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) لامتناع إخفاء الوصف الذاتي (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأنه المنشأ لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة وأسبابهما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) وتفهمون من فحوى الكلام (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) بمقتضى ما عندكم من التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ويرى الكل مظهرا لحبيبه جل شأنه فيرحم الجميع ويعلم أن البعض منهم قد اشتغل بباطل نظرا إلى بعض الحيثيات وابتلي بالقدر ، وهذا لا ينافي ما قدمنا آنفا عند التأمل (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بمقتضى الحجاب والظلمة التي ضربت عليهم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ) أي جنسه (كُلِّهِ) لما أنتم عليه من التوحيد المقتضي لذلك (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بذلك للاحتجاب بما هم عليه (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) الكامن في صدورهم (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) كآثار تجلي الجمال (تَسُؤْهُمْ) ويحزنوا لها (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال (يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما ابتليتم به وتثبتوا على التوحيد (وَتَتَّقُوا) الاستعانة بالسوى (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لأن الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض عمن سواه ظافر بطلبته غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله تعالى ، والمخذول من استعان بغيره وقصده سواه كما قيل :

من استعان بغير الله في طلب

فإن (ناصره عجز وخذلان)

(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من المكايد (مُحِيطٌ) فيبطلها ويطفئ نارها (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذلك وبالشكر تزاد النعم (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) لما رأيت من حالهم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) على صيغة اسم الفاعل السكينة عليكم ، أو (مُنْزَلِينَ) على صيغة اسم المفعول من جانب الملكوت إليكم (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا) على صدمات تجليه سبحانه


(وَتَتَّقُوا) من سواه (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أي بلا بطء (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) على صيغة الفاعل أي معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة ، أو (مُسَوِّمِينَ) على صيغة المفعول بعمائم بيض ، وهي إشارة إلى الأنوار الإلهية الظاهرة عليهم ، وتخصيص ـ الخمسة آلاف ـ بالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل لطيفة من اللطائف الخمس بألف والألف إشارة إلى الإمداد الكامل حيث إنها نهاية مراتب الأعداد وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن النصر على الأعداء ـ وأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ـ لا يكون إلا عند تقوى القلب وكذا سائر جنود الروح بل والروح نفسها أيضا بتأييد الحق والتنور بنور اليقين فتحصل المناسبة بين القلب مثلا وبين ملكوت السماء وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها في أفعاله وربما يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه وذلك عبارة عن نزول الملائكة وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل المكروه طلبا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية.

وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك لأن النفس حينئذ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور فلم تبق تلك المناسبة وانقطع المدد ولم تنزل الملائكة ، (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي إلا لتستبشروا به فيزداد نشاطكم في التوجه إلى الحق (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيتحقق الفيض بقدر التصفية (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من عند الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة وبالحق عن الحق فالكل منه تعالى وإليه (الْعَزِيزِ) فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء (الْحَكِيمِ) الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة (لِيَقْطَعَ) أي يهلك (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أعداء الله تعالى (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم ويذلهم (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) فيرجعوا غير ظافرين بما أملوا (لَيْسَ لَكَ) من حيث أنت (مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وكله لك من حيثية أخرى (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا أسلموا فتفرح لأنك المظهر للرحمة الواسعة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) لأجلك فتشتفي بهم من حيث أنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة فإنهم ظالمون بتلك المخالفة (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) من عالم الأرواح (وَما فِي الْأَرْضِ) من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء ويختار (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لأن له التصرف المطلق في الملك والملكوت (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) ابتداء كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد ، ولعل إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه ، وقدمه على الأمر اعتناء به وليجيء ذلك الأمر بعد سدّ ما يخدشه ، وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الاقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضا ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم ، فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفا بهم ، وقيل : إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب ـ وهو الربا ـ وخصه بالنهي لأنه كان شائعا إذ ذاك وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في سورة البقرة بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولا وبالذات إيذانا بشدة الحظر.

والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد به ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة


التشنيع ، وقد تقدم الكلام في الربا (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) حال من الربا ـ والأضعاف ـ جمع ضعف وضعف الشيء مثله ، وضعفاه مثلاه ، وأضعافه أمثاله ، وقال بعض المحققين : الضعف اسم ما يضعف الشيء كالثني اسم ما يثنيه من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوف ـ على ما نقله الراغب ـ بمعنى ضعفته ، وهو اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل : ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها ، ولو قال : له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور كما إذا قيل : هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار ، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم وليس ذلك بناء على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله ، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور.

وهذا معزى الفقهاء في الأقارير والوصايا ، ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال ـ وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي ـ كما قال الأزهري.

ومن هنا ظهر أنه لو قال : له الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان ، ثم قال والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى أول مراتبه لأنه المتيقن ، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف ، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع ، فقد روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين : زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء الضعيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية ، وقرئ ـ «مضعفة» ـ بلا ألف مع تشديد العين.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح ، فالجملة حينئذ في موضع الحال قيل : ولا يخفى أن اقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى (١) حضائر القدس (وَاتَّقُوا النَّارَ) أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطى ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار (الَّتِي أُعِدَّتْ) أي هيئت (لِلْكافِرِينَ) وهي الطبقة التي اشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها دون ذلك ، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة ، ويحتمل أن يقال : إن النار مطلقا مخلوقة للكافرين معدّة لهم أولا وبالذات ، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص ، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء ، روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول : إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص (وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه فلا يتكرر مع الأمر بالتقوى السابق (وَالرَّسُولَ) أي الذي شرع لكم الدين وبلغكم الرسالة فإن طاعته طاعة الله تعالى.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي تنالوا رحمة الله تعالى أو راجين رحمته ، وعقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة ، قال محمد بن إسحاق : هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم في أحد ولعلهم الرماة الذين فارقوا المركز (وَسارِعُوا) عطف على أطيعوا أو اتقوا.

__________________

(١) قوله : (حضائر) هو في خط المؤلف رحمه‌الله بالضاد الساقطة كتبه مصححه.


وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على وجه الاستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام ، والقراءة المشهورة قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا ، وقرئ بالأخير (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) أي أسبابهما من الأعمال الصالحة ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء الفرائض ، وعن ابن عباس إلى الإسلام ، وعن أبي العالية إلى الهجرة ، وعن أنس بن مالك إلى التكبيرة الأولى ، وعن سعيد بن جبير إلى أداء الطاعات ، وعن يمان إلى الصلوات الخمس ؛ وعن الضحاك إلى الجهاد ، وعن عكرمة إلى التوبة ، والظاهر العموم ويدخل فيه سائر الأنواع ، وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية ، وقيل : لأنها كالسبب لدخول الجنة ، و (مِنْ) متعلقة بمحذوف وقع نعتا ـ لمغفرة ـ والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها من الرب دون الجنة تعظيما لأمرها وتنويها بشأنها وسبب نزول الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبي رباح «أن المسلمين قالوا : يا رسول الله بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة داره اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم» والتنوين في مغفرة للتعظيم ويؤيده الوصف ، وكذا في (جَنَّةٍ) ويؤيده أيضا وصفها بقوله سبحانه : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) والمراد كعرض السموات فهو على حد قوله :

حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي ويب غيرك بالعناق

فإنه أراد كصوت عناق ، والعرض أقصر الامتدادين ، وفي ذكره دون ذكر الطول مبالغة ، وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه وتقدير المضاف فليس المقصود تحديد عرضها حتى يمتنع كونها في السماء بل الكلام كناية عن غاية السعة بما هو في تصور السامعين ، والعرب كثيرا ما تصف الشيء بالعرض إذا أرادوا وصفه بالسعة ، ومنه قولهم : أعرض في المكارم إذا توسع فيها ، والمراد من (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) السموات السبع والأرضون السبع ، فعن ابن عباس من طريق السدي أنه قال : تقرن السموات السبع والأرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها ببعض فذاك عرض الجنة ، والأكثرون على أنها فوق السموات السبع تحت العرش وهو المروي عن أنس بن مالك ، وقيل : إنها في السماء الرابعة وإليه ذهب جماعة ، وقيل : إنها خارجة عن هذا العالم حيث شاء الله تعالى ، ومعنى كونها في السماء أنها في جهة العلو ولا مانع عندنا أن يخلق الله تعالى في العلو أمثال السموات والأرض بأضعاف مضاعفة. ولا ينافي هذا خبر أنها في السماء الرابعة إن صح ، ولا ما حكي عن الأكثر لأن ذلك مثل قولك : في الدار بستان إذا كان له باب منها يشرع إليه مثلا فإنه لا ينافي خروج البستان عنها ، وعلى هذا التأويل لا ينافي الخبر أيضا كون عرض الجنة (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] من غير حاجة إلى القول بأنه ليس المراد من (السَّماواتُ) السموات السبع كما قيل به.

ومن الناس من ذهب إلى أنها في السماء تحت العرش أو الرابعة إلا أن هذا العرض إنما يكون يوم القيامة حيث يزيد الله تعالى فيها ما يزيد.

وحكي ذلك عن أبي بكر أحمد بن علي قيل : وبذلك يدفع السؤال بأنه إذا كان عرض الجنة «كعرض السماء والأرض» فأين تكون النار ، ووجه الدفع أن ذلك يوم القيامة ، وأما الآن فهي دون ذلك بكثير ، ويوم يثبت لها ذلك لا تكون فيه السموات والأرض كهذه السموات والأرض المشبه بعرضهما عرضها ، ولا يخفى أن القول بالزيادة في السعة يوم القيامة وإن سلم إلا أن كونها اليوم دون هذه السموات والأرض بكثير في حيز المنع ولا يكاد يقبل ، والسؤال المذكور أجاب عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير ذلك.


فقد أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال : «قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب هرقل ، وفيه : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ ولعل المقصود من الجواب إسقاط المسألة وبيان أن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء ، وإلى ذلك يشير خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن العرض هاهنا ليس مقابل الطول بل هو من قولك عرضت المتاع للبيع ، والمعنى أن ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض ، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شيء وإن عظم ، فالعرض بمعنى ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع وربما يستغني على هذا عن تقدير ذلك المضاف ، ولا يخفى أنه على ما فيه من البعد خلاف المأثور عن السلف الصالح من أن المراد وصفها بأنها واسعة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت للمطيعين لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع ، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضا لأن المجانين مثلا لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى.

وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وإن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع ، ولعلها الفردوس المصرح بها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس» وفيه تأمل ، والآية ظاهرة في أن الجنة مخلوقة الآن كما يدل عليه الفعل الماضي ، وجعله من باب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف : ٩٩ ، يس : ٥١ ، الزمر : ٦٨ ، ق : ٢٠] خلاف الظاهر ولا داعي إليه كما بين في محله ، ومثل ذلك (أُعِدَّتْ) السابق في حق النار ، وأما دلالة الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناء على أنها تقتضي أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما يرشدك إليه النظر فيما تقدم.

والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة ، وجوز أن تكون في موضع نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت ، وجوز أيضا أن تكون مستأنفة قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أمور : أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على ضعفه ، والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل المسافة ، والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) في محل الجرّ على أنه نعت للمتقين مادح لهم ، وقيل : مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل أو رفع على إضمار هم ومفعول (يُنْفِقُونَ) محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم : فلان يعطي.

(فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي في اليسر والعسر قاله ابن عباس ؛ وقيل : في حال السرور والاغتمام ، وقيل : في الحياة وبعد الموت بأن يوصي ، وقيل : فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء ، وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم ، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر ، والمتبادر ما قاله الحبر ، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي إنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل. وقد روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدقت بحبة عنب ، وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة ، وفي الخبر «اتقوا النار ولو بشق تمرة ، وردوا السائل ولو بظلف محرق» ؛ (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أصل الكظم شدّ رأس القربة عند امتلائها ، ويقال : فلان كظيم أي ممتلئ حزنا ، و (الْغَيْظَ) هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر ، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل : إن الغضب يتبعه إرادة الانتقام البتة ، ولا كذلك الغيظ ، وقيل :


الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير اختيار والغيظ ليس كذلك وقيل : هما متلازمان إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى والغيظ لا يصح فيه ذلك.

والمراد والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنقاذ والانتقام وهذا هو الممدوح ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا».

وأخرج أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء» وفي الأول جزاء من جنس العمل ، وفي الثاني ما هو من توابعه ، وهذا الوصف معطوف على ما قبله والعدول إلى صيغة الفاعل هنا للدلالة على الاستمرار ، وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي المتجاوزين عن عقوبة من استحقوا مؤاخذته إذا لم يكن في ذلك إخلال بالدين ، وقيل : عن المملوكين إذا أساءوا ، والعموم أولى.

أخرج ابن جرير عن الحسن «أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ليقم من كان له على الله تعالى أجر فلا يقوم إلا إنسان عفا» ، وأخرج الطبراني عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه».

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك في الآية «إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله تعالى وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» والاستثناء منقطع إن كانت القلة على ظاهرها ومتصل إن كانت بمعنى العدم ، وكون بعض الخصائص كثيرا في الأمم السابقة لا يقتضي تفضيلهم على هذه الأمة من كل الوجوه ومن ظن ذلك تكلف في توجيه الحديث بأن المراد أن الكاظمين الغيظ في أمتي قليل إلا بعصمة الله تعالى لغلبه الغيظ عليهم ، وقد كانوا كثيرا في الأمم السالفة لقلة حميتهم ولذا كان الأمر بالمعروف النهي عن المنكر فيما بينهم قليلا ولما تمرنت هذه الأمة في الغضب لله تعالى والتزموا الاجتناب عن المداهنة صار إنفاذ الغيظ عادتهم فلا يكظمون إذا ابتلوا إلا بعصمة الله تعالى ، فالقليل في الخبر هم الذين يكظمون لقلة الحمية وهم الكثيرون في الأمم السالفة فلا اختصاص لهم بمزية ليتوهم تفضيلهم على هذه الأمة ولو من بعض الوجوه ، ولا يخفى أن هذا التوجيه مما تأباه الإشارة والعبارة ، وأحسن منه بل لا نسبة أن الكثرة نظرا إلى مجموع الأمم لا بالنسبة إلى كل أمة أمة ولا يضر قلة وجود الموصوفين بتلك الصفة فينا بالنظر إلى مجموع الخلائق من لدن آدم عليه‌السلام إلى أن بعث نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن هذه الأمة بأسرها قليلة بالنظر إلى مجموع الأمم فضلا عن خيارها فتدبر ، وفي ذكر هذين الوصفين كما قال بعض المحققين : إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وندب له عليه الصلاة والسلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله تعالى عنه حتى قال : «حين رآه مثل به لأمثلن بسبعين مكانك» ولعل التعبير هنا بصيغة الفاعل أيضا دون الفعل لأن العفو أشبه بالكظم منه بالإنفاق (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل لمضمون ما قبله ـ وال ـ إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد وعبر عنهم بالمحسنين على ما قيل : إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ـ ويمكن أن يقال : الإحسان


هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح ، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط.

ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت : إن الله تعالى يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي قالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال : قد عفا الله تعالى عنك قالت : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ، ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) من تتمة ما نزل حين قال المسلمون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا» إلخ على ما أشرنا إليه فيما تقدم ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر الآية.

وفي رواية الكلبي «أن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهما فكانا لا يفترقان فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه وخرج معه الثقفي وخلف الأنصاري في أهله وحاجته فكان يتعاهد أهل الثقفي فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحيا فأدبر راجعا فقالت : سبحان الله تعالى خنت أمانتك وعصيت ركب ولم تصل إلى حاجتك قال : وندم على صنيعته فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول : رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له : قم يا فلان فانطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه‌السلام بتوبته فتلا (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) إلى قوله سبحانه وتعالى (وَنِعْمَ (١) أَجْرُ الْعامِلِينَ) فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : بل للناس عامة».

وفي رواية عطاء عن ابن عباس أن تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.

وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول وأيا ما كان فبإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الرماة انتظاما أوليا ، وأخرج الترمذي عن عطاف بن خالد أنه قال : بلغني أنها لما نزلت صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا : ما لك يا سيدنا قال : آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب قالوا : وما هي؟ فأخبرهم قالوا : نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك ، والموصول إما مفصول عما قبله على أنه مبتدأ ، وقيل : إنه معطوف على ما قبله من صفات المتقين ، وقوله سبحانه : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى وحظهم أوفى ، أو على المتقين فيكون التفاوت أظهر وأكثر ، ـ والفاحشة ـ الكبائر ، وظلم النفس الصغائر قاله القاضي عبد الجبار الهمداني ، وقيل : الفاحشة المعصية الفعلية ، وظلم النفس المعصية القولية ، وقيل : الفاحشة ما يتعدى ، ومنه إفشاء الذنب لأنه سبب اجتراء الناس عليه ووقوعهم فيه وظلم النفس ما ليس كذلك ، وقيل : الفاحشة كل ما يشتد قبحه من المعاصي والذنوب وتقال لكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال ، وكثيرا ما ترد بمعنى


الزنا ، وأصل الفحش مجاوزة الحدّ في السوء ومنه قول طرفة عقيلة مال الفاحش المتشدد يعني الذي جاوز الحد في البخل فلعل المراد منها هنا المعصية البالغة في القبح ، والظلم الذنب مطلقا وذكره بعدها من ذكر العام بعد الخاص ، وأو على الوجوه للتنويع ولا يرد أنه على بعض الوجوه الترديد بين الخاص والعام وقد توقف في قبوله لأنهم قالوا : إن هذا ترديد بين فرقتين من يستغفر للفاحشة ومن يستغفر لأي ذنب صدر عنه وكم بينهما ، وجواب (إِذا) قوله تعالى شأنه : (ذَكَرُوا اللهَ) أي تذكروا حقه العظيم ووعيده ، أو ذكروا العرض عليه ، أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة أو نهيه أو غفرانه وقيل : (ذَكَرُوا) جماله فاستحيوا وجلاله فهابوا ، وقيل : (ذَكَرُوا) ذاته المقدسة عن جميع القبائح وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة له بالتطهير من الذمائم ، وعلى كل تقدير ليس المراد مجرد ذكر اسمه عز اسمه (فَاسْتَغْفَرُوا) أي طلبوا المغفرة منه تعالى (لِذُنُوبِهِمْ) كيفما كانت ومفعول (فَاسْتَغْفَرُوا) محذوف لفهم المعنى أي استغفروه ، وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالاستهزاء بالرب جل شأنه ، ومن هنا قالت رابعة العدوية : استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) اعتراض بين المعطوفين أو بين الحال وذيها ، والتركيب على ما أفاده بعض المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد.

أما الأول فعلى وجوه : أحدها دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل : هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء ، وثانيها تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقرّه لأنه اعتراض بين المبتدأ وهو (الَّذِينَ) والخبر الآتي ، ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الاستغفار لم يتخلف الغفران ، وثالثها الإتيان بالجمع المحلى باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له ، ورابعها دلالة النفي بالحصر والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله ، وذلك أن من وسعت رحمته كل شىء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا ، وخامسها إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الاستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب الوعد كما نقول ، أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة. وأما الثاني ففيه وجوه أيضا :

الأول إن في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييبا للنفوس ، والثاني أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها ، والثالث أن في ضمن معنى الاستغراق قلع اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] بقوله جل شأنه : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] والرابع أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر ، والخامس أن الاسم الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه.

وقد التزم بعضهم كون ـ أل ـ في (الذُّنُوبَ) للجنس لتفيد الآية امتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى ، وهذا على ظنه لا تفيده الآية على تقدير إرادة كل (الذُّنُوبَ) وحينئذ يزداد أمر المبالغة ، وأما جعل الجملة حالية


بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفى ، و (مَنْ) مبتدأ و (يَغْفِرُ) خبره والاسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) عطف على (فَاسْتَغْفَرُوا) أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم ، وأصل الإصرار الشد من الصر ، وقيل : الثبات على الشيء ، ومنه قول الحطيئة يصف الخيل :

عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا

غلالتها بالمحصدات (أصرت)

ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة ، والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا المعنى هنا لئلا يتكرر ما في المفهوم مع ما في المنطوق ، فلعله فيه بمعنى الإقامة ، وإذا حمل الاستغفار على مجرد طلب المغفرة فقط كان هذا مشيرا للتوبة التي هي ملاك الأمر إلا أنه قدم الاستغفار لأنه دال عليها في الظاهر ، وإذا حمل على الحال الذي ينضم إليه التوبة كان هذا تصريحا ببعض ما أريد منه إشارة إلى الاعتناء به كما قالوا في ذكر الخاص بعد العام ، أخرج البيهقي عن ابن عباس موقوفا «كل ذنب أصر عليه العبد كبير وليس بكبير ما تاب منه العبد» وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر مرفوعا ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين» (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قيل : الجملة حال من ضمير ـ استغفروا ـ وفيه بعد لفظي ، والمشهور أنها حال من ضمير ـ أصروا ـ ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف أي يعلمون قبح فعلهم ، وقد ذكر أن الحال بعد الفعل المنفي وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيدا له دون المنفي مثل ما جئتك مشتغلا بأمورك بمعنى تركت المجيء مشتغلا بذلك ، وقد يكون راجعا إلى ما دخله النفي مثل ما جئتك راكبا ، ولهذا معنيان : أحدهما و ـ هو الأكثر ـ أن يكون النفي راجعا إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى جئت غير راكب ، وثانيهما أن يقصد نفي الفعل والقيد معا بمعنى انتفاء كل من الأمرين بالمعنى في المثال لا مجيء ولا ركوب ، وقد يكون النفي متوجها للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته.

قيل : وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون وهم (يَعْلَمُونَ) قيدا للنفي لعدم الفائدة لأن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل بل مع الجهل أولى ولا يصح أيضا فيها أن يتوجه النفي إلى القيد فقط مع إثبات أصل الفعل إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم ، وكذا لا يصح توجهه إلى الفعل والقيد معا إذ ليس المعنى على نفي العلم ، والظاهر أن المناسب فيها توجهه إلى الفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته ، والمراد لم يصروا عالمين بمعنى أن عدم الإصرار متحقق البتة.

ولك أن تقول : لم لا يجوز أن يكون الحال هنا قيدا للنفي ويكون المعنى تركوا الإصرار على الذنب لعلمهم بأن الذنب قبيح فإن الحال قد يجيء في معرض التعليل.

وحديث إن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجعل فلا دخل لمضمون الحال في إيجاب الأجر؟ مجاب عنه بأنه ليس المقصود من ذكر الحال تقييد الإصرار بها لإيجاب الأجر حتى يرد عليه ما ذكر بل المراد مدحهم بأن تركهم الإصرار على الذنب لأجل أن فيهم ما هو زاجر عنه وهو علمهم بقبح الذنب فيكون مدح لهم بأن من صفاتهم التحرز عن القبائح ، وادعى بعض المتأخرين تعين كون الحال قيدا للمنفي وأن النفي راجع إلى القيد ، والمعنى لم يكن لهم الإصرار مع العلم بقبح الجزاء لأن المصر مع عدم العلم بالقبح لا يحرم الجزاء وغير المصر لكسالة أو لعدم ميل الطبع لا يبلغه لأن الجزاء على الكف لا على العدم وإلا لكان لكل أحد أجزية لا تتناهى لعدم فعل قبائح لا تتنامى لم تخطر بباله ، ولا يخفى ما في قوله : «وغير المصر» إلخ ، وقوله : «لأن الجزاء» إلخ


من النظر ، وكأن من جعله حالا من ضمير ـ استغفروا ـ أراد الفرار من هذه الدغدغة ، وأنا أقول : إن الحال قيد للنفي ومتعلق العلم وليس هو القبح بل إنه يغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب ، وهو المروي عن مجاهد كما أخرجه جماعة عنه ، وحكي عن الضحاك أيضا. والمعنى أنهم تركوا الإقامة على الذنب عالمين بأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ، وهو إيذان بأنهم لا ييأسون من روح الله سبحانه ولا يرد على هذا دعوى عدم الفائدة كما أورد أولا إذ من المعلوم الذي لا شبهة فيه أن ترك الإصرار إنما يوجب الأجر إذا لم يكن معه يأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ولعل مدحهم بأنهم يعلمون ذلك أولى من مدحهم بأنهم يعلمون قبح الفعل ، وربما يقال : إن الجملة سيقت معترضة لذلك كما سيقت كذلك جملة (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) لما سيقت له ، وأما جعلها معطوفة على جملة ـ لم يصروا ـ ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا فليس بالذي تميل النفس إليه (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين أخيرا باعتبار اتصافهم بما تقدم من الصفات الحميدة ، والبعد للإشعار ببعد منزلتهم في الفضل ، وإلى هذا ذهب المعظم ، وقيل : هو إشارة إلى المذكورين وهم طائفة واحدة ، وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (جَزاؤُهُمْ) بدل اشتمال منه أو مبتدأ ثان ، وقوله تعالى : (مَغْفِرَةٌ) خبر (أُولئِكَ) أو خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر الأول ، وهذه الجملة خبر (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) إلخ على الوجه الأول ، وادعى مولانا شيخ الإسلام أنه الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخيرين (أُولئِكَ) إلخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر ما هو من أوصاف الأولين ما في شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لهما المفرة ، وتخصيص الإشارة بالأخيرين مع اشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر انتهى.

والذي يشعر به ظاهر ما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه قرأ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) الآية ثم قرأ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد أحد الوجهين الأخيرين اللذين أشار إليهما بل الأول منهما ، وتكون هذه الإشارة كما قال صاحب القيل ، وهذه المغفرة هي المغفرة التي أمر جميع المؤمنين من له ذنب ومن لا ذنب له منهم بالمسارعة إلى ما يؤدي إليها فلا يضر وقوعها في مطلع الجزاء (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة للمغفرة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي مغفرة عظيمة كائنة من جهته تعالى ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم مع التشريف (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) عطف على (مَغْفِرَةٌ) والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر سبحانه أن عرضها (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وليس جنات وراءها على ما يقتضيه كلام صاحب القيل إلا أنه لم يكتف بإعداد ما وصف أولا تنصيصا على وصفها باشتمالها على ما يزيدها بهجة من الأنهار الجالية بعد وصفها بالسعة والإخبار بأنها جزاؤهم وأجرهم الذي لا بد بمقتضى الفضل أن يصل إليهم ، وهذا فوق الإخبار بالأعداد أو مؤكد له فالتنوين للتعظيم على طرز ما ذكر في المعطوف عليه ، وادعى شيخ الإسلام أن التنكير يشعر بكونها أدنى من الجنة السابقة ، وإن ذلك مما يؤيد رجحان الوجه الأول الذي أشار إليه وفيه تردد (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من الضمير المجرور في (جَزاؤُهُمْ) لأنه مفعول به معنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين الجنة ، وعلى ذلك اقتصر مقاتل ، وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات.

وفي الجملة على ما نص عليه بعض المحققين وجوه من المحسنات : أحدها أنها كالتذييل للكلام السابق


فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد ، وثانيها في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء لأن الأصل (وَنِعْمَ) هو أي جزاؤهم إيجاب إنجاز هذا الوعد وتصوير صورة العمل في العمالة تنشيطا للعامل ، وثالثها في تعميم العاملين وإقامته مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني.

ولمراد من الكلام السابق الذي جعل هذا كالتذييل له إما الكلام الذي في شأن التائبين ، أو جميع الكلام السابق على الخلاف الذي ذكرناه آنفا ، ومن ذهب إلى الأول قال : وكفاك في الفرق بين القبيلين وهما المتقون الذين أتوا بالواجبات بأسرها واجتنبوا المعاصي برمتها ، والمستغفرون لذنوبهم بعد ما أذنبوا وارتكبوا الفواحش والظلم أنه تعالى فصل آية الأولين بقوله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المشعر بأنهم محسنون محبوبون عند الله تعالى ، وفصل آية الآخرين بقوله جلا وعلا : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المشعر بأن هؤلاء أجراء وأن ما أعطوا من الأجر جزاء لتداركهم بعض ما فوتوه على أنفسهم ، وأين هذا من ذاك وبعيد ما بين السمك والسماك ، ولا يخفى أنه على تقدير كون النعتين نعت رجل واحد كما حكي عن الحسن يمكن أن يقال : إن ذكر هذه الجملة عقيب تلك لما ذكره بعض المحققين وأي مانع من الاخبار بأنهم محبوبون عند الله تعالى وأن الله تعالى منجز ما وعدهم به ولا بدّ ، وكونهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا لا ينافي كونهم محسنين أما إذا أريد من الإحسان الانعام على الغير فظاهر ، وأما إذا أريد به الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق ـ أو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ـ كما صرح به في الصحيح فلأن ذلك لو نافى لزم أن لا يصدق المحسن إلا على نحو المعصوم ولا يصدق على من عبد الله تعالى وأطاعه مدة مديدة على أليق وجه وأحسنه ثم عصاه لحظة فندم أشد الندم واستغفر سيد الاستغفار ؛ ولا أظن أحدا يقول بذلك فتدبر.

ثم إن في هذه الآيات ـ على ما ذهب إليه المعظم ـ دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات ، متقين وتائبين ومصرين ، وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم ويدخلون الجنة ، وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عند بعض ودال على المخالفة عند آخرين وكفى في تحققها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه مفصلا ـ ويا له من فضيحة ـ وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين على أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر ؛ وكذلك المغفرة أما نفي التفضل بهما فلا ، وهذا على أصل المعتزلة واضح للفرق بين الجزاء والتفضل وجوبا وعدم وجوب ، وأما على أصل أهل السنة فكذلك لأن التفضل قسمان : قسم مترتب على العمل ترتب الشبع على الأكل يسمى أجرا وجزءا وقسم لا يترتب على العمل فمنه ما هو تتميم للأجر كما أو كيفا كما وعده من الأضعاف وغير ذلك ، ومنه ما هو محض التفضل حقيقة واسما كالعفو عن أصحاب الكبائر ورؤية الله تعالى في دار القرار وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى قاله بعض المحققين ، وذكر العلامة الطيبي أن قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وردت خطابا لآكلي الربا من المؤمنين وردعا لهم عن الإصرار على ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين وتحريضا على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين من المتقين والتائبين ، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا زجر ولا ترهيب فبين بالآيات معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثا لهم على الانخراط في سلكهم ولا بدّ من ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفا لهؤلاء وجميع الفوائد التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) تدخل في المعنى ، فعلم من هذا أن دلالة (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) مهجورة لأن مقام التحريض والحث أخرج المصرين ، والحاصل أن شرط دلالة المفهوم هنا منتف فلا يصح


الاحتجاج بذلك للمعتزلة أصلا (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى حسب عادته ، وقال المفضل : إن المراد بها الأمم ، وقد جاءت السنة بمعنى الأمة في كلامهم ، ومنه قوله :

ما عاين الناس من فضل كفضلكم

ولا رأوا مثلكم في سالف السنن

وقال عطاء : المراد بها الشرائع والأديان ، فالمعنى قد مضت من قبلكم سنن وأديان نسخت ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبق ـ كما قيل ـ وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي ، وذكر مضي الأديان ليس له كثير ارتباط بذلك ، وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتا للمؤمنين على دين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يهنوا بقول اليهود إن دين موسىعليه‌السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ على الله تعالى لأنه بداء وتحريضا لليهود وحثا على قبول دين الإسلام وإنذارا لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين ، نعم إطلاق السنة على الشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل الطريقة والعادة ، ومنه قولهم : سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من (سُنَنٌ) أي سنن كائنة من قبلكم (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي بأقدامكم أو بأفهامكم (فَانْظُروا) أي تأملوا.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي آخر أمرهم الذي أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم ، والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير والنظر أو الأمر بهما ، وقيل : المعنى على الشرط أي إن شككتم (فَسِيرُوا) إلخ ، والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين ، وقال النقاش : للكفار ـ وفيه بعد ـ و (كَيْفَ) خبر مقدم ـ لكان ـ معلق لفعل النظر ، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع مجازي التأنيث.

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا


وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٥٣)

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الإشارة إما إلى القرآن ـ وهو المروي عن الحسن وقتادة ـ وخدش بأنه بعيد عن السياق. وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين ، وقوله سبحانه : (قَدْ خَلَتْ) الآية اعتراض للحث على الإيمان والتقوى والتوبة ـ كما قيل ـ ووجه الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص ، واعترض عليه بأنه تعسف. وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه : (قَدْ خَلَتْ) إلخ ، وهو المروي عن أبي إسحاق ، واختاره الطبري والبلخي ، وكثير من المتأخرين ـ وأل ـ في الناس للعهد ، والمراد بهم المكذبون ، والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف وقع صفة لهم أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر السابق وإن كان خاصا بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك ، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة ، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي ، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنا ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريا عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين.

والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناء على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم ، وقدم بيان كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم ، وأما الهدى فأمر مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع


ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلي ، وقيل : أل في الناس للجنس.

والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظه ـ وليس بالبعيد ـ وجوز بعضهم أن يراد من المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة ، وأن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى وما عطف عليه إلى اعتبار ما يعم الابتداء والزيادة فيه ، ولا يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لارتكاب خلاف الظاهر في موضعين ، وأما الأول ففيه بعد من جهة الارتكاب في موضع واحد وهو وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما ارتكبناه يهدي إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما ارتكبوه بل اعتبار الكمال المشعر به الإطلاق ربما يأباه ولعله لمجموع الأمرين هان أمر نزع الخف.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال : «انهزم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم» وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح.

وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم. وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأيّا ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود إلى التفصيل ، وبما تقدم من قصة أحد ـ إن لم نقل ذلك ـ وبه قال جمع ، وجعلوا توسيط حديث الربا استطرادا أو إشارة إلى نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين ، وبه يظهر الربط وقد مر توجيهه بغير ذلك أيضا.

ومن الناس من جعل ارتباط هذه الآية لفظا بمحذوف أي كونوا مجدين ولا تهنوا ، ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه ، والوهن ـ الضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله تعالى بما نالكم من الجراح (وَلا تَحْزَنُوا) على ما أصبتم به من قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب عن بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى عنهم ، وسبعون من الأنصار ، وقيل : (لا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن من الآثار الاختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال أنكم (الْأَعْلَوْنَ) الغالبون دون أعدائكم فإن مصيرهم مصير أسلافهم المكذبين فهو تصريح بعد الإشعار بالغلبة والنصر.

حكى القرطبي أنهم لم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه الصلاة والسلام وكذا في كل عسكر كان بعد ، ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. أو المراد والحال أنكم أعلى منهم شأنا فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار ، واشتراكهم على هذا في العلو بناء على الظاهر وزعمهم ، وإذا أخذ العلو بمعنى الغلبة لا يحتاج إلى هذا لما أن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين ، وقيل : المراد (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) حالا منهم حيث أصبتم


منهم يوم بدر أكبر مما أصابوا منكم اليوم ، ومن الناس من جوز كون الجملة لا محل لها من الإعراب وجعلها معترضة بين النهي المذكور ، وقوله سبحانه : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنه متعلق به معنى وإن كان الجواب محذوف أي ـ إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا ـ فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه ، ولا يخفى أن دعوى التعلق مما لا بأس بها لكن الحكم ـ بكون تلك الجملة معترضة ـ معترض بالبعد ، ويحتمل أن يكون هذا الشرط متعلقا ـ بالأعلون ـ والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مؤمنين ـ فأنتم الأعلون ـ فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي العلو لا محالة ، ويحتمل أن يراد بالإيمان التصديق بوعد الله تعالى بالنصرة والظفر على أعداء الله تعالى ، ولا اختصاص لهذا الاحتمال بالاحتمال الأخير من احتمالي التعلق كما يوهمه صنيع بعضهم ، وعلى كل تقدير المقصود من الشرط هنا تحقيق المعلق به كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني أجري ، أو من قبيل قولك لولدك : إن كنت ابني فلا تعصني ، وحمل بعضهم الشرط على التعليل أي لا تهنوا ولا تحزنوا لأجل كونكم مؤمنين ، أو (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) لأجل ذلك ، والقول بأن المراد إن بقيتم على الإيمان ليس له كمال ملاءمة للمقام (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) قرأ حمزة والكسائي ، وابن عياش عن عاصم بضم القاف ، والباقون بالفتح ، وهما لغتان ـ كالدف والدف ، والضعف والضعف ـ وقال الفراء : القرح بالفتح الجراحة ، وبالضم ألمها ، ويقرأ بضم القاف والراء على الاتباع ـ كاليسر واليسر ، والطنب والطنب ـ وقرأ أبو السمال بفتحهما وهو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال وأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله تعالى ما لا يرجون ، والمضارع على ما ذهب إليه العلامة التفتازاني لحكاية الحال لأن المساس مضى ، وأما استعمال ـ إن ـ فبتقدير كان أي إن كان مسكم قرح ، و (إِنْ) لا تتصرف في ـ كان ـ لقوة دلالته على المضي ، أو على ما قيل : إن (إِنْ) قد تجيء لمجرد التعليق من غير نقل فعله من الماضي إلى المستقبل ، وما وقع في موضع جواب الشرط ليس بجواب حقيقة لتحققه قبل هذا الشرط ، بل دليل الجواب ، والمراد إن كان مسكم قرح فذلك لا يصحح عذركم وتقاعدكم عن الجهاد بعد لأنه قد مس أعداءكم مثله وهم على ما هم عليه ، أو يقال : إن مسكم قرح فتسلوا فقد مس القوم قرح مثله ، والمثلية باعتبار كثرة القتلى في الجملة فلا يرد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين وجرحوا سبعين ، والتزم بعضهم تفسير القرح بمجرد الانهزام دون تكثير القتلى فرارا من هذا الإيراد ، وأبعد بعض في توجيه الآية وحملها على ما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى ، فقال : الأوجه أن يقال : إن المراد (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) فلا تهنوا لأنه (مَسَّ الْقَوْمَ) أي الرجال (قَرْحٌ مِثْلُهُ) والقرح للرجال لا للنساء فمن هو من زمرة الرجال ينبغي أن لا يعرض عما هو سمته بل ينبغي أن يسعى له ، وبهذا يظهر بقاء وجه التعبير بالمضارع وأنه على ظاهره ، وكذا يندفع ما قيل : إن قرح القوم لم يكن مثل قرحهم ولا يحتاج إلى ما تقدم من الجواب.

وقيل : إن كلا المسّين كان في أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا أحدهم صاحب لوائهم ، وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل ، وقيل : إن ذلك القرح الذي مسهم أنهم رجعوا خائبين مع كثرتهم وغلبتهم بحفظ الله تعالى للمؤمنين.

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) اسم الإشارة مشار به إلى ما بعده كما في الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها نحو ـ ربه رجلا ـ ومثله يفيد التفخيم والتعظيم ، و (الْأَيَّامُ) بمعنى الأوقات لا الأيام العرفية ، وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية ، ويوما بدر وأحد داخلان فيها دخولا أوليا.


(نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) نصرفها بينهم فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد ، والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى واحد ، و (النَّاسِ) عام ، وفسره ابن سيرين بالأمراء ، واسم الإشارة مبتدأ ، و (الْأَيَّامُ) خبره ، و (نُداوِلُها) في موضع الحال ، والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر بعد خبر ، ويجوز أن تكون (الْأَيَّامُ) صفة أو بدلا أو عطف بيان ، و (نُداوِلُها) هو الخبر ، و (بَيْنَ النَّاسِ) ظرف لنداولها ، وجوز أن يكون حالا من الهاء ، وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى ومن كلامهم : الأيام دول ، والحرب سجال ، وفي هذا ضرب من التسلية للمؤمنين ، وقرئ ـ يداولها.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) تعليل لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة المشار إليها فيما قبل ، وهي المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين ، واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين ؛ أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما ، والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين للدلالة المذكورة عليها كأنه قيل : (نُداوِلُها) بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم ، وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيما عد من الأمور ، وأن العبد يسوءه ما يجري عليه ولا يشعر بما لله في طيه من الألطاف ، كأنه قيل : نجعلها دولا بينكم لتكون حكما وفوائد جمة (وَلِيَعْلَمَ) إلخ ، وفيه من تأكيد التسلية ما لا يخفى ، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية بين بقية الأمم تعيينا أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمي ببنيانها ، ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل من أفرادها له علة داعية في الظاهر إليه كأنه قيل : (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الأفراد (وَلِيَعْلَمَ) إلخ ، فاللام الأولى متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد ، والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهود ـ قاله مولانا شيخ الإسلام.

وجوزوا أن يكون الفعل معطوفا على ما قبله باعتبار المعنى كأنه قيل : داولت بينكم الأيام لأن هذه عادتنا (وَلِيَعْلَمَ) إلخ ، وقيل : إن الفعل المعلل به محذوف ويقدر مؤخرا ، والتقدير (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) فعل ذلك ومنهم من زعم زيادة الواو وهو من ضيق المجال ، والكلام من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم. والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم. وحمل العلم على التمييز في حال التمثيل تطويل من غير طائل ، واختار غير واحد حمل العلم على التعلق التنجيزي المترتب عليه الجزاء. وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في البقرة.

وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإشعار بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره.

وزعم بعضهم أن التقدير ليعلم الله المؤمن من المنافق إلا أنه استغنى بذكر أحدهما عن الآخر ولا حاجة إليه ، ومثله القول بحذف المضاف أي صبر الذين ، والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته التي استجمعها هذا الاسم الأعظم مغاير لمنشإ الآخر (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحاق ، و «من» ابتدائية أو تبعيضية متعلقة ـ بيتخذ ـ أو بمحذوف وقع حالا من (شُهَداءَ) ، وقيل : جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من


شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة ، و «من» على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير فقالت امرأة من الأنصار : من هذان؟ قالوا : فلان وفلان أخوها وزوجها أو زوجها وابنها فقالت : ما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قالوا : حي قالت : فلا أبالي يتخذ الله تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت : و (يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وكنى بالاتخاذ عن الإكرام لأن من اتخذ شيئا لنفسه فقد اختاره وارتضاه فالمعنى ليكرم أناسا منكم بالشهادة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي يبغضهم ، والمراد من الظالمين إما المنافقون كابن أبيّ وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق ظواهرهم بواطنهم ، وإما بمعنى الكافرين المجاهرين بالكفر ، وأيّا ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها ، وفيها تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغلبه أحيانا استدراجا له وابتلاء للمؤمن ، وأيضا لو كانت النصرة دائما للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل ، والمقصود غير ذلك (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليطهرهم من الذنوب ويصفيهم من السيئات.

وأصل التمحيص كما قال الخليل : تخليص الشيء من كل عيب. يقال : محصت الذهب إذا أزلت خبثه.

والجملة معطوفة على (يَتَّخِذَ) وتكرير اللام للاعتناء بهذه العلة. ولذلك أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير التعليل لوقوع الفضل بينهما بالاعتراض. وهذه الأمور الثلاثة ـ كما قال مولانا شيخ الإسلام ـ علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان. ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين. أو لتقترن بقوله عزوجل : (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) لما بينهما من المناسبة حيث إن في كل من التمحيص و ـ المحق ـ إزالة إلا أن في الأول إزالة الآثار وإزاحة الأوضار ، وفي الثاني إزالة العين وإهلاك النفس ، وأصل ـ المحق ـ تنقيص الشيء قليلا قليلا ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين ، ولا يبقى منهم أحدا ينفخ النار. وهذا علة للمداولة باعتبار كونها عليهم. والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن الله تعالى محقهم جميعا ، وقيل : يجوز أن يكون هذا علة للمداولة باعتبار كونها على المؤمنين أيضا فإن الكفار إذا غلبوا أحيانا اغتروا وأوقعهم الشيطان في أو حال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول ، و «أم» منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف ، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادئ الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى ، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) حال من ضمير (تَدْخُلُوا) مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول ، ولهذا قيل:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة ، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي.


ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى ، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرا ما يقال : ما علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه ، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب الانتصاف الثاني ، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد ـ وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم ـ لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة ، وفي ذلك رمز أيضا إلى ترك الرياء ، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس ، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتفاء ذلك ، وعدم تحققه أصلا وكيف تحقق صفة بدون موصوف ، وفي اختيار (لَمَّا) على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناء على ما يفهم من كلام سيبويه أن (لَمَّا) تدل على توقع الفعل المنفي بها ، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل : قد فعل فلان فجوابه ـ لما يفعل ، وإذا قيل : فعل؟ فجوابه لم يفعل ، فإذا قيل : لقد فعل ، فجوابه ما فعل كأنه قال : والله لقد فعل فقال المجيب : والله ما فعل ، وإذا قيل : هو يفعل يريد ما يستقبل ، فجوابه لا يفعل ، وإذا قيل : سيفعل ، فجوابه لن يفعل ، فقول أبي حيان : إن القول بأن (لَمَّا) تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره غير متعدّ به ، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار ، وقرئ «ويعلم» بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج ، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أو مطلقا ، ومن ذلك قوله :

إذا قلت قدني قال بالله حلفة

لتغني عني ذا إنائك أجمعا

على رواية فتح اللام ؛ وقيل : إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه ، و (مِنْكُمْ) حال من (الَّذِينَ) ومن فيه للتبعيض ، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) نصب بإضمار إن ، وقيل : بواو الصرف ، والكلام على طرز ـ لا تأكل السمك وتشرب اللبن ـ أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما ، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رءوس الآي ، وقيل : الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع ، ويؤيد ذلك قراءة الحسن (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) بكسر الميم ، وقرئ «ويعلم» بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم ، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم.

فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته ، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه ، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه ، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمني الحرب لا الموت (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) متعلق ب (تَمَنَّوْنَ) مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله ، وقرئ بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك ، وقرئ : «تلاقوه» من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته ، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى الموت ، وقيل : إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء (فَقَدْ


رَأَيْتُمُوهُ) أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه ، والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه ، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له ، وهذا على حد قولك : رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة ، وقيل : (تَنْظُرُونَ) بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي ، وقيل : معناه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا ، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها تم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) روي أنه لما التقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول :

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لدى النحيل

أن لا أقوم الدهر في الكبول

أضرب بسيف الله والرسول

فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلا في هذا الموضع فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالا شديدا حتى التوى سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة خالفوا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قليلا منهم فانطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلفهم في مائتين وخمسين فارسا ففرقوهم وقتلوا نحوا من ثلاثين رجلا ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله ابن قميئة.

وقيل : إن الرامي عتبة بن أبي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني قتلت محمدا وصرخ صارخ لا يدري من هو حتى قيل : إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو : إليّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كنانته وكان يقول ارم فداك أبي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وعين قتادة حتى وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت إن نجوت فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا ، فقال : دعوه حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول : قتلني محمد وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له : بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فاحتمله أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس فقال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي : أقتلك؟ فلو بزق على بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف. ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل قال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي


سفيان ، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك عما قال هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.

وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كعب بن مالك قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فلامهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الفرار فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين» فأنزل الله تعالى هذه الآية ؛ و (مُحَمَّدٌ) علم لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم منقول من اسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب السابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها : رجوت أن يحمد في السماء والأرض ، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيرا وضده المذمم ، وفي الخبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمما وأنا محمد».

وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل : إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الاسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ ، وهو مرفوع على الابتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمل ـ لما ـ بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا ، واختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد؟ فذهب العلامة الطيبي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ، ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه فتكون جملة (قَدْ خَلَتْ) إلخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل : قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا ، والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشئ من الذهول عن الوصف ، وقيل : الجملة في موضع الحال من الضمير في رسول والانصباب هو الانصباب.

وذهب صاحب المفتاح إلى أنه قصر إفراد إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل استعظامهم عدم بقائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة استبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم اعتقدوا فيه وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفيا للبعد عن الهلاك ، واعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة (قَدْ خَلَتْ) مستأنفة لبيان أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بعيدا عن عدم البقاء كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب لانصباب القصر عليه ، وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته القاعدة في الجمل بعد النكرات ، وأجيب بأن ذلك ليس بمتعين لجواز أن تكون صفة أيضا مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير ، وقرأ ابن عباس ـ رسل ـ بالتنكير (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) الهمزة للإنكار والفاء استئنافية أو لمجرد التعقيب ، والانقلاب على الأعقاب في الأصل الرجوع القهقرى ، وأريد به الارتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه من الكفر في المشهور ، والغرض إنكار ارتدادهم عن الدين بخلوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم


بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به ، واستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك؟ وأجيب بأنه ليس المراد ارتدادا حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسلامهم إياه للهلك ، وقيل : الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي لا إنكار لما وقع ، وقيل : هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به.

وحمل بعضهم الانقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده احتجاجا بما أخرجه ابن المنذر عن الزهري قال : «لما نزلت هذه الآية (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] قالوا : يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال : إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا : فهل لذلك دلالة في كتاب الله تعالى؟ قال : نعم ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) والانقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة.

وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبب ، والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن تجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابكم على أعقابكم بعد موته أو قتله بل اجعلوه سببا للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء عليهم‌السلام ففي انقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية المحققة التي هي كوله رسولا يخلو كما خلت الرسل ، وإيراد الموت بكلمة إن مع العلم البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه ، قال المولى : وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة إن في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها أصلا ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع ، أو أمر آخر يناسب المقام ، والمراد من ـ الموت ـ الموت على الفراش و ـ بالقتل ـ الموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجر الموت الأحمر لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على الثبات هناك أهم ، ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الموت دون القتل خلافا لمن زعمه مستدلا بما ورد من أكلة خيبر ، وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين ، وبتقدير وصولها احتمال أن لا تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل ، وقد غفل عمر رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذ فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل : قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مات ، فخرج أبو بكر فقال : على رسلك يا عمر انصت فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من كان بعيد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت ، ثم تلا هذه الآية (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) إلى آخرها فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر ، وقال عمر : فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات ، والاعتذار باختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما اعتذر به الزمخشري لا يخفى ما فيه ، وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس


وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يظن به ذلك ، وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ) بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار (شَيْئاً) من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب ، ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام ، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشئ عن تيقن حقيته وذلك شكر له ، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين ، وإلى تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه ابن جرير ، وكان يقول : الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين ، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمزيد الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) استئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية. ويجوز أن يكون تسلية عما لحق الناس بموت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشارة إلى أنه عليه‌السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك دينه بعد موته.

والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما روي عن ابن إسحاق ليس بشيء ، والموت هنا أعم من الموت حتف الأنف ، والموت بالقتل كما سنحققه ، و (كانَ) ناقصة اسمها (أَنْ تَمُوتَ لِنَفْسٍ) متعلق بمحذوف وقع خبرا لها ، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب.

وذهب أبو البقاء إلى أن بإذن الله خبر (كانَ) و (لِنَفْسٍ) متعلق بها واللام للتبيين ، ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف تقديره الموت لنفس ، و (أَنْ تَمُوتَ) تبيين للمحذوف ، وحكي عن الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقدير ـ وما كان نفس لتموت ـ ثم قدمت اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير ، والمعنى ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا بسبب من الأسباب إلا بمشيئة الله تعالى وتيسيره. و ـ الإذن ـ مجاز عن ذلك لكونه من لوازمه ، وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي يقدم عليها اختيارا فقد شاع استعمال ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما إذا كان ذلك الفعل اختياريا لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل الاختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالإذن.

والمراد عدم القدرة عليه أو بتنزيل إقدام النفوس على مبادئه كالقتال مثلا منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة في تحقيق المرام فإن موتها لما استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مبادئه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر ، ويجوز على هذا أن يبقى الأذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم به ، والمراد بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح كل ذي روح بشرا كان أولا شهيدا كان أو غير شهيد برا أو بحرا حتى قيل : إنه يقبض روح نفسه ، واستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة واستدل بحديث جويبر ـ وهو ضعيف جدا ـ وفيه من طريق الضحاك انقطاع ، وذهب المعتزلة إلى أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم ، وقال بعض المبتدعة : إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم الذين يقبضونها ولا تعارض بين (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] و (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١](تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي ، وإلى الملك لأنه المباشر له ، وإلى الرسل لأنهم أعوانه المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق (كِتاباً) مصدر مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة


والمعنى كتب ذلك الموت المأذون فيه كتابا (مُؤَجَّلاً) أي موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ، وقيل : حكما لازما مبرما وهو صفة (كِتاباً) ولا يضر التوصيف بكون المصدر مؤكدا بناء على أنه معلوم مما سبق وليس كل وصف يخرج عن التأكيد ، ولك ـ لما في ذلك من الخفاء ـ أن تجعل المصدر لوصفه مبينا للنوع وهو أولى من جعله مؤكدا ، وجعل (مُؤَجَّلاً) حالا من الموت لا صفة له لبعد ذلك غاية البعد فتدبر.

وقرئ «موجلا» بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف ، وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين إن المقتول ميت بأجله أي بوقته المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا بالحياة ، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه أي مفعوله وأثر صفته ، وأن للمقتول أجلين : أحدهما القتل والآخر الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت ، وذهب أو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت.

وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لو لا القتل ، وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظيا كما رآه الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا : إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتا بأجله بلا خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتا بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل ، وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتا بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩] ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل يعش كذا في شرح المقاصد ، ولعله جواب باختيار الشق الأول ، وهو أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقا بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذ يصلح محلا للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه ، وقد يقال : إنه يمكن أن يكون جوابا باختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم مطلقا والفرق بينه وبين كونه جواب باختيار الأول لكن لا مطلقا اعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير اختيار الأول وعدم اعتباره فيه على اختيار الثالث وإن كان معلوما في الواقع أيضا فافهم ، ثم إن أبا الحسين ومن تابعه يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض ، وعند البعض الآخر هي عندهم استدلالية.

واحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتا بأجله لم يستحق القاتل ذما ولا عقابا ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع أجلا ولم يحدث بفعله موتا ، وبأنه ربما يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بامتناع اتفاق موتهم في ذلك الوقت بآجالهم ، وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت المقتول لكان القاتل قاطعا لأجل قدره الله تعالى ومغيرا لأمر علمه وهو محال ، والكعبي بقوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) حيث جعل القتل قسيما للموت بناء على أن المراد بالقتل المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان


للمقتول أجلان : أحدهما القتل ، والآخر الموت «وأجيب» عن متمسك الأولين الأول بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩] أو بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو المقصود الأهم منه وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية ، أو بأن العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت ، وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا ، ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة ، ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه.

والعمر لغة مدة الحياة ـ كعمر زيد ـ كذا ومدة البقاء ـ كعمر الدنيا ـ وكثيرا ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير بعد موته ، ومنه قولهم : ذكر الفتى عمره الثاني ؛ ومن هنا يقال لمن مات وأعقب ذكرا حسنا وأثرا جميلا : ما مات فلعله أراد صلى الله تعالى عليه وسلم أن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها تكون سببا للذكر الجميل ، وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه قيل : ولهذا لم يقل صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في الأجل ، أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلا لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناء على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة ، ومحصل هذا أنه سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سببا لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة سبعين ، وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به.

والثاني بأن استحقاق الذم وللعقاب وتوجه القصاص أو غرم الدية مثلا على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما اكتسبه وارتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم موت شاة بإخبار صادق معصوم ، أو ظهرت الأمارات المفيدة لليقين لم يضمن عند بعض الفقهاء ، والثالث بأن العادة منقوضة أيضا بحصول موت ألوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في أيام الوباء مثلا على أن التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا المطلب في غاية السقوط ، وأجيب عن متمسك أبي الهذيل بأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا استحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لو لا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له ، وعن متمسك الكعبي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت وانزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) خلاف مذهبه من إنكار القضاء والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده ، معنى الآية ـ كما أشرنا إليه ـ أفإن مات حتف أنفه بلا سبب ، أو مات بسبب القتل ، فتدل على أن مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل : إن في المقتول معنيين قتلا هو من فعل الفاعل وموتا هو من الله تعالى وحده ، وذهبت الفلاسفة إلى مثل ما ذهب إليه الكعبي من تعدد الأجل فقالوا : إن للحيوان أجلا طبيعيا بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجالا اخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات ، وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة وكلما انتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى إذا انتهت في الانتقاص وتزايد الجفاف انطفأت الحرارة


كانطفاء السراج عند نفاد دهنه فحصل الموت الطبيعي وهو مختلف بحسب اختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في الأغلب تمام مائة وعشرين سنة.

وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحرب المذوب وأنواع السموم وأنواع تفرق الاتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها اعتدال المزاج فيهلك بسببه وهذا هو الأجل الاخترامي ، ويردد ذلك أنه مبني على قواعدهم من تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا ، وادعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع بيننا وبين المعتزلة ـ على رأي الأستاذ ـ لفظي إذ هم لا ينكرون القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه بأي سبب كان واحد عندهم أيضا ، وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن لا ننكره أيضا لكنهم يجعلون اعتدال المزاج واستقامة الحرارة والرطوبة ونحو ذلك شروطا حقيقية عقلية لبقاء الحياة ونحن نجعلها أسبابا عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب.

(وَمَنْ يُرِدْ) أي بعمله كالجهاد (ثَوابَ الدُّنْيا) كالغنيمة (نُؤْتِهِ) بنون العظمة على طريق الالتفات (مِنْها) أي شيئا من ثوابها إن شئنا فهو على حدّ قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨] وهذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد عن مصلحة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تقدم تفصيل ذلك.

(وَمَنْ يُرِدْ) أي بعمله كالجهاد أيضا والذب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

(ثَوابَ الْآخِرَةِ) مما أعد الله تعالى لعباده فيها من النعيم (نُؤْتِهِ مِنْها) أي من ثوابها ما نشاء حسبما جرى به قلم الوعد الكريم ، وهذا إشارة إلى مدح الثابتين يومئذ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) يحتمل أنه أريد بهم المريدون للآخرة ، ويحتمل أنه أريد بهم جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أوليا.

والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يضيق عنه نطاق البيان ما لا يخفى ، وبذلك جبر اتحاد العبادتين في شأن الفريقين واتضح الفرق لذي عينين ، وقرئت الأفعال الثلاثة بالياء.

هذا (ومن باب الإشارة) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) إما إشارة إلى الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والانقطاع إليه ، أو رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب نفع منهم ، فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة ، أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضا لإظهار العبودية (وَاتَّقُوا اللهَ) من أكل الربا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بالحق (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي اتقوني في النار لأن إحراقها وعذابها مني ، وهذا سرّ عين الجمع قالوا : ويرجع في الحقيقة إلى تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام والتخويف الأول للخواص ، وقليل ما هم (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وهي ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وهي جنة توحيد الأفعال وهو توحيد عالم الملك ، ولذا ذكر سبحانه السموات والأرض وذكر العرض دون الطول لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام الناس ويقدرونه ، وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر قدرها إذ الفعل مظهر الوصف ، والوصف مظهر الذات ، والذات لا نهاية لها ولا حد (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة ، وأما البارزون لله الواحد القهار


فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولا وعرضا (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله ، ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر.

وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله تعالى عليه وسلم «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك» فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين ، ولهذا قيل : ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ودعاهم أيضا إلى ما يجرّهم إلى الجنة ، والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته ، وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار ، ومن هنا قيل : ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصح به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الإلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء في حالتي الجمال والجلال ، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون بالشدّ عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات ، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم ، وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال أو لأنهم في مقام توحيد الصفات (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) حسب مراتبهم في الإحسان (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها (ذَكَرُوا اللهَ) أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) وهي رؤية الأفعال ، أو النظر إلى سائر الأغيار (إِلَّا اللهُ) وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) في غفلتهم ونقص حق نفوسهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه (وَجَنَّاتٌ) أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية (خالِدِينَ فِيها) بلا مكث ولا قطع ، ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد (فَسِيرُوا) بأفكاركم (فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا) وتأملوا في آثارها لتعلموا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي آخر أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب ، ويحتمل أن يكون هذا أمرا للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ما ذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها (هذا) أي كلام الله تعالى (بَيانٌ لِلنَّاسِ) يبين لهم حقائق أمور الكونين (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) يتوصل به إلى الحضرة الإلهية (لِلْمُتَّقِينَ) وهم أهل الله تعالى وخاصته.

واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه بأسماع العقول ، ومنهم قوم يسمعونه


بأسماع الأسرار ، وحظ الأولين منه الامتثال والاعتبار ، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل اصطفائه فشاهدوا أنوارا تجلى وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا في الجهاد (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الإخوان (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الرتبة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي موحدين حيث إن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ولم يبالوا مع أنهم دونكم (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي الوقائع (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) فيوم لطائفة وآخر لأخرى (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية (وَيَمْحَقَ) أي يهلك (الْكافِرِينَ) بنار أنانيتهم (أَمْ حَسِبْتُمْ) أن تدخلوا الجنة أي تلجوا عالم القدس (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي موت النفوس عن صفاتها (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) بالمجاهدات والرياضات (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي تعلمون أن ذلك الجهاد أحد أسباب موت النفس عن صفاتها ، ويحتمل أن يقال : إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكة تمنى أمورا وادعى أحوالا حتى إذا امتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه ، ومن هنا قيل :

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاما ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الامتحان ، والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاما (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي أنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ورجعتم القهقرى ، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته ، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) لفنائه الذاتي (وَسَيَجْزِي اللهُ) بالإيمان الحقيقي (الشَّاكِرِينَ) بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) هذا الموت المعلوم ، أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ومشيئته ، أو جذبه بإشراق نوره (وَمَنْ يُرِدْ) بمقتضى استعداده (ثَوابَ الدُّنْيا) جزاء لعمله (نُؤْتِهِ مِنْها) حسبما تقتضيه الحكمة (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ) جزاء لعمله (نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية ، وأبهم جزاءهم للإشارة إلى أنه أمر وراء العبارة ـ ولعله تجلى الحق لهم ـ وهذا غاية متمنى المحبين ونهاية مطلب السالكين ، نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه (وَكَأَيِّنْ) كلام مبتدأ سيق توبيخا للمنهزمين أيضا حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس.

وقد اختلف في هذه الكلمة فقيل : إنها بسيطة وضعت كذلك ابتداء والنون أصلية ، وإليه ذهب ابن حيان. وغيره ، وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم ، وقيل وهو المشهور : إنها مركبة من ـ أي ـ المنونة وكاف التشبيه ، واختلف


في ـ أي ـ هذه فقيل : هي أي التي في قولهم : أي الرجال ، وقال ابن جني : إنها مصدر أوى يأوي إذا انضم واجتمع وأصله أوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت مثل ـ طي وشي ـ وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم كما حدث في كذا بعد التركيب معنى آخر ـ فكم وكأين ـ بمعنى واحد قالوا : وتشاركها في خمسة أمور : الإبهام والافتقار إلى التمييز ، والبناء ، ولزوم التصدير وإفادة التكثير وهو الغالب والاستفهام وهو نادر ، ولم يثبته إلا ابن قتيبة ، وابن عصفور ، وابن مالك ، واستدل عليه بقول أبيّ بن كعب لابن مسعود رضي الله تعالى عنهما : كائن تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين ، وتخالفها في خمسة أمور أيضا ، أحدها أنها مركبة في المشهور وكم بسيطة فيه خلافا لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الاستفهامية ثم حذفت ألفها لدخول الجار وسكنت للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب ، والثاني أن مميزها مجرور بمن غالبا حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ويرده نص سيبويه على عدم اللزوم ، ومن ذلك قوله :

اطرد اليأس بالرجاء «فكائن

ألما حم يسره بعد عسره»

والثالث أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور ، والرابع أنها لا تقع مجرورة خلافا لابن قتيبة وابن عصفور أجازا بكائن تبيع الثوب ، والخامس أن خبرها لا يقع مفردا ، وقالوا : إن بينها وبين ـ كذا ـ موافقة ومخالفة أيضا فتوافقها ـ كذا ـ في أربعة أمور : التركيب والبناء والإبهام والافتقار إلى التمييز ، وتخالفها في ثلاثة أمور : الأول أنها ليس لها الصدر تقول : قبضت كذا وكذا درهما ، الثاني أن تمييزها واجب النصب فلا يجوز جره بمن اتفاقا ولا بالإضافة خلافا للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال : كذا ثوب وكذا أثواب قياسا على العدد الصريح ، ولهذا قال فقهاؤهم : إنه يلزم بقول القائل له عندي كذا درهم مائة ، وبقوله : كذا دراهم ثلاثة ، وبقوله : كذا كذا درهما أحد عشر ، وبقوله : كذا درهما عشرون ، وبقوله : كذا وكذا درهما أحد وعشرون حملا على المحقق من نظائرهن من العدد الصريح ؛ ووافقهم على هذا التفصيل ـ غير مسألتي الإضافة ـ المبرد والأخفش والسيرافي وابن عصفور ، ووهم ابن السيد في نقل الإجماع على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكر معه ، الثالث أنها لا تستعمل غالبا إلا معطوفا عليها كقوله :

عد النفس نعمى بعد بؤسك ذاكرا

«كذا وكذا لطفا به نسي الجهد»

وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا كذا درهما ، وذكر ابن مالك أنه مسموع لكنه قليل قاله ابن هشام ، ثم إن إثبات تنوين (كَأَيِّنْ) على القول المشهور في الوقف والخط على خلاف القياس لما أنه نسخ أصلها ، وفيه لغات وكلها قد قرئ به : أحدها (كَأَيِّنْ) بالتشديد على الأصل وهي اللغة المشهورة ، وبها قرأ الجمهور ، والثانية ـ كائن ـ بألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء على وزن كاعن كاسم الفاعل ، وبها قرأ ابن كثير ومن ذلك قوله :

«وكائن» لنا فضلا عليكم ومنة

قديما ولا تدرون ما من منعم

واختلف في توجيهها فعن المبرد أنها اسم فاعل من كان يكون وهو بعيد الصحة إذ لا وجه لبنائها حينئذ ولا لإفادتها التكثير ، وقيل : أصلها المشددة فقدمت الياء المشددة على الهمزة وصار ـ كيئن ـ بكاف وياء مفتوحتين وهمزة مكسورة ونون ووزنه كعلف ، ونظير هذا التصرف في المفرد تصرفهم في المركب كما ورد في لغة نادرة رعملي بتقديم الراء في لعمري ثم حذفت الياء الأولى للتخفيف فقلبت الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها أو حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف وقلبت الياء الساكنة ألفا كما في آية ، ونظيره في حذف إحدى الياءين وقلب الأخرى ألفا طائي في النسبة إلى طيئ اسم قبيلة فإن أصله طيئ بياءين مشددتين بينهما همزة فحذفت إحدى الياءين وقلبت الأخرى ، والثالثة ـ كأي ـ بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ ابن محيصن ، ووجهها أنها حذفت الياء الثانية وسكنت الهمزة


لاختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة كما سكنوا الهاء في لهو وفهو ، وحركت الياء لسكون ما قبلها ، والرابعة كيئن ـ بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة ؛ والخامسة ـ كئن ـ بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون ، ووزنه كع ، وورد ذلك في قوله :

«كئن» من صديق خلته صادق الإخا

أبان اختباري إنه لمداهن

ووجهه أنه حذفت إحدى الياءين ثم حذفت الأخرى للتنوين أو حذفتا دفعة واحدة ، واحتمل ذلك لما امتزج الحرفان والكاف لا متعلق لها لخروجها عن معناها ، ومن قال به كالحوفي فقد تعسف ، وموضعهما رفع بالابتداء ، وقوله تعالى : (مِنْ نَبِيٍ) تمييز له كتمييزكم ، وقد تقدم آنفا الكلام في ذلك ، ولعل المراد من النبي هنا الرسول وبه صرح الطبرسي (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي جموع كثيرة ، وهو التفسير المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، واستشهد له ـ كما رواه ابن الأنباري حين سأله نافع بن الأزرق ـ بقول حسان :

وإذا معشر تجافوا عن القص

د «أملنا عليهم ربّا»

وعليه فهو منسوب إلى ربة بكسر الراء وكون الضم فيها لغة غير متحقق ـ وهي الجماعة ـ للمبالغة وخصها الضحاك بألف ، وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء ، وأخرجه ابن جبير عن ابن عباس أيضا ـ وعليه فهو منسوب إلى الرب ـ كرباني على خلاف القياس كقراءة الضم ، والموافق له الفتح ـ وبه قرئ ـ وقال ابن زيد : الرّبيون هم الأتباع والربانيون الولاة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «قتل» ـ بالبناء للمفعول ، وفي خبر المبتدأ أوجه : أحدها أنه الفعل مع الضمير المستتر فيه الراجع إلى (كَأَيِّنْ) أو إلى (نَبِيٍ) وحينئذ ـ فمعه ربيون ـ جملة حالية من الضمير ، أو من (نَبِيٍ) لتخصيصه معنى ، أو (مَعَهُ) حال و (رِبِّيُّونَ) فاعله ، وثانيها أنه جملة (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) فحينئذ تكون جملة الفعل ـ مع ـ مرفوعه صفة لنبي ، وثالثها أنه محذوف وتقديره مضى ونحوه ، وحينئذ يجوز أن يكون الفعل صفة لنبي ، و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) حالا على ما تقدم ، ويجوز أن يكون الفعل مسندا لربيون فلا ضمير فيه والجملة صفة لنبي ، ورابعها أن يكون (رِبِّيُّونَ) مرفوعا بالفعل فلا ضمير ، والجملة هي الخبر.

وقرئ ـ «قتل» ـ بالتشديد قال ابن جني : وحينئذ فلا ضمير في الفعل لما في التضعيف من الدلالة على التكثير وهو ينافي إسناده إلى الواحد ، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة.

واعترض بأنه خلاف الظاهر ، ومن هنا قيل : إن هذه القراءة تؤيد إسناد ـ قتل ـ إلى ـ الربيين ـ ويؤيدها أيضا ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جبير أنه كان يقول : ما سمعنا قط أن نبيا قتل في القتال ، وقول الحسن وجماعة : لم يقتل نبي في الحرب قط ثم إن من ادعى إسناد القتل إلى النبي وأنه في الحرب أيضا على ما يشعر به المقام حمل النصرة الموعود بها في قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] على النصرة بإعلاء الكلمة ونحوه لا على الأعداء مطلقا لئلا تتنافى الآيتان ، وهذا أحد أجوبة في هذا المقام تقدمت الإشارة إليها فتذكر ، والتنوين في (نَبِيٍ) للتعظيم.

وزعم الأجهوري أنه للتكثير (فَما وَهَنُوا) عطف على قاتلوا على أن المراد عدم الوهن المتوقع من القتال والتلبس بالشيء بعد ورود ما يستدعي خلافه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة كما قال مولانا شيخ الإسلام : صنع جديد ، ومن هنا صح دخول الفاء المؤذنة بترتب ما بعدها على ما قبلها ، ومن ذلك قولهم : وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر ، وأصل الوهن الضعف ، وفسره قتادة وابن أبي مالك هنا بالعجز ، والزجاج بالجبن أي فما عجزوا أو فما جبنوا (لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) في أثناء القتال وهذا علة للمنفي لا للنفي ، نعم يفهم


المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف و ـ ما ـ موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل ، وإن جعلا للبعض الباقين بعد قتل الآخرين ـ وهو الأنسب ـ كما قيل : بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء ـ فهي عبارة عن ذلك أيضا مع ما اعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن ، هذا على القراءة المشهورة ، وأما على القراءتين الأخيرتين أعني «قتل. وقتّل» ـ على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد قالوا : إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتما والكلام حينئذ من قبيل ـ قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم يستأصلهم ـ وإن أسند إلى الضمير كما هو الظاهر الأنسب عند البعض بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم.

وإليه ذهب قتادة والربيع وابن أبي إسحاق. والسدي ـ كما قيل ـ فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال (وَما ضَعُفُوا) أي ما فتروا عن الجهاد قاله الزجاج ، وقيل : ما عراهم ضعف في الدين بأن تغير اعتقادهم لعدم النصر (وَمَا اسْتَكانُوا) أي ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة ، وقيل : ما خضعوا لعدوهم ، وإليه يشير كلام ابن عباس ، وكثيرا ما يستعمل استكان بهذا المعنى ، وكذا بمعنى تضرع ، واختلف فيه هل هو من السكون فوزنه افتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للإشباع وهو كثير وليس بخطإ خلافا لأبي البقاء ، ولا يختص بالشعر خلافا لأبي حيان ، أو من الكون فوزنه استفعل وألفه منقلبة عن واو السين مزيدة للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره ، وقيل : لأنه كالعدم فهو يطلب من نفسه الوجود.

وجوز أن يكون من قول العرب : بات فلان ـ بكينة سوء ـ أي بحالة سوء ، أو من ـ كان يكينه ـ إذا أذله ، وعزي ذلك إلى الأزهري وأبي علي ، وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء ، والجمهور على فتح الهاء من (وَهَنُوا) وقرئ بكسرها وهي لغة والفتح أشهر ، وقرئ بإسكانها على تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم.

والمراد بالصابرين إما الربيون ، والإظهار في موضع الإضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم ، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا.

والجملة على التقديرين تذييل لما قبلها ، وقوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية ، وهو معطوف على ما قبله ، وقيل : كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية ، و (قَوْلَهُمْ) بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من (أَنْ) وما بعدها في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ قالُوا) والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ـ ما كان قولهم ـ في ذلك المقام واشتباك أسنة الشدائد والآلام (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي صغائرنا (وَإِسْرافَنا (١) فِي أَمْرِنا) أي تجاوزنا عن الحد ، والمراد كبائرنا. وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : الإسراف تجاوز في فعل ما يجب ، والذنب عام فيه وفي التقصير ، وقيل : إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم ، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم.

والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لأنفسهم واستقصارا لهمهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم ، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقيل : أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء ، وفيه ما لا يخفى ، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي عند جهاد أعدائك بتقوية


قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.

ومن الناس من قال : المراد من ـ ثبت أقدامنا ـ ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم ، وقيل : إنهم طلبوا الغفران أولا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب ، وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى ، وفي الاخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع «قولهم» على أنه الاسم والخبر إن وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول المنبئ عن أحاسن المحاسن ، قال مولانا شيخ الإسلام : وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الأخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلا كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر ، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ، ولا يخفى أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل ، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحضور خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات في باب البيان ، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالاسمية ، ولا ريب في أعرفية (أَنْ قالُوا) لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به ، و (قَوْلَهُمْ) مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل انتهى.

وقال أبو البقاء : جعل ما بعد إلا اسما لكان ، والمصدر الصريح خبرا لها أقوى من العكس لوجهين : أحدهما أن (أَنْ قالُوا) يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف ، والثاني أن ما بعد (إِلَّا) مثبت ، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا إلخ دأبهم في الدعاء ، وقال العلامة الطيبي : كأن المعنى ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم ، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع (أَنْ) مع الفعل اسما لكان ، وتحقيقه ما ذكره صاحب الانتصاف من أن فائدة دخول (كانَ) المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموما باعتبار الكون وخصوصا باعتبار خصوصية المقال فهو نفي مرتين ، ثم قال : فعلى هذا لو جعلت رب الجملة (أَنْ قالُوا) واعتمدت عليه وجعلت (قَوْلَهُمْ) كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف ، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسيا منسيا في الوجه الثاني واعتمد على ما بعد (إِلَّا) انتهى.

ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الأعرف ضعيف ، قال في المغني : واعلم أنهم حكموا لأن وإن ـ المقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضا كذلك فلهذا قرأت السبعة (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الجاثية : ٢٥](فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأعراف : ٨٢ ، النمل : ٥٦ ، العنكبوت : ٢٤ ، ٢٩] والرفع ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف انتهى ، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤول بأنه لا ينكر.


وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام والبعض. أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة؟ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الاسم مانع من جعله بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ولا شرطا في وجوده ، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] أي افتراء قاله الشهاب.

وأجيب بأن مراد من قال : إن المصدر المؤول لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤول بمصدر منكر أصلا ، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة المغني حيث يفهم منها أن ـ أن ، وإن ـ تارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير ، ومن هنا قال صاحب المطلع في معنى ذلك التعليل : إن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى منكرا بخلاف (أَنْ قالُوا) بقي في كلام المغني أمور ، الأول أن التقييد ـ بأن وإن ـ هل هو اتفاقي أم احترازي؟ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول : احتجاجا بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص ـ بأن وإن ـ وللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى ، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما. الثاني : أنه يفهم من ظاهره أن الأداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال : لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.

الثالث : أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول. الرابع : أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم ، ويؤيد كلام ابن مالك قوله تعالى (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) [الأنفال : ٦٢] وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولا في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس‌سره : فتأمل فتأمل (فَآتاهُمُ اللهُ) أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء (ثَوابَ الدُّنْيا) أي النصر والغنيمة قاله ابن جريج ، وقال قتادة : الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم ، قيل : وتسمية ذلك ثوابا لأنه مترتب على طاعتهم ، وفيه إجلال لهم وتعظيم ، وقيل : تسمية ذلك ثوابا مجاز لأنه يحاكيه.

واستشكل تفسير ابن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثوابا دنيويا ولم يصل للغانمين منها شيء؟! وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان ، وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) أي وثواب الآخرة الحسن ، وهو عند ابن جريج رضوان الله تعالى ورحمته ، وعند قتادة هي الجنة ، وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى ، ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي. أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة ، واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن ما حكي عنهم من باب الإحسان ، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكي من المناقب الجليلة.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم‌السلام ببيان فضائله ، وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الاعتناء بما في حيزه ، ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من (الَّذِينَ كَفَرُوا) إما المنافقون لأن الآية نزلت ـ كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه ـ حين قالوا للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم والتعبير عنهم بذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم ، وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي ، وإما اليهود والنصارى فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك ، وإليه ذهب ابن جريج ، وحكي أنهم كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون : لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما له فنهوا عن الالتفات إليها ، وإما سائر الكفار.

وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين ، وأتي بأن للإيذان بأن الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى والفعل جواب الشرط. وصح ذلك بناء على المأثور عن علي كرم الله تعالى وجهه مع أن الكلام معه في قوة (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) في قولهم : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم ، ويؤول إلى قولك : إن تدخلوا في دينهم تدخلوا في دينهم وفيه اتحاد الشرط والجزاء بناء على أن الارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور ، وقيل : إن المراد بالإطاعة الهمّ بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفظ ، وجوز أن تكون جوابيته باعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل الله ناصركم لا غيره وهو مبتدأ وخبر ، وقرئ بنصب الاسم الجليل على أنه مفعول لفعل محذوف ، والمعنى فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله مولاكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة ، والجملة معطوفة على ما قبلها.

وجوز على القراءة الشاذة الاستئناف والحالية (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) كالبيان لما قبل ، وعبر بنون العظمة على طريق الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة ، والسين لتأكيد الإلقاء ، و (الرُّعْبَ) بسكون العين الخوف والفزع أي سنقذف ذلك في قلوبهم ، والمراد من الموصول أبو سفيان وأصحابه ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي قال : «لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوا فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا فقالوا له : إن لقيت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم فأخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فأنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية يذكر فيها أمر أبي سفيان وأصحابه ، وقيل : إن الآية نزلت في يوم الأحزاب ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «نصرت بالرعب على العدو» ، وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة «نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي» ، وقرئ «سيلقي» بالياء ، وقرأ أبو جعفر


وابن عامر والكسائي «الرعب» بضم العين وهي لغة فيه ، وقيل : الضم هو الأصل والسكون للتخفيف ، وقيل: الأصل السكون والضم للاتباع.

(بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) أي بسبب إشراكهم بالذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ولإشعار هذا الاسم بالعظمة المنافية للشركة أتي به ، والجار الأول متعلق ، ب (سَنُلْقِي) دون (الرُّعْبَ) ولا يمنع من ذلك تعلق (فِي) به لاختلاف المعنى ، والثاني متعلق بما عنده وكان الإشراك سببا لإلقاء الرعب لأنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أي بإشراكه ، وقيل : بعبادته ، و (ما) نكرة موصوفة أو موصولة اسمية وليست مصدرية (سُلْطاناً) أي حجة ، والإتيان بها للإشارة بأن المتبع في باب التوحيد هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة ، وسميت بذلك لأنه بها يتقوى على الخصم ويتسلط عليه ، والنون زائدة ، وقيل : أصلية ، وذكر عدم إنزال الحجة مع استحالة تحققها من باب انتفاء المقيد لانتفاء قيده اللازم أي لا حجة حتى ينزلها ، فهو على حد قوله في وصف مفازة :

لا يفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضب بها ينجحر

إذ المراد لا ضب بها حتى ينجحر فالمراد نفيهما جميعا وهذا كقولهم : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، وما ذكرنا من استحالة تحقق الحجة على الإشراك يكاد يكون معلوما من الدين بالضرورة أما في الإشراك بالربوبية فظاهر إذ كيف يأمر الله سبحانه باعتقاد أن خالق العالم اثنان مشتركان في وجوب الوجود والاتصاف بكل كمال ، وأما الإشراك في الألوهية الذي عليه أكثر المشركين في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلأنه يفضي إلى الأمر باعتقاد أشياء خلاف الواقع مما كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وقد رده عليهم ، فقول عصام الملة : ونحن نقول الحجة على الإشراك تحت قدرته تعالى لو شاء أنزلها إذ لو أمر بإشراك الأصنام به في العبادة لوجبت العبادة لا أراه إلا حلا لعصام الدين لأن لا إله إلا الله المخاطب بها الثنوية والوثنية تأبى إمكان ذلك كما لا يخفى على من اطلع على معنى هذه الكلمة الطيبة رزقنا الله تعالى الموت عليها ولا جعلنا ممن أشركوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا (وَمَأْواهُمُ) أي ما يأوون إليه في الآخرة (النَّارُ) لا مأوى لهم غيرها.

(وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي مثواهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه ، والمثوى مكان الإقامة على وزن مفعل من ثويت ولامه ياء والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثواهم النار ، ولم يعبر بالمأوى للإيذان بالخلود إذ الإقامة مأخوذة في المثوى دونه (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أخرج الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا قد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله تعالى الآية ، ووعده مفعول ثان لصدق صريحا فإنه يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا النحو ، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيقال : صدقت زيدا في الحديث ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون نصبا بنزع الخافض ؛ والمراد بهذا الوعد ما وعدهم سبحانه من النصر بقوله عز اسمه : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) [آل عمران : ١٢٠ ، ١٢٥ ، ١٨٦] إلخ وعلى لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال للرماة : «لا تبرحوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم».

وفي رواية أخرى «لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان» وأيد الأول بما أخرجه البيهقي في الدلائل عن عروة قال : كان الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم


إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا رفع الله تعالى مدد الملائكة ، واختار مولانا شيخ الإسلام الثاني ، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا.

والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) ليس بشيء كما لا يخفى ، وأخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم أحد فأنكروا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى إن الله تعالى يقول يوم أحد : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي تقتلونهم وهو التفسير المأثور ، واستشهد عليه الخبر بقول عتبة الليثي :

«نحسهم» بالبيض حتى كأننا

نفلق منهم بالجماجم حنظلا

وبقوله :

ومنا الذي لاقى بسيف محمد

«فحس» به الأعداء عرض العساكر

وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفة فأبطلها مثل كبده ولذا عبر به عن القتل ، ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد ، وقيل : هو الذي مسته النار ، وكثيرا ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الاستئصال ، والظرف متعلق ب (صَدَقَكُمُ) وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا للوعد (بِإِذْنِهِ) أي بتيسيره وتوفيقه ، والتقييد به لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي فزعتم وجبنتم عن عدوكم (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي أمر الحرب أو أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكم في سدّ ذلك الثغر على ما تقدم تفسيره (وَعَصَيْتُمْ) إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى الغنيمة (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من انهزام المشركين وغلبتكم عليهم.

قال مجاهد : نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي أن خالد بن الوليد أقبل بخيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الزبير رضي الله تعالى عنه أن احمل عليه فحمل عليه فهزمه ومن معه فلما رأى الرماة ذلك انكفئوا إلا قليلا ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر وأخلوا الخلة التي كانوا فيها فدخلت خيول المشركين من ذلك الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الرماة الذين طمعوا في النهب وفارقوا المركز له (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) كعبد الله ابن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى استشهد (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم وثباتكم على الإيمان ففي الكلام استعارة تمثيلية ، وإلا فالامتحان محال على الله تعالى ، وفي ـ حتى ـ هنا قولان : أحدهما أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها (تَحُسُّونَهُمْ) أو (صَدَقَكُمُ) أو محذوف تقديره دام لكم ذلك ، وثانيهما أنها حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها وجواب (إِذا) قيل : (تَنازَعْتُمْ) ، والواو زائدة واختاره الفراء ، وقيل : (صَرَفَكُمْ) و (ثُمَ) زائدة وهو ضعيف جدا والصحيح أنه محذوف وعليه البصريون ، وقدره أبو البقاء : بأن أمركم ، وأبو حيان : انقسمتم إلى قسمين بدليل ما بعده ، والزمخشري : منعكم نصره ، وابن عطية : انهزمتم ، ولكل وجهة ، وبعض المتأخرين امتحنكم ، وردّ بجعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر ، وعلى كل تقدير يكون (صَرَفَكُمْ) معطوفا على ذلك المحذوف ، وقيل : إن (إِذا) اسم كما في قولهم : إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو ؛ و (حَتَّى) حرف جر بمعنى إلى متعلقة ب (صَدَقَكُمُ) باعتبار تضمنه معنى النصر كأنه قيل : لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم


وتنازعكم إلخ ، و (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) حينئذ عطف على ذلك ، وهاتان الجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة ، قيل : والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين.

ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرّ يوم أحد؟ قال : نعم قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال : نعم ، قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال : نعم فكبر فقال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.

وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال : هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك ، وقال البلخي : إنه عفو عن الاستئصال ، وروي ذلك عن ابن جريج ، وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه والكل خلاف الظاهر. وقد يقال : الداعي لقول البلخي : إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه ، والتأسيس خير من التأكيد ، وكلام ابن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن الله تعالى عفا عن ذنب الفارّين وهو صريح الآية الآتية ، وأما أنه يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفا يدعيه.

(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة ، والتنوين للتفخيم ، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم ، وإما الجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص ، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال كما زعمه البعض (إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق بصرفكم أو يبتليكم وتعلقه ـ بعفا ـ كما قال الطبرسي : ليس بشيء ، ومثله تعلقه كما قال أبو البقاء ، بعصيتم : أو (تَنازَعْتُمْ) أو (فَشِلْتُمْ) ، وقيل : متعلق بمقدر كاذكر ، واستشكل بأنه يصير المعنى اذكر يا محمد (إِذْ تُصْعِدُونَ) وفيه خطابان بدون عطف ، فالصواب اذكروا.

وأجيب بأن المراد ـ باذكر ـ جنس هذا الفعل فيقدر ـ اذكروا ـ لا اذكر ، ويحتمل أنه من قبيل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، وأجاب الشهاب بأن اذكر متضمن لمعنى القول ، والمعنى قل لهم يا محمد حين يصعدون إلخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد : أتقول كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضا ، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض ، وفرق بعضهم بين الإصعاد والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع ، وقيل : لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول ، وقرأ الحسن فيما أخرجه ابن جرير عنه (تُصْعِدُونَ) بفتح التاء والعين ، وحمله بعضهم على صعود الجبل ، وقرأ أبو حيوة (تُصْعِدُونَ) بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقي أو من صعد في الوادي تصعيدا إذا انحدر


فيه ، فقد قال الأخفش : أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر. وأنشد :

فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي

«أصعد» طورا في البلاد وأفرع

وقال الشماخ :

فان كرهت هجائي فاجتنب سخطي

لا يدهمنك إفراعي «وتصعيدي»

وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فرارا في وادي أحد ، وقال أبو زيد : يقال صعد في السلم صعودا وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيدا ولم يعرفوا فيه صعد ، وقرأ أبيّ (إِذْ تُصْعِدُونَ) في الوادي وهي تؤيد قول من قال : إن الإصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الارتفاع ، وقرئ ـ يصعدون ـ بالياء التحتية وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيرا ما يستعمل بمعنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنق ، وفسر أيضا بلا ترجعون وهو قريب من ذلك ، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا ، وقرأ الحسن تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا.

وقرئ (تَلْوُونَ) بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى ، ويلوون بالياء كيصعدون قال أبو البقاء ويقرأ (عَلى أَحَدٍ) بضمتين ـ وهو الجبل ـ والتوبيخ عليه غير ظاهر ، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة ، وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان.

(وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي يناديكم في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال : جاء فلان في آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين ، روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينادي إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم

عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن انصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون ، والجملة في موضع الحال (فَأَثابَكُمْ) عطف على (صَرَفَكُمْ) والضمير المستتر عائد على الله تعالى ، والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله : تحية بينهم ضرب وجيع ـ أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم الله تعالى بما عصيتم (غَمًّا بِغَمٍ) أي كربا بكرب والأكثرون على أنه لا فرق بين الغم والحزن ، والباء إما للمصاحبة والظرف مستقر أي جازاكم (غَمًّا) متصلا (بِغَمٍ) ؛ والغم الأول ما حصل لهم من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم ، والغم الثاني ما حصل لهم من الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفوت الغنيمة ، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع.

وقيل : الغم الثاني إشراف أبي سفيان وأصحابه عليهم وهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصخرة وحكي ذلك عن السدي ، وقيل : المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها ببعض ، وإما للسببية والظرف متعلق ـ بأثابكم ـ والغم الأول للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه ، والغم الثاني للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بمخالفة أمره أي أثابكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصيانكم له ومخالفتكم أمره ، وقال الحسن بن علي المغربي : الغم الأول للمشركين بما رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء


الأسد ، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم ، وقيل : الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد ، والعطف عليه غير ظاهر وأبعد من ذلك ما روي عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم أحد ، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر ، والمعنى فجازاكم غما يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم ، وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن فاغتم صلى الله تعالى عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم. واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على صرفكم وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على (يَدْعُوكُمْ) نعم التعليل عليه بقوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد ، وكذا على ما ذهب إليه المغربي ، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت ، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه.

وقيل : لا زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم ، فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد (لا) وتكريرها يبعد القول بزيادتها. وقيل : التعليل على ظاهره و «لا» ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن ، ولا يخفى ما فيه ، وربما يقال : إن أمر التعليل ظاهر أيضا على ما حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة ـ لا ـ ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال : أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) إلخ ، وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق ، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سببا لزوال غم آخر مخصوص أيضا بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها ، وفي المقصد الأسنى ـ الخبير ـ بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا ، وفيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا


لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١٦٤)

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) عطف على (فَأَثابَكُمْ) والخطاب للمؤمنين حقا ، والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون (مِنْ بَعْدِ الْغَمِ) الذي اعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان ، وتذكير عظم المنة (أَمَنَةً) مصدر كالمنعة وهو مفعول (أَنْزَلَ) أي ثم أنزل عليكم أمنا (نُعاساً) بدل اشتمال منها ، وقيل : عطف بيان ، وجوز أن يكون (نُعاساً) منصوبا على المفعولية و (أَمَنَةً) حال منه ؛ والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة ، أو على أنه جمع آمن كبار وبررة.

وقيل : إن أمنة مفعول له لنعاسا ، واعترض بأنه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه ، وإن التزم تقدير فعل أي نعستم أمنة ، ورد أنه ليس للفعل موقع حسن ، وقيل : إنه مفعول له لأنزل.

واعترض بأنه فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل أنزل هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم ، ورد بأن الأمنة كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقعه ، والمراد هنا الثاني كأنه قيل : أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به وحينئذ لا شبهة في اتحاد الفاعل ؛ وقرئ بسكون الميم كأنها لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للاعتناء بشأن المقدم ، والتشويق إلى المؤخر ، وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدرا من قابل فقال لهم : نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا فقال : انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم ذاهبون ، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله تعالى واصبروا ، ووطنهم على القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فلذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) إلخ ، وعن ابن عباس في الآية قال : آمنهم الله تعالى يومئذ


بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام.

وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت انظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفته ـ أي ترسه ـ من النعاس ، وعن الزبير بن العوام مثله قيل : وهذه عادة الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات الرحمانية والسكينة الإلهية (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس : هم المهاجرون وعامة الأنصار ، وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل ، والجملة في موضع نصب على أنها صفة ـ لنعاسا ـ وقرأ حمزة والكسائي ـ تغشى ـ بالتاء الفوقانية على أن الضمير ـ للأمنة.

والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جوابا لسؤال تقديره ما حكم هذه الأمنة؟ فأجيب بأنها تغشى طائفة ، وقيل : إنها في موضع الصفة لأمنة ، واعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه (وَطائِفَةٌ) وهم المنافقون. (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي جعلتهم ذوي هم وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا غيره من أهمه بمعنى جعله مهما له ومقصودا والحصر مستفاد من المقام ، وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره ، (طائِفَةً) مبتدأ وجملة (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) إلخ خبره ، وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد واو الحال كما في قوله :

سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا

محياك أخفى ضوء كل شارق

أو لوقوعها موقع التفصيل كما في قوله :

إذا مت كان الناس صنفان شامت

وآخر مثن بالذي أنا صانع

وجوز أن تكون الجملة نعتا لها والخبر حينئذ محذف أي ومعكم ، أو وهناك طائفة وتقدير ـ ومنكم طائفة ـ يقتضي أن يكون المنافقون داخلين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيّا ما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه ، وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين فالواو إما حالية وإما استئنافية وكونها بمعنى إذ ليس بشيء كما نص عليه أبو البقاء (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) في موضع الحال من ضمير (أَهَمَّتْهُمْ) لا من (طائِفَةً) وإن تخصصت لما في مجيء الحال من المبتدأ من المقال ، وجوز أن تكون صفة بعد صفة لطائفة ، أو خبرا بعد خبر ، أو هي الخبر و (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها وغير منصوب على المصدرية المؤكدة لأنه مضاف إلى مصدر محذوف وهو بحسب ما يضاف إليه أي غير الظن الحق وهو الذي يحق أن يظن به تعالى ، وقال بعضهم : إنه مفعول مطلق نوعي ، وقوله تعالى (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل مما قبله.

وقال ابن الحاجب : (غَيْرَ الْحَقِ) و (ظَنَ) مصدران أحدهما للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا (يَظُنُّونَ) محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل ، وأبو البقاء يجعل (غَيْرَ الْحَقِ) مفعولا أولا أي أمرا غير الحق ، و (بِاللهِ) في موضع المفعول الثاني وإضافة (ظَنَ) إلى الجاهلية قيل : إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الاختصاص بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي المختص بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له ، وإما من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي اختصاصية حقيقية أيضا.


(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار : هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو يقول الحاضرون منهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صورة الاسترشاد : هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء ، واختاره بعض المحققين.

والجملة قيل : إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها ، أو بدل من (يَظُنُّونَ) وهو بدل الكل بحسب الصدق ، وبدل الاشتمال بحسب المفهوم ، واستشكل بأن قوله : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا) إلخ تفسير ل (يَظُنُّونَ) وترجمة له والاستفهام لا بكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول : أخبرني زيد قال : لا تذهب أو أمرني قال : لا تضرب ، أو نهاني قال : اضرب فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة.

وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع استفهام ترجمة له؟ وأجيب بأن الاستفهام طلب علم فيما يشك ويظن فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما يقال في جواب ذلك الاستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب باستفهام ، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير كون الاستفهام حقيقيا ، وأما على تقدير كونه إنكاريا فلا إشكال ، ولا قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية ، وبعض من جعله إنكاريا ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء ، وقد قال ذلك عبد الله بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل : وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبد الله ومن تبعه ، وقيل : الاستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، و (مِنْ) الثانية سيف خطيب ، و (شَيْءٍ) في موضع رفع على الابتداء ، وفي خبره كما قال أبو البقاء : وجهان ، أحدهما (لَنا) فمن الأمر حال ، والثاني (مِنَ الْأَمْرِ) فلنا تبيين وبه تتم الفائدة (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب الله تعالى وأوليائه فينصر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه بمكان ، أو أن القضاء أو التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء وتجري الأمور حسبما جرى به القلم في سابق القضاء ، وعلى هذا لا كناية في الكلام ، وجاء مؤكدا لما أن الكلام الذي وقع هو في مقابلته كذلك.

واستظهر في البحر من هذا الأمر كون الاستفهام فيما تقدمه باقيا على حقيقته إذ لو كان معناه نفى أن يكون لهم شيء من الأمر لم يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى ـ ليس لنا من الأمر شيء ـ بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدر ، وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير على ذلك التقدير أيضا أما إذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول إثبات ذلك النصر على أتم وجه ، وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي إشعارا بأن لهم تدبيرا وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب (كُلَّهُ) بالرفع على الابتداء والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا له ، والجملة خبر (إِنَ) ، وأما على قراءة النصب فكل توكيد لاسم (إِنَ) و (لِلَّهِ) خبرها.


وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون (كُلَّهُ) بدلا من (الْأَمْرِ) وفيه بعد (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي يضمرون فيها أو يسرون فيما بينهم (ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي ما لا يستطيعون إظهاره لك ، والجملة إما استئناف أو حال من ضمير (يَقُولُونَ) وقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر على الاحتمال الثاني في الآية الأولى ، والذاهب إلى حمل الاستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الاستئناف أو يجوز الخبرية ونحوها أيضا على ما مر ، والجملة الجوابية اعتراضية في كل حال سوى احتمال الاستئنافية على الصحيح ، وأما جعل هذه الجملة حالا من ضمير (قُلْ) والرابط لك فلا يخفى حاله (يَقُولُونَ) أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارا لم يكونوا منافقين ، والجملة إما بدل من (يُخْفُونَ) أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : ما الذي أخفوه؟ فقيل ذلك ، ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم (هَلْ لَنا) للمؤمنين ليس في حال قولهم (لَوْ كانَ لَنا) لأصحابهم ، وبدل الحال حال ، وأنت تعلم أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت أنه غير متعين ، وقيل : لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد ، وفيه أن زمان الحال المقارن ليس مبنيا على التضييق كما لا يخفى ، ومن هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هذا على ما قبله وعدل عن هذا التعليل فان.

(لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) على معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وادعى أن الأمر لله تعالى ولأوليائه (ما قُتِلْنا) فكأن هذا في زعمهم ردّ لما أجيبوا به أولا ، ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح كما كان رأي ابن أبيّ وأتباعه ، ومعنى (ما قُتِلْنا) ما غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لاستحالته ، ويحتمل أن يكون الإسناد مجازيا بإسناد ما للبعض للكل ، فالمعنى لو كان لنا شيء من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة ، ثم لا يخفى أن القول بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة ، والظاهر من الآثار عدم نزولها إذ ذاك ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال : لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أتوا عبد الله بن أبيّ فقالوا له : ما ترى فقال : إنا والله ما نؤامر (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير وخلق كثير عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله تعالى ثم أنزل إلى (هاهُنا) وقد يقال : إن هذا القول منهم كالاستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم ابتداء وقصة الله تعالى علينا رادا له وهذا ظاهر على تقدير أن يكون الاستفهام إنكاريا وأما على تقدير أن يكون حقيقيا ففيه خفاء فتأمل (قُلْ) يا محمد في جواب ذلك (لَوْ كُنْتُمْ) أيها المنافقون (فِي بُيُوتِكُمْ) ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم (لَبَرَزَ) أي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى البروز (الَّذِينَ كُتِبَ) في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم الله تعالى (عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) في تلك المعركة (إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب ، وفيه من المبالغة في ردّ مقالتهم الباطلة ما لا يخفى ، وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة


وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك ، ولأن الظاهر من «عليهم» أنهم مقتولون لا قاتلون ، وقيل : المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون ، ويؤول إلى قولنا : لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون ، والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى المرقد فهو استعارة للمصرع ، وإن كان بمعنى محل امتداد البدن مطلقا للحي والميت فهو حقيقة ، وقرئ «كتب» بالبناء للفاعل ، ونصب «القتل» و «كتب عليهم القتال» و «لبرّز» بالتشديد على البناء للمفعول (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبا ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج ، أو ليعاملكم معاملة المبتلى الممتحن قاله غير واحد ، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل معطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة (وَلِيَبْتَلِيَ) إلخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مثلا.

والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى : (أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظا أو معنى ، وقيل : إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء ، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذ ، وهي غير ظاهرة ، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم ، وجعله بعضهم معطوفا على علة محذوفة وكلتا العلتين (لَبَرَزَ الَّذِينَ) كأنه قيل : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) لنفاذ القضاء ، أو لمصالح جمة وللابتلاء.

واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض ، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم.

وقيل : إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق : وقيل : للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم وظاهر قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس ، يرجح الأول لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها ، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها ، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل : لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال : اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره ، وفي القرآن (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٤٢] وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان ، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الزمر : ٢٢] ومن هنا قال بعض السادات : القلب مقر الإيمان ، والصدر محل الإسلام ، والفؤاد مشرق المشاهدة ، واللب مقام التوحيد الحقيقي ، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم ، وربما يقال عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناء على أن المراد بالجمعين واحد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه ، وفي الآية وعد ووعيد أو


أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين ، واختار الصدور هاهنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقا بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة ، نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال : إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضا.

ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالا من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للابتلاء والكشف ، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذ سر التعبير عن الأسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال : إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلا من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتبار كونه حالا فيها دون الثانية لأنها لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا) الدبر عن المشركين بأحد (مِنْكُمْ) أيها المسلمون ، أو أن الذين هربوا منكم إلى المدينة (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) وهما جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وجمع أبي سفيان. (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا ، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه ، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه ، وحينئذ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة ـ ومعنى السببية ـ انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة ، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن ، وإما مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة ، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج : إن للشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية ، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول

وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) [لقمان : ٨] لأن (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) يأباه ويحقق التحقيق ، وهو أيضا من باب الترديد للتعليق كقوله :

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسها حجر مسته سراء

لأن (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ) إلخ خبر إن وزيد ـ إن ـ للتوكيد وطول الكلام ، و ـ ما ـ لتكفها عن العمل ، وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض إلخ فهو كقولك : إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه ، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال ، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥](وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ).

أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين فيه ومنعا لهم عن اليأس وتحسينا للظنون بأتم وجه ، وقد يقال :


هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب صغائرها وكبائرها (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبة المذنب ، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم ، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص ، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ؛ ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق ، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول ، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء ، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث ، فزعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لقد ذهبتم بها عريضة ، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل ، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع ، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي.

ومجاهد ـ وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم وهم هم ، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان ـ كما يقوله الكرامية ـ وإلا لما لما سمي المنافق كافرا ، وقيل : المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في المذهب أو النسب ، واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم ، وجعلها ابن الحاجب بمعنى عن ، ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الإخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول ، وقول بعضهم : يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها لتجارة ، أو طلب معاش فماتوا ـ قال السدي ـ وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء ، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل ، ثم صار حقيقة فيه ، وقيل : أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر ، وقيل : اكتفى بذكر الأرض مرادا بها البر عن ذكر البحر ، وقيل : المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد ، وجيء ـ بإذا ـ وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه (إِذا) مراعاة لحكاية الحال الماضية ، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك : قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضارا لصورة ضربهم في الأرض ، واعترض بوجهين : الأول أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى (إِذا ضَرَبُوا) حين يضربون فيما يستقبل ، الثاني أن قولهم : لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض.

وأجيب عن الأول بأن (إِذا ضَرَبُوا) في معنى الاستمرار كما في (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٤ ، ٧٦] فيفسد الاستحضار نظرا للحال ، وعن الثاني بأن (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا ، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) فقتلوا قالوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال ، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت ، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفا كما في قوله تعالى : (فَإِذا


أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩٨] وكقولك إذا طلع هلال المحرم : أتيتك في منتصفه.

وقال الزجاج : (إِذا) هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل (إِذا ضَرَبُوا) ظرفا لقالوا بل ظرف لما يحصل للإخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل : قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان (إِذا ضَرَبُوا) بمعنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني ، وأنت تعلم أن تجريد (إِذا) عن معنى الاستقبال وجعلها بمعنى الوقت مطلقا كاف في توجيه الآية مزيل لاشكالها ، وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جوابا إذ يصير مستقبلا فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضا ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد ، وأقعد منه ـ وإن كان بعيدا ـ ما قاله أبو حيان من أنه يمكن إقرار (إِذا) على الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل على أن ضمير لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا لا معنى على حد عندي درهم ونصفه ، والتقدير (وَقالُوا) مخافة هلاك إخوانهم (إِذا ضَرَبُوا أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا) أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم (عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين وإنما لم يحملوا (إِذا) هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] لتصفوا لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور ، وجوز في الآية كون قالوا بمعنى يقولون ؛ وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي بمعنى المستقبل ومنه قوله :

وإني لآتيكم تشكر ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان في غد

وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل (إِذا) على الماضي فإنها تجيء له كما جاءت إذا للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] ، وقوله :

وندمان يزيد الكأس طيبا

سقيت «إذا» تغورت النجوم

وحينئذ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله ، والجملة المعينة لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها هي الجملة المعطوفة على جملة الصلة والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في قولهم لإخوانهم إذا سافروا (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز كعاف وعفى وهو من نوادر الجمع في المعتل ، واستشهد عليه بعضهم بقول امرئ القيس :

ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى

لها قلب «عفّى» الحياض أجون

ويجمع على غزاة كقاض وقضاة ، وعلى غزى مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين ، وعلى غزاء مثل فاسق وفساق ، وأنشدوا له قول تأبط شرا.

فيوما «بغزاء» ويوما بسرية

ويوما بخشخاش من الرجل هيضل

وعلى غازون مثل ضارب وضاربون ، وهو منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين إذ أصله غزوا تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم حذفت ، وقرئ بتخفيف الزاي قال أبو البقاء : وفيه وجهان ، الأول : أن أصله غزاة فحذفت الهاء تخفيفا لأن التاء دليل الجمع ، وقد حصل من نفس الصيغة.

(والثاني) : أنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل : قد يوجد بدون الضرب في الأرض بناء على أن المراد به


السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى (لَوْ كانُوا) مقيمين (عِنْدَنا) بأن لم يسافروا أو يغزوا (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا ، والجملة الامتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في الكلام السابق مضمرا قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) فقتلوا ، وتقدير فماتوا ، أو قتلوا في كل من الشقين خلاف الظاهر (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به ، والإشارة إلى القول لكن باعتبار ما فيه من الاعتقاد واللام لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة ، وإلى هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي ، وقيل : متعلق ـ بلا تكونوا ـ على أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة ، واعترضه أبو حيان بأنه قول لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فيترك الضرب في الأرض والغزو. وكأن القائل التبس عليه استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة.

وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو لا تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سببا لدخول الجنة ، وكذا لا يجوز أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سبب لدخولها. ثم قال : والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه وهذا لا إشكال فيه ، وقيل : متعلق ـ بلا تكونوا ـ والإشارة إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم وعلى هذا يكون (وَقالُوا) ابتداء كلام معطوفا على مقدرات شتى كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم ، ووجه اتصاله بما قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا ، ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات ، وعلى كل من الأوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائدا إلى الكافرين ، وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال.

وجوز ابن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقة ـ بقالوا ـ حينئذ لا غير ، ووجه الآية بما يقضي منه العجب (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ردّ لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم ، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما ، وقيل : المراد أنه تعالى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر ، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر ، وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم ، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر


لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه ، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة ـ غير عاصم ـ يعملون بالياء ، وضمير الجمع حينئذ للكفار ، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع ؛ وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف.

هذا (ومن باب الإشارة) (وَكَأَيِّنْ) وكم (مِنْ نَبِيٍ) مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية (قاتَلَ مَعَهُ) عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة (رِبِّيُّونَ) متخلقون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات (وَما ضَعُفُوا) في طلب الحق (وَمَا اسْتَكانُوا) وما خضعوا للسوى (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) على مقاساة الشدائد في جهاد النفس (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواطن حروب أنفسنا (وَانْصُرْنا) بتأييدك وإمدادك (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الساترين لربوبيتك (فَآتاهُمُ اللهُ) بسبب دعائهم بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى (ثَوابَ الدُّنْيا) وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) وهو مقام توحيد الذات (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم النفوس الكافرة وصفاتها (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية (فَتَنْقَلِبُوا) ترجعوا القهقري (خاسِرِينَ) أنفسكم (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) ناصركم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف (بِما أَشْرَكُوا) أي بسبب إشراكهم (بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أي بوجوده (سُلْطاناً) أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته ، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن ، وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقر ملة (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) وهي نار الحرمان (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) المشروط بالصبر والتقوى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلا ذريعا (بِإِذْنِهِ) وأمره لا على وفق الطبع (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) جبنتم عند تجلي الجلال (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وخالفتم في أمر الطلب (وَعَصَيْتُمْ) المرشد المربي (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الفوز بأنوار الحضرة (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) لقصور همته وضعف رأيه (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) لطول باعه وقوة عقله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي عن أعداء نفوسكم وجنودها (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بعد ذلك فانقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) على المؤمنين في طوري التقريب والإبعاد ، وما ألطف قول من قال :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

(إِذْ تُصْعِدُونَ) في جبل التوجه إلى الحق (وَلا تَلْوُونَ) أي لا تلتفتون (عَلى أَحَدٍ) من الأمرين الدنيا والآخرة (وَالرَّسُولُ) أي رسول الواردات (يَدْعُوكُمْ) إليّ عباد الله إليّ عباد الله (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من زخارف الدنيا (وَلا ما أَصابَكُمْ) من صدمات تجلي القهر (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً


نُعاساً) أي واردا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) وهم الصادقون في الطلب (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) بمقتضى سوء استعدادهم (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فهو المتصرف وحده حسبما يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) الخبيثة (ما لا يُبْدُونَ) بزعمهم لك أيها المرشد الكامل (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا) بسيف الشهوات (هاهُنا) أي في هذه النشأة (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات (لَبَرَزَ) على حسب العلم (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) في لوح الأزل (إِلى مَضاجِعِهِمْ) وهي بيداء الشهوات ، فقد قال سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] أي نظهرها بهذا التعين ، وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ) تعالى (ما فِي صُدُورِكُمْ) أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه ، ولهذا ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ولله تعالى در من قال :

لله در النائبات فإنها

صدأ اللئام وصيقل الأحرار

ما كنت إلا زبرة فطبعنني

سيفا وأطلع صرفهن غراري

وذلك لأنهم حينئذ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل : عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين ، وقيل : إن الخطاب الأول للمنافقين ، والثاني للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال المنافقين ، وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان والاطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل : ولهذا قال سبحانه : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بناء على أن المراد به الترهيب والتحذير عن الاتصال بما لا يرضى من تلك الصفات التي يكون الصدر مكمنا لها (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطان لا مجال له على ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب ، ولك أن تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى. ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».

وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله : اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفا من قلبه يقول : يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) برؤية الأغيار واعتقاد تأثير السوي ، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان (لَوْ كانُوا) مقيمين (عِنْدَنا) موافقين لنا (ما ماتُوا) بمقاساة الرياضة (وَما قُتِلُوا) بسيف المجاهدة ، ولاستراحوا من هذا


النصب (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) أي عدم الكون مثلهم (حَسْرَةً) يوم القيامة (فِي قُلُوبِهِمْ) حين يرون ما أعد الله تعالى لكم (وَاللهُ يُحْيِي) من يشاء بالحياة الأبدية (وَيُمِيتُ) من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) أيها المؤمنون (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد (أَوْ مُتُّمْ) حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلا أو نية.

(لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون ، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى ، واللام الأولى هي موطئة للقسم ، والثانية واقعة في جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه ـ ومغفرة ـ مبتدأ و (مِنَ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهارا للاعتناء بها ورمزا إلى تحقق وقوعها ، وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله ، وحذفت صفة (رَحْمَةٌ) لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف ، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناء على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيرا في نفس الأمر. وإما أن ذلك وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير ، وجوز في ـ ما ـ أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف ، أو مصدرية ويكون المفعول حينئذ محذوف أي من جمعهم المال ، وقرأ نافع وأهل الكوفة ـ غير عاصم ـ «متّم» بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا ، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف ، وعلى الثاني من مات يموت مثل كنتم من كان يكون ، وقرأ حفص عن عاصم (يَجْمَعُونَ) بالياء على صيغة الغيبة ، وقرأ الباقون «تجمعون» بالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين ، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله تعالى ، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله سبحانه : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر ، والمعنى أنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا إلى غيره فيجزي كلّا منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب ، أو يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقرّبكم إليه ويجرّ لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا ، ومما ينسب للحسين رضي الله تعالى عنه:

فإن تكن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرئ بالسيف والله أفضل

والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما بلامين ، وإدخال لام القسم على المعمول المقدم مشعر بتأكيد الحصر والاختصاص بأن ألوهيته تعالى هي التي تقتضي ذلك ، وادعى بعضهم أن تقديم هذا المعمول لمجرد الاهتمام ويزيده حسنا وقوع ما بعده فاصلة ، وما أشرنا إليه أولا أولى ، قالوا : ولو لا هذا التقديم لوجب توكيد الفعل بالنون لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده مع اللام خلافا للكوفيين حيث يجوزون التعاقب بينهما ؛ وظاهر صنيع بعض المحققين يشعر بأن في هذه الجملة مقدرا بقرينة ما قبله أي ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله ، ولعل الحمل على العموم أولى ، وزعم بعض أن في الآية تقسيم مقامات العبودية إلى ثلاثة أقسام ، فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره آمنه مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : (وَرَحْمَةٌ) لأن الرحمة من أسماء الجنة ، ومن عبد الله تعالى شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهو العبد المخلص الذي يتجلى عليه الحق جل جلاله في دار كرامته ، وإليه الإشارة بقوله عز اسمه : (لَإِلَى اللهِ


تُحْشَرُونَ) ولا يخفى أنه من باب التأويل لا من قبيل التفسير (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارّين الملامة والتعنيف منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق ، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء متعلقة ـ بلنت ـ والتقديم للقصر ، ـ وما ـ مزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين ، وهو المأثور عن قتادة ، وحكى الزجاج الإجماع عليه وفيه نظر ، فقد قال الأخفش وغيره : يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء ، و (رَحْمَةٍ) بدل منها ، وجوز أن تكون صفة لها ، وقيل : إنها استفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة لنت لهم ، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ؛ و (مِنَ) متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي (فَبِما رَحْمَةٍ) عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم ، ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق ، وجعل الرفق ولين الجانب مسببا عن ربط الجأش لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة.

قيل : وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين : إحداهما ما يدل على شجاعته صلى الله تعالى عليه وسلم ، والثانية ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل ، وقد اجتمعت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافيا في المعاشرة قولا وفعلا (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسيه ، وقال الكلبي : (فَظًّا) في الأقوال (غَلِيظَ الْقَلْبِ) في الأفعال.

وذكر بعضهم أن الفظ سيئ الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال والأفعال ، و (غَلِيظَ الْقَلْبِ) السيئ في الأمور الباطنة ، والثاني سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة ، ولهذا ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية وكأنه لبعده صدّر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظا غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردّوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط (فَاعْفُ عَنْهُمْ) مترتب على ما قبله أي إذا كان أمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما للشفقة وإكمالا للتربية (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي في الحرب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام ، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة ، وإليه ذهب جماعة ، واختلف في مشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي فمن أبى الاجتهاد له صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ومن لا يأباه ـ وهو الأصح ـ ذهب إلى جوازها ، وفائدتها الاستظهار برأيهم ، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر وعمر : «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» أو التطييب لأنفسهم ، وإليه ذهب قتادة ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال : أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم ، أو أن تكون سنة بعده لأمته ، وإليه ذهب الحسن ، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية : قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده ، ويؤيده ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال رسول


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا» ؛ وقيل : فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء ، وادعى الجصاص أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلا غير جائز لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولا به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معوّل عليها ؛ وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم فائدة هي الاستظهار بما عندهم وأن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم ، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى انتهى ، وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ما ذا ترى في أمر كذا وما ذا عندك فيه تطييبا لنفسه وتنشيطا لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحيانا وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق ، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى ، على أن من قال : إن فائدة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها ، وحينئذ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى ، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلا لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم ، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى ، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين.

ويؤيد كون المراد من الصحابة ـ المأمور صلى الله تعالى عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه الحاكم وصححه. والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) : أبو بكر ، وعمر ، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما ، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك.

بقي أن بين ما أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما : «لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما» وما أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي» تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل ، وكأن في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما خالفتكما» دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر ، وقرأ ابن عباس كما أخرج البخاري في الأدب المفرد عنه (وَشاوِرْهُمْ فِي) بعض (الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ) أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح ، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه ، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و «اعقلها وتوكل» يرشد إلى ذلك ، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال


التدبير بالكلية ، وعن خالد بن زيد أنه قرأ (فَإِذا عَزَمْتَ) بصيغة المتكلم ، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحدا ، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدعى للتوكل عليه سبحانه والأمر به.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة ، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه ، وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما ، ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان أي أن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتا وصفة فهو أبلغ من لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط.

ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم ـ كما قال شيخ الإسلام ـ وإن كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضا وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفي المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين ، فإذا قلت : لا أكرم من فلان ولا أفضل منه بالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص بالنفي الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ١٤٤ ، الأعراف : ٣٧ ، يونس : ١٧ ، الكهف : ١٥] في مواقع كثيرة من التنزيل وقد أشرنا إلى هذا المبحث فيما تقدم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته كما فعل يوم أحد.

وقرئ «يخذلكم» من أخذله إذا جعله مخذولا (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر على نحو انتفاء الغالب ، وقيل : وجاء جواب الشرط في الأول صريح النفي ولم يجيء في الثاني كذلك تلطفا بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة ولم يصرح بأنه لا ناصر لهم وان كان الكلام مفيدا له (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد خذلانه أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه فعلى الأول ـ بعد ـ ظرف زمان وهو الأصل فيها ، وعلى الثاني مستعار للمكان (وَعَلَى اللهِ) لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول.

(فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا ، وإما المخاطبون خاصة بطريق الالتفات على التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى ، والفاء كما قالوا : لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي ما صح ولا استقام لنبي من الأنبياء أن يخوف في المغنم لأن الخيانة تنافي النبوة وأصل الغل الأخذ بخفية ولذا استعمل في السرقة ثم خص في اللغة بالسرقة من المغنم قبل القسمة وتسمى غلولا أيضا ، قيل : وسميت بذلك لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى


عنقه ، ويقال لها : جامعة أيضا ، وقال الرماني ، وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر ، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل ، ومن ذلك الغل للحقد ، والغليل لحرارة العطش ، والغلالة للشغار ، والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد فقد حكى الواحدي عن الكلبي ، ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز يومئذ طلبا للغنيمة قالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم لكم» ولهذا نزلت الآية ، أو تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما اتهمه به بعض المنافقين يوم بدر ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير وحسناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها ، والرواية الأولى أوفق بالمقام ، وارتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية إلا أن فيها إشعارا بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ، والرواية الثانية أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن ، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في النهي عن الغلول ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلائع فغنم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية ، فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية ، وعبر سبحانه عن حرمان بعض الغزاة بالغلول فطما عن هذا الفعل بالكلية ، أو تعظيما لشأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل بعضهم الكلام على هذا الاحتمال على حدّ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] خوطب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد النهي عنه ـ ولا يخفى بعده ـ والصيغة على الاحتمال الأول إخبار لفظا ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن اعتقاد ذلك في تلك الحضرة المقدسة وعلى الاحتمال الأخير خبر أجري مجرى الطلب ، وقد وردت هذه الصيغة نهيا في مواضع من التنزيل كقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧](ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣](وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] وكذا للامتناع العقلي كقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] و (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب ـ أن يغل ـ على صيغة البناء للمفعول ، وفي توجيهها ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون ماضيه أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى الكفر قال الكميت :

وطائفة قد «أكفرتني» بحبكم

وطائفة قالت مسيء ومذنب

والمعنى ما صح لنبي أن ينسبه أحد إلى الغلول ، وثانيها أن يكون من أغللته إذا وجدته غالا كقولهم أحمدته وأبخلته وأجبنته بمعنى وجدته كذلك والمعنى ما صح لنبي أن يوجد غالا ، وثالثها أنه من غل إلى أن المعنى ما كان لنبي أن يغله غيره أي يخونه ويسرق من غنيمته ، ولعل تخصيص النبي بذلك وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام أو أمير إما لعظم خيانته أو لأنه القائم بأمر الغنائم فإذا حرمت الخيانة عليه وهو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى كذا قيل ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى توجيه التخصيص بما ذكر بعد الالتفات إلى سبب النزول والنظر إلى ما سيأتي بعد.

ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله تعالى الآية ، ولا يخفى أنه بعيد جدا ـ ولا أدري كيف سند هذه الرواية ـ ولا أظن الخبر إلا موضوعا ، ويزيده بعدا بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهو جملة


شرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، و ـ ما ـ موصولة والعائد محذوف أي بالذي غله ، وجوز أن تكون حالا ويكون التقدير في حال علم الغال بعقوبة الغلول ، وظاهر الآثار يدل على أن الإتيان على ظاهره ، فقد أخرج الشيخان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك» والأخبار بهذا المعنى كثيرة ولعل السر في ذلك أن يفضح به على رءوس الأشهاد زيادة في عقوبته ، وإلى هذا ذهب الجبائي ، ولا مانع من ذلك عقلا.

والاستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالاستبعاد قديما فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلا قال له : أرأيت قول الله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها؟! قال : أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا ، وورد في بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذ يكون في الآية حذف أي يأت بما غل من النار ، فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفا ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لو كنت مستحلا من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير ما من أحد يغل إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم ، وقيل : الإتيان به مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما احتمل من وباله وإثمه ـ واختاره البلخي ـ وقال : يجوز أن يكون ما تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتيا به وحاملا له وله صوت ، ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل.

وقيل : إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن بذلك خبر مجيء الموت في صورة كبش وتلقي القرآن صاحبه في صورة الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك.

وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات والمعاصي بصور تناسبها فحينئذ يمكن أن يقال : إن معصية كل غال تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك ، وعليه تكون الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى ارتكاب التمثيل ، وجواب أبي هريرة لا يأباه ، وإلقاؤه في النار أيضا غير مشكل وأهل الظاهر لعلهم يقولون : إنه يلقى من غير تعذيب ، وبتقديره لا محذور أيضا فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقا حين قول جهنم : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] فيضعهم فيها ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول باستثناء بعض الغلول عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفا ولا أظن أحدا يتجاسر على القول بإلقائه (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا ، ففي الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه ، وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم


القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة ، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى ، وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله ؛ وقيل : يحتمل أن يكون المراد ثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذ يكون النظم على مقتضى الظاهر وكلمة (ثُمَ) للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه ، أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله منتظرا فيما بين الناس مفتضحا حاملا ما غله توفى منه كل نفس ، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال مما يصان عنه كلام الملك المتعال ، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول المتضمن لنكتة العدول وأمر (ثُمَ) عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي الزماني ، أو التراخي الرتبي.

أما الأول فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير.

وأما الثاني فلأن جزاء الغال وعقوبته أشدّ فظاعة من حمل ما غله والفضيحة به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل بل يكاد أن يكون نعيما بالنسبة إلى ما يلقى بعد ، والجملة على كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية (وَهُمْ) أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص بمقتضى الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه (كَمَنْ باءَ) أي رجع (بِسَخَطٍ) أي غضب عظيم جدا وهو بفتحتين مصدر قياسي ، ويقال : بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل قبله ، وجوز أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحبا لسخط. (مِنَ اللهِ) أي كائن منه تعالى.

وفي المراد من الآية أقوال : أحدها أن المعنى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) تعالى في العمل بالطاعة (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ) منه سبحانه في العمل بالمعصية ـ وهو المروي عن ابن إسحاق ـ ثانيها أن معناه (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) في ترك الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) تعالى بفعل الغلول ، وروي ذلك عن الحسن والضحاك واختاره الطبري لأنه أوفق بالمقام ، ثالثها أن المراد (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) تعالى بالجهاد في سبيله (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ) منه جل جلاله في الفرار عنه ، ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج ، قيل : وهو المطابق لما حكي في سبب النزول أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية ـ وفيه بعد ـ وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مصيره ذلك ، وفي الجملة احتمالان ، الأول أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من مقابله أن من اتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون أبلغ في الزجر ، وقيل : لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزما لكل عقاب فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال فافهم ، والثاني أنها داخلة في حيز الموصول فتكون معطوفة على (باءَ بِسَخَطٍ) عطف الصلة الاسمية على الصلة الفعلية ، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إما تذييل ، أو اعتراض ، أو معطوف على الصلة بتقدير ، ويقال : في حقهم ذلك ، وأيّا ما كان فالمخصوص بالذم محذوف أي جهنم ، و (الْمَصِيرُ) اسم مكان ، ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن الصيرورة تقتضي الانتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفا ، والمرجع انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك : مرجع ابن آدم إلى التراب ، وأما قولهم مرجع


العباد إلى الله تعالى فباعتبار أنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئا كما كان قبل ما ملكوا (هُمْ) عائد على الموصولين باعتبار المعنى وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (دَرَجاتٌ) خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقا للملزوم على اللازم ، أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة ، وقيل : إن الكلام على حذف مضاف ولا تشبيه أي (هُمْ) ذوو درجات أي منازل ، أو أحوال متفاوتة ، وهذا معنى قول مجاهد والسدي : لهم درجات ، وذهب بعضهم أن في الآية حينئذ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول ، والثاني للثاني (عِنْدَ اللهِ) أي في علمه وحكمه ، والظرف متعلق بدرجات على المعنى ، أو بمحذوف وقع صفة لها.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها ـ والبصير ـ كما قال حجة الإسلام هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان ، فإن ذلك من التغيير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات انتهى ، ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلم ـ وهو الذي ذهب إليه الجمهور منا ، ومن المعتزلة والكرامية قالوا : لأنا إذا علمنا شيئا علما جليا ثم أبصرناه نجد فرقا بين الحالتين بالبديهة ، وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي الإبصار.

وقال الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض وادعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه تعالى بالمبصرات ، ومثل هذا الخلاف في السمع ، والحق أنهما زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدّان والإقرار بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه ، وإلى ذلك ذهب السلف الصالح وإليه ينشرح الصدر (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم وتفضل ، وأصل المنّ القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية وكذا الاعتداد بالصنيعة منا لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها ، والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد منّ الله (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الأنس ـ وخير الثلاثة الوسط ـ وإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها : فقد أخرج البيهقي وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصة ـ والأول خير من الثالث ـ وأيّا ما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري : المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى الإيمان (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ) أي بينهم (رَسُولاً) عظيم القدر جليل الشأن (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من نسبهم ، أو من جنسهم عربيا مثلهم أو من بني آدم لا ملكا ولا جنيا و (إِذْ) ظرف ـ لمن ـ وهو وإن كان بمعنى الوقت لكن وقع في معرض التعليل كما نص عليه معظم المحققين ، والجار إما متعلق ب «بعث» أو بمحذوف وقع صفة ـ لرسولا ـ والامتنان بذلك إما لحصول الأنس بكونه من الإنس فيسهل التلقي منه وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، وإما ليفهموا كلامه بسهولة ويفتخروا على سائر أصناف نوع بني آدم ، وإما ليفهموا ويفتخروا ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتخصيص المؤمنين بالامتنان مع عموم نعمة البعثة كما يدل عليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] لمزيد انتفاعهم على اختلاف الأقوال فيهم بها ، ونظير ذلك قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وقرئ ـ «لمن منّ الله» ـ بمن الجارة ومنّ المشددة النون على أنه خبر لمبتدإ محذوف مثل منه أو بعثه وحذف لقيام الدلالة ، وجوز الزمخشري أن تكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن منّ الله تعالى على المؤمنين وقت


بعثه ، ولا يخفى عليك أن هذا يقتضي أن تكون (إِذْ) مبتدأ والجار والمجرور خبرا «وقد اعترض ذلك» بأنه لم يعلم أن أحدا من النحويين قال بوقوع (إِذْ) كذلك ، وما في المثال إذا لا إذ ، وهي أيضا فيه ليست مبتدأ أصلا ، وإنما جوزوا فيها وجهين : النصب على أن الخبر محذوف وهي سادّة مسدّه. والرفع على أنها هي الخبر ، وعلى الأول يكون الكلام من باب جد جده لأن الأمير أخطب في حال القيام لا كونه ، وعلى الثاني من باب نهاره صائم والوجه الأول هو المشهور ، وجوز الثاني عبد القاهر تمسكا بقول بعضهم : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع فكأن الزمخشري قاس إذ على إذا والمبتدأ على الخبر.

وانتصر بعضهم للزمخشري ، بأنه قد صرح جماعة من محققي النحاة بخروج إذ عن الظرفية فتكون مفعولا به ، وبدلا من المفعول وهذا في قوة تصريحهم بوقوعها مبتدأ وخبرا مثلا إذ هو قول بتصرفها ، ومتى قيل به كانت جميع الأحوال مستوية في جواز الإقدام عليها من غير تفرقة بين حال وحال إلا لمانع يمنع من ذلك الحال فيها وفي غيرها من سائر الأسماء وهو أمر آخر وراء ما نحن فيه ، نعم حكى الشلوبين في شرح الجزولية عن بعضهم أن مأخذ التصرف في الظروف هو السماع فإن كان هذا حكم أصل التصرف فقط دون أنواعه ارتفع الغبار عما قاله الزمخشري بناء على ما ذكرنا بلا خفاء وإن كان حكم الأنواع أيضا كذلك فلا يقدم على الفاعلية بمجرد ثبوت المفعولية ولا على الابتدائية بمجرد ثبوت الخبرية مثلا إلا بورود سماع في ذلك ، ففي صحة كلام الزمخشري تردد بيّن لأن مجرد تصريحهم حينئذ بوقوع (إِذْ) مفعولا وبدلا وبوقوع إذا خبرا مثلا لا يجدي نفعا لجواز ورود السماع بذلك دون غيره كما لا يخفى ، وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها وسلم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن البيان ينبغي اعتقاده لكل مؤمن.

وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرا ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض الكفاية؟ فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان ، ثم قال : فلو قال شخص : أو من برسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جميع الخلق لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن ، أولا أدري هل هو من العرب أو العجم؟ فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام ـ ولا أعلم في ذلك خلافا ـ فلو كان غبيا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره انتهى ، وهل يقاس اعتقاد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أشرف القبائل والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه منزه تلك الساحة العلية عن كل وصمة؟ فيه تأمل ، والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين.

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) إما صفة أو حال أو مستأنفة وفيه بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك وبعضهم متشوفا متشوقا إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله وبشر به (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية ، أو من خبائث الاعتقادات الفاسدة كالاعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل الكتابين ، أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين ، أو يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها قاله الفراء ـ ولا يخفى بعده ومثله القريب إليه (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قد تقدم الكلام في ذلك.

وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة


للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [البقرة : ١٢٩] لتبادر إلى الفهم عدّ الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن ـ بالآيات ـ تارة ـ وبالكتاب والحكمة ـ أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام ، وقد يقال : المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة والسلام بالرسالة ، وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين ، وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى ، وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذل كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهدا فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان ، بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذانا بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثة الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر (وَإِنْ) هي المخففة واللام هي الفارقة ، والمعنى إن الشأن كانوا من قبل إلخ.

وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وذكر مثله مكي إلا أنه قال : التقدير وأنهم كانوا من قبل فجعل اسمها ضميرا عائدا على المؤمنين ، قال أبو حيان : وكلا الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه وإنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت : إن زيدا قائم ثم خففت. فمذهب البصريين فيها وجهان : أحدهما جواز الأعمال ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة ـ إلا أنها لا تعمل في مضمر ، ومنع ذلك الكوفيون ـ وهم محجوبون بالسماع الثابت من لسان العرب ـ والوجه الثاني وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا مضمر لا ملفوظ ولا مقدر البتة فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت اللام في ثاني مصحوبيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر ، فتقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم ، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء ، وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم.

وأجاب الحلبي عمن قدر الشأن بأنه تفسير معنى لا بيان إعراب ، وقال عصام الملة : إن الشأن لم يرد تقدير ضمير الشأن بل جعل الجملة حالا بتأويل القصة ذلك لئلا يختلف زمان الحال والعامل فإن زمان الكون في ضلال مبين قبل زمان التعليم لكن كون القصة ذلك مستمر ، ثم قال : وهذا تأويل شائع مشهور في الحال الذي يتقدم زمان تحققه زمان تحقق العامل فاحفظه ولا تلفظه انتهى ، وأنت تعلم أن ما ذكره الحلبي خلاف الظاهر ، وكلام عصام الملة منظور فيه لأن المناسب لما ذكره على تقدير تعينه تقدير الشأن قبل ـ أن ـ لا بعدها كما لا يخفى ، وجوز بعضهم كون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، والأكثرون على الحالية ، وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها ، وقوله تعالى :

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ


لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٧)

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة إثر إبطال بعض آخر ، والهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ، و (لَمَّا) ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة في الشرط ـ كما ذهب إليه الفارسي ـ وهو الصحيح عند جمع من المحققين وناصبها (قُلْتُمْ) وهو الجزاء (قَدْ أَصَبْتُمْ) في محل الرفع على أنه صفة ـ لمصيبة ـ وجعله في محل نصب على الحال يحتاج إلى تكلف مستغنى عنه ، والمراد بالمصيبة ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم ـ وبمثليها ـ ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين ، وجعل ذلك مثلين يجعل الأسر كالقتل أو لأنهم كانوا قادرين على القتل وكان مرضي الله تعالى فعدمه كان من عندهم فتركه مع القدرة لا ينافي الإصابة.

وقيل : المراد بالمثلين المثلان في الهزيمة لا في عدد القتلى وذلك لأن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا يوم أحد أول الأمر ، وعليه يكون المراد بالمصيبة هزيمة الكفار للمسلمين بعد أن فارقوا المركز ، و (أَنَّى هذا) جملة اسمية مقدمة الخبر ، والمعنى من أين هذا لا كيف هذا لدلالة الجواب مفعول القول ، وقيل : (أَنَّى) منصوبة على الظرفية ـ لأصابنا ـ المقدر ، و (هذا) فاعل له ، والجملة مقول قلتم ، وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل ، والمعنى أحين نالكم من المشركين نصف ما قد نالهم منكم قبل ذلك رجعتم وقلتم من أين هذا ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله تعالى وفينا رسوله ، وهؤلاء مشركون أعداء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قد وعدنا الله تعالى النصر؟ ـ وإليه ذهب الجبائي ـ وهذا على تقدير توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم


في ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم مثلي مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة ، أو أفعلتم ما فعلتم من الفشل والتنازع أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولما أصابتكم غائلة ذلك قلتم (أَنَّى هذا) وهذا على تقدير توجيه الإنكار لاستبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها ، وجوز أن يكون المعطوف عليه القول إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد بل قالوا أقوالا لا ينبغي أن يقولوها.

وذهب جماعة إلى أن المعطوف عليه ما مضى من قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) [آل عمران : ١٥٢] إلى هنا وللتعلق بقصة واحدة لم يتخلل بينهما أجنبي ليكون القول بذلك بعيدا كما ادعاه أبو حيان ، والهمزة حينئذ متخللة بين المتعاطفين للتقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف والمعنى أكان من الله تعالى الوعد بالنصر بشرط الصبر والتقوى فحين فشلتم وتنازعتم وعصيتم وأصابكم الله تعالى بما أصابكم (قُلْتُمْ أَنَّى هذا).

والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير ، والواو أصلها التقديم ، وهو مذهب سيبويه وغيره ، والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها واختار هذا في البحر ، وإسناد الإصابة إلى المصيبة مجاز وإلى المخاطبين حقيقة ولم يؤت بالإسنادين من باب واحد زيادة في التقريع ، وتذكير اسم الإشارة في (أَنَّى هذا) مراعاة لمعنى المصيبة المشار إليها وهو المشهور أو لما أن إشارتهم ليست إلا لما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة ، وإنما هي عند الحكاية وفي الآية على ما قيل : جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة ، يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الاستبعاد ، لكن صرح بجواب آخر يبرئ العليل ويشفي الغليل وتطأطئ منه الرءوس فقال سبحانه : (قُلْ) يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد (هُوَ) أي هذا الذي أصابكم كائن (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي أنها السبب له حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك ـ قاله عكرمة ـ أو حيث إنكم قد اخترتم قبل أن يقتل منكم سبعون في مقابلة الفداء الذي أخذتموه من أسارى بدر ، وعزي هذا إلى الحسن ، ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي ، وآخرون عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وإما أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر ، أو حيث اخترتم الخروج من المدينة ولم تبقوا حتى تقاتلوا المشركين فيها قاله الربيع وغيره.

وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون : «إنا في جنة حصينة ـ يعني بذلك المدينة ـ فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له ناس من الأنصار : إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فابرز بنا إلى القوم فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا : عرض نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر وعرضتم بغيره اذهب يا حمزة فقل له : أمرنا لأمرك تبع فأتى حمزة فقال له : إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز وأنه سيكون فيكم مصيبة قالوا : يا نبي الله خاصة أو عامة؟ قال : سترونها» واعترض هذا القول بأنه يأباه أن الوعد بالنصر كان بعد اختيار الخروج وأن عمل النبي


صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان بمن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ ، وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة؟ وأجيب بأن الإباء المذكور في حيز المنع كيف والنصر الموعود كان مشروطا بما يعلم الله تعالى عدم حصوله ، وبأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان قد عمل بموجبه لكن لم تكن نفسه الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم منبسطة لذلك ولا قلبه الشريف مائلا إليه وكأن سهام الأقدار نفذت حين خالفوا رأيه السامي وعدلوا عن الورود من عذب بحر عقله الطامي كما يرشدك إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن لبس لأمّته : «وإنه سيكون فيكم مصيبة» وقوله في جواب الاستفهام عنها : «خاصة أو عامة»؟ «سترونها» فإن ذلك كالصريح في عدم الرضا والفصيح في استيجاب ذلك الاختيار نزول القضاء ، وبأن الخطاب في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ليس نصا في أن المتسببين هم المتفوهون بتلك الكلمة ليضر استشهاد المختارين للخروج في المقصود لجواز أن يكون من قبيل قولك لقبيلة : أنتم قتلتم فلانا والقاتل منهم أناس مخصوصون لم يوجدوا وقت الخطاب ، ومثل ذلك كثير في المحاورات على أن كون مصيبة المتفوهين هي قتل أولئك المستشهدين نص في التأسف عليهم فيناسبه التعريض بهم بنسبة القصور إليهم ليهون هذا التأسف وليعلموا أن شؤم الانحراف عن سمت إرادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعم الكبير والصغير بل ربما يقال : إن استشهاد أولئك المصرين شاهد على أنهم هم الذين كانوا سببا في تلك المصيبة ولهذا استشهدوا ليذهبوا إلى ربهم على أحسن حال.

هذا ولا يخفى أن هذا الجواب لا يخلو عن تكلف وكأن الداعي إليه أن الذاهبين إلى تفسير (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) بالخروج من المدينة وتبعية أبي سفيان وقومه جماعة أجلاء يبعد نسبة الغلط إليهم ، فقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن وابن جريج ، وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس فتدبر (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملته النصر عند الموافقة والخذلان عند المخالفة ، وحيث خالفتم أصابكم سبحانه بما أصابكم ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر ، وقيل : المراد منها تطييب أنفسهم ومزج مرارة التقريع بحلاوة الوعد أي إنه سبحانه قادر على نصرتكم بعد لأنه على كل شيء قدير فلا تيأسوا من روح الله واعتناء بشأن التطييب وإرشادا لهم إلى حقيقة الحال فيما سألوا عنه وبيانا لبعض ما فيه من الحكم ورفعا لما عسى أن يتوهم من الجواب من استقلالهم في وقوع الحادثة رجع إلى خطابهم برفع الواسطة وجواب سؤالهم بأبسط عبارة فقال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ) أيها المؤمنون من النكبة بقتل من قتل منكم (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي جمعكم وجمع أعدائكم المشركين ، والمراد بذلك اليوم يوم أحد ، وقول بعضهم ـ لا يبعد أن يراد به يوم أحد ، ويوم بدر ـ بعيد جدا (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته ، وقيل : بتخليته ؛ (وَما) اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء ، وجملة (أَصابَكُمْ) صلته ـ وبإذن الله ـ خبره.

والمراد بإذن الله يكون ويحصل ، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط ، ووجه السببية ليس بظاهر إذ الإصابة ليست سببا للإرادة ولا للتخلية بل الأمر بالعكس فهو من قبيل (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] أي ذلك سبب للإخبار بكونه من الله لأن قيد الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطالب وكذا الإخبار ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، وادعى السمين أن في الكلام إضمارا أي فهو بإذن الله ، ودخول الفاء لما تقدم ثم قال : وهذا مشكل على ما قرره الجمهور لأنه لا يجوز عندهم دخول هذه الفاء زائدة في الخبر إلا بشروط ، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى وذلك لأن الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط ، والشرط إنما يكون في الاستقبال لا في الماضي ، فلو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم لم يصح ، و (أَصابَكُمْ) هنا ماض معنى كما أنه ماض لفظا لأن القصة ماضية فكيف جاز دخول


هذه الفاء وأجابوا عنه بأنه يحمل على التبين أي وما يتبين إصابته إياكم فهو بإذن الله كما تأولوا (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) [يوسف ٢٧] بذلك ، ثم قال : وإذا صح هذا التأويل فليجعل (ما) هنا شرطا صريحا وتكون الفاء داخلة وجوبا لكونها واقعة جوابا للشرط انتهى ، ولا يخفى ما فيه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على بإذن الله ـ من عطف السبب على المسبب ، والمراد ليظهر للناس ويثبت لديهم إيمان المؤمن.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) كعبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وهذا عطف على ما قبله من مثله ، وإعادة الفعل إما للاعتناء بهذه العلة ، أو لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق ، وبالمنافقين على نهج جديد وهو السر ـ كما قال شيخ الإسلام ـ في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على نافقوا مؤذن بأن ذلك كان نفاقا خاصا أظهروه في ذلك المقام.

وقيل : ابتداء كلام معطوف على مجموع ما قبله عطف قصة على قصة ، ووجهه أنه جل شأنه لما ذكر أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم فيما تقدم من الآيات وبين أن الدائرة إنما كانت للابتلاء وليتميز المؤمنون عن المنافقين وليعلم كل واحد من الفريقين أن ما قدره الله تعالى من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة ، وجيء بالواو لأنها ملائمة لأصل الكلام ، والنفاق على هذا مطلق متعارف ، وجوز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الاعتراض للتنبيه على كيفية ظهور نفاقهم ، أو عدم ثباتهم على الإيمان.

وعلى كل تقدير القائل إما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وإليه ذهب الأصم ـ وإما عبد الله بن عمرو ابن حرام من بني سلمة ـ وإليه ذهب الأكثر ـ ومقول القول قوله تعالى : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) قال السدي وابن جريج : (أَوِ ادْفَعُوا) عنا العدو بتكثير السواد ، وهو المروي عن ابن عباس ، وقيل : إنهم خيروا بين أن يقاتلوا للآخرة أو لدفع الكفار عن أنفسهم وأموالهم أو بين الأول وبين دفع المؤمنين عن ذلك كأنه قيل : قاتلوا لله تعالى أو للنفاق الدافع عن أنفسكم وأموالكم ، وترك العاطف الفاء أو الواو بين (تَعالَوْا) و (قاتِلُوا) لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني ، وذكر الأول توطئة له وترغيبا فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون ، وقيل : ترك العاطف للإشارة إلى أن كل واحد من الجملتين مقصود بنفسه ، وقيل : الأمر الثاني حال ولا يخفى بعده (قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل فما صنعوا حين قيل لهم ذلك؟ فقيل قالوا : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) أي لو كنا نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن شهاب ، وقيل : أرادوا إنا لا نحسن القتال ولا نقدر عليه لأن العلم بالفعل الاختياري من لوازم القدرة عليه فعبر بنفيه عن نفيها ، ويحتمل أنهم جعلوا نفي علم القتال كناية عن أن ما هم فيه ليس قتالا بناء على نفي العلم بنفي المعلوم لأن القتال يستدعي التكافؤ من الجانبين مع رجاء مدافعة أو مغالبة ومتى لم يتحقق ذلك كان إلقاء الأنفس إلى التهلكة ، ومن الناس من جوز أن يكون المراد (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) في سبيل الله لاتبعناكم أو لو تعلم قتالا معنا لاتبعناكم لكن ليس للمخالف معنا مضادة ولا قصد له إلا معكم ، ولا يخفى أن هذا الكلام على جميع تقاديره يصلح وقوعه جوابا لما قيل لهم على جميع تقاديره ما عدا الأول ، وعلى الأول يصلح هذا جوابا له على جميع تقاديره ما عدا الثاني إذ عدم المعرفة بالقتال لا يكون عذرا في عدم تكثير السواد إلا على بعد ومن كلامهم :

إن لم تقاتل يا جبان فشجع

والمراد بالاتباع إما الذهاب للقتال ولم يعبروا به لأن ألسنتهم لكمال تثبط قلوبهم عنه لا تساعدهم على


الإفصاح به ، وأما الذهاب مع المؤمنين مطلقا سواء كان للقتال أو للدفع وتكثير السواد وحمله على امتثال الأمر أي لو كنا نعلم قتالا لامتثلنا أمركم لا يخلو عن بعد.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم يوم إذ قالوا (لَوْ نَعْلَمُ) إلخ أقرب للكفر منهم قبل ذلك لظهور أمارته عليهم بانخذالهم عن نصرة المؤمنين واعتذارهم لهم على وجه الدغل والاستهزاء.

والظروف كلها في المشهور عند المعربين متعلقة ـ بأقرب ـ ومن قواعدهم أنه لا يتعلق حرفا جر أو ظرفان بمعنى بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور : إحداها أن يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول ، وثانيتها أن يكون الثاني تابعا للأول ببدلية ونحوها ، وثالثتها أن يكون المتعلق أفعل تفضيل لتضمنه الفاضل والمفضول الذي يجعله بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد والمطلق ، وما نحن فيه من هذا القبيل كأنه قيل قربهم من الكفر يزيد على قربهم من الإيمان ، واللام الجارة في الموضعين بمعنى إلى بناء على ما قيل : إن صلة القرب تكون من وإلى لا غير ، تقول : قرب منه وإليه ، ولا تقول له ، أو على حالها بناء على ما في الدر المصون أن القرب الذي هو ضد البعد يتعدى بثلاثة أحرف اللام وإلى ومن ، وقيل : إن (أَقْرَبُ) هنا من القرب بفتح الراء وهو طلب الماء ومنه القارب لسفينته ، وليلة القرب أي الورود ، والمعنى هم أطلب للكفر وحينئذ يتعدى باللام اتفاقا.

وزعم بعضهم أن اللام هنا للتعليل والتقدير هم لأجل كفرهم يومئذ (أَقْرَبُ) من الكافرين منهم من المؤمنين لأجل إيمانهم ، ولا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه لمزيد بعده وركاكة نظمه لو صرح بما حذف فيه.

وجوز أن يقدر في الكلام مضاف وهو أهل ، واللام متعلقة بتمييز محذوف وهو نصرة والمعنى هم لأهل الكفر (أَقْرَبُ) نصرة منهم لأهل الإيمان إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين ، وهذا كما تقول : أنا لزيد أشدّ ضربا مني لعمرو. وأنت تعلم أنه يمكن تعلق اللام بالتمييز عند عدم اعتبار حذف المضاف أيضا ، وادعى الواحدي أن في الآية دليلا على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم.

وقال الحسن : إذا قال الله تعالى (أَقْرَبُ) فهو لليقين بأنهم مشركون ولا يخفى أن الآية كالصريح في كفرهم لكنهم مع هذا لا يستحقون أن يعاملوا بذلك معاملة الكفار ولعله لأمر آخر (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا في ذلك اليوم فقط ولذا فصلت ، وقيل : حال من ضمير (أَقْرَبُ) وتقييد القول بالأفواه إما بيان لأنه كلام لفظي لا نفسي ، وإما تأكيد على حدّ (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] والمراد أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون ؛ وقال شيخ الإسلام : إن ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وإن (ما) عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان تارة وفي القلب أخرى ، فالمثبت والمنفي متحدان ذاتا وصفة وإن اختلفا مظهرا ، وإما القول الملفوظ فقط فالمنفي حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا ، وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال ، والمعنى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيء منهما ، أحدهما عدم العلم بالقتال ، والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد ، واختار بعضهم كون (ما) عبارة عن القول الملفوظ ، ومعنى كونه ليس في قلوبهم أنه غير معتقد لهم ولا متصور عندهم إلا كتصور زوجية الثلاثة مثلا والحكم عام ؛ ويدخل فيه حكم ما تفوهوا به من مجموع القضية الشرطية لا خصوص المقدم فقط ولا خصوص التالي فقط ولا الأمران معا دون الهيئة الاجتماعية المعتبرة في القضية ولعل ما ذكره الشيخ أولى.


(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها ، والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلا بعلم واجب ، والمؤمنون يعلمونه مجملا بأمارات ، ويجوز أن تكون الجملة حالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق ، وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم (الَّذِينَ قالُوا) مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون كأنه قيل : والله أعلم بما يكتم الذين قالوا ، أو خبر لمبتدإ محذوف أي هم الذين ، وقيل : مبتدأ خبره قل فادرءوا بحذف العائد أي قل لهم إلخ ، أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا ، أو بدل منه ، أو مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم ، أو قلوبهم ، وجاء إبدال المظهر من ضمير الغيبة في كلامهم ، ومنه قول الفرزدق :

على حالة لو أن في القوم حاتما

على جوده لضن بالماء حاتم

بجر حاتم بدلا من ضمير جوده لأن القوافي مجرورة ، والمعنى يقولون بأفواه الذين قالوا ، أو يقولون بأفواههم ما ليس في قلوب الذين قالوا ، والكلام على الوجهين من باب التجريد كقوله :

يا خير من يركب المطي ولا

يشرب كأسا من كف من بخلا

والقائل كما قال السدي وغيره : هو عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وقد قالوا ذلك في يوم أحد (لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقتلوا في ذلك اليوم ، والمراد لذوي قرابتهم أو لمن هو من جنسهم (وَقَعَدُوا) حال من ضمير (قالُوا) وقد مرادة أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال ، وجوز أن يكون معطوفا على الصلة فيكون معترضا بين قالوا ومعمولها وهو قوله تعالى : (لَوْ أَطاعُونا) أي في ترك القتال (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله ابن أبيّ في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قالوا له : ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه : (الَّذِينَ قالُوا) إلخ ، وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبيّ عند المشاورة من المقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به ـ ولا يخلو عن شيء ـ بل قال مولانا شيخ الإسلام : يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند المشاورة (قُلْ) يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة (فَادْرَؤُا) عليه ، ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر ، ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم القعود عن القتال ، والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية ، وأما الثاني فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء ، وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهم لديكم ، وقيل : متعلق الصدق ما صرح به من قولهم : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين ، وحينئذ يكون (فَادْرَؤُا) إلخ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت (فَادْرَؤُا) جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص ،


وفي الكشاف روي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة منهم سبعون منافقا بعدد من قتل بأحد.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) أخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا» وفي لفظ «قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل هؤلاء الآيات».

وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : «يا جابر ما لي أراك منكسرا فقلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال: ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك؟ قلت : بلى قال : ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمن علي أعطك قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون قال : اي ربي فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية» ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع ، وأنزل الله تعالى الآية لهما والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد ، وفي رواية ابن المنذر عن إسحاق بن أبي طلحة قال : حدثني أنس في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة وساق الحديث بطوله ـ إلى أن قال ـ وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمانا ، فأنزل الله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَ) إلخ.

ومن هنا قيل : إن الآية نزلت فيهم ، وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك ، وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر ، وادعى العلامة السيوطي أن ذلك غلط ، وأن آية البقرة هي النازلة فيهم ، وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا.

وقيل : من المنافقين الذين قالوا : «لو أطاعونا وقعدوا» وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الاعتداد به ، وقرئ ـ يحسبن ـ بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب ، وقيل : إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي ـ ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا.

واعترضه أبو حيان بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا.

ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي البتة ، وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى ، وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا على الصحيح بل اقتصارا ، وما هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الاقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله.

وذكر العلامة الطيبي أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب الأخفش ، وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا ، والمراد لا يحسبن أنفسهم ، واعترضه أبو حيان بشيء آخر أيضا ، وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره وهو محصور في أماكن ليس هذا منها ، ورده السفاقسي بأنه وإن لم يكن هذا منها لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز لأنه مقدم معنى وتعدي أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز ، وقد ظن


السيرافي (١) وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين ، وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض ، فالاعتراض عليه في غاية الغرابة ، ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء أن يتسلوا بذلك ، ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه قاله شيخ الإسلام.

وقيل : هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك ، وإن قل ، أو هو نهي عن حسبانهم أنفسهم أمواتا في وقت ما وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم ، وقرئ (وَلا تَحْسَبَنَ) بكسر السين ، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد لكثرة المقتولين (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك ، وقرئ بالنصب ، وخرجه الزجاج على أنه مفعول لمحذوف أي بل أحسبهم أحياء ، ورده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه على أن تقدير اجعلهم قال فيه أبو حيان : إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم ، نعم قال السفاقسي : يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله ، وأجاب الجلبي بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف وإن كانت دلالة اللفظ أحسن ، وقال العلامة الثاني : لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] أمرا بالقياس وتحصيل الظن ، وقال بعضهم : المراد اليقين ويقدر أحسبهم للمشاكلة ولا يخفى أنه تعسف لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدإ المقدر ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في (أَحْياءٌ) وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده ، و (عِنْدَ) هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول : هذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية ، وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق أي إن حيلتهم متحققة لا شبهة فيها ولا يخفى أن المقام مقام مدح فتفسير العندية بالقرب أنسب به.

وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم (يُرْزَقُونَ) صفة لأحياء ، أو حال من الضمير فيه أو في الظرف وفيه تأكيد لكونهم أحياء وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه ، والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى ، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك (فَرِحِينَ) جوز أن يكون حالا من الضمير في (يُرْزَقُونَ) أو من الضمير في (أَحْياءٌ) أو من الضمير في الظرف ، وأن يكون نصبا على المدح ، أو الوصفية لأحياء في قراءة النصب ومعناه مسرورين (بِما آتاهُمُ اللهُ) بعد انتقالهم من الدنيا (مِنْ فَضْلِهِ) متعلق بآتاهم ، و (مِنْ) إما للسببية أو لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف العائد على الموصول ، و (مِنْ) للتبعيض والتقدير بما آتاهموه حال كونه كائنا بعض فضله.

والمراد بهذا المؤتى ضروب النعم التي ينالها الشهداء يوم القيامة أو بعد الشهادة أو نفس الفوز بالشهادة في سبيل الله تعالى (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي يسرون بالبشارة ، وأصل الاستبشار طلب البشارة وهو الخبر السار إلا أن المعنى

__________________

(١) قوله : (وقد ظن السيرافي) هكذا بخطه ولعله جرى ا ه مصححه.


هنا على السرور استعمالا للفظ في لازم معناه وهو استئناف أو معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون.

وجوز أن يكون التقدير وهم يستبشرون فتكون الجملة حالا من الضمير في (فَرِحِينَ) أو من ضمير المفعول في آتاهم وإنما احتيج إلى تقدير مبتدأ عند جعلها حالا لأن المضارع المثبت إذا كان حالا لا يقترن بالواو. (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله تعالى فيلحقوا بهم (مِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. ويجوز أن يكون حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد في الدنيا.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا ، وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة ، وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا ، أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يستبشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم إلخ ، فالاستبشار حينئذ ليس بالأحوال.

ويؤيد هذا ما روي عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا ، فضمير ، (عَلَيْهِمْ) وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول ، وعلى الأول إلى الثاني ، ومن الناس من فسر ـ الذين لم يلحقوا ـ بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم ، فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضا فضلا عظيما بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان ، وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية ، والمعنى لا (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض ، أو لا (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة ، أو (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا عن أن يخاف ويحذر (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على المفارقة ، وقيل : إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة ، والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها ، ولا يحزنون من فوات محبوب من نعيمها ، وهو وجه وجيه.

والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لا بيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ؛ وقد تقدمت الإشارة إليه (يَسْتَبْشِرُونَ) مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) فحينئذ يكون بيانا وتفسيرا لقوله سبحانه : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء ، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلبا في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبدا ، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة ، ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) من غير ضم ما بعده إليه ، وقيل : الاستبشار الأول بدفع المضار ولذا قدم ، والثاني بوجود المسار أو الأول لإخوانهم ، والثاني لهم أنفسهم ، ومن الناس من أعرب (يَسْتَبْشِرُونَ) بدلا من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه ، و (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة ـ لنعمة ـ مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وجمع ـ الفضل والنعمة ـ مع أنهما كثيرا ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه


ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة ، بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك ، ونظيره قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وعطف وأن على «فضل» أو على «نعمة» وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به.

وقرأ الكسائي «وإن» بكسر الهمزة على أنه تذييل لمضمون ما قبله من الآيات السابقة ، أو اعتراض بين التابع والمتبوع بناء على أن الموصول الآتي تابع للذين لم يلحقوا ، والمراد من المؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بذلك للإعلام بسمو مرتبة الإيمان وكونه مناطا لما قالوه من السعادة ، وإما كافة المؤمنين ، وذكرت توفية أجورهم وعدت من جملة المستبشر به على ما اقتضاه العطف بحكم الأخوة في الدين ، واختار هذا الوجه كثير.

ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيدان أن هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء وقلّ ما ذكر الله تعالى فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر سبحانه ما أعطى الله تعالى المؤمنين من بعدهم ، وفي الآية إشعار بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) أي أطاعوا (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) بامتثال الأوامر (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي نالهم الجراح يوم أحد ، والموصول في موضع جر صفة للمؤمنين أو في موضع نصب بإضمار أعني ، أو في موضع رفع على إضمارهم ، أو مبتدأ أول وخبره جملة قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) قال الطبرسي وهو الأشبه : و (مِنْهُمْ) حال من الضمير في (أَحْسَنُوا) و (مِنْ) للتبعيض ـ وإليه ذهب بعضهم ـ وذهب غير واحد إلى أنها للبيان ، فالكلام حينئذ فيه تجريد جرد من الذين استجابوا لله والرسول المحسن المتقي ، والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون ، قال ابن إسحاق وغيره : لما كان يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف منه أذن مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال : يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهم فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إرهابا للعدو حتى انتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم ، ثم ذهب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا أجل أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن عليهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط وهم يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قال : ويلك ما تقول؟ قال ما أرى والله أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال : فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال : فإني أنهاك عن ذلك وو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من الشعر قال : وما قلت؟ قال قلت :

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

ترمي بأسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا ميل معازيل


فظلت عدوا كأن الأرض مائلة

لما سمعوا برئيس غير مخذول

وقلت : ويل ابن حرب من لقائهم

إذا تغطمطت البطحاء بالخيل

إني نذير لأهل النبل ضاحية

لكل آربة منهم ومعقول

من خيل أحمد لا وخشا تنابلة

وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

فثنى عند ذلك أبو سفيان ومن معه ومرّ به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة قال ولم؟ قالوا : نريد الميرة قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل هذه لكم غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموه؟ قالوا : نعم قال : إذا وافيتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمرّ الركب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وأخرج ابن هشام أن أبا سفيان لما أراد الرجوع إلى حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم صفوان بن أمية بن خلف : لا تفعلوا فإن القوم قد جربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا إلى محالكم فرجعوا فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أنهم هموا بالرجعة قال : والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين فقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) بدل من (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) أو صفة ، والمراد من الناس الأول ركب عبد قيس ، ومن الثاني أبو سفيان ومن معه فأل فيهما للعهد والناس الثاني غير الأول.

وروي عن مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة وغيرهم أنهم قالوا : والخبر متداخل نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف : يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران ، وقيل : بلغ عسفان فألقى الله تعالى عليه الرعب فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي (١) وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق المدينة فتثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم : بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان ومن معه من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق يريدون أنكم لم تفعلوا شيئا سوى شرب السويق ولم يلق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من المشركين فكر راجعا إلى المدينة ، وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة ، أو كعب بن مالك :

وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد

لميعاده صدقا وما كان وافيا

__________________

(١) قوله : نعيم بن مسعود أسلم رضي الله تعالى عنه عام الخندق ا ه منه.


فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا

لأبت دميما وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه

وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله أف لدينكم

وأمركم الشيء الذي كان غاويا

وإني وإن عنفتموني لقائل

فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره

شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

فعلى هذا المراد من الناس الأول نعيم ، وأطلق ذلك عليه كما يطلق الجمع واسم الجمع المحلى بال الجنسية على الواحد منه مجازا كما صرحوا به ، أو باعتبار أن المذيعين له كالقائلين لهم لكن في كون القائل نعيما مقال.

وقد ذكره ابن سعد في طبقاته ، وذكر بعضهم أن القائلين أناس من عبد قيس (فَزادَهُمْ إِيماناً) الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال : أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده ، أو لله تعالى ، وتعقب أبو حيان الأول بأنه ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيمانا إلا النطق به لا هو في نفسه ، وكذا الثالث بأنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد فيقال : مفارقة شابت باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقة شاب باعتبار مفرقه شاب ، وفي كلا التعقيبين نظر ، أما الأول فقد نظر فيه الحلبي بأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان ، وأما الثاني فقد نظر فيه السفاقسي بأنه لا يبعد جوازه بناء على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى من اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى.

والمراد أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازدادوا طمأنينة وأظهروا حمية الإسلام.

واستدل بذلك من قال : إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا وهذا ظاهر إن جعلت الطاعة من جملة الإيمان وأما إن جعل الإيمان نفس التصديق والاعتقاد فقد قالوا في ذلك : إن اليقين مما يزداد بالألف وكثرة التأمل وتناصر الحجج بلا ريب ، ويعضد ذلك أخبار كثيرة ، ومن جعل الإيمان نفس التصديق وأنكر أن يكون قابلا للزيادة والنقصان يؤول ما ورد في ذلك باعتبار المتعلق ، ومنهم من يقول : إن زيادته مجاز عن زيادة ثمرته وظهور آثاره وإشراق نوره وضيائه في القلب ونقصانه على عكس ذلك ، وكأن الزيادة هنا مجاز عن ظهور الحمية وعدم المبالاة بما يثبطهم ، وأنت تعلم أن التأويل الأول هنا خفي جدا لأنه لم يتجدد للقوم بحسب الظاهر عند ذلك القول شيء يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم مثلا ليقال : إن زيادة إيمانهم باعتبار ذلك المتعلق وكذا التزام التأويل الثاني في الآيات والآثار التي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر بعيد غاية البعد.

فالأولى القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان من غير تأويل ، وإن قلنا : إنه نفس التصديق وكونه إذا نقص يكون ظنا أو شكا ويخرج عن كونه إيمانا وتصديقا مما لا ظن ولا شك في أنه على إطلاقه ممنوع.

نعم قد يكون التصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقا وذاك مما لا نزاع لأحد في أنه لا يقبل النقصان مع بقاء كونه تصديقا ، وإلى هذا أشار بعض المحققين (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه ، والدليل على أن حسب بمعنى محسب اسم فاعل وقوعه صفة للنكرة في هذا رجل حسبك مع إضافته إلى ضمير المخاطب فلولا أنه اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده تعريفا كإضافة المصدر ما صح كونه صفة لرجل كذا قالوا ، ومنه يعلم أن المصدر المؤول باسم الفاعل له حكمة في الإضافة ، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي الموكول إليه ففعيل بمعنى مفعول والمخصوص بالمدح محذوف هو ضميره تعالى ، والظاهر عطف هذه الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية التي قبلها ، والواو إما من الحكاية أو من المحكي فإن كان الأول


وقلنا : بجواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب لكونهما حينئذ في حكم المفردين فأمر العطف ظاهر من غير تكلف التأويل لأن الجملة المعطوف عليها في محل نصب مفعول (قالُوا) لكن القول بجواز هذا العطف بدون التأويل عند الجمهور ممنوع لا بد له من شاهد ولم يثبت.

وإن كان الثاني وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقا ـ كما ذهب إليه الصفار ـ أو قلنا : بجواز عطف القصة على القصة أعني عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظ ـ كما أشار إلى ذلك العلامة الثاني ـ فالأمر أيضا ظاهر ، وإن قلنا : بعدم جواز ذلك ـ كما ذهب إليه الجمهور ـ فلا بد من التأويل إما في جانب المعطوف عليه أو في جانب المعطوف ، والذاهبون إلى الأول قالوا : إن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكن المقصود منها إنشاء التوكل أو الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر ، والذاهبون إلى الثاني اختلفوا فمنهم من قدر قلنا أي ـ وقلنا نعم الوكيل.

واعترض بأنه تقدير لا ينساق الذهن إليه ولا دلالة للقرينة عليه مع أنه لا يوجد بين الأخبار بأن الله تعالى كافيهم والاخبار بأنهم قالوا ـ نعم الوكيل ـ مناسبة معتد بها يحسن بسببها العطف بينهما ، ومنهم من جعل مدخول الواو معطوفا على ما قبله بتقدير المبتدأ إما مؤخرا لتناسب المعطوف عليه فإن (حَسْبُنَا) خبر ، و (اللهُ) مبتدأ بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجيء حذفه في الاستعمال وانتقال الذهن إليه ، وإما مقدما رعاية لقرب المرجع مع ما سبق.

واعترض بأنه لا يخفى أنه بعد تقدير المبتدأ لو لم يؤول ـ نعم الوكيل ـ بمقول في حقه ذلك تكون الجملة أيضا إنشائية إذ الجملة الاسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى كيف لا ولا فرق بين ـ نعم الرجل زيد ، وزيد نعم الرجل ـ في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب ، وبعد التأويل لا يكون المعطوف جملة ـ نعم الوكيل ـ بل جملة متعلق خبرها ـ نعم الوكيل ـ والإشكال إنما هو في عطف ـ نعم الوكيل ـ إلا أن يقال يختار هذا ، ويقال : الجواب عن شيء قد يكون بتقرير ذلك الشيء وإبداء شيء آخر وقد يكون بتغيير ذلك الشيء ، وما هاهنا من الثاني فمن حيث الظاهر المعطوف هو جملة ـ نعم الوكيل ـ فيعود الإشكال ، ومن حيث الحقيقة هو جملة هو مقول فلا إشكال لكن يرد أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح له بل يصير للإخبار بالمدح الخاص ، وهو أنه مقول في حقه ـ نعم الوكيل ـ وأيضا مقولية المقول المذكور فيه إنما تكون بطريق الحمل والإخبار عنه ـ بنعم الوكيل ـ فلا بد من تقدير مقول في حقه مرة أخرى ، ويلزم تقديرات غير متناهية وكأنه لهذا لم يؤول الجمهور الإنشاء الواقع خبرا بذلك وإنما هو مختار السعد رحمه‌الله تعالى ، وقد جوز بعضهم على تقدير كون الواو من المحكي عطف ـ نعم الوكيل ـ على (حَسْبُنَا) باعتبار كونه في معنى الفعل كما عطف (جَعَلَ) على (فالِقُ) في قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٦٩] على رأي فحينئذ يكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب على المفرد لأنه إذ ذاك خبر عن المفرد ، وبعض المحققين يجوزون ذلك لا من عطف الإنشاء على الاخبار ـ وهذا وإن كان في الحقيقة لا غبار عليه ـ إلا أن أمر العطف على الخبر بناء على ما ذكره الشيخ الرضي من أن نعم الرجل بمعنى المفرد وتقديره أي رجل جيد ـ أظهر كما لا يخفى ، ومن الناس من ادعى أن الآية شاهد على جواز عطف الإنشاء على الاخبار فيما له محل من الإعراب بناء على أن الواو من الحكاية لا غير.

ولا يخفى عليك أنه بعد تسليم كون الواو كذلك فيها لا تصلح شاهدا على ما ذكر لجواز أن يكون (قالُوا) مقدرا في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية ، على الجملة الفعلية الخبرية ، ثم إن الظاهر كما يقتضي أن يكون في الآية عطف على الاخبار ـ وفيه الخلاف الذي عرفت كذلك يقتضي عطف الفعلية على الاسمية ـ وفيه أيضا خلاف مشهور كعكسه ـ ومما ذكرنا في أمر الإنشاء والاخبار يستخرج


الجواب عن ذلك ، وقد أطال العلماء الكلام في هذا المقام وما ذكرناه قليل من كثير ووشل من غدير ، ثم إن هذه الكلمة كانت آخر قول إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار كما أخرجه البخاري في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الرزاق وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء ، وقال : حسبي الله ونعم الوكيل.

وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف» (فَانْقَلَبُوا) عطف على مقدر دل عليه السياق أي فخرجوا إليهم ورجعوا (بِنِعْمَةٍ) في موضع الحال من الضمير في ـ انقلبوا ـ وجوز أن يكون مفعولا به ، والباء على الأول للتعدية ، وعلى الثاني للمصاحبة ، والتنوين على التقديرين للتفخيم أي (بِنِعْمَةٍ) عظيمة لا يقدر قدرها (مِنَ اللهِ) صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها ، والمراد منها السلامة ـ كما قاله ابن عباس ـ أو الثبات على الإيمان وطاعة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما قاله الزجاج ـ أو إذلالهم أعداء الله تعالى على بعد كما قيل ، أو مجموع هذه الأمور على ما نقول (وَفَضْلٍ) وهو الربح في التجارة ، فقد روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل.

وأخرج ابن جرير عن السدي قال : أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج في غزوة بدر الصغرى ببدر أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا تجارة وعن مجاهد الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي لم يصبهم قتل ـ وهو المروي عن السدي ـ أو لم يؤذهم أحد ـ وهو المروي عن الحبر ـ والجملة في موضع النصب على الحال من فاعل ـ انقلبوا ـ أو من المستكن في (بِنِعْمَةٍ) إذا كان حالا والمعنى (فَانْقَلَبُوا) منعمين مبرءين من السوء ، والجملة الحالية إذا كان فعلها مضارعا منفيا بلم ، وفيها ضمير ذي الحال جاز فيها دخول الواو وعدمه (وَاتَّبَعُوا) عطف على ـ انقلبوا ـ وقيل : حال من ضميره بتقدير قد أي وقد اتبعوا في كل حال ما أوتوا ، أو في الخروج إلى لقاء العدو (رِضْوانَ اللهِ) الذي هو مناط كل خير (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) حيث تفضل عليهم بما تفضل وفيما تقدم مع تذييله بهذه الآية المشتملة على الاسم الكريم الجامع وإسناد (ذُو فَضْلٍ) إليه ووصف الفضل بالعظم إيذان بأن المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمرا عظيما لا يكتنه كنهه وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسرا ليس بعده (إِنَّما ذلِكُمُ) الإشارة إلى المثبط بالذات أو بالواسطة ، والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ ، وقوله : (الشَّيْطانُ) بمعنى إبليس لأنه علم له بالغلبة خبره على التشبيه البليغ ، وقوله تعالى : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) جملة مستأنفة مبينة لشيطنته ، أو حال كما في قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢].

ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة على التشبيه أيضا ، ويحتمل أن يكون مجازا حيث جعله هو ويخوف هو الخبر ، وجوز أن يكون ذا إشارة إلى قول المثبط فلا بدّ حينئذ من تقدير مضاف أي قول الشيطان ، والمراد به إبليس أيضا ولا تجوز فيه على الصحيح ، وإنما التجوز في الإضافة إليه لأنه لما كان القول بوسوسته وسببه جعل كأنه قوله ، والمستكن في (يُخَوِّفُ) إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يخوف به ، والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه ، فالمفعول الأول ليخوف محذوف أي يخوفكم أولياءه بأن يعظمهم في قلوبكم ، ونظير ذلك قوله


تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) [الكهف : ٢] وبذكر هذا المفعول قرأ ابن عباس.

وقرأ بعضهم يخوفكم بأوليائه ، وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين ، وإليه ذهب الزجاج ، وأبو علي الفارسي ، وغيرهما ، ويؤيده قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ) أي فلا تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم (وَخافُونِ) في مخالفة أمري ، وإما المتخلفون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأولياءه هو المفعول الأول والمفعول الثاني إما متروك أو محذوف للعلم به أي يوقعهم في الخوف ، أو يخوفهم من أبي سفيان وأصحابه ؛ وعلى هذا لا يصح عود ضمير (تَخافُوهُمْ) إلى الأولياء بل هو راجع إلى الناس الثاني كضمير ـ اخشوهم ـ فهو ردّ له أي فلا تخافوا الناس وتقعدوا عن القتال وتجبنوا (وَخافُونِ) فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى امتثال ما يأمركم به ، وإلى هذا الوجه ذهب الحسن والسدي ، وادعى الطيبي أن النظم يساعد عليه ، والخطاب حينئذ لفريقي الخارجين والمتخلفين والقصد التعريض بالطائفة الأخيرة ، وقيل : الخطاب لها و (أَوْلِياءَهُ) إذ ذاك من وضع الظاهر موضع المضمر نعيا عليهم بأنهم أولياء الشيطان ؛ واستظهر بعضهم هذا القيل مطلقا معللا له بأن الخارجين لم يخافوا إلا الله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) وأنت تعلم أن قيام احتمال التعريض يمرض هذا التعليل ، والفاء لترتيب النهي أو الانتهاء على ما قبلها فإن كون المخوف شيطانا أو قولا له مما يوجب عدم الخوف والنهي عنه ، وأثبت أبو عمرو ياء (وَخافُونِ) وصلا وحذفها وقفا والباقون يحذفونها مطلقا وهي ضمير المفعول وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح ، وإن كان للخارجين كان مساقا للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم ، وإن كان للجميع ففيه تغليب ، وأيّا ما كان فالجزاء محذوف ، وقيل : إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل ، وإن كان للآخرين افتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس.

هذا (ومن باب الإشارة) في الآيات (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بسيف المحبة (أَوْ مُتُّمْ) بالموت الاختباري (لَمَغْفِرَةٌ) أي ستر لوجودكم (مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) منه تعالى بتحليكم بصفاته عزوجل (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي أهل الكثرة (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي باتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري (لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) موصوفا بصفات النفس كالفظاظة والغلظ (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ولم يتحملوا مئونة ذلك ، أو يقال : لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولما صبروا معك ، أو يقال : لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة ، أو يقال : لو كنت مدققا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يتعلق بحق الله تعالى لاعتذارهم أو استغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إذا كنت في مقام الفعل اختبارا لهم وامتحانا لمقامهم (فَإِذا عَزَمْتَ) وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه حسبك فيما يريد منك وتريد منه ، وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني وأنه لان (١) لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ولو لا ذلك

__________________

(١) قوله : (وأنه لان) إلخ كذا في خطه ا ه مصححه.


لاضمحلت تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال.

وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب ، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات ، ونصره المحبين بنعت المدانات ، ونصره العارفين بكشف المشاهدات ، وقد قيل : إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه و (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ)(١) لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لاتصافه بصفات الله تعالى (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وهو الغال المحتجب بصفات نفسه (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) وهي أسفل حضيض النفس المظلمة (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفا لاحترقوا بأول سطوات عظمته ، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كونه في لباس الشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم (قَدْ أَصَبْتُمْ) قوى النفس (مِثْلَيْها) مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات (قُلْتُمْ أَنَّى) أصابنا (هذا) ونحن في بيداء السير في الله تعالى عزوجل (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لأنه بقي فيها بقية ما من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه ، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم ، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بالحياة الحقيقة مقربين في حضرة القدس (يُرْزَقُونَ) من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق ، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواب طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية ، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف.

والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال ، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولا بدّ من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناء على أنها جواهر مجردة ، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها.

ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث : «الأطفال هم دعاميص الجنة» والدعاميص

__________________

(١) قوله : (وما كان لنبي أن يغل) وقوله : (أفمن اتبع) إلخ كذا في خطه رحمه‌الله ، ولا يخفى على من حفظ القرآن ما بينهما كتبه مصححه.


جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر ، ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة لكنه أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأخبار بأنهم سياحون في الجنة فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ ، ووصف الطير بالخضر إشارة إلى حسنها وطراوتها ، ومنه خبر «إن الدنيا حلوة خضرة» وقول عمر رضي الله تعالى عنه : إن الغزو حلو خضر ، ومن أمثالهم النفس خضراء ، وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه ، وأمر الظرفية في الخبر سهل ، وباقي ما فيه إما على ظاهره ، وإما مؤول ، وعلى الثاني يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات ، ومن أنهارها ما يحصل من التجليات ، ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار ، ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط ، وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس.

وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى ، أو قتلهم الشوق إليه عز شأنه تتمثل صورا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الإلهية وتكتسب بذلك أنواعا من اللذائذ المعنوية التي لا يقدر قدرها ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل لا ينال إلا بمثل أعمالهم ، وذلك هو النعيم المقيم والفوز العظيم ، وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سدّ باب التناسخ ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم كما أشرنا إليه في آية البقرة (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الكرامة والنعمة والزلفى عنده (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد ، أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوزهم بالمأمن الأعظم ، والحبيب الأكرم (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) عظيمة وهي جنة الصفات (وَفَضْلٍ) أي زيادة عليها وهي جنة الذات ، ومع ذلك (أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ) إيمان (الْمُؤْمِنِينَ) الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) بالفناء بالوحدة الذاتية والقيام بحق الاستقامة (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي كسر النفس للذين أحسنوا منهم وهم الثابتون في مقام المشاهدة (وَاتَّقَوْا) النظر إلى نفوسهم لهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) وراء أجر الإيمان (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وتحشدوا للإنكار عليكم (فَاخْشَوْهُمْ) واتركوا ما أنتم عليه (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) أي يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة وقالوا (نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) لم يؤذهم أحد إذ لا أحد إلا الأحد (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) كما أشرنا إليه (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) المحجوبين بأنفسهم ـ فلا تخافوا ـ المنكرين (وَخافُونِ) إذ ليس في الوجود سواي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي موحدين توحيدا حقيقيا والله تعالى الموفق للصواب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوجيهه إليه تشريفا له بالتسلية مع الإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.

والمراد من الموصول إما المنافقون المتخلفون ـ وإليه ذهب مجاهد وابن إسحاق ـ وإما قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام لمقاربة عبدة الأوثان ـ وإليه ذهب أبو علي الجبائي ـ وإما سائر الكفار ـ وإليه ذهب الحسن ـ وإما المنافقون وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ


قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤١] ـ وإليه ذهب بعضهم ـ ومعنى (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه ، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [آل عمران : ١٣٣] وغيره ، وأوثر ذلك قيل : للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [آل عمران : ١١٤ ، المؤمنون : ٦١] في حق المؤمنين ، وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل (يَحْزُنْكَ) وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك ، بل العلة هنا ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي.

والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك ، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ردا وإنكارا لظن الخوف ، والكلام على حذف مضاف ، والمراد أولياء الله مثلا للقرينة العقلية عليه ، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى ، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية ، و (شَيْئاً) في موضع المصدر أي لن يضروه ضررا ما ، وقيل : مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلا ، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه ، ولعل المقام يدعو إلى خلافه ، وقرأ نافع ـ «يحزن» ـ بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] فإنه فتحها وضم الزاي ، وقرأ الباقون كما قرأ نافع في المستثنى.

وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع ، والماضي على قراءة الفتح حزن ، وعلى قراءة الضم من أحزن ، ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة ، وقيل : حزنته بمعنى أحدثت له حزنا. وأحزنته بمعنى عرضته للحزن ، وقال الخليل : حزنته بمعنى جعلت فيه حزنا كدهنته بمعنى جعلت فيه دهنا ، وأحزنته بمعنى جعلته حزينا.

وقرئ يسرعون بغير ألف من أسرع ويسارعون بالإمالة والتفخيم.

(يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل : لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم ، فكيف لا يسارعون ، وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه ، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين ، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه ، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها ، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه (وَلَهُمْ) مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقدر قدره ، نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدرة عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه ، وقيل : إنه لما دل قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم ، والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم ، وإما مبتدأة مبينة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب.


وزعم بعضهم أن هاتين الجملتين في موضع التعليل للنهي السابق ، وأن المعنى ولا يحزنك أنهم يسارعون في إعلاء الكفر وهدم الإسلام لا خوفا على الإسلام ولا ترحما عليهم أما الأول فلأنهم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فلا يقدرون على هدم دينه الذي يريد إعلاءه ، وحينئذ لا حاجة إلى إرادة أولياء الله ، وأما الثاني فلأنه يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم.

واستأنس له بأنه كثيرا ما وقع نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن إيقاعه نفسه الكريمة في المشقة لهدايتهم وعن كونه ضيق الصدر لكفرهم وخوطب بأنه ـ ما عليك إلا البلاغ ـ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] ولا يخلو عن بعد (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا ولهذا وضع (اشْتَرَوُا) موضع بدلوا فإن الأول أظهر في الرغبة وأدل على سوء الاختيار ، وقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تقدم الكلام فيه ، وفيه هنا تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم ، والمراد من الموصول هنا ما أريد منه هناك والتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة لكونه علما في الخسران الكلي والحرمان الأبدي صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا ، ودال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأي ورصانة التدبير ، من مضارة أولياء الله تعالى الذين تكفل سبحانه لهم بالنصر وهي أعز من حليمة وأمنع من لهاة الليث ، وجوز أن يراد بالموصول هنا عام ، ويراد به هناك خاص وهو ما عدا ما ذهب إليه الحسن فيه ، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام ، وجوز الزمخشري أن يكون الأول عاما للكفار وهذا خاصا بالمنافقين وأفردوا بالذكر لأنهم أشدّ منهم في الضرر والكيد ، واعترض بأن إرادة العام هناك مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما أن صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم واعتبار كونها من مبادئ حزنه عليه الصلاة والسلام مما لا وجه له ، ويمكن أن يقال : إن القائل بالعموم في الأول لم يرد بالكفار مقابل المؤمنين حيث كانوا وعلى أي حال وجدوا بل ما يشمل المتخلفين والمرتدين مثلا ممن يتوقع إضرارهم له صلى الله تعالى عليه وسلم وحينئذ لا يرد هذا الاعتراض.

وقيل : المراد من الأول المنافقون أو من ارتدوا مما هنا اليهود ، والمراد من الإيمان إما الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة كما هو شأن اليهود مثلا ، وإما الإيمان الاستعدادي الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق والدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة مما عدا ذلك وإما القدر المشترك بين الجميع كما هو دأب الجميع فتفطن (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم والجملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه ، أو مقررة للضرر الذي آذنت به الجملة الأولى قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك ، نقله مولانا شيخ الإسلام.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ(١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ


وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) عطف على قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ) والفعل مسند إلى الموصول ، و «أن» وما عملت فيه سادّ مسدّ مفعوليه عند سيبويه لحصول المقصود وهو تعلق أفعال القلوب بنسبة بين المبتدأ والخبر ، وعند الأخفش المفعول الثاني محذوف ، و «ما» إما مصدرية ، أو موصولة وكان حقها في الوجهين أن تكتب مفصولة لكنها كتبت في الإمام موصولة ، واتباع الإمام لازم ، ولعل وجهه مشاكلة ما بعده ، والحمل على الأكثر فيها ، و (خَيْرٌ) خبر ، وقرئ خيرا بالنصب على أن يكون ـ لأنفسهم ـ هو الخبر و (لَهُمْ) تبيين ، أو حال من (خَيْرٌ) والإملاء في الأصل إطالة المدة والملأ الحين الطويل ، ومنه الملوان لليل والنهار لطول تعاقبهما ، وأما إملاء الكتاب فسمي بذلك لطول المدة بالوقوف عند كل كلمة.

وقيل : الإملاء التخلية والشأن يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء.

وحاصل التركيب لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم ، أو الذي نمليه (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) أو لا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم ، أو خيرية الذي نمليه لهم ثابتة أو واقعة ، ومآل ذلك نهيهم عن السرور بظاهر إطالة الله تعالى أعمارهم وإمهالهم على ما هم فيه ، أو بتخليتهم وشأنهم بناء على حسبان خيريته لهم ، وتحسيرهم ببيان أنه شر بحث وضرر محض ، وقرأ حمزة ولا تحسبن بالتاء ، والخطاب إما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأنسب بمقام


التسلية إلا أن المقصود التعريض بهم إذ حسبوا ما ذكر ، وإما لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم ، والموصول مفعول ، و (أَنَّما نُمْلِي) إلخ بدل اشتمال منه ، وحيث كان المقصود بالذات هو البدل وكان هنا مما يسدّ مسدّ المفعولين جاز الاقتصار على مفعول واحد ؛ وإلا فالاقتصار لو لا ذلك غير صحيح على الصحيح ، ويجوز أن يكون (أَنَّما نُمْلِي) مفعولا ثانيا إلا أنه لكونه في تأويل المصدر لا يصح حمله على الذوات فلا بد من تقدير ، أما في الأول أي لا تحسبن حال الذين كفروا وشأنهم ، وأما في الثاني أي لا تحسبن الذين كفروا أصحاب (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) إلخ ، وإنما قيد الخير بقوله تعالى : (لِأَنْفُسِهِمْ) لأن الإملاء خير للمؤمنين لما فيه من الفوائد الجمة ، ومن جعل خيرا فيما نحن فيه أفعل تفضيل ، وجعل المفضل عليه القتل في سبيل الله تعالى جعل التفضيل مبنيا على اعتبار الزعم والمماشاة ، والآية نزلت في مشركي مكة ـ وهو المروي عن مقاتل ؛ أو في قريظة والنضير ـ وهو المروي عن عطاء (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، والقائلون بأن الخير والشر بإرادته تعالى يجوزون التعليل بمثل هذا ، إما لأنه غرض وإما لأنه مراد مع الفعل فيشبه العلة عند من لم يجوز تعليل أفعاله بالأغراض. وأما المعتزلة فإنهم وإن قالوا بتعليلها لكن القبيح ليس مرادا له تعالى عندهم ومطلوبا وغرضا ، ولهذا جعلوا ازدياد الإثم هنا باعثا نحو قعدت عن الحرب جبنا لا غرضا يقصد حصوله ، ولما لم يكن الازدياد متقدما على الإملاء هنا ، والباعث لا بد أن يكون متقدما جعلوه استعارة بناء على أن سبقه في علم الله تعالى القديم الذي لا يجوز تخلف المعلوم عنه شبهه يتقدم الباعث في الخارج ولا يخفى تعسفه ، ولذا قيل : إن الأسهل القول بأن اللام للعاقبة.

واعترض بأنه وإن كان أقل تكلفا إلا أن القول بها غير صحيح لأن هذه الجملة تعليل لما قبلها فلو كان الإملاء لغرض صحيح يترتب عليه هذا الأمر الفاسد القبيح لم يصح ذلك ولم يصلح هذا تعليلا لنهيهم عن حسبان الإملاء لهم خيرا فتأمل قاله بعض المحققين.

وقرأ يحيى بن وثاب بفتح (أَنَّما) هذه وكسر الأولى وبياء الغيبة في (يَحْسَبَنَ) على أن (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل (يَحْسَبَنَ) و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) قائم مقام مفعولي الحسبان ، والمعنى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان وتدارك ما فات ، (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض بين الفعل ومعموله ومعناه أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا وتابوا. والفرق بين القراءتين أن الإملاء على هذه القراءة لإرادة التوبة والإملاء للازدياد منفي ، وعلى القراءة الأخرى هو مثبت ، والآخر منفي ضمنا ولا تعارض بينهما لأنه عند أهل السنة يجوز إرادة كل منهما ولا يلزم تخلف المراد عن الإرادة لأنه مشروط بشروط كما علمت.

وزعم بعضهم أن جملة (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) إلخ حالية أي لا يحسبن في هذه الحالة هذا ، وهذه الحالة منافية له وليس بشيء (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) جملة مبتدأة مبينة لحالهم في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا أو حال من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين في القراءة الأخيرة ـ كما ذهب إليه غير واحد من المحققين ـ ليكون مضمون ذلك داخلا في حيز النهي عن الحسبان بمنزلة أن يقال : (لِيَزْدادُوا إِثْماً) وليكون لهم عذاب ، وجعلها بعضهم معطوفة على جملة (لِيَزْدادُوا) بأن يكون (عَذابٌ مُهِينٌ) فاعل الظرف بتقدير ويكون (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وهو من الضعف بمكان ، نعم قيل : بجواز كونها اعتراضية وله وجه في الجملة هذا وإنما وصف عذابهم بالإهانة لأنه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر وصفه به ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا ـ قاله شيخ الإسلام ـ ويمكن أن يقال : إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم وهو أنهم أعزة لديه عزوجل إثر الإشارة إلى ردّه بنوع آخر.


(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية ، وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لازدياد الآثام ، وفي هذا الوعد والوعيد أيضا ما لا يخفى من التسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الكلام السابق ، وقيل : الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريعته لهم ، ولا يخفى أنه بعيد فضلا عن كونه أقرب ، والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين والمنافقين ففيه التفات في ضمن التلوين ، والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم ببعض واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم ، وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير ، وقال أكثرهم : إن الخطاب للمنافقين ليس إلا ، ففيه تلوين فقط ، وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين والتفات أيضا.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وابن جرير ، وغيره عن قتادة أن للكفار ، ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جدا ، واللام في (لِيَذَرَ) متعلقة بمحذوف هو الخبر لكان ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ـ كما ذهب إليه البصريون ـ أي ما كان الله مريدا لأن يذر المؤمنين إلخ ؛ وقال الكوفيون اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل بنفسها والخبر هو الفعل ؛ ولا يقدح في عملها زيادتها إذ الزائد قد يعلم كما في حروف الجر المزيدة فلا ضعف في مذهبهم من هذه الحيثية كما وهم ، وأصل يذر يوذر فحذفت الواو منها تشبيها لها بيدع وليس لحذفها علة هناك إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وما هو في تقدير الكسرة ، وإنما فتحت الدال لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ومثله ـ يسع ويطأ ويقع ـ ولم يستعملوا من يذر ماضيا ولا مصدرا ولا اسم فاعل مثلا استغناء بتصرف مرادفه وهو يترك.

وقوله تعالى : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) غاية لما يفهمه النفي السابق كأنه قيل : ما يتركهم على ذلك الاختلاف بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وليس غاية للكلام السابق نفسه إذ يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية ، ويفهم منه كما قال السمين : إنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه ، وليس المعنى على ذلك وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلا على كل منهما بما يليق به وإشعارا بعلة الحكم ، أفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذانا بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين ، وقيل : إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون.

وقرأ حمزة والكسائي «يميّز» بالتشديد وماضيه ميز ، وماضي المخفف ماز ، وهما ـ كما قال غير واحد ـ لغتان بمعنى واحد ، وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح ، لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد ، ونظير ذلك عاض وعوض ، وعن ابن كثير أنه قرئ «يميز» بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز ، واختلف بم يحصل


هذا الميز؟ فقيل : بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد ، وقيل : بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين ، وقيل: بالوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا أردفه سبحانه بقوله :

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الاستدراك تمهيدا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم.

والاستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم ، وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون ، وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم تبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى ، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور ، فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به ، وتعقبه بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء.

وأنت تعلم أن دعوى أن الاستدراك صريح فيما ادعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل ، ولهذا قيل : إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الاطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الاستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة ، والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الاطلاع على الغيب لمن شاء من رسله ، وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار؟ نعم ما ذكره هذا المولى أظهر ، وأولى ، وقد سبقه إليه أبو حيان ، والمراد من قوله سبحانه : (لِيُطْلِعَكُمْ) إما ليؤتى أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد ، وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له. فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن الكفرة قالوا إن كان محمد صادقا ليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت.

ونقل الواحدي عن السدي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : عرضت على أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا وقالوا : يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله تعالى هذه الآية» وقال الكلبي : قالت قريش : «تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله تعالى عليه غضبان وأن من تبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله تعالى عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأيد الثاني بأن ظاهر السوق يقتضيه قيل : والحق اتباع السوق ويكفي أدنى مناسبة بالقصة في كونها سببا للنزول على أن في سند هذه الآثار مقالا حتى قال بعض الحفاظ في بعضها : إني لم أقف عليه ، وقد روي عن أبي العالية ما يخالفها وهو أن المؤمنين سئلوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت ، والاجتباء الاستخلاص كما روي عن أبي مالك ويؤول إلى الاصطفاء والاختيار وهو المشهور في تفسيره ، ويقال جبوت المال وجبيته بالواو والياء فياء يجتبي هنا إما على أصلها أو منقلبة من واو لانكسار ما قبلها ، وعبر به للإيذان بأن الوقوف على الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه على الجماهير لإرشادهم و «من» لابتداء الغاية وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم‌السلام للدلالة على


أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر مبين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.

وقيل : إنها للتبعيض فإن الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل ، وفي بعض الأوقات حسبما تقتضيه مشيئته تعالى ولا يخفى أن كون ذلك في بعض الأوقات مسلم ، وأما كونه مختصا ببعض الرسل ففي القلب منه شيء. ولعل الصواب خلافه ولا يشكل على هذا أن الله تعالى قد يطلع على الغيب بعض أهل الكشف ذوي الأنفس القدسية لأن ذلك بطريق الوراثة لا استقلالا وهم يقولون : إن المختص بالرسل عليهم‌السلام هو الثاني على أنه إذا كان المراد ما أيده السوق بعد هذا الاستشكال وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة ومثله على ما قيل ما في قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) والمراد آمنوا بصفة الإخلاص فلا يضر كون الخطاب عاما للمنافقين وهم مؤمنون ظاهرا.

وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته ، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا ، وقد يقال : إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعا على الغيب.

ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم في أمر الشرائع ، وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الاختلاط (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) بنصب العلامات وتحصيل العلم الاستدلالي بمعرفة المؤمن والمنافق. ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للاطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أي بالله تعالى ورسله حق الإيمان (وَتَتَّقُوا) المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق (فَلَكُمْ) بمقابلة ذلك فضلا من الله تعالى (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) بيان لحال البخل وسوء عاقبته وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وبهذا ترتبط الآية بما قبلها.

وقيل : وجه الارتباط أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد وغيره شرع هاهنا في التحريض على بذل المال وبين الوعيد الشديد لمن يبخل وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله سبحانه وفعل الحسبان مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه.

واعترض بأن المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين من جهة العامل فيه ومن جهة كونه أحد جزأي الجملة فلما تكرر طلبه امتنع حذفه ونقض ذلك بخبر كان فإنه مطلوب من جهتين أيضا ولا خلاف في جواز حذفه إذا دل عليه دليل.

ونقل الطيبي عن صاحب الكشاف أن حذف أحد مفعولي حسب إنما يجوز إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئا واحدا في المعنى كقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) [آل عمران : ١٦٩] على القراءة بالياء التحتية ، ثم قال : وهذه الآية ليست كذلك فلا بدّ من التأويل بأن يقال : إن (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الفاعل لما اشتمل على البخل كان في حكم اتحاد الفاعل والمفعول ولذلك حذف ، وقيل : إن الزمخشري كنى عن قوة القرينة بالاتحاد الذي


ذكره وكلا القولين ليسا بشيء ، والصحيح أن مدار صحة الحذف القرينة فمتى وجدت جاز الحذف ومتى لم توجد لم يجز.

والقول بأن هو ضمير رفع استعير في مكان المنصوب وهو راجع إلى البخل أو الإيتاء على أنه مفعول أو لا تعسف جدا لا يليق بالنظم الكريم ـ وإن جوزه المولى عصام الدين تبعا لأبي البقاء ـ حتى قال في الدر المصون: إنه غلط ، والصحيح أنه ضمير فصل بين مفعولي حسب لا توكيد للمظهر كما توهم ، وقيل : الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب ، والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف أي بخل الذين ، والثاني (خَيْراً) كما في الوجه الأول وهو خلاف الظاهر ، نعم إنه متعين على قراءة الخطاب.

وعلى كل تقدير يقدر بين الباء ومجرورها مضاف أي لا يحسبن ، أو «لا تحسبن الذين يبخلون» بإنفاق أو زكاة ما آتاهم الله من فضله هو صفة حسنة أو خيرا لهم من الإنفاق (بَلْ هُوَ شَرٌّ) عظيم (لَهُمْ) والتنصيص على ذلك مع علمه مما تقدم للمبالغة (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان لكيفية شريته لهم ، والسين مزيدة للتأكيد ، والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من آتاه الله تعالى مالا فلم يؤد زكاته مثّل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية».

وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوّقه» ثم قرأ الآية.

وأخرج عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي أنه قال : يجعل ما بخلوا به طوقا من نار في أعناقهم.

وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد ، والمعنى كما قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يأتون ، وقال أبو مسلم : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما ، ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة ، وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة كما روي ذلك عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وخلق آخرين وهو الظاهر ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونبوته التي نطقت بها التوراة ، فالمراد بالبخل كتمان العلم وبالفضل التوراة التي أوتوها ، ومعنى (سَيُطَوَّقُونَ) ما قاله أبو مسلم ، أو المراد أنهم يطوقون طوقا من النار جزاء هذا الكتمان.

فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وعليه يكون هذا عودا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد ، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب قيل : ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لله تعالى وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكا ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلا فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته ، فالميراث مصدر كالميعاد وأصله موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، والمراد به ما يتوارث ، والكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه ، ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم ، ففي الكلام على هذا مجاز قال الزجاج : أي إن الله تعالى يفني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ملكا له (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من المنع والبخل


(خَبِيرٌ) فيجازيكم على ذلك ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الوعيد لأن تهديد العظيم بالمواجهة أشدّ وهي قراءة نافع ، وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وقرأ الباقون بالياء على الغيبة.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه بيت المدراس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ـ وكان من علمائهم وأحبارهم ـ فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله تعالى وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لو لا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله قال قولا عظيما يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية ، وأنزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب و (لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) [آل عمران : ١٨٦] الآية.

وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [الحديد : ١١] قال : يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.

وأخرج الضياء. وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فقالوا : يا محمد فقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله تعالى الآية ، والجمع على الروايتين الأوليين مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك ، وتخصيص هذا القول بالسماع مع أنه تعالى سميع لجميع المسموعات كناية تلويحية عن الوعيد لأن السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم الوعيد في هذا المقام فهو سماع ظهور وتهديد لا سماع قبول ورضا ـ كما في سمع الله لمن حمده ـ وإنما عبر عن ذلك بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع ولهذا أنكروه ، ولكون إنكارهم القول بمنزلة إنكار السمع أكده تعالى بالتأكيد القسمي ، وفيه أيضا من التشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد ما لا يخفى ، والعامل في موضع إن وما عملت فيه قالوا : فهي المحكية به ، وجوز أن يكون ذلك معمولا لقول المضاف لأنه مصدر ، قال أبو البقاء : وهذا يخرج على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو أصل ضعيف ويزداد هنا ضعفا بأن الثاني فعل ، والأول مصدر وإعمال الفعل لكونه أقوى أولى.

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، فالإسناد مجازي والكتابة حقيقة ، أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله فالإسناد حقيقة والكتابة مجاز ، والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول ، كيف لا وهو كفر بالله تعالى سواء كان عن اعتقاد أو استهزاء بالقرآن؟! وهو الظاهر ، ولذلك عطف عليه قوله تعالى (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) إيذانا بأنهما في العظم أخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها ومعصية استباحوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء بغير حق في اعتقاده أيضا كما هو في نفس الأمر لم يستبعد منه أمثال هذا القول ، ونسبة القتل إلى هؤلاء القائلين باعتبار الرضا بفعل القاتلين من أسلافهم ، وقيل : المعنى سنجمع ما قالوا (وَقَتْلَهُمُ


الْأَنْبِياءَ) في مقام العذاب ونجزيهما جزاء مماثلا لتشاركهما في أن في كل منهما إبطالا لما جاء به المرسلون ، ولا يخفى أنه مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه.

(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب.

والحريق بمعنى المحرق وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية أي العذاب الذي هو المحرق لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق ، أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل ـ كما قاله بعض المحققين ـ والذوق : كما قال الراغب ـ وجود الطعم في الفم ؛ وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له : أكل ، ثم اتسع فيه فاستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره هنا ـ كما قال ناصر الدين ـ لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المالك وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله للخوف من فقدانه ، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال ، ولك أن تقول : إن اليهود لما قالوا ما قالوا وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء غصصا وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد ، وقيل : لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون والقائل لهم ذلك ـ كما قال الضحاك ـ خزنة جهنم ، فالإسناد حينئذ مجازي ، وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبئ عن اليأس فقد قال الزجاج : ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى ، والقول للتشفي المنبئ عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها ما لا يخفى أيضا من المبالغات ، قرأ حمزة سيكتب بالياء والبناء للمفعول (وَقَتْلَهُمُ) بالرفع ، ويقول بصيغة الغيبة (ذلِكَ) إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد ، وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقرونا باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه ، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدارج العمل عليه ، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدمت فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء ـ وإليه ذهب الفحول من المفسرين ـ وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله : وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب.

وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلما لكان نفي الظلم سببا للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سببا له ، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلة الموجبة ، والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها ، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه.

فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدا ، وأما قولهم في العدل المقتضي إلخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلي وطبعه ، وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الإثابة والمعاقبة على ما ينبئ عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي : «سبقت رحمتي غضبي» ، وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلما ويكون نفي الظلم سببا بأن يكون السبب سببا غير موجب ولا محذور وحينئذ :


لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجبا لأنا نقول : إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه : (وَأَنَّ اللهَ) إلخ فنقول : حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين ، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببا لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه ، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالما فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب فيكون مبنيا على كون المراد بالسبب السبب الموجب ـ كما قلنا ـ ويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه ، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب عليكم ولم يترك ، بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد ، وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سببا لترك التعذيب من مستحقه ولا يدل على كون الظلم سببا لترك التعذيب بل له سبب آخر وهو لطفه تعالى فلا يرد الاعتراض ، وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضا فإن دلالة الكلام على كون الظلم سببا لترك التعذيب وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبنى كلام ذلك المولى فدلالته عليه ظاهرة فإن وجود السبب الموجب كان يكون سببا لوجود المسبب يكون عدمه سببا لعدمه ـ كما في طلوع الشمس ووجود النهار ـ فالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سببا لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سببا لعدم التعذيب ، وقيل : إنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم.

وتعقبه أيضا مولانا شيخ الإسلام بقوله وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعى أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين انتهى ، ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله : أن يعذبهم ، والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لاحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن شرعا وعقلا. وقوله : للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة إلخ أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر ، فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى إلخ ناشئ عن الغفلة عن مراده ، فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وكذا قوله عقيب ذلك ، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعى إلخ ناشئ عن الغفلة أيضا لأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الاعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم.

فالقول بالاحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جدا ، ثم إنه لا تدافع بين هذا القيل وبين ما نقل أولا عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سببا وهاهنا قيدا للسبب لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة كما أشرنا إليه فيما سبق فهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب ، نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر لكنه أيضا غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى.

والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهر ـ وإليه ذهب من ذهب ـ ويجوز أن يجعل ـ وإليه ذهب شيخ الإسلام ـ (أَنَ) وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر


لمضمون ما قبلها ، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم ، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظالما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل : إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده ، وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في (بِظَلَّامٍ) باعتبار الكمية لا الكيفية ، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا ، وبأن (بِظَلَّامٍ) للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلا وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالما سبحانه لكان ظلاما فنفى اللازم لنفي الملزوم ، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة ، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال ، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام (الَّذِينَ قالُوا) نصب أو رفع على الذم ، وجوز أن يكون في موضع جرّ على البدلية من نظيره المتقدم.

والمراد من الموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا هذا القول : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أي أمرنا في التوراة وأوصانا (أَلَّا نُؤْمِنَ) أي بأن لا نصدق ونعترف (لِرَسُولٍ) يدعي الرسالة إلينا من قبل الله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرها ـ كما قاله غير واحد ـ وقرئ (بِقُرْبانٍ) بضمتين (تَأْكُلُهُ النَّارُ) أريد به نار بيضاء تنزل من السماء ولها دويّ ، والمراد من أكل النار للقربان إحالتها له إلى طبعها بالإحراق ، واستعماله في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل ، وقد كان أمر إحراق النار للقربان إذا قبل شائعا في زمن الأنبياء السالفين إلا أن دعوى أولئك اليهود هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك ، ولما كان مرامهم من هذا الكلام الباطل عدم الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ، ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان بزعمهم ردّ الله تعالى عليهم بقوله سبحانه : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء القائلين تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) كثيرة العدد كبيرة المقدار مثل زكريا ويحيى وغيرهم (مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحة والحجج الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم وحقية قولهم كما كنتم تقترحون عليهم وتطلبون منهم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) بعينه وهو القربان الذي تأكله النار (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي فما لكم لم تؤمنوا بهم حتى اجترأتم على قتلهم مع أنهم جاءوا بما قلتم مع معجزات أخر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه ، والخطاب لمن في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان الفعل لأسلافهم لرضاهم به ـ على ما مرّ غير مرة ـ وإنما لم يقطع سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان المذكور لعلمه سبحانه بأن في الإتيان به مفسدة لهم ، والمعجزات تابعة للمصالح ، ونقل عن السدي أن هذا الشرط جاء في التوراة هكذا : من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير


قربان ، والظاهر عدم ثبوت هذا الشرط أصلا (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فيما جئتهم به.

(فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) جاءوا بمثل ما جئت به ، والجملة جواب للشرط لكن باعتبار لازمها الذي دل عليه المقام فإنه لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تكذيب قومه واليهود له ، واقتصر مجاهد على الثاني كأنه قيل فإن : كذبوك فلا تحزن وتسل ، وجعل بعضهم الجواب محذوفا وهذا تعليلا له ومثله كثير في الكلام.

وقال عصام الملة : لا حاجة إلى التأويل ، والقول بالحذف إذ المعنى إن يكذبوك فتكذيبك تكذيب رسل من قبلك حيث أخبروا ببعثتك ، وفي ذلك كمال توبيخهم وتوضيح صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له ليس فوقها تسلية ، ونظر فيه بأن التسلية ، على ما ذهب إليه الجمهور ـ أتم إذ عليه تكون المشاركة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام في تكذيب المكذبين شفاها وصريحا ، وعلى الثاني لا شركة إلا في التكذيب لكنه بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم شفاهي وصريح ، وبالنسبة إلى المرسلين ليس كذلك ، ولا شك لذي ذوق أن الأول أبلغ في التسلية ، وعليه يجوز في (مِنْ) أن تتعلق ـ بكذب ـ وأن تتعلق بمحذوف وقع صفة ـ لرسل ـ أي كائنة من قبلك. وعلى الثاني يتعين الثاني ويشعر بالأول الذي عليه الجمهور وصف الرسل بقوله سبحانه : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحات الباهرات (وَالزُّبُرِ) جمع زبور كالرسول والرسل وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته قاله الزجاج ، وقيل : الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الموضح أو الواضح المستنير.

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه القرآن ، ومعنى مجيء الرسل به مجيئهم بما اشتمل عليه من أصول الدين على ما يشير إليه قوله تعالى فيه : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] على وجه ، وعن قتادة أن المراد به الزبر والشيء يضاعف بالاعتبار وهو واحد ، وقيل : المراد به التوراة ، والإنجيل. والزبور وهو في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء هو والحكمة متعاطفين في عامة المواقع ، ووجه إفراد الكتاب بناء على القول الأول ظاهر ، ولعل وجه إفراده بناء على القول الثاني والثالث ، وإن أريد منه الجنس الصادق بالواحد والمتعدد الرمز إلى أن الكتب السماوية وإن تعدّدت فهي من بعض الحيثيات كشيء واحد.

وقرأ ابن عامر ـ وبالزبر ـ بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات بأن يراد بها المعجزات غير الكتب لأن إعادة العامل تقتضي المغايرة ولولاها لجاز أن يكون من عطف الخاص على العام.

ومن الغريب القول بأن المراد بالبينات الحروف باعتبار أسمائها كألف ولام ، وبالزبر الحروف باعتبار مسمياتها ورسمها كأب ، وبالكتاب الحروف المجتمعة المتلفظ بها كلمة وكلاما.

وادعى أهل هذا القول : إن لكل من ذلك معاني وأسرارا لا يعقلها إلا العالمون فهم يبحثون عن الكلمة باعتبار لفظها وباعتبار كل حرف من حروفها المرسومة وباعتبار اسم كل حرف منها الذي هو عبارة عن ثلاثة حروف ، ولا يخفى أن هذا اصطلاح لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه.

والظاهر من تتبع الآثار الصحيحة أنه لم يثبت فيه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم شيء ودون إثبات ذلك الموت الأحمر (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي نازل بها لا محالة فكأنها ذائقته وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب ، وفيه تأكيد للتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الهموم والأشجان الدنيوية.


وفي الخبر «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره» وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله ، وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جدا ، وهل تدخل الملائكة في هذا العموم؟ قولان ، والجمهور على دخولهم. فعن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] قالت الملائكة : مات أهل الأرض فلما نزل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت : ٥٧] قالت الملائكة : متنا. ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين. ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة ، فإذا قلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفي الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، ومن هنا قالوا : إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة ، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على حرارة الكاف ورطوبة النون ، ولعلهم يفرقون بين موت وموت ، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول المذوق فتدبر ، وقرأ اليزيدي (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالتنوين ونصب الموت على الأصل ؛ وقرأ الأعمش (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بطرح التنوين مع النصب كما في قوله :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر لله إلا قليلا

وعلى القراءات الثلاث (كُلُّ نَفْسٍ) مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم ، و (ذائِقَةُ) الخبر ، وأنث على معنى (كُلُ) لأن (كُلُّ نَفْسٍ) نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ (كُلُ) جاز. (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وقت قيامكم من القبور ، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة ، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» ، وقيل : النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا ، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي بعد يومئذ عن نار جهنم ، وأصل الزحزحة تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، وقد أريد هنا المعنى اللازم (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي سعد ونجا قاله ابن عباس ، وأصل الفوز الظفر بالبغية ، وبعض الناس قدر له هنا متعلقا أي فاز بالنجاة ، ونيل المراد ، ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد ، وفي الخبر «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية».

وأخرج أحمد ، ومسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه» وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لذاتها وشهواتها وزينتها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) المتاع ما يتمتع به وينتفع به مما يباع ويشترى وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغير حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند


من أمعن النظر فيها :

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

وعن قتادة هي متاع متروك أو شكت والله أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله تعالى إن استطعتم ولا قوة إلا بالله ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه هي لين مسها قاتل سمها ، وقيل : الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور ، وذكر بعضهم أن هذا التشبيه بالنسبة لمن آثرها على الآخرة ، وأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ ، وفي الخبر «نعم المال الصالح للرجل الصالح» ، والغرور مصدر أو جمع غار (لَتُبْلَوُنَ) جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن ، والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ولا يصح حمل الابتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر ، والخطاب للمؤمنين أو لهم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللأواء ، والاستعداد للكرب مما يهون الخطب ولتحقيق معنى الابتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد ، وقد يقال : أتي به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد ، وعلى أي وجه فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم ، وقيل : إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وابتلاء ، وإنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها (مَتاعُ الْغُرُورِ) ، ولعل الأول أولى كما لا يخفى ، والواو المضمومة ضمير الرفع ولام الكلمة محذوفة لعلة تصريفية ، وإنما حركت هذه الواو دفعا للثقل الحاصل من التقاء الساكنين وكان ذلك بالضم ليدل على المحذوف في الجملة ولم تقلب الواو ألفا مع تحركها وانفتاح ما قبلها لعروض ذلك (فِي أَمْوالِكُمْ) بالفرائض فيها والجوائح ، واقتصر بعض على الثاني مدعيا أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى ، والزكاة لا يليق نظمه في سلك الابتلاء لما أنه من باب الأضعاف لا من قبيل الإتلاف ، وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه ، وعن الحسن الاقتصار على الأول. والأولى القول بالعموم وفي (أَنْفُسِكُمْ) بالقتل والجراح ، والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف. أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى. والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب. وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم. وشدة وقعه على الأسماع حيث إنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه. وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل : والتصريح بالقليلة إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم كفار العرب (أَذىً كَثِيراً) كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على تلك الشدائد عند ورودها (وَتَتَّقُوا) أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه (فَإِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى. وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحا على ما قيل ، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما.

وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناء بشأن المخاطب به ، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير خصوصية أحوال المخاطبين (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل


أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز ، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده ، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر ـ كما نقله الراغب ـ والأشهر عزمت على الأمر ، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى ، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ «فإذا عزمت» بضم التاء وهو حينئذ بمعنى الإرادة والإيجاب ، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها : نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة ، وقولهم : عزمات الله تعالى ـ كما نقله الأزهري ـ ومن هذا الباب قول الفقهاء : ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة ، والجملة تعليل لجواب واقع موقعه كأنه قيل : «وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم» أو فقد أحسنتم ، أو نحوهما (فَإِنَّ ذلِكَ) إلخ ، وجوز أن يكون (ذلِكَ) إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط ، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك ، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال ، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه ، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله ابن أبيّ ـ وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، وقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ، ثم ركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له : يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب ـ يريد عبد الله بن أبيّ ـ قال : كذا وكذا فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى الآية.

وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشدّ الأذى فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى (وَلَتَسْمَعُنَ) الآية.

وفي رواية أخرى عن الزهري أن كعبا هذا كان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشبب بنساء المؤمنين فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي ثم إنه سبحانه بين بعض أذيات أهل الكتاب بقوله عز قائلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والمراد بهم إما أحبار اليهود خاصة ـ وإليه ذهب ابن جبير ـ وهو المروي عن ابن عباس من طريق عكرمة وإما ما يشملهم وأحبار النصارى ـ وهو المروي عنه من طريق علقمة ـ وإنما ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب


مبالغة في تقبيح حالهم ، وقيل : رمزا إلى أن أخذ الميثاق كان في كتابهم الذي أوتوه ، وروى سعيد بن جبير ان أصحاب عبد الله يقرءون وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم ـ (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) جواب ميثاق لتضمنه معنى القسم ، والضمير للكتاب أي بالله لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوة محمد صلى الله تعالى عليه ولم وهو المقصود بالحكاية ، وظاهر كلام السدي وابن جبير أن الضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يصرح باسمه الشريف عليه الصلاة والسلام.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ليبيننه بياء الغيبة ، وقد قرر علماء العربية أنك إذا أخبرت عن يمين حلف بها فلك في ذلك ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون بلفظ الغائب كأنك تخبر عن شيء كأن تقول : استحلفته ليقومنّ ، الثاني أن تأتي بلفظ الحاضر تريد اللفظ الذي قيل له فتقول : استحلفته لتقومن كأنك قلت : قلت له : لتقومن ، الثالث أن تأتي بلفظ المتكلم فتقول : استحلفته لأقومنّ ، ومنه قوله تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] بالنون والياء والتاء ، ولو كان تقاسموا أمرا لم يجىء فيه الياء التحتية لأنه ليس بغائب قاله بعض المحققين (وَلا تَكْتُمُونَهُ) عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا ، وقال أبو البقاء : اكتفاء بالتوكيد في الفعل الأول.

وجوز أن يكون حالا من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أي وأنتم لا تكتمونه وإما على رأي من يجوز دخول الواو على المضارع المنفي عند وقوعه حالا أي لتظهرنه غير كاتمين ، والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان للمبالغة في إيجاب المأمور به ـ كما ذهب اليه غير واحد ـ أو لأن المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالكتمان المنهي عنه إلغاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة كما قيل.

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه كان يفسر (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) بقوله لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل ، وأمر النهي بعد الأمر على هذا ظاهر أيضا ، ولعل الكلام عليه أفيد.

وقرأ ابن كثير ومن معه ولا يكتمونه بالياء كما في سابقه (فَنَبَذُوهُ) أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ولم يراعوه ولم يلتفتوا اليه أصلا فإن النبذ وراء الظهر تمثيل واستعارة لترك الاعتداد وعدم الالتفات وعكسه جعل الشيء نصب العين ومقابلها (وَاشْتَرَوْا بِهِ) أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه ، وقيل : الضمير للعهد والأول أولى ، والمعنى أخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا الفانية وأغراضها الفاسدة (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فيما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس وجملة يشترونه صفته ، والمخصوص بالذم محذوف ، وقيل : (ما) مصدرية فاعل بئس والمخصوص محذوف أي بئس شراؤهم هذا الشراء لاستحقاقهم به العذاب الأليم ، واستدل بالآية على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمان شيء من أمور الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم واستجذاب لمبارهم ونحو ذلك ، وفي الخبر «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» ، وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني؟ فقال : أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت : إما أن تحدثني ، وإما أن أحدثك؟ فقال : حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن نجم الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول : ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ، قال : فحدثني أربعين حديثا ، وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة لو لا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية.

وأخرج ابن سعد عن الحسن لو لا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون


عنه ، ويؤيد الاستدلال بالآية على ما ذكر ما أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيهم عبد الله بن مسعود فقال : إن كعبا يقرئكم السلام ويبشركم أن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ ليست فيكم ، فقال له عبد الله : وأنت فأقرئه السلام إنها نزلت وهو يهودي وأراد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن كعبا لم يعرف ما أشارت اليه وإن نزلت في أهل الكتاب (لا تَحْسَبَنَ) خطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب أي لا تظنن.

(الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي بما فعلوا ، وبه قرأ أبي ، وقرئ «بما آتوا» و «بما أتوا» وروي الثاني عن علي كرم الله تعالى وجهه (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي أن يحمدهم الناس ، وقيل : المسلمون ، وقيل : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم من طريق العوفي : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق وحرفوا الكلام عن مواضعه وفرحوا بذلك وأحبوا (أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الصلاة والصيام ، وفي رواية البخاري وغيره عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا (بِما أَتَوْا) من كتمان ما سألهم عنه» ، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أنهم (يَفْرَحُونَ) بكتمانهم صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي نطق بها كتابهم (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) بأنهم متبعون دين إبراهيم عليه‌السلام ، فعلى هذا يكون الموصول عبارة عن المذكورين سابقا الذين أخذ ميثاقكم ، وقد وضع موضع ضميرهم ، وسيقت الجملة لبيان ما يستتبع أعمالهم المحكية من العذاب إثر بيان قباحتها ، وفي ذلك من التسلية أيضا ما لا يخفى ، وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وفضائحهم وهو إصرارهم على القبيح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وأخرج سبحانه ذلك مخرج المعلوم إيذانا بشهرة اتصافهم به ، وقيل : إن الموصول عبارة عن أناس منافقين وهم طائفة معهودون من المذكورين وغيرهم ، وأيد ذلك بما أخرجه الشيخان والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا (أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) فنزلت هذه الآية ، وروي مثل ذلك عن رافع بن خديج وزيد بن ثابت. وغيرهما ، وقيل : المراد بهؤلاء المنافقون كافة ، وقد كان أكثرهم من اليهود.

وادعى بعضهم أنه الأنسب بما في حيز الصلة لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل ، وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة ، ولا يخفى عليك أنه وإن سلم كونه أنسب إلا أنه لم يوجد فيما نعلم من الآثار الصحيحة ما يؤيده ، ومن هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجزاء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أوليا على أنه قد اعترض بأن انتظام المعهودين مطلقا فضلا عن كونه أوليا غير مسلم إلا إذا عمم ما في (بِما أَتَوْا) بحيث يشمل الحسنات الحقيقية وغيرها. أما إذا خص بالحسنات كما يوهمه ظاهر هذا القول فلا يسلم الانتظام لأن أولئك الفرحين لم يأتوا بحسنة في نفس الأمر ليفرحوا بها فرح إعجاب كما لا يخفى ، ولعل الأمر في هذا سهل ، نعم يزيده بعدا ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل


معذبا لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ، ثم تلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى آخر الآيتين فإنه لو كان الأولى إجراء الموصول على عمومه لأجراه حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأزال الإشكال بتقييد الفرح بفرح الإعجاب كما فعل صاحب هذا القول ولا يلزم من كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه عدم كون ذلك مفاد الآية كما قيل وهو لا يستلزم عدم كونه مفاد شيء أصلا ليكون ذلك قولا بعدم الحرمة ، كيف وكثير من النصوص ناطق بحرمة ذلك حتى عده البعض من الكبائر؟! فليفهم وأيّا ما كان فالموصول مفعول أول لتحسبن وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد له والعرب كما قال الزجاج إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول وتوكيد له ، فتقول : لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا ، والفاء زائدة كما في قوله :

فإذا هلكت «فعند» ذلك فاجزعي

والمفعول الثاني في قوله سبحانه : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أي متلبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز ، والتاء ليست للوحدة لبناء المصدر عليه ، و (مِنَ الْعَذابِ) متعلق به ، وجوز أن تكون المفازة اسم مكان أي محل فوز ونجاة ، وأن يستعار من المفازة للقفر وحينئذ يكون من العذاب صفة له لأن اسم المكان لا يعمل ولا بد من تقدير المتعلق خاصا أي منجية (مِنَ الْعَذابِ) وتقديره عاما ـ أي بمفازة كائنة من العذاب ـ غير صحيح لأن المفازة ليست من العذاب ، واعترض بأن تقديره خاصا مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه ، وقرئ بضم الباء الموحدة في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا ، وبياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة والسلام أو لكل من يأتي منه الحسبان ومفعولاه في القراءتين كما ذكر من قبل.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالياء وفتح الباء في الفعل الأول ، وبالياء وضم الباء في الفعل الثاني على أن فاعل «لا يحسبن الذين» بعده ومفعولاه محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكده وفاعل مؤكده ضمير الموصول ومفعولاه ضميرهم ، وبمفازة أي «لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا» فلا «يحسبن» أنفسهم (بِمَفازَةٍ).

ويجوز أن يكون المفعول الأول ـ للا يحسبن ـ محذوفا والمفعول الثاني مذكورا أي أعني (بِمَفازَةٍ) أن «لا يحسبن الذين يفرحون» أنفسهم فائزين ، وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) مؤكد والفاء زائدة كما مر وأن يكون كلا مفعولي «لا يحسبن» مذكورا ، الأول ضميرهم المتصل بالفعل الثاني ، والثاني «بمفازة» وهو مبني على جعل التأكيد هو الفعل والفاعل فقط على ما هو الأنسب إذ ليس المذكور سابقا سواهما. ورد بأن فيه اتصال ضمير المفعول بغير عامله أو فاعله المتصل بعامله ولم يقل به أحد من النحاة وإن كان فيه تحاش عن الحذف في هذا الباب ، وفيه نظر إذ قد صرح كثير بجواز ذلك ، وقد أفردت هذه المسألة بالتدوين ، وجوز أيضا أن يكون الفعل الأول مسندا إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل حاسب والمفعول الأول الموصول ، والمفعول الثاني محذوفا لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسندا إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه الصلاة والسلام أو عدم حسبان كل حاسب ومفعولاه الضمير المنصوب و (بِمَفازَةٍ) تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور على ما قال شيخ الإسلام للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من


عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم ، وأما نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنت تعلم أن تعليل التصدير بما ذكر على تقدير إجراء الموصول على عمومه على ما مر غير ظاهر إلا أن يقال بالتغليب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بيان لثبوت فرد من العذاب لا غاية له في المدة والشدة إثر ما أشير إليه من عدم نجاتهم من مطلق العذاب ويلوح بذلك الجملة الاسمية والتنكير التفخيمي والوصف.

وجوز أن يكون هذا إشارة إلى العذاب الأخروي ويحمل نفي النجاة من العذاب فيما تقدم على نفي العذاب العاجل وهو كونهم مذمومين مردودين فيما بين الناس لأن لباس الزور لا يبقى وينكشف حال صاحبه ويفتضح.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجادا وإعداما إحياء وإماتة ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير ، وقيل : مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وضعف بالبعد ـ ولو قيل ـ وفيه ردّ لهان الأمر.

هذا (ومن باب الإشارة في الآيات) (وَلا يَحْزُنْكَ) لتوقع الضرر ، أو لشدة الغيرة (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال ، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع (يُرِيدُ اللهُ) إظهارا لصفة قهره (أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ) وأخذوه بالإيمان بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) «لكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) ونزيد في مددهم (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) ينتفعون به في القرب إلينا (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) بسبب ذلك لازديادهم حجابا على حجاب وبعدا على بعد (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لفرط بعدهم عن منبع العز (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى (مِنَ الطَّيِّبِ) وهو صفات القلب كالاخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدة الروح ومناغاة السر ومسامراته وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة (وَتَتَّقُوا) الحجب والموانع (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) من كشف الحقيقة ، وقد يقال : إن لله تعالى غيوبا غيب الظاهر وغيب الباطن وغيب الغيب وسر الغيب وغيب السر ، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة ، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار ، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال ، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة ، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والاطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم ، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلا فإن الأزلية منزهة عن


الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من المال أو العلم أو القدرة أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين ، أو المستعدين ، أو الأنبياء والصديقين في الذب عنهم ، أو في الفناء في الله تعالى (هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) لاحتجابهم به (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقد ذكر بعض العارفين أن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال : إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين ، والسخاء بالنفس وصف المحبين ، وبالروح وصف العارفين.

وقال ابن عطاء : السخاء النفس والسر والروح والكل ، ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقي معه ، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية ، ومن هنا تقول : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] أحيانا مع حجابها وبعدها عن الحضرة (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قيل : إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم ، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عزوجل فتأكلها نار المحبة (قُلْ) يا وارد الحق (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) أي واردات الحق (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الباهرة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو جعل الدنيا وما فيها قربانا (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرا لتلك الواردات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) خطاب للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) للعوام (وَالزُّبُرِ) للمتوسطين (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) للخواص ، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني إلى توحيد الصفات ، والثالث إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولهذا أتى بالكتاب مفردا ووصفه بالمنير ، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) على اختلافها يوم القيامة (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة ، أو الجنة بالمعنى الأعم (فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) ولذاتها الفانية (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي (لَتُبْلَوُنَ) لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها.

وقال بعض العارفين : إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك


من الأموال ابتلاء وامتحانا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه‌السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل : أنا الحق ، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله كحال سليمان عليه‌السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة ، ومن نظر إلى نفسه من حيث إنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف : ١٧٦] وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس ، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم أهل مقام الجمع (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم أهل الكثرة (أَذىً كَثِيراً) لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على مجاهدة أنفسكم (وَتَتَّقُوا) النظر إلى الأغيار (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من الأمور المطلوبة التي تجرّ إلى المقصود والفوز بالمطلوب (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) آنفا ومن حمله عليه تكلف جدا فلعله باق على ظاهره ، أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقا وضمير (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) إلخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس ، أو أن يكونوا محمودين عند الله (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب الحرمان والحجاب.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ


إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تأكيد لما قبله وإقامة دليل عليه ولذا لم يعطف ، وأتى بكلمة إن اعتناء بتحقق مضمون الجملة أي إن في إيجادهما وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب والبدائع (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبها ومجيء كل منهما خلف الآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لسباحتها في بحر قدرته سبحانه حسب إرادته ، وخبر الخرزتين خارج عن سلك القبول وبفرض نظمه فيه مؤول ، وثقب التأويل واسع وكون ذلك تابعا لحركة السموات وسكون الأرض ـ كما قاله مولانا شيخ الإسلام ـ مخالف لما ذهب إليه جمهور أهل السنة من المحدثين وغيرهم من سكون السموات وتحرك النجوم أنفسها بتقدير الله تعالى العليم ، وما ذهب إليه هو مذهب الحكماء المشهور بين الناس ، وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره ما يخالفه أيضا حيث قال : إن الله سبحانه جعل هذه السموات ساكنة وخلق فيها نجوما تسبح بها وجعل لها في سباحتها حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها تسير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية وجعل أصحاب علم الهيئة للأفلاك ترتيبا ممكنا في حكم العقل وجعلوا الكواكب في الأفلاك كالشامات على سطح الجسم وكل ما قالوه يعطيه ميزان حركاتها وإن الله تعالى لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه ، ولذلك يصيبون في علم الكسوفات ونحوه ، وقالوا : إن السموات كالأكر وإن الأرض في جوفها وذلك كله ترتيب وضعي يجوز في الإمكان غيره وهم مصيبون في الأوزان مخطئون في أن الأمر كما رتبوه فليس الأمر إلا على ما ذكرناه شهودا انتهى.

ويؤيد دعوى أنه يجوز في الإمكان غيره ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجديد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها وأقاموا على ذلك الأدلة والبراهين بزعمهم وبنوا عليه الكسوف والخسوف ونحوهما ولم يتخلف شيء من ذلك فهذا يشعر بأنه لا قطع فيما ذهب اليه أصحاب الهيئة ، ويحتمل أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة ، أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من قطب الشمال أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها ، وإما في أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا ، وفي مقابله نهارا وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك ، وهذا مما لا شبهة فيه عند كثير من الناس ، وذكره شيخ الإسلام أيضا ـ وليس بالبعيد ـ بل اختلاف الأوقات في الأماكن مشاهد محسوس لا يختلف فيه اثنان إلا أن في كرية الأرض اختلافا ، فقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره أن الله تعالى بعد أن خلق الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس خلق الأرض سبع طبقات وجعل كل أرض أصغر من الأخرى ليكون على كل أرض قبة سماء فلما تم خلقها


وقدر فيها أقواتها واكتسى الهواء صورة البخار الذي هو الدخان فتق ذلك الدخان سبع سماوات طباقا وأجساما شفافة وجعلها على الأرضين كالقباب على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة وكرة الأرض لها كالبساط فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون عليها وجعل في كل سماء من هذه واحدة من الجواري على الترتيب المعروف انتهى ، والقلب يميل إلى الكرية والله لا يستحي من الحق ، وما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس‌سره أمر شهودي وفيه الموافق والمخالف لما ذهب إليه معظم المحدثين. وأكثر علماء الدين.

والذي قطع به بعض المحققين أنه لم يجىء في الأحاديث الصحيحة المرفوعة ما يفصل أمر السموات والأرض أتم تفصيل إذ ليست المسألة من المهمات في نظر الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم والمهم في نظره منها واضح لا مرية فيه ، وسبحان من لا يتعاصى قدرته شيء ، والليل واحد بمعنى جمع وواحدة ليلة مثل تمرة وتمر وقد جمع على ليال فزادوا فيها الياء على غير قياس ، ونظيره أهل وأهال ، ويقال : كان الأصل فيها ليلات فحذفت لأن تصغيرها لييلة كذا في الصحاح ، وصحح غير واحد أنه مفرد ولا يحفظ له جمع ، وأن القول بأنه جمع والليالي جمع جمع غير مرضي فافهم ، وقد تقدم الكلام مستوفى في الليل والنهار ، ووجه تقديم الأول على الثاني.

(لَآياتٍ) أي دلالات على وحدة الله تعالى وكمال علمه وقدرته ، وهو اسم إن وقد دخله اللام لتأخره عن خبرها والتنوين فيه للتفخيم كما وكيفا أي آيات كثيرة عظيمة ، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة ، قيل : وفي ذلك رمز إلى أن الآيات الظاهرة وإن كانت كثيرة في نفسها إلا أنها قليلة في جنب ما خفي منها في خزائن العلم ومكامن الغيب ولم يظهر بعد (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الحسّ والوهم ، ومنه خبر «أن الله تعالى منع مني بني مدلج لصلتهم الرحم وطعنهم في ألباب الإبل» أي خالص إبلهم وكرائمها ، ويقال : لبّ يلب كعض يعض إذا صار لبيبا وهي لغة أهل الحجاز وأهل نجد يقولون : لب يلب كفر يفر ويقال : لبب الرجل بالكسر يلب الفتح إذا صار ذا لب ، وحكي لبب بالضم وهو نادر لا نظير له في المضاعف.

ووجه دلالة المذكورات على وحدته تعالى أنها تدل على وجود الصانع لتغيرها المستلزم لحدوثها واستنادها إلى مؤثر قديم ومتى دلت على ذلك لزم منه الوحدة ، ووجه دلالتها على ما بعد أنها في غاية الإتقان ونهاية الإحكام لمن تأمل فيها وتفكر في ظاهرها وخافيها وذلك يستدعي كمال العلم والقدرة كما لا يخفى ، وللمتكلمين في الاستدلال على وجود الصانع بمثل هذه المذكورات طريقان : أحدهما طريق التغير ، والثاني طريق الإمكان ، والأكثرون على ترجيح الثاني ، والبحث مفصل في موضعه.

وإنما اقتصر سبحانه هنا على هذه الثلاثة بعد ما زاده في البقرة لأن الآيات على كثرتها منحصرة في السماوية والأرضية والمركبة منهما ، فأشار إلى الأولين بخلق السموات والأرض ، وإلى الثالثة باختلاف الليل والنهار لأنهما من دوران الشمس على الأرض ، أو لأنهما بواسطة مفيض بحسب الظاهر وهو الجرم العلوي وقابل للإفاضة وهو الجرم السفلي القابل للظلمة والضياء قاله بعضهم وقال ناصر الدين : لعل ذلك لأن مناط الاستدلال هو التغير ، وهذه الثلاثة متعرضة لجملة أنواعه فإنه إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار ، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها ، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها ، واعترض بأنه مبني على مذهب الحكماء في إثبات الهيولى والصورة والأوضاع الفلكية فلا يناسب تخريج كتاب الله تعالى عليه ، ولعل الأولى من هذا وذاك ما قاله شيخ الإسلام في عدم التعرض لما ذكر في تلك السورة من أن المقصود هاهنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة ، والثلاثة المذكورة معظم الشواهد الدالة على ذلك فاكتفي بها ، وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية


بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته.

ومما يؤيد كون المذكورات معظم الشواهد الدالة على التوحيد ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وأخرج ابن حبان في صحيحه وابن عساكر وغيرهما عن عطاء قال : قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول صلى الله تعالى عليه وسلم قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا!؟ إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال : ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سألت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله سبحانه : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) الآية.

وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : بتّ عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في موضع جرّ على أنه نعت (لِأُولِي) ويجوز أن يكون في موضع رفع على المدح ، وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون «ربنا آمنا» بعيد لما فيه من تفكيك النظم ، ويزيده بعدا ما أخرجه الأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ينادي مناد يوم القيامة أين أولو الألباب؟ قالوا : أي أولي الألباب تريد؟ قال : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) إلخ عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم ادخلوها خالدين» والظاهر أن المراد من الذكر الذكر باللسان لكن مع حضور القلب إذ لا تمدح بالذكر بدونه بل أجمعوا على أنه لا ثواب لذاكر غافل ، وإليه ذهب كثير ، وعد ابن جريج قراءة القرآن ذكرا فلا تكره للمضطجع القادر ، نعم نص بعض الشافعية على كراهتها له إذا غطى رأسه للنوم وقال بعض المحققين : المراد به ذكره تعالى مطلقا كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال ، وسواء قارنه ذكر اللسان أو لا ، والمعنى عليه الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته ، وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله تعالى عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم : أما قال الله تعالى (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها وليس مرادهم به تفسيرها وتحقيق مصداقها على التعيين وإلا لاضطجعوا وذكروا أيضا ليتم التفسير وتحقيق المصداق.

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في الآية أنه قال : إنما هذا في


الصلاة إذا لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع قاعدا فعلى جنب ، وكذلك أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمران بن حصين ، وكانت به بواسير. كما أخرجه البخاري عنه وبهذا الخبر أحج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقادم بدنه ولا يجوز له أن يستلقي على ظهره على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وجعل الآية حجة على ذلك بناء على أنه لما حصر أمر الذاكر في الهيئات المذكورة دل على أن غيرها ليس من هيئته والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غير هيئته محل تأمل ، وتخصيص ابن مسعود الذكر بالصلاة لا ينتهض حجة على أنه بعيد من سياق النظم الجليل وسباقه.

والقيام والقعود جمع قائم وقاعد ـ كنيام ورقود ـ جمع نائم وراقد ، وانتصابهما على الحالية من ضمير الفاعل في (يَذْكُرُونَ) ويحتمل أن يكونا مصدرين مؤولين بقائمين وقاعدين لتتأتى الحالية ، وقوله تعالى : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) متعلق بمحذوف معطوف على الحال أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين ، وجوز أن يقدر المتعلق المعطوف خاصا أي ومضطجعين على جنوبهم ، والمراد من ذكر هذه الأحوال الإشارة إلى الدوام وانفهامه منها عرفا مما لا شبهة فيه وليس المراد الدوام الحقيقي لاستحالته بل في غالب أحوالهم ، وبعضهم يأخذ الدوام من المضارع الدال على الاستمرار وكيفما كان فالمراد يذكرون الله تعالى كثيرا (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف على (يَذْكُرُونَ) وعطفه على الأحوال السابقة غير ظاهر وتقديم الذكر في تلك الحالات على التفكر لما أن فيهما الاعتراف بالعبودية ، والعبد مركب من النفس الباطنة والبدن الظاهر ، وفي الأول إشارة إلى عبودية الثاني ، وفي الثاني إشارة إلى عبودية الأول لأن التفكر إنما يكون بالقلب والروح ، وفي بيان العبودية بعد الفراغ من آيات الربوبية ما لا يخفى من اللطف ، وقيل : قدم الأول لأنه إشارة إلى النظر في الأنفس وأخر الثاني لأنه إشارة إلى النظر في الآفاق ، ولا شبهة في تقدم الأول على الثاني ، وصرح مولانا شيخ الإسلام بأن هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى ، وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق ، والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعزّ سلطانه ، وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث ، فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق»

وعن عمرو بن مرة قال : «مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال : «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى» ، وعن ابن عباس تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى ـ إلى غير ذلك ـ ففي كون الأول بيانا للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر ، وقيل : قدم الذكر على الدوام على التفكير للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له ، وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال ، و ـ الخلق ـ إما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما ، أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض ، وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال ، ويجرّهم


ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء ، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات ، وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله ، وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة» ، وعنه أيضا مرفوعا بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم إن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له ، وأخرج ابن المنذر عن عون قال : سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت : التفكر والاعتبار. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال : سمعت غير واحد ـ لا اثنين ولا ثلاثة ـ من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ـ أو نور الإيمان ـ التفكر ، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف ـ وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل ، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة ـ إما للايذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير اليه ، وإما للاشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب.

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى المخلوق ، أو إلى الخلق على تقدير كونه بمعنى المخلوق ، وقيل : إليهما باعتبار المتفكر فيه وعلى كل فأمر الأفراد والتذكير واضح والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتني بكمال تمييزها استعظاما لها ، ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] والباطل العبث وهو ما لا فائدة فيه مطلقا أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة ، وقيل : الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوة وصلابة ولا يخفى أنه قول لا قوة له ولا صلابة ، وهو إما صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا ، أو حال من المفعول.

والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق ، أو المتفكر فيه العظيم الشأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها ، ومن جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك.

والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر أي يقولون «ربنا» إلخ ، وجملة القول حال من المستكن في (يَتَفَكَّرُونَ) أي يتفكرون في ذلك قائلين (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ، وإلى هذا ذهب عامة المفسرين.

واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده لما أن «ما» في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادئ الحكم الذي أجري على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم لله تعالى في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب ، ولا ريب أن قولهم ذلك ليس من مبادئ الاستدلال المذكور بل من نتائجها المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل ، فاللائق أن تكون جملة القول استئنافا مبينا لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئا مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص


الآيات المنصوبة في خلق العالم ـ بأولي الألباب ـ ثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر في مجال تلك الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل : فما ذا يكون عند تفكرهم في ذلك وما يترتب عليه من نتيجة؟ فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدي إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وهذا على تقدير كون الموصول موصولا نعتا ، (لِأُولِي) وأما على تقدير كونه مفصولا منصوبا أو مرفوعا على المدح مثلا فتأتي الحالية من ذلك إذ لا اشتباه في أن قولهم هذا من مبادى مدحهم ومحاسن مناقبهم ويكون في إبراز هذا القول في معرض الحال إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تردد وتلعثم في ذلك انتهى ، وهو كلام تلوح عليه أمارات التحقيق ومخايل التدقيق.

والقول بأن الحالية تجتمع مع كون القول المذكور من النتائج لا يخفى ما فيه ، ثم كون هذا القول من نتائج التفكر مما لا يكاد ينكره ذو فكر ، وتوضيح ذلك ـ على رأي ـ أن القوم لما تفكروا في مخلوقاته سبحانه ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم والأرض وما عليها من البحار والجبال والمعادن عرفوا أن لها ربا وصانعا فقالوا : (رَبَّنا) ثم لما اعترفوا في أن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا تحيط بتفاصيل الأفكار قالوا : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ثم لما تأملوا وقاسوا أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها رأوا أنه لا بدّ وأن يكون الصانع منزها عن مشابهة شيء منها ، فإذن هو ليس بجسم ولا عرض ولا في حيز ولا بمفتقر «ولا ، ولا ...» فقالوا : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك مما لا يليق بك ، ثم لما استغرقوا في بحار العظمة والجلال وبلغوا هذا المبلغ الأعظم وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه واتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر ، وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقابلية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة ، ومن هنا قيل : إن الفاء لترتب الدعاء بالاستعاذة من النار على ما دل عليه (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) من وجوب الطاعة واجتناب المعصية كأنه قيل : فنحن نطيعك (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) التي هي جزاء من عصاك ، و (سُبْحانَكَ) مصدر منصوب بفعل محذوف ، والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده ، ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه.

وبعضهم قال بهذا التأكيد ولم يقل بالاعتراض ، وجعل ما بعد الفاء مترتبا على التنزيه المدلول عليه «بسبحانك» وادعى أنه أظهر لاندراج تنزهه تعالى عن ردّ سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه ، ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين ، وقيل : إنه جواب شرط مقدر وإن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا ، واستدل الطبرسي بالآية على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولي الألباب الذين رضي قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه خلقا وإيجادا ـ وفيه نظر ـ لأن الأشياء كلها سواء من حيث إنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] وتفاوتها إنما هو باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا باعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة والبعض الآخر عاريا عنها ، فالقبائح من حيث إنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأن الباطل كما علمت هو ما لا فائدة فيه مطلقا ، أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لاشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد


قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد ، وتسميتها قبائح إنما هي باعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك إنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الاستعداد الأزلي فدعوى ـ أن هذه الأشياء كلها باطلة ـ كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال ، واستدل بها بعضهم أيضا على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث ، وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة ، واحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص ، وناقشها المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها.

وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل وهو لا ينافي استناد الكل إلى مسبب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه ، نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال واعتقاده كفر ، وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر «من قال : أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب» ، ومن قال : أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب فليحفظ (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) مبالغة في استدعاء الوقاية من النار وبيان لسببه ، وصدرت الجملة بالنداء مبالغة في التضرع إلى معود الإحسان كما يشعر به لفظ الرب ، وعن ابن عباس أنه كان يقول : اسم الله تعالى الأكبر رب رب ، والتأكيد بأن الإظهار كمال اليقين بمضمون الجملة ، والإيذان بشدّة الخوف ووضع الظاهر موضع الضمير للتهويل ، وذكر الإدخال في مورد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته والإخزاء ـ كما قال الواحدي ـ جاء لمعان متقاربة فعن الزجاج يقال : أخزى الله تعالى العدو أي أبعده ، وقيل : أهانه ، وقيل : فضحه ، وقيل : أهلكه ، ونقل هذا عن المفضل ، وقيل : أحله محلا وأوقفه موقفا يستحى منه.

وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، والمراد فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه ، ومن القواعد المقررة أنه إذا جعل الجزاء أمرا ظاهر اللزوم للشرط سواء كان اللزوم بالعموم والخصوص كما في قولهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ، أو بالاستلزام كما في هذه الآية يحمل على أعظم أفراده وأخصها لتربية الفائدة ، ولهذا قيد الخزي بما قيد ، واحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناء على أنه الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار ، وجعل الثاني شرطا والأول جزاء ، والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر بأنه أقوى وأفظع وإلا لعكس ـ كما قال الإمام الرازي ـ وأيضا المفهوم من قوله تعالى : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) طلب الوقاية منه ، وقوله سبحانه : (رَبَّنا) إلخ دليل عليه فكأنه طلب الوقاية من المذكور لترتب الخزي عليه فيدل على أنه غاية يخاف منه ـ كما قاله بعض المحققين ـ واحتج بها المعتزلة على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لأنه إذا أدخله الله تعالى النار


فقد أخزاه والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من آمن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخزيا أن لا يكون غيره وهو مؤمن كذلك ، وأيضا الآية ليست عامة لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧١] فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار ، وهو المروي عن أنس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جرير.

وأيضا يمكن أن يقال : إن كل من يدخلها مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبة أهل الكبائر منهم الخروج ، وقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي) إلخ نفي الخزي فيه على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهو نفي الخزي المخلد ، وأيضا يحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني ، وحينئذ لا يلزم التنافي ، واحتجت المرجئة بها على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] وقوله سبحانه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) إلخ والمدخل في النار مخزي لهذه الآية ، وأجيب بمنع المقدمات بأسرها أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبل مؤمنا ، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ليس لكل منهم ناصر ينصره مما هو فيه ، والجملة تذييل لإظهار فظاعة حالهم ، وفيه تأكيد للاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، وتمسكت المعتزلة بنفي الأنصار على نفي الشفاعة لسائر المدخلين ، وأجيب بأن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله تعالى: (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] ، وقيل : نفي الناصر لا يمنع نفي الشفيع لأن النصر دفع بقوة والشفاعة تخليص بخضوع وتضرع وله وجه ، والقول : بأن العرف لا يساعده غير متجه.

وقال في الكشف : الظاهر من الآية أن من دخل النار لا ناصر له من دخولها أما إنه لا ناصر له من الخروج بعد الدخول فلا ، وذلك لأنه عام في نفي الأفراد مهمل بحسب الأوقات ، والظاهر التقييد بما يطلب النصر أولا لأجله كمن أخذ يعاقب فقلت : ما له من ناصر لم يفهم منه أن العقاب لا ينتهي بنفسه وأنه بعد العقاب لم يشفع بل فهم منه لم يمنعه أحد مما حل به ، ثم إن سلم التساوي لم يدل على النفي وأجاب غير واحد على تقدير عموم الظالم ، وعدم الفرق بين النصر والشفاعة بأن الأدلة الدالة على الشفاعة ـ وهي أكثر من أن تحصى ـ مخصصة للعموم ، وقد تقدم ما ينفعك هنا (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) على معنى القول أيضا وهو كما قال شيخ الإسلام : حكاية لدعاء آخر مبني على تأملهم في الدليل السمعي بعد حكاية دعائهم السابق المبني على تفكرهم في الأدلة القطعية ، ولا يخفى أن ذلك التفكر مستدع في الجملة لهذا القول ، وفي تصدير مقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى معوّد الإحسان والإفضال ، وفي التأكيد إيذان بصدور ذلك عنهم بفور الرغبة ومزيد العناية وكمال النشاط ، والمراد بالمنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن جريج ـ واختاره الجبائي وغيره.

وقيل : المراد به القرآن ، وهو المحكي عن محمد بن كعب القرظي وقتادة ، واختاره الطبري معللا ذلك بأنه ليس يسمع كل واحد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يراه ، والقرآن ظاهر باق على ممر الأيام والدهور يسمعه من أدرك عصر نزوله ومن لم يدرك ، ولأهل القول الأول أن يقولوا : من بلغه بعثة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوته جاز له أن يقول : (سَمِعْنا مُنادِياً) وإن كان فيه ضرب من التجوز ، وأيضا المراد بالنداء الدعاء ونسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أشهر وأظهر ، فقد قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل : ١٢٥](أَدْعُوا إِلَى اللهِ) [يوسف : ١٠٨](وَداعِياً


إِلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٦] وهي إليه عليه الصلاة والسلام حقيقة ، وإلى القرآن على حد قوله :

تناديك أجداث وهن صموت

وسكانها تحت التراب سكوت

والتنوين في المنادى للتفخيم وإيثاره على الداعي للإشارة إلى كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد لما فيه من الإيذان برفع الصوت ، وقد كان شأنه الرفيع صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخطب ذلك الرفع حقيقة ، ففي الخبر كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم. ولما كان النداء مخصوصا بما يؤدي له ومنتهيا إليه تعدي باللام وإلى تارة ، وتارة فاللام في للإيمان على ظاهرها ولا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى أو الباء ، ولا إلى جعلها بمعنى العلة ـ كما ذهب إليه البعض ـ وجملة (يُنادِي) في موضع المفعول الثاني ـ لسمع ـ على ما ذهب إليه الأخفش وكثير من النحاة من تعدي ـ سمع ـ هذه إلى مفعولين ولا حذف في الكلام ، وذهب الجمهور إلى أنها لا تتعدى إلا إلى واحد ، واختاره ابن الحاجب قال في أماليه : وقد يتوهم أن السماع متعد إلى مفعولين من جهة المعنى والاستعمال ، أما المعنى فلتوقفه على مسموع ، وأما الاستعمال فلقولهم : سمعت زيدا يقول ذلك وسمعته قائلا ، قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] ولا وجه له لأنه يكفي في تعلقه المسموع دون المسموع منه ، وإنما المسموع منه كالمشموم منه فكما أن الشم لا يتعدى إلا إلى واحد فكذلك السماع فهو مما حذف فيه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للعلم به ويذكر بعده حال تبينه ويقدر في «يسمعونكم إذ تدعون» يسمعون أصواتكم انتهى ، والزمخشري جعل المسموع صفة بعد النكرة وحالا بعد المعرفة وهو الظاهر ، وادعى بعض المحققين أن الأوفق فيما جعله حالا أو وصفا أن يجعل بدلا بتأويل الفعل بالمصدر على ما يراه بعض النحاة لكنه قليل في الاستعمال فلذا أوثرت الوصفية أو الحالية.

وزعم بعضهم أن السماع إذا وقع على غير الصوت فلا بدّ أن يذكر بعده فعل مضارع يدل على الصوت ولا يجوز غيره ـ وهو غير صحيح ـ لوقوع الظرف واسم الفاعل كما سمعته ، وفي تعليق السماع بالذات مبالغة في تحقيقه ، والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم ، وفي إطلاق المنادي أولا حيث قال سبحانه : (مُنادِياً) ولم يذكر ما دعى له ، ثم قوله عزّ شأنه بعد : (يُنادِي لِلْإِيمانِ) ما لا يخفى من التعظيم لشأن المنادي والمنادى له ، ولو قيل من أول الأمر (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) لم يكن بهذه المثابة ، وحذف المفعول الصريح ـ لينادي ـ إيذانا بالعموم أي ينادي كل واحد (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي أن آمنوا به على أن (أَنْ) تفسيرية ، أو بأن آمنوا ـ على أنها مصدرية ، وعلى الأول فآمنوا تفسير لينادي لأن نداءه عين قوله : (آمِنُوا) والتقدير (يُنادِي لِلْإِيمانِ) أي يقول : (آمِنُوا) وليس تفسيرا للإيمان كما توهم ، وعلى الثاني يكون ـ بأن آمنوا ـ متعلقا ب (يُنادِي) لأنه المنادى به وليس بدلا من الإيمان ـ كما زعمه البعض ـ ومن المحققين من اقتصر على احتمال المصدرية لما أن كثيرا من النحاة يأبى التفسيرية لما فيها من التكلف ، ومن اختارها قال : إن المصدرية تستدعي التأويل بالمصدر وهو مفوّت لمعنى الطلب المقصود من الكلام. وأجيب بأنه يقدر الطلب في التأويل إذا كانت داخلة على الأمر وكذا يقدر ما يناسب الماضي والمستقبل إذا كانت داخلة عليهما ، ولا ينبغي أن يجعل الحاصل من الكل بمجرد معنى المصدر لئلا يفوت المقصود من الأمر وأخويه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشارة إلى بعض الأدلة عليه سبحانه وتعالى ورمز إلى نعمته جل وعلا على المخاطبين ليذكروها فيسارعوا إلى امتثال الأمر ، وفي إطلاق الإيمان ثم تقييده تفخيم لشأنه (فَآمَنَّا) عطف على (سَمِعْنا) والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة ، والمعنى فآمنا بربنا لما دعينا إلى ذلك ، قال أبو منصور : فيه دليل على بطلان الاستثناء في الإيمان ولا يخفى بعده (رَبَّنا) تكرير ـ كما قيل ـ


للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته تعالى مع الإيمان به (فَاغْفِرْ لَنا) مرتب على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته كما تدل عليه الفاء أي فاستر لنا (ذُنُوبَنا) أي كبائرنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي صغائرنا ، وقيل : المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي ، ومن السيئات ما تأخر منها ، وقيل : الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية ، والثاني ما أتى به من الجهل بذلك ، والأول هو التفسير المأثور عن ابن عباس.

وأيد بأنه المناسب للغة لأن الذنب مأخوذ من الذنب بمعنى الذيل ، فاستعمل فيما تستوخم عاقبته وهو الكبيرة لما يعقبها من الإثم العظيم ، ولذلك تسمى تبعة اعتبارا بما يتبعها من العقاب كما صرح به الراغب ، وأما السيئة فمن السوء وهو المستقبح ولذلك تقابل بالحسنة فتكون أخف ، وتأييده بأن الغفران مختص بفعل الله تعالى والتكفير قد يستعمل في فعل العبد ـ كما يقال : كفر عن يمينه ـ وهو يقتضي أن يكون الثاني أخف من الأول على تحمل ما فيه إنما يقتضي مجرد الأخفية ، وأما كون الأول الكبائر والثاني الصغائر بالمعنى المراد فلا يجوز يراد بالأول والثاني ما ذكر في القول الثالث ، فإن الأخفية وعدمها فيه مما لا سترة عليه كما لا يخفى ، ثم المفهوم من كثير من عبارات اللغويين عدم الفرق بين الغفران والتكفير بل صرح بعضهم بأن معناهما واحد.

وقيل : في التكفير معنى زائد وهو التغطية للأمن من الفضيحة ، وقيل : إنه كثيرا ما يعتبر فيه معنى الإذهاب والإزالة ولهذا يعدى بعن والغفران ليس كذلك ، وفي ذكر (لَنا) و (عَنَّا) في الآية مع أنه لو قيل : فاغفر ذنوبنا وكفر سيئاتنا لأفاد المقصود إيماء إلى وفور الرغبة في هذين الأمرين ، وادعى بعضهم أن الدعاء الأول متضمن للدعاء بتوفيق الله تعالى للتوبة لأنه السبب لمغفرة الكبائر وأن الدعاء الثاني متضمن لطلب التوفيق منه سبحانه للاجتناب عن الكبائر لأنه السبب لتكفير الصغائر ، وأنت تعلم أن المغفرة غير مشروطة بالتوبة عند الأشاعرة. وأن بعضهم احتج بهذه الآية على ذلك حيث إنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب كذا قيل ، وسيأتي تحقيق ما فيه فتدبر (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي مخصوصين بالانخراط في سلكهم والعدّ من زمرتهم ولا مجال لكون المعية زمانية إذ منهم من مات قبل ، ومن يموت بعد ، وفي طلبهم التوفي وإسنادهم له إلى الله تعالى إشعار بأنهم يحبون لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه.

والأبرار جمع برّ كأرباب جمع رب ، وقيل : جمع بارّ كأصحاب جمع صاحب ، وضعف بأن فاعلا لا يجمع على أفعال ، وأصحاب جمع صحب بالسكون ، أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف.

وبعض أهل العربية أثبته وجعله نادرا ، ونكتة قولهم مع (الْأَبْرارِ) دون أبرار التذلل ، وأن المراد لسنا بأبرار فاسلكنا معهم واجعلنا من أتباعهم ، وفي الكشف إن في ذلك هضما للنفس وحسن أدب مع إدماج مبالغة لأنه من باب ـ هو من العلماء ـ بدل عالم (رَبَّنا وَآتِنا) أي بعد التوفي (ما وَعَدْتَنا) أي به أو إياه ، والمراد بذلك الثواب (عَلى رُسُلِكَ) إما متعلق بالوعد ، أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف والتقدير على التقدير الأول ، وعدتنا على تصديق أو امتثال رسلك وهو كما يقال ـ وعد الله تعالى الجنة على الطاعة ، وعلى الثاني وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك ، ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضا فتخف مئونة الحذف وتعلقه ـ بآتنا ـ كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر.

وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من (ما) أي منزلا أو محمولا (عَلى رُسُلِكَ).

واعترضه أبو حيان بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كونا مقيدا لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا ، وأيضا الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد ، وأجيب بمنع انحصار


التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو بمقيد ، ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ولا يخفى متانة الجواب ، وأن إنكار أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه.

وزعم بعضهم جواز كون (عَلى) بمعنى مع ، وأنه متعلق ـ بآتنا ـ ولا حذف لشيء أصلا والمراد ـ آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا ـ فإن الدال على الخير كفاعله ، وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلتهم ببركة مشاركتهم ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه بل ولا كلام أحد من فصحاء العرب ، وتكرير النداء لما مرّ غير مرة وجمع الرسل مع أن المنادي هو واحد الآحاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لما أن دعوته ولا سيما على منبر التوحيد ، وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديق لهم عليهم‌السلام ، وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة والسلام من الثواب موعود على لسانهم وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد ، وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجار الموعود بناء على كثرة الشهود وتأخير هذا الدعاء بناء على ما ذكرنا في تفسير الموصول ، ويكاد يكون مقطوعا به ظاهرا لأن الأمر أخروي.

وأما إذا فسر بالنصر على الأعداء ـ كما قيل ـ فتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية والتحلية متأخرة عن التخلية ، وإما لأن الأول مما يترتب على تحققه النجاة في العقبى وعلى عدمه الهلاك فيها والثاني ليس كذلك ـ كما لا يخفى ـ فيكون دونه فلهذا أخر عنه ، وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل ، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول (لا تُخْزِنا) في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا : لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة ، وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للاختلاف بين المطلوبين أنفسهما ، وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير الإشارة إلى أنهم طلبوا ثوابا كاملا لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمنى الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيوم ، وهو الثواب التفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك لموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة ، وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى ، وأيضا يحتمل أن يقال : إنهم طلبوا الثواب أولا باعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني ، ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناء على أن الخزي الإهانة والتخجيل ، فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا : ربنا ادفع عنا العذاب الجسماني وادفع عنا ما هو أشدّ منه وهو العذاب الروحاني ، وإن أنت أبيت هذا وذاك وادعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول : إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعاءين وإن استلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاح ـ والله تعالى يحب الملحين في الدعاء ـ فهو أقرب إلى الإجابة ، وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة ، ومن الناس من يؤول هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء ، وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكا لأن المطلوب فيه أمر عظيم ، والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظا ويجب ذلك قطعا إن كان الكلام مؤولا ، أو كان الموصول عبارة عن النصر ، ويترجح ـ بل يكاد يجب أيضا ـ إذا كان الموصول عبارة عن الثواب واحتمال أنه مما تنازع فيه (آتِنا وَلا تُخْزِنا) على ذلك التقدير هو كما ترى (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) تذييل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء ، وقيل : متعلق بما قبل الأخير اللازم له ، وإليه يشير كلام الأجهوري ، و (الْمِيعادَ) مصدر ميمي بمعنى


الوعد ، وقيده الكثير هنا بالإثابة والإجابة. وهو الظاهر ، وأما تفسيره بالبعث بعد الموت ـ كما روي عن ابن عباس ـ فصحيح لأنه ميعاد الناس للجزاء ، وقد يرجع إلى الأول وترك العطف في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان باستقلال المطالب وعلو شأنها ، وقد أشرنا إلى سر تكرار النداء بذلك الاسم ، وفي بعض الآثار أن موسى عليه‌السلام قال مرة : يا رب فأجابه الله تعالى لبيك يا موسى فعجب موسى عليه‌السلام من ذلك فقال : يا رب أهذا لي خاصة؟ فقال : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من أحزنه أمر فقال : ربنا ربنا خمس مرات نجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد ـ وقرأ هذه الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : «ما من عبد يقول يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله تعالى إليه. فذكر للحسن فقال : أما تقرأ القرآن (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) إلخ «فإن قلت» إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لاستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعا فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة؟ «قلت» أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم ، فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود ، أو المقصود مجرد الاستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) وبهذا يلتئم التذييل أتم التئام ، واختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى ، أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه : (ادْعُونِي) [غافر : ٦٠] فلا يضر كونه متعلقا بواجب الوقوع ، وما يستحيل خلافه ، ومن ذلك (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] وقيل : إن الموعود به هو النصر لا غير ، والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر ، فالموعود غير مسئول والمسئول غير موعود ، فلا إشكال ـ وإلى هذا ذهب الطبري ـ وقال : إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستبطئوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا : لا صبر لنا على أناتك وحلمك ، وقوي بما بعد من الآيات وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضا وفيه كلام يعلم مما قدمنا ، وقيل: ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرّج مخرج المسألة ـ والمراد منه الخبر ـ ولا يخفى أنه بمعزل عن التحقيق ، ويزيده وهنا على وهن قوله سبحانه (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) الاستجابة الإجابة ، ونقل عن الفراء أن الإجابة تطلق على الجواب ولو بالرد ، والاستجابة الجواب بحصول المراد لأن زيادة السين تدل عليه إذ هو لطلب الجواب ، والمطلوب ما يوافق المراد لا ما يخالفه وتتعدى باللام وهو الشائع ، وقد تتعدى بنفسها كما في قوله :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وهذا كما قال الشهاب وغيره : في التعدية إلى الداعي وأما إلى الدعاء فشائع بدون اللام مثل استجاب الله تعالى دعاءه ، ولهذا قيل : إن هذا البيت على حذف مضاف أي لم يستحب دعاءه ، والفاء للعطف وما بعده معطوف إما على الاستئناف المقدر في قوله سبحانه : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء ، وصيغة الماضي هنا للإيذان بتحقيق الاستجابة وتقررها ، ويجوز أن يكون معطوفا على مقدر ينساق إليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) إلخ ، وإن قدر ذلك القول المقدر حالا فهو عطف على (يَتَفَكَّرُونَ) باعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعني قوله سبحانه : (رَبَّنا) إلخ ، فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم ، وحيث كانت من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة واستحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على كون الموصول نعتا لأولي الألباب فلا مساغ لهذا العطف لما عرفت سابقا. وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام. والمشهور العطف على المنساق إلى الذهن وهو المنساق إليه الذهن ، وفي ذكر الرب هنا مضافا ما لا يخفى من اللطف. وأخرج الترمذي


والحاكم وخلق كثير عن أم سلمة قال : قلت : يا رسول الله لا أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) إلى آخر الآية ، فقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا. ولعل المراد أنها نزلت تتمة لما قبلها.

وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت : آخر آية نزلت هذه الآية (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي بأني ، وهكذا قرأ أبي ، واختلف في تخريجه فخرجه العلامة شيخ الإسلام على أن الباء للسببية كأنه قيل : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) بسبب أنه (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ) منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك وجعل التكلم في (أَنِّي) والخطاب في (مِنْكُمْ) من باب الالتفات ، النكتة الخاصة فيه إظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والتعرض لبيان السبب لتأكيد الاستجابة ، والإشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء.

وقال بعض المحققين : إنها صلة لمحذوف وقع حالا إما من فاعل (فَاسْتَجابَ) أو من الضمير المجرور في (لَهُمْ) والتقدير مخاطبا لهم بأني ، أو مخاطبين بأني إلخ ، وقيل : إنها متعلقة باستجاب لأن فيها معنى القول ـ وهو مذهب الكوفيين ـ ويؤيد القولين أنه قرئ «إني» بكسر الهمزة وفيها يتعين إرادة القول وموقعه الحال أي قائلا إني أو مقولا لهم «إني» إلخ ، وتوافق القراءتين خير من تخالفهما ، وهذا التوافق ظاهر على ما ذهب إليه البعض وصاحب القيل وإن اختلف فيهما شدة وضعفا ، وأما على ما ذكره العلامة فالظهور لا يكاد يظهر على أنه في نفسه غير ظاهر كما لا يخفى ، وقرئ «لا أضيّع» بالتشديد ، وفي التعرض لوعد العاملين على العموم مع الرمز إلى وعيد المعرضين غاية اللطف بحال هؤلاء الداعين لا سيما وقد عبر هناك عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقة إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ولكن عبر بذلك تأكيدا لأمر الإثابة حتى كأنها واجبة عليه تعالى ـ كذا قيل ـ والمشهور أن الإضاعة في الأصل الإهلاك ومثلها التضييع ويقال : ضاع يضيع ضيعة وضياعا بالفتح إذ هلك ، واستعملت هنا بمعنى الإبطال أي لا أبطل عمل عامل كائن منكم (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لعامل ، وتأكيد لعمومه إما على معنى شخص عامل أو على التغليب.

وجوّز أن يكون بدلا من منكم بدل الشيء من الشيء إذ هما لعين واحدة ، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه وقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ، و (مِنْ) إما ابتدائية بتقدير مضاف أي من أصل بعض ، أو بدونه لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، وإما اتصالية والاتصال إما بحسب اتحاد الأصل ، أو المراد به الاتصال في الاختلاط ، أو التعاون ، أو الاتحاد في الدين حتى كأن كل واحد من الآخر لما بينهما من أخوة الإسلام ، والجملة مستأنفة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء في سلك الدخول مع الرجال في الوعد.

وجوز أن تكون حالا أو صفة ، وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده مع المدح والتعظيم.

وأصل المهاجرة من الهجرة وهو الترك وأكثر ما تستعمل في المهاجرة من أرض إلى أرض أي ترك الأولى للثانية مطلقا. أو للدين على ما هو الشائع في استعمال الشرع ، والمتبادر في الآية هو هذا المعنى وعليه يكون قوله تعالى : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) عطف تفسير مع الإشارة إلى أن تلك المهاجرة كانت عن قسر واضطرار لأن المشركين آذوهم وظلموهم حتى اضطروا إلى الخروج ، ويحتمل أن يكون المراد هاجروا الشرك وتركوه وحينئذ يكون (وَأُخْرِجُوا) إلخ تأسيسا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي بسبب طاعتي وعبادتي وديني وذلك سبيل الله تعالى ، والمراد


من الإيذاء هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من قبل المشركين (وَقاتَلُوا) أي الكفار في سبيل الله تعالى (وَقُتِلُوا) استشهدوا في القتال.

وقرأ حمزة والكسائي بالعكس ، ولا إشكال فيها لأن الواو لا توجب ترتيبا ، وقدم القتل لفضله بالشهادة هذا إذا كان القتل والمقاتلة من شخص واحد ، أما إذا كان المراد قتل بعض وقاتل بعض آخر ولم يضعفوا بقتل إخوانهم فاعتبار الترتيب فيها أيضا لا يضر ، وصحح هذه الإرادة أن المعنى ليس على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة ، أو باثنين منها ، أو بأكثر فحينئذ يتأتى ما ذكر إما بطريق التوزيع أي منهم الذين قتلوا ومنهم الذين قاتلوا ، أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين ـ كما هو رأي الكوفيين ـ أي والذين قتلوا والذين قاتلوا ، ويؤيد كون المعنى على اتصاف الكل بالكل في الجملة أنه لو كان المعنى على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض مع أن الأمر ليس كذلك ، والقول ـ بأن المراد قتلوا وقد قاتلوا فقد مضمرة ، والجملة حالية ـ مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكلام الجليل.

وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتلوا» بالتشديد للتكثير (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن ، والجملة القسمية خبر للمبتدإ الذي هو الموصول. وزعم ثعلب أن الجملة لا تقع خبرا ووجهه أن الخبر له محل وجواب القسم لا محل له ـ وهو الثاني ـ فإما أن يقال : إن له محلا من جهة الخبرية ولا محل له من جهة الجوابية. أو الذي لا محل له الجواب والخبر مجموع القسم وجوابه. ولا يضر كون الجملة إنشائية لتأويلها بالخبر ، أو بتقدير قول كما هو معروف في أمثاله والتكفير في الأصل الستر كما أشرنا إليه فيما مر ولاقتضائه بقاء الشيء المستور ـ وهو ليس بمراد ـ فسره هنا بعض المحققين بالمحو ، والمراد من محو السيئات محو آثارها من القلب ، أو من ديوان الحفظة وإثبات الطاعة مكانها كما قال سبحانه : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] والمراد من السيئات فيما نحن فيه الصغائر لأنها التي تكفر بالقربات ـ كما نقله ابن عبد البر عن العلماء ـ لكن بشرط اجتناب الكبائر كما حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة ، واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر». وقالت المعتزلة : إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد اجتناب الكبائر ولا دخل للقربات في تكفيرها ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] ، وحمله الجمهور على معنى نكفر عنكم سيئاتكم بحسناتكم وأوردوا على المعتزلة أنه قد ورد صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ونحو ذلك من الأخبار كثير ، فإذا كان مجرد اجتناب الكبائر مكفرا فما الحاجة لمقاساة هذا الصوم مثلا؟ وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لا بد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلا في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) [النور : ٣١] ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص.

وقال ابن الصلاح في فتاويه قد يكفر بعض القربات ـ كالصلاة ـ مثلا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة ، وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها ، وقال بعضهم : إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة ، واستدل عليه بقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أتبع السيئات الحسنة تمحها» وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث بمعنى التوبة إن أخذت السيئة عامة.


ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذ تشمل حقوق العباد ، والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة ، وأيضا لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة. فقد روى الشيخان عن ابن مسعود «أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل : هذه له خاصة يا رسول الله؟ فقال : بل للناس عامة» ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائبا وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى ، وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به ، وقال بعض أهل السنة : إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا. مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضا ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه لها خلافا للمعتزلة ، وقيل : والواجب الإتيان بالتوبة أو بالتوبة أو بمكفرها من الحسنة ـ وفي المسألة كلام طويل ..

ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه ، وهذا وربما يقال : إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناء على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجبّ ما قبله ، وحينئذ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحا بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعد ما وعد ذلك بالعموم ، واعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجبّ ما قبله مطلقا وفيه خلاف ، فقد قال الزركشي : إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر وزر الكفر لا غير ، وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي ، واستدل عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم ، وأجيب بأنه مع اعتبار ما ذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) على أحد القولين ، أو رمز إلى ما سألوه بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) على قول الآخر (ثَواباً) مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثوابا موضع الإثابة وإن كان في الأصل اسما لما يثاب به كالعطاء لما يعطى ، وقيل : إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها ، أو من ضمير المفعول أي مثابا أو مثابين ، وقيل : إنه بدل من جنات ، وقال الكسائي : إنه منصوب على القطع ، وقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) صفة لثوابا وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه ، ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكدا ، لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكدا.

وقيل : إنه متعلق ـ بثوابا ـ باعتبار تأويله باسم المفعول ، وقوله سبحانه : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، والاسم الجليل مبتدأ خبره (عِنْدَهُ) و (حُسْنُ الثَّوابِ) مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره ، ولجملة خبر المبتدأ الأول ، والكلام مخرّج مخرج قول الرجل : عندي ما تريد يريد اختصاصه به وتملكه له ، وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده (حُسْنُ الثَّوابِ) أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده ، بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره ، والاختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل (حُسْنُ الثَّوابِ) مبتدأ مؤخرا كان الاختصاص بحاله ، وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم.


وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «إن أول ثلاثة يدخلون الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره. وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفتها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤].

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمراد منه أمته ، وكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم ، ويحتمل أن يكون عاما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره بطريق التغليب تطييبا لقلوب الخاطبين ، وقيل : إنه خطاب له عليه الصلاة والسلام على أن المراد تثبيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هو عليه كقوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨] وضعف بأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثبات ـ وفيه نظر لا يخفى ـ والنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ ، وإنما جعل النهي ظاهرا للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب واغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو اغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر ، قالوا : وهذا على عكس قول القائل : لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب.

وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان ، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلا متضايفان ، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببا للآخر بل هما معا في درجة واحدة ، فالأولى أن يقال : علق النهي بكون التقلب غارا ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر ، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه ، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه ، وفسر الموصول بالمشركين من أهل مكة ، فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية ، وبعض فسره باليهود ، وحكي أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت ، وإلى ذلك ذهب الفراء ، والقول الأول أظهر ، وأيّا ما كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم ، وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد (لا يَغُرَّنَّكَ) بالنون الخفيفة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني تقلبهم متاع قليل ، وقلته إما باعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب ، وفيما رواه مسلم مرفوعا «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فينظر بم ترجع» ، وقيل : إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مئونة السعي وتحمل المشاق فضلا عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد انتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها.

(جَهَنَّمُ) التي لا يوصف عذابها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم ، وفيه إشارة إلى مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.


(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها). (لكِنِ) للاستدراك عند النجاة وهو رفع توهم ناشئ من السابق وعند علماء المعاني لقصر القلب وردّ اعتقاد المخاطب ، وتوجيه الآية على الأول أنه لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في التجارة وتصرفهم في البلاد لأجلها جاز أن يتوهم متوهم أن التجارة من حيث هي مقتضية لذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وأن لهم ما وعدوا به أو يقال إنه تعالى لما جعل تمتع المتقلبين قليلا مع سعة حالهم أو هم ذلك أن المسلمين الذين لا يزالون في الجهد والجوع في متاع في كمال القلة فدفع بأن تمتعهم للاتقاء والاجتناب عن الدنيا ولا تمتع من الدنيا فوقه لأنه وسيلة إلى نعمة عظيمة أبدية هي الخلود في الجنات ، وعلى الثاني ردّ لاعتقاد الكفرة أنهم متمتعون من الحياة والمؤمنون في خسران عظيم ، وعلل بعض المحققين جعل التقوى في حيز الصلة بالإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى ، والمراد بها الاتقاء عن الشرك والمعاصي ، والموصول مبتدأ والظرف خبره ، و (جَنَّاتٌ) مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ ، أو مرتفع بالابتداء ، والظرف خبره ، والجملة خبر المبتدأ ، و (خالِدِينَ) حال مقدرة من الضمير المجرور في (لَهُمْ) أو من (جَنَّاتٌ) لتخصيصها بجملة الصفة ، والعامل ما في الظرف من معنى الاستقرار ، وقرأ أبو جعفر «لكنّ» بتشديد النون (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) النزل بضمتين وكذا النزل بضم فسكون ما يعد للضيف أول نزوله من طعام وشراب وصلة ، قال الضبي :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له (نزلا)

ويستعمل بمعنى الزاد مطلقا ، ويكون جمعا بمعنى النازلين كما في قول الأعشى :

أو ينزلون فإنا معشر (نزل)

وقد جوز ذلك أبو علي في الآية ، وكذا يجوز أن يكون مصدرا ، قيل : وأصل معنى النزل مفردا الفضل والريع في الطعام ، ويستعار للحاصل عن الشيء ، ونصبه هنا إما على الحالية من (جَنَّاتٌ) لتخصيصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرار إن كان بمعنى ما يعد إلخ ، وجعل الجنة حينئذ نفسها (نُزُلاً) من باب التجوز ، أو بتقدير مضاف أي ذات نزل ، وإما على الحالية من الضمير في (خالِدِينَ) إن كان جمعا ، وإما على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف إن كان مصدرا وهو حينئذ بمعنى النزول أي نزلوها نزلا ، وجوز على تقدير مصدريته أن يكون بمعنى المفعول فيكون حالا من الضمير المجرور في (فِيها) أي منزولة ، والظرف صفة (نُزُلاً) إن لم تجعله جمعا وإن جعلته ففيه ـ كما قال أبو البقاء ـ وجهان : أحدهما أنه حال من المفعول المحذوف لأن التقدير (نُزُلاً) إياها ، والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من عند الله أي بفضله ، وذهب كثير من العلماء على أن النزل بالمعنى الأول ـ وعليه تمسك بعضهم بالآية على رؤية الله تعالى لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها وليس وراء الله تعالى شيء ـ وهو كما ترى ، نعم فيه حينئذ إشارة إلى أن القوم ضيوف الله تعالى وفي ذلك كمال اللطف بهم (وَما عِنْدَ اللهِ) من الأمور المذكورة الدائمة لكثرته ودوامه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل لقلته وزواله ، والتعبير عنهم ـ بالأبرار ـ ووضع الظاهر موضع الضمير كما قيل : للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل ، وزعم بعضهم أن هذا مما يحتمل أن يكون إشارة إلى الرؤية لأن فيه إيذانا بمقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة ، والموصول مبتدأ ، والظرف صلته ، و (خَيْرٌ) خبره و (لِلْأَبْرارِ) صفة (خَيْرٌ).


وجوز أن يكون (لِلْأَبْرارِ) خبرا والنية به التقديم أي والذي عند الله مستقر للأبرار و (خَيْرٌ) على هذا خبر ثان ، وقيل (لِلْأَبْرارِ) حال من الضمير في الظرف ، و (خَيْرٌ) خبر المبتدأ ، وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره والفصل بين الحال وصاحب الحال غير المبتدأ وذلك لا يجوز في الاختيار (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أخرج ابن جرير عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لما مات النجاشي : «اخرجوا فصلوا عن أخ لكم فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وأنس وقتادة ، وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحارث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى عليه‌السلام فآمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي عن ابن جريج وابن زيد وابن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا ، منهم عبد الله بن سلام ومن معه ، وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشي ـ وهو بفتح النون على المشهور ـ كما قال الزركشي.

ونقل ابن السيد كسرها ـ وعليه ابن دحية ـ وفتح الجيم مخففة ـ وتشديدها غلط ـ وآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليست للنسبة ، ونقل ابن الأثير تشديدها ، ومنهم من جعله غلطا ـ وهو لقب كل من ملك الحبشة ـ واسمه أصحمة ـ بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وحاء مهملة ـ والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة ، ومعناه عندهم عطية الصنم ، وذكر مقاتل في نوادر التفسير أن اسمه مكحول بن صعصعة ، والأول هو المشهور ، وقد توفي في رجب سنة تسع ، والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت صفاتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك ، بل منهم من له مناقب جليلة ، وفيها أيضا تعريض بالمنافقين الذين هم أقبح أصناف الكفار وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات ، وإذا لاحظت اشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحا للمهاجرين إليهم من حيث إن الهجرة الأولى كانت إليهم كان المناسبة أقوى ، وإذا اعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ) باليهود زادت قوة بعد ولام الابتداء داخلة على اسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن العظيم الشأن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الإنجيل والتوراة أو منهما وتأخير إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليه فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم ينسخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك ، وقيل : قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلا لإدخال المسرة عليهم ، والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين واتباع كل من العامة (خاشِعِينَ لِلَّهِ) أي خاضعين له سبحانه ، وقال ابن زيد : خائفين متذللين ، وقال الحسن : الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل (يُؤْمِنُ) وجمع حملا على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولا ، وقيل : حال من ضمير إليهم وهو أقرب لفظا فقط ، وجيء بالحال تعريضا بالمنافقين الذين يؤمنون خوفا من القتل ، و (لِلَّهِ) متعلق ـ بخاشعين. وقيل : هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لأجل الله تعالى ، والأول أولى ، وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين ، والجملة في موضع الحال أيضا والمعنى لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم ، ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ


على التحريف كذلك ولو كان ملء الخافقين ، وإما لمجرد التعريض بالآخذين ومدحهم بما ذكر ليس من حيث عدم الأخذ فقط بل لتضمن ذلك إظهار ما في الآيات من الهدى وشواهد نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أُولئِكَ) أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة ، واختيار صيغة البعد لإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم والإضافة للعهد أي الأجر المختص بهم الموعود لهم بقوله سبحانه : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) [القصص : ٥٤] وقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف وفي الكلام أوجه من الإعراب فقد قالوا : إن (أُولئِكَ) مبتدأ والظرف خبره وأجرهم مرتفع بالظرف ، أو الظرف خبر مقدم ، و (أَجْرُهُمْ) مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر المبتدأ ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) نصب على الحالية من (أَجْرُهُمْ).

وقيل : متعلق به بناء على أن التقدير لهم أن يؤجروا عند ربهم ، وجوز أن يكون (أَجْرُهُمْ) مبتدأ ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبره ، «ولهم متعلق بما دل عليه الكلام من الاستقرار والثبوت لأنه في حكم الظرف ، والأوجه من هذه الأوجه هو الشائع على ألسنة المعربين (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وإنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي وحينئذ تكون الجملة استئنافا واردا على سبيل التعليل لقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أو تذييلا لبيان علة الحكم المفاد بما ذكر ، وإما كناية عن قرب الأجر الموعود فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء ، وحينئذ تكون الجملة تكميلا لما قبلها فإنه في معنى الوعد كأنه قيل : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) عن قريب ، وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته ثم لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة ـ ما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك اللئام من الآلام ـ ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى ، ويضيع بامتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضاء ، فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها ، والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر ، وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية (وَصابِرُوا) أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبرا أكثر من صبرهم ، وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشدّ فيكون أفضل ، فالعطف كعطف جبريل على الملائكة (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨](عَلَى الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨] وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه (وَرابِطُوا) أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم ، والمرابطة أيضا نوع من الصبر ، فالعطف هنا كالعطف السابق.

وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات مرابطا في سبيل الله تعالى أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمنا من الفزع» ، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من رابط يوما في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سماوات وسبع أرضين» ، وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعا «الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة».

وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مرّ اندراجا أوليا.


(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تظفروا وتفوزا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح ، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا ، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان الأول ما يتعلق به وحده ، والثاني ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة ، وقد أمر سبحانه ـ نظرا إلى الأول ـ بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر ، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها ، وأمر ـ نظرا إلى الثاني ـ بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان ، ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس ، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بدّ منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدا بها أمر سبحانه بالتقوى ، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى ، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر ، وأولى منه أن يقال : إنه تعالى أمر بالصبر العام أو لا لأنه كما في الخبر بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج.

وقال بعضهم : لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل الصبر ، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر ، ومن هنا قال الشاعر :

لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى

فما انقادت الآمال إلا لصابر

ثم إنه تعالى أمر ثانيا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه ، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب ، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها ، وبهذا تم المعجون الذي يبرئ العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة.

ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية ، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك ، فقد اخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) إلخ؟ قلت : لا قال : إما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها ، ففيهم أنزلت أي (اصْبِرُوا) على الصلوات الخمس (وَصابِرُوا) أنفسكم وهواكم (وَرابِطُوا) في مساجدكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما علمكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط».

ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له ، ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور


لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد ، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه‌السلام : «فذلكم الرباط» من قبيل زيد أسد ، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة.

وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد (اصْبِرُوا) على الجهاد (وَصابِرُوا) عدوكم (وَرابِطُوا) على دينكم ، وعن الحسن أنه قال : (اصْبِرُوا) على المصيبة (وَصابِرُوا) على الصلوات (وَرابِطُوا) في الجهاد في سبيل الله تعالى ، وعن قتادة أنه قال : (اصْبِرُوا) على طاعة الله تعالى (وَصابِرُوا) أهل الضلال (وَرابِطُوا) في سبيل الله ، وهو قريب من الأول ، والأول أولى.

هذا «ومن باب الإشارة» (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي العالم العلوي والعالم السفلي (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الظلمة والنور (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محل القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة ، وقال بعضهم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) أي قائمين باتباع أوامره (وَقُعُوداً) أي قاعدين عن زواجره ونواهيه (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال (وَيَتَفَكَّرُونَ) بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وذلك التفكر على معنيين ، الأول طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود ، والثاني جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك لمشاهدة الملك في الملك فإذا شاهدوا قالوا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) بل هو مرايا لأسمائك ومظاهر لصفاتك ، ويفصح بالمقصود قول لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

(سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن يكون في الوجود سواك (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وهي نار الاحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) وتحجبه عن الرؤية (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وأذللته بالبعد عنك (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين أشركوا ما لا وجود له في العير ولا النفير (مِنْ أَنْصارٍ) لاستيلاء التجلي القهري عليهم (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) بأسماع قلوبنا (مُنادِياً) من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن (يُنادِي لِلْإِيمانِ) العياني (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أي شاهدوا ربكم فشاهدنا ، أو (إِنَّنا سَمِعْنا) في المقام الأول (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان (فَآمَنَّا) يعنون قولهم : «بلى» حين شاهدوه هناك سبحانه (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي ذنوب صفاتنا بصفاتك (وَكَفِّرْ عَنَّا) سيئات أفعالنا برؤية أفعالك (وَتَوَفَّنا) عن ذواتنا بالموت الاختياري (مَعَ الْأَبْرارِ) وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى) ألسنة (رُسُلِكَ) بقولك : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن تحجبنا بنعمتك عنك (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لكمال رحمته (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ) القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين (أَوْ أُنْثى) النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) من غير الله تعالى عزوجل (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وهي مألوفات أنفسهم (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) بما قاسوا من المنكرين ، وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى ، ولهذا قال الجنيد قدس‌سره : جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى وقاتلوا أنفسهم في وهي أعدى أعدائهم وقتلوا بسيف الفناء (لَأُكَفِّرَنَ


عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) ثلاث وهي جنة الأفعال ، وجنة الصفات ، وجنة الذات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أنهار العلوم والتجليات (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) الجامع لجميع الصفات (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) فلا يكون بيد غيره ثواب أصلا (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي حجبوا عن التوحيد (فِي الْبِلادِ) في المقامات الدنيوية والأحوال (مَتاعٌ قَلِيلٌ) لسرعة زواله وعدم نفعه (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الحرمان (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الذي اختاروه بحسب استعدادهم (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن تجردوا كمال التجرد (لَهُمْ جَنَّاتٌ) ثلاث عوض ذلك (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) معدا لهم «وما عند الله» من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) ويحقق التوحيد الذاتي (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من علم التوحيد والاستقامة (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات (خاشِعِينَ لِلَّهِ) للتجلي الذاتي وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) تعالى وهي تجليات صفاته (ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وهي تلك الجنات (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) عن المعاصي (وَصابِرُوا) على الطاعات (وَرابِطُوا) الأرواح بالمشاهدة (وَاتَّقُوا اللهَ) من مشاهدة الأغيار (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالتجرد عن همومكم وخطراتكم ، أو «اصبروا» في مقام النفس بالمجاهدة (وَصابِرُوا) في مقام القلب مع التجليات (وَرابِطُوا) في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة واتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء (لَعَلَّكُمْ) تفوزون بالفلاح الحقيقي ، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من امتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها بمنه وكرمه.

وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله تعالى عليه وسلم كل ليلة ـ كما أخرج ذلك ابن السني وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

وأخرج الدارمي عن عثمان قال : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة ، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس ، وخبر ـ من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية أمانا على جسر جهنم ـ موضوع مختلق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد عابوا على من أورده من المفسرين ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل إنه جواد كريم رءوف رحيم ، وليكن هذا خاتمة ما أمليته من تفسير الفاتحة والزهراوين ، وأنا أرغب إلى الله تعالى بالإخلاص أن يوصلني إلى تفسير المعوذتين ، وهو الجلد الأول من روح المعاني (١) ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد الثاني وكان الفراغ منه في غرة محرم الحرام سنة ١٢٥٤ ألف ومائتين وأربعة وخمسين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين آمين.

__________________

(١) هو من الطبعة الأولى.



سورة النّساء

مدنية على الصحيح ، وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) [النساء: ٥٨]. الآية نزلت بمكة اتفاقا (١) في شأن مفتاح الكعبة ، وتعقبه العلامة السيوطي ، بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية ، أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه ، ومما يردّ عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبناؤه عليها صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة اتفاقا ، وقيل : إنها نزلت عند الهجرة ، وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون ، وعند الكوفيين ست وسبعون ، وعند الباقين خمس وسبعون ، والمختلف فيه منها آيتان : إحداهما (أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء : ٤٤] وثانيتهما (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [النساء : ١٧٣] فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط ، والشاميون يثبتون الثانية أيضا ، والباقون يقولون هما بعضا آية ، ووجه مناسبتها لآل عمران أمور ، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى ، وافتتحت هذه السورة به ، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور ، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف (٢) وقوم يسمونه بالتسبيغ ، وذلك كقول ليلى الأخيلية :

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة

تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هز القناة رواها

رواها فأرواها بشرب سجالها

دماء رجال حيث نال حشاها

ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة ، وفي هذه السورة ذكر ذيلها ، وهو قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨] فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما ، ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [آل عمران : ١٧٢] إلخ ، وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) [النساء : ١٠٤] الآية ، وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك.

__________________

(١) وذكر الطبرسي أن آية الكلالة نزلت بمكة أيضا ا ه منه.

(٢) ولا يضر في ذلك كون الخطاب الأول (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب الثاني (يا أيها الناس) كما لا يخفى ا ه منه.


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مرّ تحقيقه ، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعا حتى يعمهم الحكم خلاف ، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلا فيدخل في الخطاب العام له قطعا وكونه عبدا لا يصلح مانعا لذلك ، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا : لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر ، وأيضا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد والجمعة والعمرة والحج والتبرعات والأقارير ونحوها ، ولو كان الخطاب متناولا له للعموم لزم التخصيص ، والأصل عدمه ، والجواب عن الأول أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموما بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة ، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد ، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضا لقولهم : بصرف المنافع للسيد ، وعن الثاني بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض ، والمسافر ، والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم والصلاة والجهاد ، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقا ، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال ، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور.

وجوز بعضهم كون الخطاب عاما بحيث يندرجون فيه ، ثم قال : ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاما لهم أيضا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى ، وإن كان كونه عربيا عارضا بالنسبة إلى هذه الأمة ، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل. وعلى العلات لفظ (النَّاسُ) يشمل الذكور والإناث بلا نزاع ، وفي شمول نحو قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خلاف والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرا خلافا للحنابلة ، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن ، فنفت ذكرهن مطلقا ولو كن داخت لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي ، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر ، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول


المسلمات داخلا فيه لما حسن العطف فيقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] إلا باعتبار التأكيد ، والتأسيس خير من التأكيد ، وقال الآخرون : المعروف من أهل اللسان تغليبهم المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق ، وأيضا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة ، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة والصيام الزكاة ، وأيضا لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم ، ثم قال : أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة ، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرا فيهما وهو المطلوب ، وأجيب أما عن الأول فبأنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع ، والجمهور يقولون به ، لكنه يكون مجازا ولا يلزم أن يكون ظاهرا وفيه النزاع (١).

وأما عن الثاني فبمنع الملازمة ، نعم يلزم أن لا يشاركن في الأحكام بمثل هذه الصيغة ، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج؟ والأمر كذلك ، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلا لعدم الدليل الخارجي هناك ، وأما عن الثالث فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة ، فالحق عدم دخول الإناث ظاهرا ، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب ، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة ، ودخول الإناث في الأمر ـ بالتقوى ـ للدليل الخارجي ، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم ، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح ، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى.

وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد ـ وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام وصلة الأرحام والعدل في النكاح والإرث ونحو ذلك بالخصوص ـ بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال ، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له ، أو باعثة عليه ، داعية إليه ، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة ، أو النعمة الجسيمة ، ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقا حذرا عن العقاب العظيم ، وأن الثاني يدعو إليها وفاء بالشكر الواجب ، وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جدا ، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى ، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك ، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه‌السلام ، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد ـ وهو أبو البشر ـ وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم وآدم ، بين كل آدم ألف سنة ، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة ، ثم عمرت خمسين ألف سنة ، ثم خلق أبونا آدم عليه‌السلام ، وروي ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال : لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين ، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج ـ ونقل عن محمد بن علي الباقر ـ أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم وأكثر ، وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم

__________________

(١) فإن قيل : الأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يصار إلى المجاز إلا لدليل ، أجيب بأنه لا نزاع في أن الصيغة للرجال وحدهم حقيقة ولو كانت لهم وللنساء معا حقيقة أيضا لزم الاشتراك ، وإلا فالمجاز وقد تقرر في الأصول أن المجاز أولى من الاشتراك ا ه منه.


بأربعين ألف سنة آدم غيره ، وفي كتاب الخصائص (١) ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال : إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عزوجل عالما غيرهم ، وأنى للحجة عليهم ، ولعل هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابرسا وجابلقا إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه ، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضا غير بعيد ، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فما لا يراه أهل السنة والجماعة ، بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد ، نعم إن آدمنا هذا عليه‌السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا يخلق أمثاله وهو حادث نوعا وشخصا خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان ، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارا كثيرة في ذلك ، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان ، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى ، الأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها.

والقول ـ بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك ـ فمما لا أرتضيه دينا ولا أختاره يقينا ، والخطاب في (رَبَّكُمُ) و (خَلَقَكُمْ) للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناء على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكا للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه‌السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا لحق الوسائط جميعا ، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وهو عطف على (خَلَقَكُمْ) داخل معه في حيز الصلة ، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول بطريق التفريع من الأصل ، والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه‌السلام والأيسر (٢) كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره ، وروى الشيخان «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج» وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك ، وزعم أن معنى منها من جنسها والآية على حد قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢] ووافقه على ذلك بعضهم مدعيا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه‌السلام كان ينكح بعضه بعضا ، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى ، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل ، أما الثاني فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التصريح به ، ومع هذا يقال عليه: إن الحور خلقن من زعفران الجنة ـ كما ورد في بعض الآثار ـ فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه ـ كما هو نص كلام الزاعم ـ فبينها وبين آدم عليه‌السلام المخلوق من تراب الدنيا بعد كليّ يكاد يكون افتراقا في الجنسية التي ربما توهمها الآية ، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه أن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب

__________________

(١) لابن بابويه ا ه منه.

(٢) وقيل : إنها خلقت من فضل طينته ونسب للباقر ا ه منه.


منه ، وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص ، وأيضا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضا.

والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه : إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالد ـ كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك ـ ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه ـ كما أنه قادر على خلق آدم من التراب ـ هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا ، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه‌السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول : بأن ذلك يجر إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه. لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي.

فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء ، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع ، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه ، وليس الإنسان بجزء واحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص ، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى.

ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل ، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر ، والخلف ـ كما في الصحاح ـ أقصر أضلاع الجنب ، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام ، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها ، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه‌السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر واختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل.

وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبئ عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة ، كأنه قيل : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) خلقها أولا (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) إلخ ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا ، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك ، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس ، ولعل ذلك لأنه لو لا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما) أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) تكرارا لقوله سبحانه : (خَلَقَكُمْ) لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة ، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها ، والناس إنما خلقوا (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) من غير مدخل للزوج ، ولا يلزم ذلك على


العطف ، وجعل المخاطب ـ بخلقكم ـ من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون (وَبَثَّ مِنْهُما) إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر ، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامّا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس ، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامّا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه ، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب. والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا.

والمعطوف متكفل ببيان ذلك ، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى ، والتلوين في (رِجالاً وَنِساءً) للتكثير ، و (كَثِيراً) نعت ل (رِجالاً) مؤكد لما أفاده التنكير ، والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد أو لرعاية صيغة فعيل ، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثا (كَثِيراً) ولهذا أفرد ، وجعله صفة حين ـ كما قيل ـ تكلف سمج ، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات ، بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا ، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره ، وقيل : ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب ، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال ، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور ، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى ، وقرئ ـ وخالق ، وباث ـ على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو ـ زيد راكب وذاهب ـ أي وهو ـ خالق وباث.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تكرير للأمر الأول وتأكيد له ، والمخاطب من بعث إليهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا كما مر ، وقيل : المخاطب هنا وهناك هم العرب ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ لأن دأبهم هذا التناشد ، وقيل : المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا وهنا العرب خاصة ، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل : اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها.

وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال ، فإن قول القائل لصاحبه: أسألك بالله ، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه ، و (تَسائَلُونَ) إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا فالمفاعلة على ظاهرها ، وإما بمعنى تسألون ـ كما قرئ به ـ وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة ـ «تتساءلون» ـ بتاءين فحذفت إحداهما للثقل ، وقرأ نافع وابن كثير وسائر أهل الكوفة (تَسائَلُونَ) بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس (وَالْأَرْحامَ) بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما ، أو على محل المجرور إن كان المحل له ، والكلام على حدّ مررت بزيد ، وعمرا ، وينصره قراءة ـ «تساءلون به وبالأرحام» وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ، ويقولون : أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم ـ كما أخرج ذلك غير واحد ـ عن مجاهد ، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى ، وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى ، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد ، والضحاك عن ابن عباس ، وابن المنذر عن عكرمة ، وحكي عن أبي جعفر


رضي الله تعالى عنه ، واختاره الفراء. والزجاج ، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها ، وقرأ حمزة بالجر ، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور ، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.

وأول من شنع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال : لا تحل القراءة بها ، وتبعه في ذلك جماعة ـ منهم ابن عطية ـ وزعم أنه يردها وجهان : أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيها أكثر من الاخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا مما يغض من الفصاحة ، والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك ، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت».

وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش. والإمام بن أعين ومحمد بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق ـ وكان صالحا ورعا ثقة في الحديث ـ من الطبقة الثالثة.

وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض ، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه ، ومنهم إمام الكوفة ـ قراءة وعربية ـ أبو الحسن الكسائي ، وهو أحد القراء السبعة الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم ـ كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر ، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم ، وقد أطال أبو حيان في البحر الكلام في الردّ عليهم ، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح ، بل الصحيح ما ذهب اليه الكوفيون من الجواز ، وورد ذلك في لسان العرب نثرا ونظما ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك ، وحديث إن ذكر الأرحام ـ حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ـ ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة ـ وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام يقتضيه بلا ريب ، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى ، فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقا منهي عنه ، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر ، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلا فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».

وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو ـ كقول القائل ـ والرحم لأفعلن كذا. ولقد فعلت كذا ، فلا يكون متعلق النهي في شيء ، والقول بأن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية ـ لا يخفى ما فيه فافهم ، وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر فقال في الخصائص : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك. رسم دار وقفت في طلله. أي رب رسم دار ، وكان رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟ بقول : خير عفاك الله تعالى ـ أي بخير ـ ويحذف الباء لدلالة الحال عليها ، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة ، وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها ، وقد مشى على ذلك أيضا الزمخشري في أحاجيه ، وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو ـ الله لأفعلن ـ وفي نحو ـ ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك ـ والحمل


على ما ثبت هو الوجه ، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو ـ اتق الله تعالى فو الله إنه مطلع عليك ـ ترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.

وقرأ ابن زيد (وَالْأَرْحامَ) بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي (وَالْأَرْحامَ) كذلك أي مما يتقى لقرينة (اتَّقُوا) أو مما يتساءل به لقرينة (تَسائَلُونَ) وقدره ابن عطية ـ أهل لأن توصل ـ وابن جني ـ مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ـ ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء ، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال : نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك ، قالت : بلى قال : فذلك لك» وأخرج البزار بإسناد حسن «الرحم حجنة (١) متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى : أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته».

وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة (٢) من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة».

والأخبار في هذا الباب كثيرة ، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي حفيظا ـ قاله مجاهد ـ فهو من رقبه بمعنى حفظه ـ كما قاله الراغب ـ وقد يفسر بالمطلع ، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه ، ومن هنا فسره ابن زيد بالعالم ، وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل ، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال ، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه ، وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي ، واليتيم ـ من الإنسان من مات أبوه ، ومن سائر الحيوانات فاقد الأم ـ من اليتم وهو الانفراد ، ومن هنا يطلق على كل شيء عز نظيره ، ومنه الدرة اليتيمة وجمع على يتامى مع أن فعيلا لا يجمع على فعالى بل على فعال ـ ككريم وكرام وفعلاء ـ ككريم وكرماء ـ وفعل كنذير ونذر ـ وفعلى ـ كمريض ومرضى ـ إما لأنه أجري مجرى الأسماء ، ولذا قلما يجري على موصوف فجمع على يتايم كأفيل (٣) وأفائل ، ثم قلب فقيل : يتامي بالكسر ، ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقبلت الياء ألفا ، وقد جاء على الأصل في قوله :

أأطلال حسن بالبراق «اليتايم»

سلام على أحجاركنّ القدايم

أو لأنه جمع أولا على يتمى ، ثم جمع يتمى على يتامى إلحاقا له بباب الآفات والأوجاع ، فإن فعيلا فيها يجمع على فعلى ، وفعلى يجمع على فعالى كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى ، ووجه الشبه ما فيه من الذل

__________________

(١) الحجنة بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون ـ صنارة المغزل التي يعلق بها الخيط ثم يفتل الغزل ا ه منه.

(٢) الشجنة ـ بسكر أوله المعجم وضمه ـ القرابة المشتبكة اشتباك العروق ا ه منه.

(٣) بوزن ـ أمير ابن المخاض فما فوقه ـ الفصيل ا ه منه.


والانكسار المؤلم ، وقيل : ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات ، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرع ـ وكذا العرف ـ خصصه بالصغار ، وحديث «لا يتم بعد احتلام» تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ.

والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك ، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها. وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر ، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء ، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة ، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من أن يكون كذلك عند النزول ، أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها ، وعدم فك الفك لأكلها ، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به ، وقيل : المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل ، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة ، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل ، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص ، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر ، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول ، وقيل : يجوز أن يراد باليتامى الصغار ، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل : وآتوهم إذا بلغوا ، وردّ بأنه قال في التلويح : إن المراد من قوله تعالى : «وآتوا اليتامى أموالهم» وقت البلوغ باعتبار ما كان ، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم ، فالورود للبالغ على كل حال.

وقال بعض المحققين : تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيما فلا بدّ من التأويل بما مر ، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مسلمة ، وقد تردد فيها الشريف في حواشيه ، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين : نسبة بين الشرط والجزاء ـ وهي التعليقية ـ وهي واقعة الآن ، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج ، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين ـ وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة ـ والمقصود الأولى ، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة ، ألا تراهم قالوا في نحو ـ عصرت هذا الخل في السنة الماضية ـ أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء ـ وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.

وقيل : المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالا أو مآلا ، ومن (الْيَتامى) ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب ، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع اليه عند بلوغه رشيدا ، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) [النساء : ٦] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم ، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد ، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك ، وايضا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى :

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) يقوي ذلك ، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره ، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية ـ وما سيأتي بعد ـ كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة ، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ


وإيناس الرشد ، ويرد على آخر الوجوه أيضا أن فيه تكلفا لا يخفى ، ولا يرد على الوجه الراجح أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت (وَآتُوا الْيَتامى) إلخ ، فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي. والواحدي عن مقاتل. والكلبي أن العمّ لما سمعها قال : أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم نعوذ بالله عزوجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر ، فقال ما قال هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) [البقرة : ١٠٨] إلخ ، وقوله سبحانه : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة : ٦١] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ : ١٦] إلخ ، وأخرى بالعكس كما في قولك : بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة ، واقتصر الدميري على الأول ، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني ، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم. وبدل طالعي نحسي بسعدي. وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧](فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) [الكهف : ٨١] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا منه ، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته ، وقوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) [البقرة : ١٨١] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء ، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده ، وهذا معنى قول الجوهري : تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل ، ومعنى التبدل الاستبدال ، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلا ، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال : أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.

والمراد ـ بالخبيث والطيب ـ إما الحرام والحلال ، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا ، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر ، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج ، وقيل : المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث ـ وهو اختزال مال اليتيم ـ بالأمر الطيب ـ وهو حفظ ذلك المال ـ وأيّا ما كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد ، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم ، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف ، ويقول : درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب ، وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل. أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق.

وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئا وأخذ جيدا من مال اليتيم بصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه ، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه ، ولا يضر تبدل لنفسه أيضا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل


اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره ، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول (١) بما لا اشعار للفظ به ، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق ، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف ، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله ، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمونة إلى أموالكم أي تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام ، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها ، وقد وقع حالا ، وقدره أبو البقاء مضافة ، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم ، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في «الذود إلى الذود إبل» ، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد ، أو مع أموالهم ، يفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها ، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها ، ويندفع السؤال بذلك.

وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها ، وليس الأول مطلقا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق ، وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله ـ على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية ـ لحصلت المبالغة ، والتخلص عن الاعتذار ، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا ، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى فالقول ـ بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو مالهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم ـ لا يخلو عن خفاء (إِنَّهُ) أي الأكل المفهوم من النهي ، وقيل : الضمير للتبدل ، وقيل : لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك (كانَ حُوباً) أي إثما ، أو ظلما وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان ، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب ، فقال : هو الإثم بلغة الحبشة ، فقال : فهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول الأعشى :

فإني وما كلفتموني من أمركم

ليعلم من أمسى أعق «وأحوبا»

وخصه بعضهم بالذنب العظيم ، وقرأ الحسن «حوبا» بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبا.

وقرئ ـ «حابا» ـ وهو أيضا مصدر كالقول والقال وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافا لبعضهم وتنوينه للتعظيم أي حوبا عظيما ، ووصف بقوله تعالى (كَبِيراً) للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة ، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفا مما أريد منه فيما تقدم ، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهم (٢) لكن لا رغبة فيهن بل في ما لهنّ

__________________

(١) قيل : وإن ذهب إلى التأويل لا محالة فالأولى أن يقال : المهزول هو الطيب ، والسمين هو الخبيث ضربه مثالا للحرام والحلال فتدبر ا ه منه.

(٢) كذا بخطه ، والخطب سهل ا ه.


ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظوا في ذلك وهذا قول الحسن ، ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية. فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه ـ والربط يقتضيه ـ و (مِنَ النِّساءِ) غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه ، والإقساط العدل والإنصاف ، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف ، وقرأ النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء فقيل : هو من قسط بمعنى جار وظلم ، ومنه (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] ولا مزيدة كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] ، وقيل : هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همزة تستعمل استعمال أقسط ، و (الْيَتامى) جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث ، والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه ، و (إِنْ) وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبا وكان الفعل واصلا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران : النصب عند سيبويه ، والجر عند الخليل ، و (ما) موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها ، أو صفتها ، وأوثرت على من ذهابا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلا ، وما تختص ـ أو تغلب ـ في غير العقلاء فيما إذا أريد الذات ، وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول : ما زيد؟ في الاستفهام ، أي أفاضل أم كريم؟ وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم.

وحكي عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل أي ـ انكحوا الطيب من النساء ـ وهو تكلف مستغنى عنه ، وقيل : إن إيثارها على (مِنَ) بناء على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روي في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين ، وفيه أنه مخل بمقام الترغيب فيهن ، و (مِنَ) بيانية ، وقيل : تبعيضية ، والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم واستطابته ، وقيل : ما حل لكم ، وروي ذلك عن عائشة ، وبه قال الحسن وابن جبير وأبو مالك ، واعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح ، ويلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال ، وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام ، والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين ، وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية.

وقال بعض المحققين : (ما طابَ لَكُمْ) ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن ، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى ، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرا لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه


من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار ، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عزق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ) إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع ، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى ، وقرأ ابن أبي عبلة ـ من طاب ـ وفي بعض المصاحف ـ كما في الدر المنثور ـ ما طيب لكم بالياء ، وفي الآية على هذا التفسير دليل الجواز نكاح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور.

وقد بسط الكلام في كتب الفقه على ولي النكاح ، ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك ، والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ ، واسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) منصوبة على الحال من فاعل (طابَ) المستتر ، أو من مرجعه ، وجوز العلامة كونها حالا من النساء على تقدير جعل (مِنَ) بيانية ، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلا من (ما) وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار ، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم ، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء ، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح ، وجوز الفراء صرفها ، والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة : أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو : إنه العدل والوصف ، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف ، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر ، والثاني قول الفراء : إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول (١) أل عليها ، والثالث ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان ، والرابع ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلا عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرا ، أو حالا ، أو وصفا وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف ، وزاد السفاقسي في علة المنع خامسا وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات ، وسادسا وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع ، وقال : زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل ، وجاء آحاد وموحد ، وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، ولم يسمع فيما زاد على ذلك ـ كما قال أبو عبيدة ـ إلا في قول الكميت :

ولم يستر يثوك حتى رميت

فوق الرجال خصالا عشارا

من هنا أعابوا (٢) على المتنبي قوله :

أحاد أم سداس في أحاد

لييلتنا المنوطة بالتناد

ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسا ، وليس بشيء ، واختير التكرار ، والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها

__________________

(١) ودعوى الزمخشري دخولها عليها لا دليل لها وكان اللائق الاستشهاد على ذلك ا ه منه.

(٢) كذا بخطه.


لبعض منهم والبعض الآخر لآخر ، ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة ـ أو ـ لفات تجويز الاختلاف في العدد بأن ينكح واحد اثنتين ، وآخر ثلاثا أو أربعا وما قيل إنه لا يلتفت إليه الذهن ـ لأنه لم يذهب إليه أحد ـ لا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول ، وادعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالا معللا ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها اثنان ولا حالها أنها ثلاثة ، وكذا لو قيل : اقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهما واثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالا من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الانقسام كأنه قيل : فانكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين (١) ، وثلثا ثلثا ، وأربعا أربعا ، واقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلا ومقسما إلى درهم درهم ، واثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وبهذا يظهر فساد ما قيل : من أنه لا فرق بين اثنين ومثنى في صحة الحالية لأن انفهام الانقسام ظاهر من الثاني دون الأول كما لا يخفى ، وأنه إنما أتي بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها وذلك بناء على أن الحال بيان لكيفية الفعل ، والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو ، وبهذا يندفع ما ذهب إليه البعض من جواز التسع تمسكا بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع ، وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه ولعل هذا مراد القطب بقوله : إنه تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمسا خمسا ، فقول بعضهم : اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصا في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هنا ، وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر ـ فإذا ذكر بعض الأعداد بعد (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد ـ كلام ليس في محله ، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث.

وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد ، وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر ، وذلك أنه قال : إن قوما شذاذا ذهبوا إلى جواز التزوج بأي عدد واحتجوا بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه : الأول أن قوله سبحانه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا ، والثاني أن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، والثالث أن الواو للجمع المطلق ـ فمثنى وثلاث ورباع ـ يفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة.

وأما الخبر فمن وجهين : الأول أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه ، فقال (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣ ، ١٥٥] وأقل مراتب الأمر الإباحة ، الثاني أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «من رغب عن سنتي فليس مني» وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من

__________________

(١) كذا بخطه أيضا. والخطب سهل ا ه.


أن يثبت أصل الجواز ، ثم قال : واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحسر على أمرين : الأول الخبر ، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «أمسك أربعا وفارق سائرهن» وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، والثاني أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع والبواقي غير جائز إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله ، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان : الأول أن الإجماع لا ينسخ به (١) فكيف يقال : إن الإجماع نسخ هذه الآية ، الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.

وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته فلا تضر في انعقاد الإجماع انتهى ، ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر ، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا.

وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا ، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام.

والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يرد عليه أن قول الإمام فيه : إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع ، كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر؟ وبتقدير عدم دلالته على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غياة الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه ، فيكون حينئذ مجملا ، وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول ، وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيف ـ بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع ـ مما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعا وثبوت «اختر منهنّ أربعا» كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان ، وكذا في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحارث الأسدي أنه قال : أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اختر منهنّ أربعا وخل سائرهنّ ففعلت» فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها أن المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات ، فالاحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم ، ولو اعتبر مثله ـ قادحا في الدليل ـ لم يبق دليل على وجه الأرض ، نعم الحديث مشكل على ما ذهب اليه الإمام الأعظم على ما نقل ابن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذ لا اختيار ، وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده.

وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي ، وإلا لا يوجد إجماع أصلا ، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي ـ وهو أحد مذاهب في المسألة ـ من أن

__________________

(١) أي عند الجمهور ا ه منه.


مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته ، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع ـ وبه قال الإمامية ـ ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام ، وشاع عنهم خلاف ذلك ، ولعله قول شاذ عندهم.

ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ولأن في تنفيذ نكاحه تعييبا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى ، وأيضا قوله تعالى بعد : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده ، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب ، وجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح ، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضا ، واختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يلغو «طاب» إذا كان بمعنى خل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور ، وقيل : للوجوب أي الاقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل النكاح فقد قال الإمام النوو : لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر ، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا : يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا : وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت ، وقال أهل الظاهر : إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء ، واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه.

وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام : قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح ، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له ، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا ، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان ، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه ، فمذهب الشافعي. وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل ، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه ، وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه : ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع ، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة.

ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه ، والإنكار على من رغب عنه ، ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم انتهى ، لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب النهر مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله ، هذا وقد قيل : في تفسير الآية الكريمة أن المراد من (النِّساءِ) اليتامى أيضا ، وأن المعنى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) في اليتامى المرباة في حجوركم (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) من يتامى قراباتكم ، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى ، وقيل : إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من


لحوق الحوب بترك الاقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم : (إِنْ خِفْتُمْ) ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه ، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه ، وقيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له : إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة ، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد.

وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله : ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) إلى قوله سبحانه : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ويفهم من كلام بعض المحققين أيضا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا ارتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء ، ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام ، أما الأول فمن حيث إن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلّا منهما جور ، وأما الثاني فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك ، ثم الظاهر من قوله سبحانه : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل : إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع إلى كذا ، وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فاحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به (١) السياق من التوسعة وبعيد (٢) عن جزالة التنزيل كما لا يخفى ، وقيل : إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول : ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهى أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ، ونسب هذا إلى ابن عباس وعكرمة ، وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله.

وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع ، وأيضا يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) كأنه لما وسع عليهم أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل فالواجب حينئذ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة ، والمراد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل

__________________

(١) ووجه إشعاره بذلك أنه أطلق قوله سبحانه : (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ثم جاء (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)كأنه بيان لما وقع إطلاقه على نوع من التقييد ا ه منه.

(٢) إذ لو كان المراد التضييق لكان التقييد من الأول أوقع فيه وأمسّ به ا ه منه.


الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى ، أو كما لم تعدلوا في حقهن فاختاروا ، أو الزموا واحدة واتركوا الجميع بالكلية ، وقرأ إبراهيم ـ وثلث وربع ـ على القصر من ـ ثلاث ورباع ، وقرأ أبو جعفر (فَواحِدَةً) بالرفع أي فالمقنع واحدة ، أو فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو فالمنكوحة واحدة.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من السراري بالغة ما بلغت كما يؤخذ من السياق ، ومقابلة الواحدة وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين ، وقد قالوا : لا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة ، وهذا بخلاف ما سيأتي بقوله سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) [النساء : ٢٥] فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وبعضهم يقدر في المعطوف عليه فانكحوا لدلالة أول الكلام عليه ، ويعطف هذا عليه على معنى اقتصروا على ما ملكت ، والكلام على حد قوله : علفتها تبنا وماء باردا وأو للتسوية وسوى في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مئونتهن وعدم وجوب القسم فيهن ، وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده ، وقرأ ابن أبي عبلة من ملكت ، وعبر بما في القراءة المشهورة ذهابا للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر ، وإسناد الملك لليمين لما أن سببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها ، وقيل : لأنه أول ما يكون بسبب الجهاد والأسر ، وذلك محتاج إلى أعمالها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر ، وقيل : إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل باليمن أيضا ، وعن بعضهم أن أعرابيا سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم؟ فقال : أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم ، وادعى ابن الفرس أن في الآية ردا على من جعل النكاح واجبا على العين لأنه تعالى خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خير بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثما ، ولا يرد هذا على من يقول : الواجب أحد الأمرين ، ويمنع الاتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر ، وزعم بعضهم أن فيها دليلا على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر.

وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته ، وادعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به ، ولا يخفى أن الإشارة ربما تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث ، وفي صحيح مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمتزوج امرأة من الأنصار : «أنظرت إليها؟ قال : لا ، قال : فاذهب وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» وهو مذهب جماهير العلماء ، وحكي عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ، ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفين ، وقال الأوزاعي : إلى مواضع اللحم.

وقال داود : إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع ، وهل يشترط رضا المرأة أم لا؟ الجمهور على عدم الاشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا ، وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة ، وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها ، واستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير


إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى ، وقال بعضهم : إن فيها إشارة أيضا إلى استحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل ، ويا ما أحيلى الزيادة إن ائتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معربا بالضم من بين سائر الحركات ، وهذا لعمري أبعد من العيوق ، وأعز من الكبريت الأحمر ، وبيض الأنوق :

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

(ذلِكَ) أي اختيار الواحدة أو التسري أو الجميع ـ وهو الأولى ـ وإليه يشير كلام ابن أبي زيد (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) والعول في الأصل الميل المحسوس يقال : عال الميزان عولا إذا مال ، ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور ، ومنه عال الحاكم إذا جار ، والمراد هاهنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما ، من أن لا تميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول ، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر ، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين ، وجوز بعضهم كون الإشارة إلى ثلاثة أمور : التقليل من الأزواج واختيار الواحدة والتسري ، أي هذه الأمور الثلاثة أدنى من جميع ما عداها ، والأول أظهر.

وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) بأن لا تكثر عيالكم وقد ذكر الشهاب أنه خطأه وحاشاه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال لمن كثرت عياله : أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول.

وأجيب بأن الإمام الشافعي سلك في هذا التفسير سبيل الكناية فقد جعل رضي الله تعالى عنه الفعل في الآية من عال الرجل عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ، ومن كثرت عياله لزمه أن يعولهم فاستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه وهو كثرة العيال ، واعترض بأن عال بمعنى مان وأنفق لا دلالة له على كثرة المئونة حتى يكنى به عن كثرة العيال ، وأجيب بأن الراغب ذكر أن أصل معنى العول الثقل يقال : عاله أي تحمل ثقل مئونته ، والثقل إنما يكون في كثير الإنفاق لا في قليله فيراد من (أَلَّا تَعُولُوا) كثرة الإنفاق بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المئونة والعيال من أصله إذ من تزوج واحدة كان عائلا وعليه مئونة فالكلام كالصريح فيه واستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار ، وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين ، وقراءة طاوس ـ أن لا تعيلوا ـ مؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلا باللغات والآثار ، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد :

وإن الموت يأخذ كل حي

بلا شك وإن أمشى وعالا

أي وإن كثرت ماشيته وعياله ، وأما ما قيل : إن عال بمعنى كثرت عياله يأتي وبمعنى جار واوي فليست التخطئة في استعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين ، فرد أيضا بما اقتضاه كلام البعض من أن عال له معان : مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز ، يقال : عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه ويعيل يعول فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني ، تم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كما أشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في اختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر ، وأما عدم كثرتهن في التسري فباعتبار أن ذلك صادق على عدمهنّ بالكلية.


ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في اختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضا ، وأما عدم كثرتهم في التسري فباعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء بمضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة على تقيد المرء بمضاجعتهن وإباء العزل عنهن وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزا شرعا بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي ، وفي بعض شروح الكشاف ما يدل على أن في ذلك خلافا عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) بأن لا تفتقروا وقد قدمنا أن عال يجيء بمعنى افتقر ، ومن وروده كذلك قوله :

فما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنى متى «يعيل»

إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوي كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت ، وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل (وَآتُوا النِّساءَ) أي أعطوا النساء اللاتي أمر بنكاحهن (صَدُقاتِهِنَ) جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال ، وهي كالصداق بمعنى المهر ، وقرئ (صَدُقاتِهِنَ) بفتح الصاد وسكون الدال ، وأصلها بضم الدال فخففت بالتسكين ، و (صَدُقاتِهِنَ) بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة ، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد ، وأصله صدقة بضم الصاد وسكون الدال فضمت الدال اتباعا لضم الأول كما يقال : ظلمة وظلمة (نِحْلَةً) أي فريضة قاله ابن عباس وابن زيد وابن جريج وقتادة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهنّ حال كونها فريضة من الله تعالى لهنّ.

وقال الزجاج وابن خالويه : تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهنّ ديانة وشرعة ، وقال الكلبي : هبة وعطية من الله وتفضلا منه تعالى عليهن فانتصابها على الحالية من الصدقات أيضا ، وقيل : عطية من الأزواج لهنّ فانتصابها على المصدر ، أو على الحالية من ضمير آتوا أو من النساء أو من صدقاتهنّ.

واعترض بأن الحال قيد للعامل ليلزم هنا كون الإيتاء قيدا للإيتاء والشيء لا يكون قيدا لنفسه ، وأجيب بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه ، وهو الإيتاء عن طيب نفس ، فالمعنى أعطوهنّ صدقاتهن طيبي النفوس بالإعطاء ، أو معاطاة عن طيب نفس ، وعليه فالمصدر مبين للنوع «فإن قلت» : إن النحلة أخذ في مفهومها أيضا عدم العوض فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه ، وقيل : إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ) [القصص : ٢٧] إلخ ، ثم نسخ فصار ذلك عطية اقتطعت لهنّ فسمي نحلة ، وأيد ـ غير واحد ـ قول الكلبي : بأن ما وضع له لفظ النحلة هو العطية من غير عوض كما ذهب إليه جماعة ، منهم الرماني ، وجعل من ذلك النحلة للديانة لأنها كالنحلة التي هي عطية من الله تعالى والنحل للدبر لما يعطي من العسل ، والناحل للمهزول لأنه يأخذ لحمه حالا بعد حال كأنه المعطية بلا عوض ، والمنحول من الشعر لأنه نحلة الشاعر ما ليس له. وحينئذ فمن فسر النحلة بالفريضة نظر إلى أن هذه العطية فريضة ، والخطاب على ما هو المتبادر للأزواج وإليه ذهب ابن عباس وجماعة ، واختاره الطبري والجبائي وغيرهما قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني؟ فتقول : نعم ، فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور ، وقيل : الخطاب لأولياء النساء فقد أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج أيما أخذ صداقها دونها فنهاهم الله تعالى عن ذلك ونزلت (وَآتُوا النِّساءَ) إلخ ، وروي ذلك الجارود من الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه ، وهذه عادة كثير من العرب اليوم ، وهو حرام كأكل الأزواج شيئا من مهور النساء بغير رضاهنّ (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) الضمير


للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه كثيرا ما يشار به إلى المتعدد كقوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) [آل عمران : ١٥] بعد ذكر الشهوات المعدودة ، وقد روي عن أبي عبيدة أنه قال : قلت لرؤبة في قوله :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

إن أردت الخطوط : فقل كأنها ، وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما ، فقال : أردت كأن ذلك ويلك ، أو للصداق الواقع موقعه (صَدُقاتِهِنَ) كأنه قيل : وآتوا النساء صداقهن والحمل على المعنى كثير ، ومنه قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] حيث عطف على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه ، أو للصداق الذي في ضمن الجمع لأن المعنى آتوا كل واحدة من النساء صداقا ، وقيل : الضمير عائد إلى الإيتاء ، واعترض بأنه إنما يستقيم إذا أريد به المأتي ، ورجوع ضمير إلى مصدر مفهوم ، ثم تأويل ذلك المصدر بمعنى المفعول لا يخلو عن بعد ، واللام متعلقة بالفعل وكذا عن بتضمينه معنى التجافي والتباعد ، وإلا فأصله أن يتعدى لمثل ذلك بالباء كقوله : * وما كاد نفسا بالفراق تطيب* ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق ، وفيه بعث لهنّ على تقليل الموهوب حتى نقل (١) عن الليث أنه لا يجوز تبرعهن إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأول هبة والثاني إبراء ، ولذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف (نَفْساً) تمييز لبيان الجنس ولذا وحد ، وتوضيح ذلك على ما ذكره بعض المحققين أن التمييز ـ كما قاله النحاة ـ إن اتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالا كالخبر والصفة والحال ، وإلا فإن كان مفردا غير متعدد وجب إفراده نحو ـ كرم بنو فلان أبا ـ إذا المراد أن أصلهم واحد ، متصف بالكرم فإن تعدد وألبس وجب خلفه بظاهر نحو ـ كرم الزيدون آباء إذا أريد أن لكل منهم أبا كريما إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد ، والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران ، ومصحح الإفراد عدم الإلباس كما هنا لأنه لا يتوهم أن لهن نفسا واحدة ومرجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير منه ، وهو اسم جنس والغرض هنا بيان الجنس ، والواحد يدل عليه كقولك : عشرون درهما والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم ، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس إيذانا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة حيث جعل ذلك مبتدأ وركنا من الكلام لا فضلة كما في التركيب المفروض (فَكُلُوهُ) أي فكلوا ذلك الشيء الذي طابت لكم عنه نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا ، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية.

(هَنِيئاً مَرِيئاً) صفتان من ـ هنؤ الطعام يهنؤ هناءة. ومرؤ يمرؤ مراءة ـ إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا.

وفي الصحاح نقلا عن الأخفش يقال : هنؤ وهنئ ومرؤ ومرئ ، كما يقال : فقه وفقه ـ بكسر القاف وضمها ـ ويقال : هنأني الطعام يهنئني ويهنأني ولا نظير له في المهموز هنأ وهنأ ، وتقول : هنئت الطعام أي تهنأت به وكذا يقال : مرأني الطعام يمرأ مرءا ، وقال بعضهم : أمرأني ، وقال الفراء : يقال : هنأني الطعام ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا : أمرأني ، وقيل الهنيء الذي يلذه الآكل ، والمريء ما تحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه الذي هو المريء كأمير ـ وهو رأس المعدة ، والكرش اللاصق بالحلقوم سمي به لمرور الطعام فيه أي انسياغه ، وانتصابهما ـ كما قال الزمخشري ـ على أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا ووصف المصدر بهما كما قال السعد : على الإسناد

__________________

(١) وعن الأوزاعي ـ كما في الكشاف ـ لا يجوز تبرعها ما لم تلد. أو تقم في بيت زوجها سنة ا ه منه.


المجازي إذ الهنيء حقيقة هو المأكول أو على أنهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنا مرأ ، وأورد على ذلك مع أن الدعاء لا يكون من الله تعالى حتى أولوه أنه تحريف لكلام النحاة ومخالفة لهم ، فإنهم يجعلون انتصاب هنيئا على الحال ، ومريئا إما على الحال ، وإما على الوصف ، ويدل على فساد ما خرّجه الزمخشري ـ وصحة قول النحاة ـ ارتفاع الأسماء الظاهرة بعدا هنيئا مرئيا ولو كانا منتصبين انتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز أن يقال : في سقيا لك ورعيا سقيا الله تعالى لك ورعيا الله لك ، وإن كان ذلك جائزا في فعله ، والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول كثير :

«هنيئا مريئا» غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

فإن (ما) مرفوعة بما تقدم من هنيئا أو مريئا على طريق الإعمال ، وجاز الإعمال في هذه المسألة ، وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئا في الغالب (١) لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا فصارا كأنهما مرتبطان لذلك ورد بأن سيبويه قال : هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه ، وفيه أنه ليس بنص فيما ذهب إليه الزمخشري لاحتمال أنه أراد أنهما صفتان منصوبان على الحالية ، والعامل فيهما فعل محذوف يدل الكلام عليه كالمصادر المدعو بها في أنها معمولة لفعل محذوف يدل الكلام عليه ، ويؤيد ذلك أنه قال بعد ذلك كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا فإن هذا مما يقال : على تقدير إقامتهما مقام المصدر ، ومن هنا قال السفاقسي : إن مذهب سيبويه والجماعة أنهما حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبا لقيامهما مقامه كقولك : أقائما وقد قعد الناس ، واعترض بهذا على ما تقدم من احتمال جعلهما حالا من الضمير المنصوب في (فَكُلُوهُ) إذ عليه يكونان من جملة أخرى لا تعلق لهما ـ بكلوا ـ من حيث الإعراب*

واعترض أيضا على الاستدلال بالبيت على رفع الظاهر بهما بأنه لا يتم لجواز أن تكون (ما) مرفوعة بالابتداء ولعزة خبره ، أو مرفوعة بفعل مقدر ، وكيفما كان الأمر يكون قوله سبحانه ذلك عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة ، وفي كتاب العياشي من الإمامية مرفوعا إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إن في بطني وجعا فقال : ألك زوجة؟ قال : نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) [ق : ٩] وقال تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل : ٦٩] وقال عز شأنه : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء الله تعالى ففعل الرجل ذلك فشفي ، وأخرج عبد بن حميد وغيره من أصحابنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ما يقرب من هذا بلفظ إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها فليشتر بها عسلا وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيئا مرئيا وشفاء ومباركا*

وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن أناسا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه الى امرأته فنزلت هذه الآية ، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس وقلما يتحقق ولهذا كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى قضاته أن النساء تعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها*

__________________

(١) ومن غير الغالب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الاستسقاء : «اسقنا غيثا مريئا» ا ه منه.


وحكى الشعبي أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح : ردها عليها فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه ، وعنه ولا أقيلها وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئا للزوج ليس لها الرجوع فيه بل ذكر ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١١)

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح ، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا إذ الخطاب ـ كما يدل عليه كلام عكرمة ـ للأولياء ، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من (السُّفَهاءَ) اليتامى ، ومن (أَمْوالَكُمُ) أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين ـ تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي ـ مبالغة في حملهم على المحافظة عليها ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم ، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) حيث غير عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء ، ومفعول جعل الأول محذوف وهو ضمير الأموال ، والمراد من


القيام ما به القيام والتعيش ، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل ، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولا ، وهذا حالا منه ، وقيل : إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرا إلى كونها تحت ولايتهم.

واعترض بأنه وإن كان صحيحا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله :

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة

سهيل أذاعت غزالها في القرائب

إلا أنه غير مصحح لاتصاف الأموال بما بعدها من الصفة ، وقيل : إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك ، ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال ، واعترض بأن ذلك بمعزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والواحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذا لا وجه لاعتبارها أصلا ، وروي أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة ، وقيل له : كيف كانت أموالهم أموالنا؟ فقال : إذ كنتم وارثين لهم ، وفيه احتمالان : أحدهما أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولا في توجيه الإضافة ، وثانيهما أن ذلك من مجاز الأول ، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه ، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم.

وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في ردّ الأموال إليهم ، فاقتضى ذلك أن يقال : أموالهم ، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى ، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر ، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفا ، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب ، وأصل السفه الخفة والحركة ، يقال : تسفهت الريح الشجر أي مالت به ، قال ذو الرمة :

جرين كما اهتزت رماح «تسفهت»

أعاليها مر الرياح النواسم

وقال أيضا :

على ظهر مقلات «سفيه» جديلها*

يعني خفيف زمامها ، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطا لهذا الحكم ، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى؟ وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان ، والخطاب لكل أحد كائنا من كان ، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء ، وقيل : إن المراد بهم النساء خاصة ، وروي عن مجاهد وابن عمر ، وروي (١) عن أنس بن مالك أنه قال : «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شر قال :

__________________

(١) ذكر ذلك الطبرسي. ولي في صحته شك ا ه منه.


أي شيء قلت فيكن؟ قالت : سميتنا السفهاء فقال : الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه ، قالت : وسميتنا النواقص ، قال : كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها ، ثم قال : أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمتشحط في دمه في سبيل الله تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت السوداء : يا له من فضل لو لا ما يتبعه من الشرط».

وقيل : إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير ، وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه ، وجعل الخطاب عاما أيضا للأولياء وسائر الناس والإضافة في (أَمْوالَكُمُ) لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف ، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة ، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطرادا وكون ذلك مخلا بجزالة النظم الكريم محل تأمل ، وقرأ نافع وابن عامر «قيما» بغير ألف ، وفيه ـ كما قال أبو البقاء ـ ثلاثة أوجه : أحدها أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياء حملا على قيام ، وعلى اعتلالها في الفعل ، والثاني أنها جمع قيمة ـ كديمة وديم ـ والمعنى أن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها ، وقال أبو علي : هذا لا يصح لأنه قد قرئ في قوله تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [الأنعام : ١٦١] وقوله سبحانه : (الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً) [المائدة : ٩٧] ولا يصح معنى القيمة فيهما.

والثالث أن يكون الأصل قياما فحذفت الألف كما حذفت في خيم ، وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذا وعياذا ، وقرأ ابن عمر ـ قواما ـ بكسر القاف وبواو وألف ، وفيه وجهان : الأول أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل ، والثاني أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر ، وقرئ كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض ، وقرئ بفتح القاف وواو وألف ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام ، وثانيهما : أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى يقال : جارية حسنة القوام والقوام والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم ، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن أحتاج إلى الناس ، وقال عبد الله بن عباس : الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك ، وقال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال ، وقيل لأبي الزناد : لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال : هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها ، وفي منثور الحكم من استغنى كرم على أهله ، وفيه أيضا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة. وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه ، وقال أبو العتاهية :

أجلك قوم حين صرت إلى الغنى

وكل غنى في العيون جليل

إذا مالت الدنيا على المرء رغبت

اليه ومال الناس حيث يميل

وليس الغنى إلا غنى زين الفتى

عشية يقرى أو غداة ينيل

وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر ، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال ، ولشيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين :


قالوا اغتنى ناس وإنا نرى

عنك وأنت العلم المال مال

قلت غنى النفس كمال الغنى

والفقر كل الفقر فقد الكمال

«وله أيضا» :

قالوا حوى المال رجال وما

على كمال نلت هذا المنال

فقلت حازوا بعض أجزائه

وإنني حزت جميع الكمال

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الإنفاق ، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة ، ولو قيل : منها كان الإنفاق من نفس المال ، وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي كلاما تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك ، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة ، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظا ، وقال الزجاج : علموهم ـ مع إطعامكم وكسوتكم إياهم ـ أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ، وقال القفال : إن كان صبيا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه ، وإن كان سفيها وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإتلاف فقر واحتياج.

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له : عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء ، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل معروف ، وكل ما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا منكر ـ قاله غير واحد ـ وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي ـ كما قيل ـ إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له ، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع ، وإنما الخلاف ـ فيما يتعلق به المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا ـ هل هو مأخذه للشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول (وَابْتَلُوا الْيَتامى) شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق ، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء ـ قاله شيخ الإسلام ـ وهو ظاهر على تقدير أن يراد السفهاء المبذرين (١) بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقا ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مر ففيه نوع خفاء ، وقيل : إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورا على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء ، والابتلاء الاختبار أي ـ واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم ـ والاقتصار على هذا الاهتداء رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، والشافعي رحمه‌الله تعالى يعتب مع هذا أيضا الصلاح في الدين ، إلى ذلك ذهب ابن جبير ، ونسب إلى ابن عباس ، والحسن.

واتفق الإمامان رضي الله تعالى عنهما على أن هذا الاختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية ، وقال الإمام مالك : إنه بعد البلوغ ، وفرع الإمام الأعظم على كون الاختيار قبل أن تصرفات العاقل المميز بإذن

__________________

(١) قوله : «المبذرين» كذا بخط المؤلف ا ه مصححه.


الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا ، وقال الشافعي : الاختيار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيم ـ وهو موقوف على الشرطين ـ وهما إنما يتحققان بعد ، بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال ، فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام ، أو بالسن ـ وهو خمس عشرة سنة ـ عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد ـ وهي رواية عن أبي حنيفة ـ وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها ، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود ـ ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف ، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عرة سنة ، وله في ذلك قوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام : ١٥٢] وأشدّ الصبي ثماني عشرة سنة ـ هكذا قاله ابن عباس ـ وتابعه القتبي ، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة ، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة ، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة ، وقيل : فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.

وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلا على البلوغ في المشركين خاصة ، وشنع ابن حزم الضال عليه ، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منا أو مال واسترقاق. أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك ، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحيته لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة ، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي أحسستم ـ قاله مجاهد ـ وأصل معنى الاستئناس ـ كما قال الشهاب ـ النظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به ، ثم عم في كلامهم قال الشاعر :

«آنست» نبأة وأفزعها الق

ناص عصرا وقد دنا الإمساء

ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا ، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها ، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي ، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة ، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس ، وقيل : إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير ، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي :

خلا أن العتاق من المطايا

أحسن به فهن إليه شوس

(مِنْهُمْ رُشْداً) أي اهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها ، وقيل : صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم ، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة ، وقرئ رشدا بفتحتين ، ورشدا بضمتين ، وهما بمعنى رشدا ، وقيل : الرشد ، بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية ، وبالفتح في الأخروية لا غير ، والراشد والرشيد يقال فيهما (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ


أَمْوالَهُمْ) أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء ، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله :

سريت بهم حتى تكل مطيهم

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

وتسمى ابتدائية في ذلك ، ولا يذهب منها معنى الغاية كما نصوا عليه في عامة كتب النحو ، وذكره الكثير من الأصوليين خلافا لمن وهم فيه ، وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للابتلاء ، وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كما حققه غير واحد من المعربين ، وبيان ذلك أنه ذكر في شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك : إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك فأحسنت إليك جواب إن جئتني ، واستغنى به عن جواب إن وعدتك ، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمنزلة الحال ، وكأنه قيل : إن جئتني في حال وعدي لك ، والصحيح في هذه المسألة أن الجواب للأول ، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه فإذا قلت : إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر ، فأنت حرّ جواب إن دخلت ، وإن دخلت وجوابه دليل جواب إن كلمت ، وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء ، والدليل على الجواب جواب في المعنى ، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل : إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول ، وهو مذهب الشافعي ، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف ، وليس مذهب الشافعي فقط والسماع يشهد له قال :

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منا معاقد عز زانها كرم

وعليه فصحاء المولدين ، وقال بعض الفقهاء : الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني ، والشرط الثاني وجوابه جواب الأول فعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء ، وقال بعضهم : إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عاطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو ـ إن جئتني ، أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك ـ وإن كان بالواو فالجواب لهما ، وإن كان بالفاء فالجواب للثاني ، وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وما نحن فيه من المقرون بالفاء وهي رابطة للجواب كالفاء الثانية وما خرجناه عليه هو الذي ارتضاه جماعة منهم الزمخشري ومذهب الزجاج. وبعض النحاة والمئونة عليه أقل أن حتى الداخلة على هذه الجملة حرف جر ، وإذا متمحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط ، والعامل فيها على التقدير الأول ما يتلخص من معنى جوابها والمعنى (١)(وَابْتَلُوا الْيَتامى) إلى وقت بلوغهم فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وعبر في البلوغ بإذا وفي الإيناس بإن للفرق بينهما ظهورا وخفاء وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد ، وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين ، وبه قال مجاهد ، فقد أخرج ابن المنذر ، وغيره عنه أنه قال : لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد ، ونسب إلى الشعبي ، وقال الإمام الأعظم : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث ـ يدفع إليه ماله ، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه لرجاء غالبا فلا معنى

__________________

(١) تلخيص للمعنى وإظهار لكون المقصود الجزاء أعني الدفع وأن استحقاقهم الدفع لا يتخلف عن البلوغ البتة عند تحقق الشرط كذا في الكشف ا ه منه.


للحجر بعده وفي الكافي وللإمام الأعظم قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه ، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه ، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين.

وقال أهل الطباع : من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ أشده ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر ، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.

وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناء على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع ، وقد مر الكلام في ذلك ، واعترض على قوله : على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيا ـ كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه ، واستدل عليه بما استدل ـ كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد ـ وهو مذهب الشافعي ، وقول الإمامين ـ فلم يصح أن يقال : إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطا للدفع في الآية ما ذا ـ وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة ـ وأيضا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لا بدّ وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع ، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول فقد قال الفخر : لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) فيجب أن يكون المراد فإن آنستم رشدا في ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض ، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان ، ثم قال : والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة ـ كيوسف الأوالي وغيره ـ ولا يخفى أن المسألة من الفروع ، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.

ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم ، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده ، نظير ذلك


من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا ، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها ـ كما تقدم ـ مدة معتبرة في تغير الأحوال ، والعشر مثلا وإن كانت كذلك كما يشير إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبا ، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع ، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه ، ويؤيد مذهبه أيضا قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر ، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم ، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.

والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح ، وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال : أسرف يسرف إسرافا ، وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلا ، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه ، وأصلها كما قيل : من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورا ، والبدرة لامتلائها بالمال ، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا اليه ، وقيل : إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على ـ ابتلوا ـ لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله ، و (يَكْبَرُوا) بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن ، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف ، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى ، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى ، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف ، وفي المختار يقال : عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف ، والمرأة عفة وعفيفة ، وأعفه الله تعالى ، واستعف عن المسألة أي عف ، وتعفف تكلف العفة ، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى (وَمَنْ كانَ) من الأولياء والأوصياء (فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة.

وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال : يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر ، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله ، وهل يعد ذلك أجرة أم لا؟ قولان ، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام ، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم. وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض ، وهذا هو الأكل بالمعروف ، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت ، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ. وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً)


الآية نسختها (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] إلخ ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله ، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد ـ وهو مردود ـ لأن قوله سبحانه : (فَلْيَسْتَعْفِفْ) لا يعطي معنى ذلك ، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم (فَإِذا دَفَعْتُمْ) أيها الأولياء الأوصياء (إِلَيْهِمْ) أي اليتامى بعد رعاية ما ذكر لكم (أَمْوالَهُمْ) التي تحت أيديكم ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاهتمام به (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا ، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب ، واستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي شهيدا قاله السدي ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة ، وقيل : إن المعنى (وَكَفى) به تعالى محاسبا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم ، ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده ، وفي فاعل (كَفى) كما قال أبو البقاء : وجهان ، أحدهما أنه الاسم الجليل ، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر ، فالتقدير اكتفوا بالله تعالى ، والثاني أن الفاعل مضمر والتقدير (كَفى) الاكتفاء بالله تعالى ، فبالله على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به ، و (حَسِيباً) حال ، وقيل : تمييز ، (وَكَفى) متعدية إلى مفعول واحد عند السمين ، والتقدير وكفاكم الله حسيبا ، وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير ، وكفاكم الله شركم ، ونحو ذلك.

هذا «ومن باب الإشارة» (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي احذروه من المخالفات والنظر إلى الأغيار والزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم ، وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين ابن الفارض قدس‌سره بقوله على لسان تلك الحقيقة :

وإني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وهي الطبيعة أو النفس الحيوانية الناشئة منها ، وقد خلقت من الجهة التي تلي عالم الكون وهو الضلع الأيسر المشار إليه في الخبر ، وقد خصت بذلك لأنها أضعف من الجهة التي تلي الحق (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً) أي كاملين يميلون إلى أبيهم (وَنِساءً) ناقصين يميلون إلى أمهم (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) فلا تثبتوا لأنفسكم وجودا مع وجوده لأنه الذي أظهر تعيناتكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا واتقوا الأرحام أي اجتنبوا مخالفة أوليائي وعدم محبتهم فإن من وصلهم وصلته ومن قطعهم قطعته فالأرحام الحقيقية هي قرابة المبادئ العالية (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ناظرا إلى قلوبكم مطلعا على ما فيها فإذا رأى فيها الميل إلى السوي وسوء الظن بأهل حضرته ارتحلت مطايا أنواره منها فبقيت بلاقع تتجاوب في أرجائها اليوم (وَآتُوا الْيَتامى) وهم يتامى القوى الروحانية المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم (أَمْوالَهُمْ) وهي حقوقهم من الكمالات (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) بأن تعطوا الطيب من الصفات وتذيلوه وتأخذوه بدله الخبيث منها وتتصفوا به (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) بأن تخلطوا الحق بالباطل (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) أي حجابا عظيما (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أي تعدلوا في تربية يتامى القوى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لتقل شهواتكم وتحفظوا فروجكم فتستعينوا بذلك على التربية لما يحصل لكم من التزكية عن الفاحشة (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا)


بين النساء فتقعوا في نحو ما هربتم منه (فَواحِدَةً) تكفيكم في تحصيل غرضكم (١)(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مهورهن (نِحْلَةً) عطية من الله وفضلا ، وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم ، وذلك من جملة ما يربى به القوى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي غذوهم بشيء منها (وَاكْسُوهُمْ) أي حلوهم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم (وَابْتَلُوا الْيَتامى) أي اختبروهم ، ولعله إشارة إلى اختبار الناقصين من السائرين (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) وصلحوا للإرشاد والتربية (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) أي استقامة في الطريق وعدم تلون (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار.

والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على أيديهم (وَلا تَأْكُلُوها) أي تنتفعوا بتلك الأموال دونهم (إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) بالتصدي للإرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة (وَمَنْ كانَ) منكم (غَنِيًّا) بالله لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلا (فَلْيَسْتَعْفِفْ) عما للمريد (وَمَنْ كانَ فَقِيراً) لا يتحمل الضرورة (فَلْيَأْكُلْ) أي فلينتفع بما للمريد (بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما كان بقدر الضرورة (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) الله تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث ، والمراد من الرجال الأولاد الذكور ، أو الذكور أعم من أن يكون كبارا أو صغارا ، ومن الأقربين الموروثون ، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة ، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين ، وذكر الولدان مع دخولهما أيضا اعتناء بشأنهما ، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة ، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد. وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى ، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة ، و ـ من ـ في «مما» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن (مِمَّا تَرَكَ) وجوز تعلقه بنصيب.

(وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) المراد من النساء البنات مطلقا ، أو الإناث كذلك ، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للاعتناء ـ كما قال شيخ الإسلام ـ بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث ، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة ، وللرد عليهم نزلت هذه الآية ـ كما قال ابن جبير وغيره ـ وروي أن أوس بن ثابت ، وقيل : أوس بن مالك ، وقيل : ثابت بن قيس ، وقيل : أوس بن الصامت ـ وهو خطأ ـ لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك ابنتين وابنا صغيرا ، وزوجته أم كجة ، وقيل : بنت كجة ، وقيل : أم كحلة ، وقيل : أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد ، أو سويد وعرفطة ، أو قتادة وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما : تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا

__________________

(١) قوله : (وَآتُوا) إلخ سقط من خط المؤلف قبلها (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إلخ ا ه مصححه.


فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما أدري ما أقول؟ فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ابني العم فقال : لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله : (عَلِيماً) ثم نزل (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء : ١١] فدعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئا» ، وفي بعض طرقه ـ أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزوجة الثمن ، والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.

وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب ، ومن عمم الرجال والنساء ، وقال : إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه ، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال : إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقادر المستحق مما سيأتي من الآيات ، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى ، واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا : لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ) إلخ غاية ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها ، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل ، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا رده على أتم وجه.

(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل ، ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من ـ من من ـ واتحاد اللفظ في البدل غير معهود.

وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في (تَرَكَ) أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل ، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا ، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال ، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق ، وتقديم القليل على الكثير من باب (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩](نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد ، ونقل عن بعضهم أنه مصدر ، وإما على الحالية من الضمير المستتر في (قَلَ) و (كَثُرَ) أو في الجار والمجرور الواقع صفة ، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب ، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه ، وقيل : هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا ، وقيل : منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه ، والفرض ـ كالضرب ـ التوقيت ومنه (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) [البقرة : ١٩٧] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدودا ، ويستعمل بمعنى القطع ، منه قوله تعالى : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ١١٨] أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح ، فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية ، وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيبا أوجبه الله تعالى لهم.


وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي ، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهو آحاد ، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر ، وذهب الشافعية إلى ترادفهما ، واحتج كل لمدعاه بما احتج به ، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد ، وقال بعض المحققين : لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي ـ كحكم الكتاب ـ وما ثبت بدليل ظني ـ كحكم خبر الواحد في الشرع ـ فإن جاحد الأول كافر دون الثاني ، وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني ، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني ، وهذا مجرد اصطلاح ، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما ، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط ، فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا ، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول : لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني ، وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي ، ألا ترى أن قولهم : الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع ، وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت ، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب ، ثم استعمال الفرض ـ فيما ثبت بظني ، والواجب فيما ثبت بقطعي ـ شائع مستفيض كقولهم : الوتر فرض ، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك ، ويسمى فرضا عمليا ، وكقولهم : الصلاة واجبة والزكاة واجبة ، ونحو ذلك ، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون ، والمفروض ما علم بدليل قاطع ، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق ، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان.

واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به ، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام ، وقيل : قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع ، وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني (أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام ، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) من الأجانب (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي أعطوهم شيئا من المال ، أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة ، وقيل : الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم ، وقيل : أمر وجوب ، واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ).

وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون ، ومن (الْيَتامى وَالْمَساكِينُ) غير الوارثين وأن قوله سبحانه : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) راجع إلى الأولين ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) راجع للآخرين وهو بعيد جدا ، والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين ، والمراد من القول المعروف أن


يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم ، وقوله سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) فيه أقوال : أحدها أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية : يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم (إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى : (لِلرِّجالِ) إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم ، وقيل في وجه الارتباط : إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم ، وقيل : إن الآية مرتبطة بقوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) ، وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.

وروي عن ابن عباس أيضا ما يؤيده ، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية : يعني الرجل يحضره الموت فيقال له : تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين ، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس ، أو الربع ، يقول : أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف ـ يعني صغار ـ لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك ، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة ، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر ، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا ، وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم ، ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون : إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث ، وورد في الخبر ما يؤيده ، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى. وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف ، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به ، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء ، والورثة بأمر مرضى المؤمنين ، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل : إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك ، وأبعد من ذلك القول : بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد. ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا : إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع.

وذهب الأجهوري وغيره إلى أن (لَوْ) بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال ، وأوجبوا حمل (تَرَكُوا) على المشارفة ليصح وقوع (خافُوا) جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع


أولادهم ، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم ، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم ، أخرج ابن جرير عن الشيباني قال : كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانئ بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى ، ثم قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت : بلى فتلا (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) الآية ، وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن (مِنْ خَلْفِهِمْ) ظرف لتركوا ، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة ، وجوز أن يكون حالا من (ذُرِّيَّةً) و (ضِعافاً) كما قال أبو البقاء : يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة ، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار ، وكذلك «خافوا» يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت ؛ وقرئ ـ «ضعفاء» «وضعافى» و «ضعافى» ، نحو سكارى وسكارى (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدإ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة (وَلْيَقُولُوا) لليتامى ، أو للمريض ، أو لحاضري القسمة ، أو ليقولوا في الوصية (قَوْلاً سَدِيداً) فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال ، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله ، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة ، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته ، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث ، والسديد ـ على ما قال الطبرسي ـ المصيب العدل الموافق للشرع. وقيل : ما لا خلل فيه ، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديدا ، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد ، وأمر سديد وأسد أي قاصد ، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب ، وكذلك السدد مقصور منه ، وأما السداد بالكسر فالبلغة ، وما يسد به ، ومنه قولهم : فيه سداد من عوز ـ قاله غير واحد ـ وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون : سداد من عوز فيفتحون السين ـ وهو لحن ـ والصواب الكسر ، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد ، فقال : يقال سداد من عوز وسداد ، وكذا حكاه ابن قتيبة في أدب الكاتب ؛ وكذا في الصحاح إلا أنه زاد والكسر أفصح ، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير ، وأنشد قول العرجي :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة «وسداد» ثغر

فليحفظ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) استئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي و (ظُلْماً) إما حال أي ظالمين ، أو مفعول لأجله وقيل : منصوب على المصدرية أي أكل ظلم على معنى أكلا على وجهه ، وقيل : على التمييز وإنما علق الوعيد على الأكل بذلك لأنه قد يأكل مال اليتيم على وجه الاستحقاق كالأجرة والقرض مثلا فلا يكون ظلما ، ولا الآكل ظالما. وقيل : ذكر الظلم للتأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما ومن أخذ مال اليتيم قرضا أو أجرة فقد أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم. وفيه منع ظاهر. (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي ملء بطونهم ، وشاع هذا التعبير في ذلك ، وكأنه مبني على أن حقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف عن المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن ، وفي بعض البطن دونه ، وهو المراد في قوله :


كلوا في «بعض بطنكم» تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

ولا ينافي هذا قول الأصوليين : إن الظرف إذا جر بفي لا يكون بتمامه ظرفا بخلاف المقدرة فيه ، فنحو سرت يوم الخميس لتمامه وفي يوم الخميس لغيره ، فقد قال عصام الملة : إن هذا مذهب الكوفيين ، والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو ، وقال شهاب الدين : الظاهر أن ما ذكره أهل الأصول فيما يصح جره بفي ونصبه على الظرفية ، وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال : أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء ، وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق بملئه وبعدمه لكن الأصل الأول كما ذكروه.

وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] والقلب لا يكون إلا في الصدر ، وقوله سبحانه : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] والطير لا يطير إلا بجناح ، فقد قالوا : إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة ، ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل ، وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت : إن ضربت زيدا في الدار ، أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر ، وإن كان الفاعل فيه دون المفعول ، أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه ، ولذا قال بعض الفقهاء : لو قال : إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه ، ولو قال : إن ضربته ، أو جرحته ، أو قتلته ، أو رميته فشرطه كون المفعول فيه ، وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته ، وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل ، وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم ، أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه ، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك ، والجار والمجرور متعلق ـ بيأكلون ـ وهو الظاهر ، وقيل : إنه حال من قوله تعالى : (ناراً) أي ما يجرّ إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب ، وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه ، واستبعده بعض المحققين ، وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره ، فعن عبيد الله بن جعفر أنه قال : من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : «حدثني النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عن ليلة أسري به قال : نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة ، والباقون بفتحها ، وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بتشديد اللام ، وفي الصحاح يقال : صليت اللحم ، وغيره أصليه صليا مثل رميته رميا إذا شويته ، وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء ـ كأنك تريد الإحراق ـ قلت : أصليته بالألف وصليته تصلية ، ويقال : صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته ، قال الطهوي :

ولا تبلى بسالتهم وإن هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين

وقال بعض المحققين : إن أصل الصلي القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا ، وظاهر كلام البعض أنه متعد بنفسه ، وقيل : إنه يتعدى بالباء فيقال : صلي بالنار ، وذكر الراغب أنه يتعدى بالباء تارة أو بنفسه أخرى ولعله


بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها.

وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم ، وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا ، وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال : هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم ، ولا يخفى أنه إن أراد حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم ، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) [البقرة : ٢٢٠] الآية (يُوصِيكُمُ اللهُ) شروع في بيان ما أجمل في قوله عزوجل (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) إلخ ، والوصية كما قال الراغب : أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه ، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم ، وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة (فِي أَوْلادِكُمْ) أي في توريث أولادكم ، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية ، وقيل : (فِي) بمعنى اللام كما في خبر «إن امرأة دخلت النار في هرة» أي لها كما صرح به النحاة ، والخطاب قيل : للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ، وقيل : الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم يبين لكم ، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث ، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر.

وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال : كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد عليّ شيئا فنزلت (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب ؛ وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول ، أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف ، والمراد أنه يعدّ كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل ، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم : السمن منوان بدرهم ، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه ـ مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث ـ ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث ، وأن يقال : للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل ، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره ، ولذا قال سبحانه : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة ، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث. وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا ـ كما هو زعم أهل الجاهلية ـ حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء ، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهنّ ، ومما اشتهر.


إن الشباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أي مفسده

وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ـ أن حواء عليها‌السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه‌السلام فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل ـ ذكره بعضهم ولم أقف على صحته ، ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى ، واستثني من العموم الميراث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء على القول بدخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة ، والدليل على الاستثناء قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قالت له بزعمهم: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا ، وقالوا : إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) [الطلاق : ٦] فقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة. فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله ، وأيضا العام ـ وهو الكتاب ـ قطعي ، والخاص ـ وهو خبر الآحاد ـ ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.

وقالوا أيضا : إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه‌السلام : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٦] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون ، والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس ابن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا : اللهم نعم ، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال : أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال ذلك؟ قالا : اللهم نعم ، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه ، وفي كتب الشيعة ما يؤيده ، فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر» وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.

وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة (١) من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا ، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر

__________________

(١) كعلي كرم الله تعالى وجهه والحسن والحسين وعلي بن الحسين والحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهم ا ه منه.


من الآحاد فنقول : إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة ، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا ، ومنه قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها» والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك ، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسليمان عليه‌السلام غير متصورة بوجه ، وأيضا إن داود عليه‌السلام ـ على ما ذكره أهل التاريخ ـ كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمانعليه‌السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة.

وأيضا توصيف سليمان عليه‌السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه‌السلام ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه‌السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى ، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا ، وهذا أفحش من الأول ، وإن كان المراد بعض الأولاد ، أو أريد من يعقوب غير المتبادر ، وهو ابن إسحاق عليهما‌السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته ، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد ، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه‌السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف ، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها ، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية ، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه‌السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر ، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة.

وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه‌السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه‌السلام خشي من أشرار


بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم ، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب ، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية ، فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة ، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة ، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب ، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال ، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح ، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد ، ومن ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) [فاطر : ٣٢] وأورثوا الكتاب إلى غير ما آية ، ومن الشيعة من أورد هنا بحثا ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟ والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها. وأمامة وسلمه إليهما ، وكان كل من بيده شيء ما بناه له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة ، والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول ، ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل. إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجه ، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة ، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه.

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعة واجب عليه سوء سمعه غيره أو لم يسمع ، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه بلا واسطة ، فخبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه ، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا ، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياءعليهم‌السلام لما علمت ، ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو


غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها ، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا ، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث ، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا ، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود ، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها ، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد ، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا ، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة ، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية ، وقد غضب موسى عليه‌السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه ـ كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلوي ـ وغيرها ، وفي محاج السالكين. وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال : صدقت يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت : افعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال : لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك ، فقالت : والله لتفعلن؟ فقال : والله لأفعلن ذلك ، فقالت : اللهم اشهد ، ورضيت بذلك ، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل ، وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها ، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب ، أو تضييق الأمر على المسلمين.

وقد ورد «المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما» على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب ، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل ، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له ، ويجوز أن يعود الى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد ، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر ، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) إذا جعل صفة ـ لنساء ـ فهو محل الفائدة ، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت ، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة ، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن ـ كان ـ ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم ، والتنازع ـ كما قاله الشهاب ـ والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية ، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن.

(فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه ، ومثله شائع سائغ (وَإِنْ كانَتْ) أي المولودة المفهومة من الكلام (واحِدَةً) أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت.

وقرأ نافع وأهل المدينة (واحِدَةً) بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها ، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل ، وقال ابن تمجيد : القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر ، فإنه إن


كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر ، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر ، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد ، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا (فَلَهَا النِّصْفُ) أي (مِمَّا تَرَكَ) وترك اكتفاء بالأول و (النِّصْفُ) مثلث كما في القاموس أحد شقي الشيء ، وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ) بضم النون وهي لغة أهل الحجاز ، وذكر أنها أقيس لأنك تقول : الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل. وأخذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر ، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة ، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين ، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط ، ووجه ذلك ـ على ما قاله القطب ـ أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد ، وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية ، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ، وأجيب بأن المستخرج هو حظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور ، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين ، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة ، أو الإشارة ، وذلك لما رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمهما فقال : أعط لابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك».

فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية ، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت (١) فيكون قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) إلخ بيانا لحظ الواحدة ، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها ، وهذا مما لا غبار عليه ، وقيل : إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين.

أما الأول فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى ، وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين ، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك ، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين ، وجعله العلامة ناصر

__________________

(١) وليس هذا بطريق القياس بل بطريق الدلالة أو الإشارة ا ه منه.


الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم ، ولأنه قيل : إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير ، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه ، وقيل : يمكن أن يقال : ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد ، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد ، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة ، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد ، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما.

وقيل : إن معنى الآية (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها» فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها ، وإلى ذلك ذهب من قال : إن أقل الجمع اثنان ، واعترض على ابن عباس رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد ، وقد قيل به ، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر ، وأجيب بأن قوله سبحانه : (نِساءً) ظاهر في كونها (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه ، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف ، والمتيقن هو النصف ، والزائد مشكوك غير ثابت ، فتعين المصير إليه ، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى ، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك ـ كما قيل ـ فقال ما قال ، وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط : صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا ؛ وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث ، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم.

وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال : للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم (وَلِأَبَوَيْهِ) أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع ، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب ، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل من (لِأَبَوَيْهِ) بتكرير العامل ، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى : (السُّدُسُ) والخبر ، وهو لأبويه ـ وزعم ابن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا ، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، ويكون أصل الكلام ـ والسدس ـ لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فاقتضى اشتراكهن فيه ، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك ، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا ، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب ، وإلا لزم زيادة معنى في البدل ، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله : (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث ، ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل ، ولذلك أتى


بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع كذا إلا أنه اعترض على جعل (لِأَبَوَيْهِ) خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال ، وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك : ما محل (لِأَبَوَيْهِ) من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول : إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم.

ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون (لِأَبَوَيْهِ) واختير هذا التركيب دون أن يقال : ولكل واحد من أبويه (السُّدُسُ) لما في الأول من الإجمال ، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني ، ودون أن يقال : (لِأَبَوَيْهِ) السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل ، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول.

وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة (السُّدُسُ) بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن (مِمَّا تَرَكَ) متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ ، والعامل الاستقرار أي كائنا (مِمَّا تَرَكَ) المتوفى (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر ، وولد الابن كذلك ، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية ، وإن كانوا ذكورا وإناثا (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس ، أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات ، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما ، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت ، وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ولا ولد ابن (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ) والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه ، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون ، وقيل : إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم ، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله ، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأب ـ وفيه تأمل ـ لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون ، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك ، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين ، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عزوجل : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا.

ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول : بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل ، ونسب إلى ابن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد ، وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر ، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن


المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع ، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه ، ورجح مذهب الجمهور على مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين ، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع ، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى ، وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لابن عباس ، فقد أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين. فقال زيد : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي ، وللأب بقية المال فأرسل إليه ابن عباس أفي كتاب الله تعالى تجد هذا؟ قال : لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب ، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم ، ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه : إن معنى قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه ، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) بعد قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فيلزم أن يكون قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) خاليا عن الفائدة ، فإن قيل : نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا : ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا ، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا ، وليته سمع ذلك فليفهم.

وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها ، فمذهب ابن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق ، وروى ذلك أهل الكوفة عن ابن مسعود في صورة الزوج وحده أن للأم ثلث جميع المال. وقول أبي يوسف ـ وهو الرواية الأخرى ـ عن الصديق رضي الله تعالى عنه : إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب ، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) في حق الأب ، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة ، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة ، وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب ، فإن للمرأة الربع ، وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي ، فقد فضلت هاهنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر ، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات ، وسواء كانوا من جهة الأبوين ، أو من جهة أحدهما.

وخالف ابن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى ، وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن


الثلث وتلا الآية. والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ، وقال الجمهور : إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة ، ألا يرى أن البنتين كالبنات ، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب ؛ وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما ، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال : جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب ، فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له : يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) وأنت تحجبها بأخوين فقال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة ، وهذا يعارض الخبر السابق عن ابن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب ، وعثمان رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا.

ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة ، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة ، والنحاة على خلاف ذلك وخالف ابن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب ، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون ، وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده ، وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب هاهنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة ، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق ، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب ، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة ، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص ، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم ، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان ، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان ، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب ـ وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا ـ ويروى عن ابن عباس أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء ، وقد يستدل عليه بما رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين.

وللجمهور ـ كما قال الشريف ـ إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل : فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي ، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه ، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر ، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب ، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد ، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها ، وقد روي عن طاوس أنه قال : لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال : كان ذلك وصية وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث ، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي الله تعالى عنه في حجب الجد للإخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي ، وفي الدر المنثور أن ابن جرير ، وعبد الرزاق والبيهقي عنه ، وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام ، وقيل : إنه اتباع لكسرة الميم ، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية ، وقيل : إنه لغة في الأم ، وأنكرها الشهاب ، وفي القاموس الأم ـ وقد تكسر ـ الوالدة ، ويقال : أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات ، وهذه لمن يعقل ، وأمات لما لا يعقل ، وحكي ذلك في الصحاح عن


بعضهم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) متعلق ـ بيوصيكم ـ والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به ، والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية.

وجوز أن يكون حالا من السدس ، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده ، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع ، وقيل : إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها) الميت.

وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم (يُوصِي) مبنيا للمفعول مخففا ، وقرئ «يوصّي» مبنيا للفاعل مشددا ، والجملة صفة (وَصِيَّةٍ) وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها ، وقيل : التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها (أَوْ دَيْنٍ) عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة ، وإيثار (أَوْ) على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين ، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه عنه جماعة ـ لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت ، وقال ابن المنير : إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية ، ثم اقتسام ذوي الميراث ، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية ، والدين صورة الواقع شرعا ، ولو سقط ذكر (بَعْدِ) وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) الخطاب للورثة ، و (آباؤُكُمْ) مبتدأ ، و (وَأَبْناؤُكُمْ) معطوف عليه ، و (لا تَدْرُونَ) مع ما في حيزه خبر له ، و ـ أي ـ إما استفهامية مبتدأ ، و (أَقْرَبُ) خبره ، والفعل معلق عنها فهي سادة مسدّ المفعولين ، وإما موصولة ، و (أَقْرَبُ) خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته ، وحذف صدر صلته ، والمفعول الثاني محذوف ، و (نَفْعاً) نصب على التمييز ، وهو منقول من الفاعلية ، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية.

والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع ، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات ، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا ، وليس المراد ـ كما قال شيخ الإسلام ـ بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم ، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور ، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية ، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشإ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل : لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة ، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا ، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى ، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى ، واختار كثير من المحققين


كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة ، وجعل الخطاب للمورثين ، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل ؛ وكانت الأنصباء مختلفة ، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ، ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل ، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال : إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه ، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم ، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا ، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة ، فقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ، وإلى هذا ذهب الحسن رحمه‌الله تعالى ، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.

وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة ، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا : لما ذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت ، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة ، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك ، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لا تصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق ، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير ، وربما يقال : المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة ، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا ـ كما قال السدي ـ لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر ، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها ، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر ، وقيل : إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه ، ونسب إلى أبي مسلم ، ولا يخفى مزيد بعده (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه على حدّ هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله : وقيل : إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا ، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى ، وقيل : بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم ؛ وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بدّ لهذا من دليل ولم نطلع عليه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بالمصالح والرتب (حَكِيماً) في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا ، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ ـ كما قال الخليل ـ كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن


الدخول تحت الزمان ، وقال سيبويه : القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم : إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) إن دخلتم بهن أولا (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا منكم كان أو من غيركم ، ولذا قال سبحانه : (لَهُنَ) ولم يقل لكم ، ولا فرق بين أن يكون الولد من بطن


الزوجة ، وأن يكون من صلب بنيها أو بني بنيها إلى حيث شاء الله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) على ما ذكر من التفصيل ، وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من المال والباقي في الصورتين لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام ، أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده ، والكلام على فائدة الوصف وكذا على تقديم الوصية ذكرا قد مر آنفا فلا فائدة في ذكره (وَلَهُنَ) أي الأزواج تعددن أو لا (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) عى التفصيل المتقدم.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) فرض للرجل بحق الزواج (١) ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزية عليها ولذا اختص بتشريف الخطاب ، وتقديم ذكر حكم ميراثه وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة لاستواء الذكر والأنثى منهم (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) المراد بالرجل الميت وهو اسم كان (يُورَثُ) على البناء للمفعول من ورث الثلاثي خبر كان ، والمراد يورث منه فإن ورث تتعدى بمن وكثيرا ما تحذف (كَلالَةً) هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الاعياء قال الأعشى :

فآليت لا أرثي لها من (كلالة)

ولا من حفي حتى ألاقي محمدا

ثم استعيرت واستعملت استعمال الحقائق للقرابة من غير جهة الوالد والولد بضعفها بالنسبة إلى قرابتهما ، وتطلق على من لم يخلف والدا ولا ولدا ، وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوي القرابة وجعل ذلك بعضهم من باب التسمية بالمصدر وآخرون جوزوا كونها ـ صفة ـ كالهجاجة ـ للأحمق قال الشاعر :

«هجاجة» منتخب الفؤاد

كأنه نعامة في واد

وتستعمل في المال الموروث مما ليس بوالد ولا ولد إلا أنه استعمال غير شائع وهي في جميع ذلك لا تثنى ولا تجمع ، واختار كثيرون كون أصلها من تكلله النسب إذ أحاط به ، ومن ذلك الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكل لإحاطته بالعدد ، وقال الحسين بن علي المغربي : أصل الكلالة عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره آخذا من الكلّ وهو الظهر والقفا ، ونصبها (٢) على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة ، أو على أنها حال من ضمير يورث أي حال كونه ذا كلالة ، واختاره الزجاج ، أو على أنها خبر لكان ؛ و (يُورَثُ) صفة لرجل أي (إِنْ كانَ) رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد ، وذكر أبو البقاء احتمال كون (كانَ) تامة ، و (رَجُلٌ) فاعلها ، و (يُورَثُ) صفة له ، و (كَلالَةً) حال من الضمير في يورث ، واحتمال نصبها على هذا الاحتمال على أنها مفعول له أيضا ظاهر ، وجوز فيها الرفع على أنها صفة ، أو بدل من الضمير إلا أنه لم يعرف أحد قرأ به فلا يجوز القراءة به أصلا ، وجعل نصبها على الاستعمال الغير الشائع على أنها مفعول ثان ليورث.

وقرئ «يورث» ، و «يورّث» بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل ، فانتصاب (كَلالَةً) إما على أنها حال من

__________________

(١) كقتال ا ه منه.

(٢) وجوز نصبها على أنها خبر ثان إن أريد أحد الملابسين. وعلى التمييز إن أريد المصدر ا ه منه.


ضمير الفعل والمفعول محذوف أي (يُورَثُ) وارثه حال كونه ذا (كَلالَةً) ، وإما على أنها مفعول به أي (يُورَثُ) ذا كلالة ، وإما على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة كذا قالوا ، ثم إن الذي عليه أهل الكوفة. وجماعة من الصحابة والتابعين هو أن الكلالة هنا بالمعنى الثالث ، وروي عن آخرين ، منهم ابن جبير وصح به خبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ أنها بالمعنى الثاني ، ولم نر نسبة القولين الآخرين لأحد من السلف ، والأول منهما غير بعيد ، والثاني سائغ إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل مقيد بما قيد به ، وكثيرا ما يستغني بتقييد المعطوف عليه عن تقييد المعطوف ، ولعل فصل ذكرها عن ذكره فللإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام ، وقيل : لأن سبب النزول كان بيان حكمه بناء على ما روي عن جابر أنه قال : أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا مريض فقلت : كيف الميراث وإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض لذلك (وَلَهُ) أي الرجل ، وتوحيد الضمير لوجوبه فيما وقع بعد ، أو حتى أن ما ورد على خلاف ذلك مؤول عند الجمهور كقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] وأتى به مذكرا للخيار بين أن يراعي المعطوف أو المعطوف عليه في مثل ذلك ، وقد روعي هنا المذكر لتقدمه ذكرا وشرافة ، ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما ، والتذكير للتغليب ، وجوز أن يكون راجعا للميت ، أو الموروث ولتقدم ما يدل عليه ، وأبعد من جوز أن يكون عائدا للرجل ، وضمير المرأة محذوف. والمراد وله أولها (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من الأم فقط ـ وعلى ذلك عامة المفسرين ـ حتى أن بعضهم حكى الإجماع عليه.

وأخرج غير واحد عن سعيد أبي وقاص أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم ، وعن أبي من الأم ، وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن كثيرا من العلماء استند إليها بناء على أن الشاذ من القراءات إذا صح سنده كان كخبر الواحد في وجوب العمل به خلافا لبعضهم ، ويرشد إلى هذا القيد أيضا أن أحكام بني الأعيان والعلات هي التي تأتي في آخر السورة الكريمة ، وأيضا ما قدر هنا لكل واحد من الأخ والأخت ، وللأكثر وهو السدس ، والثلث هو فرض الأم ، فالمناسب أن يكون ذلك لأولاد الأم ، ويقال لهم إخوة أخياف ، وبنو الأخياف ، والإضافة بيانية ، والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث. أو من رجل على تقدر كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة ، وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور ، وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة ولا يضر عند من لم يقل بالمفهوم جريانه في صورة الأم ، أو الجدة مع أن قرابتهما ليس بطريق الكلالة ، وكذا لا يضر عند القائل به أيضا للإجماع على ذلك (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) أي الأخت والأخ (السُّدُسُ) مما ترك من غير تفضيل للذكر على الأنثى ، ولعله إنما عدل عن ـ فله السدس ـ إلى هذا دفعا لتوهم أن المذكور حكم الأخ ، وترك حكم الأخت لأنه يعلم منه أن لها نصف الأخ بحكم الأنوثة والحكمة في تسوية الشارع بينهما تساويهما في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة (فَإِنْ كانُوا) أي الإخوة والأخوات من الأم المدلول عليهم بما تقدم والتذكير للتغليب (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) أي المذكور بواحد ، أو بما فوقه والتعبير باسم الإشارة دون الواحد لأنه لا يقال أكثر من الواحد حتى لو قيل أول بأن المعنى زائدا عليه ، وبعض المحققين التزم التأويل هنا أيضا إذ لا مفاضلة بعد انكشاف حال المشار إليه ، ولعل التعبير باسم الإشارة حينئذ تأكيد الإشارة إلى أن المسألة فرضية ، والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الانفراد مستتبع لذكر احتمال العدد.

(فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يقتسمونه فيما بينهم بالسوية ، وهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الأمة ، والباقي لباقي الورثة من أصحاب الفروض والعصبات ، وفيه خلاف الشيعة ، هذا ومن الناس من جوز أن يكون (يُورَثُ) في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث ، والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة ؛ أو ذا كلالة أي غير والد ولا ولد ، ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل من ذلك الوارث ، أو أخيه أو أخته السدس ، فإن


كانوا أكثر من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثة ، أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للاثنين لا يزداد عليه شيء ، ولا يخفى أن الكلام عليه قاصر عن بيان حكم صورة انفراد الوارث عن الأخ والأخت ومقتض أن يكون المعتبر في استحقاق الورثة للفرض المذكور إخوة بعضهم لبعض من جهة الأم فقط ، وخارج على مخرج لا عهد به ، وفيه أيضا ما فيه ، وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام قدس‌سره بما لا مزيد عليه. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه ، ولا يوصي بأكثر من الثلث. قاله ابن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية وفي (يُوصى) قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول ، والبناء للفاعل ، و (غَيْرَ) على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور ، وما حذف من المعطوف اعتمادا عليه ، ونظيره قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول ، وقول الشاعر :

«ليبك» يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاء به ، ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى ، أي يوصي بما ذكر من الوصية والدين حال كونه (غَيْرَ مُضَارٍّ) ، ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجيء الحال منه ، وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء (غَيْرَ مُضَارٍّ) ، واختار بعضهم جعله حالا من (وَصِيَّةٍ) أو (دَيْنٍ) أي من بعد أداء وصية أو دين (غَيْرَ مُضَارٍّ) ذلك الواحد ؛ وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء ، وجوز هذا البعض أن يكون المعنى على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكبا خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره ويحتمل ـ كما قال جمع ـ أن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة ، وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره ، والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم ، نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ ، ومن ادعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية. والتنوين للتفخيم ، و «من» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة مؤكدا لفخامتها ، ونظير ذلك (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١١ ، التوبة : ٦٠] ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله ما قاله الإمام من أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفرضية ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وإن كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو حال رعاية الأولاد أولى ، وقيل إن الوصية أقوى من الفرض للدلالة على الرغبة وطلب سرعة الحصول ، فختم شرح ميراث الكلالة بها لأنها لبعدها ربما لا يعتني بشأنها فحرض على الاعتناء بها بذكر الوصية ولا كذلك ما تقدم ، أو منصوب بمضار على أنه مفعول به له إما بتقدير أي أهل وصية الله تعالى ، أو على المبالغة لأن المضارة ليست للوصية بل لأهلها


فهو على حدّ يا سارق الليلة أهل الدار ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها مما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث ، أو به مثلا لقصد الإضرار ودون القربة والإقرار بالدين كاذبا.

والمراد من الأهل الورثة المذكورة هاهنا ووقع في بعض العبارات أن المراد وصية الله تعالى بالأولاد ، ولعل المراد بهم الورثة مطلقا بطريق التعبير عن الكلي بأشهر أفراده كما عبر عن مطلق الانتفاع بالمال بأكله وإلا فهو غير ملائم وإنما نصب مضار المفعول به لأنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال ، أو منفي معنى فيعمل في المفعول الصريح ، ويشهد لهذا الاحتمال قراءة الحسن (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً) بالإضافة ، وذكر أبو البقاء في هذه القراءة وجهين : الأول أن التقدير (غَيْرَ مُضَارٍّ) أهل (وَصِيَّةٍ) فحذف المضاف ، والثاني أن التقدير (غَيْرَ مُضَارٍّ) وقت (وَصِيَّةٍ) فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان ، والجمهور لا يثبتون الإضافة بمعنى في ، ووقع في الدر المصون احتمال أنه منصوب على الخروج ولم يبين المراد من ذلك ، ووقع في همع الهوامع في المفعول به : إن الكوفيين يجعلونه منصوبا على الخروج ولم يبينه أيضا ، قال الشهاب : فكأن مرادهم أنه خارج عن طرفي الإسناد ، فهو كقولهم : فضلة فلينظر (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمضار وغيره ، وقيل : بما دبره بخلقه من الفرائض (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض بذلك ، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة ، ثم اعلم أن الله سبحانه أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات ، وذلك أن الوارث إما أن يتصل بالميت بنفسه من غير واسطة ، أو يتصل به بواسطة فإن اتصل بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون النسب أو الزوجية ، فحصل هنا ثلاثة أقسام أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب ، وذلك هو قرابة الولادة ، ويدخل فيها الأولاد. والوالدان ، وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي والثاني عرضي ؛ والذاتي أشرف من العرضي ، وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير ، وهو المسمى بالكلالة ، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه : أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية ، وأما الكلالة فقد يعرض لها السقوط بالكلية ، وثانيها أن القسمين الأولين ينتسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة ، والكلالة ينتسب إلى الميت بواسطة ، والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة ، وثالثها أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والأزواج والزوجات أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الألفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم ، فلهذه الأسباب وأشباهها أخر الله سبحانه ذكر ميراث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشدّ انطباقه على قوانين المعقولات ـ كما قاله الإمام (تِلْكَ) أي الأحكام المذكورة في شئون اليتامى والمواريث وغيرها ، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث (حُدُودُ اللهِ) أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه ، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض ، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) نصب على الظرفية عند الجمهور ، وعلى المفعولية عند الأخفش.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت أشجارها وأبنيتها ، وقد مرّ الكلام في ذلك (الْأَنْهارُ) أي ماؤها (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من مفعول (يُدْخِلْهُ) لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك : مررت برجل معه صقر يصيد به غدا ، وصيغة الجمع لمراعاة معنى (مَنْ) كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها (وَذلِكَ) أي دخول الجنات على الوجه المذكور (الْفَوْزُ) أي الفلاح والظفر بالخير (الْعَظِيمُ) في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل ؛


والجملة اعتراض (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض ، وقال ابن جريج : من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث ، وحكي مثله عن ابن جبير. (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) التي جاء بها رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن جملتها ما قص لنا قبل ، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالا كما حكي عن الكلبي (يُدْخِلْهُ) قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين (ناراً) أي عظيمة هائلة (خالِداً فِيها) حال كما سبق ، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة. وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه ، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى ، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصيغة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس ، والخلود في دار العقاب بصيغة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة ، وجوز الزجاج ، والتبريزي كون (خالِدِينَ) هناك و (خالِداً) هنا صفتين لجنات أو نار ، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له ، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين. ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس (وَلَهُ عَذابٌ) أي عظيم لا يكتنه (مُهِينٌ) أي مذل له والجملة حالية ، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني ، نسأل الله تعالى العافية ، واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار ، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد ، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم ، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه ، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قطع ميراثا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة».

وأخرج أبو منصور عن سليمان بن موسى ، والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك ، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو ، وكأن عدم القسمة إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس ، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض ، فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعا إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة ، وأخرج البيهقي والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» ولعل الاحتمال الأول أظهر.

(هذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات) لما في فتحه من التكلف ، وقد تركناه لأهله.

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث ، (وَاللَّاتِي) جمع التي على غير قياس ، وقيل : هي صيغة موضوعة للجمع ، وموضعها رفع على الابتداء ، والفاحشة ما اشتد قبحه ، واستعملت كثيرا في الزنا لأنه من أقبح القبائح ، وهو المراد هنا على الصحيح ، والإتيان في الأصل المجيء ، وفي الصحاح يقال : أتيته أتيا قال الشاعر :

فاختر لنفسك قبل «أتى» العسكر*

وأتوته أتوة لغة فيه ، ومنه قول الهذلي :

* كنت إذا «أتوته» من غيب*


وفي القاموس أتوته أتوة (١) وأتيته أتيا وإتيانا وإتيانة بكسرهما ، ومأتاة وإتيا كعتى ، ويكسر جئته ، وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشي عن الفعل ، وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية ، وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين ، والتعبير بذلك لمزيد التهجين ، وقرأ ابن مسعود (يَأْتِينَ) بالفاحشة ـ فالإتيان على أصله المشهور ، و (مِنْ) متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل (يَأْتِينَ) والمراد من النساء ـ كما قال السدي ، وأخرجه عنه ابن جرير ـ النساء اللاتي قد أنكحن وأحصن ، ومثله عن ابن جبير (فَاسْتَشْهِدُوا) أي فاطلبوا أن يشهد (عَلَيْهِنَ) بإتيانهن الفاحشة (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري : مضت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود ، واشترط الأربعة في الزنا تغليظا على المدعي وسترا على العباد ، وقيل : ليقوم نصاب الشهادة كاملا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه ، والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط ، وجاز الإخبار بذلك لأن الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعل ـ قاله أبو البقاء ـ وذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الاشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز ، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير (فَاسْتَشْهِدُوا) لأنه لا يصح أن يعمل النصب في اللاتي ، وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الابتداء (٢) وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره اقصدوا اللاتي أو تعمدوا ، وقيل : الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي ، فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة (فَاسْتَشْهِدُوا) لأنه الحكم المتلو عليهم ، والخطاب قيل : للحكام ، وقيل : للأزواج (فَإِنْ شَهِدُوا) عليهن بالإتيان (فَأَمْسِكُوهُنَ) أي فاحبسوهن عقوبة لهن (فِي الْبُيُوتِ) واجعلوها سجنا عليهن (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) المراد بالتوفي في أصل معناه أي الاستيفاء وهو القبض تقول : توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيه بشخص يفعل ذلك فهناك استعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف ، والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أن يراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام بمنزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت ، أو يجعل الإسناد مجازا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي مخرجا من الحبس بما يشرعه من الحدّ لهن ـ قاله ابن جبير ـ وأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك واربد وجهه ، وفي لفظ لابن جرير يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سري عنه قال : «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» وروى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.

وروى ابن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها ، وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ، والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث ، والحديث منسوخ بآية الجلد ، وآية الجلد بدلائل الرجم.

__________________

(١) قوله : في القاموس. أتوته أتوة والذي في القاموس أتوته أتيته فليحرر ا ه مصححه.

(٢) ولم يمنعوا التقدير مقدما فيما تضمن معنى الشرط لأنه لا يعامل معاملته من كل وجه ا ه منه.


وقال الزمخشري : من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلوما بالكتاب والسنة ، ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال ، ويكون السبيل على هذا النكاح المغني عن السفاح ، وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن : إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله تعالى لهن سبيلا ثم إن ذلك السبيل كان مجملا فلما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عني» ، إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانا لما في تلك الآية لا ناسخا له ، وصار مخصصا لعموم آية الجلد ، وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) هما الزاني والزانية بطريق التغليب. قاله السدي وابن زيد وابن جبير أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا ، ويؤيد ذلك كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد ، وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر.

وقرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان والتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة (فَآذُوهُما) أي بعد استشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان ، وترك ذكر ذلك تعويلا على ما ذكر آنفا ، واختلف في الإيذاء على قولين : فعن ابن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال ، وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط (فَإِنْ تابا) عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبئ عنه الفاء (وَأَصْلَحا) أي العمل (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي اصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً) مبالغا في قبول التوبة (رَحِيماً) واسع الرحمة ، والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض ، والخطاب هنا للحكام ، وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما ، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما ، وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك ، والوجه الأول هو المشهور ، والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن جبير وغيرهم. وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري ، وقال الفراء إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها ، وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى ، وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء ، وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور ، وزيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك ، وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا ، فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهم ببعض لا الحبس والمنع من الخروج ، فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد ـ باللاتي يأتين الفاحشة ـ الزانيات ، وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد ـ وهو من أكابر المفسرين المتقدمين ـ وقد قال غير واحد : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز ، وبأن مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك ، وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات ، ومطلق الإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية فلذا اختلفوا ، وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها واتخاذها سجنا عليهن ومن حال المسجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الاختلاط ، فكان الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد ، وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل ،


وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية ، والتغليب خلاف الأصل ، ويبعده أيضا لفظ (مِنْكُمْ) فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى : (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وأيضا لو كان كل واحد من الآيتين واردا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له ، وأيضا على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحدة منهما مقررا على حاله ، وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى التزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل ، وأيضا على ما قالوه يكون الكتاب خاليا عن بيان حكم السحاق واللواطة ، وعلى ما قلناه يكون متضمنا لذلك وهو الأنسب بحاله ، فقد قال سبحانه : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ، وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد ، ففي مجمع البيان أنه حمل (الَّذانِ يَأْتِيانِها) على الرجلين الزانيين ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان على أن حمل (اللَّاتِي) في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه ، فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أبي مسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق ، ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين ، والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين ، ويحتمل أيضا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزة وقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا ، وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب ، ولا يمكن اعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس ، وكون مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية ـ ليس بشيء ـ كما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئا ، وقال : تؤخر عقوبته إلى الآخرة ، وبه أخذ الأئمة رضي الله تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدا بعد أن ذكر في معرض الحدّ وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل ؛ وكون الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى.

نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به ، وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى ، واعتباره في (مِنْكُمْ) تبع لاعتباره في (الَّذانِ) وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه ربما يؤيد اعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الاستشهاد مع اشتراطه إجماعا اكتفاء بما ذكر في الآية الأولى لاتحاد الاستشهادين في المسألتين ، ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ما أشرنا إليه في تفسير الآية ، ودعوى الاحتياج إلى التزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام ، وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحد نسخا في الآية الأولى مقالا يعلم مما قدمناه في البقرة ، وإذا جعل «أو يجعل» إلخ معتبرا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها اكتفاء بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت. جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق


واللواطة زنا فظاهر ، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما ، وكم حكم ترك التصريح به في الكتاب اعتمادا على القياس ـ كحكم النبيذ ، وكحكم الجد وغيرهما ـ اعتمادا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وأنه ما فرط فيه من شيء ، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحا من غير اعتبار قياس ، فقد ارتكب شططا وقال غلطا ، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور ، ويد الله تعالى مع الجماعة ، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه ، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الاعتصام.

ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي إن قبول التوبة ، و (عَلَى) وإن استعملت للوجوب حتى استدل بذلك الواجبة عليه ، فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال : واجب الوجود ، وقيل : (عَلَى) بمعنى من ، وقيل : هي بمعنى عند ، وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، والتوبة مبتدأ ، و (لِلَّذِينَ) خبره ، و (عَلَى اللهِ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا ، وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب من رطبا ، وجوز أن يكون (عَلَى اللهِ) متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) الكائنة (عَلَى اللهِ) و (لِلَّذِينَ) هو الخبر ، وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته ، وذكر أبو البقاء احتمال أن يكون (عَلَى اللهِ) الخبر ، و (لِلَّذِينَ) متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر ، ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر ، ولا يخفى أن سوق الآية يؤيد جعل (لِلَّذِينَ) خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف (بِجَهالَةٍ) حال من فاعل (يَعْمَلُونَ) أي (يَعْمَلُونَ السُّوءَ) متلبسين بها ، أو متعلق (يَعْمَلُونَ) والباء للسببية ، والمراد من الجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة ، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله :

ألا (لا يجهلن) أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب ، وغيره : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته ، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقال أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه ، فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه‌السلام لإخوته : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [يوسف : ٨٩] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى ، وقال الفراء : معنى قوله سبحانه : (بِجَهالَةٍ) أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة.

وقال الزجاج : معنى ذلك اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبئ عنه ما سيأتي من قوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ) إلخ يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها : «من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه» ثم قال : «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه» ثم قال : «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله تعالى


عليه» ثم قال : «وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله تعالى عليه» ثم قال «وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه ـ وأهوى بيده الشريفة إلى حلقه ـ تاب الله تعالى عليه».

وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثمّ أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال : إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح قال : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال ـ القريب ـ ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت ، وروي مثله عن الضحاك ، وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيري ـ القريب ـ على لسان أهل العلم قبل الموت ، وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة ، ولعل مرادهم أنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول ، وإن لم يمتنع قبول توبته ، و (مِنْ) تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانا قريبا ، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب ، وجعلها بعضهم لابتداء الغاية ، ورجح الأول بأن (مِنْ) إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور ، والذي لابتدائيته مذ ومنذ ، وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى (فَأُولئِكَ) أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد ، وجوز أن يكون ذلك إيذانا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث إنهم تائبون ، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ، والفاء للدلالة على السببية ، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى : (يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم ، وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أولا فلا تكرار ، وضمن (يَتُوبُ) معنى يعطف فلذا عدي بعلى.

وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل : التوبة كالواجب على الله تعالى ، وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية ، والآية الثانية واقعة موقع النتيجة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) فيعلم بإخلاص من يتوب (حَكِيماً) فلا يعاقب التائب ، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها ، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) على الله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي المعاصي وجمعت باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد بها جميع أنواعها وبما مر من (السُّوءَ) نوع منها (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال وعاين ملك الموت وانقطع حبل الرجاء (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي هذا الوقت الحاضر ، وذكر لمزيد تعيين الوقت ، وإيثار (قالَ) على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشي عن تسميته توبة ، ولو أكده ورغب فيه ، ولعل ذلك كون تلك الحالة أشبه شيء بالآخرة بل هي أول منزل من منازلها ، والدنيا دار عمل ولا جزاء ، والآخرة دار جزاء ولا عمل ، و (حَتَّى) حرف ابتداء ، والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي (لَيْسَتِ التَّوْبَةُ) لقوم يعملون السيئات إلى حضور موتهم ، وقولهم : كيت وكيت (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) عطف على الموصول قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء ، والمراد من ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسا المبالغة في عدم قبول توبة المسوفين والإيذان بأن وجودها كالعدم بل في تكرير حرف النفي في المعطوف كما قيل : إشعار خفي يكون حال المسوّفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر. والكثير من أهل العلم على أن المراد ب (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ما يشمل الفسقة والكفرة ، ومن (الَّذِينَ يَمُوتُونَ) إلخ الكفار فقط ، وجوز أن يراد بالموصولين الكفار خاصة ، وأن يراد بهما الفسقة وحدهم ، وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ ، وأن يراد بهما ما يعم الفريقين


جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب ، وأخرج ابن جرير عن الربيع ، وابن المنذر عن أبي العالية أن الآية الأولى نزلت في المؤمنين والثانية في المنافقين ، والثالثة في المشركين ، وفي جعل الوسطى في المنافقين مزيد ذم لهم حيث جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم بمنزلة العدم ، فكأنهم عملوها دون غيرهم ، وعلى هذا لا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم ، وبالمفرد في المؤمنين لكن ضعف هذا القول بأن المراد بالمنافقين إن كان المصرين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها ، وإلا فهم وغيرهم سواء ، هذا واستدل بالآية على أن توبة اليائس كإيمانه غير مقبول ، وفي المسألة خلاف فقد قيل : إن توبة اليائس مقبولة دون إيمانه لأن الرجاء باق ويصح معه الندم ، والعزم على الترك ، وأيضا التوبة تجديد عهد مع الرب سبحانه ، والإيمان إنشاء عهد لم يكن وفرق بين الأمرين ، وفي البزازية أن الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليائس ، وإذا قبلت الشفاعة في القيامة وهي حالة يائس فهذا أولى ، وصرح القاضي عبد الصمد الحنفي في تفسيره أن مذهب الصوفية أن الإيمان أيضا ينتفع به عند معاينة العذاب ويؤيده أن مولانا الشيخ الأكبر قدس‌سره صرح في فتوحاته بصحة الإيمان عند الاضطرار ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرا كثيرا.

وأيد بعضهم القول بقبول توبة الكافر عند المعاينة بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يقبل توبة عبده ـ أو يغفر لعبده ـ ما لم يقع الحجاب قيل : وما وقوع الحجاب؟ قال : تخرج النفس وهي مشركة» ولا يخفى أن الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل القول الأول ، وأجاب بعض المحققين عنها بأن مفادها أن قبول توبة المسوّف والمصر غير متحقق ، ونفي التحقيق غير تحقق النفي فيبقى الأمر بالنسبة إليهما بين بين ، وأنه تعالى إن شاء عفا عنهما وإن شاء لم يعف وآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] تبين أنه سبحانه لا يشاء المغفرة للكافر المصر ويبقى التائب عند الموت من أي ذنب كان تحت المشيئة ، وزعم بعضهم أنه ليس في الآية الوسطى توبة حقيقية لتقبل بل غاية ما فيها قول ، (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) وهو إشارة إلى عدم وجود توبة صادقة ، ولذا لم يقل (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) تاب ـ وعلى تسليم أن التعبير بالقول لنكتة غير ذلك يلتزم القول بأن التقييد بالآن مشعر بعدم استيفاء التوبة للشروط لأن فيه رمزا إلى عدم العزم على عدم العود إلى ما كان عليه من الذنب فيما يأتي من الأزمنة إن أمكن البقاء ، ومن شروط التوبة الصحيحة ذلك فتدبر.

(أُولئِكَ) أي المذكورون من الفريقين المترامي حالهم إلى الغاية القصوى في الفظاعة (أَعْتَدْنا لَهُمْ) أي هيأنا لهم ، وقيل : أعددنا فأبدلت الدال تاء (عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما موجعا ، وتقديم الجار على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بكون العذاب مهيأ لهم ، والتنكير للتفخيم ، وتكرير الإسناد لما مر ، واستدل المعتزلة بالآية على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة ، وأجيب بأن تهيئة العذاب هو خلق النار التي يعذب بها ، وليس في الآية أن الله تعالى يدخلهم فيها البتة ، وكونه تعالى يدخل من مات كافرا فيها معلوم من غير هذه الآية ، ويحتمل أيضا أن يكون المراد (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إن لم نعف كما تدل على ذلك النصوص ، ويروى عن الربيع أن الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦].

واعترض بأن (أَعْتَدْنا) خبر ولا نسخ في الأخبار ، وقيل : إن «أولئك» إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فلا إشكال كما لو جعل إشارة إلى الفريقين وأريد بالأول المنافقون ، وبالثاني المشركون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل


الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الاستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن ؛ فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، وفي رواية البخاري وأبي داود كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت ، وروي مثله عن أبي جعفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك.

وروي عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها ـ فالنساء ـ إما مفعول ثان ـ لترثوا ـ على أن يكنّ هنّ الموروثات ، (كَرْهاً) مصدر منصوب على أنه حال من (النِّساءَ) وقيل : من ضمير (تَرِثُوا) والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهنّ كارهات لذلك أو مكرهات عليه ، أو أنتم مكروهون لهن ، وإما مفعول أول له ، والمعنى (لا يَحِلُّ لَكُمْ) أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث (كَرْهاً) والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرها حتى تموت فيرث منها مالها ، وقرأ حمزة والكسائي (كَرْهاً) بالضم في مواضعه ، ووافقهما عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف ، وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما بمعنى كالضعف والضعف ، وقيل : الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية ، وقرئ ـ لا تحل ـ بالتاء الفوقانية لأن (أَنْ تَرِثُوا) بمعنى الوراثة كما قرئ (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣] لأنه بمعنى المقالة ، وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل ، فكل منهما جار في اللسان الفصيح (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) أصل العضل التضييق والحبس ، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل ، ويقال : عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلا وعضلا وعضلانا بكسرهما ، وعضلها منعها الزوج ظلما ، وعضلت الأرض بأهلها غضت قال أوس :

ترى الأرض منا بالفضاء مريضة

«معضلة» منا بجيش عرمرم

(وَلا) إما ناهية على ما قيل ، والفعل مجزوم بها ، والجملة مستأنفة ـ كما قال أبو البقاء ـ أو معطوفة على الجملة التي قبلها بناء على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى سيبويه ، أو بناء على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم ، وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي ، والفعل منصوب بالعطف على (تَرِثُوا) كأنه قيل : لا يحل ميراث النساء (كَرْهاً) ولا عضلهن ، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود ، ولا أن تعضلوهن ، ـ وأما جعل (لا) نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبله ـ فقد ردّه بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفي ـ بلا ـ على مثبت وكانا منصوبين فالقاعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد (لا) ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى ، والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفى عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها ، أو تعطيهم صداقا أخذته كما كانوا يرثونهن كرها ، والمراد ـ بما آتيتموهن ـ على هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئا ، وإلا للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهم فيضاروهن ويضيقوا عليهن


ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن ، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ـ والالتئام عليه ظاهر ، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة ، وهذا الخطاب للأزواج ، والكلام قد تم بقوله سبحانه : (كَرْهاً) فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء ، فلا يقال : قم واقعد خطابا لزيد وعمرو ، بل يقال : قم يا زيد ، واقعد يا عمرو ، وقيل : هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها.

والمراد من قوله سبحانه : (لِتَذْهَبُوا) إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن ، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن بمنزلة العدم ، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ، والاذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به ، وذكر ـ البعض ـ ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها.

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «مبيّنة» على صيغة المفعول ، وعن ابن عباس أنه قرأ «مبيّنة» على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق ـ قاله قتادة والضحاك وابن عباس وآخرون ـ ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم ، وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءة ـ لكن بدون عليكم ـ إلى أبيّ وابن مسعود ، وأخرج ابن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا.

وحكي ذلك عن أبي قلابة وابن سيرين ، والاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره ، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود ، وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهنّ.

وحكي عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن.

وروي مثل ذلك عن عطاء ، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود ، وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك ، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة ـ وهي الزنا عند الأول ـ والسحاق عند الثاني ، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَعاشِرُوهُنَ) أي خالقوهن (بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة ، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة ، والإجمال في القول والفعل.

وقيل : المعروف أن لا يضربها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها ، وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن ، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم ، وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) وفيه بعد (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) كالصحبة والإمساك.


(وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة ، وبذلك قال ابن عباس ومجاهد ، وهذه الجملة علة للجزاء ؛ وقد أقيمت مقامه إيذانا بقوة استلزامها إياه فإن ـ عسى ـ لكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر ، والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن ، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها ، فلعل لكم فيما تكرهونه (خَيْراً كَثِيراً) فإن النفس ربما تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح ، دون ما تهوى الأنفس ، ونكر (شَيْئاً) و (خَيْراً) ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميما للإرشاد ، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه ، وقرئ «ويجعل» بالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، والجملة حال أي ـ وهو ـ أي ذلك الشيء (يَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) وقيل : تقديره والله يجعل الله بوضع المظهر موضع المضمر فالواو حينئذ حالية. وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب : الأول منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ ، والثاني جوازه مطلقا. والثالث التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا ، ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر (وَإِنْ أَرَدْتُمُ) أيها الأزواج (اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) إقامة امرأة ترغبون فيها (مَكانَ زَوْجٍ) أي امرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها (وَآتَيْتُمْ) أي أعطى أحدكم (إِحْداهُنَ) أي إحدى الزوجات ، فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع ، والمراد من الإيتاء كما قال الكرخي : الالتزام والضمان كما في قوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) [البقرة : ٢٣٣] أي ما التزمتم وضمنتم ، ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين ، وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك ، والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها (قِنْطاراً) أي مالا كثيرا ، وقد تقدمت الأقوال فيه (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ) أي من القنطار المؤتى (شَيْئاً) يسيرا أي فضلا عن الكثير (أَتَأْخُذُونَهُ) أي الشيء (بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) استئناف مسوق لتقرير النهي والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين ، ويحتمل أن يكون منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثة ـ وما نحن فيه من الثاني ـ نحو قعدت عن الحرب جبنا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم فقد قيل : كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك ، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ، وقال الزجاج : الباطل الذي يتحير من بطلانه ، وفسر هنا بالظلم ، وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله : وألفي قولها كذبا ومينا وقيل : المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) إنكار بعد إنكار ، وقد بولغ فيه على ما تقدم في (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) ، وقيل : تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي.

وقيل : المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء ـ وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ وهو أحد قولين للإمامية ، وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ الإفضاء ـ الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها ، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة ، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع ، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية ، وأيضا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال ، وذلك أنسب بالجماع ، ومن ذهب إلى الثاني قال : إنما سميت الخلوة إفضاء لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها ، والجملة حال من فاعل (تَأْخُذُونَهُ) مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي تأخذونه ، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع وقد (أَخَذْنَ مِنْكُمْ


مِيثاقاً) أي عهدا (غَلِيظاً) أي شديدا قال قتادة : هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] ثم قال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان ، وروي ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير. وكثير ، وعن مجاهد ـ الميثاق الغليظ ـ كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن ، واستدل بالآية من منع الخلع مطلقا وقال : إنها ناسخة لآية البقرة ، وقال آخر : إنها منسوخة بها ، وروي ذلك عن أبي زيد. وقال جماعة : لا ناسخة ولا منسوخة ، والحكم فيها هو الأخذ بغير طيب نفس ، واستدل بها ـ كما قال ابن الفرس ـ قوم على جواز المغالاة في المهور.

وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل الله تعالى (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر ، فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له ؛ وقالوا : إن الجهل مناف للإمامة ، وأجيب بأن الآية ليست نصا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك : إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه ، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ. سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر بل بطريق الهبة ، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصا إذا أوحشها بالفراق ، وقوله تعالى : (وَقَدْ أَفْضى) لا يعين كون المؤتى مهرا سلمنا كونه مهرا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه.

فقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن من خير النساء أيسرهن صداقا» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها».

وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعا أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا ، فنهي أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير ميلا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قولا وفعلا ، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه ، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به ، فقوله رضي الله تعالى عنه : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه ، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاءوا ، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر بمنصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين ، فقد أخرج ابن جرير وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال : سأل رجل عليّا كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، فقال الأمير : أصبت وأخطأنا (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] ، وقد وقع لداود عليه‌السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء : ٨٧] إلى أن قال عزّ من قائل : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٩] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى ، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه لا من مطاعنه ، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣]. (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ


آباؤُكُمْ) شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج ، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية.

وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه حصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل الله تعالى ينزل فيك شيئا فنزلت (وَلا تَنْكِحُوا) الآية ، ونزلت أيضا (لا يَحِلُّ لَكُمْ) إلخ» وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور ، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه ، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب ، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة ، واسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وفي النهاية إن دلالة الأب على الجد بأحد طريقين : إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع ، ولا يخفى أن كون الدلالة بالإجماع مما لا معنى له ، نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لا خفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصا وإجماعا ، ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعني العقد إن كان صحيحا ولا يشترط الدخول ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ، فقد أخرج عنه ابن جرير والبيهقي أنه قال : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام ، وروي ذلك عن الحسن وابن أبي رباح ، وإن كان النكاح فاسدا فلا بدّ في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بملك اليمين ، وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا ، وإليه ذهبت الإمامية ، وخالفت الشافعية في المحرم ، وتحقيق ذلك أن الناس اختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل : هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين ، وقيل : حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية ، وقيل : بالعكس وعليه أصحابنا ، ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم (١) لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ما أطلقه الأقدمون ، وقد تحقق استعمال النكاح في كل من هذه المعاني ، ففي الوطء قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ولدت من نكاح لا من سفاح» أي من وطء حلال لا من وطء حرام ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح» ، وقول الشاعر :

ومن أيم قد (أنكحتها) رماحنا

وأخرى على خال وعم تلهف

وقول الآخر :

«ومنكوحة» غير ممهورة وقول الفرزدق :

إذ سقى الله قوما صوب عادية

فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا

التاركين على طهر نساءهم

(والناكحين) بشطي دجلة البقرا

وفي العقد قول الأعشى :

فلا تقربن جارة إن سرها

عليك حرام (فانكحن) أو تأبدا

__________________

(١) قال في البحر : وهو مردود فإن الوطء مغاير للضم. وأيده بما في المغرب فارجع إليه ا ه منه.


وفي المعنى الأعم قول القائل :

ضممت إلى صدري معطر صدرها

كما (نكحت) أم الغلام صبيها

وقول أبي الطيب :

«أنكحت» صم حصاها خف يعملة

تغشمرت بي إليك السهل والجبلا

فمدعي الاشتراك اللفظي يقول تحقق الاستعمال والأصل الحقيقة ، والثاني يقول : كونه مجازا في أحدهما حقيقة في الآخر حيث أمكن أولى من الاشتراك ، ثم يدعي تبادر العقد عند إطلاق لفظ النكاح دون الوطء ويحيل فهم الوطء منه حيث فهم على القرينة ، ففي الحديث الأول هي عطف السفاح بل يصح حمل النكاح فيه على العقد وإن كانت الولادة بالذات من الوطء ، وفي الثاني إضافة المرأة إلى ضمير الرجل فإن امرأته هي المعقود عليها فيلزم إرادة الوطء من النكاح المستثنى وإلا فسد المعنى إذ يصير بحل من المعقود عليها كل شيء إلا العقد ، وفي الأبيات الإضافة إلى البقر ونفي المهور ، والإسناد إلى الرماح إذ يستفاد أن المراد وطء البقر والمسبيات ، والجواب منع تبادر العقد عند الإطلاق لغة بل ذلك في المفهوم الشرعي الفقهي ، ولا نسلم أن فهم الوطء فيما ذكر مسند إلى القرينة وإن كانت موجودة إذ وجود قرينة تؤيد إرادة المعنى الحقيقي مما يثبت مع إرادة الحقيقي فلا يستلزم ذلك كون المعنى مجازيا بل المعتبر مجرد النظر إلى القرينة إن عرف أنه لولاها لم يدل اللفظ على ما عنيته فهو مجاز وإلا فلا ، ونحن في هذه المواد المذكورة نفهم الوطء قبل طلب القرينة ، والنظر في وجه دلالتها فيكون اللفظ حقيقة وإن كان مقرونا بما إذا نظر فيه استدعى إرادة ذلك المعنى ، ألا يرى أن ما ادعوا فيه الشهادة على أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء من بيت الأعشى فيه قرينة تفيد العقد أيضا فإن قوله : فلا تقربن جارة نهي عن الزنا بدليل أن سرها عليك حرام فيلزم أن قوله : فانكحن أمر بالعقد أي فتزوج إن كان الزنا عليك حراما أو تأبد ـ أي توحش أي كن كالوحش بالنسبة إلى الآدميات فلا يكن منك قربان لهن كما لا يقربهن وحش ، ولم يمنع ذلك أن يكون اللفظ حقيقة في العقد عندهم في البيت إذ هم لا يقولون بأنه مجاز فيه ، وأما ادعاء أنه في الحديث للعقد فيستلزم التجوز في نسبة الولادة إليه لأن العقد إنما هو سبب السبب ، ففيه دعوى حقيقة بالخروج عن حقيقة وهو ترجيح بلا مرجح لو كانا سواء ، فكيف والأنسب كونه في الوطء ليتحقق التقابل بينه وبين السفاح إذ يصير المعنى عن وطء حلال لا وطء حرام فيكون على خاص من الوطء ، والدال على الخصوصية لفظ السفاح أيضا فثبتت إلى هنا أنا لم نزده على ثبوت مجرد الاستعمال شيئا يجب اعتباره ، وقد علم أيضا ثبوت الاستعمال في الضم فباعتباره حقيقة فيه يكون مشتركا معنويا من أفراده الوطء والعقد إن اعتبرنا الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول ، أو الوطء فقط فيكون مجازا في العقد لأنه إذا دار بين المجاز والاشتراك اللفظي كان المجاز أولى ما لم يثبت صريحا خلافه. ولم يثبت نقل ذلك بل قالوا : نقل المبرد عن البصريين ، وغلام ثعلب عن الكوفيين أنه الجمع والضم ، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض بتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه فوجب كونه مجازا في العقد ـ كذا في فتح القدير ـ.

إذا علمت ذلك فنقول : حمل الشافعية النكاح في الآية التي نحن فيها على العقد دون الوطء ، واستدلوا بها على حرمة المعقود عليها وإن لم توطأ ، وذهبوا إلى عدم ثبوت الحرمة بالزنا وحمله بعض أصحابنا على العقد فيها ، واستدلوا بها على حرمة نكاح نساء الآباء والأجداد ، وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وجعلوا حرمة العقد ثابتة بالإجماع ، ثم قالوا : ولو حمل على العقد تكون حرمة الوطء ثابتة بطريق الأولى.


واعترض بأنه لا ينبغي أن يقال : ثبت حرمة الموطوءة بالآية ، والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة بمجرد العقد ـ ولفظ الدليل الصالح له ـ كان مرادا منه بلا شبهة ؛ فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون ، ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا احتمله ، وحمله آخرون على الوطء والعقد معا فقد قال الزيلعي : الآية تتناول منكوحة الأب وطءا وعقدا صحيحا ، ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي ، وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه ، وقد نقل أيضا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذ لا إشكال في كون الآية دليلا على حرمة الموطوءة والمعقود عليها كما لا يخفى.

واعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول ، والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات ، ولا عموم للمشترك مطلقا ، وفي الأكمل ، والحق أن النفي كما اقتضاه الإثبات فإن اقتضى الإثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا ، ومسألة اليمين المذكورة في المبسوط حلف لا يكلم مواليه ـ وله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنث ـ ليست باعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض ، وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها ، وفي البحر : أن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه ، ويستدل لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم ، و (ما) موصول اسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقا ، وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه ، وقيل : مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم وليس بالوجيه (مِنَ النِّساءِ) في موضع الحال من (ما) أو من العائد عليها ، وعند الطبري متعلقة بنكح ، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين ، وظاهره أنها بيانية ، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي ، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذا المنكوحات لا يكن إلا نساء التعميم كأنه قيل : أي امرأة كانت ، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم ، والكلام حينئذ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

«بهن فلول من قراع الكتائب»

والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من مات منهن. والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] والمعلق على المحال محال ، وقيل : إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل : تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه ، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل ، و (ما قَدْ سَلَفَ) ماض فكيف يستثنى منه ، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره ، ولا يعد ذلك زنا ، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية ، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا ، ولا لأولاد أهل الذمة مثلا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه ، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه ، وحكي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن ،


وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج ، قال البلخي : وهذا خلاف الإجماع ، وما علم من دين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه : (إِنَّهُ) أي نكاح ما نكح الآباء (كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الاخبار بأنه فاحشة مبغوضا باستحقار جدا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الاخبار بأنه مقت ، وإنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه (كانَ) على ما ذكره علي بن عيسى وغيره ، وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري ، وارتضاه جمع من المحققين ، ومن الناس من استظهر كون هذه الجملة خبرا على تقدير الانقطاع وليس بالظاهر ، ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا ، وليس بشيء ، وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت ، ويسمى الولد منه مقتي ، ويقال له أيضا : مقيت أي مبغوض مستحقر ، وكان من هذا النكاح ـ على ما ذكره الطبرسي ـ الأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح ، ففي ساء ضمير مبهم يفسره ما بعده ، والمخصوص بالذم محذوف ، وذم الطريق مبالغة في ذم سالكها وكناية عنه ، ويجوز ـ واختاره الليث ـ أن تكون (ساءَ) كسائر الأفعال ففيها ضمير يعود إلى ما عاد اليه ضمير به. و (سَبِيلاً) تمييز محول عن الفاعل ، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وإما معطوفة على خبر (كانَ) محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة أي ومقولا في حقه ذلك في سائر الأعصار.

قال الإمام الرازي : مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي ، والقبح الشرعي ، والقبح العادي ، وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك ، فقوله سبحانه : (فاحِشَةً) إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي ، وقوله تعالى : (وَمَقْتاً) إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ، وقوله عزوجل : (وَساءَ سَبِيلاً) إشارة إلى مرتبة قبحه العادي ، وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح ، وأنت تعلم أن كون قوله عزّ شأنه : (وَمَقْتاً) إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون لمراد (وَمَقْتاً) عند الله تعالى ، وأما على تقدير أن يكون المراد (وَمَقْتاً) عند ذوي المروءات فليس بقاهر ، ومن هنا قيل : إن قوله جل شأنه : (فاحِشَةً) إشارة إلى القبح الشرعي (وَمَقْتاً) إشارة إلى العقلي بمعنى المنافرة (وَساءَ سَبِيلاً) إلى العرفي ، وعندي أن لكل وجها ، ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفي ، ومما يدل على فظاعة أمره ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد؟ قال : بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣)


(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) ليس المراد تحريم ذاتهن لأن الحرمة وأخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين ، فالكلام على حذف مضاف بدلالة العقل ، والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ، ولو لم يكن المراد هذا كأن تخلل أجنبي بينهما من غير نكتة فلا إجمال في الآية خلافا للكرخي ، والجملة إنشائية وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي ؛ وقال بعض المحققين : لا مانع من كونها إخبارية والفعل الماضي فيها مثله في التعاريف نحو الاسم ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بأحد الأزمنة ، والفعل ما دل واقترن ، فإنهم صرحوا أن الجملة الماضوية هناك خبرية وإلا لما صح كونها صلة الموصول مع أنه لم يقصد من الفعل فيها الدلالة على الزمان الماضي فقط ، وإلا للزم أن يكون حال المعرف في الزمان الحال والمستقبل ليس ذلك الحال ، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لأنه لا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى ، و (أُمَّهاتُكُمْ) تعم الجدات كيف كنّ إذ الأم هي الأصل في الأصل ـ كأم الكتاب ، وأم القرى ـ فتثبت حرمة الجدات بموضوع اللفظ وحقيقته لأن الأم على هذا من قبيل المشكك ، وذهب بعضهم إلى أن إطلاق الأم على الجدة مجاز ، وأن إثبات حرمة الجدات بالإجماع ، والتحقيق أن الأم مراد به الأصل على كل حال لأنه إن استعمل فيه حقيقة فظاهر ، وإلا فيجب أن يحكم بإرادته مجازا فتدخل الجدات في عموم المجاز والمعرف لإرادة ذلك في النص الإجماع على حرمتهن.

والمراد بالبنات من ولدتها أو ولدت من ولدها ؛ وتسمية الثانية بنتا حقيقة باعتبار أن البنت يراد به الفرع ـ كما قيل به ـ فيتناولها النص حقيقة أو مجازا عند البعض ، أو عند الكل ، ومن منع إطلاق البنت على الفرع مطلقا قال : إن ثبوت حرمة بنات الأولاد بالإجماع ، وقد يستدل على تحريم الجدات وبنات الأولاد بدلالة النص المحرم للعمات والخالات وبنات الأخ والأخت ، ففي الأول لأن الأشقّاء منهن أولاد الجدات فتحريم الجدات وهن أقرب أولى ، وفي الثاني لأن بنات الأولاد أقرب من بنات الإخوة ، ثم ظاهر النص يدل على أنه يحرم للرجل بنته من الزنا لأنها بنته ، والخطاب إنما هو باللغة العربية ما لم يثبت نقل ـ كلفظ الصلاة ونحوه ـ فيصير منقولا شرعيا ، وفي ذلك خلاف الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فقد قال : إن المخلوقة من ماء الزنا تحل للزاني لأنها أجنبية عنه إذ لا يثبت لها توارث ولا غيره من أحكام النسب ، ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «الولد للفراش» وهو يقتضي حصر النسب في الفراش.

وقال بعض الشافعية : تحرم إن أخبره نبي ـ كعيسى عليه‌السلام ـ وقت نزوله بأنها من مائه ، ورد عليه بأن الشارع قطع نسبها عنه كما تقرر فلا نظر لكونها من ماء سفاحه ، واعترضوا على القائلين بالحرمة بأنهم إما أن يثبتوا كونها بنتا له بناء على الحقيقة لكونها مخلوقة من مائة ، أو بناء على حكم الشرع ، والأول باطل على مذهبهم طردا وعكسا ، أما الأول فلأنه لو اشترى بكرا وافتضها وحبسها إلى أن تلد فهذا الولد مخلوق من مائه بلا شبهة مع أنه لا يثبت نسبه إلا عند الاستلحاق ، وأما الثاني فلأن المشرقي لو تزوج مغربية وحصل هناك ولد منها مع عدم اجتماعها مع زوجها وحيلولة ما بين المشرق والمغرب بينهما فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه ، والثاني باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه ، وأجيب باختيار الشق الأول إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن المخلوقة من ماء إنسان بنته سواء كان ذلك الماء ماء حلال أو سفاح والجزئية ثابتة في الصورتين ، والظاهر أنها هي مبدأ حرمة النكاح ، ألا ترى كيف حرم على المرأة ولدها من الزنا إجماعا ، والتفرقة بين المسألتين بأن الولد في المسألة الثانية بعضها ، وانفصل منها إنسانا ، ولا كذلك البنت في المسألة الأولى لأنها انفصلت منه منيا لا تفيد سوى أن البعضية في المسألة الثانية أظهر ، وأما أنها تنفي البعضية في المسألة الأولى فلا


لأنهم يطلقون البضعة ـ وهي تقتضي البعضية ـ على الولد المنفصل منيا من أبيه ، فيقولون : فلان بضعة ، وفلانة بضعة من فلان ، وإنكار وجود الجزئية في المسألتين مكابرة ، وعدم ثبوت التوارث مثلا بين المخلوقة من ماء الزنا وصاحب الماء ليس لعدم الجزئية وكونها ليست بنته حقيقة بل للإجماع على ذلك ، ولولاه لورثت كما يرث ولد الزنا أمه.

وما ذكر في بيان إبطال الطرد من أنه لو اشترى بكرا فافتضها وحبسها فولدت فالولد مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلا بالاستلحاق أخذه من قول الفقهاء في الأمة إذا ولدت عند المولى أنه لا يثبت نسب ولدها منه إلا أن يعترف به ، ولا يكفي أنه وطئها فولدت ، لكن في الهداية ، وغيرها أن هذا حكم ، فأما الديانة بينه وبين الله تعالى ـ فالمروي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى عنه ـ أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى أن يدعيه بالإجماع لأن الظاهر ـ والحال هذه ـ كونه منه ، والعمل بالظاهر واجب ، وإن كان عزل عنها حصنها أو لا أو لم يعزل ولكن لم يحصنها فتركها تدخل وتخرج بلا رقيب مأمون جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهر ـ وهو كونه منه بسبب أن الظاهر عدم زنا المسلمة ـ يعارضه ظاهر آخر وهو كونه من غيره لوجود أحد الدليلين على ذلك ، وهما العزل ، أو عدم التحصين ، وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف ومحمد ذكرهما في المبسوط فقال : وعن أبي يوسف إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بولد فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو لم يحصنها تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على الصلاح ما لم يتبين خلافه ، وهذا كمذهب الجمهور لأن ما ظهر بسببه يكون حالا به عليه حتى يتبين خلافه ، وعن محمد لا ينبغي أن يدعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي أن يعتق الولد ، وفي الإيضاح ذكرهما بلفظ الاستحباب ، فقال : قال أبو يوسف : أحب أن يدعيه ، وقال محمد : أحب أن يعتق الولد ، وقال في الفتح بعد كلام. وعلى هذا ينبغي أن لو اعترف فقال : كنت أطأ لقصد الولد عند مجيئها بالولد أن يثبت نسب ما أتت به وإن لم يقل هو ولدي لأن ثبوته بقوله : هو ولدي بناء على أن وطأه حينئذ لقصد الولد ، وعلى هذا قال بعض فضلاء الدرس : ينبغي أنه لو أقر أنه كان لا يعزل عنها وحصنها أن يثبت نسبه من غير توقف دعواه ، وإن كنا نوجب عليه في هذه الحالة الاعتراف به فلا حاجة إلى أن نوجب عليه الاعتراف ليعترف فيثبت نسبه بل يثبت نسبه ابتداء ، وأظن أن لا بعد في أن يحكم على المذهب بذلك انتهى ، وفي المبسوط أنه إذا تطاول الزمان ألحق به لأن التطاول دليل إقراره لأنه يوجد منه حينئذ ما يدل على الإقرار من قبول التهنئة ونحوه فيكون كالتصريح بإقراره.

ومن مجموع ما ذكر يعلم ما في كلام المعترض ، وأن للخصم عدم تسليمه لكن ذكر في البحر متعقبا : ظن بعد الفضلاء أنه لا يصح أن يحكم على المذهب به لتصريح أهله بخلافه ، ونقل نص البدائع في ذلك. ثم قال فإن أراد الثبوت عند القاضي ظاهرا فقد صرحوا أنه لا بد من الدعوة مطلقا ، وإن أراد فيما بينه وبين الله تعالى فقد صرح في الهداية وغيرها بأن ما ذكرناه من اشتراط الدعوة إنما هو في القضاء إلى آخر ما ذكرناه لكن في المجتبى لا يصح إعتاق المجنون وتدبيره ويصح استيلاده ، فهذا إن صح يستثنى من الحكم وهو مشكل انتهى ، وعلى هذا يقال في المسألة التي ذكرها المعترض : المولود ولد للمولى في نفس الأمر لأنه مخلوق من مائه وولد الزنا كذلك وزيادة حيث انضم إلى ذلك الإقرار ، والله سبحانه جعل مناط الحرمة البنوة وهي متحققة في مسألتنا فكيف يحل النكاح في نفس الأمر ، وعدم ثبوت التوارث ونحوه كما قلنا كان إجماعا ، وعدم الاستلحاق قضاء إلا بالدعوى أمر آخر وراء تحقق البنوة في نفس الأمر فكم متحقق في نفس الأمر لا يقضى به وكم مقضي به غير متحقق في نفس الأمر ـ كما في خبر الفرس


التي اشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأعرابي وشهد له خزيمة لما أنكر الأعرابي البيع ـ وقد حقق الكلام في بحث الاستيلاء في فتح القدير وغيره من مبسوطات كتب القوم ، وما ذكر في إبطال العكس من مسألة تزوج المشرقي بمغربية فلا نسلم القطع فيها بأن الولد ليس مخلوق من مائه لثبوت كرامات الأولياء والاستخدامات فيتصور أن يكون الزوج صاحب خطوة أو جنى ، وأنه ذهب إلى المغرب فجامعها ، ولو لا قيام هذا الاحتمال مع قيام النكاح لم يلحق الولد به ، ألا ترى كيف قال الأصحاب : لو جاءت امرأة الصبي بولد لم يثبت نسبه منه لعدم تصور ذلك هناك والتصور شرط ، وقيام الفراش وحده غير كاف على الصحيح ، ولعل اعتبار هذه البنوة قضاء وإلا فحيث لم يكن الولد مخلوقا من مائه لا يقال له ولد الزوج في نفس الأمر وإنما اعتبروا ذلك مع ضعف الاحتمال سترا للحرائر وصيانة للولد عن الضياع ، وقريب من هذا ما ذهب إليه الشافعي ومالك وأحمد رحمهم‌الله تعالى في باب الاستيلاد أن الجارية إذا ولدت يثبت نسب الولد من المولى إذا أقر بوطئها مع العزل كما يثبت مع عدم العزل بل لو وطئها في دبرها يلزمه الولد عند مالك ، ومثله عن أحمد ، وهو وجه مضعف للشافعية ، وقيل : إن بين هذه المسألة ومسألة تزويج المشرقي بمغربية بعدا كبعد ما بين المشرق والمغرب لأن الوطء هنا متحقق في الجملة من غير حاجة إلى قطع براري وقفار ولا كذلك هناك والله تعالى أعلم. والبنات جمع بنت في المشهور وصحح أن لامها واو كأخت وإنما رد المحذوف في أخوات ولم يرد في بنات حملا لكل واحد من الجمعين على مذكره ، فمذكر بنات لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه بنون ، ومذكر أخوات رد فيه محذوفه فقالوا في جمع أخ : إخوة وأخوات ، وقد نظم الدنوشري السؤال فقال :

أيها الفاضل اللبيب تفضل

بجواب به يكون رشادي

لفظ أخت ولفظ بنت إذا ما

جمعا جمع صحة لا فساد

فلأخت ترد لام وأما

لفظ بنت فلا فأوضح مرادي

مع تعويضهم من اللام تاء

فيهما لا برحت أهل اعتمادي

وقد أجاب هو رحمه‌الله تعالى عن ذلك بقوله :

لفظ أخت له انضمام بصدر

ناسب الواو فاكتسى بالمعاد

وقال أبو البقاء : التاء فيها ليست للتأنيث لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها ، وتقلب هاء في الوقف فبنات ليس بجمع بنت بل إ ، وكسرت الباء تنبيها على المحذوف قاله الفراء ، وقال غيره : أصلها الفتح وعلى ذلك جاء جمعها ، ومذكرها وهو بنون ، وإلى ذلك ذهب البصريون ، وأما أخت فالتاء فيها بدل من الواو لأنها من الأخوة ، والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات لأن الاسم يشمل الكل ويدخل في العمات والخالات أولاد الأجداد والجدات وإن علوا ، وكذا عمة جده وخالته وعمة جدته وخالاتها لأب وأم أو لأب أو لأم وذلك كله بالإجماع ، وفي الخانية وعمة العمة لأب وأم أو لأب كذلك ، وأما عمة العمة لأم فلا تحرم ، وفي المحيط : وأما عمة العمة فإن كانت العمة القربى عمة لأب وأم أو لأب فعمة العمة حرام لأن القربى إذا كانت أخت أبيه لأب وأم أو لأب فإن عمتها تكون أخت جدة أب الأب وأخت أب الأب حرام لأنها عمته وإن كانت القربى عمة لأم فعمة العمة لا تحرم عليه لأن أب العمة يكون زوج أم أبيه فعمتها تكون أخت زوج الجدة أو الأب ، وأخت زوج الأم لا تحرم ، فأخت زوج الجدة أولى أن لا تحرم ، وأما خالة الخالة فإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم أو لأم فخالتها تحرم عليه ، وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه لأن أم الخالة القربى تكون امرأة الجد أب الأم لا أم أمه فأختها تكون أخت


امرأة الأب وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه انتهى ، ولا يخفى أنه كما يحرم على الرجل أن يتزوج بمن ذكر يحرم على المرأة التزوج بنظير من ذكر.

والظاهر أن هذا التحريم الذي دلت عليه الآية لم يثبت في جميع المذكورات في سائر الأديان ، نعم ذكروا أن حرمة الأمهات ، والبنات كانت ثابتة حتى في زمان آدم عليه‌السلام ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان ، وقيل : إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله ، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا ، وعدم إيذاء الصفر المذاب له لأدوية كان يلطخ بها جسده ، وقد شاهدنا من يحمل النار بيده بعد لطخها بأدوية مخصوصة ولا تؤذيه ـ وحينئذ لا يصلح أن يكون معجزة.

وأما نكاح الأخوات فقد قيل : إنه كان مباحا في زمان آدم عليه‌السلام للضرورة وكانت حواء عليها‌السلام تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فيأخذ ذكر البطن الثانية أنثى البطن الأولى ، وبعض المسلمين ينكر ذلك ويقول : إنه بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم عليه‌السلام ، ويرد عليه أن هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك باطل الإجماع (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) عطف على سابقه والرضاعة بفتح الراء مصدر رضع كسمع وضرب ، ومثله الرضاعة بالكسر ، والرضع بسكون الضاء وفتحها ، والرضاع كالسحاب ، والرضع كالكتف ، وحكوا رضع ككرم ورضاعا كقتال ، وقد تبدل ضاده تاء ، ورضاعا كسؤال لكن المضموم كالمراضعة تقتضي الشركة ، ويقال : أرضعت المرأة فهي مرضع إذا كان لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت : مرضعة ، ومعناها لغة مص الثدي ، وشرعا مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص ، وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في المدة الآتية سواء وجد مص أو لم يوجد ، وإنما ذكروا المص لأنه سبب للوصول فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب ، وقد صرح في الخانية أنه لا فرق بين المص والسعوط ونحوه ، وقيدوا بالآدمية ليخرج الرجل والبهيمة ، وتفرد الإمام البخاري ـ وهو سبب فتنته في قول ـ فذهب فيما إذا ارتضع صبي وصبية من ثدي شاة إلى وقوع الحرمة بينهما وأطلقت لتشمل البكر والثيب الحية والميتة ، وقيدنا بالفم والأنف ليخرج ما إذا وصل بالإقطار في الأذن. والإحليل والجائفة والآمة وبالحقنة في ظاهر الرواية ، وخرج بالوصول ما لو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيع ولا تدري أدخل اللبن في حلقه أم لا لا يحرم النكاح لأن في المانع شكا ، وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع ، والمراضعة أختا ، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته ، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه ، وأم المرضعة جدته ، وأختها خالته ، وكل ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه ، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم : «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب».

وذهب كثير من المحققين كمولانا شيخ الإسلام ، وغيره إلى أن الحديث جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى تخل بعمومه ضرورة حلهن في صورة الرضاع بل من جهة المصاهرة ، ألا يرى أن الأولى موطوءة أبيه ، والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته. والرابعة موطوءة جده الصحيح ، والخامسة موطوءة جده الفاسد ، ووقع في عبارة بعضهم استثناء صور بعد سوق الحديث ، وأنهى في البحر المسائل المستثنيات إلى إحدى وثمانين مسألة ، وأطال الكلام في هذا المقام ، وأتى بالعجب العجاب ، وظاهر الآية أنه لا فرق بين قليل الرضاع وهو ما يعلم وصوله إلى الجوف وكثيره في التحريم ، وأما


خبر مسلم «لا تحرم المصة والمصتان» وما دل على التقدير فمنسوخ (١) صرح بنسخه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قيل له : إن الناس يقولون : إن الرضعة لا تحرم فقال : كان ذلك ثم نسخ.

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيرة يحرم ، وروي عن ابن عمر أن القليل يحرم ، وعنه أنه قيل له : إن الزبير يقول : لا بأس الرضعة والرضعتين فقال : قضاء الله تعالى خير من قضاء ابن الزبير ، وتلا الآية ، وقال الشافعي عليه الرحمة على ما نقله أصحابنا (٢) عنه لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات متفاصلة عرفا ، وعن أحمد روايتان كقولنا وكقوله ، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث الزبير أنه قال : قال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان ، ووجه الاستدلال بذلك بأن المصة داخلة في المصتين ، والإملاجة في الإملاجتين ، فحاصله لا تحرم المصتان ولا الإملاجتان فنفى التحريم على أربع فلزم أن يثبت بخمس.

واعترضه ابن الهمام بأنه ليس بشيء ، أما أولا فلأن مذهب الشافعي ليس التحريم بخمس مصات بل بخمس شبعات في أوقات ، وأما ثانيا فلأن المصة فعل الرضيع والإملاجة الإرضاعية فعل المرضعة ، فحاصل المعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نفى كون الفعلين محرمين منه ومنها ثم حقق أن ما في هذه الرواية لا ينبغي أن يكون حديثا واحدا بأن الاملاج ليس حقيقة المحرم بل لازمه من الارتضاع فنفي تحريم الاملاج نفي تحريم لازمه فليس الحاصل من لا تحرم الاملاجتان إلا لا يحرم لازمهما أعني المصتين فلو جمعا في حديث كان الحاصل لا تحرم المصتان ولا المصتان فلزم أن لا يصح أن يراد إلا المصتان لا الأربع ، وعلى هذا يجب كون الراوي وهو الزبير رضي الله تعالى عنه ـ أراد أن يجمع بين ألفاظه صلى الله تعالى عليه وسلم التي سمعها منه في وقتين كأنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تحرم المصة والمصتان» وقال أيضا : «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان».

وقيل : في وجه الاستدلال طريق آخر ، وهو أن الحديث ناف لما ذهب إليه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيثبت به مذهب الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى لعدم القائل بالفصل ، واعترض بأن القائل بالفصل أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد ، وهؤلاء أئمة الحديث قالوا : المحرم ثلاث رضعات ، والقول بعدم اعتبار قولهم في حيز المنع لقوة وجهه بالنسبة إلى وجه قول الشافعي.

واستدل بعض أصحابه على هذا المطلب بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ؛ ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن ، وفي رواية أنه كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تشاغلنا بموته فدخلت دواجن فأكلتها ، وبما روي عن عائشة أيضا قالت : جاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرضعي سالما خمسا تحرمي بها عليه» والجواب أن جميع ذلك منسوخ كما صرح بذلك ابن عباس فيما مر.

ويدل على نسخ ما في خبر عائشة الأول أنه لو لم يكن منسوخا لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ والله تعالى قد تكفل بحفظه ، وما في الرواية لا ينافي النسخ لجواز أن يقال : إنها رضي الله تعالى عنها أرادت أنه كان مكتوبا

__________________

(١) كحديث «يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال : لا» ا ه منه.

(٢) وإنما قيدنا بذلك لأن قيد «مشبعات» خلاف ما يدل عليه كتب مذهبه ا ه منه.


ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته ، والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم ـ كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ـ ليس بشيء لأن ادعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه ، وما نظر به لو لا ما علم بالسنة. والإجماع لم يثبت به ، ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالما خمس رضعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه هذا محال عادة ، فالظاهر أن معدود خمس فيه إن صح أنها من الخبر المصات ، ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئا مقدار خمس رضعات فيشربه ـ كما قال القاضي ـ وإلا فهو مشكل ، وقد يقال : هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالما كان إذ ذاك رجلا وهذا مما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا عند الإمام الأعظم ، وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدا ، وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة ، وعن مالك : سنتان وشهر ، وفي رواية أخرى شهران ، وفي أخرى سنتان وأيام ، وفي أخرى ما دام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه ، وقال زفر : ثلاث سنين ، نعم قال بعضهم : خمس عشرة سنة ، وقال آخرون : أربعون سنة ، وقال داود : الإرضاع في الكبر محرم أيضا ، ولا حدّ للمدة ـ وهو مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ـ وكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه ، وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا ، وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه ، فقد صح مرفوعا وموقوفا «لارضاع إلا ما كان في حولين» وفي الموطأ وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد «أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال : إني مصصت من امرأتي ثديها لبنا فذهب في بطني فقال أبو موسى : لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال ابن مسعود : انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى : فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود : لا رضاع إلا في حولين ، فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم ، وفيه عن ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت : دونك قد والله أرضعتها قال عمر : أرجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر ، وروى الترمذي ـ وقال حديث صحيح ـ من حديث أم سلمة أنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم» (١) حتى أن عائشة نفسها رضي الله تعالى عنها روت ما يخالف عملها ، ففي الصحيحين عنها أنها قالت : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي رجل فقال : يا عائشة من هذا؟ فقلت : أخي من الرضاعة فقال : يا عائشة انظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة» واعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع اجتهادها على المحز ، ولهذا قيل : يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ ؛ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم ، وجعلوا أيضا العفو عن مباشرة العورة من الخواص.

هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه‌الله تعالى سماها ـ الدوران الفلكي على ابن الكركي ـ وفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه : ما ذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار

__________________

(١) بالزاي والراء ا ه منه.


في البلد ولم يجب عنه أحد ، وفي الفرق بين قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وبين ما لو قيل : واللاتي أرضعنكم أمهاتكم حيث رتب على الأول خمس رضعات واردة ، ولو قيل : الثاني لا كتفي برضعة واحدة ، ولقد ورد عليّ وسيق إلي فلم أكتب عليه مع أن جوابه نصب عيني ، وعتيد لدي لا يحول شيء بينه وبيني لأنظر هل من رجل رشيد أو أحد له في العلم قصر مشيد هلا أبدعت فيه جوابا مسددا ، ونوعت فيه طرائق قددا ، واتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدا وعضدا ، وها له نحو عامين ما حلاه أحد بحرف ، ولا رمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف ، ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات ولسطرت فيه خمس مصنفات ، بسيط حريز ووسيط غريز ، ومختصر وجيز ، ومنظومة ذات تطريز ، ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز انتهى كلامه.

(وأقول) لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر (أُمَّهاتُكُمْ) في هذه الآية معطوفا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله : (اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) بيانا لذلك دافعا لتوهم التكرار فكان قيد الإرضاع الواقع صلة معتنى به أتم اعتناء ، ومما يترتب على هذا الاعتناء اعتباره أينما لوحظ ، وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى حين أتى به فعلا ، والثانية حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة ، والثالثة حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين ، والرابعة حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول ، والخامسة حين جعل (اللَّاتِي) صفة (أُمَّهاتُكُمْ) لأن وصفيته لها باعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للإرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات ، وهذا أحد الأسرار لاختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه ، وكثيرا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٢٨] من الاحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الائتلاف ، وما وقع في قوله تعالى : (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) [البقرة : ٢٨٢] من الإدغام في (يُمِلَ) المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال ، وما وقع في قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) [الأنبياء : ٣٣] من عدم الاستحالة بالانعكاس المشير إلى كرية الأفلاك في رأي إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة.

وليس هذا من باب الاستدلال بل من باب الإشارة المقوية له ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى اشتراط الخمس بهذه الآية ولكن استدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار ، وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه‌الله تعالى ، وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم ، لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرئب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اشرأب فيما ذكر قبل ، فلا داعي لاعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي اعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لا سيما وقد ذكر بعد (أُمَّهاتُكُمْ) على أنه بدل والبدل كما قالوا : هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده ، وهذا التوكيد أيضا مشعر بوحدة الإرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة ، وقد رأيت في بعض نسخ شرح صحيح مسلم للإمام النووي بعد ذكر استدلال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) حيث لم يذكر عددا ما نصه : واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا : إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم انتهى ، ولم يصرح رحمه‌الله تعالى بأن الآية التي استدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد يأبى حمل الماهية على


أقل ما تتحقق فيه ، وفي بعض نسخ ذلك الشرح ـ واعترض أصحاب الشافعي على المالكية ـ فقالوا : إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين (أَرْضَعْنَكُمْ) وبين (أُمَّهاتُكُمْ) والظاهر أنها غلط من الناسخ ، والتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحا.

هذا ما ظهر لنظري القاصر وفكري الفاتر ، ولقد سألت بالرفق عن هذا الفرق جمعا من علماء عصري ، وراجعت لشرح ذلك المتن جميع الفضلاء الذين تضمنتهم حواشي مصري فلم أر من نطق ببنت شفة ولا من ادعى في حل ذلك الإشكال معرفة مع أن منهم من خضعت له الأعناق ، وطبقت فضائله الآفاق ، وما رأيت من المروءة أن أمهلهم حتى ينقر في الناقور أو أنتظر بنات أفكارهم إلى أن يلد البغل العاقور الباقور ، فكتبت ما ترى ولست على يقين أنه الأولى والأحرى فتأمل ، فلمسلك الذهن اتساع والحق أحق بالاتباع (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب.

والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ بنتها ، أخرج البيهقي في سننه ، وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة» وإلى ذلك ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وعن ابن عباس روايتان ، فقد أخرج ابن المنذر عنه أنه قال : «النساء مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها».

وأخرج هو أيضا عن مسلم بن عويمر أنه قال : نكحت امرأة فلم أدخل بها حتى توفي عمي عن أمها فسألت ابن عباس فقال : انكح أمها ، وعن زيد بن ثابت أيضا روايتان ، فقد أخرج مالك عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ففارقها قبل أن يمسها هل تحل له أمها؟ فقال : لا الأم مبهمة ليس فيها شرط إنما الشرط في الربائب.

وأخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها ، وحكي عن ابن مسعود كان يفتي بحل أم الامرأة إذا لم يكن دخل ببنتها ثم رجع عن ذلك ، فقد أخرج مالك عنه أنه استفتي بالكوفة عن نكاح الأم بعد البنت إذا لم تكن البنت مست فأرخص في ذلك ، ثم أنه قدم المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال ، وإن الشرط في الربائب فرجع إلى الكوفة فلم يصل إلى بيته حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارقها.

وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ فقال : هي بمنزلة الربيبة ، وإلى ذلك ذهب ابن الزبير ومجاهد ، ويدخل في لفظ الأمهات الجدات من قبل الأب والأم وإن علون وإن كانت امرأة الرجل أمة فلا تحرم أمها إلا بالوطء أو دواعيه لأن لفظ النساء إذا أضيف إلى الأزواج كان المراد منه الحرائر كما في الظهار والإيلاء ، وقرئ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) الربائب جمع ربيبة ورب وربي بمعنى ، والربيب فعيل بمعنى مفعول ، ولما ألحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له وإلا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وهذا معنى قولهم : إن التاء للنقل إلى الاسمية ، والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده ، والحجور جمع حجر بالفتح والكسر ، وهو في اللغة حضن الإنسان أعني ما دون إبطه إلى الكشح ، وقالوا : فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعته ، وهو المراد في الآية ، ووصف الربائب بكونهن في الحجور مخرج مخرج الغالب والعادة إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج ، وفائدته تقوية علة الحرمة كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء ، وقيل : ذكر ذلك


للتشنيع عليهم نحو (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] في قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ولو لا ما ذكر لثبتت الإباحة عند انتفائه بدلالة اللفظ في غير محل النطق عند من يعتبر مفهوم المخالفة وبالرجوع إلى الأصل وهو الإباحة عند من لا يعتبر المفهوم لأن الخروج عنه إلى التحريم مقيد بقيد فإذا انتفى القيد رجع إلى الأصل لا بدلالة اللفظ ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقول بحل الربيبة إذا لم تكن في الحجر ؛ فقد أخرج عبد الرزاق. وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال : «كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فقال : ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة فقال : لها بنت؟ قلت : نعم وهي بالطائف قال : كانت في حجرك؟ قلت : لا قال : أنكحها قلت : فأين قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)؟ قال : إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك» وإلى هذا ذهب داود ، والأول مذهب الجمهور ، وإليه رجع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، ويدخل في الحرمة بنات الربيبة والربيب وإن سفلن لأن الاسم يشملهن بخلاف الأبناء والآباء لأنه اسم خاص بهن فلذا جاز التزوج بأم زوجة الابن وبنتها ، وجاز للابن التزوج بأم زوجة الأب وبنتها.

وقال بعض المحققين : إن ثبوت حرمة المذكورات بالإجماع (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من (رَبائِبُكُمُ) أو من ضميرها المستكن في الظرف أي اللاتي استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم إلخ ، و (اللَّاتِي) صفة للنساء المذكور قبله ، وهي للتقييد إذ ربيبة الزوجة الغير المدخول بها ليست بحرام ولا يجوز كون الجار حالا من أمهات أيضا ، أو مما أضيفت هي إليه ضرورة أن الحالية من ربائبكم أو من ضميره يقتضي كون (مِنَ) ابتدائية وحاليته من أمهات ، أو (مِنْ نِسائِكُمُ) يستدعي كونها بيانية ، وادعاء كونها اتصالية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقوله :

إذا حاولت في أسد فجورا

فلست (١) منك ولست مني

وهو معنى ينتظم الابتداء والبيان فيتناول اتصال الأمهات بالنساء لأنهن والدات ، وبالربائب لأنهن مولودات ، أو جعل الموصول صفة للنساءين مع اختلاف عامليهما لأن النساء المضاف إليه أمهات مخفوض بالإضافة ، والمجرور بمن بها بعيد جدا بل ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه ، وأما القراءة فضعيفة الرواية ، وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ كما قاله شيخ الإسلام ، والباء من بهن للتعدية ، وفيها معنى المصاحبة أو بمعنى مع أي دخلتم معهن الستر ، وهو كناية عن الجماع ـ كبنى عليها ، وضرب عليها الحجاب ـ وكثير من الناس يقول : بنى بها ، ووهمهم الحريري ـ وهو وهم ـ واللمس ونظائره في حكم الجماع عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، قال بعض الفضلاء : واعترض بأن ما ذهب إليه لا مجال له لأن صريح الآية غير مراد قطعا بل ما اشتهر من معناها الكنائي فما قاله إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح معنى الشرط ، وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل ، وإن أثبت بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصوله ، ويدفع بأنه من صريح النص لأن باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال : دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت (فإن قلت) هب أن الكناية لا يشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة لكن تلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه (أجيب) بأنه وإن لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته ، وكفى بالآثار قرينة ، ومنها ما روي من طريق ابن وهب عن أبي أيوب عن ابن جريج «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك : لا يتزوج ابنتها» وهو مرسل ومنقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات فلذا

__________________

(١) قوله : «فلست» إلخ كذا بخط المؤلف وهو غير متزن ، ولعله «فإني لست» أو نحو ذلك فليحرر.


أدرجوه في مدلول النظم ، وروي عن ابن عمر أنه قال : «إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وبنتها».

(فإن قلت) هب أنه يدخل اللمس في صريحه فكيف يدخل نظيره فيه؟ (أجيب) بأنه داخل بدلالة النص ، وما ذكر من مخالفة صريح الشرط مبني على اعتبار مفهوم الشرط ، ونحن لا نقول به مع أنه غير عام ، وبتقدير عمومه لا يبعد القول بالتخصيص فتدبر ، والزنا في الفرج محرم عندنا فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها خلافا للشافعي حيث ذهب إلى أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بمحظور ، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحرم الحرام الحلال» ولنا أن الوطء سبب للولد يتعلق به التحريم قياسا على الوطء الحلال ، ووصف الحل لا دخل له في المناط فإن وطء الأمة المشتركة وجارية الابن والمكاتبة والمظاهر منها وأمته المجوسية والحائض والنفساء ووطء المحرم والصائم كله حرام ، وتثبت به الحرمة المذكورة ، ويدل ذلك على أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالا أو حراما.

وروي «أن رجلا قال : يا رسول الله إني زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أرى ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها» ، وهذا وإن كان فيه إرسال وانقطاع لكن جئنا به في مقابلة خبرهم وقد طعن فيه المحدثون ، وذكره عبد الحق عن ابن عمر ثم قال : في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك على أنه غير مجري على ظاهره ، أرأيت لو بال أو صب خمرا في ماء قليل ألم يكن حراما مع أنه يحرم استعماله فيجب كون المراد منه أن الحرام لا يحرم باعتبار كونه حراما وحينئذ نقول بموجبه إذ لم نقل بإثبات الزنا حرمة المصاهرة باعتبار كونه زنا بل باعتبار كونه وطءا ، وأجاب صاحب الهداية عن قولهم في تعليل كون الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة بأنها نعمة فلا تنال بمحظور بأن الوطء يحرم من حيث إنه سبب للولد لا من حيث ذاته ولا من حيث أنه زنا ، وفي فتح القدير أن هذا القول مغلطة فإن النعمة ليست التحريم من حيث هو تحريم لأنه تضييق ولذا اتسع الحل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة من الله سبحانه وتعالى بل من حيث هو يترتب على المصاهرة فحقيقة النعمة هي المصاهرة لأنها التي تصير الأجنبي قريبا عضدا وساعدا يهمه ما أهمك ولا مصاهرة بالزنا ، فالصهر زوج البنت مثلا لا من زنا ببنت الإنسان فانتفت الصهرية وفائدتها أيضا إذ الإنسان ينفر من الزاني ببنته فلا يتعرف به بل يعاديه فأنى ينتفع به ، والمنقولات متكافئة فالمرجع القياس ، وقد بينا فيه إلغاء وصف زائد على كونه وصفا ، وتمام الكلام في المبسوطات من كتب أئمتنا (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا) أي فيما قبل (دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي بأولئك النساء أمهات الربائب (فَلا جُناحَ) أي فلا إثم (عَلَيْكُمْ) أصلا في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن ، أو متن ، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبله ، وفيه دفع توهم أن قيد الدخول كقيد الكون في الحجور ، والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها على طرز ما مر ، وفي الاقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول دون كون الربائب في الحجور ، وإلا لقيل : فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم أو فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم جريا على العادة في إضافة نفي الحكم إلى نفي تمام العلة المركبة أو أحد جزأيها الدائر ، وإن صح إضافته إلى نفي جزئها المعين لكنه خلاف المستمر من الاستعمال (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) أي زوجاتهم جمع حليلة سميت الزوجة بذلك لأنها تحل مع زوجها في فراش واحد ، أو لأنها تحل معه حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وكذا يقال للزوج حليل ، وقيل : اشتقاقهما من الحل لحل كل منهما إزار صاحبه ، وقيل : من الحل إذ كل منهما حلال لصاحبه ففعيل بمعنى مفعول ، والتاء في حليلة لإجرائها مجرى الجوامد ولو جعل فعيل في جانب الزوج بمعنى فاعل ، وفي جانب الزوجة بمعنى مفعول كان


فيه نوع لطافة لا تخفى ، والآية ظاهرة في تحريم الزوجة فقط ، وأما حرمة من وطئها الابن ممن ليس بزوجة فبدليل آخر ، وقال ابن الهمام : إن اعتبروا الحليلة من حلول الفراش ، أو حل الإزار تناول الموطوءة بملك اليمين أو شبهة أو زنا فيحرم الكل على الآباء وهو الحكم الثابت عندنا ، ولا يتناول المعقود عليهما للابن أو بنيه ، وإن سفلوا قبل الوطء والفرض أنها بمجرد العقد تحرم على الآباء وذلك باعتباره من الحل بالكسر ، وقد قام الدليل على حرمة المزني بها للابن على الأب فيجب اعتباره في أعم من الحل والحل ، ثم يراد بالأبناء الفروع فتحرم حليلة الابن السافل على الجد الأعلى وكذا ابن البنت وإن سفل ، والظاهر من كلام اللغويين أن الحليلة الزوجة كما أشرنا إليه ، واختار بعضهم إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين ليكون السر في التعبير بها هنا دون الأزواج أو النساء أن الرجل ربما يظن أن مملوكة ابنه مملوكة له بناء على أن الولد وماله لأبيه فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الابن فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى الزوجة صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر ، وحكم الممسوسات ونحوهن حكم اللاتي وطئهن الأبناء (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) صفة للأبناء ، وذكر لاسقاط حليلة المتبنى ، وعن عطاء أنها نزلت حين تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فقال المشركون في ذلك ، وليس المقصود من ذلك إسقاط حليلة الابن من الرضاع فإنها حرام أيضا كحليلة الابن من النسب.

وذكر بعضهم فيه خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه والمشهور عنه الوفاق في ذلك (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) في حيز الرفع عطف على ما قبله من المحرمات ، والمراد جمعهما في النكاح لا في ملك اليمين ، ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة حتى قالوا : لو كان له زوجتان رضيعتان أرضعتهما أجنبية فسد نكاحهما.

وحكي عن الشافعي أنه يفسد نكاح الثانية فقط ولا يحرم الجمع بين الأختين في ملك اليمين ، نعم جمعهما في الوطء بملك اليمين ملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار فيحرم عند الجمهور ، وعليه ابن مسعود وابن عمر وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم.

واختلفت الرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه ، فأخرج البيهقي وابن أبي شيبة عنه أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال : لا حتى يخرجها من ملكه ، وأخرجا من طريق أبي صالح عنه أنه قال : في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحلل ولا أحرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي ، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس أن الجمع مما لا بأس به ، وحكي مثله عن عثمان رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : ما أحب أن أجيز الجمع ونهى السائل عنه ، وزعم بعضهم أن الظاهر أن القائل بالحل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم رجع إلى قول الجمهور ، وإن قلنا بعدم الرجوع فالإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق ، وإنما يتم إذا لم يعتد بخلاف أهل الظاهر وبتقدير عدمه فالمرجح التحريم عند المعارضة ، وإذا تزوج أخت أمته الموطوءة صح النكاح وحرم وطء واحدة منهما حتى يحرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع ـ كالبيع كلّا أو بعضا ـ والتزوج الصحيح والهبة مع التسليم والإعتاق كلّا أو بعضا والكتابة ـ ولو تزوج الأخت نكاحا فاسدا لم تحرم عليه أمته الموطوءة إلا إذا دخل بالمنكوحة فحينئذ تحرم الموطوءة لوجود الجمع بينهما حقيقة ، ولا يؤثر الإحرام والحيض والنفاس والصوم وكذا الرهن والإجارة والتدبير لأن فرجها لا يحرم بهذه الأسباب ، وإذا عادت الموطوءة إلى ملكه بعد الإخراج سواء كان بفسخ أو شراء جديد لم يحل وطء واحدة منهما حتى يحرم الأمة على نفسه بسبب كما كان أولا ، وظاهر قولهم : لا يحل الوطء حتى يحرم أن النكاح صحيح ، وقد نصوا على ذلك وعللوه بصدوره عن أهله مضافا إلى محله ، وأورد عليه أن المنكوحة موطوءة حكما باعترافهم


فيصير بالنكاح جامعا وطءا حكما وهو باطل ، ومن هنا ذهب بعض المالكية إلى عدم الصحة ، وأجيب بأن لزوم الجمع بينهما وطءا حكما ليس بلازم لأن بيده إزالته فلا يضر بالصحة ويمنع من الوطء بعدها لقيامه إذ ذاك وإسناد الحرمة إلى الجمع لا إلى الثانية بأن يقال : وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة ، ولكونه بمعزل عن إفادة حرمة الجمع على سبيل المعية ، ويشترك في هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ونظائر ذلك فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه خلافا لما في المبسوط إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله كما يدل عليه ما أخرجه الطبراني من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» وما رواه أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة قال : «نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة» وذلك متحقق في الجمع بين من ذكرنا بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مبالغا في بيان التحريم : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أختها ولا على ابنة أخيها» من قبيل بيان التفسير لا بيان التعبير عند بعض المحققين.

وقال آخرون : إن الحديث مشهور فقد ثبت في صحيحي مسلم وابن حبان ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ، وتلقاه الصدر الأول بالقبول من الصحابة ، والتابعين ، ورواه الجم الغفير منهم أبو هريرة وجابر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو سعيد الخدري ، فيجوز تخصيص عموم قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) بل لو كان من أخبار الآحاد جاز التخصيص به غير متوقف على كونه مشهورا ، وقال ابن الهمام : الظاهر أنه لا بد من ادعاء الشهرة لأن الحديث موقعه النسخ لا التخصيص ، وبينه في فتح القدير فارجع إليه (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء منقطع. وقصد المبالغة والتأكيد هنا غير مناسب للتذييل بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لأن الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم. والمراد مما سلف ما مضى قبل النهي فإنهم كانوا يجمعون به الأختين. أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلق أيتهما شئت» ، وقال عطاء والسدي : معناه إلا ما كان من يعقوبعليه‌السلام إذ جمع بين الأختين ، ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف عليه‌السلام ، ولا يساعده التذييل لما أن فعله يعقوب عليه‌السلام إن صح كان حلالا في شريعته.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله تعالى إلا امرأة الأب. والجمع بين الأختين ، وروي مثله عن محمد بن الحسن وأنه قال : ألا يرى أنه قد عقب النهي عن كل منهما بقوله سبحانه : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وهذا ـ كما قال شيخ الإسلام ـ يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف ما بعدهما.

تم الجزء الرابع من تفسير روح المعاني

ويتلوه الجزء الخامس أوله

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ)



فهرس المجلد الثاني

من

روح المعاني

تتمة تفسير سورة البقرة

الآيات : ٢٥٣ ـ ٢٦٠........................................................... ٣

الآيات : ٢٦١ ـ ٢٧٦......................................................... ٣١

الآيات : ٢٧٧ ـ ٢٨٦......................................................... ٥٠

تفسير سورة آل عمران

الآيات : ١ ـ ١٣.............................................................. ٧٢

الآيات : ١٤ ـ ٢٦............................................................. ٩٥

الآيات : ٢٧ ـ ٣٧........................................................... ١١١

الآيات : ٣٨ ـ ٤٧........................................................... ١٣٨

الآيات : ٤٨ ـ ٥٤........................................................... ١٥٩

الآيات : ٥٥ ـ ٨٢........................................................... ١٨٤

الآيات : ٨٣ ـ ٩٢........................................................... ٢٠٤

الآيات : ٩٣ ـ ٩٧........................................................... ٢١٩

الآيات : ٩٨ ـ ١١٥......................................................... ٢٣٠

الآيات : ١١٦ ـ ١٣٧........................................................ ٢٥٠

الآيات : ١٣٨ ـ ١٥٣........................................................ ٢٧٩

الآيات : ١٥٤ ـ ١٦٤........................................................ ٣٠٥

الآيات : ١٦٥ ـ ١٧٧........................................................ ٣٢٦

الآيات : ١٧٨ ـ ١٨٨........................................................ ٣٤٥


الآيات : ١٨٩ ـ ٢٠٠........................................................ ٣٦٥

تفسير سورة النساء

الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٣٩٠

الآيات : ٥ ـ ١١............................................................. ٤١١

الآيات : ١٢ ـ ٢٢........................................................... ٤٣٨

الآية : ٢٣.................................................................. ٤٥٧

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - ٢

المؤلف:
الصفحات: 472