

الإهداء
إلى المتعطشين لزلال
معارف القرآن الطاهرة.
إلى الباحثين في
علومه الرفيعة.
إلى عشاقه الذين
أحبوا العيش في ظله والحشر معه.
إنارة
إنّ كتاب (امثال
القرآن) عبارة عن محاضرات القاها سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي خلال شهري
رمضان من عامى ١٤١٨ و ١٤١٩ وقد قام بتدوينها واعدادها حجة الاسلام والمسلمين ابو
القاسم عليان نژادي وقام دار النشر (نسل جوان) بنشر نسختها الفارسية ، كما قام
بنقلها إلى العربية الشيخ تحسين البدري وصُفت حروفها في المؤسسة الإسلامية للبحوث
والمعلومات (دانا فجر) وبرعاية خاصة منها.
والموضوع باعتباره
طُرح على شكل محاضرات قد يفقد بعض الترتيبات الفنية التي يستلزمها أي كتاب ، لذا
نأتي بعنوان مكتب المؤلف لتقبّل الاقتراحات والانتقادات البناءة ، ولإتاحة الفرصة
لابداء الرأي لمن أحب ذلك.
ايران ـ قم ـ شارع
الشهداء ـ مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام مركز نشر وتدوين آثار سماحة آية الله العظمى المكارم
الشيرازي (مدّ ظلّه).
www. makaremshirazi. org
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على جميع الانبياء والمرسلين ، لا سيّما أفضلهم خاتم
النبيين ، وعلى آله الطاهرين المعصومين المنتجبين.
لقد عدّ الرسول صلىاللهعليهوآله (في الخطبة
الشعبانية المعروفة) شهر رمضان شهر المغفرة والبركة.
انه شهر الرحمة ،
لان أعمال الانسان الروتينية مثل النوم والتنفس في هذا الشهر لها ثواب العبادة
فضلاً عن العبادة نفسها.
إنّه شهر المغفرة
والعفو ، لأن بحر لطف الله وعفوه موّاج في هذا الشهر. أبواب الجنة فيه مفتوحة
وأبواب جهنم مغلقة ، والشياطين في غلّ وسلاسل. يغفر في كل ليلة منه ـ حسب ما في
رواية ـ لسبعين الف وفي ليلة القدر يغفر بعدد الذين غفر لهم خلال هذا الشهر الا
اولئك الذين يحملون البغض والعداوة عن اخوانهم في الدين ، ولا يغفر لهم حتى
يتصالحوا.
انه شهر البركة ،
لان فيه نزول انواع النعم والمواهب المعنوية والالهية ، انه شهر نزول وابل الرحمة
على الانسانية ، واهم نعمة فيه هو نزول القرآن المجيد (أي مائدة السماء العظمى).
هنيئاً
__________________
لاولئك الذين
ينهلون من زلال معارفه ويتأملون فيها ويتدبرون ويلتقطون من بحر تعاليمه الجواهر
ومن حديقة حكمه ومواعظه الازهار.
ان بعضاً من الدول
الاسلامية وبخاصة ايران الاسلامية تعطّر نفسها في هذا الشهر بالتبليغ والاعلام
للمعارف الالهية. ان الناس بدخولهم في ضيافة الله يستقبلون المبلغين وعشاق المعارف
الالهية ، لذلك نرى جلسات القرآن وتلاوته وتفسيره وبيان معارفه والاحكام الدينية
والتوسل بأهل البيت عليهمالسلام في كل شارع وزقاق.
إنّ جلسات المرجع
الكبير آية الله العظمى مكارم الشيرازي (مد ظله) من جملة تلك الجلسات حيث اختصت
بتفسير القرآن ، فانه في محاضراته هذه يسقي عشاق هذا الكتاب من زلال معارف القرآن
المجيد.
ان موضوع التفسير
في محاضرات آية الله مكارم الشيرازي لعامي ١٤١٨ و ١٤١٩ ه. ق هو (أمثال القرآن)
وهو موضوع رغم بساطته يعدّ من اهم وأعقد المفاهيم القرآنية.
مع الالتفات إلى
قوة طرح الموضوع وسلاسة بيان هذا المفسر الجليل وغنى المطالب التي تضمنتها
المحاضرات ، بادرت إلى جمع هذه المطالب وتدوينها وتنظيمها ونشرها بعد اخذ الرخصة
من سماحته.
وما في متناول
ايدينا هنا هو عبارة عن الشكل المنظم والمرتب لمحاضراته تقدم لعشاق المعارف
الالهية والقرآنية.
وننبه هنا على
النقاط التالية :
١ ـ قد يظن بعض
القراء الاعزاء انّ آيات (أمثال القرآن) قد فسرت بالمقدار الكافي في تفسير (الأمثل)
، الا ان مطالعة هذا الكتاب يكشف لنا ان الاستاذ الجليل قد توصل في هذه المحاضرات
إلى حقائق جديدة وبديعة ومفيدة جداً لم يشر لها في تفسير (الامثل) رغم كل مزاياه وامتيازاته ، وهو لا يغنينا عن مطالعة هذا البحث.
٢ ـ ينقل الاستاذ
آية الله العظمى مكارم الشيرازي (زيد عزه) : انّ البعض اعترض عند ما بدأت بتأليف
تفسير (الامثل) قائلاً بكفاية (مجمع البيان) ولا ضرورة لتفسير جديد ، الا ان
مضي الزمان وتدوين
تفاسير جديدة مثل (الميزان) و (الامثل) كشف عن حاجة الناس وتطلعهم للجديد مما
يستشف من كتاب الوحي الالهي.
انه كتاب مصداق
للحديث الشريف للرسول صلىاللهعليهوآله : «لا تشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة رد ولا تنقضي
عجائبه». وان المفسرين في كل عصر موظفون للنهل من مستجداته وذلك
بالافادة من العلوم والاكتشافات الجديدة ؛ وكما قيل (كم ترك الاول للاخر).
٣ ـ نقرّ بنواقص
التدوين والتنظيم ، لذلك نمدّ اليكم ـ أيها القراء الإفاضل ـ يد العون لنستقبل
الإقتراحات والانتقادات البناءة.
ربنا أحينا مع
القرآن وامتنا معه ، واحشرنا معه ، آمين يا رب العالمين.
ربنا تقبل منا انك
انت السميع العليم.
|
الحوزة العلمية في قم
ابو القاسم عليان نژادي
١٨ / ١٢ / ١٣٧٦ الموافق للحادي عشر من ذي القعدة
يوم ولادة الامام علي بن موسى الرضا عليهالسلام.
|
__________________
تحليل لأمثال القرآن
أهمية القرآن وشهر
رمضان
شهر رمضان الذي هو
شهر نزول القرآن له علاقة محكمة بالقرآن. ولأجل بيان هذه العلاقة نقوم بدراسة
اجمالية لبعض آيات القرآن المجيد.
يبيّن القرآن في
الآية ١٨٣ من سورة البقرة حكم وجوب الصوم ، وإيضاحاً لأهميته يطرح قضية شمولية
الصوم للنحل الاخرى ويقول : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم) ثم يعتبر التقوى وتربية الروح هي نتيجة الصيام.
ثم يستثني ثلاث
طوائف من وجوب الصوم في الاية ١٨٤ اما الطائفة الاخيرة فملزمة باداء الكفارة وهي
بحجم ٧٥٠ غراماً من الحنطة او ما شابه.
كما أن هذا العجز
المذكور في الاية يرفع وجوب الصوم على البنات اللاتي بلغن تواً باعتبارهن لم
يتجاوزن العشر ؛ فان البلوغ هو احد شروط وجوب الصوم ؛ والاطاقة هو الشرط الاخر له
، وبذلك تحل مشكلة هذه البنات ، فان الصوم غير واجب على البالغات تواً واللاتي لم
يطقن الصوم لضعف جسمهن وصغر سنهن.
وفي الاية ١٨٥ من
نفس السورة يعلن القرآن أن شهر رمضان شهر الصوم ، ويبين اهمية هذا الشهر من حيث
انه شهر نزول القرآن ويقول : (شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
والفُرْقَان ...) ان المستشف من هذه الآية هو ان نزول القرآن في ليلة القدر
على صدر الرسول صلىاللهعليهوآله هو اهم خصوصية يمتاز بها هذا الشهر الكريم.
علاقة شهر رمضان
المبارك بالقرآن
شهر رمضان شهر
العبادة والتربية وترك المعصية واداء الطاعة.
لاجل القيام بهذه
المهمة نحتاج إلى التعليم والتربية معاً. ان (القرآن) يعلم الانسان و (الصوم)
يربيه. ولا يصل الانسان إلى الكمال الا بهما. وفي الحقيقة ؛ ان (القرآن) من دون
فريضة (الصوم) تعليم ناقص ومن دون تربية. والصوم من دون (قرآن) تربية فاقدة للعلم
والمعرفة. ولذلك فعلى المسلم ان يصوم ويحيي شهر رمضان لكي يتربى ، وباقترابه
بالقرآن وانسه معه يهتدي ، وذلك لان القرآن هداية وبينات وفرقان (هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ
الْهُدَى والفُرْقَانِ) إن كتاباً كهذا نزل في شهر رمضان ، كما قد وجب الصوم في
الشهر ذاته لذلك ينبغي الالتفات الخاص إلى هذين الهديتين.
موضوع البحث
تلاوة القرآن
فضيلة كبرى ، وبخاصة في شهر رمضان المبارك فان فضيلة ذلك لا تعد ولا تحصى.
وهذه الفضيلة تحصل
في وقت تتزامن فيه التلاوة مع التدبر والتفكّر الذي يطهر الروح ويوفر الأرضية
للعمل.
ولهذا الغرض
ارتأينا ان يكون لنا درس تفسير القرآن في شهر رمضان هذا العام وقد اخترنا موضوع (أمثال القرآن) ليكون ارضية جديدة في
التفسير ولكي تعم فائدته.
(لماذا جاء القرآن
بالامثال؟)
يشاهد في القرآن
اكثر من خمسين مثلاً ففي سورة البقرة التي هي ثاني سورة يوجد عشرة امثال على
أقل تقدير. فما هي الحكمة في الامثال بحيث جاء بها القرآن وبهذا الحجم؟
__________________
الجواب : ان المثل
يعني تشبيه الحقائق العقلية بالامور الحسية الملموسة. فمن جانب هناك أمور عقلية
كثيرة لا يفهمها اكثر الناس. ومن جانب آخر ، فإن الناس اعتادوا على المحسوسات
والعينات الملموسة ، ولهذا كان المثل (عقول الناس في عيونهم) وهو يعني ان ادراك
الناس للامور الملموسة والمرئية اسهل لهم. ومن هنا طرح القرآن بعض المفاهيم
العقلية الرفيعة في قالب الامثال ليسهل على الناس ادراكها. وعلى هذا ؛ فان فلسفة
امثال القرآن هو تنزيل القضايا العميقة والرفيعة إلى مستوى يتناسب مع أفق تفكير
الناس.
الأمثال العملية
واللسانية
ينبغي الالتفات
هنا إلى نقطة وهي ان بعض الامثال عملية وتبين بلسان العمل ، وبعضها لفظية تبين
باللسان والقول.
ان أمثال القرآن
هي من النوع الثاني ، الا انه يشاهد بعضاً ما في سيرة الرسول صلىاللهعليهوآله واهل بيته الاطهار عليهمالسلام امثال عملية ، وهي بالطبع ذات تأثير اكثر ، نأتي هنا بنموذجين من ذلك.
١ ـ عند ما تتراكم
الذنوب الصغيرة
إنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله نزل بارض قرعاء فقال لاصحابه : «ائتونا بحطب» ـ قد هدف
الرسول من ذلك شيئاً غير الاعداد للنار ـ فقالوا : يا رسول الله نحن بارض قرعاء ما
بها من حطب. قال : «فليأت كل انسان بما قدر عليه» ، فجاؤوابه حتّى رموا بين يديه
بعضه على بعض.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «هكذا تجتمع الذنوب» ثم قال : «اياكم والمحقرات من
الذنوب فان لكل شيء طالباً الا وان طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم. وكل شيء احصيناه
في امام مبين».
نعم ان الذنوب
الصغيرة قد تتراكم لتبلغ مستوى الجبل ارتفاعاً ، وكثافة جبلٍ من النار. ان خطر
الذنوب الصغيرة هو عدم الإنتباه إليها واتخاذ موقف اللامبالاة تجاهها ، فذكَّر
الرسول صلىاللهعليهوآله بخطرها بهذا المثل العملي.
__________________
٢ ـ ترسيم نار
جهنم
عند ما كان الامام
علي عليهالسلام خليفة كان له اخ صاحب اطفال وعائلة وما كانت تكفيه مؤنة
بيت المال فطلب من الامام سهماً اكبر من بيت المال فكان جواب الامام علي عليهالسلام ... ولنقرأ القصة على لسان الامام نفسه :
«والله لقد رأيت
عقيلاً وقد املق حتى استماحني من بركم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الشعور ، غبر الالوان من فقرهم ، كانما سودت وجوههم بالعظلم وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردداً فاصغيت اليه سمعي
فظن اني ابيعه ديني ، واتبع قياده مفارقاً طريقتي ، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه
ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها ، وكاد ان يحترق من ميسمها. فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة احماها انسانها للعبه وتجرني إلى
نار سجرها جبارها لغضبه! اتئن من الاذى ولا ائن من لظى! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كانما عجنت بريق حية او قيئها ، فقلت أصِلة ام زكاة ام صدقة؟ فذلك محرم علينا اهل البيت؟
__________________
فقال : لا ذا ولا
ذاك ولكنها هدية. فقلت هبلتك الهبول! أعن دين الله اتيتني لتخدعني؟ ا مختبط انت او ذو جنة ام تهجر والله لو أعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان
اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وان دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم
جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذة لا تبقى!! نعوذ بالله من سبات العقل ، وقبح الزلل وبه نستعين».
ان هذه الامثال
تسهل ادراك وهضم كثير من المفاهيم ، ولها وقع وتأثير يفوق النصيحة الموعظة ان هذا
المثل لا يختص بعقيل وفي ذلك الزمن والعصر فحسب بل انه مثل للجميع وفي كل العصور
والازمنة. ولهذا الغرض استخدم القرآن الامثال.
الهدف من الامثال
من لسان القرآن
لقد بُيّن الهدف
من الأمثال في بعض آيات القرآن ، نأتي هنا بثلاثة نماذج :
١ ـ في الاية ٢٥
من سورة ابراهيم بعد ما شبّه (الكلمة الطيبة) بالشجرة الطيبة ـ وسيأتي بحث ذلك ـ يقول
في اخر الاية : (وَيَضْرِبُ اللهُ
الأمثالَ للناّس لَعَلّهُم يَتَذَكّرون) وعلى هذا فالتذكير هو من أهداف الامثال.
٢ ـ في الاية ٢١
من سورة الحشر بعد ما يشبّه بعض القلوب بالجبال وان امكانية التأثير على الجبال
اكثر من امكانية التأثير على هذه القلوب يقول في نهاية الاية : (وتِلْكَ الأمثَال نَضْرِبُها للناس
لَعَلّهُم يَتَفَكّرُون) وعلى هذا فالتفكّر هو من اهداف هذه الامثال.
__________________
٣ ـ وفي الايات ٤٠
ـ ٤٣ من سورة العنكبوت ، بعد ما يشبّه من اتخذ اولياء من دون الله بالعنكبوت الذي
يتخذ بيتاً وهناً. يقول في نهاية الاية ٤٣ : (وَتِلْكَ الأمثال
نَضْربُها للنّاسِ ومَا يَعْقِلُها إلّا العَالِمُون) وحسب ما في هذه الاية فإنَّ تعقل العلماء هو من اهداف تلك
الامثال.
يمكننا استنتاج
ثلاث مراحل لتأثير الأمثال على النفوس ، هي كالتالي :
الاولى : مرحلة
التذكر وهي مرحلة مرور حقيقة الخطاب الالهي في الذهن.
الثانية : مرحلة
التفكر ، وهي مرحلة التفكير في موضوع المثل وحكمته.
الثالثة : مرحلة
التعقل وهي مرحلة ادراك وهضم الحقائق.
أهمية خطاب المثل
إن الناس في كثير
من الأمور يعدّون الكبير دليلاً على العظمة والصغير دليلاً على قلة الأهمية ، لكن
الواقع ليس كذلك فالمهم هو الخطاب الذي يحمله ذلك الشيء أو يستهدف المتكلم بيانه.
والأمر كذلك في القرآن فالمهم هو الخطاب الذي يوجهه ويهدفه من خلال المثل لا عظمة
او حقارة (الممثل به).
يقول الله في
الاية الشريفة ٢٦ من سورة البقرة : (إنَّ اللهَ لا
يَسْتَحي أنْ يَضْرِبَ مَثْلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فأَمَّا الذَّينَ آمنُوا
فيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقّ منْ رَبِّهمْ وأمَّا الذين كَفَرُوا فيَقُولُونَ
مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِى بِهِ
كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسقين)
تأمُّل في الآية
إنَّ التأمل في
الاية يرشدنا إلى النتائج التالية :
الاولى
: ان الله تعالى
اعتبر الهدف من الامثال هو هداية البشر.
الثانية
: ان موضوع المثل
ومحتواه يحظى بأهمية تفوق اهمية المضمون الظاهري
__________________
والموجودات
المذكورة في المثل.
الثالثة : إن
المخلوقات جميعاً ولو كانت بعوضة تكشف عن عظمة الخالق.
الشرح والتفسير
قبل البدء بتفسير
الاية ولأجل اعداد الاذهان للاستيعاب الاعمق نذكر هنا باقتضاب شأن نزولها.
ان التحجج او
التذرع بالحجج هو من مواصفات المنافقين. ان المنافق يتحجج ويماطل ويتذرع
بالتبريرات الباطلة في كل قضية ومسألة ، انه لا يهتم بتوجهات المخاطب ومواقفه ؛
وذلك لانه ينظر إلى القضية من موقف مخالف ويعمل على اساس هذه الرؤية. وكمثال على
ذلك نفرض ان شخصاً او اشخاصاً بنوا مركزاً اسلامياً يضم مسجداً ومكتبة ومصلى
ومستشفى وداراً للعجزة و.. ففي هذه الحالة سيعرب المنافق عن شعوره بالكلمات التالية
:
هل من الصحيح بناء
مركز بهذه الضخامة والكلفة في هذه المدينة رغم ما تضم من الفقراء والجياع؟ الم يكن
من الصحيح ان تصرف هذه المبالغ لاجل اشباع الفقراء وسد رمقهم؟ الم يكن من الأفضل
ان تصرف هذه المبالغ لاجل تزويج الشباب العزاب؟ ألم يكن من الأفضل أن يداوى بهذه
المبالغ المرضى من المحتاجين والفقراء؟ ألم يكن من الافضل أنْ تصرف هذه المبالغ في
سبيل تعليم الشباب وتربيتهم؟!
إنّ هذا الشخص او
الاشخاص الخيرين لو صرفوا هذه المبالغ لاجل اطعام المساكين واعانة الشباب ومداواة
المرضى و.. لاحتج هذا المنافق بحجج اخرى ولتمسك بذرائع من قبيل قوله : أي اسلام
هذا واي مسلمين هؤلاء ، فانا لا نجد في هذه المدينة مسجداً ، وقد خصصتم هذه
المبالغ الطائلة لامور تافهة لا فائدة فيها ، انكم قد ضيّعتم الاسلام باعمالكم هذه!
تعلّموا من اليهود
والنصارى ؛ فانهم يبنون معابد فخمة وجميلة تجذب الانسان نحوها تعلموا من الهندوس
فإنهم يبنون معابد عظيمة لاصنامهم الجامدة.
والخلاصة ؛ إنّ
غاية المنافق هي المشاكسة والمخالفة وزرع بذور الشك والاختلاف وايذاء الآخرين.
ومع الالتفات إلى
هذه المقدمة نقوم بشرح الاية المذكورة.
عند ما نزلت بعض
الامثال القرآنية بدأ المنافقون بالترديد في المسألة والاشكال فيها والقول : (ما
هذه الامثال التي جاءت في القرآن)؟ إنّ شأن الله أرفع من ان يمثل بموجودات ضعيفة
مثل الذباب والعنكبوت ، او ان يمثل بموجودات جامدة مثل الرعد والبرق وقد كانوا يهدفون من هذا الحديث القاء التشكيك في الهية
القرآن ومصدره الرباني ، وان القرآن ليس من الوحي الالهي.
بالطبع ، لو لم
تنزل هذه الايات والامثال او نزلت بكلمات وصياغات معقدة لتمسك المنافقون ـ قطعاً ـ
بذرائع اخرى ولقالوا : (كيف يمكن لهذا ان يكون كلام الله مع انا لا نفهم منه شيئاً)؟
او لقالوا : (لماذا لم ينزل الله هذه المفاهيم والحقائق بلغة بسيطة يفهمها الجميع)؟
كما ان هذا قد حصل لشعيب عليهالسلام وقد حكته الآية الشريفة (٩١) من سورة هود :
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ
ما نَفْقَه كَثِيراً مِمّا تَقُولُ وَإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ولَوْلا
رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاك وَمَا أنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)
يستفاد من الآية
ان التمسك بالذرائع كان منطقهم ، من جانب اخر كانوا يقولون : (لا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمّا تَقُولُ) أي لا نفهم ما تقول ، ومن جانب اخر يقولون : (لَوْلا رهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) أي لو لا قبيلتك لقتلناك فيجيبهم شعيب عليهالسلام : (قَالَ يَا قَوْم
أرَهْطِى أعزُّ عَليْكُمْ مِنَ الله؟!)
بما ان المنافقين
اللجوجين كانوا يشككون ويحتجون على التمثيل بالجمادات او الموجودات الضعيفة جاءت
الاية ٢٦ من سورة البقرة لتجيب عليهم وتدحض حججهم : (إنّ اللهَ لا
يَسْتَحِي أنْ يضرِبَ مَثلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها ...)
إنّ بلاغة الكلام
تقتضي تارة التمثيل بالموجودات الكبيرة وتارة بالموجودات الصغيرة ؛ فكلما اريد من
التمثيل بيان العظمة شبّه بشيء كبير ، واذا ما اريد بيان ضعف الشيء وخواءه
__________________
شبّه بشيء ضعيف
وصغير من الحيوانات والجمادات.
وعلى هذا ؛ فان
التمثيل بالشيء الكبير لا يدل على فصاحة الكلام وبلاغته دائماً. اذن ، لا اشكال
على القران عند تمثيله بشيء يتناسب مع موضوع المثل والهدف منه مهما كان صغيراً او
كبيراً.
ان المؤمنين
والصالحين ، حيث يعلمون بحقيقة هذه الامثال ومحتواها ، يعلمون بانها الحق وأنها من
ربهم ولا ينكرونها ، لكن المنافقين والكافرين لتعصبهم ولجاجتهم يقولون : (مَاذَا أرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ويَهْدِى بِه كَثِيراً؟!.)
خطأ المنافقين
إنّ خطأ المنافقين
الكبير هو عدم توجههم او عدم رغبتهم للتوجه إلى أنّ بلاغة القرآن وفصاحته أحد وجوه
إعجاز القرآن المجيد والرسول الكريم.
إنّ الفصاحة
والبلاغة ـ وهما من العلوم التي تدرس في الحوزة العلمية؟ ـ بتعبير مقتضب هما عبارة
عن ما يلي : إنّ ظاهر البيان إذا كان جميلاً قيل انه فصيح ، واذا كان ذات معنى
رفيع شاناً قيل انه بليغ.
وعلى هذا ؛
الفصاحة والبلاغة ـ وهما من وجوه اعجاز القرآن ـ يعنيان الجمال الظاهري والرفعة في
محتوى الخطاب.
حقاً ان القرآن
فصيح وبليغ أي ان ظاهره جميل وجذاب يدعو إلى الإصغاء اليه ، ومحتواه رفيع معنى
وشأنا. ان بلاغة القرآن وفصاحته إلى درجة جعلت الاعداء تسميه السحر! وذلك لأنه
يجعل الصاغي يسلّم اليه ويخضع له ، وهذا بحد ذاته اقرار واعتراف بجاذبية القرآن
__________________
الشديدة والخارجة
عن المتعارف. إنّ كثيراً من الناس آمن اثر سماعه آيات من القرآن.
جاذبية القرآن
وانقاذ المسلمين
هاجر الكثير من
المسلمين في صدر الإسلام إلى الحبشة اثر الضغط المتزايد الذي لاقوه من المشركين في
مكة. ولهذا بعث الكفار مبعوثين عنهم حاملين معهم هدايا وافرة إلى النجاشي ملك
الحبشة لارجاع المسلمين إلى مكة. طمَّع المبعوثان في البداية حاشية ملك الحبشة ثم
جاءوا للملك قائلين له : (أيها الملك ، انه قد ضوى (أي لجأ) إلى بلدك منا غلمان
سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن
ولا أنت ، وقد بعثنا اليك فيهم اشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم
اليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه).
كان المجلس لصالح
الكفار من جميع النواحي وقد كان المشركون اعدوا من قبل المقدمات لكسب الموقف
لصالحهم.
لكن باعتبار كياسة
النجاشي ورفعته ، طلب من المسلمين بيان مواقفهم ؛ فبدأ جعفر بن أبي طالب (رض)
بالحديث وعرّف بالاسلام وبالرسول صلىاللهعليهوآله والقرآن فطلب النجاشي منه قراءة بعض من الآيات.
وباعتبار الزمان
والمكان وباعتبار ان الحضور ينتمون إلى الديانة المسيحية قرأ آيات من القرآن
تناولت ولادة عيسى ـ على نبينا وآله وعليهالسلام ـ وهنا انقلب المجلس الذي كان قد أعد ليكون لصالح الكفار
وبضرر المسلمين في البداية ، انقلب لصالحهم وبدأت عيون النجاشي ورجال دينه تغرورق
بالدموع. ان فصاحة القرآن وبلاغته وجاذبيته كانت بدرجة من التأثير على النجاشي حيث
جعلته يرد هدايا الكفار ويسمح لجعفر والمسلمين بالاقامة في الحبشة إلى أي وقت
شاءوا.
__________________
نموذج آخر لتأثير
القرآن
ان النموذج الآخر
لتأثير فصاحة القرآن وبلاغته هو قصة اسعد بن زرارة. ان قبيلة اسعد كانت لفترة
طويلة في صراع محتدم بينها وبين قبيلة اخرى. فغادر اسعد يوماً ما المدينة إلى مكة
قاصداً زيارة بيت الله والأصنام التي فيها ، فواجه في الطريق احد المشركين حذره من
السماع لساحر يجلس قرب حجر إسماعيل ، فانشغل اسعد بالطواف الا انه عند ما شاهد وجه
الرسول النوراني فكر ، ورجح السماع والاصغاء لما يقوله الرسول صلىاللهعليهوآله وقرر ان يعرض عنه إذا كان كلامه غير منطقي وعند ما اقترب من الرسول وسمع منه بعض الايات انجذب له إلى
مستوى طلب منه تلاوة آيات أُخرى ، فتلى الرسول له .. ثم أسلم. وحكى للرسول قصة
الاختلاف بين قبائل المدينة ودعي الرسول للمجيء إلى المدينة لأجل حل هذه
الاختلافات.
خطابات الاية
١ ـ البعوضة ليست
حيواناً حقيراً!
إنّ كثيراً من
المفسرين المعروفين ومنهم المرحوم الطبرسي (ره) في تفسيره القيم (مجمع البيان)
ينقل حديثاً عن الامام الصادق عليهالسلام في ذيل الاية ، حيث قال : «إنما ضرب الله المثل بالبعوضة
لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين
آخرين فأراد الله تعالى أن يُنبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه».
ان الله في
الحقيقة أراد بهذا المثال بيان ضرافة الخلق ، وان التفكّر في هذا الحيوان الضعيف
ظاهراً ـ الذي خلقه الله شبيهاً لأكبر حيوان في اليابسة ـ ليرشد الانسان إلى عظمة
خالقه.
__________________
التوضيح : في جسد
البعوضة ضعيفة الجسم نفس الاعضاء الموجودة في فيل ضخم. ففيه جهاز الهضم ، وخرطوم
دقيق ذات منفذ رفيع ، وأعضاء للحركة واجهزة للتناسل و.. اضافة إلى هذا ، فان
للبعوضة قرنين تشبه الهوائيات وذلك للتواصل فيما بينها وبين البيئة المحيطة بها
وهو أمر يفقده الفيل.
٢ ـ حجابان عظيمان
: كثرة النعم والتعود عليها
إنّ سبب غفلة
الإنسان عن نعم الله العظيمة وعدم تفكره في دقة الخلق وظرافته هو شيئان : الاول :
حجاب كثرة النعم ؛ فإن وفرة النعم تجعل الإنسان يستهين ولا يعتد ولا يفكر بها.
وكمثال على ذلك : ان البعوضة لو كانت نادرة في العالم ووقعت بأيدي العلماء ،
لاعتبرها هؤلاء العلماء موجوداً ذات اهمية وأهلاً للدراسات والتحقيق العلمي.
الثاني : حجاب
التعود ؛ فان العين مثلاً من آيات الخلق العظمى ؛ الا انا لم نفكر بها ولا نتمعّن
في خلقها. الاذن كذلك ، فهو مستلم قوي ودقيق وعجيب الا انا بسبب تعودنا عليه لا
نعرف قدره ولا نثمنه مع انا لو دققنا ليس في هذين فقط بل في كل اشياء العالم
لوجدناها عجيبة ومدهشة وتكشف عن اسرار الخلق والعظمة والتوحيد.
٣ ـ الهداية
والضلالة في القرآن
في نهاية الآية
يجيب الله المنافقين الذين قالوا : (مَاذَا أرَادَ اللهُ
بِهَذَا مَثلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِه كَثِيرَاً) حيث قال : (وما يُضِلُّ بِهِ
إلَّا الفَاسِقِينَ) في هذه الاية وامثالها نسبت الضلالة إلى الله كما نسبت الهداية في آيات اخرى اليه كذلك.
إذا كانت الهداية
والضلالة من الله ونحن مجبورون عليهما ولا إرادة لنا في ذلك فلما ذا يثيب
__________________
الله المهتدين
ويعاقب الضالين رغم انهم مجبورون على ذلك؟
هناك آراء مختلفة
في تفسير هذه الآية وأمثالها ، فبعض قال : ان المراد من (يضل) هو (يمتحن) أي ان
الله يريد امتحان الناس من خلال هذه الامثال.
ويقول البعض الاخر
: ان الهداية والضلالة تعنيان إعداد المقدمات لهما لا نفسهما والقرار النهائي
فيهما يرجع إلى ارادة الإنسان نفسه. وكأن الله يسلب الموفقية من الإنسان اللجوج ،
فيراد من الضلالة ـ على هذا ـ سلب الموفقية.
ان سبب الاختلاف
بين المفسرين يرجع إلى صعوبة معنى المفردتين وتعقدهما ، ولهذا علينا ايضاحهما
اولاً ثم البتّ في حل مشكلة الاختلاف في تفسيرهما.
معنى الهداية
والضلالة
انتبهوا إلى هذا
المثال : ان قطرات الغيث الشفافة والسليمة والمانحة للحياة تنزل على الكرة الارضية
اجمع ، كما ان الشمس تسطع على هذه الكرة وتمنحها نوراً وطاقة. انّ الغيث والشمس
كلاهما من رحمة الله الا ان المحاصيل الزراعية التي تنتجها الأراضي التي تتمتع
بهذين النعمتين تختلف ، ففي الاراضي المالحة تنبت الادغال ، بينما في الاراضي
الاخرى تنبت الازهار والنباتات المطلوبة. هل سبب هذا الاختلاف الغيث والشمس ام
سببه ملوحة الارض؟
لا شك في ان منشأ
الاشكال هو الارض فلو نثرت بذور الازهار مكان بذور الادغال في هذه الارض لتبدلت
الارض إلى حديقة أزهار. وعلى هذا فلو قيل : ان المطر جاء لنا بالادغال فان ذلك لا
يعني ان المطر هو السبب في ذلك بل الارض كانت سقيمة. ان قضية الهداية والضلالة
تجري هذا المجرى ، فان وابل الرحمة الالهية نزل بواسطة الرسول صلىاللهعليهوآله على قلوب جميع البشر ، وقد اصغى الجميع لوحي القرآن ،
فالذين قد أعدوا أراضي قلوبهم من ذي قبل ، اهتدوا ، اما اولئك الذين لم يغسلوا
ملوحة قلوبهم بزلال الايمان ولم يعدوا انفسهم فضلُّوا.
__________________
إنّ آيات القرآن
تؤيد هذا الادعاء ، فالاية الثانية من سورة البقرة تقول : (ذَلك الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيْهِ هُدىً
للمُتَّقِين) أي ان الهداية تتغمد اولئك الذين ازالوا ستار التعصب
واللجاجة عن نفوسهم ولهم اذن صاغية.
وفي الاية
المبحوثة هنا (٢٦ من سورة البقرة) يقول الله : (مَا يُضِلُّ بِهِ
إلّا الفاسِقينَ) أي انهم كانوا فاسقين واراضي قلوبهم مالحة لذلك اضلهم الله
، ونبتت في قلوبهم ـ اثر نزول مطر الرحمة والإيمان ـ أدغال الكفر.
ويقول الله في
سورة الروم الآية ١٠ : (ثُمَّ كَانَ
عَاقِبَةُ الّذِينَ أسَاءوا السُّوأى أن كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ..) أي أنّ تكذيب آيات الله والضلالة كانا نتيجة أعمال
الظالمين انفسهم. وعلى هذا ؛ فالهداية والضلالة نتيجة لاعمالنا والله ـ الحكيم
على الاطلاق ـ وضع مقدرات للعباد حسب حكمته. إذا خطوتُ وخطوات لاجل كسب الالطاف
الالهية فاني سافوز بهدايته واذا ما خطوتُ وفي طريق غير الحق فاني ساكون مصداقاً
للآية الشريفة (إنَّ الله يُضِلُّ
مَنْ يَشَاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَنْ أنَابَ) وكان مصيري الضلالة.
ذيل الاية يفيد ان
الهداية ليست من غير حساب ، بل تتغمد الإنسان هداية ربانية إذا ما خطى باتجاه طريق
الحق وتاب إلى الله ، إلّا أنّ الذي يعادي الله فلا يكون مصيره الا الضلالة.
الخلاصة : لا جبر
في البين ، وان الهداية والضلالة هما نتيجتان لاعمال الإنسان ذاته ، وان الضلالة
سم قاتل فلا يلوم الشخص إلّا نفسه إذا ما تجرّعه بارادته.
إن آيات (الهداية
والضلالة) ليست بتلك الدرجة من التعقيد ؛ وقد فسرتها آيات أخرى من القرآن.
وفي النهاية ان
تكليف المسلم هو العمل ما في وسعه لاجل اعداد ارض القلب لاستقبال مطر الرحمة
الإلهية ، وان يطلب من الله التوفيق والعفو عما صدر منه من أخطاء.
__________________
المثل الأول :
المنافقون
المثل الاول
لموضوع بحثنا هو ما ورد في الآيات ١٧ و ١٨ من سورة البقرة :
(مَثَلُهُم كَمَثَلِ
الَّذي اسْتَوقَدَ نَاراً فلمَّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَب الله بِنُورِهِمْ
وَتَرَكهُم في ظُلُمَاتٍ لا يُبْصُرون صُمٌ بُكُم عُميٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
تصوير البحث
تحدثت الاية عن
المنافقين الذين تستروا بستار النفاق ؛ الا ان التمزق كان عاقبة هذا الستار ،
والخزي هو عاقبة المنافقين انفسهم.
ان المنافق شُبّه
هنا بانسان ضلّ وحيداً في صحراء يسعى للحصول على طريق لانقاذ نفسه من خلال استيقاد
النار ، إلّا أنّ ذلك لم ينفعه ولا زال في حيرة من أمره.
الشرح والتفسير
دُوّن تفسيران
للآية الشريفة :
(التفسير الأول :) إنَّ مثل المنافقين مثل الذين يضلون في صحراء ظلماء
ومخوفة. افرضوا أنّ مسافراً تخلف وحيداً عن قافلته في صحراء ظلماء ، فهو لا يملك
نوراً ولا ضوءاً ولا دليلاً يرشده ، ولا يعرف الطريق ولا يملك بوصلة. فهو يخاف
قطاعي الطرق والحيوانات المفترسة من جهة ، ويخاف الهلاك من الجوع والعطش من جهة
أخرى. وهذا يدفعه للتفكير بجدية
بطريق والسعي
الأوفر للخلاص مما هو فيه. فيجد حطباً بعد البحث المتوالي فيستوقد ناراً ثم يأخذ
بشعلة نار بيده ، إلّا أنّ الريح تطفئ الشعلة فيبادر إلى جمع حطب آخر ليوقد ناراً
أخرى إلّا ان بحثه هذا لا يؤدي به إلا إلى ضلال آخر وانحراف عن الطريق تارة اخرى.
إنَّ المنافقين
كهذا المسافر فهم قد ضلوا الطريق. انهم يعيشون في ظلمات في حياةٍ مضيئة.
تخلفوا عن قافلة الانسانية
والايمان. ولا دليل لهم على الطريق ، لأنّ الله سلب عنهم نور الهداية ، وتركهم في
ظلمات.
للمنافقين شخصيات
مزدوجة ، ظاهرها مسلمة وباطنها كافرة ؛ ظاهرها صادقة وباطنها كاذب ؛ ظاهرها مخلص
وباطنها مرائي ، ظاهرها أمين وباطنها خائن ، ظاهرها الصداقة وباطنها العداوة و..
انهم يصنعون من ظاهرهم إنارة خادعة. يتظاهرون بالاسلام وينتفعون بمزايا الإسلام ؛
فذبيحتهم حلال واعتبارهم وعرضهم محفوظ وأموالهم محترمة ، ويتمتعون بحق الزواج من
المسلمين و.. انهم يتمتعون بمنافع مادية ودنيوية قليلة يحصلون عليها من خلال تلك
النار التي استوقدوها ، إلا ان هذه النار تخمد بعد الموت (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ويتركهم الله آنذاك في ظلمات القبر والبرزخ والقيامة
وحينئذ يدركون ان لا فائدة في اسلامهم الظاهري وايمانهم الريائي.
النتيجة هي أن في
الآية أو المثل تشبيهاً ، المنافقون هم المشبهون والمسافر المحتار في الصحراء هو
المشبه به ووجه الشبه هو الحيرة والضلالة وأن لا أثر لسعيه الظاهري.
(التفسير الثاني :) فيما يخص التفسير الأول ينبغي التذكير هنا بان الاضاءة
الظاهرية لتلك النار والظلمات التي تلحق تلك الإضاءة لا تختص بعالم القيامة
المعنوي ؛ بل إنّ لها نتائج في هذه الدنيا كذلك.
لا يتمكن المنافق
اخفاء نفاقه للابد فانه سيفتضح في النهاية ؛ وهذا يحصل فيما لو وجد نفسه أو مصالحه
عرضة للخطر والفناء ، فانه يفصح عن خلده القذر آنذاك كما افصح المنافقون في صدر
الإسلام عن بواطنهم في الحروب والحوادث المختلفة؟!
ألم نرَ بأم
اعيننا في الثورة الاسلامية وخلال النهضة التي سبقتها كم من المنافقين كشفوا بمرور
الزمن عن بواطنهم النتنة وأزالوا نقاب النفاق عمّا في دواخلهم وافتضحوا في هذه
الدنيا
ـ أعاذنا الله من
شرور أنفسنا ـ وعلى هذا ؛ فان (ذَهَبَ الُله
بِنُورِهِم) لا يختص بالاخرة والقيامة بل انه أمر يتحقق في هذا الدنيا
كذلك.
خطابات الآية
١ ـ أقسام
المنافقين
ان المنافق ليس
شخصاً بالضرورة ، بل يمكن ان يكون جماعة أو منظمة أو حزب بل وحتى حكومة دولة ما.
لقد شاهدنا افتضاح بعض الدول التي تتقمص بالاسلام ظاهراً وتشترك في المجالس
والمؤتمرات الاسلامية. وذلك إثر اتضاح العلاقة بينها وبين أكبر أعداء الإسلام أي
اسرائيل الغاصبة ، وافشاء أمر العقود المبرمة بينها وبين اسرائيل ما خفى منها وما
ظهر. فان ضوء نار ادعاءاتها اخذت بالخمود وثبتت ازدواجيتها ورياءها.
نعم ؛ ان ذلك هو
عاقبة النفاق «فاعْتَبِرُوا يَا أوِلي الأَبْصَار».
٢ ـ صور النفاق
من الأمور التي
تستنتج من البحث الاجمالي السابق هو صور النفاق المختلفة وهي كالتالي :
(أ ـ النفاق في
العقيدة :) وذلك مثل الذي يدعي بلسانه الإسلام ، الا انه لا يعد
مسلماً ، أو أنه يتظاهر بالايمان لكنه لا يحسب من زمرة المؤمنين.
(ب ـ النفاق في الكلام
:) وهو كالذي ينطق بكلام لا يعتقد به. وعلى هذا ، فان الكاذب
منافق لأنه لا يتطابق قلبه مع لسانه.
(ج ـ النفاق في العمل
:) وهو مثل الذي يتضاد ويختلف عمله مع نيته وباطنه ، كالذي
يتظاهر بالصلاة أو الامانة لكنه في الواقع لا يصلي وخائن.
٣ ـ علائم النفاق
يحكي الرسول صلىاللهعليهوآله في رواية له عن علائم المنافق حيث يقول : (ثلاث من كن فيه كان منافقاً
__________________
وان
صام وصلى وزعم انه مسلم ، من إذا أؤتمن خان ، وإذا حدث كذب وإذا وعد اخلف ...)
الأولى
: الخيانة ، ان الخائن منافق وذلك لانه يتظاهر بالأمانة وهو في الواقع
خائن. وعلى هذا لا يمكننا أن نأتمنه بيت المال. قد يكون البعض امناء تجاه الأموال
القليلة إلا انهم يفصحون عن واقعهم الخائن عند ائتمانهم على الأموال الطائلة.
الثانية
: الكذب ، ان الكاذب منافق وذلك لانه يبطِّن نوايا قذرة ومخالفة
للحقيقة والواقع من خلال تملقه الكلامي ، رغم انه يصلي ويقرأ دعاء الندبة والتوسل
وغيرهما.
الثالثة
: خلف الوعد ، ان الذي يخلف الوعد منافق ، وذلك لأنَّ الوفاء بالوعد ضروري
من الناحية الاخلاقية ومن الناحية الفقهية قد يكون واجباً أحياناً. وخلاصة الكلام هنا ان كل نوع من الأزدواجية يعدّ نفاقاً.
٤ ـ نبذة من تاريخ
المنافقين
لم تخل المجتمعات
البشرية من المنافقين ابداً ، ويمكن ان يقال ان النفاق وجد منذ ان بدأ الإنسان
حياته على الكرة الأرضية ، وعداء المنافقين للبشرية اتضح منذ ذلك الحين.
إذا عد المنافقون
اخطر أعداء المجتمعات البشرية فذلك بسبب انهم يتقمصون قميص الاصدقاء ويبطنون
العداء.
ان مقارعة الأعداء
هي احد صفات المجتمعات البشرية ، وهي آلية تفقد فاعليتها عند المنافق ، وذلك لانه
يظهر نفسه صديقاً ، ولهذا كان ألد الأعداء ، ولأجل ذلك كانت التعابير القرآنية في
حقه شديدة جداً.
المنافقون في
القرآن
كلما قلنا سابقاً
، فإنَّ القرآن أشار إلى المنافقين بتعابير شديدة نشير إلى بعضٍ منها هنا :
أ
ـ يقول الله في الآية ٤ من سورة المنافقين : (هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ)
__________________
لقد أشار القرآن
المجيد إلى أعداء المسلمين من خلال آياته الشريفة لكنه لم يستخدم هكذا اسلوب تجاه
أىٍّ من الأعداء. وحسب قواعد اللغة العربية فان الجملة تفيد ان المنافقين هم
الاعداء الحقيقيون للانسان.
ب
ـ يقول الله في تتمة الاية : (قَاتَلَهُمُ اللهُ أنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ينحرفون عن الحق.
إنَّ هذا الخطاب
الشديد فريد ولم يستعمله القرآن في مورد اخر.
ج
ـ يقول الله في الاية ١٤٥ من سورة النساء : (إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك
الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ولَنْ تَجِدَ لهُمْ نَصِيراً) وعلى هذا ينبغي تجنب صداقة أعداء الله التي هي من علائم
النفاق.
إن (الدرج) أو (الدرجة)
ذات معنى واحد وهو نفسه الذي في (دَرْك) أو (دَرَك) إلّا أنّ المفردتين الأوليتين
تستخدمان للسّلم بلحاظ الاتجاه إلى الأعلى ، بينما تستخدم المفردتان الاخيرتان
بلحاظ اتجاه السلم إلى الأسفل. كما أنّ كلاً منهما استخدم مرة واحدة في القرآن.
ان (الدرك الاسفل)
هو قعر جهنم أو اخفض نقطة فيها ، ومن البديهي ان يكون العذاب في هذه النقطة اشد ،
ومن هنا نستنتج أنّ الله أعدّ أشد العذاب للمنافقين. وهذا يكشف عن مدى حساسية
موضوع النفاق وخطر المنافقين في جميع العهود ماضياً وحاضراً.
خطر المنافقين من
وجهة نظر رسول الإسلام صلىاللهعليهوآله
ينقل المرحوم
الشيخ عباس القمي (رض) في كتابه القيّم (سفينة البحار) تحت مادة (نَفَق) حديثاً
ملفتاً عن الرسول صلىاللهعليهوآله نأتي به هنا :
__________________
«إني لا أخاف على
أمتي مؤمناً ولا مشركاً ، أمّا المؤمن فيمنعه الله بايمانه وأما المشرك فيقمعه
الله بشركه ، ولكني أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما
تنكرون».
وفقاً لهذه
الرواية ، إنَّ الرسول صلىاللهعليهوآله كان قلقاً على المجتمع الاسلامي من خطر المنافقين ، وقلقه
لم ينحصر في العهود الماضية وفي الحجاز فحسب ؛ بل ان قلقه شامل لجميع العصور
والبلاد الاسلامية وحتى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
٥ ـ التعبير ب (النار)
في القرآن
هناك نتيجتان
تترتبان على استخدام القرآن لمفردة (نار) لا (نور) :
الاولى : ان
الدخان والرماد من لوازم النار ، والمنافق يبلي الآخرين بما ينجم من مضار عن هذه
النار التي اججها بنفسه ، المضار التي نتيجتها التفرقة والضغوط التي تفرض على
الناس ، هذا مع ان المؤمن ينهل من النور الخالص والمشعل المضيء للايمان.
الثانية : رغم
تظاهر المنافقين بنور الإيمان الا ان واقعهم نار ، واذا تمتعوا فبشعلة ضعيفة
وقصيرة مدتها.
٦ ـ النور
والظلمات
يقول الله (وَتَرَكَهُمْ فى ظُلُمَاتٍ لا
يُبْصِرُونَ)
إنَّ مفردة (ظلمات)
استخدمت ٢٣ مرة في القرآن ، ولم تستخدم في مورد من الموارد بصيغتها المفردة بل
كانت في جميع هذه الموارد جمعاً. أما مفردة (النور) فقد استخدمت ٤٣ مرة في القرآن
وفي صيغة المفرد لا الجمع. ويا ترى أليس في ذلك خطاب؟
سر هذا يرجع إلى
أنّ القرآن يريد بيان ان النور واحد مهما كان نوعه ، وهو نور الله (اللهُ
__________________
نُورُ
السَّمَواتِ والأَرْضِ) أما نور الايمان ونور العلم ونور اليقين ونور الاتحاد
والتلاحم وفكلها ترجع إلى نور واحدٍ ، وهو نور الله ولا نور غيره ؛ لذلك لم يستخدم
القرآن النور الا بصيغة المفرد.
أمّا النفاق
والكفر والاختلاف والتفرقة فهي ليست ظلمة واحدة ، بل ظلمات متعددة ، هناك ظلمة
الجهل وظلمة الكفر وظلمة البخل وظلمة الحسد وظلمة عدم الخوف من الله وظلمة الهوى
والهوس وظلمة الوساوس الشيطانية و.. وخلاصة الظلمات متنوعة وليست واحدة ، لذلك
استخدمت بصيغة الجمع.
٧ ـ خصال
المنافقين الثلاث
إنّ المنافقين ـ حسب
هذه الآية (١٨) ـ لهم ثلاث خصال :
الأولى
: صمّ ، وهي صيغة
جمع لأصم وتعني عدم السمع.
الثانية
:
بكم ، وهي صيغة
جمع لأبكم وتعني أخرس.
والآية تعني أنهم
لا يسمعون ولا ينطقون. إنّ الاصم لا يستطيع التكلم رغم سلامة جهاز النطق عنده ؛
لأنَّ الإنسان لا يمكنه ان ينطق بكلمة لم يسمعها ولم يتعلمها ، ولذلك جاء القرآن
بصفة الاصم قبل صفة الابكم ، وهي تعني في النهاية ان المنافقين صمّ وبكم دائماً.
الثالثة
:
عمي ، وهي جمع (أعمى)
وتعني فاقد البصر ، وعلى هذا فان المنافقين صم بكم وعمي ، أي لا اذن لهم يسمعون
بها ولا لسان لهم ينطقون به ولا عين لهم يبصرون بها. ومع هذا الحال ، كيف يمكنهم
معرفة الطريق الصحيح وكيف يمكنهم ادراك انحرافهم وخطأهم؟
إنَّ هذه الحواس
والعناصر الثلاثة هي وسائل معرفة الإنسان ، فالاذن وسيلة للتعلم ، واللسان وسيلة
لنقل العلوم من جيل إلى آخر ، والبصر هو وسيلة لاكتشاف العلوم والظواهر الجديدة ،
والذي يفقد هذه العناصر الثلاثة لا يمكنه الخروج من الطريق المنحرف كما لا يمكنه
الرجوع إلى طريق الحق. لكن يطرح سؤال هنا وهو : انا نشهد المنافقين يتمتعون
بالحواس الثلاث ، فلم القرآن ينفيها عنهم؟
__________________
نقول في الجواب :
للقرآن منطقاً خاصاً فينُظر إلى كل شيء في معجم القرآن من حيث الاثار التي تترتب
عليه ، ووجود الشيء وعدمه يتوقف على وجود آثاره وعدمها.
وعلى هذا ؛ فالذين
يتمتعون بنعمة النظر لكنهم لم يستخدموه لمشاهدة آيات الله والاعتبار من مناظر
الدنيا هم في الحقيقة عمي حسب رؤية القرآن. واولئك الذين يتمتعون بنعمة السمع
لكنهم لا يصغون لكلام الله ولا صوت المظلومين والمستضعفين فهم صم في منطق القرآن.
واولئك الذين
يتمتعون بنعمة اللسان لكنهم لا يشغلونه في ذكر الله والامر بالمعروف والنهي عن
المنكر وارشاد الجاهل و.. فهم بكم في معجم القرآن. ووفقاً لهذا المعجم في مقياس
اوسع اعتبر بعض الاحياء من الناس أمواتاً ، وبعض الاموات احياءً ، كمثال على ذلك
يصف القرآن شهداء طريق الحق بأنهم احياء رغم انهم اموات ظاهراً.
(وَلَا تَحْسَبَنَّ
الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ)
إنَّ الشهداء من
وجهة نظر القرآن احياء ؛ وذلك لانهم يحضون بالتأثير الذي يحضى به الإنسان الحي ، فانهم
يقوّون الإسلام وذكرهم يداعي في الاذهان المعروف والحسنات.
ويقول القرآن في
مكان آخر : (إنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ
وقُرْآنٌ مُبِينٌ ليُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَولُ على الكَافِرِينَ)
إنّ الأحياء من
وجهة نظر القرآن المجيد وفق هذه الاية هم طائفتان : الاولى : المؤمنون الذين
يعيشون حياة قرآنية. الثانية : غير المؤمنين وهم اموات يعيشون بين الأحياء ، فإنّ
الذين يفقدون الأذن الصاغية أموات حسب رأي القرآن.
وفي النتيجة إنّ
المنافقين رغم ما يحضون به من اذن وعين ولسان ، يفقدون الآثار الوجودية المترتبة
على هذه الحواس. لذلك عُدّوا صمّاً وبُكماً وعُمياً من وجهة نظر القرآن ، فهم إذن (لا يْرجِعُونَ) أي لا يرجعون عن طريق الباطل ؛ وذلك لأنهم يفقدون آليات
المعرفة ؛ شأنهم شأن الذي تجتمع فيه صفات الصم والبكم والعمي وقد أخذ بالسقوط ،
فإنّا لا يمكننا انقاذه أبداً ؛
__________________
لأنه لا لسان له
ليستنجد ولا اذن له ليسمع تحذيرنا ، ولا يملك عيناً ليرى بها علائم الخطر قبل أن
يسقط.
٨ ـ منشأ (النفاق)
للنفاق ثلاثة
مناشىء :
الأول
ـ العجز عن المواجهة والنزاع المباشر : ان الاعداء عند ما يخسرون النزاع ويفقدون القدرة عليه بشكل
مباشر ، يتقمصون قميص النفاق ليستمروا بالعداء والخصومة. إنّ اعداء الرسول صلىاللهعليهوآله كانوا يتظاهرون بالعداء له ، لكنهم تظاهروا بالاستسلام عند
ما تغلب الرسول عليهم واستمروا يبطنون الكفر والعداء له وللإسلام وإنَّ أبا سفيان
وأمثاله ضلوا منافقين إلى آخر عمرهم.
ولأجل ذلك كان
الإعتقاد بأن النفاق بدأ من المدينة ؛ لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً ، وما كان
أحد يخافه. لذلك ما كان حاجة للتظاهر بالإسلام وتبطين الكفر الا انا نعتقد ان
النفاق بدأ من مكة رغم ان دواعي النفاق في مكة لم تكن الخوف ، بل داعي النفاق
آنذاك هو توقع البعض مستقبلاً زاهراً للإسلام ، الأمر الذي يضمن لهم مستقبلاً
وموقعاً جيداً.
يمكننا مشاهدة هذا
الاسلوب من النفاق في جميع الازمنة والثورات منها الثورة الإسلامية في ايران ؛ فان
بعض المنافقين هم الأعداء الذين خسروا المعركة ضد الثورة وعيوا النزاع المباشر
والعلني.
الثاني
ـ الإحساس بالحقارة الباطنية : ان الشخصيات الضعيفة والجبانة والتي تفقد الشجاعة اللازمة
لابراز الاعتراض والتفوه بما يخالف الآخرين ، تسعى هذه الشخصيات ان تسلك النفاق
منهجاً لحياتها ولتتجنب المواجهة بل تتظاهر بالاتفاق مع الجميع.
إن المنافق يتظاهر
بالإسلام عند المسلمين ويتظاهر بعبادة النار عند عبدة النار ، ويتظاهر
__________________
بالعلمانية عند
العلمانيين ؛ وذلك لضعف الشخصية ، فهو لا يتجرأ التفوه بعقيدته الواقعية.
الثالث
ـ حب الدنيا : إنّ النفاق الدولي والعالمي لهذا العصر ينبع من هذا المنشأ. إن سبب الازدواجية
في التعامل وانطلاق دعواتٍ لاحترام حقوق البشر من قبل بعض الدول الاستكبارية في
موارد ، وسكوت ذات الدول في موارد أخرى ، رغم ما تحصل من انتهاكات وجرائم ضد
البشرية ، هو حب الدنيا. فالدول تطلق هذه الدعوات متى ما تعرضت مصالحها للخطر
وتستخدم هذه الحربة ضد الدول التي تعرض مصالحها للأخطار ؛ إلّا أنها تتغاضى عن هذه
الانتهاكات إذا ما صدرت عن احد صديقاتها التي لا تعرّض مصالحها للخطر ، حتى لو كانت
الانتهاكات واضحة ولا شبهة فيها ولا تبرير لها.
القرآن المجيد
يحكي نماذج بارزة ومؤلمة عن هذه الطائفة من المنافقين في الايات ٧٥ ـ ٧٧ من سورة
التوبة :
(وَمِنْهُم مَنْ
عَاهَدَ اللَه لَئِنْ آتينا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَدَّقَنَّ ولنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ فَلَمّا آتاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُو بِه وتَوَلَّوا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ فأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فى قُلُوبِهِمْ إلى يَومِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أخْلَفُوا الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
هذه الايات نزلت
في ثعلبة بن حاطب ، وكان من الانصار فقال للنبي صلىاللهعليهوآله : ادع الله ان يرزقني مالاً. فقال : «يا ثعلبة قليل تؤدي
شكره خير من كثير لا تطيقه أمّا لك في رسول الله اسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت
ان تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت».
ثم اتاه بعد ذلك
فقال : يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق ، لئن رزقني الله
مالاً لاعطين كل ذي حق حقه. فقال صلىاللهعليهوآله : «اللهم ارزق ثعلبة مالاً».
__________________
فاتخذ غنماً فنمت
كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها ، ثم كثرت
نمواً حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة. وبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله اليه المصدق ليأخذ الصدقة فابى وبخل وقال : ما هذه الا اخت
الجزية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة» ، وأنزل الله الآيات.
أرجع القرآن سبب
نفاق ثعلبة إلى بخله وحبه للدنيا وخلفه للوعد. والمدهش أنّ الآية الشريفة اعتبرت
نفاق امثال ثعلبة مستمراً إلى يوم القيامة ولا يخرج من قلوبهم إلى يوم يلقون الله.
اللهم اجعل عواقب امورنا خيراً.
إذا اردنا ان لا
نبتلى بهذا المرض الخطر علينا تجنب مناشىء النفاق والابتعاد عنها ، وبخاصة أنا في
ليالي شهر رمضان المباركة ، علينا ان ننهل من بركة هذه الليالي في الاسحار وذلك
باداء صلاة الليل ولو باختصار ومن دون المستحبات جميعها والسجود واللجوء إلى الله
والعوذ به من النفاق وجميع الذنوب والرذائل الأخلاقية.
__________________
المثل الثاني :
تمثيل آخر للمنافقين
يقول الله في
الايتين ١٩ و ٢٠ من سورة البقرة :
(أَوْ كَصَيِّبٍ منَ
السَّماءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبْرقٌ ، يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُم فِي
آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللُه مُحِيطٌ بالكَافِرِينَ
يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبصارَهُمْ كُلَّمَا أضاءَ لهُم مَشَوا فيه وإذا
أظْلَمَ عليهم قامُوا ولو شَاء اللهُ لذَهَبَ بِسَمْعِهِم وأبصَارِهِم إنّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ)
تنوع أمثال القرآن
أمثال القرآن
متنوعة جداً. والله استعان بمختلف الأمثال لاجل ايضاح حقائق مهمة لها تأثير بالغ
في تربية الإنسان وسعادته. تارة يمثل الله بالجمادات كما في الآية ١٧ من سورة
الرعد : (أنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ مَاءً فسَالَتْ أودِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتمَلَ السَّيْلُ زبَداً رابياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةً أو مَتَاعٍ زَبَدٌ
مثلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللُه الحقَّ والبَاطِل ..)
لأجل ايضاح ماهية
الحق والباطل استعان القرآن هنا بالتمثيل بالمطر ، فانه عند ما ينزل من السماء
ينزل زلالاً طاهراً ، الا انه عند ما يجري على الارض يتسخ بالوحل وبما على الارض
من أوساخ ، وتتبدل الاوساخ أحياناً إلى رغوة (زبد) وعند ما يصل هذا الماء الجاري
إلى أودية يفقد رغوته تدريجياً ليرجع إلى زلاله. والحق والباطل مثل هذا الماء
فالرغوة الوسخة بمثابة الباطل والماء الجاري الطاهر بمثابة الحق.
وقد يمثل القرآن
بالنباتات كما هو الحال في الاية ٢٤ من سورة ابراهيم : (ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ
اللهُ
مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أصلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي
السَّماء)
إنّ أبرز مصداق
للكلمة الطيبة هو كلمة (لا اله الا الله) فمثّلها الله بالشجرة الطيبة الخضراء
دائماً.
وقد يمثل القرآن
بالحيوانات ونموذج ذلك ما جاء في الاية ٢٦ من سورة البقرة : (إنَّ اللهَ لا يَسْتَحِي أنْ يَضْرِبَ
مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ...) فمثّل هنا بحيوان صغير ، كما مثل في سورة العنكبوت الآية
٤١ بالعنكبوت.
وقد يمثل القرآن
بإنسان كما فعل في الآية ١٧١ من سورة البقرة : (وَمَثَلُ الّذينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً وندَاءً صُمٌ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)
مثل الله تعالى
الرسول صلىاللهعليهوآله في الاية بالراعي والكفار بالحيوانات التي يرعاها الراعي.
إنّ اهم سبب لتنوع
أمثال القرآن هو تبسيط الفهم وتعميقه عند المخاطبين الاوائل للقران وهم العرب
الاميون في عهد الجاهلية وكذا المسلمون فانهم باستثناء عدد قليل منهم كانوا اميين
وما كانوا يتمتعون بحظ وافر من الفهم والتعقل.
وما كان بالامكان
تفهيمهم المفاهيم القرآنية الا بهذا الأسلوب وبآلية التمثيل التي تجسد المفاهيم
القرآنية الرفيعة.
على الجميع وبخاصة
العلماء والفقهاء والخطباء و.. ان ينتهجوا منهج القرآن هذا ، ليسهلوا على المخاطب
إدراك المفاهيم ويؤثروا في نفسه ويجذبوه نحوها. إنَّ القرآن الذي هو من تجليات
الجمال الإلهي هو بنفسه مظهر للجمال الكلامي. وعلى هذا ينبغي اتباع القرآن في
تسهيل الكلام وتنميقه ، ونحن نعدُّ هذا أصلاً قيمياً.
اولئك الذين تحضى
كتابتهم بالتعقيد وصعوبة الفهم ويعدون استخدام اسلوب التسهيل في الكتابة علامة على
قلة العلم ، هم في الحقيقة انتهجوا منهجاً عكس المنهج الذي سلكه القرآن. نأمل من الجيل الشاب للحوزة العلمية وطلاب الجامعة ان
يعدوا سهولة البيان فناً
__________________
وقيمة ويعدوا
صعوبة الكلام وتعقده كعمل غير قيمي بل مخالف للقيم.
الشرح والتفسير
الآيات ماضية
الذكر تحدثت عن المنافقين وخطر النفاق ، وقد تكون آيات المثل السابق ناظرة إلى
مجموعة خاصة من المنافقين ؛ وهذه الايات ناظرة إلى مجموعة أخرى من ذوي الوجهين.
إنَّ مثل هؤلاء
المنافقين حسب هذه الايات كمثل المسافر الذي يضل في صحراء ويتخلف عن قافلته في يوم
ممطر ولا ملجأ يأويه ولا صديق يعينه ولا يعلم الطريق ولا ضوء ينير له الطريق ، في
وقت ملئت ظلمات الغيوم السماء بحيث لا يصله حتى نور النجوم الضعيف ، والسماء ترتعد
، والبرق لا يزيده الا خوفاً ودهشة ، وذلك لشدة صوت ووقع الرعد والبرق في الصحاري
، وكأنّ البرق يريد أن يخطف بصره ويعميه ، وخوفه من الرعد يجره لوضع اصابعه في
اذنيه وهو مرتجف خوف موت الصاعقة. ان المنافق بمثابة هذا المسافر.
(... واللهُ مُحِيطٌ
بالْكَافِرِينَ) لقد فسرت الاحاطة في الاية بتفسيرين : الاول : الاحاطة
العلمية لله. الثاني : احاطة الله من حيث قدرته. فاذا كانت الاحاطة بمعناها الاول
فالاية تعني أنَّ الله يعلم بالكافرين. واذا كانت الاحاطة بمعناها الثاني فالاية
تعني ان الله قادر على كل شيء ولا يخرج شيء عن دائرة قدرته.
(يَكَادُ البَرْقُ
يَخْطِفُ أبْصَارَهُم) وذلك لأنَّ الإنسان إذا اعتاد على مكان مظلم ، ثُمَّ
يُسلِّط على عينه ضوءً قوياً ، فانه سيكون حينئذٍ عرضة للعماء وفقدان البصر.
(كُلَّمَا أضَاءَ
لَهُم مَشَوْا فِيه) هذا المسافر عند ما يشاهد البرق يفرح لأنّه اضاء له الطريق
، لكن فرصته لم تدم ؛ لأن الضوء سريعاً ما ينطفئ.
(وإذا أظْلِمَ
عَلَيْهِم قَامُوا) أي يتوقف المسافر بعد ان انطفئ نور البرق ، ويرجع إلى
حيرته السابقة.
__________________
(وَلَوْ شَاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ)
شأن المنافق شأن
هذا المسافر حيث يفيد من نور الايمان ، لكن بما أنّ ايمانه ظاهري لم يستمر الا
لمدة محدودة وما يمضي زمن طويل حتى يفتضح ويغرق تارة أخرى في ظلمات ريائه وكفره
ونفاقه.
خطابات الآية
١ ـ كيفية ايجاد
البرق والرعد والصاعقة
إنّ البرق يحصل
اثر اصطدام غيمتين أحدهما تحمل شحنات موجبة واخرى شحنات سالبة والاصطدام هذا يولد
الضوء المعروف بالبرق ؛ كما ان صوتاً شديداً يحصل اثر هذا الاصطدام يعرف بالرعد.
وكلما كانت الغيمتان كبيرتين كان البرق والرعد أعظم ؛ وذلك لكثرة الشحنات المحمولة
من قبل كل من الغيمتين.
أمّا الصاعقة
فتحصل اثر اصطدام غيمة ذات شحنات موجبة مع مانع ارضي من قبيل الجبل أو الشجرة أو
الإنسان ، ونتيجة ذلك هي اشتعال الشيء المصطدم به ـ إذا كان قابلاً للاشتعال ـ وتبدله
إلى كومة من الرماد بسرعة مدهشة ، ولذلك يقال : إنَّ الصاعقة خطرة على الإنسان إذا
كان في سهل.
ما يلفت الانتباه
هنا هو أنَّ بعض الروايات عدت الرعد والبرق نتيجتين لاعمال موجودات ميتافيزيقية ،
فاعتبرت الرعد اصواتاً للملائكة والبرق من آثار جلد الملائكة للغيوم والسحب. وهذا أمر يتنافى مع المسلمات العلمية للعصر الحاضر ، كما
ان هذا الاختلاف يطبع تساؤلاً في ذهن المتأمّل.
يا ترى أي الامرين
هو السبب الحقيقي والواقعي للرعد والبرق؟
في الجواب نقول :
لا تضاد بين التبرير العلمي والديني لظاهرتي البرق والرعد ؛ وذلك لأنَّ احد معاني
مفردة الملك الواردة في الروايات هو القوى الطبيعية التي خلقها الله ، فالجاذبية
__________________
والسحاب وغيرها من
الظواهر الطبيعية التي سميت في الروايات ملكاً. لقد جاء في رواية أنَّ كل قطرة
تنزل من السماء يحتضنها ملك وينزلها إلى الارض.
وبهذا التبرير أي
اعتبار الجاذبية ملكاً يمكن القول بعدم التضاد بين الرؤى والكشفيات العلمية مع ما
ورد في الروايات الدينية ، بل ينطبق احدهما على الاخر وتحل بذلك عقدة التضاد
الظاهري بينهما.
٢ ـ الاختلاف بين
المثلين
المثلان يتعلقان
بالمسافر الذي ضل الطريق في صحراء ؛ لكن المسافر في المثل الأول يواجه خطر المجاعة
والعطش والافتراس من قبل الحيوانات ، أمّا في المثل الثاني فان الأخطار التي تحدق
به هي الاعصار والسيول والرعد والبرق والصاعقة. ومن الطبيعي ان تكون شدة الاخطار
في المورد الثاني اكثر من المورد الأول وتجعل حياته عرضة للموت بشكل اشد.
يعتقد البعض أنَّ
المثلين يحكيان حال طائفة خاصة وهي طائفة المنافقين عموماً ، إلّا أنِّي أرى أنَّ
كلاً من المثلين يحكي حال قسم من المنافقين ، فان المنافقين ينقسمون إلى قسمين :
القسم
الاول : هم المسلمون الذين
ضعف ايمانهم عن مواجهة المطامع المادية والدنيوية مثل المال والجاه والمقام ، فلا
يهابون الكذب وخلف الوعد ونكث العهد ؛ وصولاً لمآربهم الشخصية ، فهم في النتيجة (مسلمون
ضعيفو الإيمان) امثال ثعلبة بن حاطب الذي تكلمنا عنه في الصفحات الماضية.
والقسم
الآخر للمنافقين : هم اولئك الذين لم يدخل الايمان في قلوبهم ابداً وقد تظاهروا به فحسب دون ان
يحملوه ، وذلك خوفاً من قدرة الإسلام أو طمعاً بمصالح المسلمين ، فهم في النتيجة (كفار
متظاهرون بالاسلام) أمثال أبي سفيان ومعاوية ومروان.
ومن الواضح أنّ
القسم الثاني هم الاعداء اللدودون للإسلام ووجودهم يشكل خطراً على الإسلام
والمسلمين يفوق خطر القسم الاول بمرات ، ولذلك نرى أنّ المثل الأول ناظر إلى
__________________
القسم الاول من
المنافقين ، والمثل الثاني ناظر إلى القسم الثاني من المنافقين الذين يعدّ خطرهم
أشد وأعظم من خطر القسم الأول.
٣ ـ عالم النفاق
أو النفاق العالمي
للنفاق مستويات
مختلفة ، فمنه ذات المستوى الفردي ومنه ذات المستوى الجماعي والحكومي والعالمي.
ومما يؤسف له أنّ عالمنا اليوم عالم منافق حيث يدعو لشيء ويعمل بما يخالف دعوته ،
والحدث الآتي ذكره من أبسط مظاهر النفاق العالمي واوضحها في ذات الوقت.
أرسل الإنسان في
سنة من السنوات الماضية كلباً في مركب فضائي وذلك لدراسة تأثير الفضاء على
الموجودات الحية ، وبعد هبوط المركبة على وجه الارض وجد الكلب ميتاً.
اذاعة هذا الخبر
آثار إعتراضاً من قبل منظمات الدفاع عن حقوق الحيوانات وكذا غيرها من المؤسسات
والجمعيات وقد كان محور الاعتراضات هو : لماذا قتلتم حيواناً في سبيل تجربة علمية؟
إنَّ هذه
الاعتراضات تكشف عن الوجه الظاهري النزيه للمجتمع الدولي ، إلّا أنا نشاهد حالياً
مقتل العشرات بل المئات والآلاف من المواطنين الجزائريين في مجازر جماعية دون أنْ
تطلق صرخات ضد هذه المجازر.
لمن تلك الايادي
التي ترتكب هذه المجازر من دون ان تلاقي اعتراضات معتد بها؟ يا لها من أيد لا
تستطيع الشرطة بل ولا الجيش ان تقف امامها؟ انها ايدي العالم المتستر والمتقمص
قميص الدفاع عن حقوق الحيوانات فضلاً عن حقوق البشر. ألا يمكن ان نقول : ان هذا
العالم هو عالم منافق؟ واي نفاق يرتكبه؟ انه نفاق وقح ، فيه صرخات تعلو وتشتد لاجل
قتل كلب ، كما فيه سكوت على قتل الشعوب وارتكاب المجازر الجماعية.
إن الإسلام ووجدان
البشرية ينفر من هذا النفاق العالمي ونحن مطمئنون بان زعماء النفاق سيفتضحون يوماً
ما.
الهي اكف
المستضعفين وبخاصة المسلمين شر هذا النوع من النفاق.
٤ ـ ظهور
المنافقين في الإسلام
هل (جذور النفاق)
بدأت من المدينة ام من مكة؟ قضية مختلف فيها.
ولاجل ايضاح
الموضوع ودراسة تاريخ النفاق والمنافقين في الإسلام نستعين بالقرآن المجيد ، فقد
جاءت آيات كثيرة في مجال النفاق ، والدراسة الاجمالية للموضوع يكشف عن استخدام هذه
المادة ٣٧ مرة في القرآن.
لكن أمر النفاق
والمنافقين لا ينحصر في هذه الموارد المحدودة ؛ وذلك لانا نجد الكثير من الايات
تعرضت لهذه القضية من دون ذكر لهذه المادة أبداً ، كما هو الحال بالنسبة لثلاثة
عشر آية من الايات الاوائل لسورة البقرة فقد كان موضوعها النفاق من دون ان يأتي ذكر لمادة النفاق
مباشرة بل استخدمت مواد مرادفة لمادة النفاق.
إنَّ الايات السبع
والثلاثين التي تضمنت مادة النفاق ، نزلت كلها في المدينة ؛ ومن هنا يمكننا ان
نستنتج ان القائلين ببدء النفاق من المدينة نظروا إلى ظاهر القرآن ، إلّا أنّ
الافضل لنا ان نرجع إلى الوراء قليلاً لننظر إلى تاريخ حياة الرسول صلىاللهعليهوآله والنبوة وكيفية التبليغ ومراحل جهاد الرسول لاعداء
الإسلام.
مراحل جهاد الرسول
لاعداء الإسلام
ان مواجهة الكفار
والمشركين للرسول صلىاللهعليهوآله والدين الاسلامي الحنيف ذات مراحل ست :
المرحلة الاولى :
الاستهزاء والاستخفاف بالدين
بُعث محمد نبياً
في غار حراء ونزلت آنذاك اول آيات القرآن عليه ، وأصبحت دعوته علنية بعد ثلاث
سنوات من الكتمان والتستر في دعوة الناس إلى الدين الجديد.
كان المشركون
والوثنيون يعتبرون هذا الدين خطراً على مصالحهم ، لكنهم ما كانوا يأخذونه مأخذاً
جدياً لذا بادروا إلى الاستهزاء بالرسول ونسبة الجنون اليه.
يقول الله في هذا
المجال في الاية ٦ من سورة الحجر : (قَالُوا يَا أيُّها
الّذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرَ إنَّكَ
__________________
لَمَجْنُونٌ) وكانوا يستهدفون من ذلك عدم اخذ الناس هذا الدين مأخذاً
جدياً ، وعدم الاعتناء والتصديق بكلام الرسول ؛ إلّا أنّ المسلمين رغم هذه
الاتهامات كانوا يزدادون يوماً بعد اخر ، وكان الناس وبخاصة الشباب منهم يصغون لكلام الرسول وينجذبون اليه ، لذلك باءت
مواجهتهم في هذه المرحلة بالفشل ، وباتوا يفكرون بمواجهة أخرى ومرحلة أخرى من
التصدي.
المرحلة الثانية :
نسبة السحر والشعر للرسول صلىاللهعليهوآله
بما أنّ الكفار لم
ينجحوا في الحد من تأثير الرسول على الناس ، من خلال المرحلة الاولى من المواجهة ،
بادروا إلى التصدي له بنعته بالكذب والشعر والسحر. إنّ النسبة هذه تعني أنهم قالوا
للناس : إنّ تأثير الرسول فيهم لأجل كونه ـ نعوذ بالله ـ ساحراً ذكياً وشخصية
مرموقة ويجذب النفوس نحوه لعلمه بالشعر وامتهانه مهارة انشاده. ولو كان كلامه
كلاماً عادياً ما كان يجذب الناس بهذه الشدة. يقول القرآن في هذا المجال في الاية
٤ من سورة (ص) : «(وَعَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ)
لم توفّر آلية
المواجهة هذه جميع الاهداف التي كانوا يستهدفونها ، وذلك لأن عدد المسلمين لا زال
في تزايد مستمر والرجال والنساء والشباب والشيوخ لا زالوا يتوافدون على الرسول
ليعلنوا الإسلام ، وكان نتيجة ذلك ان بادر الكفار إلى تغيير اسلوبهم في المواجهة.
__________________
المرحلة الثالثة :
المحاصرة الاقتصادية وقطع العلاقات
إنَّ فشل أساليب
التهم ونسبة الجنون وغيره إلى الرسول جعلت الكفار والمشركين يفكرون بالمواجهة
العملية ، لذلك فرضوا حضراً على المسلمين وحبسوهم في مكان يدعى (شعب ابي طالب) ،
فمنعوا التردد عليهم والتعامل معهم.
لقد صبر المسلمون
مدة ثلاث سنوات في ذلك الشعب الخالي من الماء والكلاء ، وتحملوا المشاكل التي
واجهتهم آنذاك وثبتوا ولم تزل أقدامهم. والمكان هذا رغم انه مشجر حالياً إلّا أن الإنسان لا يطيق
قراءة الفاتحة على قبر ابي طالب عليهالسلام هناك ، وذلك لشدة الحرارة ، والمسلمون آنذاك صمدوا وثبتوا
، وقد قضى البعض نحبه هناك ، رغم ذلك لم يستسلموا للاعداء.
وبعد تجييش عواطف
اهالي مكة بادر البعض إلى فك الحصار عنهم شيئاً فشيئاً إلى ان فقد الحصار تأثيره
وباءت جهود الكفار مرة أخرى بالفشل الذريع وما باتت هذه الآلية تجدي نفعاً.
المرحلة الرابعة :
التدبير لاغتيال الرسول صلىاللهعليهوآله
لقد شاهد المشركون
من جانب فشل آليات التصدي للرسول والمسلمين ومن جانب اخر شاهدوا انتشار الدعوة
الاسلامية بشكل سريع بين الناس وإدبارهم عن الاصنام ؛ لذا فكروا باجراءات جدية
وخطرة اكثر من ذي قبل وقد استهدفوا في هذه المرحلة شخصية الرسول صلىاللهعليهوآله ذاتها. فقد وجد زعماء قريش حلولاً ثلاثة لمشكلتهم :
الأول
: نفي الرسول صلىاللهعليهوآله خارج مكة حفظاً لمصالح الكفار في مكة.
الثاني
: حبسه للحيلولة دون
اتصاله بالناس والمسلمين.
الثالث
: قتله.
__________________
نتيجة شوراهم كان
قرار قتل الرسول في ليلة المبيت حيث حاصر أربعون شخصاً من شجعان العرب بيت الرسول صلىاللهعليهوآله ليقتلوه في صباح تلك الليلة. اطّلع الرسول صلىاللهعليهوآله على مؤامرتهم بوحي الهي فامر الامام علي عليهالسلام ان ينام في فراشه آنذاك ، وخرج بشكل معجز من بيته قاصداً
يثرب (المدينة) ، إلّا أنه تحرك خلاف اتجاه وطريق المدينة لخداع المشركين ، وبعد
ان اطلع المشركون على تملُّص الرسول قاموا بتعقيبه وتتبع خطواته ، لكنَّ الله شاء
بقدرته ان يصل الرسول المدينة بسلامة ليقيم اول حكومة اسلامية زادت من قدرة
المسلمين وشوكتهم.
المرحلة الخامسة :
الحروب المتوالية ضد المسلمين
بعد ما نجع الكفار
من النيل من شخصية الرسول صلىاللهعليهوآله سلكوا طريق المواجهة المسلحة ، وذلك لعدم نجاح آليات الحرب
النفسية التي سلكوها ضد المسلمين لردهم عن دينهم وللحد من توسع رقعة الإسلام.
إنّ الإسلام يهدد
سلطة الكفار ومصالحهم ؛ ولاجل القيام بمهمة المواجهة العسكرية هموا في البداية
اعداد رجال مكة ثم رجال القبائل الاخرى لبدء سلسلة حروب عسكرية متوالية ومتواصلة
كانت معركة (بدر) البداية ومعركة الاحزاب هي الذروة.
لقد استفاد كفار
قريش في معركة الاحزاب من جميع ما توفر لهم من امكانيات وقوى ، وكما يبدو من اسمها
فان جميع قبائل العرب وطوائفهم اجتمعوا واعدوا انفسهم للنزال ضد الإسلام ولقتل
الرسول ورجال المسلمين وللإغارة على اموالهم ولهدم بيوتهم ، وسبي نسائهم والقضاء
على الإسلام في النهاية.
تشير الآيتان ٩ و ١٠
من سورة الاحزاب إلى هذه المرحلة من المواجهة : (يَا أيُّها الّذِيْنَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللِهِ عَلَيْكُم إذْ جَاءَتْكُم جُنُودٌ فأرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيْحَاً وجُنُودَاً لَم تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ
__________________
بِمَا
تَعْمَلُون بَصِيْراً ، إذ جَاؤوكُم مِنْ فَوْقِكُم وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجرَ وتَظُنُّونَ باللهِ
الظَّنُونا)
إنّ هذه الايات
أهل للتأمل من حيث أنها تكشف عن معاناة المسلمين في صدر الإسلام.
وحسب هذه الآيات ،
فإنّ العَدُو حاصر المدينة مِنْ جميع الجهات ، وقد بلغت اعدادات الاعداء وعدتهم
إلى مستوى جعلت أبصار المؤمنين تزيغ ، وقلوبهم تبلغ الحناجر ؛ وذلك لأن المسلمين
قليلون وعدتهم محدودة وأسلحتهم بسيطة ، وهذا هو السبب في نفوذ الرعب والخوف في
قلوب ضعاف الايمان من المسلمين حيث كانت عبارات التزلزل والشك تدور في اذهانهم وقد
يكون المسلمون جميعاً باستثناء الرسول صلىاللهعليهوآله والإمام علي عليهالسلام وعدة قليلة من المسلمين تزلزلوا إيماناً. فان ضعيف الإيمان
يتزلزل عند مواجهته لأزمة شديدة ، عكس قوي الايمان حيث يقوى ايمانه ويزداد ثباته
عند مواجهة الأزمات والمشاكل.
إنّ معركة الاحزاب
كانت ساحة للإختبار لتمييز المؤمنين الحقيقيين عن غيرهم من ضعاف الايمان
والمترددين في إيمانهم. إنّ نهاية هذه المعركة كان لصالح المسلمين ولم تحصل مواجهة
واراقة دماء الا في مورد واحد ، حيث قتل الإمام علي عليهالسلام عمرو بن ود.
عسكر الاعداء
ابتلي باعصار شديد ، ولشدته كانت تقلع خيامهم من اماكنها وتقلب قدور الطعام ، كما
سادهم خوف واضطراب وخيبة امل اجبرت أبا سفيان وغيره من زعماء الكفر على الرجوع
كالجيش الخاسر ، وبذلك تحقق وعد الله بنصر المؤمنين تارة أخرى ، ونجى المؤمنون من
خطر كبير كان يهدد وجودهم ودينهم ، فكان نصراً للمسلمين اضفى عليهم قدرة وعظمة
جعلت مكة وضواحيها لا تفكر بعدئذ بحرب مع المسلمين. ولاجل هذا استسلمت بعد فترة من
الزمن مكة واهاليها ليصبح الإسلام القوة الوحيدة في بلاد الحجاز.
المرحلة السادسة ،
اللجوء إلى اخطر سلاح (النفاق)
رغم انتكاسة
الاعداء في حرب الاحزاب وخسرانهم الحرب آنذاك ، ورغم ما ترتب على هذه الانتكاسة من
عدم تفكيرهم بعدئذ بدخول حرب مع المسلمين ، إلّا أنّ ذلك ما كان يعني تركهم
لمعارضة الإسلام ومخالفته. إنّ الأعداء ، اثر ادراكهم فشل وسائل المواجهة السابقة
واقرارهم بذلك ،
بدأوا يفكرون بوسيلة ناجحة وفضلى للتخريب والدمار ، وما كانت وسيلتهم الجديدة إلّا
النفاق.
إنّ الأعداء خسروا
الحرب مع المسلمين ، وهو أمر جعلهم في النهاية يستسلمون ويفتضحون إلّا أنهم لم
ينسوا حربهم مع الإسلام وعدائهم له ، وقد تستروا في هذه المرحلة من المواجهة بنقاب
النفاق وانتظروا يترصدون الفرصة للنيل من الإسلام وانزال الضربة القاصمة فيه.
والآية الشريفة الأولى من سورة المنافقين ناظرة إلى هذه المرحلة من المواجهة (إذا جاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ
إنّكَ لَرَسُولُ اللهِ والُله يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُه واللهُ يَشْهَدُ إنّ
المُنَافِقِينَ لكَاذِبُونَ)
وبهذا الشكل تشكّل
تيار النفاق ليصبح تدريجياً كالسيل الجارف ، وظاهر هذه الآية وآيات أخرى هو أنّ النفاق بدأ من المدينة.
لكن هذا لا يعني أنّ مكة كانت تخلو من النفاق والمنافقين ، فقد يملك البعض قدرة
حدس وتخمين المستقبل وفكراً سياسياً قوياً ، وكان من خلال ذلك قد رأى النصر
النتيجة الحتمية لنشاطات الرسول صلىاللهعليهوآله ، ولا يمكن بلوغ المقامات العليا آنذاك إلا من خلال
التظاهر بالايمان الواقعي والقوي والتماشي مع هذا التيار.
نتائج الأمثال
يمكننا الخروج
بالنتيجة التالية من الآيات الأربع للمثلين السابقين : (المنافق لا ثبات له) وانه
يعاني من حالات نفسية منها الوحدة والخوف والوحشة والاضطراب والفضيحة ، كما تُتصور
في حقه جميع الأخطار التي عدت للمسافر الذي ضلّ الطريق في الصحراء. أمّا المؤمن
فيحضى بهدوء وسكينة واطمئنان خاص يحصل في ظلّ الإيمان الخالص بالله.
ما أحسن ما قال
الله تعالى في هذا المجال : (الّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ)
__________________
وقد فسّر الظلم في
الاية بتفسيرين ، الاول : هو الشرك ، أي أنّ (إيْمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ) تعني الإيمان الخالص الذي لم يمتزج بالشرك. والثاني : هو
المعنى المعروف والمتبادر من المفردة ، أي أنّ المؤمن الذي لم يمتزج ايمانه بظلم
لأحد فله الأمن وهو مهتد.
ونقرأ في آيات
أخرى : (ألا إنّ أوْلِيَاءَ
الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ لَهُم البُشرَى فِي الحيوةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ
لِكَلِماتِ اللهِ ذَلك هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ)
إنَّ عدم الأمن
والاضطراب والخوف والوحشة في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة هو نصيب المنافقين ،
أمّا المؤمنون فنصيبهم الأمن والسعادة والفلاح.
وهذا أمر اثبت
العلم الحديث صحته ، ففي مؤتمر حمل عنوان (تأثير الدين على نفس الإنسان) ، توصل
العلماء المشتركون فيه إلى ان المؤمنين قليلاً ما يبتلون بالامراض النفسية وكثيراً
ما نجد هذا النوع من الامراض في الذين يفقدون الايمان بالله ؛ وذلك لأنّ غير
المؤمن يشعر بالوحدة دائماً وتهزه ابسط المشاكل.
أمّا المؤمن فيرى
الله معه ، يتوكل عليه في الحوادث ويبدي الثبات والصبر من نفسه دائماً ، فإذا فقد
أحد أعزته قال : (إنَّا للهِ وإنَّا
إلَيْهِ رَاجِعُونَ) وبهذا الإعتقاد تسهل عليه الوطئة وتتغمده رحمة الله
وألطافه كما تقول الاية ١٥٧ من سورة البقرة.
وهو إذا فقد رأس
ماله لا يأسى ولا يحزن ، كما انه إذا اتاه شيء ثمين لا يفرح ولا يفخر (لَكَيْلا تأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
وإذا حصلت له
حوادث أخرى فيعدها امتحانات الهية تسلك به نحو الكمال في الدنيا وتدرُّ عليه
الثواب والأجر في الآخرة. فهو لا يلعن الزمان ولا المكان بل يشكر الله ويحكّم
ايمانه بالله ويقوّيه. واذا ما تصفحنا سيرة عظمائنا لوجدنا مفاهيم هذه الايات
متجسدة فيهم عملياً.
__________________
سعيد بن جبير عند
الموت
إن سعيد بن جبير
من العظماء والأولياء ، كما انه من انصار الامام السجاد عليهالسلام ، فقد كان مؤمناً حنيفاً ومتوكلاً على الله في اعماله ،
وقد ابتسم عند مقتله.
عند ما جي بسعيد
بن جبير إلى الحجاج دار نقاش بينهما استهدف الحجاج عبره النيل والاستهزاء
بسعيد ، إلّا أنَّه ما استطاع ، لقدرة سعيد على الكلام ، فامر بقتله وقال له :
اختر أي قتلة شئت! قال : اختر لنفسك فان القصاص امامك. ولما أمر بقتله قال (وَجَّهْتُ وَجْهِي للّذي فَطَرَ
السَّمَواتِ والأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكينَ) فقال : شدوا به لغير القبلة. فقال : (أيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ) قال : كُبوَّه على وجهه. فقال : (مِنْها خَلَقْنَاكُم وَفِيْها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارةً أُخْرَى)
وبعد ما أمر
الحجاج بقتله دعى سعيد بهذا الدعاء (اللهم لا تسلّطه على احد بعدي) ، وقد استجيب دعاؤه
ولم يبق الحجاج بعده الا خمسة عشرة ليلة ولم يقتل بعده الحجاج احداً.
وقد مات الحجاج
اثر مرض كان يشعر خلاله بالبرودة والرعشة بحيث كان يدخل يديه في النار وتحترق وهو
لا يشعر بها. ولما جاءه احد الوجهاء وطلب منه ان يدعو له ، ذكّره بما قد أوصاه
سابقاً من عدم الاكثار في القتل.
نعم إنَّ الامان
في الدنيا للمؤمنين فقط دون المنافقين ، ودين الله ليس للاخرة فقط بل هو منهج
للحياة الدنيا كذلك.
__________________
المثل الثالث :
قسوة القلب
يقول الله في
الاية المباركة ٧٤ من سورة البقرة :
(ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْد ذَلك فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدُّ قُسْوَةً وإنَّ مِنَ
الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءَ وإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وما
اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
الآية الشريفة
جاءت في بني اسرائيل وضربت مثلاً جميلاً في قسوة قلوبهم ؛ فان دفتر أعمالهم مسوَّد
على طول التاريخ. وإن التعصب واللجاجة والتحجج والغرور والضغينة تجاه الانبياء
والمقاومة قبال الحق من خصال هذا القوم العاصي والكافر لنعم الله.
لقد شاكس هذا
القوم المسلمين ونافق ضدهم ، فمن جانب كانوا يتعاهدون مع المسلمين ومن جانب اخر
ينالون منهم بخنجر من الخلف. إنَّ عداء هذا القوم المعاند للمسلمين لم تنته ابداً
ولا زال مشهوداً في عصرنا هذا ، بل هو حالياً بلغ ذروته. ويمكن القول : إنَّ اكبر
صفعة نالتها الامة الاسلامية كانت من بني اسرائيل ومن قسم خاص منهم معروف باسم (الصهاينة)
؛ انهم في الدول الاسلامية منشأ الفساد والقتل والنزاعات والاختلافات والفحشاء
واللامبالاة تجاه الاحكام الاسلامية والربا و.. إنَّ انتهاكاتهم ومظالمهم لو جمعت
في مكان واحد لاصبحت كتاباً ضخماً بل كتباً. إنَّ قسوة قلوبهم بلغت درجة حيث لا
يرحمون حتى انبيائهم فضلاً عن غيرهم ، وقد حمل منهم نبيهم موسى عليهالسلام الكثير.
قصة بقرة بني
اسرائيل
الاية الشريفة
جاءت بعد آيات حكت قصة بقرة بني اسرائيل ؛ وخلاصة القصة محكية في الايات ٦٧ ـ ٧٣
من سورة البقرة نأتي بها هنا :
قُتِل شخص من بني
اسرائيل من دون ان يعرف القاتل ، وهو أمر سبب اختلافاً بين القوم. وعادة عند ما
يُقتل شخص يسعى البعض ان يرجعه إلى عملية تصفية الحسابات فيلقي القتل على عاتق
اطراف خاصة. وقد كان اصل الحادث ان شخصاً قتل عمه الثري ، وقد كان الشاب الوارث
الوحيد لعمه وكان منزعجاً من جراء تأخر وفاة عمه فقتله لينال نصيبه من الارث في وقت
مبكر. وقد عدَّ البعض حبّ الشاب لابنة عمه هو سبب القتل ؛ وذلك لان العم رغم حبه
لابن اخيه زوج ابنته من شخص آخر.
إنَّ بث خبر مقتل
هذا الشخص اثار ضجة شديدة جعلت البعض ومنهم القاتل الحقيقي يبحثون عن القاتل ،
فكانت الفتنة العظيمة وكان الموقف يوشك على نزاع بين القبائل ليتبدل إلى حرب شاملة
، فطلبوا من موسى ان يحل لهم المشكلة فكانت المساءلة التالية حسب ما دونها القرآن
:
(وإذْ قَالَ مُوسَىَ
لِقَومهِ إنَّ الله يَأمُرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أتتَّخذُنا
هُزُواً؟ قَالَ أعُوذُ باللهِ أن أكُون مِنَ الجَاهِلِينَ). أي أنَّ الاستهزاء من عمل الجاهلين ، والانبياء مبرؤون من
ذلك.
بعد أن ايقنوا
جدية المسألة ، (قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِي؟)
أجابهم موسى عليهالسلام : (قَالَ إنَّهُ يَقُولُ
إنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلك) ، أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة بل متوسطة بين الحالتين (فافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) لكن بني اسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم ، (قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ
لَنَا مَا لَوْنُها) أجابهم موسى (قَالَ إنَّهُ يَقُولُ
إنَّهَا بَقرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لَوْنُها تُسِرُّ النَاظِرِينَ) أي أنَّها حسنة ولا يشوبها لون آخر.
ثم لجوا مرة أخرى
وعاودوا السؤال : (قَالُوا ادْعُ لَنَا
ربَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وإنَّا إنْ
شَاءَ اللهُ لمُهْتَدُونَ)
أجابهم موسى (قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ
لا ذَلُول تُثِيرُ الأرضَ ولا تُسْقِى الحَرْثَ) ، أي ليست
من النوع المذلل
لحرث الارض وسقيها. وبعد المساعي الحثيثة وجدوا هذه البقرة وذبحوها ولمسوا الاعجاز
الالهي.
الشرح والتفسير
المفروض بهذه
الاية العظيمة ان تزيد من ايمان القوم إلا أنَّ ذلك لم يحصل ، بل الآية الشريفة
حكت حالهم بعد ذلك بالقول : (قَسَتْ فَهِيَ
كالحِجَارَةِ أوْ أشدُّ قَسْوَةً) أي لم تزد هذه الاية الكبرى القوم الا لجاجة وقسوة وتمرداً
وعصياناً وانتهاكاً لحرمات الانبياء و.. وذلك بسبب قسوة قلوبهم تحجّرها.
ان مفردة (قلب)
استخدمت مائة وثلاثين مرة في القرآن ، لكن يا ترى هل يراد من هذه المفردة ذلك
العضو الصنوبري الذي يدق في الدقيقة اكثر من سبعين مرة في الجسم ليضخ دم الإنسان
إلى جميع اجزاء جسمه مرتين في الدقيقة؟ إنَّ هذا العضو من عجائب خلق الله حقاً وله
في الجسم وظائف مهمة ، لكن مراد الله من القلب في القرآن ليس ذلك العضو.
نشير هنا باقتضاب
إلى مهام هذا العضو وذلك لايضاح اهميته :
أولاً
: تغذية جميع خلايا
الجسم ؛ إنَّ الاغذية التي تصل المعدة تمتزج مع ترشحات المعدة لتتهيّأ للذهاب إلى
الأمعاء ؛ وتتم عملية هضم وجذب الاغذية في الامعاء من خلال الدم ، والأخير يوزعها
على جميع خلايا الجسم وبذلك تتم عملية تغذية الجسم.
ثانيا
: ارواء الإنسان ؛
إنَّ الجزء الاكبر من جسم الإنسان عبارة عن الماء واذا ما قلت نسبة الماء في الجسم
فانه قد يؤول ذلك الامر إلى الموت إذا ما بلغ مستوى الجفاف.
ثالثاً
: ايصال الحرارة
الموحدة للجسم ؛ ان جسم الإنسان حار ، لكن هل فكرتم من اين قدمت له هذه الحرارة؟
ان الاوكسجين يدخل الجهاز التنفسي ومن خلال هذا الجهاز يدخل الدم ليصل من خلاله
إلى جميع خلايا الجسم ، واثر الاحتراق الذي يوجده الاوكسجين عند تركبه مع اغذية
الخلايا تتولد حرارة تنتقل هذه الحرارة بشكل ثابت إلى جميع اجزاء الجسم بواسطة
الدم.
رابعاً
: جمع المواد
الزائدة والسمية ودفعها. ان احتراق الاغذية في الجسم يولد مواد سمية
وزائدة يطرح جسم
الإنسان بعضها من خلال الزفير وبعضها الاخر من خلال الكلية والادرار ، وهذه
العمليات كلها تتم من خلال الدم.
حقاً ان القلب مع
هذه الظرافة والعمل المتواصل آية إلهية عظمى ، فلو كان هذا القلب من حديد لصدأ
وتلف خلال سبعين سنة من عمر الإنسان الا ان قدرة الله اللامتناهية صنعت منه عضواً
يعمل اكثر من مائة سنة في بعض الموارد. والمدهش هنا أنَّ القلب من الاعضاء التي
تعمل ليل نهار وفي النوم واليقظة رغم أنَّ نشاطه عند النوم أقل.
ومن هنا نجد سر
تعظيم المؤمنين وتمجيدهم مقولة الله تعالى : (وفِي الأرْضِ آياتٌ
لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلَا تُبْصِرُونَ)
لو لم يكن لدينا
دليل على عظمة الخالق غير القلب لكان كافياً لادراك قدرته وحكمته السرمدية.
ولأجل استيعاب
عظمة الخلق وادراك اكبر لهذه الهدية الالهية القيمة نقرأ الموضوع التالي :
القلب الصناعي
مرآة لعظمة قلب الإنسان
كلّفت صناعة قلب
صناعي قبل عدة سنوات ثلاثين مليون دولاراً ، إلَّا أنَّ هذا القلب لم يدم عمله
اكثر من ستة أيام ، كما أنَّ المستفيد منه لم يكن قادراً على الحركة والمشي خلال
هذه الفترة. كيف يمكننا شكر الخالق على نعمة القلب التي منحها اياناً مجاناً؟
ما أجمل ما قاله
القرآن : (وَفِي أنْفُسِكُم
أفَلَا تُبْصِرُونَ)
وبعد ما عرفنا
أنَّ المراد من القلب في الاية ليس ذلك العضو الصنوبري نقول هنا : إنَّ المراد منه
هو العقل والعاطفة. يقول الله في سورة الاعراف الاية ١٧٩ : (وَلَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) فالمراد من القلب هنا هو العقل والعاطفة ؛ لأن الفهم
والادراك من شأن العقل ، كما أنّ الإحساس والشعور والحب والمعرفة من شأن العاطفة
والعقل ، وكنموذج على ذلك يقول الله في الاية ١٠ من سورة البقرة : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فزَادَهُم اللهُ
مَرَضَاً)
__________________
هل إنَّ قلب
المنافق الصنوبري يعطل من جراء مرض النفاق؟ أو أنَّ مرض النفاق يؤدي إلى اتساع في
صمام القلب؟
من الواضح أنَّه
لا يراد من القلب ذلك العضو الصنوبري ، ولا يراد من المرض تلك الحالة الطبيعية
التي تعرض للإنسان وأعضائه. إنّ القلب هنا هو العقل والعاطفة اللتان قد يضعفان
بسبب مرض النفاق إلى مستوى يسمحان للانسان قتل الابرياء في حرم الامام الرضا عليهالسلام ، فهما في الحقيقة يموتان.
نقرأ في رواية أنّ
للأمر بالمعروف ثلاث مراحل : الأمر بالقلب أولاً ، وباللسان ثانياً ، وبالعمل
ثالثاً. فاذا كانت المرحلة الأخيرة غير ممكنة فتتوجب المرحلتان الاوليتان. وإذا
استحالت المرحلة الثانية والثالثة فعلينا بالاولى أي علينا ان نكون متذمرين من
الظالمين وسلوكهم وأن نكون محبين للمؤمنين والمصلحين. واذا ترك شخص الامر بالمعروف
بمراحله الثلاث فقد صدق عليه الحديث التالي : «فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر
منكراً قُلبَ ؛ فَجُعِلَ أعلاه اسفله». وهل يراد من القلب هنا هو ذلك العضو الصنوبري؟ بالطبع لا ،
لان ذلك العضو لا يتحرك من مكانه ولا يتزلزل بل المراد منه هو العاطفة والادراك.
مما مضى نستنتج ان
للقلب معينين في القرآن والروايات : ١ ـ العقل الانساني ٢ ـ العواطف الانسانية.
وهما ظاهرتان روحيتان يعدان مركزاً للادراك والشعور. ولهذا عند ما يقال : (لهم
قلوب لكن لا يفقهون) فان المراد كونهم يملكون القلب لكن ملكة الادراك عندهم معطلة
وإذا قيل (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فإنَّ المراد أنَّ عواطفهم ميتة.
القلب الذي في
الاية ٤٦ من سورة الحج (فإنَّهَا لا تَعْمَى
الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي فِي الصُّدُورِ) قد يعني ذلك العضو الصنوبري بقرينة (في الصدور) ، لكن هل
الواقع كذلك؟
رغم أنَّ العقل
ليس في صدر الإنسان ، إلّا أنَّ له ارتباطاً بالدماغ ولذلك نرى البعض قد تعطل
دماغه لكنَّ قلبه لا زال يعمل. وعلى هذا فالصدر الذي في الاية ليس ذلك الجزء من البدن
المكسو بالقفص بل المراد منه الروح. وعليه فالقلب هنا يعني العقل والإدراك ،
فمفهوم
__________________
الآية هو (العقول
التي في الأرواح).
وهناك إحتمال آخر
وهو : رغم أنّ هذا العضو الصنوبري ليس مركزاً للعواطف والعقل ، إلّا أنَّ الأمر لا
يخلو عن علاقة بينهما ؛ وذلك لان هناك علاقة مباشرة بين القلب والروح أو العقل
والعاطفة فان القلب يتأثر مباشرة وأولاً في أي ظاهرة تطرأ على الإنسان ، فاذا واجه
الإنسان موقفاً مفرحاً ازدادت ضربات قلبه وسرعت ؛ وإذا واجه موقفاً مؤلماً شعر في قلبه
التعب والثقل ، وكذا الامر في كل الحوادث والقضايا الروحية. إنَّ العلاقة بين
القضايا الروحية والقلب هي كالعلاقة بين الماء والعين وسطح الارض. إنَّ الماء يعلو
من الطبقات التحتية للارض ثم ينبع من نقطة خاصة من الارض والظواهر الروحية مثل ذلك
، فإنها تنبع من القلب. ومن خلال التفاسير الماضية يمكننا معرفة الكلام الالهي في
الاية الكريمة (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)
تصوير القرآن
لقلوب بني إسرائيل
لقد وصف القرآن
قلوب بني اسرائيل في الاية ٧٤ من سورة البقرة بانها كالحجارة أو اشد قسوة : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُهُم مِنْ بَعْدِ ذلك
فَهِيَ كالحِجَارةِ أو أشدّ قَسْوَةً) وقد اختلف المفسرون في تفسير (فَهِيَ كالحِجَارَةِ) وفي (أو أشَدَّ قَسْوَةً)
بما أنَّ الآية
نزلت في المنافقين وبما أنَّ للنفاق درجات ومراتب فإنَّ صفة كالحجارة ترجع إلى
طائفة خاصة من المنافقين ، وأمّا (أو أشَدُّ قَسْوَةً) فترجع إلى طائفة أخرى أسوء حالاً من السابقة.
لكن كيف يمكن
للقلب أنْ يَكُون أشدَّ قسوةً من الحجارة؟
إنَّ القُرآن يعدّ
ثلاث بركات من بركات الحجارة :
الأُولى
: بعض الاحجار في
الجبال تتفجر لينبع منها الماء والأنهار وبجريانه تُروى المزارع والنباتات
والحيوانات. نعم ، ان للحجارة بركة التفجر لينبع الماء ، وهي بركة عظيمة إلّا أنَّ
قلوب بني اسرائيل لا ينبع منها الفضيلة ولا العلم ولا الحكمة كما انها ليست مراكز
للعواطف والحب والحنان ؛ إنَّ قُلُوبهم أشدّ قَسوة من الحجارة حقاً.
الثانية
: إنَّ من الاحجار
تتشقق لتضم في شقوقها مقداراً من الماء. ورغم أنَّ هذا الماء لا يروي المزارع
والحيوانات ، إلّا أنه قد ينقذ حياة سائرٍ عطشان. أمّا قلوب بني اسرائيل فهي لا
تضم حتى ذلك
المقدار القليل من المحبة والحنان.
الثالثة : بعض
الاحجار تهبط وتسقط خشية من الله وخضوعاً امام قدرته واستطاعته العظمى كما تؤكد
ذلك الآية ٢١ من سورة الحشر (لَوْ أنْزَلْنَا هذا
القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَه خاشِعاً مُتَصَدّعاً مِن خَشْيَةِ اللهِ
وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُها للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفكَرُونَ)
تسبيح الموجودات
جميعاً
إن خضوع وخشوع
الاحجار والجبال امام قدرة الله وعظمته وتسبيحها عموماً أمر يمكن استظهاره من
الايات العديدة للقران ، والآية ٤٤ من سورة الاسراء نموذج على ذلك : (وَإنْ مِنْ شَيءٍ إلّا يُسَبّحُ
بِحَمْدِه وَلَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيْحَهُم ...) وقد اعتبر بعض المفسرين الجمادات حية ومنحها حياة ذات نوع
خاص من الشعور والاحساس الذاتي يختلف عن الشعور الإنساني ، فشعورها مثل تسبيحها
الذي لا يُفقه (لا يَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُم) حيث نجد مقابل الحمد والخشوع والخضوع امام الله القادر
الذي يشهد من الموجودات وبخاصة الاحجار قلوباً قاسية لا تسبّح ولا تذكر الله ولا
تخضع أمامه.
القسوة
للانسان قوتان قوة
العقل والفكر وقوة العاطفة الإنسانية ، الجهاز الذي يستطيع الإنسان من خلاله فهم
الحقائق يقال له عقل ، وكل ما يدركه الإنسان ويفهمه يتم من خلال عقله.
أمّا العاطفة فهي
القوة التي يتمكن الإنسان من خلالها ادراك القضايا الاخلاقية مثل الحب والبغض ،
فنحن مثلاً نتأثر من جراء سماعنا للمجازر الجماعية التي ترتكب من قبل اناس فقدوا
العاطفة في الدولة المسلمة (الجزائر). أو نتأثر بالاوضاع المتأزمة لافغانستان الذي
ابتلي بحب وبغض بعض الزعماء الانانيين.
__________________
إنّ هذه الاحاسيس
تتعلق بقوة العاطفة الإنسانية ، والشعوب الانسانية حية ما دامت عواطفها حية ، وفي
الحقيقة ان موت هذه العواطف يعني موت المجتمعات البشرية.
تباً للإنسان في
اليوم الذي تموت فيه عواطفه حباً للدنيا ؛ فإنّه يصبح انذاك انساناً خطراً اخطر من
الحيوان المفترس والوحشي!
من الذي صنع
القنابل الكيمياوية؟ العلماء الذين فقدوا عواطفهم حباً للدنيا ، اولئك الذين
اشتروا العواطف الانسانية بالدولارات وغضوا اطرافهم عن الذين قتلوا في حلبجة! من
هم الذين قصفوا مدينتي هيروشيما وناكازاكي وقتلوا فيهما مئات الالاف بالقنابل
النووية في لحظة.
انهم العلماء
الذين ماتت عندهم العواطف والذين لم يأثروا من الإنسانية شيئاً ، والذين يرون
اللذة في تدمير الاخرين! من هم الذين زرعوا اكثر من عشرين مليون لغم من النوع
المضاد للافراد على سطح الكرة الارضية؟ هم اولئك الذين اتسموا بصفات حيوانية ولم
يأثروا من الانسانية الا اسمها وما كان لهم نصيب من العواطف الإنسانية.
إنَّ العالم قرر
منع تصنيع هذا النوع من اللغم ؛ وذلك لاجل كونها غير اخلاقية وذات ابعاد غير
انسانية ؛ إلا أن الدولة العطوفة والمهتمة بحقوق البشر ، أي امريكا ، خالفت ذلك ،
كما خالفت مشروع حضر تصنيع اسلحة الدمار الشامل رغم تظاهرها بالدفاع عن حقوق البشر
وتزعمها لمنظمات انسانية تهتم بهذه المجالات. هذا كله بسبب الضغوط التي تمارسها
اسرائيل والصهاينة المنافقين على أمريكا ، وهي تستخدم هذه المنظمات والآليات
الاعلامية دائماً لاجل تدمير الأعداء ، وكأنّ رعاية حقوق البشر أمر ينبغي ان يحصل
في الدول المناهضة لامريكا فحسب دون الصديقة لها.
__________________
العلم والعاطفة
وجه تمايز الإنسان عن الحيوان
اختلاف الإنسان عن
الحيوان في أنَّ الاول يتمتع بالعقل والعاطفة ، أو بتعبير آخر يمكنه الادراك
والشعور ، أمّا الحيوان فانه يفقد هذين الامتيازين. ورغم أنَّ بعض الحيوانات تحضى
بذكاء واحساس ضعيفين وفي بعضها نرى نوعاً خاصاً من العاطفة البسيطة ، كدفاع
الدجاجة عن افراخها عند الاحساس بالخطر ، فإنَّ هذا لا يعد شيئاً بالنسبة للعاطفة
الإنسانية ، بل إنَّ بعض الحيوانات تأكل أفراخها وبعضها الاخر تطرد افراخها عند
البلوغ.
إن الإنسان إذا
فقد عقله عُدَّ احمقاً ولا يستحق اطلاق الإنسان عليه ، أمّا إذا فقد العاطفة فسوف
لا يرى معنى للترحم والمروة والحب والعشق ، فهو حينئذ بهيمة بل أسوأ حالاً.
دنيا دون عاطفة
من المؤسف أنَّ
عالم اليوم عالم يخلو من العواطف رغم أنَّ الإنسان بلغ المدارج العليا في مجال
العلم والمعرفة وقد حصل على المزيد من التقنيات ، إلَّا أنَّه بنفس المقدار فقد
العواطف والاحاسيس البشرية في ذات الوقت.
إنَّ القيم في
الدول الصناعية هي المال والمادة ؛ أمّا سلعة المحبة والعاطفة فغير متوفرة ، واذا
وجدت فلا مشتري لها!
إنَّ العواطف هناك
حتى في العائلة الواحدة قليلة وضعيفة. الوالدان يتخلّان عن أبنائهما بمجرد ان
يبلغوا ، والأولاد يتخلون عن والديهم بمجرد ان يشيبوا ويضعفوا ، واذا شعروا بعاطفة
جزئية تجاههم أو دعوهم في دار العجزة ، وتركوا السؤال عنهم حتى الموت.
إنّ نسبة الطلاق
في هذه الدول كبيرة جداً وقد تقدر هذه النسبة في بعض الدول إلى اكثر من خمسين
بالمائة ، أي أنَّ نصف حالات الزواج أو اكثر من ذلك تؤول إلى الطلاق. إلَّا أنَّ
نسبة الطلاق في بلدنا هي واحد بالعشرين رغم ذلك نعدها نسبة كبيرة.
إنَّ البيئة التي
تفقد العواطف لا تجد معنى لاعانة الفقراء والمحتاجين ، فلا نسمع شيئاً عن
(حفلة العواطف) و
(تعالوا لنتقاسم افراحنا) ولا شأن للناس هناك حتى لو سمعوا بشخص يوشك ان يموت من
الجوع والعطش.
لقد ورد في
الأخبار أنَّ شخصاً نفد وقود سيارته في طريق مزدحم وفي يوم بارد جداً ، فأخذ بوعاء
البنزين يؤشر للسيارات المارة طلباً للوقود ، إلَّا أنَّه لم يجد عوناً رغم
انتظاره مدة احدى عشرة ساعة هناك ، وما كانت النتيجة الا موته في الطريق. في
الحقيقة ان موت العواطف في هكذا مجتمعات ادى إلى موت هذا الشخص.
ولاجل هذه الشواهد
نعتقد أنَّ الغرب لا قدرة له على استيعاب المفاهيم الاسلامية الرفيعة ، مثل
الشهادة والجهاد والايثار واعانة المحتاجين وغيرها ، وحتى دفاعهم عن حقوق البشر لا
يكشف عن عواطفهم ، بل انها وسيلة لتدمير وتسقيط أعدائهم. فاذا قُتل اسرائيلي مثلاً
على يد فلسطيني في عملية استشهادية ارتفعت اصوات مدوية لهذه الموجودات الفاقدة
للعواطف ؛ وذلك دفاعاً عن حقوق البشر ، إلَّا أنه عند مقتل النساء والرجال
والاطفال والشباب في الجزائر وتقطّع أبدانهم إرباً إرباً لا تثار حفيضة هؤلاء
المنافقين المترائين ، وكأنه لم يحدث شيء ابداً.
الدين أو المذهب
يقويان العاطفة
الدين أو المذهب
هو اهم عامل يقوي العاطفة الانسانية ؛ وذلك لأن الدين عُرّف في الروايات (بالحب
والبغض) أي محبة المسلمين وبغض الكافرين.
جاء في رواية عن
الصادق عليهالسلام يسأله فضيل بن يسار عن الحب والبغض ، أمن الايمان هو؟ فقال
: «وهل الايمان الا الحب والبغض»؟! ونقرأ في رواية أخرى أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قبّل الحسن والحسين عليهماالسلام فقال الاقرع بن حابس : إنَّ لي عشرة من الاولاد ما قبلت
واحداً منهم.
__________________
فقال : «ما علي ان
نزع الله الرحمة منك».
القلب الذي يخلو
من الحب ليس قلباً بل قطعة من الحجر ، وليس اهلاً لاستقبال نعم الجنة ، بل اهل
لعقوبة جهنم.
ببركة دين الإسلام
وببركة تمتع شعبنا المؤمن بالعواطف الإنسانية النبيلة نرى تسارع الإيرانيين
للخيرات ونصبهم للخيم لاجل جمع الاعانات في الشوارع والاحياء بمجرد حصول حادثة أو
كارثة تستدعي المساعدة والاعانة ..
يا له من منظر
رائع وجميل للعواطف الانسانية.
عوامل القسوة في
القرآن
يشير الله من خلال
الايات التالية إلى عوامل القسوة وأسبابها.
(الأول :) يقول في الاية ١٣ من سورة المائدة : (فَبِمَا نَقْضِهِم مِيْثَاقَهُمْ
لَعَنّاهُمْ وَجَعلنَا قُلوبَهُمْ قَاسِيَةً)
القرآن هنا يعتبر (نقض
الميثاق) من عوامل قسوة القلب ، نقض الميثاق مع الله ومع الرسول صلىاللهعليهوآله ومع الفطرة الانسانية ومع البشرية. نعم إنّ بني اسرائيل لم
يحترموا أيّاً من المواثيق وكأنّهم ـ لأجل الدعامة العسكرية القوية التي كانوا
يتمتعون بها ـ لم يبرموا ميثاقاً إلّا مع مصالحهم الدنيوية ولم يفوا بميثاق إلّا
به.
(الثاني :) يقول الله في الآية ١٦ من سورة الحديد :
(ألَمْ يَأن للّذِينَ
آمنوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُم لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَّلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا
يَكُونُوا كَالذِّيِن أُوتُوا الكِتَاب مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيْرٌ مِنْهُم فَاسِقُونَ)
إنَّ الآية
الشريفة توقظ في البداية الغافلين بكلام حق.
يا انسان متى تصدق
الموت وانت ترى موت اعزتك وأقاربك؟!
إلى متى تستمر في
تعلقك بالدنيا رغم ما ترى منها من الفناء وعدم الوفاء.
__________________
ثم تحذّر المؤمنين
خوف ان يصبحوا مثل بني اسرائيل الذين قست قلوبهم بعد ما طالت اعمارهم ، وتأخرت
بعثة الرسول اللاحق ، ونسيانهم تدريجاً لتعاليم نبيهم ، وعدم نزول العذاب الإلهي
عليهم ، فكانت الغفلة التي لحقتها قسوة القلوب وكثرة الذنوب.
يمكننا معرفة
السبب الثاني لقسوة القلب من خلال هذه الآية وهو (الابتعاد عن تعاليم الأنبياء
والأولياء والأديان الإلهية).
ومن خلال هذه
العوامل التي بينها القرآن يتضح لنا أن بعضاً من العذاب الالهي في الحياة الدنيا
هو نوع من ألطافه تعالى ؛ وذلك لأنَّه يؤدي إلى التوبة والابتعاد عن الذنوب
والرجوع إلى الله ، وهو في الحقيقة الحائل دون الابتلاء بقسوة القلب.
إخوتي وأخواتي
الأعزاء! اتصلوا بالشباب والأشبال من خلال المجالس الدينية واذهبوا بهم إلى هكذا
مجالس لتعريفهم بالتعاليم الدينية الاسلامية لكي لا يبتعدوا عنها فيبتلوا بقسوة
القلوب وترحل عنهم العواطف الإنسانية.
القسوة في
الروايات الاسلامية
اشارت روايات
المعصومين عليهمالسلام إلى عوامل عديدة يمكنها ان تؤدي إلى قسوة القلب نشير إلى
بعض منها هنا :
الاول
: يقول الامام علي عليهالسلام : «ما جفَّت الدموع الا لقسوة القلوب وما قست القلوب الا
بكثرة الذنوب».
إذا شاهدنا
إنساناً لم يتأثر بالمصائب الدنيوية ولا يبكي ولا يشتاق للعبادة والمناجاة ، أو
يفتقد العواطف والترحم على أبناء جنسه ولا يفكر الا بنفسه وضمان مصالحه ، ولا
يقلقه ما يصيب الآخرين ، فتلك جميعها بسبب كثرة الذنوب وتراكمها.
__________________
في إحدى رحلاتي
إلى بيت الله الحرام كنت جالساً في المسجد الحرام ، جاءني شاب وقال لي : إنّي احج
الصرورة ولم اسبق بالمجئ إلى هذا المكان المقدس رغم ذلك لا اشعر بالمعنوية ولا
بالحيوية في هذا المجال ، فلم اشتق للمناجاة والبكاء والتضرع؟ فكان يريد معرفة سبب
ذلك. اجبته يبدو أنَّك ارتكبت ذنوباً كثيرة في حياتك؟ عليك اولاً طلب المغفرة من
الله على تلك الذنوب ، ثم اشتغل بالزيارة والعبادة والمناجاة.
الثاني
: طول الامل هو من
العوامل الاخرى لقسوة القلب.
جاء في احدى
الروايات أنَّ الله قال لموسى عليهالسلام : «لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاس القلب مني
بعيد».
الثالث
: حب الدنيا والغرق
في الطلبات المادية.
ان هذه الأمور من
شأنها ان لا تترك مجالاً لنمو وبروز العواطف الانسانية ولا لتقرب الإنسان لله ؛
وذلك لان اكبر هدف للانسان العطوف هو الوصال بالحق. وعلى هذا فحب الدنيا والابتعاد
عن الله هو ثالث عامل لقسوة القلب.
يقول الرسول صلىاللهعليهوآله : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فان كثرة الكلام بغير
ذكر الله تقسو القلب».
فالرسول صلىاللهعليهوآله هنا يصرح بان كثرة الكلام بالاشاعة والكذب والاتهام والمزاح
الخارج عن حده والتدخل بما لا يعني الشخص وغيرها من مظاهر كثرة الكلام هي اسباب
لقسوة القلب.
الرابع
: هناك رواية أخرى
عن الرسول صلىاللهعليهوآله يقول فيها : «ثلاث يُقِسْنَ القلب استماع اللهو وطلب الصيد
واتيان باب السلطان».
إنَّ الاصغاء إلى
الموسيقى حرام ويؤدي إلى قسوة القلب وينبغي هنا أنْ نكون نبهين دون الوقوع في
مصيدة الشيطان بتبريرات من قبيل : إنّ الموسيقى تنشطنا روحياً ، وأنَّ الموسيقى
__________________
ليست للنزهة فقط ،
أو أنَّ الموسيقى المحلية والتقليدية جائزة وما شابه ذلك.
الصيد إذا كان
طلباً للمعيشة فلا اشكال فيه ، أمّا إذا كان لاجل التسلية والترفيه فهو حرام في
الإسلام ، وعلى الصيّاد حينئذٍ التمام في الصلاة دون القصر ؛ وذلك لان سفره معصية.
أكثر الملوك والحكام كانت لهم اماكن خاصة يصطادون فيها للتسلية والترفيه. كيف يمكن
ان يكون سلب روح حيوان ما سبباً للتسلية والترفيه؟!
إنَّ الحكام أشخاص
قساة القلب ، كما أنَّهُم ظلمة وهم مستعدون لارتكاب ابشع الجرائم لاجل حفظ كراسيهم
ومواقعهم القيادية ، وقد يستعد الحاكم لقتل أبيه أو اخيه لديمومة عرشه ، كما فعل
المأمون بالأمين العباسيين ، فقد قتل الأول الثاني ، رغم انه كان أخاه. وفي الفترة
الاخيرة قتل احد الملوك العرب اباه ليحكم بذلك موقعه القيادي.
ان الاشخاص الذين
يرتبطون بهذه الطبقة من الناس تقسو قلوبهم ويبتعدون عن الله لما يرون من زخارف
الدنيا التي تجذبهم إليها.
نسأل الله ان
يمنحنا قلباً عطوفاً ، قلباً ينضح من حبه ، ويجري دموع العين من ذكره.
الخامس
: يقول الامام علي عليهالسلام : «كثرة المال مفسدة للدين ومقاساة للقلب».
مما لا شك فيه
أنَّ المال وسيلة جيدة لبلوغ المقامات المعنوية العليا ولعمل الخير ، وقد يكون هذا
هو مغزى مقولة القرآن في الآية ١٨٠ من سورة البقرة (... انْ تَرَك
خَيْراً الوَصِيَّةَ) فقد فسّر المفسرون (خيراً) هنا بالمال والثروة. لكن الذين
يحسنون الافادة من المال هم العدة القليلة بل نادراً ما يحصل ذلك.
إنَّ اكثر
المتمولين لا ينفقون اموالهم في مجالات الخير وهذا يعني أنَّ كثرة اموالهم سبب
لابتعادهم عن الله ، الامر الذي يؤدي إلى قسوة القلب.
السادس
: يقول الامام
الصادق عليهالسلام في احدى الروايات المنقولة عنه : «أنهاكم أنْ تطرحوا
__________________
التراب على ذوي
الارحام فإنّ ذلك يورث القسوة ومن قسي قلبه بَعُدَ من ربّه عزوجل».
لقد وضع الإسلام
منهجاً لجميع شؤون الإنسان حتى في القضايا التي تبدو قليلة الاهمية ، فعند استقبال
الضيف مثلاً يأمر الإسلام إعانة المضيف للضيف في حمل امتعته لادخالها في البيت ،
إلَّا أنَّه عند التوديع يأمر بعدم اعانة الضيف على اخراج امتعته ؛ وذلك لأن هذا
يعني رغبة صاحب البيت في التخلص من الضيف وهذا يؤدي إلى قسوة في القلب.
وفي هذا الحديث
اشارة أخرى لاحد القوانين الدقيقة التي تصب في هذا المجال ، فبما أنَّ ذوي الارحام
يحملون العواطف الوافرة تجاه احدهم الاخر فان طرح التراب ونثره على موتاهم يحد من
العواطف ويجلب للناس قسوة في القلب وابتعاداً عن الله.
السابع
: يقول الامام علي عليهالسلام : «النظر إلى البخيل يقسي القلب» إنَّ الشخص إذا نظر إلى البخيل تذكّر بخله ، وتذكُّر البخل
يتداعى معه تذكُّر القساوة ، وتذكُّر القساوة يؤثر تدريجياً على الإنسان.
__________________
المثل الرابع :
الكفار
يقول الله في
الآية ١٧١ من سورة البقرة :
(وَمَثَلُ الّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلّا دُعَاءً وَنِدَاءً
صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)
(العقبة الكبرى امام
دعوة الانبياء هو التقليد الأعمى)
إنّ تقليد الآباء
والاسلاف كان مانعاً مهما ومتواصلاً امام دعوة الأنبياء. عند ما كان الانبياء
يدعون اممهم للتوحيد والدين كانوا يسمعون الجواب التالي : (بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَائَنا)
وفي الحقيقة ،
إنَّ سبب رد دعوة الانبياء هو عبادة الاصنام من قبل الاسلاف ، والتقليد الأعمى
للمعاصرين والأنبياء. وعند ما دعى رسول الإسلام صلىاللهعليهوآله الناس إلى الإسلام وعبادة الله الواحد كان رد فعلهم هو
التعجب مما يدعو اليه الرسول من عقائد مخالفة لسننهم وتقاليدهم وكان وتبريرهم لرد
دعوته هو اتباعهم لما كان عليه اسلافهم من عبادة اصنام كانوا يصنعونها بايديهم من
التمر ، ويأكلونها عند شعورهم بالجوع.
يقول الله في هذا
المجال حكاية عن لسان الكافرين : (أَجَعَلَ الآلِهَةَ
إلَهاً واحداً إنّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ)
__________________
جاء في بعض كتب
التاريخ أنّ أبا طالب (رضي الله عنه) مرض يوماً وكان محمد ابن أخيه منشغلاً
بالتبليغ خارج البيت فاتى اشراف قريش ابا طالب بحجة العيادة له وقالوا : أنت شيخنا
وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن اخيك فانه سفّه احلامنا وشتم الهتنا.
فدعا ابو طالب
رسول الله صلىاللهعليهوآله وقال : يا بن أخي! هؤلاء قومك يسألونك فقال : «ما ذا
يسألونني»؟ قالوا : دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك. فقال صلىاللهعليهوآله : «أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم»؟ فقال ابو
جهل : لله أبوك نعطيك ذلك عشر أمثالها. فقال : «قولوا لا إله الا الله». فقاموا
وقالوا : أجعل الالهة الهاً واحداً.
وهو يدعوهم
للتوحيد في عبارته الأخيرة.
الشرح والتفسير
شُبِّه الكفار في
هذا المثل القرآني بالحيوانات ؛ ولاجل تبرير هذا التمثيل اكد على تقليدهم التام
والأعمى لأسلافهم.
يقول الله في
الآية ١٧٠ من سورة البقرة : (وَإذَا قِيْلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا ألفَيْنَا عَلَيْهِ
آبائَنا أوَلَو كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ)
وكأنّه يَقول : يا
جهّال! هل أنَّ اتباعكم للاسلاف الذين لا يعقلون شيئاً اتّباع عن بصيرة؟! ثم يمثل
الرسول (عند ما يقرأ الايات على هذا القوم المشرك) بالراعي الذي ينادي رعيته
بالاصوات لتوجيه حركتها ، إلّا أنَّ هذه البهائم لا تعقل من كلامه شيئاً إلَّا
الأصوات التي تتأثر بها ، فاذا كانت اصوات الراعي شديدة وذات ايقاع قوي اثرت في
البهائم وإلّا فلا. إنّ مثل المشركين كمثل هذه البهائم لا تفهم ما تقرأه عليهم من
المعاني والمفاهيم الرفيعة لكنهم يفهمون الأصوات وموسيقى كلامك فحسب لذا يستمرون
في تقليدهم الأعمى للاسلاف.
__________________
خطابات الآية
الاول
: إن الآية جواب
لائق للسؤال التالي : إذا كان القرآن المجيد وحياً الهياً فينبغي أن ينفذ في
القلوب ويترك اثره فيها ، فلما ذا لا نشاهد هذا الامر في بعض المشركين الذين ظلّت
قلوبهم نائمة دون يقظة إلى اخر عمرها؟
إنَّ التأثير على
أي شيء يستدعي وجود عاملين :
١ ـ فاعلية
الفاعل.
٢ ـ قابلية
القابل.
ومما لا شك فيه
أنَّ القرآن فاعل وذات تأثير ونفوذ ، إلّا أنَّ الكافرين ليست لهم القابلية
لاستقبال مفاهيم القرآن واستقطابها. لا خلاف في لطافة طبع الغيث لكنه إذا هبط على
الحجر فانا لا نتوقع منه انبات الشجر ؛ وذلك لان الحجر ليست له قابلية على تنمية
البذور ، وكذلك هو شأن الكافرين. فإنَّ كلام الله بروعة قطرات المطر وقلوب
الكافرين بقسوة وشدة الحجر ولا تؤثر هذه القطرات اللطيفة في الحجر ، لكن بمجرد أن
تحصل ادنى قابلية لهذه الأحجار على الانبات نرى الغيث يؤثر فيها. وقلوب الكافرين
المتحجرة إذا تبلورت فيها أي قابلية على التأثر كان كلام الله نافذاً فيها وتاركاً
اثره.
وعلى هذا فتأثير
المؤثر غير كافية بل قابلية القابل مهمة أيضاً ، والكافرين ما كانت لهم تلك
القابلية.
الثاني
: افادة الناس من
المعارف القرآنية يتوقف على مستوى لياقتهم وقدرتهم على الافادة.
القرآن حديقة
يستطيع أنْ يتمتع بها كل شخص بمستوى ذوقه ، أو هو ينبوع من الماء الزلال يستطيع كل
واحد أنْ ينهل منه ماء الحياة ويروي عطشه. والاختلاف بين الجميع في مقدار ما
ينهلون منه.
إنّ هؤلاء الكفار
لا هم يملكون الاناء للنهل من هذا الينبوع ، ولا هم قادرون على تجرع الفيض والرحمة
الالهية ؛ وذلك لأنّ تقليدهم الأعمى لدين آبائهم يمنعهم من النهل من زلال المعرفة
الربانية.
وبتعبير آخر :
إنَّ اتباعهم لدين آبائهم ضرب حجاباً ضخماً على وسائل معرفتهم حال دون سمعهم أو
ابصارهم أو نطقهم فاصبحوا عمياً بكماً صماً لا يفقهون شيئاً.
وقد فسرت الآية
المذكورة بشكل آخر ، هو : أيُّها المشركين! إنَّكم تركعون لاصنام تعبدونها
وتناجونها وهي لا تسمع حاجاتكم ولا ترى اعمالكم ولا تستطيع النطق والكلام معكم ،
فهي بكم وعمي وصم كالبهائم. أيُّها الإنسان! إنَّك قد كسرت شخصيتك بنفسك من خلال
العبادة والخضوع لهذه الاصنام الجامدة.
بما أنَّ ضمير (هم)
في (فهم) والضمير الذي في (لا يعقلون) يشيران إلى العقلاء لذا كان التفسير الاول
اقرب للمنطق والعقل.
على أي حال ،
فإنَّ الخطاب الرئيسي للاية هو رفض التقليد الاعمى للاسلاف والآباء.
التقليد في القرآن
تحدثت آيات كثيرة
عن التقليد ، ومن الايات ما تذم التقليد وتعتبره عملاً مضاداً للقيم ، ونموذج ذلك
الآية ١٧٠ من سورة البقرة.
لكن بعض الايات
التي وردت في التقليد لا أنّها لم تذمه فحسب ، بل دعت له وشجعت الناس عليه ، كما
في الآية ٧ من سورة الأنبياء : (فاسْئَلُوا أهْلَ
الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
ومع الالتفات إلى
التضاد الظاهري بين هذين الطائفتين من الايات ، ما هي وظيفة المسلم المؤمن؟ هل
التقليد أمر مستحسن ام ممنوع ومحرم؟ وهل يتمكن المؤمن من تقليد أهل العلم؟
أقسام التقليد
لاجل ايضاح
الموضوع من الافضل ان ندرس اقسام التقليد.
١
ـ تقليد الجاهل للجاهل : ومثل هذا هو تقليد الكفار والمشركين الجهال لابائهم الجهال.
__________________
وهذا النوع من
التقليد ممنوع وغير صحيح حسب الموازين الشرعية والعقلية.
٢
ـ تقليد العالم للعالم : إنَّ العالم هو صاحب الرأي وليس من الصحيح ان يقلد العالم عالماً اخر ؛ لانه
إذا كان صاحب رأي فعليه أن يفكر في أن يبدي رأيه ويفيد من علمه الذاتي ، ولهذا قيل
في الفقه (يحرم التقليد على المجتهد).
٣
ـ تقليد العالم للجاهل : بأن يترك صاحب الرأي رؤاه وافكاره ويبحث عن رأي الجاهل ليعمل على اساسه. من
المؤسف أنَّ هذا النوع من التقليد يكثر في عالمنا اليوم ، ونموذج ذلك هو الديمقراطية
الغربية ، فإنّ أصحاب الرأي والمفكرين يتركون من خلال هذه الديمقراطية رؤاهم في
مجال تخصصهم ويبحثون عن آراء الناس فيها فاذا ابدى الناس خلاف ما يمنحهم تخصصهم من
افكار طرحوا افكارهم واخذوا بما يشاء الناس.
٤
ـ تقليد الجاهل للعالم : بأنْ يَسْأل الشخص الذي يفقد المعرفة في مجال أو تخصص ما من العالم والمتخصص
في ذلك المجال ، فالمريض يراجع الطبيب ، والذي يريد بناء بيت يراجع المهندس ،
والفلاح الذي يريد حفر بئر يراجع المهندس المختص في هذا المجال و.. والناس يرجعون
في مسائلهم الشرعية إلى مرجع تقليدهم. وخلاصة الكلام هنا أنَّ تقليد الجاهل للعالم
يعني الرجوع إلى المتخصصين والخبراء ، وهذا أمر متداول في جميع شؤون الحياة ، كما
أنَّه أمر معقول.
وعلى هذا ،
فالانواع الثلاثة الاولى من التقليد هي الاقسام الممنوعة منه ، والآيات التي تذم
التقليد ناظرة إلى هذه الأقسام. أمّا القسم الرابع فهو ممدوح لا جائز فحسب ،
والآيات التي تشجع التقليد وتحث عليه ناظرة إلى هذا النوع منه.
لكن ينبغي
الالتفات هنا إلى ان التخصص والعلم في مجال ما ، هو الشيء الوحيد الذي يمنح
الانسان امكانية ابداء الرأي ، ولا شيء اخر يجيز للانسان ابداء الراي في موضوع ما.
ومن المؤسف أنَّا نشهد مؤخراً البعض يبدي رأيه في مواضيع مختلفة قد لا تدخل في
مجال تخصصه. إنَّه يُبدي رأياً في مجال الحجاب والقصاص والعاقلة والارث وقضاء
النساء واجتهادهن
__________________
والديات وغيرها ،
رغم أنَّه لا يملك الارضية اللازمة في هذه المجالات. لكن يا ترى هل هؤلاء يجيزون
لانفسهم الدواء عند التمرض من دون مراجعة الطبيب؟ وهل هؤلاء يقومون بعمليات جراحية
عند الابتلاء بامراض حادة؟ بالطبع لا. اذن كيف يمكن لهم أن يسمحوا لانفسهم في
ابداء الرأي في القضايا الشرعية من دون أن يحملوا المعرفة الكافية في مجال الفقه
والمسائل الشرعية؟
المثل الخامس :
الإنفاق
يقول الله تعالى
في الآية ٢٦١ من سورة البقرة :
(مَثَلُ الّذِيْنَ
يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُم فِي سَبِيْلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّة أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ
فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ واللهُ
وَاسِعٌ عَلِيْمٌ)
تصوير البحث
تحدثت الآية
الشريفة عن (الإنفاق) وذكرت مثالاً رائعاً للانفاق في سبيل الله.
إنَّ الفقر معضلة
، والبشر لا زال يعاني منها في مختلف مجتمعاته ، وهي مشكلة ترجع في الحقيقة إلى
عدم التوزيع العادل للثروة ، الأمر الذي يؤدي إلى تقسيم البشر إلى فقير وغني.
التاريخ يشهد
بأنَّه كانت هناك شخصيات مثل قارون تمتلك ثروات عظيمة ، بحيث حمل مفتاح مخازن
ثروته يحتاج إلى طاقة عدة اشخاص أقوياء. وفي مقابل هؤلاء كان هناك اشخاص بحاجة إلى قرص من الخبز
يقضوا بها ليلتهم. إنَّ هذه المشكلة اشتدت في عصرنا الحاضر.
(كمثال على ما نقول :) إن بعض الاحصائيات حكت عن أن نسبة ٨٠ خ من ثروة الكرة الارضية
يمتلكها نسبة ٢٠ خ من الناس فاذا كان مجموع البشر في الكرة الارضية عبارة عن
__________________
خمس مليارات ؛ فان
٨٠ خ من الثروة تحت تصرف مليار من البشر و ٢٠ خ من الثروة العالمية يتقاسمها اربعة
مليارات.
وبعبارة أخرى :
إذا كان مجموع شعوب الدول الصناعية يقدر بمليار فهذا المليار يملك اربعة اخماس من
ثروة الكرة الارضية وما تبقى من البشر فلهم خمس تلك الثروة.
والمدهش هنا أنّ
هذه النسبة وتلك المفارقات تزداد يوماً بعد آخر ولصالح الأغنياء.
طرق علاج الفقر
لحل هذه المعضلة
قدّم العلماء منذ القدم علاجات ، والبشرية جربت علاجين مختلفين.
الأول
: يعتقد
الاشتراكيون والشيوعيون أنَّ الفقر مشكلة نجد جذورها في الملكية الخاصة ، فاذا ما
اجتثثنا جذور هذه المشكلة فانَّ المشكلة ستُحل.
إنّ اصحاب هذه
الفكرة جربوا هذا العلاج مدة سبعين عاماً ، قتلوا خلالها الملايين من البشر ،
وارتكبوا جرائم كثيرة وتحلموا التكاليف الباهضة وواعدوا الناس وعوداً كاذبة كثيرة
، وأمّلوهم بحياة متعالية ، وتحدثوا مع الناس عن جنة الأرض ، بل اعتبروا جنة
الانبياء هي نتيجة اعمالهم و.. إلّا انهم اعترفوا بفشلهم بعد هذه التجربة وتلاشى
نظامهم ، الامر الذي أراح الناس الذين كانوا يرضخون تحت حكومتهم.
الثانى
: رسمت الدول
الرأسمالية خططاً اخرَى لرفع معظلة الفقر ، فشكلوا لأجل ذلك مؤسسات ومنظمات كثيرة
، مثل : الهلال الأحمر وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصندوق التعاون ومؤسسات
الاعانات الاقتصادية والغذائية للدول الفقيرة ، وخصصوا لأجل ذلك ميزانيات ، لكنها
جميعاً كانت تعاني من نقطتي ضعف :
الاولى :
إجراءاتها محدودة وقليلة وغير متناسبة مع نفوس الدول الفقيرة ، ولذلك لم تحدث
تغييراً في مستوى الفقر في هذه الدول.
الثانية : كثيراً
ما تقترن هذه الاعانات بأغراض سياسية ، فاذا اقتضت مصالح هذه الدول الاعانة أعانوا
والَّا امتنعوا عن الاعانة ، وأحياناً يعترف بعض مسؤولي هذه الدول بهذه الامور.
__________________
وعلى هذا فان
العلاج الثاني ما حل عقدة من عقد الفقر العالمي.
علاجات الإسلام
إنّ العلاج الاخر
لمعضلة الفقر هو وصايا الإسلام ، فإنَّ العمل بها يؤدي إلى ملء فجوة الفقر وتقليل
الفاصلة بين الطبقات الفقيرة والغنية.
لقد حصل هذا في
عهد الرسول صلىاللهعليهوآله فإنَّ العمل بها حصل لاول مرة في التاريخ في ذلك العهد
وكانت نتيجة ذلك هو مجتمع غير مقسم إلى طبقات ، أو مجتمع مع مفارقات طبقية محدودة
جداً.
إذا تمكنا اليوم
تطبيق هذه الوصايا والاوامر الالهية في مجتمعنا هذا بل وفي المجتمعات البشرية
لكانت الثروة موزعة على البشر بشكل عادل ولصغرت الفجوة بين الفقير والغني في
مجتمعات الكرة الارضية.
الإنفاق طريق لرفع
الفقر
الانفاق هو احد
الوصايا والأوامر الالهية القيمة التي هي موضوع بحثنا هنا. إنَّ القرآن المجيد
أكَّد كثيراً على موضوع الانفاق وقد كان هذا الامر موضوعاً لكثير من آياته ،
والآيات التي تضمنت مادة الانفاق تقدر بسبعين آية ، وإذا اضفنا اليها الايات التي
اشارت لهذا الموضوع من دون أنْ تأتي بمادة الانفاق ، فالعدد يتجاوز عن هذا الحد
بكثير.
أمر الله في
القرآن الإنسان أنْ يدفع مقداراً مما كان من نصيبه في هذه الحياة الدنيا. الآية ١٩
من سورة الذاريات أمرت بهذا بتعبير جميل : (وَفِي أمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ) ، وبناء على هذه الآية فان للفقراء والمساكين حقاً في
أموال الناس.
ولأجل تشجيع الناس
على الإنفاق جاء القرآن بآيات عبرت عن الأمر بتعابير جميلة:
١ ـ يقول الله في
الآية ٩٦ من سورة النحل : (مَا عِنْدَكُم
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ)
__________________
يا له من تعبير
جميل! فالعبارة تضم معان كثيرة رغم صغرها. وهي تعني أنّ الإنسان إذا صرف الملايين
من امواله فان تلك الملايين تعد نافدة ومستهلكة ، بينما إذا صرف اقل مقدار من
امواله انفاقاً في سبيل الله فإنَّ ذلك سيبقى في خزينة الله الغيبية ولا ينفد ،
وهذا خلاف ما يتصوره اكثر الناس.
٢ ـ جاء في الآية
٨٩ من سورة النمل : (مَنْ جَاءَ
بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ونفسها في سورة القصص الآية ٨٤.
وحسب ما صرحت به
هذه الآية ، فإنَّ الصدقة والانفاق لا يذهبان سدى فحسب ، بل يمنح الله عليهما
شيئاً افضل منهما عوضاً عن ذلك.
٣ ـ الآية ١٦٠ من
سورة الانعام رفعت من قيمة الانفاق لتصرح بما يلي : (مَنْ جَاءَ
بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا)
الآية تحدثت عن
الحسنات عموماً ، وباعتبار أنَّ الانفاق من الحسنات العظيمة فهي تشمله. وحسب ما
صرحت به ، فإنَّ للإنفاق عشرة أضعاف من الثواب والأجر.
أمّا الآية
المبحوث هنا (٢٦١ من سورة البقرة) فقد رفعت مستوى الانفاق إلى أعلى مستوى ممكن ،
فمثلت الانفاق بالسنابل التي تضمّ حبات كثيرة وكل حبة تنبت سنابل كثيرة ، وهي بذلك
تشير إلى التضاعف التصاعدي للثواب المترتب على الانفاق. ولكي تجيب الآية عن بعض
التساؤلات التي تتراود في اذهان البعض عن مصدر هذه العطاءات أشارت إلى أن ذلك كله
من كنوز الله العظيمة ، وهو واسع وأوسع من أنْ يتصور.
خطابات الآية
١ ـ المراد من (في
سَبِيلِ اللهِ)
إنَّ اصطلاح (فِي سَبِيْلِ اللهِ) استخدم اكثر من ٤٥ مرة في القرآن ، واصطلاح (عَنْ سَبِيْلِ اللهِ) استخدم ٢٥ مرة. وقد أُريد من (سَبِيْلِ اللهِ) الجهاد في كثير من الموارد كما في الآية الشريفة ١٦٩ من
سورة آل عمران التي جاءت لبيان المقام الرفيع للشهداء : (وَلَا تَحَسَبَنَّ الَّذِيْنَ قُتِلُوا
فِي سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِهِمْ يُرْزَقُونَ) فقد اريد من (سَبِيْلِ اللهِ) هنا
الجهاد كما اريد
منه هذا المعنى في موارد كثيرة أخرى.
إلَّا أنَّ (سبيل
الله) اختلف معناه في الآية ٢٦ من سورة (ص) : (وَلَا تَتَّبِع
الهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سِبِيلِ اللهِ ..) فقد نهت الآية النبي داود عليهالسلام عن اتباع الهوى في القضاء ودعته للقضاء في سبيل الله ، أي
القضاء العادل والذي يصل المحق إلى حقه من خلاله.
وعلى هذا ؛ فلا
نصحح ما ادعاه البعض من أنَّ المراد من (فِي سَبِيْلِ اللهِ) هو الانفاق لاجل الجهاد فقط ؛ وذلك لأنَّ المُراد منه مطلق
سبيل الله سواء كان في الجهاد العسكري أو الجهاد الثقافي أو الجهاد العمراني أو
تأسيس مكتبة أو اعانة المحتاجين أو بناء المستشفيات والمستوصفات أو تأسيس صندوق
للقروض أو غير ذلك.
بالطبع ، إنَّ
رعاية الأولوليات والضروريات أمر مهم وفي محله ، كما أنَّ الابداع في هذا المجال
سوف يؤدي إلى جذب الناس إلى هذه الاعمال بشكل واسع ، نأتي هنا بنموذجين لهذه
المقولة :
الأول : صندوق
إعانة عوائل السجناء
مهما كان سبب سجن
الرجل فإنه غالباً ما يكون معيلاً لعائلته. وخلال فترة حبسه ـ بخاصة إذا كانت
طويلة ـ تواجه عائلته مشاكل جمة ، فمن جانب تهددهم مشكلة الفقر المالي ، ومن جانب
آخر تترصدهم المشاكل الإجتماعية والأخلاقية ، وهنا إذا لم نلتفت إلى الأوضاع التي
تعيشها عوائل السجناء ولم نجد حلاً لها فإنَّ عملية حبس رب العائلة سوف تورث
بالقوة سجناء ومجرمين آخرين. ومن المؤسف أنَّ هذا الأمر لم يُلتفت اليه في المجتمع
وقلما نجد شخصاً يفكر فيه.
إذا قمنا بمثل
العمل الذي حصل في بعض المحافظات وهو تأسيس صندوق القرض الحسن فإنَّ عملنا هذا
سيكون علاجاً لكثير من المشكلات الخاصة بعوائل السجناء وبالسجناء انفسهم ، وبذلك
نقي المجتمع من كثير من الشذوذ والجرائم المحتمل وقوعها.
إنَّ شخصا إذا كان
سجيناً بسبب دين في ذمته يعطى من هذا الصندوق قرضاً لكي يطلق سراحه ، وبعد أن يحصل
على عمل شريف يقوم بالدفع لهذا الصندوق. وبذلك نكون قد عالجنا مشكلته ومشكلة
عائلته وانقذناهم من المشاكل الأخلاقية والاجتماعية التي تترصدهم.
الثاني : جمعية اعانة
مرضى الكلية
هناك الكثير ممن
يعانون من امراض الكلية وقد يحتاج بعضهم للديلزة اكثر من مرة في الاسبوع وخلال هذه
الفترة يعانون آلاماً حادة. واكثر هؤلاء يشفون إذا ما زرعت لهم كلية جديدة ، لكنهم
في الغالب غير قادرين على دفع مبلغ الكلية الجديدة ، وفي هذه الحالة إذا تشكلّت
جمعية لاعانة هؤلاء المرضى المحتاجين لأجل زرع كلية فإن الجمعية ستقوم بعمل جبار
في سبيل انقاذهم من الالام التي يعانون منها ، كما تخرج عوائلهم من حالة الاضطراب
والقلق.
ويمكن تأسيس
جمعيات مشابهة لهذه الجمعية تعم منافعها قطاعات ومجالات أخرى ، وذلك سعياً لتقليل
المشاكل الاجتماعية والمالية عن الناس.
٢ ـ المراد من «الحبّة»
في الآية الشريفة
هناك بحوث كثيرة
قام بها المفسرون متناولين فيها موضوع الحبة والمراد منها.
قيل : معنى ذلك
أنَّ الله يقوم بهذه المضاعفة لمن يشاء ، وهي قد تصل إلى سبعمائة ضعف.
إنّ هذا المثل قد
لا يكون له وجود في الخارج لكن هذا لا يضر ، فإنَّ شأن أكثر الأمثال هو هذا سواء
كانت بالفارسية أو العربية أو باي لغة أخرى. فالعنقاء وغيرها من الحيوانات التي لا
وجود لها في الخارج تستخدم في الامثال.
لكن بما أنَّ
المثل صدر من الله الحكيم والعالم ، فلا بد وأن يكون له وجود خارجي.
ولاجل ذلك قال
البعض : المراد من الحبة في المثل هو حبة الدِّخن لا حبة القمح ؛ لأنَّ حبة الدخن
قد تنتج سبعمائة حبة. لكن بما أنَّ مزارعاً بوشهرياً (مدينة في جنوب إيران) استطاع
في السنوات الأخيرة ان ينتج ٤٠٠٠ حبة من حبة واحدة ، لذلك فسرنا الحبة هنا بالقمح
،
__________________
وأمكننا القول بان
لذلك وجوداً خارجياً.
٣ ـ المراد من (يضاعف)
في الآية الشريفة
هل المراد من
عبارة (واللهُ يُضَاعِفُ
لِمَنْ يَشَاءُ) أنَّ الله يمنح للمحسن والمنفق ما يشاء من دون حساب بأن
يمنح الشخص (أ) ضعفين من الثواب بينما يمنح الشخص (ب) ثلاثة أضعاف؟ أو أنَّ
المضاعفة لها حساب خاص وقواعد خاصة؟
إنّ حكمة الله
تقتضي بأن لا يكون منح الثواب بشكل اعتباطي ومن دون حساب ، بل جعل الأمر مرتبطاً
بمفارقات من قبيل درجة الاخلاص وكيفية الانفاق ومورده وشخصية المُنْفِق والمنفَق
عليه ، أي أنَّ ثواب الشخص الذي انفق خالصاً لوجه الله يختلف عن ثواب الشخص الذي
لم يبلغ تلك الدرجة من الاخلاص ، والشخص الذي ينفق سراً ومن دون منة واذى يختلف
ثواباً عن الشخص الذي ينفق علناً ، فهما يقعان في مرتبتين لا مرتبة واحدة. والمسلم
الذي ينفق قرصاً من قرصي الخبز اللذين يمتلكهما يختلف عن المسلم الذي ينفق قرصاً
وهو يملك عشرة أقراص من الخبز. كما أنَّ الشخص الذي يعين عائلة مسكينة لم يتفوهوا
بحاجتهم لاحد يختلف عن الشخص الذي يعين عائلة طلبت الاعانة منه.
أرفع نموذج
للإنفاق في القرآن
في القرآن سورة
باسم (الدهر) أو (الإنسان) أو (الابرار) نزلت في شأن الانفاق الخالص ، وقد ادرجت
هذه السورة اجمل نعم الجنة للمنفقين.
العامة والخاصة
نقلوا أنَّ السورة نزلت في الامامين الحسن والحسين عليهماالسلام حيث مرضا فنذر الامام علي عليهالسلام صيام ثلاثة ايام لشفائهما ، فالتحقت فاطمة عليهاالسلام بهذا النذر ، ثم فضة كذلك. وبعد الشفاء صام الجميع وقد
اعدت فاطمة في اليوم الاول خمسة اقراص من خبز الشعير وعند الافطار طرق فقير الباب
طالباً العون فاعطى الجميع اقراصهم له وافطروا على
__________________
الماء فحسب. وفي
اليوم الثاني جاءهم يتيم ، وفي اليوم الثالث جاءهم اسير ، وقد أعطوهما مثل ما
اعطوا الفقير في الليلة الاولى ، وفي اليوم الرابع نزلت هذه السورة في حقهم ، وفيها توصيف وتمجيد للانفاق ووعود بنعم عظيمة في الجنة.
وعلى هذا ، فإنّ
هذه العائلة حصلت على ثواب عظيم اثر انفاقها لخمسة عشر قرصاً من الخبز.
تقول الايات ٩ و ١٠
من سورة الدهر : (إنَّمَا نُطْعِمَكُم
لِوَجْهِ اللهِ لِا نُرِيْدُ مِنْكُم جَزَاءً وَلَا شُكُوْراً إنَّا نَخَافُ مِنْ
رَبِّنَا يَوْماً عَبُوْساً قَمْطَرِيْراً)
النموذج المذكور
وغيره من النماذج التي اثرناها عن المعصومين عليهمالسلام ، هي في الحقيقة موارد نتأسى بها نحن المسلمون لنسير قدماً
نحو مجتمع اسلامي مقبول خلو من المفارقات الإقتصادية.
مما يمكن أنْ
يُستشف من الاحاديث والروايات هو : أنَّ عدم الفقر والحاجة من خصائص المجتمع
الاسلامي المطلوب.
أي أنَّا إذا
بلغنا يوماً مستوى اقتصادياً رفيعاً وتنمية صحيحة بحيث توزع الثروة في المجتمع
الاسلامي توزيعاً عادلاً في جميع البلاد الاسلامية فانا قد بلغنا ـ من الناحية
الاقتصادية ـ مستوى المجتمع الاسلامي المطلوب.
إنَّ هذه العقيدة
ليست شعراً ولا شعاراً ولا كلاماً عاطفياً وذات صبغة احساسية بل إنَّه مضمون رواية
منقولة عن الامام الصادق عليهالسلام : محمد بن مسلم من اصحاب الامام الصادق عليهالسلام ينقل عن الامام قوله : «إنَّ الله عزوجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أنَّ ذلك لا
يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عزوجل ولكن اوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم ولو
أنَّ الناس ادوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير».
المجتمع الذي
يضمُّ فُقَرَاء ، لا يكون الفقراء المتضرّرين الوحيدين من هذا المجتمع ، بل
__________________
اضرار الفقر تعم
جميع المجتمع ، فإنَّ الفقر منشأ كثير من الذنوب منها : السرقة والاعمال المنافية
للعفة وغير ذلك.
وقد جاء في رواية
أخرى للامام الصادق عليهالسلام : «ولو أنَّ الناس ادوا زكاة اموالهم ما بقي مسلم فقيراً
محتاجاً لاستغنى بما فرض الله وأنَّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا
عروا الا بذنوب الأغنياء».
وحسب هذه الرواية
فإنَّ الحقوق الشرعية الواجبة مثل الخمس والزكاة تسد حاجة المحتاجين ، واذا ما تم
العمل بهذه الواجبات ، فإنَّ هذه المعضلة ستُجتث جذورها بالكامل.
يطرح هنا تساؤل
وهو : ما الحاجة إلى الانفاق والتبرعات المستحبة إذا كانت التبرعات الواجبة تعمل
عملها وتسد حاجة الفقراء إلى المال؟ وعلى هذا فما دور الآية ٢٦١ من سورة البقرة في
هذا المجال؟
يمكننا الاجابة عن
هذا السؤال بطريقتين :
الاولى : قد
يتخلّف بعض المتمولين والاغنياء عن وظائفهم الشرعية ولا يدفع ما عليه من الزكاة
الواجبة ـ كما هو الحال في الوقت الحاضر فان كثيراً من المتمولين غير موفقين في
دفع ما عليهم من الزكاة الواجبة ، وفي هذه الحالة يأتي دور الصدقات والتبرعات
المستحبة لتملأ الفراغ الناشئ عن عدم دفع الاغنياء لما عليهم من صدقات واجبة.
وعلى هذا ،
فالمحسنون من المؤمنين يقومون بدور الاغنياء العصاة ويتحملون نتائج عصيانهم ، هذا
اضافة إلى ما يتحملون من دفع الصدقات الواجبة عليهم.
الثانية : إنّ
الزكاة وغيرها من التبرعات الواجبة والمفروضة على الاغنياء تسد الحاجة الضرورية
للفقراء إذا ما دفعت. واما الانفاق فدوره يبرز في التوسيع على الفقراء ليبلغ بهم
مستوى رفاهي نسبي ومعتد به.
في النتيجة : إذا
اخذنا بنظر الاعتبار مستوى الفقر ونوعيته في المجتمع يمكننا الحكم في ضوئه على
مستوى اقترابنا من المجتمع الاسلامي المطلوب.
__________________
٤ ـ دراسة
المشبَّه في آية الانفاق
للمفسرين رأيان في
تحديد المشبّه في الآية ٢٦١ من سورة البقرة ، فبعض قال بأنه المال المنفق ، حيث
شُبِّه بالحبة المباركة التي تنتج سبعمائة حبة.
وقال بعض آخر :
بأنَّ المشبَّه هو المنفِق الذي ينمو ويتكامل إلى مستوى رفيع جداً.
اكثر المفسرين
يعتقد بأنَّ المشبَّه هو المال المنفق ويقدرون جملة محذوفة هنا لتكون حقيقة الآية
كالتالي : (مثل اموال الذين ينفقون ..).
ونحن نعتقد أنَّ
الآية لا تحتاج إلى التقدير ، وحسب الظاهر فإنَّ المشبَّه هو الإنسان المنفِق الذي
تعلو شخصيته وتتكامل وتنمو إلى مستوى سبعمائة ضعف ، ومصداق هذا الاعتقاد هو الايات
والروايات التي دلت على أنَّ الإنسان كالنبات ينمو ويتكامل.
أولاً
: يقول الله في
الايات ١٧ و ١٨ من سورة نوح : (واللهُ أنْبَتَكُم
مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً ثم يُعيدُكُمْ فيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجاً) فقد شُبّه الإنسان هنا بالنبات الّذي يُزرع لينمو ويتكامل
ثم يجف ثم يحيا مرة أخرى ثم يجف ثم يحيا وهكذا ...
ثانياً
: يقول الله في
الآية ٣٧ من سورة آل عمران : (فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَريا ...) فقد استخدم هنا مادة الانبات للاشارة إلى تربية مريم من
قبل زكريا ، والشاهد هو تشبيه تربية الإنسان بتنمية الزرع بعد انباته.
ثالثاً
: جاء في حديث نقل
عن الرسول صلىاللهعليهوآله : «إياكم وخضراء الدمن!» قيل وما خضراء الدمن؟ قال : «المرأة
الحسناء في منبت السوء» فقد شبه الإنسان هنا بالنبات الذي قد ينبت في مكان سيء.
من جانب آخر ،
انَّ في هذا الحديث خطاباً واضحاً ووصية مهمة للشباب المقبلين على تشكيل عائلة.
ففي هذا الحديث يوصي الرسول صلىاللهعليهوآله المؤمنين أنْ لا يجعلوا الجمال المقياس الوحيد لانتخاب
الزوجة بل اضافة اليه ينبغي النظر إلى العائلة ، أي المكان الذي تربت فيه الزوجة ،
وذلك رغم أنَّ الجمال بحد ذاته قيمة إلّا أنّه يرضي الزوج في الفترة الوجيزة
الاولى من
__________________
الحياة المشتركة ،
أمّا القيم الأساسية والمهمة في الحياة العائلية ، وهي التربية والثقافة والفكر
والقيم المكتسبة في البيت فيبرز دورها في المراحل اللاحقة من حياة الإنسان.
والجميلة إذا لم تتميز بسيرة حسنة واخلاق جميلة بدلت محيط العائلة المقدس إلى جهنم
يصعب تحملها.
كما شاهدنا في
الايات والروايات السابقة ، فإنَّ الإنسان شبّه بالنبات الذي ينمو ويتكامل ، وبهذا
يمكن أنْ نستدل على أنَّ المُراد من المشبَّه في الآية هو الإنسان نفسه. وفي
النتيجة يكون مفهوم الآية كالتالي : أيها الإنسان أنت كالنبات والإنفاق بمثابة
الماء الذي يسقي النبات ليمنحه حياة ونمواً. وبعبارة أخرى : إنَّ الانفاق يُحيي في
الإنسان الصفات العليا مثل السخاء والعطاء والمروة والانصاف والشجاعة وغير ذلك.
إنَّ هذه الصفات
في البداية تكون (فعلاً) أو عملاً مجرداً ، واذا ما تكررت تصبح عادة وفي صورة
الاستمرار تصبح (حالات) وفي النهاية تكون (ملكة) وجزءاً من وجود الإنسان.
وعلى هذا ،
فالانفاق ، قبل ان تكون له عوائد مادية ، له مردودات معنوية ، وكلما كان الانفاق
عن اخلاص اشد وكلما كان اطهر وانسب كلما كانت هذه المردودات اكثر وأوسع. وقد نكون
جميعاً جربنا عطاءنا مسكيناً لم يصّرح بحاجته لنا مقداراً من المال (رغم حاجتنا له)
وجدنا في ذلك لذة معنوية احسسناها بكل وجودنا ، وبلغنا إثر ذلك هدوءاً باطنياً
وحالة روحانية ومعنوية خاصة.
ذلك هو النمو
والتعالي الذي تشير اليه الآية من خلال مثلها. إنَّ الله القادر والحكيم بامكانه
أنْ يغني الجميع ويجتث جذور الفقر من المجتمعات ، لكنه شاء أن تكون هناك فجوة بين
الفقراء والأغنياء يسعى المؤمنون في ملئها ليروا آثار أعمالهم الحسنة وبركات
انفاقهم في الدنيا ويشعروا بهذه الاثار ويبلغوا اثر ذلك الدرجات العليا من الكمال
والمعنوية. وعلى هذا فلا نمن على الله بالانفاق ولا على المنفق عليه ، بل الله هو
الذي يمن علينا أنْ وفقنا لهذا العمل العظيم (اللهم وفقنا لما تحب وترضى).
__________________
ومن مجموع ما مضى
يمكننا ان نفسر الآية ٢٦١ من سورة البقرة بصراحة من دون حاجة إلى تقدير جملة
محذوفة. رغم ذلك فانا لا نصر على تفسيرنا بل نعتبر أنَّ كلا التفسيرين مقبولان ،
أي يمكننا القول : الآية تفيد أنَّ مال الفرد المنفق ينمو كما أنَّ شخصيته تنمو من
خلال نمو وتكامل خصالها الحسنة.
نمو المال المنفق
في كلام الرسول صلىاللهعليهوآله
في مجال نماء
المال المنفق ، للرسول صلىاللهعليهوآله كلام جميل ننقله هنا : «ما تصدق احد بصدقة من طيب ـ ولا
يقبل الله الا الطيب ـ إلَّا أخذها الله الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف
الرحمن حتى تكون اعظم من الجبل».
في هذه الرواية
نرى عدة نقاط أهلاً للإنتباه :
الاولى : الرواية
صرحت بأنَّ الله ياخذ الصدقة بيمينه وهذا أمر يطرح تساؤلاً : هل لله جسم وأعضاء؟
من البديهي أنّ
الله غير مجسم ، وتعبير (الاخذ باليمين) كناية عن قدرة الله الكاملة ، وذلك لأنَّ
اليمنى عند الإنسان غالباً اقوى ، لذلك كان مفهوم العبارة أنَّ الله يأخذ الصدقة
بقدرة كاملة مع احترام.
الثانية : انّ ما
يحضى بالأهمية في الإسلام هو كيفية العمل ودوافعه لا كميته وظاهره. وعلى هذا ،
فإنّ اعطاء تمرة حلال لمسكين من دون منة ولا أذى افضل عند الله من تمر كثير غير
حلال أو تزامن مع منة أو أذى.
الثالثة : وفقاً
لهذه الرواية ، فإنّ المال المنفق ينمو إلى سبعمائة ضعف أو أكثر. وعلى هذا الأساس
، فإنَّ المال يبقى عند الله ينمو ويرد إلى صاحبه يوم القيامة ليكون سبباً لانقاذه
من نار الجحيم.
__________________
(الانفاق) في
تعابير القرآن الجميلة
لاجل بيان اهمية
الانفاق في الإسلام وقيمته في القران ، وردت في القرآن تعابير كثيرة عن هذا الأمر
، وهي اهل للالتفات والدقة نكتفي هنا بذكر نموذجين منها :
(الأول :) جاء في الآية الشريفة ٢٤٥ من سورة البقرة ما يلي : (مَنْ ذَا الّذِي يَقْرِضُ اللهَ قَرْضاً
حَسَناً فيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعَافاً كَثِيْرَةً)
التعبير بالقرض
الحسن عن الانفاق تعبير بديع ومدهش. كيف يمكن لله القادر والمالك لكل شيء أنْ
يقترض من الإنسان الفقير والمحتاج لربه في كل حركاته وسكناته وحتى في الشهيق
والزفير؟ ومع لحاظ أنَّ القرض الربوي في الإسلام حرام فإنّ التعبير عن الانفاق
بالقرض الحسن لا يكشف إلّا عن اهمية الانفاق وتشجيع للعباد لاجل اداء هذا العمل
بإخلاص.
ويبدو أنَّ ذكر
هذه النقطة ضروري ، وهي أنَّ (القرض الربوي) ناظر إلى العباد وسلوكهم بينما القرض
الحسن ناظر إلى رب العباد ، وهو يعني أنَّ من يقرض الله قرضاً فالله يرجعه مع
اضعاف مضاعفة. والنقطة المدهشة كثيراً هنا هي أنَّ يَد الفقير ـ حسب الآية
والروايات المذكورة ـ هي يد الله ، وبيته هو بيت الله. وفي الحقيقة ان ما يوضع في
يد الفقير يوضع في يد الله ، ولذلك كانت الروايات توصينا بأنْ نضع ايدينا في مستوى
ادنى من يد الفقير عند التصدق إليه ، لأجل أنْ يَأخذها من أيدينا ، ولأنَّ يده هي
يد الله وقدرته الكاملة ، وهو الذي يستلم المال من المتصدق. حذارا أن تصدر منا
اهانة أو تحقير لفقير.
وقد تكررت العبارة
المذكورة هنا في الآية ١١ من سورة الحديد ، كما قد اضيف لها جملة أخرى : (مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً
حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ ...)
الثاني
: جاء في الآية ٩٢
من سورة آل عمران : (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شِيءٍ فإنَّ اللهَ
بِهِ عَلِيمٌ ...)
وكذا جاء في الآية
الشريفة ٢٦٧ من سورة البقرة (يَا أيَّها الَّذِينَ
آمنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُم وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الأرْضِ) ، أي عليكم أن لا تنفقوا الا من الطيبات فلا تنفقوا من الاشياء
التي لا فائدة فيها أو مضرة مثل الملابس الخلقة أو الفواكه والمأكولات الفاسدة وما
شابه ذلك ، بل
تذهب الآية إلى ابعد من ذلك لتأمر بانفاق ما يحبه الإنسان ، والذي هو أهل لان يعطى
بيد الله ، فإنَّ غير ذلك ليس أهلاً لوضعه بيد الله ، فالانفاق بالاكل ينبغي أنْ
يكون من النوع الذي يحبه المنفق له ولعياله وفي الملابس من النوع الذي يحب لبسه
المنفق واهل بيته.
إنَّ نظام القيم
الحاكم في الإسلام يحكى عن منح الإسلام القيمة والاهمية لكيفية العمل لا كميته
ومقداره ، ولهذا يضاعف الله أجرة تمرة واحدة ألف ضعف ، بينما لا يفعل ذلك في تمرة
أُخرى ؛ لأنَّها قد لا تكون مكتسبة من حلال أو قد تنفق بنية الرياء وما شابه. ننقل
هنا حكاية عن الرسول صلىاللهعليهوآله تكشف عن دقائق الانفاق :
كان الرسول يعدُّ
العدة لاحد غزواته وكان المسلمون يتبرعون لاجل هذه الغزوة .. فجاء رجل فتصدق بشيء
كثير فقالوا : مراء ، وهذا القول صدر من المنافقين الذين لا يا من احد من لسانهم ،
وجاء أبو عقيل ، الذي ما كان مورده يسعه للتصدق فاضطر للعمل ليل نهار لاجل
الاشتراك في هذه التعبئة الجماهيرية ، بنصف صاع فقال المنافقون : إنّ الله لغني عن
صدقة هذا ، فنزلت الآية ٧٩ من سورة التوبة : (الّذِيْنَ
يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ والّذينَ لَا
يَجِدُونَ إلّا جُهْدَهُم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُم سَخِرَ اللهُ مِنْهُم وَلَهُمْ
عَذَابٌ ألِيْمٌ)
__________________
المثل السادس :
الإنفاق مع المنِّ والأذى
يقول الله تعالى
في الآية ٢٦٤ من سورة البقرة :
(يَا أيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ والأذَى كَالّذِي
يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلَا يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ
الكَافِرِيْنَ)
المثلان الخامس
والسادس كلاهما حول الانفاق لكنهما غير مكررين ، بل إنَّ المثل الخامس حكى فضل
الانفاق وقيمته ، أمّا في المثل السادس فالحديث عن الانفاق ذات الصبغة السلبية
وأنَّ المؤمنين لا ينبغي أنْ يبطلوا صدقاتهم وانفاقهم بالمنّ وأذى الآخرين.
الشرح والتفسير
الآية بدأت حديثها
بخطاب المؤمنين ، ومعنى ذلك أنَّ ما ورد في الآية من اوامر فهي خاصة بالمؤمنين ،
وشرطها الاول هو الايمان وأن الذي خرج مصداقاً عن هذه الآية وكان غير عامل بها فهو
ليس بمؤمن.
عبارة (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ
والأذَى) تفيد أنَّ شيئين يبطلان الصدقة ، الأول : المنّ ، والثاني
: ايصال الاذى للاخرين ؛ وذلك لأنَّه قد لوحظ أنَّ البعض يتصدق على آخرين لكن
صدقته تتزامن مع اذى إلى آخر العمر ، بأن يقول له : (لولاي لكنت محتاراً وما كان
لك شأن واعتبار) أو (خذ هذا المبلغ ولا تريني وجهك بعد ذلك).
ليس المنّ والاذى
هما الوحيدان اللذان يبطلان الصدقة ، بل قطع كلام الفقير الذي يريد حكاية حاله
ومشاكله أيضاً أمر غير صحيح ومرفوض.
جاء في رواية : «لا
تقطعوا على السائل مسألته ، فلولا أنَّ المساكين يكذبون ما افلح من ردهم».
لا بأس هنا ان
نبتّ بتوضيح مفردة (المنّ). إنَّ أصل هذه المفردة هو (مَن) وهو وزن خاص ، وقد
استخدمت هذه المفردة للاشارة إلى المعنى المراد في الآية ؛ لأجل أنَّ الشخص
المانَّ يحمِّل الممنون عليه عبئاً وثقلاً يشعر به.
من جانب آخر ،
فإنَّ انعام الشخص على آخر يقال له (منّ) وهو على قسمين :
الأول
: المنّ العملي
بأنْ ينعم شخص عملياً على شخص اخر ، وهذا أمر مستحسن.
الثاني
: المنّ الادعائي
بان ينعم شخص على اخر بالقول دون العمل ، فهو عملياً لم ينعم عليه أبداً. وقد
استخدمت هذه المادة في القرآن المجيد عشرين مرة.
من موارد استخدام
هذه المادة هو ما جاء في الآية ١٧ من سورة الحجرات : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أنْ أسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَىَّ إسْلَامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُم أنْ هَدَاكُم للإيمَانِ)
فالمنُّ الاول في
الآية هو منٌّ إدعائي ، وذلك لأنّ الاعراب لم يمنوا على النبي بأي نعمة. فإنَّ
المريض إذا جاء طبيباً وطلب منه الدواء فكتب الطبيب الدواء له وشفى من جرّاء
استخدام هذا الدواء ، فهل هذا يعني انعام المريض ومنه على الطبيب؟!
أمّا المنُّ
الثاني في الآية فهو مَنٌّ عَمَلَيٌ ؛ وَذلك لأنّ الله أنعم عليهم نعمة الإسلام ،
فَمَنَّ عليهم بهذا العطاء.
وعلى هذا ،
فالمَنّ الصادر من الله يعني البذل والعطاء أو المنّ العملي ، أمّا المنّ الصادر
من الإنسان فيحتمل كلا المعنيين العملي والادعائي. والمنّ الأول في الآية هو منّ
ادعائي وقولي.
ثم تمثل الآية
هؤلاء الاشخاص بقطعة من الحجر وتقول : (... كالّذِي يُنْفِقُ
مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ باللهِ واليَومِ الآخر فَمَثَلهُ كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا
__________________
يَقْدِرُونَ
عَلى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا ...)
فالذي ينفق مع منّ
واذى (كالكافر المرائي) انفاقه غير مقبول عند الله ؛ لأنَّ الإيمان هو شرط القبول
، ومثل هذين (أي المان والمؤذي من جهة والكافر المرائي من جهة اخرى) كمثل صفوان ،
أي قطعة من الحجر تراكمت عليها طبقة من التراب بحيث تبدو صالحة للزراعة ، فاذا
بوابل (مطر) يصيبها ليكشف عن واقعها الصلد المتحجر وعدم صلاحيتها للزراعة ، فيجدون
أنفسهم (لا يَقْدِرُونَ عَلَى
شَيءٍ) فذهبت مساعيهم هباءً ؛ لأنَّ عَملهم لم يكن عن علم ومعرفة
بل كان بناءً على النظر إلى الظاهر لا الباطن والعمق.
الغيث نعمة يمكنه
أنْ يروي المزارع وينمي البذور ، كما يمكنه ان يدمر الزرع. كذلك سائر آيات الله
فهي تفيد المؤمنين والصالحين من بركاتها ، كما تفضح وتضل الكافرين والمنافقين.
إنَّ كلفة وزحمة
المزارع الذي يزرع بذور الاخلاص والمزارع الذي يزرع بذور الرياء واحدة لكنَّ حاصل
الزرعين ليس واحداً ، فاحدهما يحصل على سبعمائة ضعف والآخر قد لا يحصل على ادنى
شيء بل يفقد كل ما كان لديه.
خطابات الآية
١ ـ خطابات القرآن
المجيد غالباً ما تكون عامة (يا أيُّها النَّاس) و (يا بَنِي آدَمَ) و (يا أيُّها
الإنْسَانُ) و (يَا أيُّها الَّذِين آمَنُوا) وهذا يعني تعميم خطابات القرآن لجميع
البشر مهما كان جنسهم ومهما كانت قوميتهم ، ولذلك لا نجد في خطاباته عبارات من
قبيل : (يا أيُّهَا العَرَبُ) أو (يا قريش) وما شابه ذلك.
هذه الخطابات
تتضمن نقطة ظريفة وهي عولمة الدين الاسلامي ، أي ان الإسلام دين لا يختص بقوم أو
بلدٍ أو قبيلة أو جنس بل هو للجميع اينما وجدوا.
٢ ـ إنَّ الرياء
والتظاهر عمل لا أساس له ولا تواصل ، والمترائي والمتظاهر يحكم عليه بالفضيحة ؛
وذلك لأنَّ كلّ وقتٍ يحتمل أنْ طروّ ظاهرة تكشف عن وجه الحقيقة ، كما كشف الوابل
في الآية عن حقيقة الصخرة المتحجرة.
٣ ـ إنَّ الذين
ينفقون مع المنِّ والأذى كالحجارة وقلوبهم بشدة الحجارة. وما يلفت
الانتباه هنا هو
أنَّ المطر اللطيف يكشف عن قسوة قلوب هؤلاء وطبيعتهم. إنَّ الغيث يروي البذرة
لتنمو ، لكن دوره هنا هو تدمير هذه البذرة. إنَّ الغيث من الآيات الالهية تنفذ في
قلب المترائي فتغسل فيه طبقة الرياء وتكشف عن صلابة القلب ، ليفتضح صاحبه.
٤ ـ انّ المترائين
والمنفقين ، الذين يمنون ، لا يحصلون على ثمرة من جرّاء عملهم هذا ، كما هو الحال
بالنسبة للمزارع الذي ينثر البذور في الارض الصلبة فانه يفقد بذوره كما تذهب
مساعيه هباء ، وفي النهاية لا يحصل على أي ثمرة ، كذا المنفق مع الرياء فهو لا
يحصل على أي ثواب كما يفقد المال المنفق.
٥ ـ بناء على
التفكير الفلسفي لاكثر المدارس ، وبناء على ما يعتقده عامة الناس ، فإنَّ المال
شيء ثمين ، والغنى يُعدُّ من القيم. وحسب ما يرى الإسلام ـ مع الاخذ بنظر الاعتبار
اهمية المال ودوره في الحياة الدنيا ـ فإنَّ مفاهيم مثل الايمان والايثار والشهادة
و.. لها قيمة اكبر من المال. ومن جملة تلك القيم التي يعتقد بها الإسلام هي احترام
الانسانية وحفظ حرمة المؤمن وكرامته.
وعلى هذا ، هل
يمكن عدُّ عمل الشخص ، الذي يمنح مبلغاً لمسكين أمام أعين الناس ويُذهب بذلك
اعتباره وماء وجهه ، صدقة أو انفاقاً؟ وهل من الصحيح أنْ يتوقع هذا الشخص الأجر
والثواب من الله؟
من المؤسف أنَّ
نظام القيم للمذاهب المادية هو المال ، ومظهره الراهن هو الدولار ، وهو بامكانه ان
يبرر كل شيء حتى الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية.
من تلك الجرائم هو
مبايعة الإنسان وبخاصة البنات والبنين الصغار ، فإنَّ دلالي البشر يقومون بشراء
البنات والبنين من الدول الفقيرة وبخاصة الشرقية بابخس قيمة ثم يبيعونهم في الدول
الغربية المدافعة عن حقوق البشر بمبالغ باهضة. وقد يساء استخدام هؤلاء الاطفال
بقطع اعضائهم وزرعها في أجسام بعض المتمولين في العالم الغربي ، كما قد يستخدمون
لاغراض جنسية وتجارية.
ومن جملة اجراءات
الغربيين التي بررتها دولاراتهم هي (الديمقراطية) التي تشكل البنية الاساس لدعوى
حقوق البشر عندهم ، فقد تم المعاملة على هذه القضية بالدولارات. ومثل
ذلك هو أصوات
الشعب الجزائري المظلوم حيث أبطلت وبتوا علاوة على ذلك بسلسلة من اجراءات تعسفية
ومجازر جماعية ، لكنّ مدعيي حقوق البشر في الجزائر عمي وصم وبكم ، فلا سمعوا بهذه
المجازر ولا رأوا صورها ولا غير ذلك.
إنَّ ذلك في
الحقيقة من الاثار القيمة للدولار ؛ وذلك لأنَّ هذه الحوادث تؤمّن مصالحهم ، بل
انفسهم مباشرة أو بشكل غير مباشر يقومون بهذه الاجراءات ؛ حفظاً لمصالحهم.
هذا الامر لا
ينحصر في الجزائر بل الامر عام في العالم أجمع ، فإنَّ أي حكومة في العالم تؤمن
مصالحهم ولا تحول دون زيادة مواردهم تعد حكومة جيدة مهما كانت قبلية أو بدوية أو
لا يلحظ فيها أي دور لآراء الناس ، بينما الحكومة التي تعرض مصالحهم واموالهم
للخطر فهي حكومة غير انسانية ومخالفة لحقوق البشر ولو كانت تحضى بمعالم انسانية
عالية وتدار بواسطة نظام سياسي متقدم.
إنَّ الأمر في
الإسلام يختلف ، فنظام القيم فيه يبتني على قيم من قبيل الايمان والكمال الانساني
وكرامة الإنسان واعتباره وشرفه وحيثيته الرفيعة.
سيرة الائمة في
الإنفاق والبذل
إنَّ طريقة بذل
الائمة وكيفيتها من الحكايات التي يُعتبر ويُتعلم منها الدروس. ينقل العلامة
المجلسي عند ذكر سيرة الإمام الحسن المجتبى عليهالسلام الحكاية الجميلة التالية التي ملؤها العبر والدروس :
«خرج الحسن
والحسين عليهماالسلام وعبد الله بن جعفر (زوج زينب عليهاالسلام) حجاجاً ففاتهم اثقالهم ، فجاعوا وعطشوا فمروا بعجوز في
خباء لها فقالوا : هل من شراب؟ فقالت : نعم فاناخوا بها وليس الا شويهة في كسر
الخيمة ، فقالت : احلبوها وامتذقوا لبنها ، ففعلوا ذلك وقالوا لها : هل من طعام؟
قالت : لا إلَّا هذه الشاة ، فليذبحنّها احدكم حتى اهيئ لكم شيئاً تأكلون. فقام
اليها أحدهم فذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا ثم اقاموا حتى ابردوا فلما
ارتحلوا قالوا لها : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه ، فاذا رجعنا سالمين فالمي
بنا فانا صانعون اليك خيراً ، ثم ارتحلوا.
واقبل زوجها
واخبرته عن القوم والشاة ، فغضب الرجل وقال : ويحك تذبحين شاتي لاقوام لا تعرفينهم
ثم تقولين نفر من قريش.
ثم بعد مدة
الجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة ، فدخلاها وجعلا ينقلان البعير اليها ويبيعانه
ويعيشان منه فمرت العجوز في بعض سكك المدينة ، فاذا الحسن عليهالسلام على باب داره جالس فعرف العجوز وهي له منكرة ، فبعث غلامه
فردها فقال لها : يا امة الله تعرفيني؟ قالت : لا. قال انا ضيفك يوم كذا. فقالت
العجوز بأبي أنت وأمي فامر الحسن عليهالسلام فاشترى لها ما شاء الصدقة ألف شاة وامر لها بألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى اخيه الحسين عليهالسلام فقال : بكم وصلك اخي الحسن؟ فقالت : بألف شاة والف دينار ،
فامر لها بمثل ذلك ، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر عليهالسلام فقال : بكم وصلك الحسن والحسين عليهماالسلام؟ فقالت : بألفي دينار وألفي شاة فامر لها عبد الله بألفي
شاة وألفي دينار».
الصدقة تدفع ميتة
السوء
لقد قلنا سابقاً :
إنَّ الصدقة تفيد المنفق قبل أنْ يفيد منها المحتاج ، وقد درسنا في السطور السابقة
ما يترتب على الصدقة من صفات كمالية اضافة إلى الاجر والثواب المعنوي ، ونقول هنا
: بأنَّ الصدقة تدفع البلاء والموتة السيئة ، والرواية التالية تكشف عن هذا الامر.
مرَّ يهودي
بالرسول صلىاللهعليهوآله فقال : السام عليك فاجاب الرسول : «وعليك» ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : «إنَّ هذا اليهودي يعضه اسود في قفاه فيقتله» ، قال :
فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أنْ انصرف فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوآله : «ضعه» فوضع الحطب
__________________
فاذا اسود في جوف
الحطب عاض على عود فقال : «يا يهودي أي شيء عملت اليوم؟» فقال : ما عملت عملاً
إلَّا حطبي هذا احتملته فجئت به وكان معي كعكتان فاكلت واحدة وتصدقت بواحدة على
مسكين ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «بها دفع الله عنه» وقال : «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء
عن الإنسان».
__________________
المثل السابع :
الإنفاق اللائق
يقول الله الرازق
في الآية ٢٦٥ من سورة البقرة :
(وَمَثَلُ الّذِينَ
يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أنْفُسِهِم
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وابِلٌ فأتَتْ أُكَلَها ضِعْفَيْنِ فإنْ
لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ)
رغم أنَّ هذا
المَثل كَسَابقه عن الإنفاق لكن يختلف عنه في أنَّه يعكس الجوانب الايجابية
للانفاق والمناظر الجميلة له غير تلك المناظر التي تحدث عنها المثل السابق والتي
تزامنت مع المنّ والأذى ، لأنَّ الحديث هنا عن الانفاق المتزامن مع الاخلاص.
الشرح والتفسير
يقول الله في هذه
الآية : إنّ مثل الذين ينفقون باخلاص ومن دون رياء وأذى كمثل البستان في مكان
مرتفع ذات تربة خصبة يسقيها الغيث ، والشمس تسطع عليها من كل مكان ، فكانت النتيجة
هي محاصيل وافرة ومضاعفة ، قياساً لمحاصيل الأراضي المماثلة ، والذين ينفقون
بمثابة البستان ويكون انفاقهم كمحاصيل هذا البستان وافراً ومتضاعفاً.
إنَّ دَوافِع
الإنفاق عند هؤلاء وفقاً لهذه الآية هي كالتالي :
الاول : (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) وهذا اشارة إلى الحديث المعروف عن الامام علي عليهالسلام : «ما عبدتك خوفاً من نارك» رغم أنَّ نَاره مخيف تصورها
فضلاً عن واقعها.
«ولا طمعاً في
جنتك» رغم أنَّ نعمها ثمينة وقيِّمة جداً ولا يمكنها أن تدخل في مخيلة الانسان.
__________________
«لكن وجدتك اهلاً
للعبادة فعبدتك» أي أنَّ أهليته للعبادة هي التي دفعت الامام للعبادة لا
الخوف والطمع.
إنَّ النوع الاول
من العبادة هو عبادة العبيد ؛ لأنَّ العبد يَمتثل الاوامر خوفاً من مولاه وسوطه.
والنوع الثاني من العبادة هو عبادة التجار ؛ لأنَّ العبادة هنا يُتوخَّى منها
الثمن والعوض. والنوع الاخير من العبادة هو عبادة الاحرار ، حيث إنَّ اطاعتهم
لمولاهم لا خوفاً ولا طمعاً بل لله خالصة.
وقد تكون الآية
الشريفة هنا ناظرة إلى النوع الاخير من العبادة ، أي أنَّ الإنفاق هنا لم يتوخَّ
منه إلّا وجه الله ورضوانه.
الثاني : الدافع
الثاني للمنفقين في الآية الشريفة هو بلوغ الكمالات النفسانية والملكات الروحانية
، حيث قالت الآية : (تَثْبِيتاً
لأنْفُسِهِمْ) ، وقد جاء في مفردات الراغب أنَّ التثبيت يعني التقوية
والتحكيم. بالطبع ليس المراد من التثبيت في الدعاء (اللهُمَّ ثَبِّتْ
أقْدَامَنَا) هو تقوية الاقدام وتحكيمها ، بل المراد تقوية خطى الاقدام
وتحكيم هذه الخطى.
خطابات الآية
١ ـ في هذا المثل
شُبِّه المنفِق بالجنة والبستان الذي يقع في ارضٍ مرتفعة ، وفي هكذا أرض توجد عدة
خصائص هي كالتالي :
الف ـ نور الشمس
من العوامل المهمة لنمو النباتات ، والارض المرتفعة تنال نور الشمس من كل صوب ؛
لأنه لا شيء يحول دون السطوع المباشر عليها.
__________________
باء ـ جو المناطق المرتفعة
كثيراً ما يكون نقياً وذلك يعد من عوامل نمو الاشجار وإثمارها.
جيم ـ الأراضي
المرتفعة محفوظة من السيول والفيضانات ، بينما البساتين التي تقع في السهول
والوديان والشواطئ كثيراً ما تكون عرضة للفيضانات.
دال ـ أنَّ جمال
وعظمة بستان يقع في مرتفع اكثر بكثير من جمال وعظمة بستان في سهل.
وعلى هذا ، فإنَّ
منفقين كهؤلاء يتلقون انوار الهداية اكثر من غيرهم هذا أولاً.
وثانياً
: ينالون من نسيم
بذل الله وعطاءه النقي بشكل افضل.
وثالثاً
: قلما يكونون عرضة
للبلايا وميتة السوء.
ورابعاً
: يبدون محبوبين
عند الاخرين اكثر ؛ لما يحضون به من معنويات عالية.
المشكلة الوحيدة
لهكذا بساتين هي أنًها محرومة من امكانية جريان قنوات وسواقي فيها ، ولاجل ذلك
ينزل الله وابلاً من المطر كثرته تروي تربة البستان بالمقدار الكافي.
٢ ـ أشارت الآية
الشريفة إلى نوعية المطر (وابل) وهي قد تكون ناظرة بذلك إلى درجات الانفاق ؛
باعتبار أنَّ الوابل أو المطر الكثير يروي البستان بالكامل ونتيجة ذلك هو الثمار
والفواكه الكثيرة أمّا المطر القليل فلا يروي الاشجار ولا ينضج الثمار جيداً.
هناك فرق في
الانفاق في سبيل الله بين أن يكون المنفق بحاجة إلى المال المنفَق وبين أنْ لا
يكون هناك حاجة له. رغم أنَّ الإنفاق في كلا الحالتين رضاء لوجه الله.
كما أنَّ هناك
فرقاً بين أنْ يصل المال المنفق إلى من يحتاجه حقاً وبين أنْ يصل بيد من لا يحتاجه
حقاً.
ذيل الآية القائل
: (واللهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ) شاهد قيِّم على ما قلناه في المقطع السابق حيث إنَّ مضمون
هذا الذيل هو أنَّ الله بصير وعليم بكون هذا المنفِق انفق رغم حاجته للمال أو لا
أو أنَّه انفقه للمستحق أم لا.
٣ ـ موضوع الانفاق
في الايات الشريفة ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥ من سورة البقرة هو انفاق المال والثروة ،
فالايات تحدثت عن الانفاق في الثروات من المال والثياب والمأكولات والادوية والكتب
والقرطاسية ووسائل العمل وما شابه ذلك ، إلّا أنَّ الآية الثالثة من سورة البقرة
وسّعت نطاق الانفاق ليشمل كل ما انعم من نعم. وقد عدت الآية الانفاق من صفات
المؤمنين (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
وحسب هذه الآية
فإنَّ موضوع الإنفاق عام ويشمل جميع نعم الله وارزاقه ، مثل الموارد التالية :
ألف ـ العلم ، على
العلماء أن يبذلوا من علمهم ، وذلك من خلال تعليم الآخرين ، وإلّا حُوكموا
كالمحتكرين في محكمة العدل الإلهي.
وقد جاء في رواية
للامام الصادق عليهالسلام «زَكَاةُ العِلْمِ
نَشْرُهُ».
باء ـ نفوذ الكلام
وهو من ارزاق الله ، ومن المستحسن أنْ ينفق منه. فاذا شاهدت اختلافاً بين زوج
وزوجته أو بين الجيران أو بين شريكين أو بين الاخوة والاخوات أو بين اهالي قرية و..
فمن المستحسن استخدام النفوذ للمصالحة.
جيم ـ الاعتبار
والجاه في المجتمع ، وهذه نعمة الهية أخرى ينبغي أنْ ينفق منها ، فاذا ما كان
مظلوم متورطاً في مخالب ظالم وكان بالامكان الشفاعة لهذا المظلوم باستخدام الوجاهة
والاعتبار الاجتماعي وانقاذه من مخالب الظالم فلا ينبغي التكاسل ، بل ينبغي العمل
باشتياق.
د ـ الاولاد ، وهي
من اكبر نعم الله وينبغي انفاقها في سبيل الله متى ما اقتضت الحاجة ، كما حصل ذلك
للشعب الايراني اثناء الثورة الاسلامية والحرب المفروضة فقد ضحّوا باولادهم دون
أنْ يبخلوا بشيء من ذلك.
ه ـ الفكر ، وهو
من أثمن نعم الله على الانسانية وينبغي انفاقه وبذله عند المشورة لاعانة الاخرين
إلى مستوى يعد الإنسان خلاله مستشاراً صالحاً وناصحاً.
__________________
طرق الانفاق
وإعانة الاخرين
للاعانة والانفاق
طرق مختلفة ، والطريق المتعارف عند الناس هو الانفاق المالي النقدي وغير النقدي
للمحتاجين ، وهو أمر مستحسن إلّا أنَّ هناك طرقاً افضل واكثر تأثيراً تفي بهذا
العمل الخير ، وهو تشكيل منظمات ومؤسسات خاصة للاعانة والانفاق المنظم.
لقد تشكلت هكذا
مؤسسات على مستوى واسع في بعض المحافظات الايرانية وهي تسعى لجمع التبرعات من جهة
، ومن جهة أخرى تستقصي المحتاجين لاعانتهم بمختلف الطرق ، مثل إعداد وسائل البيت
الرخيصة من بعض المؤسسات والشركات والدوائر.
وقد تكفلت بعض هذه
المؤسسات قضية دراسة الاطفال وتحمل نفقاتهم والاشراف عليهم من هذا الجانب ، وارتقى
بعض من هؤلاء الاطفال الدرجات العليا ودخلوا الجامعات وتخرجوا منها.
وتقوم بعض منها
بنشاطات ثقافية اضافة إلى الاعانات المالية ، وذلك من قبيل تشكيل دورات تعليمية
تثقيفية لمختلف الاعمار.
على المسلمين في
العصر الراهن أنْ يلتفتوا إلى هذا النوع من الانفاق المنظم اكثر. ورغم أنَّ بعض
الدوائر الحكومية تكفلت بهذه القضية إلّا أنّ كثرة المحتاجين والفقراء في عصرنا
هذا يستدعي وجود مؤسسات خيرية منسجمة على نطاق واسع.
جمعيات اعانة
السجناء والمرضى من ضمن الطرق الاخرى المنسجمة والجيدة التي اشرنا اليها في السطور
السابقة.
إنَّ الالتفات إلى
الابتكار والابداع في مجال الاعانات لهذه المؤسسات والجمعيات يؤدي إلى
انتاجية اكثر ، بحيث تتم الاعانات والمساعدات بالافادة من اقل مقدار ممكن من
الامكانيات.
لقد قلنا سابقاً :
إنَّ الصدقة كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله تمنع من ميتة السوء ، وهنا حديث اخر للرسول صلىاللهعليهوآله يقول فيه : «إنَّ الله لا اله إلَّا هو ليدفع بالصدقة
الداء والدبيلة والحرق والغرق
__________________
والهدم والجنون ،
وعد سبعين باباً من السوء».
بالطبع ، كلام
الرسول صلىاللهعليهوآله ليس هراء بل يحكي عن الواقع. وهذه آثار حقيقية للصدقة فاذا
احيت هذه السنة الحسنة لزالت الكثير من مشاكلنا الاجتماعية والشخصية كذلك.
٤ ـ في آية المثل
السابع يُلاحظ أربع خصائص :
الاولى : الأرض
المرتفعة. الثانية : اشجار البستان. الثالثة : الوابل أو المطر الشديد.
والرابعة : الثمار
والفواكه الكثيرة. وكلٌّ من هذه تشبيهات من ناحية ، ومن ناحية أخرى تعبّر عن اعضاء
الإنسان وصفاته أو النعم الالهية التي يتمتع بها هذا الموجود.
التعابير التالية
عن التشابيه الأربعة الماضية جاءت في أحد التفاسير :
لقد شبه روح
الإنسان وقلبه بالارض المرتفعة التي يقع فيها البستان ، أمّا اعمال الإنسان
الصالحة واللائقة فقد شبهت بالانفاق والبذل في سبيل الله ، وقد شبهت رحمة الله
ونعمه وهدايته التكوينية والتشريعية بالمطر الكثير (الوابل) الذي يروي الاشجار والاعمال
الصالحة والملكات الفاضلة لتنمو. واما الفضائل النفسية والصفات الروحية والاخلاقية
البارزة من قبيل الايثار والجود والسخاء والبذل والتواضع والخضوع وحب الغير فقد
شبهت بثمار البستان وفواكهه المباركة.
الهدف من هذه
التشابيه وهذا المثل ـ كغيره من الامثال ـ هو التكامل الوجودي للانسان وبلوغ درجة
القرب إلى الله ، وبتعبير آخر : صيرورة الإنسان عبداً خالصاً لله ، وذلك هو الهدف
من خلق الإنسان وجميع الموجودات ذات الشعور والاحاسيس ، وذلك عبارة أخرى عن ايصال الإنسان إلى مقام يؤهله للدخول
في خطاب الآية اللطيفة والمهدئة : (يا أيَّتُهَا
النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فادخُلِي
فِي عِبَادِي وادْخُلي جَنَّتِي)
__________________
ما أحسن السعادة
التي ينالها الإنسان
من النتائج
المستوحاة من هذا المثل هي أن هناك جنة (علاوة على الجنة الموعودة في الاخرة) في
الدنيا ، وهي جنة قلب الإنسان المؤمن المملوءة بالأشجار والثمار ، أي الصفات
والفضائل الاخلاقية لروح الإنسان وصفائها من التلوث ، والإنسان لا يمكنه ادراك هذه
الجنة ولا يمكنه الشعور بها إلَّا أنْ تكون أعماله جميعها خالصة لوجه الله
وابتغاءً لمرضاته ، ولا يكون فيها ذرة من الرياء. والجملة الاخيرة للاية تشير إلى
هذا الموضوع : (واللهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ) فإنَّ الله يرى الاعمال ويرى نواياها ويرى كل ما يطرأ على
النوايا من اغراض غير إلهية.
موضوع الشرك في
العمل الذي يصطلح عليه (الرياء) تعرضت له الايات والروايات على مستوى واسع.
يقول رسول الله صلىاللهعليهوآله في حديث نقل عنه : «إنَّ الشرك أخفى من دبيب النمل على
صفاة سوداء في ليلة ظلماء».
وحسب هذه الرواية
؛ فإنَّ الشرك اخفى من حركة نملة سوداء على صخرة سوداء في ليلة ظلماء.
الإنسان بعد سنوات
من العبادة قد يدرك عدم خلوصه في كثير من العبادات ، إنَّ هكذا انسان سيكون سعيداً
إذا ما تاب وبت في الجبران.
وتباً للإنسان
الذي يدرك عدم خلوصه لكن ادراكه يكون متأخراً ، يقول الله تعالى (... كَلَّا انَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا ...)
ننهي بحثنا عن
الشرك بذكرى عن مرجع عالم الإسلام آية الله العظمى السيد البروجردي رضوان الله
تعالى عليه.
كان السيد قد ذهب
لقرية بشنوة (في ضواحي مدينة قم) لاجل الاستراحة ، وفي احد
__________________
الايام هناك كان
قد فرش سجادة قرب قنال هو مع مرافقيه ، وقد شاهد المرافقون انذاك أنَّ السيد قد
غاص في التفكير كثيراً فسألوه عن علة ذلك فأجاب : (كنت افكر في أنَّه هل كان لي
عمل خالص لوجه الله وابتغاء مرضاته من دون أنْ يشوبه شائبة ام لم يكن؟).
فقالوا له :
مولانا! الحمد لله ، إنّ لك خدمات كثيرة قدمتها للحوزة العلمية والمسلمين ، فلا مجال للقلق. فهز السيد رأسه وقرأ الحديث «إخلص العمل
فإنَّ الناقد بصير».
الناقد هو الذي
يميز السكك الخالصة عن المزورة ، إنَّ نسبة التزوير إذا كانت كبيرة فقد يستطيع
الناس عموماً تشخيصها أمّا إذا كانت نسبة الغش والتزوير قليلة جداً فذلك أمر لا
يشخصه الا الناقد. وحسب هذه الرواية ، فإنَّ الله هو الناقد لنوايا الإنسان ويمكنه
تشخيص الخالص عن غيره ، فهو بصير وعليم ويشخص حتى اقل مقدار من الغش وعدم الخلوص.
وعلى هذا ، ما
علينا إلَّا أنْ نسعى بأنْ لا يكون أي جزء ولو بسيط من عدم الخلوص في اعمالنا
واقوالنا وافكارنا ، وذلك لاجل التقرب إلى الله تعالى.
آداب الانفاق
ندرس هنا بعض آداب
الانفاق واصوله :
١ ـ الإنفاق ممَّا
تحبون
إذا انفق شخص ما
كان لديه من اغذية زائدة وألبسة رثة فلا اشكال في ذلك وهذا اقل مرتبة للانفاق
وادنى حد له ، إلَّا أنَّ على الإنسان أن ينفق ما يحب لاجل بلوغ اعلى مراتب
__________________
الإنفاق : (لَنْ تَنَالُوا البرَّ حَتى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ)
وقد قيل في
الزهراء عليهاالسلام : انها عند ما ذهبت إلى بيت زوجها للعرس صادفت في الطريق
محتاجاً سألها الاعانة ، فبذلت له ثوب عرسها رغم انها كانت تحمل ملابس رثة وزائدة.
لا يمكن العثور في كل التاريخ على انفاق خالص مثل ما صدر من الزهراء عليهاالسلام فهي شابة في مقتبل العمر تنفق ملابس عرسها رغم ان بامكانها
انفاق ما كان عندها من ملابس زائدة أخرى. وذلك مصداق حقاً للاية الشريفة السابقة.
يمكننا العثور على
انفاق من هذا القبيل صدر من المعصومين عليهمالسلام ، فإنَّ الإمام علي عليهالسلام انفق خاتمه لفقير وهو راكع في صلاته ، وقد نزلت في هذا
الشأن الآية ٥٥ من سورة المائدة.
وفي حال الامام
علي عليهالسلام ينقل انه كان يشتري قميصين ، ويخير قنبر غلامه في انتخاب
احدهما ويترك الاخر له.
وقد قال الامام
الصادق عليهالسلام في رواية له : «ما من شيء إلّا وكِّل به ملك إلَّا الصدقة
فانها تقع في يد الله تعالى».
وهل من المناسب
واللائق للانسان ان يبذل اموالاً لا يحبها تصل مباشرة بيد الله؟!
٢ ـ الانفاق في
غاية الادب
إنَّ الأدب ضروري
عند البذل والانفاق ، وينبغي السعي آنذاك لاجل حفظ ماء وجه وشخصية المحتاج ، يقول
القرآن المجيد : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أذَىً ...)
__________________
إذا راجعك محتاج
وسألك شيئاً واجبته بهذا : (أعتذر ، لا يمكنني اعانتك) أي ترده باحترام فذلك افضل
من أن تنفق له مع أذية ومنة بأن تقول له : (لا اراك بعد هذا) أو (خذ هذا لتريحني
من شرك).
إنَّ هذه
الأخلاقية الرفيعة في الإنفاق تلاحظ عند المعصومين بشكل واضح ، فقد قيل في الإمام
السجاد عليهالسلام : إذا اعطى السائل قبَّل يده ، فقيل له لِمَ تفعل ذلك؟ قال
: «لانها تقع في يد الله قبل يد العبد».
كم هو الفرق بين
الانفاق المخلص والمتزامن مع الأدب والاحترام الوافر ، والانفاق الذي يتم عن رياء
وتحقير.
٣ ـ التعجيل في
دفع الصدقة
لا ينبغي التأني
والتواني الوافر والوسوسة عند دفع الصدقة تقرباً لله تعالى ؛ لأنّ الشيطان في ذلك
الزمن يسعى كثيراً لمنع الإنسان من دفع الصدقة ، يقول الله تعالى في الآية ٢٦٨ من
سورة البقرة : (الشَيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ)
إنَّ الشيطان
يوسوس للانسان بشتى الطرق ، فهو يقول مثلاً : (فكِّر بمستقبل أطفالك ، وبأيام شيبك
وحافظ على أموالك لذلك الحين). هذا لأجل صرف الإنسان عن الانفاق ، بينما الله يعد
بالمغفرة وبارجاع المال المنفق.
وقد تعارف بين
الناس أنَّ الشيطان يتعلق بيد الإنسان عند ما يريد الاخير بذل المال ؛ وذلك لمنعه
عن البذل. وهذا اشارة أخرى إلى الآية الشريفة.
ومن المثير أنَّ
القرآن لم يستخدم كلمة (الفقر) الا في هذه الآية ، وقد نسبه إلى الشيطان.
مَن كان يرزقك عند
ما كنت جنيناً في ظلمات ثلاث؟ الله هو الرازق ، وهو بنفسه سيكون
__________________
رازقاً لك
ولأولادك عند الشيخوخة والعجز.
هناك قول جميل
لأحد العظماء يقول فيه : (لا أعمل شيئاً لمستقبل أولادي ؛ لأنهم إنْ كَانُوا من
أولياء الله فالله لا يكلّ وليه لنفسه ، وإنْ كَانوا أعداء لله ، فما لي أعينهم؟!).
٤ ـ صدقات السر
والعلانية
المستفاد من
الروايات هو أنَّ الصدقة عملٌ الأفضل إتيانه سراً ، إلَّا أنَّه في بعض الأحيان
يستدعي الأمر العلانية في التصدق ، وذلك لعنوان ثانوي طارئ.
إنَّ هذا الأمر قد
بُيّن بوضوح في الآية الشريفة ٢٧١ من سورة البقرة : (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَات فَنِعِمَّا هِي وإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُو خَيْرٌ
لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبَيْرٌ)
٥ ـ الأولوية
للمساكين المتسترين
القرآن المجيد
يعتبر المساكين والمتسترين على فقرهم هم المحتاجون الحقيقيون كما هم أولى باستلام
هذه الاعانات والصدقات ، الآية ٢٧٣ من سورة البقرة تحكي هذا المضمون : (لِلفُقَرَاءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيْلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبَاً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ
أغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيْمَاهُم لَا يَسْئَلُونَ النَّاسَ
إلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)
من الفقراء ذو عزة
نفس عالية ومثل هؤلاء هم اهل لهذه الصدقات وأولى بها ، وبخاصة أنَّ هذا الشهر شهر
مبارك والأعمال العادية فيه تعدّ عبادة ، فكيف بطاعة ذات قيمة عالية مثل التصدق؟
كما أنَّ من فلسفة الصيام هو الاحساس بالآم المحتاجين للبتّ في رفع احتياجاتهم.
__________________
المثل الثامن :
عاقبة الامور
يقول الله تعالى
في ثامن مثل من أمثال القرآن في الآية ٢٦٦ من سورة البقرة :
(أيَوَدُّ أحَدَكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيْلٍ وَأعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ لَهُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَةٌ ضُعَفَاءُ فأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَت كَذلك يُبَيِّن
اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
تصوير البحث
كيف يكون أحدكم
راغباً في ان يبتلى بمصير الشخص الذي له بستان فيه نخيل وأشجار مثمرة وفيه أنهار
بعد ما بلغ هذا الشخص سن الكبر ، وكان قد جمع حوله ذرية واطفالاً ضعفاء ، حينئذ
يواجه البستان إعصاراً متزامناً مع نار ملتهبة تلتهم بستانه وما فيه ليصبح ذليلاً
بعد عمر من العز.
الشرح والتفسير
للمفسرين أقوال في
هذه الآية :
يعتقد بعض
المفسرين أنَّ هذا المثل يحكي عاقبة الإنسان الذي يحرق محاصيل انفاقه وبذله بنار
الرياء ، لتذهب بذلك أعماله الصالحة وعباداته سُدى.
قد يقوم البعض
باعمال كثيرة من قبيل الحج والصلاة والصيام والجهاد واعانة المساجد
وبناء المستشفيات
واعانة الايتام ، وقد يقضي عمراً طويلاً في هذه الأعمال إلَّا أنه قد يحرقها
ويُذهب بها مع الريح ليمحو آثارها وذلك بأن يتراءى بها.
ويرى البعض أنَّ
آية المثل لا تختص بالرياء ، بل تشمل جميع الذنوب ، فإنَّ الآية تحذّر المسلمين
ليراقبوا أعمالهم وعباداتهم ، ويحفظوها مما قد يدمرها ويحرقها من الذنوب.
وحسب هذه الاية ،
فانّ الإنسان إذا لم يراقب أعماله قد يبتلي بمصير هذا الشيخ الذي تضرر هو مع عياله
وأولاده وأوقع مستقبل اطفاله بخطر.
وبعبارة أخرى : يا
إنسان! حافظ على أعمالك وعباداتك دائماً وبشكل مناسب وفكر بعاقبة امرك ؛ وأنَّ حفظ
العمل اصعب من اداء نفس العمل.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من قال لا إله الا الله ، غرس الله بها شجرة في الجنة»
، والحديث يعني أنَّ الإنسان كلما نطق بهذه الكلمة غرست له شجرة في الجنة.
والمستفاد من هذه
الرواية هو أنَّ الجنة وكذا جهنم تبنى بواسطة أعمالنا ، فهي ليست مبنية من ذي قبل.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من قال : سبحان الله غرس الله بها شجرة في الجنة. ومن
قال : الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة. ومن قال : لا اله الا الله غرس
الله له بها شجرة في الجنة.
ومن قال : الله
اكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة».
فقال رجل من قريش
: يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير ، قال : «نعم ، ولكن إيَّاكم أنْ ترسلوا
عليها نيراناً فتحرقوها وذلك أنَّ الله عزوجل يقول : (يَا أيُّهَا
الّذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا
أعْمَالَكُم)
ويقول الرسول صلىاللهعليهوآله في حديث آخر : «العلماء كلهم هلكى إلَّا العاملون ،
والعاملون كلهم هلكى إلَّا المخلصون ، والمخلصون على خطر».
__________________
وفي هذا الحديث
تحذير آخر للانسان بان لا يذهب باعماله الخالصة الماضية بذنوبه المقبلة.
(أيَوَدُّ أحَدَكُم
أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيْلٍ وَأعْنَابٍ) إنَّ الإشارة إلى فاكهة العنب والتمر دون غيرهما يفيد
أنهما أهم أغذية للبشر ، أما الأهم منها فمعدم أو قليل.
(تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَمَرَاتِ) البستان قد يحتوي على بركة أو قنال يسقى منها ، والأخير قد
يستدعي بذل المال مقابل الماء. وفي كلا الحالتين ، إنَّ السقي بهما يستلزم متاعب
وزحمات جمة. إلَّا أنَّ البستان الذي تحدثت عنه الآية يقع في مسير نهر ، وهذا يعني
أنَّ السقي لهذا البستان مريح جداً ولا يستدعي تحمل زحمات وافرة. اضافة إلى هذا ؛
فإنَّ في هذا البستان فواكه من قبيل التمر والعنب.
(وأصَابَهُ الكِبَرُ
وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءٌ) أي أنَّ صاحب هذا البستان أصبح شيخاً كبيراً.
وضعف الذرية اشارة
إلى عدم امكانهم اعانته على شؤون البستان ، بل انَّ عبء هؤلاء الأطفال واقع جميعاً
على عاتق هذا الشيخ ، وهذا البستان لا يحتاج إلى عناية كبيرة ومستمرة فيمكنهم
التمتع بمحاصيله وثماره.
(فَأصَابَهَا إعْصَارٌ
فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَتْ) أي في الوقت الذي يكون فيه الشيخ بأمسِّ الحاجة إلى هذا
البستان يأتي إعصار من نار يحرق هذا البستان ويبدله إلى تل من الرماد ثم يذهب هذا
الرماد مع الريح متناثراً بحيث لا يبقى أي اثر منه.
الإعصار يحصل اثر
اصطدام ريحين قادمين من اتجاهين مختلفين ، وهو يحضى بقدرة عجيبة إذا حصل في مكان
فانه يذهب معه كل ما يكون هناك من اشياء ، فقد يذهب بماء حوض مع اسماكه ويسقطها في
مكان اخر بحيث يتصور البعض انّ الاسماك جاءت من السماء ، وقد يرفع انساناً من
مكانه ويلقيه في مكان آخر.
سؤال : كيف يحصل
النار ويتزامن مع هذا الاعصار؟
هناك إجابات عديدة
لهذا السؤال :
الف ـ يعتقد البعض
أنَّ الاعصار خالٍ من النار ، والنار تقدم من الصواعق فالصاعقة تحرق البستان ثم
يأتي الاعصار ليذهب برماد البستان وينقله إلى مكان آخر.
باء ـ إنَّ
الاعصار قد يتلاقى مع نار مستعرة فياخذ منها ويلقيه على البستان فيحترق البستان
ويتبدل رماداً.
جيم ـ هذه الأعصار
ليست اعصاراً متعارفة ، بل هي اعصار يطلق عليها (سموم) تهب غالباً في السعودية
والذين يقعون في طريقها يتقنعون وينبطحون إلى أنْ تَتجاوزهم ، وهذه الأعصار عند ما
تلاقي البستان تحرقه وتدمره.
(كَذَلك يُبَيِّن
اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ) يعتبر الله الهدف من هذا المثل هو التفكّر والتعقل. ووفقاً
لهذه الآية الشريفة ، فإنَّ على الإنسان أن يودع نفسه بيد الله ويعتقد أنَّ كل ما
يقوم به من أعمال وطاعات وعبادات هي قليلة في حق الله وأنَّ ما يصله من الله تعالى
من نعيم هو بلطفه وإحسانه لا لعمل وعبادة استحق بهما الإنسان تلك النعم.
من المؤسف أنَّ
هذا الإنسان الضعيف قد لا يفكر جيداً ويغتر بما جاء به من ركعات صلاة وأيام من
الصوم فيعد نفسه ـ لأجل ذلك ـ من أصحاب الجنة. بل يعد الجنة ، واجبة له ، ونفس هذا
الإنسان قد يرى نفسه ميتاً خلو الإيمان.
اللهم اجعلنا من
المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين.
إنّ السوء كان
عاقبة هذا الشخص
في زمن الطاغوت
البهلوي كان طالب حوزة متدينٌ جداً ومتقٍ ، وكان يواضب على اعماله كثيراً ، وقد
كان متذمراً من اخيه ولا يعاشره لاجل انه كان لا يدفع الخمس والزكاة. في يوم من
الأيام مرض هذا الطالب مرضاً شديداً فاخذه اخوه إلى بيته ليعتني به وأثناء تواجده
عند أخيه ذهب احد الاساتذة لعيادته وعند الدخول قال للاستاذ : لا تجلس على السجادة
لانها مغصوبة .. لكن الزمان غيّر هذا الطالب ولم يبقه على ما كان ، بل حوّله إلى
درجة أنّه ما كان يجلس على مأدبة طعام خالية من المسكر.
يقول الإمام علي عليهالسلام في الخطبة القاصعة التي تعرض في جزء منها إلى آثار التكبر
__________________
والعجب : «فاعتبروا
بما كان من فعل الله بابليس إذ احبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله
ستة الاف سنة ، لا يدري أمن سني الدنيا ام من سني الاخرة عن كبر ساعة واحدة» ،
فإنَّ ساعة من العناد والتكبر احبطت اعماله وورطته بمصير لا يحمد.
وعلى هذا ، فلا
ينبغي ان يغتر الإنسان ابداً بطاعاته واعماله ، بل عليه ان يتطلع دائماً إلى عفو
الله ورحمته.
اللهم اجعل عاقبة
أمرنا خيراً.
خطابات آية المثل
هي الاحباط والتكفير
من البحوث المطروحة
في علم الكلام هي مسألة الاحباط والتكفير وقد أشارت اليهما الآية.
إنَّ الاحباط
عبارة عن أعمال وذنوب ، الاتيان بها يؤدي إلى ذهاب حسنات الإنسان وعباداته. أمّا
التكفير فهو عبارة عن اعمال ، اداؤها يؤول إلى ذهاب الذنوب ومحوها. وعلى سبيل
المثال ، فإنَّ تكبر الشيطان وحسده ولجه سبب في احباط اعماله التي أدَّاها خلال ست
الاف سنة ، أمّا توبة الحر بن يزيد الرياحي عند الامام الحسين عليهالسلام فقد كانت تكفيراً لذنوبه التي ارتكبها.
ان التوبة تطفي
نار الذنوب ، وعلى المسلمين ان يتوبوا وينيبوا إلى الله دائماً بالدعاء والمناجاة
والتوسل بالأئمة المعصومين عليهمالسلام.
اضافة إلى الايات
، فإن ادعية العشرة الثالثة من شهر رمضان أشارت إلى مسألة الاحباط والتكفير ،
فنقرأ في دعاء ليلة القدر مثلاً : «وان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء
واكتبني من السعداء» فان القسم الاول من الدعاء يشير إلى مسألة الاحباط والقسم
الثاني إلى مسألة التكفير.
__________________
الاستدلال على
وجود الاحباط والتكفير
رغم أنَّ بعض
العلماء المسلمين لا يعتقد بالاحباط والتكفير ولا يرى تأثيراً لاحدهما على الاخر
أي أنَّ الأعمال الحسنة لا تؤثر على السيئة والسيئة لا تؤثر على الحسنة ، لكن
القرآن يصرح في بعض الآيات بالاحباط والتكفير.
ونختار من ذلك بعض
النماذج :
الف ـ يقول الله
في الآية ١١٤ من سورة هود : (وَأَقِمِ الصَّلوةَ
طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلْفاً مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ذَلك ذِكْرَى للذّاكِرِينَ)
باء ـ يتحدث
القرآن المجيد عن الاحباط في الآية ٥ من سورة المائدة : (وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَان فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الْخَاسِرِينَ)
وعلى هذا ، فأصل
الإحباط والتكفير قد بُيِّنَ في الآيات ، إلّا أنها لم توضح أي نوع من الذنوب توجب
الاحباط وأي نوع من الاعمال توجب التكفير ، وعلينا استفادة ذلك من الروايات.
ما ينبغي علينا
إلّا مُراقبة أعمالنا خوف أنْ يصدر منّا عمل يحبط اعمالاً قيّمة كثيرة. وإذا ما
اذنبنا فعلينا طلب الاعانة من الله بالبكاء والنواح لكي يتوافر بذلك بحر من الماء
يطفئ نار الذنوب. وإذا كانت شخصية مثل الإمام علي (عليهالسلام) يسجد ويقول خضوعاً
: «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر ...» فكيف بنا نحن انا وأنت؟!
__________________
المثل التاسع :
أكل الربا
يقول الله تعالى
في الآية ٢٧٥ من سورة البقرة :
(الّذِيْنَ يَأكُلُونَ
الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
المَسِّ ذلك بِأنَّهُم قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ
البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى
فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصْحَابُ النِّارِ
هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ)
تصوير البحث
إنّ آكلي الربا
على أساس هذه الآية عند ما يدخلون المحشر يوم القيامة يدخلون كالسكارى أو المجانين
أو المصروعين ، لا يتمالكون على انفسهم ولا يستطيعون حفظ تعادلهم فيقعون ويقومون
بين الحين والآخر. وهذا المنظر المرعب يلفت انظار اهل المحشر ويجعلهم يدركون أنَّ
هؤلاء هم آكلو الربا.
علاقة الآية بما
قبلها
الايات السابقة
تحدثت عن الصدقة والانفاق في سبيل الله ، وهذه الآية ترتبط بشكل وآخر بالصدقة ؛
وذلك لأن الصدقة على قسمين :
١ ـ الصدقة دون
عوض وهو الانفاق والبذل للمحتاجين.
٢ ـ الصدقة مع
العوض وهو الدين أو القرض الحسن.
إنّ الدين إذا لم
يكن مع عوض وربح كان قرضاً حسناً والّا عُدَّ رباً وحراماً. وقد جاء في الروايات
أنَّ الصدقة والبذل من دون عوض اجرها عشرة اضعاف ، أمّا إلاقراض أو الصدقة مع
العوض فاجره ثمانية عشر ضعف ، وسبب ذلك واضح من حيث أنَّ المقترضين محتاجون حقاً ، وهم
ذوى اعتبار وماء وجه.
وعلى هذا ، فإنَّ
شيئين يتوخى من القرض هما : أولاً ـ رفع حاجة المحتاجين. ثانياً ـ الحفاظ على
حيثية واعتبار المحتاج.
وعلى أساس الآية
الشريفة : (مَنْ جَاءَ
بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا) فإنّ كلاً منها له عشر حسنات والمجموع هو عشرون ، ولكن
باعتبار انّ القرض يسترجع بعد فترة من الزمن فتنقص منه حسنتان ليكون المجموع
ثمانية عشر.
الشرح والتفسير
(الّذينَ يأكُلُونَ
الرِّبَا ...) أي أنَّ آكلي الربا سيبتلون يوم المحشر بعدم التعادل والتوازن
في المشي ويبدون كأنهم مصروعون أو مجانين.
(ذَلك بِأنَّهُمْ
قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) إنّ سبب ابتلاء هؤلاء بهذا المصير هو أنَّهم إضافة إلى
اكلهم الربا كانوا يسعون في تبرير عملهم بالقول : إنَّ البيع مثل الربا ، كما
الاول حلال كذلك الثاني.
(أحَلَّ اللهُ البيعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا) حلية البيع والمعاملة لأجل وجود مصلحة في ذلك عكس الربا ،
ففيه مفسدة اضافة إلى أنه يفقد المصلحة. ففي المعاملة تارة يكون ربح واخرى يكون
__________________
خسارة إلّا أنَّ
الأمر في الربا يختلف ، فآكل الربا يحصل على الربح دائماً ولا يتضرر ابداً
والخسارة يتحملها المقترض فقط ، ولذلك عدت امواله حاصلة بلا تعب.
اضافة إلى هذا ،
فإنَّ أكل الربا سبب في ايجاد الفجوة بين طبقات المجتمع ، وذلك لأنَّ ظاهرة الربا
إذا تفشت في المجتمع اجتمعت ثروات الناس وأموالهم عند آكلي الربا بعد فترة وجيزة
من الزمن ، أمّا الاخرون فتتردى اوضاعهم إلى أسوأ ما يمكن.
(فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلى اللهِ) في بداية الاعلان عن هذا الحكم يصرح الله بشمول العفو
والمغفرة لاولئك الذين كانوا يمارسون الربا قبل هذه الآية فلا خوف عليهم.
وعليه ، فالذين
كانت لهم اموال عند الناس وتعاقدوا معهم على ان يكون لهم فيها ربا ، فإنَّ هذه
المعاملة تبطل واصحاب الاموال من الان فما بعد باتوا لا يملكون الا رؤوس اموالهم
فحسب ولا حق لهم في استلام اكثر من ذلك.
(وَمَنْ عَادَ
فأُولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ) يهدد الله في هذه الآية اولئك الذين يعاودوا ممارسة هذا
العمل بعد هذه الآية ويقول بأنَّهم إذا فعلوا هذا مرة أخرى ـ وهو عمل عد في بعض
الروايات كممارسة الفاحشة مع المحارم ـ فإنَّ جهنم تنتظرهم وسيكونون مخلدين فيها.
سؤال : إنّ الخلود
في جهنم خاص بالكفار فما يعني الخلود بالنسبة لآكلي الربا من المسلمين؟
الجواب : من
التفاسير التي ذكرت في هذا المجال هو أنَّ آكلي الربا يموتون غير مؤمنين بسبب
عملهم القبيح هذا ، ومن الواضح أنَّ غير المؤمنين يخلدون في جهنم.
__________________
خطابات الآية
عقاب آكلي الربا
في الدنيا والآخرة
هناك بحث بين
المفسرين في هل أنَّ التَشبيه لآكلي الربا في الآية تشبيه لمصيرهم في الدنيا؟
ام أنّ ذلك نوع من
العقاب والعذاب الأُخروي؟
يستفاد من
الروايات أنّ هذا النوع من المصير يتعلق بكلا العالمين. وقد نقلت رواية في تفسير (نور
الثقلين) عن الامام الصادق عليهالسلام يقول فيها : «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه
الشيطان» ، والعبارة الأخيرة تعني الجنون.
وفي رواية أخرى
حكت موضوع المعراج أنَّ الرسول صلىاللهعليهوآله قال :
«لما أُسري بي إلى
السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أنْ يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه ، قال : قلت :
من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا».
نسبة الجنون إلى
الشيطان
لماذا نسب الجنون
إلى الشيطان في آية المثل؟
المستفاد من ظاهر
الآية هو أنَّ الشيطان سبب الجنون عند الإنسان.
لكن الأبحاث
العلمية أثبتت وجود أسباب أخرى للجنون لا علاقة لها بالشيطان ، ومن هنا كانت
للمفسرين آراء مختلفة في تفسير الآية ، نشير إلى بعضها هنا.
الف ـ القرآن
يخاطب الناس بما يتماشى مع عقائدهم ؛ فإنّ الناس عصر النزول (العرب آنذاك) كانوا
يعتقدون أنَّ الجنون من الشيطان ، أو أنَّ الشيطان ينفذ في جسم الإنسان فيجن ،
ولهذا كان هذا التعبير القرآني كناية عن الجنون.
باء ـ المعنى
الحقيقي للجملة هو المراد لا المعنى الكنائي ، ونسبة الجنون للشيطان من حيث
__________________
إنَّ الله جعل
عقاب هؤلاء المذنبين تسلط الشيطان عليهم وهذا التسلط هو الذي يسبب القلق والجنون.
التناسب بين
الجناية والعقاب
يعتقد بعض
المفسرين أنَّ العقاب الذي يعينه القرآن لذنب ما يتناسب مع ذلك الذنب ، فبين
العقاب الذي عُيِّن لآكلي الربا وبين الجنون تناسب ، وبين هذا الذنب وذلك العقاب
علاقة وارتباط ، فبما أنّ آكل الربا يقوم من خلال عمله القبيح بتدمير اقتصاد
المجتمع ويخرجه عن حالة التعادل ويحول دون حركة العجلة الاقتصادية كذلك هو ذاته
فإنَّه سيبتلي بمصير من هذا القبيل في الاخرة.
في رواية للامام
الباقر عليهالسلام يقول فيها : «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الاخرة».
فإنّ العقاب في
هذه الرواية يتناسب مع الذنب ، ذلك أنَّ الظالم يُظلم الدنيا والعالم في عينيي
المظلوم وعلى هذا الاساس تظلم الاخرة في عينيي هذا الظالم.
فلسفة تحريم الربا
كما أنَّ الربا
وآكله يُوجب مفاسد عديدة فإنَّ تحريمه ينمّ عن فلسفات مختلفة نشير إلى بعضها هنا :
الف ـ إنَّ الظلم
المشار اليه في الآية ٢٧٩ من سورة البقرة هو فلسفة تحريم الربا.
باء ـ الفلسفة
الاخرى للتحريم هي تثبيت سنة (القرض) في المجتمع ، وقد جاء هذا المطلب في روايات
عديدة ، منها رواية سماعة عن الامام الصادق عليهالسلام حيث يسأل فيها : إني رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير
آية وكرره؟ قال عليهالسلام : «أوتدري لم ذلك؟» قلت : لا. قال عليهالسلام : «لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».
__________________
أي أنّ الربا إذا
تفشى فسيترك الناس سنة القرض وتموت من جراء ذلك العواطف الانسانية ليحل محلها الانتهاز
والربح. ولهذا كان الربا محرما في الشريعة الاسلامية المقدسة.
الإرتباط بين
الإخلاق والاقتصاد في الإسلام
بين الاقتصاد
الاسلامي والاقتصاد المادي بون شاسع ، واهم مفارقة بينهما هو أنّ الاقتصاد
الاسلامي يعد مزيجاً من الاخلاق والاصول والمبادئ الانسانية ، بينما الاقتصاد
المادي لا أنه خال من الأخلاق والعاطفة فحسب ، بل إنَّ المصلحة المادية تعدّ
المبدأ الحاكم على هذا الاقتصاد. وعلى هذا ، فكل شيء يتعارض ويتضاد مع ذلك يُضحّى
به لأجل المصالح المادية.
إنَّ إنتاج
المخدرات وعوائدها ـ الذي يعد امراً يتمانع مع المبادئ الإنسانية ـ يعد امراً ليس
مهماً عند كثير من الدول وحتى تلك الدول التي تدعي مكافحتها لهذه الظاهرة وتعقد
بين الحين والآخر مؤتمرات في هذا المجال ، لها نصيب ليس قليلاً في تجارة هذه
المواد.
إنَّ مؤيدي ودعاة
الاقتصاد المادي لا يكترثون من فساد جيل الشباب وتزلزل المبادئ الاخلاقية وتفكك
العوائل وما يهمهم هو مصالحهم الذاتية.
إنَّ المتاجرة
بالانسان وبيع الاطفال رغم تمانعه مع جميع المبادئ الانسانية يعد جائزاً عند دعاة
حقوق البشر المزيفين ويعترفون بذلك بشكل غير علني.
مَن الذي وفَّر
للعراق أسلحة الدمار الشامل والقنابل الكيمياوية والميكروبية والصواريخ بعيدة
المدى والقنابل
العنقودية
وامثالها ، وذلك ليرتكب بواسطتها ابشع الجرائم في ايران الاسلامية؟ لماذا سكت دعاة
حقوق البشر ولم يعترضوا على ذلك؟ لكنّهم رفعوا هتافات الإعتراض بمجرد أنْ هجم
العراق على الكويت وحكموا عليه بضرورة نزع السلاح.
إنَّ سرّ هذه
الإزدواجية واضح ؛ فإنَّ مصالح الدول الاستكبارية قد اقتضت يوماً أنْ
__________________
يتسلح العراق
باحدث الاسلحة واشدها فتكاً ، وهذه المصالح ذاتها اقتضت يوماً أنْ يُنزع العراق
أسلحته ليضمنوا بذلك مصالحهم. والملاك في كل ذلك هو مصالحهم المادية ، أمّا
المبادئ الإنسانية فمغلوب على أمرها.
المبدأ الحاكم على
الاقتصاد الاسلامي هو الأخلاق ، وينبغي أنْ تتم عملية كسب المصالح المادية تحت ضلّ
حفظ القيم الاخلاقية ، وعلى هذا الاساس حرّم الإسلام المعاملة التي تعد منشأً
للفساد. وعلى سبيل المثال أنّ الإسلام إذا منع تأسيس مراكز للفحشاء أو حرّم بيع
الشراب ولعب القمار أو تأسيس مصرف ربوي وغيرها فذلك لأجل أنَّ أموراً من هذا
القبيل تعدّ منشأ للفساد الكثير ، الامر الذي لا يتناسب مع الأخلاق الإسلامية.
إنَّ القِيَم
الأخلاقية التي تحكم الاقتصاد الاسلامي لها مبادئ عديدة نشير إلى بعض منها هنا :
الف ـ من المبادئ
التي تحكم الاقتصاد الاسلامي هي خطاب الآية الشريفة : (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) أي أنَّ المُعَامَلاتِ الاقتصادية ينبغي أنْ تنظم بشكل
يخلو من الظلم لكلا الجانبين البائع والمشتري.
باء ـ كسب النفع
ودفع الضرر العام ؛ وعلى أساس هذا المبدأ ، فإنَّ المصلحة الشخصية تكون ضحية
المصلحة العامة. والبتّ بالأعمال التي يحتاجها المجتمع يعد واجباً ، فاذا كان
المجتمع بحاجة إلى معلمين ، فعلى كل من يستطيع أن يبادر بهذا العمل.
ومن جانب آخر ،
أنّ الأعمال التي تضر المجتمع تعد محرمة في الإسلام رغم ما قد يكون فيها من مصلحة
ومنافع شخصية ، فبيع المسكر مثلاً ، وكذا النشاطات المتعلقة بهذا النشاط ، محرم
وممنوع ولهذا جاء في الروايات أنَّ غرس شجرة العنب لاجل صنع المسكر من ثمارها ،
وكذا سقيها وقطف ثمارها وحمله و.. هذا كله حرام.
ويذكر هنا أنَّ
المبادئ الاخلاقية لا تنحصر في الواجبات والمحرمات ، بل تشمل حتى المستحبات
والمكروهات. ومن هنا كان (تلقي الركبان) مكروها في الفقه الإسلامي. والمراد من
__________________
تلقي الركبان هو
انتظار القوافل خارج المدينة أو القرية والمباشرة بشراء بضاعة القوافل قبل معرفة
أصحابها بقيمها في اسواق القرية أو المدينة.
وقد اعتبر بعض
الفقهاء هذا العمل حراماً ، إلَّا أنَّ بعضهم الاخر اعتبره مكروها ، كما أنَّ اعمالاً مثل بيع الكفن مكروهة ، وذلك لأنَّ
القائم بها يتطلع إلى موت الاخرين دائماً ، وهذا أمر يسبب قسوة في القلب.
جيم ـ توجيه
الرأسمال نحو الآخرة ، وهذا المبدأ يستفاد من الآية ٧٧ من سورة القصص ، حيث قال
الله تعالى : (وابْتَغِ فِيْمَا
آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللهُ إليْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنّ
اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ)
وفقاً لهذه الآية
، فإنَّ رأس المال يكون قيماً إذا ما صبّ في طريق الاخرة ، وبتعبير آخر : المال
الذي يسد الحاجة الدنيوية والحاجة الاخروية. وفي النهاية : أنَّ القِيَم الأخلاقية
هي الحاكمة على الاقتصاد الاسلامي ، بينما يفقد الاقتصاد المادي هذه القيم ويضحِّي
أتْبَاع هذا المذهب كلَّ شيء لاجل المصالح الذاتية.
الاسوة في القيم
الاخلاقية
يُوصِي الإمام علي
عليهالسلام في عهده لمالك الاشتر بطبقات المجتمع من العسكريين والقضاة والعلماء والتجار
والمزارعين والوزراء والمسئولين الحكوميين وغيرهم إلّا أنَّه عند ما يصل إلى الطبقة
المحرومة يستخدم في حقهم تعابير لم يستخدمها في حق غيرهم ، حيث يقول : «ثمّ الله
الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى
__________________
والزّمنى فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من
غلّات صوافي الإسلام في كل بلد ، فان للاقصى منهم مثل الذي للادنى وكل
قد استرعيت حقه ، فلا يشغلنك عنهم بطر فانك لا تعذر بتضييعك التافه لاحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد امور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره
الرجال ففرغ لاولئك ثقتك».
ما أحسن هذا.
إنَّه حديث جميل حقاً! فهو كالشمس التي لا زالت تضيء رغم مضي أكثر من ألف سنة على
عمره وكل يوم يزداد ضياؤه. أحسن قائل هذا الحديث أحسن وأحسن ألف مرة. إنه حديث أهل
لأن يكتبه الحكام بماء الذهب ليجعلونه على رأس قائمة اعمالهم.
المدهش هو أنّ
اسوة الأخلاق هذه ، شخصية كانت حاكمة ، ورغم ذلك توصي بالناس وبخاصة المستضعفين
والمحرومين منهم خيراً. إنَّ رِجَال الدول الغربية حالياً يمثلون قدوة أخرى ونوع
آخر من الحكام حيث يرتضون مقتل الالاف من المحرومين لاجل مصالحهم المادية. انظر
للمفارقات!
سؤال : قد يتمانع
الحفاظ على القيم الأخلاقية مع التنمية الاقتصادية ، فكيف يمكن الجمع بين هذه
القيم والتنمية المطلوبة؟
__________________
الجواب : إنَّ
نظامنا نظام قيمي ، والمهم عندنا هو حفظ هذه القيم الاخلاقية ، ونرى أنَّ الحفاظ
على القيم لا يتمانع مع التنمية الاقتصادية ، ومزجهما مع بعض سوف لا يؤدي إلى
التخلف ، بل انَّ الإقتصاد الذي لم يعتمد القيم الاخلاقية والذي ساد العالم أدّى
إلى أضرار لا يمكن جبرانها.
ألم يكن هذا
الاقتصاد غير القيمي هو السبب الاساس في نشوب الحرب العالمية الثانية؟ الحرب التي
دمرت بعض الدول بالكامل وأنزلت ببعض اخر اضراراً جسيمة وأودت بحياة ٣٠ مليون شخصاً
و ٣٠ مليون معلولاً ، هذا بعض ما خلفته هذه الحرب واودعته في ذاكرتنا. فهل
الاقتصاد المتخلف ـ حسب تعبير اتباع المذهب المادي ـ أفضل أم الاقتصاد المتطّور؟!
ينبغي العلم أنَّ
العالم لا يعمَّر ولا ينمو الا تحت ظل إقتصاد قيمي.
علي عليهالسلام والهدية الليلية
بعد ما يذكر
الامام علي عليهالسلام قصة اخيه عقيل عند ما طلب منه شيئاً من بيت المال يقول في
الذي أراد إرشائه لاجل قضية حقوقية ما يلي :
«.. وأعجب من ذلك
طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ، فقلت : أصلة أم زكاة ، أم
صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال : لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية ، فقلت :
هبلتك الهبول! أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت ام ذو جنة ام تهجر ، والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أنْ
اعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وأنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم
جرادة
__________________
تقضمها. ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذة لا تبقى ، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل.
هل يُؤمن حالياً
على العالم مع وجود زعماء يضحون بكرامة واعتبار بلدهم مقابل امرأة ملوثة!! يا لها
من مفارقات؟ على كل مسلم أنْ يتعلم القيم ويدركها ويدير عنجلات الاقتصاد مع حفظه
على تلك القيم في ذات الوقت.
البحوث التكميلية
للآية
١ ـ أكل الربا في
عصرنا
كان أكل الربا في
العصور الماضية محدوداً باشخاص كانوا يسلفون الناس ويرجعون اموالهم بعد فترة من
الزمن مع مقدار من الربح ، إلَّا أنَّ الأمر اختلف في عصرنا ، فقد ازداد اكلة
الربا ، كما أنَّ رقعته اتسعت لتشمل الدول والشعوب ككل ، فإنَّ الكثير اصبح يمارس
هذا العمل القبيح حالياً.
بعض الدول التي
تجيز لنفسها اكل الربا اوقعت بعض الدول الفقيرة في مخالبها باعطائها بعض الديون ،
وقد باتت هذه الدول تصرف كل ما تجني من أرباح وعوائد وطنية لعلاج هذا المرض
المتفاقم. ولأجل ذلك نرى أنَّ الفجوة بين الدول الفقير والغنية تزداد كل يوم ،
واذا ما استمر الوضع هكذا فلا يبعد أنْ تعلن هذه الدول عن افلاسها. وكمثال على ما
نقول في مجال الربا هو الوضع المرتبك لاقتصاد دول جنوب شرق آسيا فهو بسبب قضية اكل الربا.
ان اكلة الربا
العالميين بسطوا لنا فخاً بعد الحرب المفروضة على ايران ـ التي خرج من امتحانها
الشعب الايراني الشجاع مرفوع الرأس ـ وذلك ببذلهم السخي للاموال والديون. ورغم أنَّهم
لوثونا بعض الشيء بهذه الديون إلَّا أنَّ المسؤولين بحمد الله سرعان ما التفتوا
إلى خطورة هذا السم الفتاك ، وأوقفوا عملية اخذ الديون ودفعوا تدريجياً اقساط
الديون لينقذوا
__________________
بذلك بلدنا من هذا
الفخ.
اضافة إلى النوع
المذكور من الربا هناك نوع اخر من الربا هو اقبح وأسوأ حالاً من سابقه ، وهو الذي
يعتمد رأس مال الناس ، فإنَّ البعض إذا كانوا يبتّون بهذا العمل سابقاً وبأموالهم
الشخصية تقوم حالياً البنوك (التي أموالها من الناس) بهذا العمل القبيح وهذا ـ قطعاً
ـ يستتبع عذاباً اشد وأقسى من سابقه.
٢ ـ النشاط
المصرفي اللاربوي هل هو ممكن؟
يعتقد البعض أنَّ
عصرنا يستدعي اقتصاداً ربوياً ولا يمكن فيه أي نشاط من دون ربا ، وحذف الربا عن
النشاطات المصرفية يؤدي إلى ركود في العمليات المصرفية وركود في الاقتصاد في
النهاية ، وبعبارة أخرى : أنَّ الربا امتزج بالاقتصاد بشكل لا يمكن تفكيكهما.
هذا النوع من
التفكير يطرح من قبل المفكرين المغتربين ، باعتبار حاجة الدول الثرية إلى مبلغين
لها في الدول الفقيرة ؛ وذلك لأنَّ تفكيراً من هذا النوع يتطابق مع مصالحهم ، رغم
سقمه.
إنَّ البنوك
الاسلامية لو عملت بالقرارات المصوبة في بلدنا ولو اطلعت الناس على محتويات هذه
القرارات وكانوا اوفياء تجاهها فسوف تحل قضية الربا وسوف يفيد أصحاب روؤس الأموال
من اموالهم ، كما أنَّ البنوك نفسها ستستفيد وعجلة الإقتصاد ستتحرك.
من العقود
الاسلامية ـ التي جاءت في قرارت البنوك ـ هو عقد (المضاربة) ، وهو لا يختص
بالتجارة بل يشمل الاستثمارات في قطاع الصناعة والبيطرة والزراعة
والخدمات وغير ذلك.
على اساس عقد
المضاربة يودع الشخص رأس ماله عند البنك ، والبنك يعين مستوى الربح على اساس العقد
، بالطبع ينبغي ان يكون الربح نسبة من المنفعة لا من رأس المال. والمشتري يمكنه ان
يوكل البنك في ان يتصالح على سهمه بنسبة معينة ليقبضه كل شهر. لكن
__________________
يحسب مجمل الربح
بعد انتهاء العقد ، ثم يوكل البنك وكالة مطلقة لأنْ يستثمر الاموال في أي مجال
أراد ، وعلى البنك أنْ يعمل طبقاً للعقد.
وفي هذه الحالة
فإنَّ مشكلة الربا منتفية رغم انتفاع صاحب رأس المال وانتفاع البنك اضافة إلى أنَّ
عتلة الاقتصاد سوف لا تبقى ساكنة بل تعتمد تجارة سليمة وصحيحة.
ينبغي الالتفات
إلى أنّه ينبغي تنفيذ العقود الشرعية. وانزالها على الورق دون العمل بها لا يغير
شيئاً من الواقع وتبقى مشكلة الربا معضلة بلا حل.
حذف الربا من
المصارف أمر ممكن بدليل أنَّ الربا كان رائجاً في صدر الإسلام وحرم بعد ظهوره رغم
ذلك لم يحصل ركود اقتصادي واشكالات من هذا القبيل.
٣ ـ حكم الايداعات
والسلف
هل يحل للناس
ايداع أموالهم في البنوك وأخذ الأرباح التي تترتب عليها؟ وما حكم السلف التي يمنحها
البنوك لزبائنه ويأخذ عليها ارباحاً نسبية؟
من المناسب قبل
الاجابة على السؤالين ان نقدم مقدمة نطرح فيها فلسفة هذا النوع من الايداع والسلف.
كثير من الناس
يملك رأس مال وصله عن طريق الارث أو العمل أو شيء من هذا القبيل ، لكن لا يستطيع
توظيف رأس المال هذا في المجال الاقتصادي ، من جانب آخر هناك الكثير ممن له طاقة
على توظيف الاموال ويحضى بقدرة ادارية جيدة مثل خريجي الجامعات من الشباب ذوي
الطاقة والحوافز الجيدة.
يأتي هنا دور
البنوك حيث يمكنها أنْ تلعب دوراً فاعلاً ، بأنْ تجمع بين رأس المال والطاقات
والكوادر ، فتأخذ الاموال من اصحابها وتسلفها للكوادر لتوظيفها في سبيل دفع عجلة
الاقتصاد وتطلب من الاخيرين ارجاع الاموال من خلال اقساط. وفي هذا المجال تنال
البنوك جزءاً من العوائد والارباح.
من جانب آخر تتمكن
البنوك أخذ رؤوس اموال فاقدي القدرة على توظيفها ، لتشترك في توظيفها واستثمارها ،
وترجع مقداراً من ارباحها إلى اصحاب روؤس الأموال.
وعليه ، إذا تمت
هذه المشاركة على أساس عقود شرعية فلا اشكال في شرعيتها.
ولأجل التحقق من
هذا الأمر نوصي بالامور التالية :
١ ـ تعليم موظفي
البنوك الاحكام والعقود الشرعية المتعلقة بالبنوك والزامهم بتنفيذ القوانين الخاصة
في هذا المجال.
٢ ـ أن يقوم
العلماء ومن له باع في الاحكام الشرعية الخاصة بالبنوك بتبيين المسائل الشرعية
الخاصة بالبنوك وايضاحها إلى الناس بلغة بسيطة ويذكروا اخطار الربا ومواقف الإسلام
الشديدة تجاهه.
٣ ـ من المناسب
أنْ توازن البنوك بين ارباح الإيداعات والسلف ، ولا ينبغي أن تكون ارباح السلف
اكثر من ارباح الايداعات. كما أنّ عليها أن تحيي السنة الحسنة للاقراض وان تخطو في
هذا المجال خطوات مؤثرة.
٤ ـ آيات أخرى عن
الربا
لأجل تكميل البحث
نشير هنا إلى ثلاث آيات تعرضت لجزئيات الربا واحكامه :
الف ـ يقول الله
في الآية ٢٧٨ من سورة البقرة :
(يَا أيُّها الَّذينَ
آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ)
إنّ بداية الآية
خطاب للمؤمنين ونهايتها مشروط بالايمان ، ومعنى حسن المطلع وحسن الختام في الآية
هو أنّ أكل الربا لا يتفق وروح الايمان وأنَّ آكل الربا ليس مؤمناً.
شأن نزول الآية
بعض الاغنياء من
المسلمين كانت لهم مطالبات ربوية ممن كانوا قد استلفوا منهم ، ومن اولئك كان
العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد. وعند ما نزلت آية تحريم الربا تساءل هؤلاء
البعض عن مصير اموالهم وأرباحها ، فنزلت الآية محددة الحكم هنا في أنَّ لهم الحق
في إرجاع أصل رأس المال دون ربحه ورباه. وقد قال الرسول صلىاللهعليهوآله عند ما نزلت آية تحريم الربا :
«ألا أنَّ كل ربا
من ربا الجاهلية موضوع وأوّل ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب» ، وهذا يكشف عن أنَّ الإسلام لا يرى قيمة للعلاقة السببية
والنسبية مقابل القوانين والضوابط.
باء ـ يقول الله
في الآية الاخرى من نفس السورة البقرة (٢٧٩) : (فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِه وإنْ تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ
أمْوَالِكُم لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ)
ينبغي الالتفات
هنا إلى أنَّ صدر الآية يشير إلى اعلان الحرب من قبل الله ورسوله لا من قبل آكلي
الربا ؛ وذلك لأنَّ (فأذنوا) تعني فاعلموا أو فأيقنوا ، إلَّا أنَّ الكلمة إذا
قرئت (فآذنوا) ـ كما قرأها البعض ، وهي قراءة غير معروفة ـ فانّ اعلان الحرب سيكون
من قبل آكلي الربا.
جيم ـ الآية ٢٨٠
من سورة البقرة : (وَإنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٌ وأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم
تَعْلَمُونَ)
أي على اصحاب رؤوس
الاموال ان يمهلوا المعسرين والمحتاجين ولا يطالبوا بأموالهم .. وإن كان حالهم
متأزم فالأفضل أن يعتبروا اموالهم صدقة بذلوها لمستحقها.
من مجموع الآيات
المذكورة يستشف أنَّ الربا عند الله اثم عظيم وخطر ، وقد استخدم له القرآن تعابير
لم يستخدمها في أيٍّ من الذنوب.
__________________
المثل العاشر :
الخَلْق المدهش لعيسى بن مريم عليهالسلام
يقول الله تعالى
في الآية ٥٩ من سورة آل عمران :
(إنَّ مَثَلَ عِيْسَى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ)
على هذه الآية ،
فإنَّ ولادة عيسى دون أب لا يدل على الوهيته.
الشرح والتفسير
يقول الله في هذه
الآية : إنَّ خَلْق عيسى عليهالسلام يشبه خَلْقْ آدم عليهالسلام في أنَّه خلق من تراب دون دخالة أب وأم في ذلك ، بل وجد
بمجرد ان قال له الله : كُن.
تحدث القرآن
المجيد في الايات ٤٥ إلى ٥٩ من سورة آل عمران عن عيسى بن مريم عليهالسلام وحكى مراحل حياته المختلفة من قبيل كيفية الولادة والتربية
ونموه وبعثته ورسالته وكراماته ومعاجزه وعروجه إلى السماء ، وقد سعى القرآن خلال
هذه الآيات أنْ يرفع الشبهة المثارة حوله.
سؤال : كيف يمكن
أنْ يولد انسان من أم فقط دون أب؟ أو كيف يمكن أو يولد إنسان من دون تركيب بين
الأسبرم والبويضة؟
هل الآية في صدد
الاجابة على هذه الشبهة ، بحيث تقول : ألم نخلق آدم دون دخالة أب؟ أي كأنها تريد
القول بأنَّ خلق آدم اصعب من خلق عيسى ؛ لأنَّ في خلق عيسى توسطت الام ، أمّا في
خلق آدم فلا واسطة ، من قبيل أُم أو أب ، فكان أصعب خلقاً من عيسى عليهالسلام.
إنَّ أفعالاً من
هذا القبيل ليست صعبة بالنسبة لله ؛ فإنَّ الله ما إن قال لشيء (كُنْ فَيَكُونُ) إنَّ الخلق عند الله لا يفرق فيه بين الصغير والكبير
والصعب والسهل.
إنَّ الله إذا
اراد أنْ يَخلق عالماً كعالمنا الحالي بمجراته ونجومه ـ الذي كشفت الاحصائيات
والاكتشافات العلمية عن سعته وعظمته ـ فإنَّه سينخلق بمجرد أنْ يأمر.
إنّ الإنسان عند
الصلاة إذا تصور امامه خالقاً بهذه القدرة والعظمة وشعر بأنَّه (لا شيء) يتحدث مع (كل
شيء) لكانت صلاته وحالاته فيها تختلف بالكامل.
قدرة الله في كلام
أمير المؤمنين عليهالسلام
تحدث الامام علي عليهالسلام في الخطبة ١٨٥ من نهج البلاغة عن قدرة الله وأشار اليها
بجمل جميلة كما نرى هنا : «لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى
الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة ألا ينظرون إلى صغير
ما خلق كيف أحكم خلقه واتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ..» ، ثم يتعرض إلى خلق
النملة وظرافة ما تحتويه هذه الخلقة.
من الحجب التي
تحول دون التفات الإنسان إلى عجيب الخلقة ، هو حجاب العادة ، وذلك لأنَّ العادة
تنسي الإنسان عظمة الشيء. فالنملة ، مثلاً ، اصبحت عادية باعتبار كثرتها وتعوّدنا
على رؤيتها ، الأمر الذي يجعل الإنسان غافلاً عن عظمة خلقها ، وهي إذا قيست مع أهم
صناعات الإنسان لاتضحت عظمتها.
إنَّ صناعة
الطائرة صناعة تعتمد تقنية متقدمة جداً ، فهي تحمل في الفضاء أناساً وسلعاً ، ولها
اجزاء مختلفة تشبه المدينة الصغيرة.
وهذه الطائرة ـ التي
تكشف عن ذورة التقنية والصناعة البشرية ـ إذا قيست بالنملة ـ التي هي من اصغر
صناعات قدرة الله اللامتناهية ـ لكانت النملة اكثر عظمة من الطائرة ؛ وذلك لأنَّ
النملة تضم كل شيء رغم جثتها الصغيرة والنحيفة ، ففيها أجهزة من قبيل : الباصرة
__________________
والسامعة والرجل
واليد وجهاز الهضم والدفع والتناسل وتعلم بهندسة بناء البيت وتهيئة الاغذية وخزنها
بشكل يحول دون فسادها و.. ويا ترى كيف يمكن لموجود صغير أن يضم هذه الاجهزة جميعها؟!
أمّا الطائرة
فاضافة إلى أنَّها تفقد الكثير من هذه الاجهزة مثل جهاز التناسل وغيره ، فهي
بنفسها غير قادرة على تحريك نفسها ، وتستعين لأجل الحركة بطاقم من التقنيين
والمهندسين.
نعم ، إن الإنسان
سيهتدي ولا يتعجب من خلق إنسان بلا أب إذا فكر في خلق الله وتدبّر فيه. ينبغي
السجود لربٍّ قادرٍ مثل هذا ، كما ينبغي الصلاة والسلام على الإنسان الكامل (الإمام
علي عليهالسلام) حيث استطاع توصيف هذه القدرة اللامتناهية وبشكل بديع
ورائع.
قصة خلق الإنسان
هناك نظريتان
رئيسيتان في خلق الإنسان :
١ ـ (تنوع الأنواع)
، يعتقد أصحاب هذه النظرية أن الإنسان خلق مستقلاً كما خلقت الحيوانات الاخرى. وقد
يُسمى هذا التصور وهذه النظرية (ثبوت الانواع).
٢ ـ (تبدّل الانواع)
، وهي النظرية المشتهرة بين علماء الطبيعة والقائلة بأنَّ الخلقة بدأت بموجود
أحادي الخلية كان يسبح في البحار ، نمى هذا الموجود بشكل تدريجي ليتبدل إلى سمكة ،
تكاثرت هذه السمكة ، ثم ألقت أمواج البحر ببيض من أفراد فصيلتها خارج البحر ،
لتتبدل تدريجياً إلى حيوانات بريّة ومنها القرد ، ثم تكاملت بعض أصناف القرد
لتتبدل إلى إنسان.
هل يمتلك أصحاب
نظرية (تبدل الانواع) أدلة قاطعة على كلامهم؟
كلا ؛ وذلك لأنّ
كلامهم يرجع إلى ملايين من السنوات الغابرة ، إلى زمن لم يكن فيه إنسان أبداً ،
إلى زمن لم تصلنا عنه معلومات دقيقة ، وما لدينا من تلك العهود هو شواهد وقرائن
أثرية جمعت من قبل منقبي الآثار.
الاختلاف بين (الفرضية)
و (القانون)
إنّ مجموعة
القضايا التي يسعها المختبر ويمكن أن تُحلل وتقع في طريق التجربة العلمية تتبدل
إلى قانون إذا ثبتت صحتها ، كالقضية القائلة بأنَّ سرعة الضوء ٠٠٠ / ٣٠٠ كيلومتر
في الثانية. أما مجموعة القواعد التي لا يمكن اخضاعها للتجربة ، ويُتمسك لأجل
إثباتها بالعقل من خلال القرائن والشواهد الموجودة فهي فرضية.
وعلى هذا ؛ فإنَّ (تبدّل
الانواع) فرضية لا قانون. ومن خصائص الفرضية أنَّها تحتمل التبدّل والتغيير والبطلان
، كالفرضية القائلة بأنَّ الإنسان قبل أربعين ألف سنة يختلف عن الإنسان الحالي ،
فإنَّ علماء الآثار وجدوا جماجم تتعلق بمليوني سنة قبل عصرنا هذا كشفت عن شباهة
الإنسان في ذلك العصر مع الإنسان الحالي ، وبهذا بطلت الفرضية السابقة.
رأي القرآن في خلق
الإنسان
إنّ نظرية (تنوّع
الانواع) هي المستفادة من القرآن المجيد ، ويبدو أنَّ القرآن يؤيد هذا الرأي وهذه
النظرية ، أمَّا (تبدّل الانواع) فلا يمكن النظر إليها كقانون ثابت يستحيل الخدش
فيه.
على أي حال ، سواء
كانت النظرية الأولى صحيحة أم الثانية ، فإنَّ تفسير الآية لا يتغير ، وحتى لو
قلنا بتبدّل الأنواع فإنَّا سنقول :
إنّ الذي استطاع
أن يخلق الموجود أحادي الخلية يستطيع أن يخلق عيسى عليهالسلام دون حاجة إلى أب وأُم. هذا اضافة إلى أنَّ العلماء عثروا
على موجودات يمكنها التكاثر دون حاجة إلى التلاقح ، وهي حيوانات تستطيع الانثى
منها التكاثر دون حاجة إلى لقاح من الذكر. وإذا كان عالم كهذا ممكناً فان ولادة
عيسى عليهالسلام لا أنّه أمر غير عجيب فحسب ، بل قد حصل ما هو أعجب منه.
المثل الحادي عشر
:
إنفاق الكفار
يقول الله في
الآية ١١٧ من سورة آل عمران :
(مَثَلُ مَا
يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا كَمَثلِ رِيْحٍ فِيْهَا صِرّ أصَابَتْ
حَرْث قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَأهْلكَتْهُ ومَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ولَكِنْ
أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
تصوير البحث
في هذه الآية
يمثّل القرآن بذل الكفار بزراعة كافر في أرض خصبة ، فهو ينثر فيها البذر ، إلَّا
أن مجيء ريح بارد وجاف يجفّف ما زرعه وأنبته هذا الكافر في هذه الأرض.
الشرح والتفسير
(مَثَلُ مَا
يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة النية أو الدافع مقدرة هنا ،
وهي توضّح هذا الجزء من الآية. وبهذا التقدير يصبح معنى الآية كالتالي : أنّ نية
هكذا إنفاق ودافعه كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ، فكما أنَّ هذا الريح يدمر
الحرث ، كذلك النية هذه فانّها تدّمر هذا الانفاق.
(كَمَثَلِ رِيْحٍ
فِيْهَا صِرٌّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم فأهْلَكَتْهُ) إنَّ مفردة الصر بالعربية
تعني ريحاً شديد
البرد ، أو ريحاً شديد الصوت.
على أي حال ،
المراد من هذه الكلمة هو الريح الشديد الذي يحرق حتى بعض الغابات الكبرى أحياناً.
وسبب هذا الحريق ـ
كما نسمع من المختصين ـ هو الصواعق والرعد والبرق ، وقد يكون هناك إعصار شديد تحتك
بسببه بعض الاشجار اليابسة ـ التي تدّخر في نفسها طاقة ـ فتتولد قدحة تشعل النار ،
فيحصل الحريق. وعلى هذا ، فإنَّ مثل انفاق الكفّار كمثل المزرعة التي تواجه ريحاً
شديدة تُضرم النار فيها.
(وَمَا ظَلَمَهُمُ
اللهُ ولكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وذلك لأنّ ما يترتب على فعلهم لم يكن ظلماً من الله بل كان
ذلك كله بسبب سوء نواياهم وعدم صدقها.
إنَّ المزارع الذي
يتعمّد الزرع في أراضٍ تقع في مسير الرياح الشديدة والباردة ، إذا تلفت زراعته إثر
هبوب الرياح فذلك ظلم أورده بنفسه على نفسه.
خطابات الآية
١ ـ المراد من
الإنفاق في آية المثل
أي نوع من الانفاق
شُبِّه بالريح الصر في الآية الشريفة؟ إنّ في ذلك احتمالات ثلاثة نشير إليها هنا.
الف ـ المراد منه
الانفاق الذي يُصرف في غير سبيل الله ، مثل الانفاق والبذل الذي كان يصدر من أبي
سفيان الكافر والمنافق ـ فهو لم يُسلم قلبياً وضلّ كافراً إلى آخر عمره ـ في سبيل
عظمة الأصنام ولأجل إسقاط الإسلام.
إنَّ القرآن
المجيد يقول : إنّ إنفاقاً من هذا القبيل مثل الأرض التي تعدُّ للزراعة ، ودوافع هؤلاء
المنفقين ـ وهي الشرك وعبادة الأصنام ـ مثل الريح الصر.
__________________
باء ـ المراد من
ذلك هو الانفاق والبذل الذي يصدر من المسلمين المترائين لأجل بناء المساجد
والحسينيات والمستشفيات والمستوصفات والجسور والطرق وما شابه ذلك ، فهي إنفاقات
ذات دوافع غير إلهية ، وتنمُّ عن دوافع مثل المباهاة وجلب رضاء الناس لأجل الفائدة
الأكبر في المستقبل. إنَّ إنفاق هؤلاء مثل الأرض الزراعية الخصبة ، ونية المنفقين
غير الخالصة مثل الريح الصر.
جيم ـ المراد منه
هو الانفاق الذي يقترن مع المنِّ والإيذاء ، فهو في الظاهر إنفاق وفي الواقع إذهاب
لماء وجه الآخرين وسلب اعتبارهم. فالإنفاق آنذاك كالأرض الزراعية ، أما المن
والأذى فبمثابة الريح الصر فأنها تُبطل الانفاق ، كما أن لها أضراراً دنيوية ،
وذلك لأنّه فقد ماله اضافة إلى انّه ارتكب ذنباً عليه عقاب.
٢ ـ الإنتقام من
كافر النعمة
يستفاد من الآية
وآيات اخرى من القرآن المجيد أن الله ينتقم في كثير من الحالات من الذين يكفرون
بنعمه ويطغون ، فيجعل النعم وسيلة لعذابهم ويبدّلها إلى نِقمٍ (أي الموت في قلب
الحياة).
كمثال على ذلك ،
الله أباد قوم نوح بواسطة المطر والطوفان ، مع أنّ المطر قطرات تمنح الحياة لمن
تصله ، وهو من أكبر نعم الله تعالى على هذا القوم.
إنّ الغيث إذا لم
ينزل ينتهي كل شيء على وجه الأرض ، فهو نعمة لكنه تبدّل إلى مصيبة على قوم نوح!
تحدّثت سورة سبأ
عن قوم سبأ ، والحكاية واقع وعبرة في نفس الوقت. إنّ هذا البلد يقع في مسير المياه
الحاصلة من المطر ، ولأجل الحدّ من أضرار الأمطار الغزيرة بنى هذا القوم سداً
ترابياً لجمع المياه الزائدة والافادة منها عند الحاجة ، وشقوا قنوات وسواقي من
هذا السدّ إلى
__________________
أراضيهم ، فأصبحت
أراضيهم بذلك قطعة من الخضار لكثرة التشجير والمزارع والبساتين ، وما كان الله
يريد من هذا القوم إلّا شكر الرب على نعمه الوافرة ، كما يصرّح القرآن بذلك في
الآية ١٥ من سورة سبأ : (كُلوا مِنْ رِزْقِ
ربّكُمْ واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبةٌ وربٌّ غَفُورٌ) لكن باعتبار أنَّ الإنسان ينسى الله عند ما يغرق في نعمه ،
فكذا قوم سبأ كانوا قد نسوا الله وأصابهم الغرور والطغيان وكفران النعمة ، وهذه من
صفات الإنسان إذا كان ضيق الصدر ، حيث ينسى كل شيء عند ما يبلغ مستوى الرخاء.
إنّ القرآن يصف
العذاب والنقمة التي أصابتهم كالتالي : (فَأَعْرَضُوا
فأرْسَلْنَا عَلَيْهِم سَيْلَ العَرِم وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَتَيْهِم جَنَّتِيْنِ
ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأثْلٍ وَشَيءٍ مِنْ سِدْرٍ قَليلٍ)
نعم ؛ إنّ كفران
النعمة هو الذي بدّل نعمة السد الترابي إلى نقمة وعذاب. وقد توفرت مقدمات العذاب ،
بعد ما أوحى الله لفئران أن تثقب السدّ ، فكان الماء يخرج من الثقوب شيئاً فشيئاً
إلى أن توسعت الثقوب لتصل إلى مستوى استطاعت أن تدمّر السدّ ، فتدفّق الماء بشدة
ودمّر قصور القوم وبساتينهم وأنعامهم ، وبدّل مزارعهم إلى أراض جرداء.
وفي النتيجة تبدّل
هذا السدّ ـ إثر إعراضهم عن الله ـ إلى عذاب ليكون عبرة لمن بعدهم ، ولكي لا يطغى
الإنسان أمام الله.
النموذج الآخر ،
هو عذاب الله الذي نزل على قوم شعيب من خلال الصيحة (كما يعبر عنها القرآن في
الآية ٩٤ من سورة هود) أو الصاعقة ، وهي من جهتين تعتبر عذاباً ، الأولى : أنَّها
تحرق كل ما تصطدم به. والثانية : أنّ أمواجها الصوتية تذهب بالسمع.
ويُذكر هنا أنَّ
هذه الصاعقة كانت نعمة لهم ؛ لأنها تسبب هطول الامطار ، تلك النعمة التي يدين لها
جميع الأحياء على الكرة الأرضية.
وحسب ما ذكر في
الآية ١٦ من سورة هود ، أنّ الاستئصال كان نتيجة طغيانهم وكفرانهم لنعم الله ،
وتبدّلت بذلك الأرض التي هي مهد الإنسان ومسكنه إلى وسيلة عذاب يتعذبون بها.
__________________
إنّ اهتزاز الأرض
دمر جميع مدنهم ، وقد أنزل الله وابلاً من الأحجار عليهم بحيث لم يبق من آثارهم
شيءٌ أبداً.
أشرنا سابقاً إلى
أن الريح من نعم الله العظمى للمزارعين ، كما أنَّه إذا لم يهب فانَّ عملية لقاح
الاشجار سوف لا تتمُّ ، كما أنَّ الهواء إذا لم يتغير فسوف يستهلك الاوكسجين فيه ،
وفي النهاية سوف لا تثمر الاشجار والنباتات من جراء ذلك.
٣ ـ فلسفة الكوارث
الطبيعية
منذ القدم كانت
المسألة التالي ذكرها أحد مسائل بحث العدل الإلهي ، وهي : إذا كان الله عادلاً فما
فلسفه الكوارث والحوادث المؤلمة من قبيل الأمراض والسيول والطوفانات والزلازل
والامطار الشديدة والاعصار المخيفة؟
هل تتلاءم هذه
الامور المؤلمة للإنسان أو المدمّرة له مع عدالة الله؟
لا نعرف التاريخ
الدقيق لطرح هذه الشبهة ، وقد يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليهالسلام. وقد دوِّنت في هذا المجال البحوث والكتب الكثيرة ، وهممنا
في كتاب (خمسين درساً عقائدياً) بالاجابة على هذه الشبهة.
وقد تصدَّى القرآن
في بعض آياته للاجابة على هذه الشبهة ، نشير إلى نماذج من تلك الآيات :
١ ـ تعتبر بعض
الآيات التنبّه واليقظة من أهداف هذه البلايا والكوارث ، كما هو كذلك في الآية ٤١
من سورة الروم : (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي
البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدِي النَّاسِ ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلوُا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
على أساس هذه
الآية ، تعدُّ الكوارث لطفاُ من الله للغافلين من الناس ، فإنَّها قد تفيق
الغافلين عن غفلتهم لعلهم يرجعون إلى الله ، مثلما ابتلى الله الناس في زماننا هذا
بمرض الايدز لكثرة فسادهم لعلهم بهذا الابتلاء يرجعون عن فسادهم وينتبهون إلى
أنفسهم ، أو مثلما يبتلي شعوب العالم حالياً بالحروب والاختلاف الطبقي الفاحش
والانقلابات والسقوط وتدمّر الحضارات البشرية وذلك لتفشي أمراض مثل أكل الربا
فيهم. فهذه الابتلاءات تحلُّ بالناس
لعلّها تنبههم
وترجعهم إلى الطريق الصواب وتفيقهم من غفلتهم هذه.
إذن ، الابتلاءات
هذه مواهب إلهية في الواقع.
ولأجل اتضاح هذه
الفلسفة بشكل أفضل التفتوا إلى هذا المثال :
نشاهد في بعض
الشوارع الطويلة والمستوية بعض العقبات والعكر تعَّمد إيجادها المعنيوّن. إذا ما
سألنا عن سبب ذلك قالوا : إن شوراع من هذا القبيل قد تؤدي إلى غفوة السائق وغفلته
الأمر الذي قد يودي ، بحياته وحياة الآخرين ، ولأجل الحيلولة دون غفوة السائق
نتعمد إيجاد هذه العكر ليبقى السائق منتبهاً دائماً.
إنّ حياة الإنسان
إذا خلت من هذه العقبات قد تؤدي إلى غفلة الإنسان وغفوته وسقوطه في الهاوية في
نهاية الأمر ، لكن وجود هذه العقبات تحول دون غفلته وتنجيه من السقوط رغم أنها
تؤذيه ولا تريحه.
٢ ـ الفلسفة
الاخرى المستفادة من الآيات هي أنَّ بعض هذه البلاءات والحوادث نتيجة عمل الإنسان
نفسه ، وبتعبير آية المثل : أنَّ الإنسان يظلم نفسه وأنَّ الله لا يظلم أحداً.
على سبيل المثال ،
الأبوان اللذان لا يكترثان بسوء أو حسن تربية الاطفال ، ولا يهتمان بتعليمهم
المسائل الدينية ، ولا يرشدونهم إلى الاماكن الدينية مثل المساجد والحسينيات ولا
يعوّدونهم على التردد على هذه الأماكن ، فان النتيجة ستكون اطفالاً غير مهذبين أو
متعاطين للمخدرات ، الأمر الذي يعود بأضراره لا على نفسيهما فحسب بل على جميع
المجتمع ، لكن يا ترى من كان السبّاق والناثر للبذرة الأولى لهذا الشذوذ وهذا
الظلم؟ لا أحد غير الأبوين.
إعتبروا
قبل مدة جاء شخص
محترم لمكتبنا لغرض دفع ما عليه من واجبات مالية ، فقضى الموظفون حاجته وأدى ما
عليه ، ثم رحل.
بعد فترة من الزمن
جاء نفس الشخص مع صديق له ، وهو يحمل معه الكثير من الهمّ والغمّ ، ورأيته يبكي ،
فسألته عن سبب بكائه؟ فأجابني : أنَّ إطفالي صادروا جميع ما جمعت من المال خلال
السنوات الماضية من عمري ، وقد طردوني من البيت ، وأنا الآن أنام في كل ليلة في
بيت
من بيوت المعارف.
ثم أشار إلى صديقه وقال : إنّ الطريق الذي سلكه صديقي كان طريقاً صحيحاً ، فهو سعى
منذ البداية في تربية أولاده وتعاليمهم والاحكام الإسلامية وأرشدهم منذ الصغر إلى
المساجد والحسينيات ، وأولاده حالياً كالعصى بيد والديهم يحترمونهما ويؤدون
واجباتهم تجاههما ، إلّا اني أخطأت منذ أن فكّرت في إرسالهم للخارج وتعليمهم
العلوم من دون الاكتراث بما قد يسيء ذلك إلى تربيتهم. وحالياً عند ما رجعوا إلينا
وجدناهم لا يفكرون إلّا بأنفسهم ومصالحهم المادية ، فلا يهتمون بشيء غير المال (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا
أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
إنّ لطف الله
ورحمته على العباد مثل الغيث الذي يهطل على الأراضي ، ففي بعضها تنبت الزهور
والنباتات ، وفي بعضها الآخر تنبت الأدغال ، والاشكال ليس في المطر بل في ذات
الأرض. كما أنه لا اشكال في أنوار الهداية الإلهيّة ، بل الاشكال في قلوب الناس.
وعلى هذا ، فإنَّ الفلسفة الاخرى لهذه الابتلاءات هي أنَّها ردود فعل لأفعالنا
نحن. بالطبع هناك فلسفات اخرى لهذه الظواهر ، نحن نكتفي هنا بالموردين السابقين.
__________________
المثل الثاني عشر
:
الكفر والإيمان
يشير الله تعالى
إلى هذا المثل في الآية ١١٢ من سورة الأنعام ، حيث يقول :
(أَوَ مَنْ كَانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلك زُيِّنِ
لِلْكَافِريِنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
تصوير البحث
في الآية مثلان
كلاهما عن الكفر والايمان. شبّه القرآن الايمان في المثل الأول بالحياة ، والكفر
بالموت. وفي المثل الثاني شبّه الله الايمان بالنور والكفر بالظلمات.
شأن نزول الآية
ذُكر شأنان لنزول
الآية :
١ ـ نزلت الآية في
حمزة العم الجليل لرسول الله صلىاللهعليهوآله وفي أبي جهل العدوّ اللدود للرسول صلىاللهعليهوآله.
إنّ حمزة لم يؤمن
في صدر الإسلام ، وقد يكون ذلك تأنياً منه لدراسة الدين الجديد بشكل افضل ، فهو في
صدر الإسلام سلك سبيل السكوت تجاه الدعوة. أما أبو جهل فكان يؤذي الرسول دائماً
بشكل وآخر وكان يضع أمام الرسول العقبات لأجل إيذائه. في يوم كان حمزة قد ذهب
للصيد ، وفي نفس اليوم كان أبو جهل قد آذى الرسول بشدة بحيث تأثر من جراء ذلك
حتى عبدة الأصنام
، وقد وصل خبر إيذاء الرسول صلىاللهعليهوآله لحمزة بعد أن قدم من الصيد ، فذهب إلى أبي جهل وضربه على
أنفه بحيث رعف أنفه دماً ، ورغم ما كان لأبي جهل من قوم وأنصار ، إلّا أنه هاب
حمزة ، ولم يصدر منه أي ردّ فعل ، وفي هذه الاثناء استسلم حمزة.
إنّ الآية نزلت
هنا ، وكأنها تريد القول : إنَّ حمزة حيى عند ما أسلم ، وبذلك تنوَّر قلبه ، عكس
ما كان عليه ابو جهل في تورّطه بالظلمات ، وأنَّ تعصبه ولجّه حال دون الخروج منها.
الكفار يعتقدون
بصحة أعمالهم ورفعة شأنها رغم أنهم يزدادون كل يوم غطساً في طين الشقاء والكفر.
٢ ـ الشأن الآخر
هو أنَّها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. إنّ عمار من الشباب الشجعان ومن أوائل
الذين أسلموا ونوروا قلوبهم بالايمان ، فهو من أنصار رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأصبح نصيراً للإمام أمير المؤمنين عليهالسلام بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله ، وقد استشهد في صفين.
عند ما أسلم هذا
الشاب ذمّه الكثير من المشركين ، منهم أبو جهل ، وقد تعرّض آنذاك لأنواع من
العذاب. ومن هنا قيل : إنَّ الآية نزلت في إيمان عمار وكفر أبي جهل ، باعتبار أنَّ
عمار قبل الإسلام كان ميتاً وحيى بعد الإسلام وتنوّر قلبه به ، أما أبو جهل فظل في
وادي الظلمات باصراره على الكفر ولجه في ذلك ، ولا أمل له في النجاح والسعادة ؛
لأنَّه كان يعتبر أعماله القبيحة حسنة.
ما هي الحياة؟
لأن نستوعب بعمق
المثل الأوّل علينا أن نفهم معنى الحياة.
رغم أن آثار
الحياة نجدها في كل مكان ، ورغم أنّه يمكننا أن نميّز الحياة عن الممات ، إلَّا
أنَّ تعريف الحياة وإدراك حقيقتها أمر مشكل ، وقد لا يوجد شخص استطاع إبداء تعريف
جامع لحقيقة الحياة.
__________________
يعتقد العلماء
أنّه لا يمكن أن يولد الحي من الميّت. ورغم ما انجزه العلماء من صناعات مدهشة
كالكامبيوتر والطاقة الذرية و... إلّا أنهم ما استطاعوا أن يخلقوا موجوداً حيّاً
من موجود ميّت.
اعتبر القرآن قبل
١٤٠٠ سنة الإنسان عاجزاً ، حيث قال في الآية ٧٣ من سورة الحج : (إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لَنْ يخلقُوا ذُبَابَاً ولو اجْتَمَعُوا لَهُ). وفي هذا العصر المليء بالاختراعات ، يعجز الإنسان عن
إدعاء الخلق فضلاً عن الخلق نفسه.
من المبادئ
التجريبية المسلمة هي أنَّ الحي لا يمكن خلقه من الميّت ، وظنُّ بعض العوام أن
الرطوبة تخلق بعض الموجودات الحيَّة فذلك ظن باطل ، كما أنَّه لا يتصور أنَّ
التفاحة بنفسها توجد الدودة التي في داخلها ، بل ينبغي أن يكون في داخل التفاحة
بيضة الدودة لكي توجد الدودة ، فلا الحيوان يوجد النبات ولا النبات يوجد الحيوان.
سؤال : في اليوم
الذي انفصلت الارض عن الشمس لم يكن موجود حىٌّ على الكرة الأرضية ، لكن الموجودات
الحية وجدت بعد ذلك. ألم يكن ذلك بسبب أنَّ الموجودات الحية تخلق من الموجودات
الجامدة؟
الجواب : نعم كانت
هناك ظروف معقدة خاصة خلقت الجمادات الموجودات الحية ، لكن هذه الظروف غير متوافرة
بالفعل ، كما لا يمكن للإنسان أن يوافر تلك الظروف.
وعلى هذا ، فانَّ
الحياة أعجب ظاهرة في عالم الوجود. والأعجب من ذلك هو خالق الحياة ، فرغم تحقيق
ودراسة الملايين من العلماء ، ما أستطاع أحد منهم كشف هذا السر ومعرفة سر الخلق!
ولهذا كانت قضية الحياة من أهم أدلة وبراهين معرفة الله.
أقسام الحياة
إن الحياة على
ثلاثة أقسام :
١ ـ الحياة
النباتية ، وعلاماتها أشياء ثلاثة :
الف ـ النمو. باء
ـ التغذية. جيم ـ التناسل.
٢ ـ الحياة
الحيوانية ، وهي حياة تضم علامتين ، هما : الحس والحركة.
٣ ـ الحياة
الإنسانية ، وهي تحضى ـ أضافة إلى الخصائص السابقة المذكورة في الحياة النباتية
والحيوانية ـ بخصائص من قبيل العلم والمعرفة والايمان والأخلاق والحب والارادة. واذا
فقدت الحياة الإنسانية الخصائص الثلاث الاخيرة تبدلت إلى حياة حيوانية. ولذا ،
اعتبر القرآن المجيد غير المسلمين موتى ؛ لأنّه ينظر إلى حياتهم من الزاوية
الدينية الإسلامية.
المراد من الحياة
في آية المثل
لا شك في أنَّ
المراد من الحياة في الآية الشريفة هو الحياة الإنسانية ، أي أنَّ حمزة أو عمار أو
أي شخص آخر يحيى إذا ما أسلم ، فتظهر فيه علائم الحياة الإنسانية ، أي العلم
والمعرفة والاخلاق والايمان والحب والارادة. ومن هنا كان امثال عمار وحمزة
والشهداء في سبيل الله أحياء أمّا أمثال أبي جهل فأموات غير أحياء.
لماذا عُدّ عرب
الجاهلية أمواتاً؟
يبحث الإمام علي عليهالسلام هذا الأمر في الخطبة رقم ٢٦ من نهج البلاغة ويقول : «إنَّ
الله بعث محمداً صلىاللهعليهوآله نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ...» ثم يذكر عشر
خصال لعرب الجاهلية.
١ ـ «وأنتم معشر
العرب على شرِّ دين» فإنَّ عبادة الأصنام هي أسوأ خرافة ، كيف يمكن للإنسان أن
ينحت صنماً ثم يسجد ويركع إليه ويناجيه ويطلب منه الطلبات؟ والأسوأ من ذلك كله هو
أنّه يضحّي بولده لهذه الأصنام ، وعند الجوع يأكل أصنامه التي صنعها من التمر.
٢ ـ «وفي شر دارٍ»
فهم كانوا في دارٍ لم يحكمها السلام أبداً ، فنار الحرب كانت مستعرة دائماً ،
وكانوا يصرون على النزاع والمخاصمة ويورثون الأحقاد لأولادهم ، وكان الموت مصير من
لم يستطع الانتقام من خصمه ، وكانوا يوصون أولادهم بالانتقام.
٣ و ٤ ـ «مُنيخون
بين حجارةٍ خُشنٍ وحيَّات صُمٍّ» أي كانوا فقراء يعيشون بين الاحجار
__________________
الصلبة والخشنة
والحيات الخطرة التي كانت صماء لا تسمع ، «فكانت الأرض فراشكم والسماء غطاءكم».
٥ ـ «تشربون الكدر»
أي ما كانوا يشربون ماءً زلالاً بل ماؤهم كان وسخاً دائماً.
٦ ـ «وتأكلون
الجشب» أي مأكولاتهم ما كانت لذيذة بل متواضعة ولا تلذ.
٧ ـ «وتسفكون
دماءكم» فان عدم الأمن والأمان كان هو الحاكم آنذاك.
٨ ـ «وتقطعون
الأرحام» فما كانوا يرحمون أولادهم فضلاً عن غيرهم ، إنّ وأد البنات كان من
عاداتهم.
٩ ـ «الأصنام فيكم
منصوبة» أي أنَّها كانت منصوبة للاحترام والتبجيل والعبادة ...
١٠ ـ «والآثام بكم
معصوبة» أي كانوا قد غرقوا في وحل الذنوب والعصيان.
من مقال الإمام
يستفاد أن الفقر كان هو السائد ، سواء كان بمعناه الديني أو الثقافي أو السياسي أو
الاقتصادي أو الأمني ... فبعث الله في هذا الوسط ـ الذي كان ميتاً بكامل معنى
الكلمة ـ رسولاً مع باقة من العلم والمعرفة.
عندها التقى عرب
الجاهلية ومسلمو صدر الإسلام مع العلم والمعرفة وما مرّ زمن طويل حتى تزعموا عالم
العلم ، ووفّروا الأرضية للحركة العلمية في اوروبا. وخلال أربعة أو خمسة قرون
استطاع المسلمون أن يرشدوا الاوربيين نحو العلم. ورغم أنَّ المسلمين تزعموا العلم
وكانوا روّاد الحركة العلمية في العالم ، إلّا أنَّهم تخلفوا حالياً عن عجلة
الصناعة والتقنية ، وهم يمدون أيديهم الآن إلى الدول الأوروبية لارسال خبراء
ومستشارين رغم ما يترك هذا الأمر من مضار أخلاقية واجتماعية ودينية.
وعلى العلماء في
الوقت الحاضر أن يشدوا الشباب بماضيهم المنير وأن يعرّفوا هذا الجيل بما أقرّ به
الاوربيون للمسلمين من علوم واختراعات وابتكارات علمية قبل النهضة الاوربية ... وبتدريسهم
هذه المطالب في الجامعات والمراكز العلمية سوف يحرّضون الشبان نحو النشاط الاكبر
والأكثر فاعلية.
آثار النور
وبركاته
لقد شُبِّه
الايمان في المثل الثاني بالنور ، والكفر بالظلمات. ولأجل اتضاح عظمة النور من
المناسب ان نشير إلى آثاره المادية وبركاته هنا :
النور هو ألطف
موجود وأسرعه في عالم المادة ؛ فإنَّ سرعته في الثانية ٠٠٠ / ٣٠٠ كيلو متر ،
وبعبارة اخرى : النور يستطيع أن يطوي الارض سبع مرات ونصف المرة في الثانية
الواحدة ، لأن قطر الأرض في خط الاستواء هو ٤٠ الف كيلوا متر ، واذا قسمنا ٠٠٠ /
٣٠٠ على ٠٠٠ / ٤٠ فان الناتج سيكون سبعة ونصف.
إنَّ بركات عالم
المادة جميعها من النور ، وذلك لأنَّ بواسطته تُقتل الميكروبات المضرّة وتُعالج
بعض الامراض ، وببركته يدفء الجو ، وببركته تتنوّر الأرض ، وببركته تنزل نعمة
المطر الالهية.
في الإسلام
والايمان إضاءة كما في النور. إنَّ حمزة وعمار كانوا أمواتاً قبل الإسلام ، كما هو
حال عرب الجاهلية أجمع ، ثمّ تنوّروا بعد إيمانهم ، وأحيا هذا النور وجودهم
وقلوبهم ، وقد سلكوا طريق الحق والحقيقة بواسطة هذا النور ، وطبيعي أن يختلف صاحب
هذا النور عمن لا يمتلكه.
نور الفرقان
الآية التالية (٢٩
من سورة الأنفال) من الآيات ذات المحتوى والمعنى العميق التي نزلت في هذا المجال :
(يَا أَيُّها الَّذِيْنَ
آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللهَ يَجْعَلُ لَكُمْ فُرْقَاناً)
الفرقان لغوياً
يعني ما يميز به الحق عن الباطل. والآية تعني أنَّ الإنسان إذا اتقى الله ، فالله
يلقي في قلبه نوراً يستطيع الإنسان من خلاله أنْ يميز الحق عن الباطل. ولهذا قد
يحصل أن يكون بين الناس العوام اشخاص يحملون هذا النور ويعلمون بواقع الأمر رغم
اكتناف الواقع بملابسات وغموض بحيث يعلمون بالمنشأ والأهداف. إنَّ أصحاب هذا النور
لا يقعون في فخ الشيطان ولا يكونون آلة بيده ، كما لا يتورطون بشباك المحتالين ؛
وذلك لأن نور الفرقان يكشف لهم عمّا غمض ويهديهم إلى الصواب ، لذا قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «المؤمن ينظر بنور الله».
__________________
التقوى ثمرة الصوم
والفرقان ثمرة التقوى
شهر رمضان شهر
التقوى والنور ، والإنسان يحصل بالصوم على تقوى أكثر إلى مستوى تتجذر فيه نبتة التقوى
(لعلكم تتقون). وعليه ، فالتقوى ثمرة الصوم ونتيجته ، وعلى أساس الآية الشريفة ،
إنَّ الفرقان هو ثمرة التقوى.
ومن المناسب في
هذه الليالي والأيام المباركة وبخاصة عند الاسحار أنْ نرفع أيدينا إلى السماء خشية
وتضرّعاً سائلين الله التقوى والفرقان (اللهم آمين).
الأعمال القبيحة
تبدو حسنة في نظر الكفار
يقول الله في
نهاية الآية الشريفة : (زُيِّنَ
لِلكَافِرِيْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ وذلك لأنَّ حب الذات والهوى والأنانية والغرور تجعل
الإنسان في غفلة عن أعماله القبيحة وتتزيّن له الأعمال القبيحة ، بحيث تبدو جميلة
وحسنة.
المثل الثالث عشر
:
شرح الصدر
يقول الله تعالى
في المثل الثالث عشر من أمثال القرآن في الآية ١٢٥ من سورة الأنعام :
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أنْ يَهْديَهُ يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلأسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجَاً كَأنّمَا يَصَّعَّدُ فِي السِّمَاء كَذَلك
يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الّذِين لَا يُؤمِنُونَ)
تصوير البحث
إنَّ الآية
الشريفة في صدد بيان الأرضيات الروحية للناس لقبول الحق. والمستفاد من هذه الآية ،
أنَّ الناس يختلفون من هذه الحيثية ، فبعض من الناس بمجرد أن يواجه الإسلام يتلقاه
ويحتضنه ؛ وذلك لطهارة روحه ونورانية قلبه ، ولأجل ذلك يشرح الله صدوره. وفي قبال
هذا البعض ، هناك البعض الذي لا يتأثر بالقرآن حتى لو قرأته كله عليه ؛ وذلك لأنه
يفقد الأرضية اللازمة لقبول الحق ، فيجعل الله صدر هذا ضيّقاً ومظلماً.
الشرح والتفسير
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَح صَدْرَهُ للأِسْلَامِ) والعبارة الاخرى لشرح الصدر هي توسيعه بحيث يجعله مؤهلاً
وقابلاً لاستقطاب الحق والحقيقية.
(وَمَنْ يُرِدْ أنْ
يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً) والعبارة الاخرى لضيق الصدر هي سلب القدرة والطاقة عن
القلب بحيث يختل توازنه الفكري لأصغر مشكلة وأتفهها.
(كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّماءِ ...) أي أنَّ ضيق الصدر يصل إلى مستوى وكأنه يحلق إلى السماء
بدون وسيلة ، كما أنّ تحليقاً من هذا النوع محال بالنسبة إلى الإنسان ، كذلك تحّمل
الضيق والظلمة بالنسبة لهؤلاء ، فهم لا يطيقون ذلك. إنَّ الله يجعل هكذا ظلمة وكفر
في قلوب غير المؤمنين.
خطابات الآية
١ ـ الهداية
والضلالة بيد الله
إنّ المفهوم الذي
يتطابق مع ظاهر الآية هو أنَّ الهداية والضلالة بيد الله ، وهذا لا يعني إلّا
الجبر. ففي هذه الحالة يُعدُّ الإسلام والكفر أمرين غير اختياريين ، لكن قبول هذا
ـ حسب عقيدتنا ـ يتنافى مع عدالة الله.
ومن هنا كان علينا
أن نقدم مقدمة نوضح فيها الأمر :
من الفرق
الإسلامية ـ التي لا تنهل من المنبع الزلال للولاية والامامة ـ فرقة تقول بالجبر
وتعتقد أنَّ الإنسان مسلوب الإختيار. إنَّ الإعتقاد بهذا المذهب ـ المخالف لمذهب
الشيعة ـ يتساوى مع انكار اصول الدين الخمسة.
إنّ أول أصل يغض
النظر عنه هذا المذهب هو أصل العدل الإلهي ، فإنَّ الإنسان اذا كان مُجبراً على
أعماله فعذاب الكافر وثواب المؤمن ليسا من العدالة ؛ لأنّه لا الكافر اختار الكفر
، ولا المؤمن اختار الايمان. ولهذا لم يقل بعدل الله من قال بالجبر.
إنَّ التوحيد هو
الأصل الثاني الذي ينفى بالاعتقاد بالجبر ؛ وذلك لأنَّ الله إذا لم يكن عادلاً فهو
ليس أهلاً لادارة وتدبير هذا العالم الواسع الذي يُدار على أساس النظم والحكمة.
من هنا كان إرسال
الرُسُل وبعثة الأنبياء خالياً من أي معنى وتبرير ؛ فإنَّ الانبياء لا قدرة لهم
على هداية الكفار وذلك لأنَّهم مسلوبو الإختيار ، كما أنّه لا تأثير للأنبياء على
إيمان المؤمنين ، فإنَّ الجَبْر يحول دون انحرافهم ، وبعبارة أُخرى : أنّ الأوّل
محال ، والثاني تحصيل حاصل ، وكلاهما غير ممكنين من وجهة نظر فلسفية.
الإمامة ـ التي هي
استمرار للنبوة ـ تبطل للسبب السابق. وآخر أصل يبطل بالجبر هو
أصل المعاد ؛
فإنَّ المعاد يبتني على الاختيار. وعليه ، إذا كان الناس جميعهم مجبورين ومسلوبي
الاختيار فإنَّ الجزاء والجنة وجهنم والقيامة والمعاد كلها تكون مفاهيم دون معانٍ.
وفي النهاية ، لا
يمكننا أنْ نكون مسلمين بالاعتقاد بالجبر ، كما لا يمكننا على أساسه قبول أصول
الدين ولهذا على الشيعة أن تشكر الله على أنَّه لم يوقعها ـ ببركة الائمة المعصومين
عليهمالسلام ـ في وادي الجبر المظلم ، كما لم يتركها تتسيب في صحراء
التفويض المظلمة ، بل سلك الله بالشيعة طريقاً بين المذهبين المنحرفين ، وهو طريق
الحق المستقيم والواضح.
إنَّ ما تدل عليه
الآية هو : أنَّ الخطوة الأولى للهداية والضلالة يخطوها الإنسان نفسه ، فاذا كانت
هذه الخطوة باتجاه الهداية ، فإنَّه سيكون مشمولاً للهداية الربانية ، وإذا كانت
هذه الخطوة باتجاه الضلالة فإنَّه سيكون مشمولاً للضلالة الربانية. سلمان الفارسي
ـ مثلَاً ـ تحرك من إيران وخطى باتجاه منبع الهدى ، وتحمّل في هذا السبيل المشاكل
إلى مستوى أنّه أُخذ رقاً ، لكن باعتبار أنّ خطاه الأولى كانت باتجاه الهداية ،
شملته هداية الله وشرح الله صدره ونال ما نال من جرّاء ذلك.
أما أبو جهل وأبو
لهب فرغم أنَّهما كانا بجنب منبع الهدى ، إلَّا أنَّ خطاهما الأولى كانت باتجاه
العناد والعداوة ، أي اختارا طريق الضلالة تبعاً للشيطان وأغلقا أعينهما وأسماعهما
للحيلولة دون رؤية أو سماع الحق ونداءه ، لذا شملتهما ضلالة الله وضيّق الله
صدورهما وأظلمها.
وعلى هذا ، فإنَّ
الهداية والضلالة نتيجة لخطى الإنسان الأولى ، والآية الشريفة كغيرها من الآيات لا
تتنافى مع اختيار الانسان.
٢ ـ الاعجاز
العلمي للقرآن في آية المثل
رغم أنَّ
المُفسرين يعتبرون جملة (كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّماءِ) كناية عن الأمر المحال وغير
__________________
الممكن ، إلّا
أنَّه باعتبار التقدّم الملحوظ في العلوم البشرية وامكانية الوصول إلى الفضاء ،
يمكن ذكر تفسير آخر لهذه الجملة يكشف عن إعجاز علمي للقرآن المجيد.
يحيط الكرة
الأرضية وإلى ارتفاع ٣٠ كيلومتراً مقدار من غاز الاوكسجين ، والذين يفيدون من هذا
الاوكسجين من الموجودات الحية يفيدون من المقدار الموجود إلى ارتفاع كيلومترات
محدودة ، اما الموجود في الفضاء المرتفع فالإفادة منه صعب للغاية ، بحيث بالنسبة
للإنسان كلّما ارتفع عن سطح الأرض كلّما صعب عليه التنفّس وضاق.
ولأجل ذلك قد
يبتلي متسلقو الجبال بمشاكل عسر التنفس إذا ما ما تسلقوا جبالاً عالية ، أي بلغوا
مستوى يصعب بعده جذب الاوكسجين في البدن ، الأمر الذي قد يؤدي بهم إلى الغيبوبة ،
والموت بعضاً ما.
ولنفس السبب
تُجهَّز الطائرات بمعدات لتنظيم مقدار الاوكسجين في الطائرة عند التحليق في اماكن
مرتفعة ، واذا اختل عمل أجهزة الهواء في الطائرة يضطر المسافرون للبس الاقنعة
الخاصة التي تمدّهم بالاوكسجين والتي أعدت للحظات من هذا القبيل ، واذا تعسر
الافادة من ذلك تضطر الطائرة للتحليق في ارتفاعات أدنى للحفاظ على حياة المسافرين.
في الوقت الذي
نزلت فيه الآية لم يكن الإنسان على علم بهذه القضية العلمية إلَّا أنَّ القرآن
المجيد في ذلك الزمان (١٤٠٠ سنة قبل) كشف عن هذا اللغز العلمي وقال بعدم امكان
الافادة من الهواء في الفضاءات المرتفعة ، وشبَّه الضالين بأولئك الذين يريدون التنفس
في تلك الفضاءات.
٣ ـ شرح الصدر
عند ما بلغ النبيّ
موسى عليهالسلام مقام النبوة ، طلب من الله عدة أشياء ، منها : شرح الصدر
حيث جاء : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي ...)
__________________
نال الرسول صلىاللهعليهوآله هذه النعمة الإلهيّة العظمى دون أن يطلبها من الله : (ألَمْ نَشْرَح لك صَدْرَكَ)
ما معنى شرح الصدر
باقتضاب؟
لا يعني الصدر ذلك
القسم العلوي من البدن ، بل يعني الروح والفكر. وعلى هذا ، فشرح الصدر يعني الروح
المنفتحة والفكر المنفتح ، أي منشرح الصدر هو صاحب الفكر العميق والصبر والتأني
الفكري والروحي بحيث لا يتزلزل أمام أبسط الحوادث أو أشدها. ولهذا كان شرح الصدر
أحد أهم مستلزمات الترقي والتعالي نحو الله تعالى.
الرسول صلىاللهعليهوآله وجاره اليهودي
كان للرسول صلىاللهعليهوآله جار يهودي يلقي فضلات بيته وجمر ناره على الرسول عند مروره
من بيته ، وكان يمارس هذا العمل يومياً ، وفي يوم مرّ الرسول من بيت اليهودي ولم
يواجه الظاهرة اليومية التي كانت تصدر من اليهودي ، فسأل الرسول أصحابه؟ فأجابوه
بأنه مريض ، فذهب الرسول لعيادته ، وطرق الباب وكانت إمرأته خلف الباب فسالته عمّا
يريد فأجابها أن الهدف هو العيادة ففتحت له الباب ، وكان سلام الرسول صلىاللهعليهوآله وتحياته لليهودي تبدو وكأنَّ اليهودي لم يكن من المؤذين
للرسول يومياً.
عند ما شاهد
اليهودي هذه المعاملة من الرسول سأله عمّا إذا كانت هذه الاخلاق من صلب الدين الذي
يدعو له؟ فاجابه بالايجاب.
ونجد الكثير من
هذه النماذج في سيرة الرسل والأئمة وعلماء الدين.
على سبيل المثال ،
كتب شخص في شيراز رسالة إلى أحد علماء تلك المدينة يهجره ويشهّر به فيها ، فيرى
العالم ذلك الشخص الكاتب في الغد ويقول له : (لقد رميت الرسالة التي كتبتها لي يبدو أنك تعاني من مشكلة مالية ، فخذ هذا المبلغ لعلَّ
مشاكلك تُحل به).
__________________
ففرح كاتب الرسالة
وكان يقول مع نفسه (كان خيراً أن السيد لم يقرأ رسالتي).
على المسلم أن
يتأسَّى بالرسول صلىاللهعليهوآله وأن يشرح صدره ويوسع فيه ، وأن تكون همّته أرفع من أن
يتنازل ويضعف أمام المشاكل ؛ بل عليه أن يتحمّل ولا يكفر بالنعم لكل مشكلة يواجهها
ولو كانت صغيرة ، وما عليه أن يحقد ويسعى للإنتقام.
إلهي ببركة هذا
الشهر (رمضان) اشرح صدورنا ووفقنا جميعاً لتحمل ما لا نستسيغه.
المثل الرابع عشر
:
المبدأ والمعاد
يقول الله تعالى
في المثل الرابع عشر من امثال القرآن الجميلة في الآية ٥٧ من سورة الأعراف :
(هُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَي رَحْمِتِه حَتَّى إذَا أقَلَّتْ
سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاه لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فأنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ
فأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلّ الثَمَرَاتِ كَذلك نُخْرِجُ المَوتَى لَعَلَّكُم
تَذَكّرُونَ)
تصوير البحث
جاءتنا الآية
بخطابين مصيريين ، هما صدر الآية الذي تضمّن التوحيد ومعرفة الخالق وببرهان مقنع
على المبدأ ، وذيل الآية الذي تضمّن مثلاً جميلاً أشار به إلى عالم الآخرة
والمعاد.
أهمية المبدأ
والمعاد
إن المبدأ والمعاد
من المسائل المهمة جداً والتي طرحت في القرآن بشكل واسع بحيث اختص ما يقرب الالفين
من الآيات (أي ثلثا القرآن) بالمعاد ، كما أن ثلث الآيات اختصت بموضوع المبدأ.
وهذا الأمر يكشف عن أهمية المبدأ والمعاد.
إنّ القضايا التي
تناولتها الآيات هي من قبيل العدل الإلهي والجنة والنار ، ودفتر الاعمال وتجسّم
الأعمال والمعاد الجسماني وثمار الجنة وغير ذلك. وسر الاهتمام البالغ بالمعاد واضح
، من حيث أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يقع في طريق السعادة ولا يمكنه أن يخطو في هذا
الطريق إلَّا أنْ
يكون معتقداً
بالأصلين المهمين ، الأول : هو المبدأ أو التوحيد والثاني : هو المعاد أو رجوع
الإنسان إلى الله.
إنّ الإعتقاد
بالله يعلِّم الإنسان أنَّ الله يراقبه في كل زمان ومكان (وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ) والاعتقاد بالمعاد يعلِّم الإنسان أنَّ الله لا يخفى عليه
شيء وهو عالم بأعمال الإنسان جميعاً (عَلِيْمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ) ، «يَعْلَمُ
خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورَ».
وحسب ما جاء في
الآيات ، يُدرس سجل الإنسان يوم القيامة في محكمة العدل الإلهي ، وهي محكمة لا
يمكن إغواء القاضي فيها كما لا يمكن انكار شهودها ، فقد جاء في الآية الشريفة :
(فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرَّاً يَرَه) ، كما جاء في الآية الشريفة التالية : (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرةً
إلّا أحصَيها) فالإنسان مسؤول على جميع أعماله ولو كانت صغيرة جداً.
إنّ الإلتفات إلى
الاصلين يجعلان من الإنسان أن يعتبر الله ناظراً على أعماله ، الأمر الذي يحول دون
ارتكابه المعصية. كما أنّ الغفلة عن ذلك يترك للشيطان فجوة ينفذ من خلالها ، كما
قالت ذلك الآية الكريمة : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِيْنٌ)
المعاد الجسماني
والمعاد الروحاني
المعاد من وجهة
نظر القرآن جسماني وروحاني ، أي أنَّ جسم الإنسان يحشر يوم القيامة كما تحشر روحه.
وبعبارة أُخرى : أنَّ روح الإنسان تكون مشمولة لنعم الله ونقمه ، كما هو الحال
بالنسبة إلى جسمه ، وذلك هو مقتضى العدل الالهي ، فكما أنَّ الإنسان بجسمه وروحه
عمل خيراً أو شراً ، ففي القيامة ينبغي أن ينال كلٌّ من الروح والجسم نصيبه وجزاءه
من العمل
__________________
الدنيوي من ثواب
أو عقاب.
إنَّ ما أثار دهشة
وإعجاب منكري المعاد في صدر الإسلام هو القول بالمعاد الجسماني لا الروحاني ؛ وذلك
لأنَّ عقل أكثر الناس في عيونهم فيصدقون ما يرون ويكذبون ما لم يروا. من هنا كان
يسأل منكرو المعاد : كيف يمكن أن يحيى الإنسان بعد ما تبدل إلى تراب بعد الموت بحيث
يتعذّب يوم القيامة؟ فأجابهم الله على شبهتهم هذه في الآيتين ٧ و ٨ من سورة سبأ
حيث قال : (قَالَ الَّذينَ
كَفَرُوا هَلْ نُدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أمْ بِهِ
جنّةٌ بَلِ الَّذينَ لَا يُؤمِنُونَ بالآخِرةِ فِي العَذَابِ والضَّلالِ
البَعِيْدِ)
لقد تمسك القرآن
المجيد بالمثل لاثبات المعاد الجسماني والروحاني ، كما هي سيرته في تفهيم المطالب
لمخاطبيه. وقد أفاد هنا من ثلاثة أمثال :
١ ـ التمثيل
بالنباتات وتشبيه الحياة بعد الموت بإحياء النباتات بعد موتها.
٢ ـ التمثيل
بالمراحل الجنينية لخلق الإنسان حيث تبدأ حياته بنطفة صغيرة تنمو كل يوم ، ويُعدُّ
كل يوم من هذه المراحل حياة جديدة لهذا الجنين.
٣ ـ التمثيل بنوم
أصحاب الكهف ، فإنَّ نومهم كان بمثابة الموت ، ويقظتهم كانت بمثابة الحياة الجديدة
بعد سنوات عديدة.
كيف يمكن لشخص أن
يستيقظ من النوم سالماً بعد أكثر من ثلاثمائة سنة دون أن يأكل أو يشرب خلال هذه
الفترة؟
حسب ما أقرته
الآية ، انَّ أصحاب الكهف ناموا مدّة مليون يوماً ، وخلال هذه الفترة لم يتناولوا
شيئاً من الطعام أو الماء رغم هذا استيقظوا سالمين ، مع أنَّ الإنسان العادي لا
يستطيع العيش لأكثر من يومين أو ثلاثة دون أكل وشرب.
من عجائب خلق
الإنسان هو قلبه ، فان ضرباته تصل إلى مأة الف ضربة في اليوم. وإذا
__________________
اعتبرنا عمر
الإنسان العادي سبعين عاماً ، فإنَّ عدد ضربات قلبه ستصل إلى ٢٥٠ مليون ضربة (عَجَباً
لِحِكْمَةِ اللهِ)!
إنَّ قلب الإنسان
كافٍ لأجل معرفة الله ولأن يقرّ الإنسان بعظمة الخالق ويخضع له ...
وعليه ، فاذا كانت
أجسام أصحاب الكهف تعيش بالأغذية التي تناولتها قبل النوم ولمدة مليون يوماً ،
فإنَّ على قلوبهم أن لا تدق في اليوم الواحد أكثر من مرّة واحدة. وعلى هذا ، فإنَّ
أصحاب الكهف كانوا أشبه ما يكونون بالموتى ، أحياهم الله بعد أكثر من ثلاث مأة
عام. واذا كان الله قادراً على أن يوقظ أناساً بعد مليون يوم من النوم ، فكيف لا
يمكنه أن يُحيي الموتى!
لهذا يصرّح الله
في ذيل آية أصحاب الكهف بالحديث التالي : (وَلِيَعْلَمُوا أنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ)
الشرح والتفسير
إنّ الآية إحدى
الآيات الثلاث التي شبهت المعاد بإحياء النباتات (هُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ ...) أي أنَّ الله يُرْسِله كبشرى لنزول الغيث ؛ وذلك لأن
السماء تتهيّأ للمطر بواسطة الرياح.
(حتَّى إذَا أقَلّتْ
سَحَاباً ثِقَالاً ...) أي تستمر الرياح حتى تجتمع الغيوم ويتراكم فيها الماء.
إنّ الله يُرسل
الرياح ليجمع بها الغيوم الممطرة في المدن والبلاد الميتة فيحييها ويحيي أراضيها.
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ...) فإنَّ المَطر هو الذي يثمر الاشجار ويمنحها القدرة على
انتاج الفواكه.
(كَذَلك نُخْرِجُ
المَوْتَى لَعلَّكُم تَذكَّرُون) أي أنَّ الله يحيي الموتى يوم القيامة مثلما يحيي الأشجار
والاراضي الميتة. وفي نهاية الآية يعتبر الله التذكّر وتوعية الناس هو فلسفة
المثل.
__________________
فواكه مختلفة من
ماء وهواء وتراب واحد
كما قلنا سابقاً :
إنَّ التعود من حجب المعرفة الإنسانية ، فالإنسان عند ما يتعوّد على شيء سوف لا
يفكر في ماهيته وسبر غوره ، وهذا حجاب عظيم. ومن هنا كان إنبات النباتات المتنوعة
وإثمار الاشجار المتنوّعة من عجائب الطبيعة. فإنَّ هذا من مظاهر قدرة الله تعالى
حيث تنبت من تراب وماء وهواء واحد ثمار وزهور متنوّعة بألوان مختلفة وطعم متفاوت.
وهذا يدعو الإنسان
أن لا يتعجّب من إحياء الإنسان يوم القيامة.
لقد خلق من هذه
الارض الواحدة أصناف عديدة من البشر منهم الصالحون والأنبياء والائمّة والشهداء ،
ومنهم الفجرة والوضيعون مثل الفراعنة والنماردة ومعاوية وصدام و...
فكل هؤلاء مبعوثون
من هذه الأرض الواحدة. إنَّ الإنسان من خلال مشاهدته لهذه الظواهر يرى لقطات من
المعاد وتتكرّر عنده هذه اللقطات كل يوم إلى حين الممات. والعجيب أنَّ السماء تمطر
في يوم البعث ، وذلك المطر يحيي من في القبور جميعاً.
القانون الكلي
الذي يستفاد من الآية الشريفة هو أنَّ مبادىء الموت والحياة واحدة في جميع
المخلوقات الحية ، فكما أنَّ هناك حياة بعد ممات في النباتات كذلك بالنسبة إلى
الإنسان.
سؤال : في عالم
النبات نتمكن من إعادة حياة نبات ما من خلال زرع بذوره ، اما في عالم الإنسان
فالأمر يختلف من حيث انه إذا مات يتبدل إلى تراب ، فكيف يمكن إعادته من تراب؟
الجواب : إنّ
الحياة الثانية للنبات ليست من خلال البذور دائماً ، بل قد تكون حياة وموت النبات
شبيهة بحياة الإنسان وموته ، فقد تصفرّ أوراق الاشجار في الخريف وتسقط ، وبعد مدة
تصبح تراباً تمتصها جذور الشجرة لترجع ورقة من جديد وهذا ما يحصل في الربيع ،
وبهذا تحيى الورقة الميتة مرة أخرى رغم أنّها ماتت بالكامل وتبدلت إلى تراب ،
فالانسان كذلك يموت بالكامل ويُبعث مرة أُخرى.
وعلى هذا ،
فالإنسان يرى ـ كل عام ـ المعاد بعينه ، لكنه يغفل عن أنَّ الله القادر على إحياء
النبات بعد موته قادر على إحياء الإنسان الميت.
__________________
آثار المعاد
إنّ الاعتقاد
بالمعاد يعلّم الإنسان الخضوع والتسليم إلى الحق ، وأنْ لا يظلم ولا يخون ، وهذا
ما نراه منعكساً في كلام جميل لمولى المتقين الإمام علي عليهالسلام في الخطبة ٢٢٤ من نهج البلاغة يخاطب به أخاه عقيل : «والله
لأنْ أبيت على حسك السّعدان مسهداً ، أو أجرَّ في الأغلالٍ مصفّداً ، أحب إلىَّ من أن
ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد».
أي أنَّ المبيت
على أشواك نبات السعدان أو الجرّ بالأغلال والسلاسل في النهار أحبُّ لعلي من أن
يلاقي الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لبعض عباد الله.
هل من المحتمل
صدور ظلم من هكذا زعيم عارف بالمبدأ والمعاد ومتيقن بهما؟! هل يحتمل صدور تمييز من
حاكم كهذا؟ هل يقبل أو يتحمّل هكذا رئيس أقل خطأ من حواشيه؟!
قطعاً جواب هذه
الأسئلة هو النفي ، فإنَّ إنساناً كهذا يعتقد بيوم القيامة والمعاد يعظّم الذنب
ولو كان صغيراً ، فلا يرتكبه.
وينقل من خلال
الخطبة ذاتها قصتين ذات عبرة عن أخيه عقيل والمنافق الأشعث بن قيس ، وفي القصتين
آثار الاعتقاد بالمعاد واضحة وجلية.
__________________
المثل الخامس عشر
:
البلد الطيّب
يقول الله في مثله
الخامس العشر ، في الآية ٥٨ من سورة الاعراف :
(وَالبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذْنِ رَبِّهِ وَالّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا
نَكِداً كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)
تصوير البحث
إنَّ هَذه الآية
الشريفة التي جاءت مباشرة بعد المثل الرابع عشر هي في الواقع استمرار لبحث المعاد
وجواب عن سؤال مقدّر قد تتداعى معانيه في أذهان البعض ، وسنأتي به في الصفحات
المقبلة.
إشارة للمثل
السابق
في المثل الرابع
عشر (الآية ٥٧ من سورة الاعراف) جاء القرآن في بيان جميل ببرهان على المبدأ وأصل
التوحيد ، كما استدل على المعاد وعالم الاخرة.
إنّ حركة الرياح
واجتماع الغيوم الثقيلة ونزول المطر وإحياء الأرض بعد مماتها ، وتوفّر الثمار
المتنوّعة والأزهار والنباتات والاشجار المختلفة كلها أدلة قاطعة على التوحيد ،
وهي أدلة لو لم يكن غيرها لكانت كافية في إثبات المراد.
مِمَّا لا شك فيه
أنَّ آثار موت تبدو على البستان كله بحلول فصل الشتاء بحيث تصبح
الاشجار وكأنها
مهمومة وجرداء من الروح ، لكن بعد فترة من الزمن أي بعد حلول فصل الربيع تبدأ
الحياة الجديدة تنبض في البستان ، فتخضرّ الاشجار وتتفتح الزهور وتنمو النباتات
المختلفة وتثمر الاشجار فواكه حامضة وحلوة بألوان متنوّعة بحيث تضفي طراوة على روح
الإنسان.
هذه الطبيعة
المدهشة دليل قاطع على وجود الله القادر المطلق ، واذا ما فكّر الإنسان بورقة
خضراء فقط لكان ذلك كافياً لمعرفة الحق.
إنَّ هذه الورقة ـ
كما يقول العلماء ـ إذا قصت من العرض فيبدو فيها سبع طبقات ، كل طبقة منها تحضى
ببناء خاص ومهام خاصة ، إذا دققنا قليلاً نجد خطوطاً رَفِيعة على هذه الورقة
الظريفة وكأنها تشبه تأسيسات الماء في مدينة ، وهي تتكفل بايصال الأغذية والماء
إلى الاقسام المختلفة من الورقة. مَن الذي خلق هذه الطبقات الظريفة والجميلة؟! يا
له من خالق حكيم صمَّم هذه الشبكة العظيمة والدقيقة. إنَّ الورقة وما فيها يُعدُّ
كتاباً لمعرفة الخالق لمن كان أهلاً للعلم المعرفة.
إذن ، صدر الآية
يدل على التوحيد ، أما ذيلها (كَذِلك نُخْرِجُ
المَوْتَى) فيدل على مسألة المعاد ويرشدنا إليها.
الشرح والتفسير
كما قلنا سابقاً :
إنّ الآية الشريفة جواب لسؤال مقدّر يمكن أن يتداعى في ذهن الذي يلتفت إلى الآية
السابقة ، وهو : إذا كان الماء واحداً والهواء واحداً والتراب واحداً فلما ذا تنبت
الزهور والنباتات في بعض البقاع ، وتنبت الأدغال والأشواك في البعض الآخر؟ وإذا
كان وابل الرحمة الإلهية يصبُّ على القلوب جميعاً بشكل متساوٍ ، فكيف أنَّ بعض
القلوب تهتدي وتكون مصداقاً للبلد الطيّب وبعضها الآخر يكون مصداقاً للبلد الخبيث
؛ لأنها ظلّت ولم تهتدِ؟
إنّ الآية في صدد
الأجابة على هذا السؤال ، حيث تقول : (وَالبَلَدُ
الطَّيِّبَ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بإذنِ رَبِّهِ) فإنَّ التربة الطاهرة وغير المالحة تكون مناسبة ولائقة
وتُخرج باذن الله نباتات مناسبة وجيّدة ، كذلك القلوب المستعدة والطاهرة ينمو فيها
الثمار الحلو من الاخلاص والصفاء ، ذلك كله بوحي من الله.
(والَّذي خَبُثَ لا
يَخْرِجُ إلَّا نَكِداً) فإنَّ الأرض غير المناسبة لا تنبت إلّا النكد. والنكد يعني
الإنسان البخيل ، ويُطلق على النباتات غير المفيدة التي تنمو في الأراضي المالحة.
فكما أنَّ البخيل لا يصل نفعه إلى غيره ، كذلك الأراضي المالحة لا يخرج منها الشيء
المفيد ولا ينتفع بها أحد.
(كَذَلك نُصَرِّفُ
الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي أنا نبيّن آيات الله للناس بعبارات وأمثله بسيطة
ليستفيدوا منها ويشكروا ربّهم عليها. وعلى هذا ، فلا اشكال على وابل الرحمة
الإلهيّة ولا على الوحي السماوي ؛ وذلك لأنَّ هذين الرحمتين تنزلان على القلوب
كلها بشكل متساوٍ ، واذا كان هناك قصور أو تقصير فمن نفس القلوب والأراضي ذاتها ،
فإنَّ بعض الأراضي غير مستعدة وغير مؤهّلة لنمّو النباتات فتنمو فيها الأشواك
والأدغال فحسب ، كذلك بعض القلوب فإنَّها غير مؤهلة للهداية وترى نفسها في غنى عن
الوحي الإلهي.
لِمَن هذا المثل؟
هناك بحث في هذا
المجال بين المفسرين ، فالكثير منهم يعتقد أنَّ الآية جاءت في الكفار والمؤمنين ،
أي شُبِّه الوحي الإلهي هنا بالغيث ، باعتباره ينزل على جميع القلوب ، لكن لا يفيد
منه إلّا ذلك البعض الذي يكون مصداقاً للبلد الطيّب ، أي يحضى بقلب طاهر ، وتكون
ثمار هذه الاراضي الطاهرة هي الاخلاق الحسنة والايمان القوي والشوق إلى أولياء
الله ، والاخلاص في العمل ، والعمل بما تستدعيه الوظيفة و... وفي مقابل هؤلاء هم
الكفّار الذين قلوبهم تشبه الأراضي الملوّثة التي لا تستفيد من المطر شيئاً.
خطابات الآية
١ ـ فاعلية الفاعل
وقابلية القابل كلاهما ضروريان
إنَّ الآية
الشريفة وكذا آيات أخرى تشير إلى مطلب مهم ، وهو : ضرورة توافر شيئين لبلوغ الكمال
:
الف ـ فاعلية
الفاعل.
باء ـ قابلية
القابل.
لأجل بلوغ الكمال
والرقي ينبغي توافر العوامل كما ينبغي توفير الأرضية. وعلى هذا ، ففاعلية الفاعل (الغيث)
ليس كافياً ، بل ينبغي أنْ يَكُون القابل قابلاً (استعداد الأرض وشأنها) فإنَّ
المطر لو هطل مدة مأة عام على الأرض المالحة لما أنبتت هذه الأرض ولا زهرة واحدة.
إنَّ الرسول صلىاللهعليهوآله كما دعى سلمان وأبا ذر والمسلمين الآخرين للإسلام كذلك دعى
أبا جهل وأبا لهب وباقي الكفار ، فالقلب الطاهر لسلمان أنبت الإيمان ، لكنّ الدعوة
لم تنبت في قلوب أبي جهل وأبي لهب إلَّا البخل والبغض.
٢ ـ مردودات
القرآن والوحي على الكافر عكسية
آيات القرآن في
بعض الأحيان لا أنها لا تكون هادية فحسب ، بل قد تكون ضالة لأولئك الذين ساءت
طينتهم من الكفار ، فإنّهم بسماعهم للآيات يزدادون ضلالة.
إنّ هذا الأمر
بيّنته آيات من القرآن ، منها الآية ١٢٤ و ١٢٥ من سورة التوبة : (وإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم
مَنْ يَقُولُ أيُّكُم زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً فأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فزَادَتْهُم إيْمَاناً وَهُم يَسْتَبْشِرُونَ وأمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَتْهُم رِجْسًاً إلى رِجْسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ)
سؤال
: كيف يمكن للآيات
القرآنية المنيرة أن تكون سبباً لضلال البعض؟
الجواب
: أنّ القرآن
المجيد بمثابة المصباح الذي اذا وقع بيد أحد العلماء أفاد منه لأجل العلم
والاكتشاف والاختراع والتقدّم ، وهو بذاته اذا وقع بيد لصّ أفاد منه لأجل سرقة
أشياءٍ ثمينة ، وبذلك تزداد ذنوبه وآثامه.
الإشكال هنا ليس
من المصباح ذاته ، بل من قابلية القابل ، كذا الحال بالنسبة للغيث حيث إنتاجه
يتوقف على نوعية الأرض ، فاذا كانت جيدة نبتت فيها الزهور والنباتات الصالحة واذا
كانت مالحة وغير مؤهلة نبت فيها الأدغال والأشواك.
(فَزَادَتْهُم رِجْساً
إلى رِجْسِهِمْ) فإنَّ الآية اذا نزلت فزعوا للمخالفة والعناد والعداوة ،
لذلك لا عجب إذا قلنا : إنَّ آيات القرآن قد تسبب للضالين ضلالة أكثر.
الناس ثلاثة أصناف
لإِيضاح هذا
المطلب (الذي يتناول قابليات الناس المختلفة) نأتي بكلام لأمير المؤمنين عليهالسلام مخاطباً فيه كميل بن زياد بعد ما دعاه إلى المقبرة ، وعند
بلوغهما الصحراء قال الإمام له بعد أن تأوّه : «يا كميل بن زيادٍ إنّ هذه القلوب
أوعية فخيرها أوعاها».
وكمثال نقول :
إنَّ الناس
يختلفون في إفادتهم من المطر ، واحد منهم يفيد من المطر بمقدار بحيرة ماء ، وذلك
لسعة ظرفيته والآخر يفيد منه بمقدار كأسٍ صغير ، وذلك لأنه لا يستوعب أكثر من ذلك.
وقد يكون هناك شخص لا يفيد من المطر أبداً ، لأنه قد قلب إناءه على ظهره. والمثال
يوضح أنَّ الإشكال ليس من جانب الله بل من جانب الأوعية التي تُهيّئ للافادة من
ماء المطر .. ثمّ يخاطب الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام كميل قائلاً : «فاحفظ عنّي ما أقول لك النّاس ثلاثة :
فعالم ربّاني ومتعلم على سبيل نجاةٍ وهمجٌ رُعاعٌ» أي أنَّ الناس ثلاثة أصناف :
١ ـ الصنف الأول
هو صنف العلماء الذين طووا طريق الحق والحقيقة ويسعون لارشاد الناس وتربيتهم.
٢ ـ والثاني هم
الذين يفقدون العلم لكنهم يسعون في سبيل تحصيله العلم وكسب المعرفة.
٣ ـ والثالث هم
الحمقى من الناس الذين لا يعلمون ولا يسعون لأن يعلموا ولا يسألون أهل الطريق
لإرشادهم إليه.
يوضح الإمام خصال
الصنف الثالث في أربع :
الف ـ أتباع كلّ
ناعق ، أي يتّبعون أصحاب الرايات المختلفة دون علم وبصيرة.
باء ـ يميلون مع
كلّ ريح ، فهم كالريح تهزّهم الدعوات المختلفة وتميلهم إلى جنبها ، ومثلهم كمثل
الذين قاتلوا تحت راية الرسول في عصره ، وقاتلوا تحت راية معاوية بعد وفاته ، ولو
كان الأجل يسمح لهم لقاتلوا تحت راية يزيد كذلك ؛ وذلك كله لأجل أن الريح آنذاك
كان بهذا الاتجاه.
جيم ـ لم يستضيئوا
بنور العلم ، فهم المستضعفون المحرومون من العلم.
دال ـ لم يلجؤوا
إلى رُكن وثيق ، أي لا أنهم يفقدون العلم فحسب ، بل لا يعتمدون على أعمدته
المحكمة.
__________________
إنَّ الصنف الثالث
وهم ذووا الأوعية الصغيرة أشخاص خطرون ، كما أنَّهم مصداق للآية الشريفة (والَّذي خَبُثَ) ، إلّا أنَّ الصنف الأوّل والثاني مصاديق للآية الشريفة : (البَلَدُ الطيَّبُ)
الفاعلية اكتسابية
أم جبرية؟
قابلية القابل ـ التي
هي شرط الكمال ـ اكتسابيه أم جبرية؟ وبعبارة أخرى : هل أنّ الله خلق بعضاً بقابلية
ضخمة وخلق آخرين مع قابلية ضعيفة؟ إنّ قابلية القابل اكتسابية لا جبريّة ؛ وذلك
لأنّ القول بجبريتها يعني عدم ترتب الذنب على الشخص الذي ينبت قلبه الرياء بدل
الاخلاص ، وما عليه من عقاب ، كما أنّه لا فائدة في بعثة الأنبياء.
من هنا نقول : إن
الإنسان كلّما سعى لكسب التقوى والمعرفة الإلهية أكثر ، كلّما استعدّ قلبه أكثر
لقبول الوحي الإلهي والآيات القرآنية.
إنّ القرآن يُوكّد
على كون الإنسان مخلوقاً بأفضل شكل وصورة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإنْسَانَ فِي أحْسَن تَقْوِيمٍ) ، ووفقاً لهذه الآية فانه لا فرق في خلق الناس ، والهداية
والضلالة يتوقفان على الإنسان ذاته. وحتى الشيطان لم يُخلق خبيثاً ، ولذلك كان في
صفوف الملائكة وعبد الله ستة آلاف عاماً.
نعم ، انَّ الناس
يختلفون عن بعضهم البعض ، ليس بمعنى أنَّ بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر خلق سيئاً
، بل في أن بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر أحسن ، لذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «الناس معادن كمعان الذهب والفضة».
في النتيجة لم
يخلق إنسان شقياً أو خبيثاً ، وقابلية القابل اكتسابية لا جبرية. إنَّ المطر يهطل
شفافاً وزلالاً لكنّه يتسخ عند ما يلتقي بالأرض الوسخة ، لكنه يبقى نظيفاً عند ما
يقع على الأرضي النظيفة ، فيبقى على فطرته وطهارته.
__________________
إنّ البيئة
الموبوئة والكتب المنحرفة والمفاهيم الفاسدة والأصدقاء السيئين والعائلة غير
السليمة هذه كلها بمثابة الأرض الملوّثة ، تلوّث قلب الإنسان الطاهر وفطرته
النقية.
أيُّها الشباب
الاعزة! يا أمل الإسلام والثورة والوطن!
إن الله خلقكم
كقطرة المطر الشفافة الطاهرة ، إسعوا للحفاظ على هذه الطهارة ، واحذروا معاشرة
صديق السوء ، لأن هذا الصديق قد يغيّر مستقبل الإنسان بالكامل.
من وجهة نظر
الإسلام ، ليس أداء الذنب لوحده معصية ، بل الحضور في مجلس يرتكب فيه الذنب يُعدُّ
محرماً ومعصية. أي إذا حضر الإنسان في مجلس يُعصى فيه الله فإنَّ حضوره في هذا
المجلس يُعدُّ معصية كذلك ، رغم أنّه لم يفعل الذنب الذي اقترف في المجلس ، وذلك
لأنَّ المحيط الملوّث يؤدي إلى التلوث تدريجياً ، ويفقد الذنب آنذاك قبحه تدريجياً
الأمر الذي قد يؤدي إلى اقتراف الذنب في المستقبل. إنَّ المتعاطين للمخدرات
تعاطوها بهذا الشكل وبهذا الاسلوب.
وعلى هذا ، ينبغي
السعي لأجل الحفاظ على نقاء الباطن ، وتهيئة أرض القلب وإعدادها للافادة من وابل
الرحمة اقصى إفادة.
المثل السادس عشر
:
العالم المنحرف
يقول الله تعالى
في الآيات ١٧٥ و ١٧٦ و ١٧٧ من سورة الأعراف في مثله السادس عشر :
(واتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ
إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)
تصوير البحث
الحديث في الآيات
الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات
رفيعة ، إلّا أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية ، فيشبّه الله هذا
العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه.
شأن نزول الآية
هناك بحث وخلاف
بين المفسرين حول المراد من هذا العالم الذي تحدثت عنه الآية. وأكثر المفسرين
يعتقد أنَّه (بلعم بن باعورا) فهو من علماء بني اسرائيل وقد نال بعبادته مقامات
عليا إلى مستوى انه حصل على اسم الله الأعظم ، وأصبح مستجاب الدعوة. وعند ما بعث
موسى (على نبينا وآله وعليهالسلام) نبيّاً ونال هذا المقام الشامخ ، كانت بعثته قد اثارت حسد
بلعم ،
وقد كان الحسد
يزداد كل يوم ، ويأكل حسناته شيئاً فشيئاً ، كما أنَّ هذا الحسد من جهة ، وحب
الدنيا من جهة اخرى بلغا به إلى مستوى أن لجأ إلى فرعون وبلاطه ليصبح من وعّاظ
السلاطين. ففقد بذلك كل افتخاراته وكانت عاقبته السوء. فبيّن القرآن قصة هذا
العالم المنحرف ليكون عبرة للآخرين.
يعتقد مفسرون
آخرون أنَّ العالم في الآيات هو (أمية بن الصلت) فهو من الشعراء المعروفين في عهد
الجاهلية ، أسلم في البداية ، لكنه بعد ذلك شاكس وخالف ؛ حسداً للرسول ومقام
نبوّته.
ويعتقد مفسرون
آخرون أنَّ العالم هنا هو (أبو عامر النصراني) فقد كان راهباً مسيحياً أسلم ثم
التحق بركب المنافقين ، ثم سافر إلى الروم للتحالف مع سلطانه ، ثمّ رجع إلى
المدينة والتحقق بدينه بعض المنافقين ، وبنى مسجد (ضرار) المعروف.
إنَّ القول الأوّل
هو أصح الثلاثة ، والآخران مستبعدان من حيث أنَّ صدر الآية (واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الّذي ...) قرينة على حكاية قصة تتعلق بالأقوام السالفة.
الشرح والتفسير
(واتْلُ عَلَيْهِم
نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَا) يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.
المراد من الآيات
هو أحكام التوراة ومواعظها ، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها
، كما كان عاملاً بها. ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم ،
ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذٍ وجاه رفيع في المجتمع.
(فانْسَلَخَ مِنْهَا
فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ)» إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان ، ولذلك قيل لمن
ينزع جلد الخروف سلّاخاً. إلّا أنَّ كلمة (فاتبعه) لها معنيان :
__________________
الف ـ تعني تبع
ولحق ، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له.
باء ـ أنَّ الفعل
استخدم هنا بمعناه لو كان ثلاثياً مجرداً بحيث يكون المعنى أنّ الشيطان اتّبع هذا
العالم ، بعبارة اخرى : أنّه سبق الشيطان في الضلالة ، وتجاوزه مهارة في هذا
المجال. مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملاً قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان
يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا ، فظهر له الشيطان وقال : اللعن عليك لا عليَّ ،
لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة ، بل انت الذي علمتني إياها.
وعلى هذا ، فالآية
تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله ، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه
كان يحيط بها جميعاً ، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان ، أو أنَّ الشيطان اتّبعه ،
وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين.
(وَلَو شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ) أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا
تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته ، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا
الاجبار ، (إنَّا هَدَيْنَاهُ
السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَاً) فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم
والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان ، كما جعل الأكل والشرب ، لكنّه لم يفعل ذلك ، بل
خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و...
ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها.
وفي النهاية يكون
معنى الآية هو : أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه ، إلّا أنَّ هذا العالم
المنحرف ـ الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى عليهالسلام ـ تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى عليهالسلام وانجذاباً بوعود فرعون ، وكان عاقبته الطرد من الساحة
الربانية. وعلى هذا ، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما : أوّلاً :
حبّ الدنيا والميل إلى فرعون. وثانياً : الهوى واتباع الشيطان.
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يفيد منها الإنسان
ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي ، إلّا أنَّ بعض
__________________
الكلاب تكون
مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب ، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح ،
وتفرز سماً ، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه
بالجنون. والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها ؛ لأنَّها تفقد
الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين. علائم هذا المرض في الكلاب هو
أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً ؛ وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي
تشعر بها ، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم.
ومن علائمه أيضاً العطش الدائم ... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً.
والقرآن بمثله
الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة ...
فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز
صديقه عن عدوّه.
(ذَلك مَثَلُ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص ـ أيها
النبيّ ـ على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها ، ولكي يعلموا
أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا.
خطابات الآية
خطر العلماء
المنحرفين
لقد سقط بلعم بن
باعورا من مقامه الرفيع من جراء حبه للدنيا وتبعيته للشيطان ، وقد كان سقوطه بدرجه
أن شبّهه القرآن بالكلب المتوحش الذي لا يرحم شخصاً وكأنّه مجنون. إنّ حب الدنيا
والهوى والتبعية للشيطان أجنّت عالماً كان قد حصل على الاسم الأعظم ، وكان جنونه
بشكل يبدو عطشاناً للدنيا دائماً ولا يبدو مرتوياً منها أبداً ، إنَّ عالماً مثل
هذا يحمل معه
__________________
أخطاراً جمّة نشير
إلى بعض منها هنا :
الف
ـ أنَّ عالماً كهذا
يكون في خدمة الظلمة ، كما هو الحال بالنسبة إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا في خدمة
أهل الجور من الحكام والملوك. ومن الواضح أنَّ خطر علماءٍ كهذا لا يقل عن خطر
الظلمة ذاتهم.
أراد سلطان في
العصور الماضية أن ينفذ مشروعاً خاصاً ، فطلب أحد علماء البلاد يسأله عن رأي
الشارع في المشروع ، فأجابه العالم : (إن رأي الشارع متسع ، والأمر يتوقف على
إرادة السلطان) أي يمكنه أن يجعل مخرجاً شرعياً لكل ما يريد السلطان.
نعم ، انَّ علماء
كهذا يمكنهم أن يبرروا ظلم السلاطين الظلمة!
هؤلاء هم الذين
يحكّمون أسس الظلم ، ويصرفون الناس عن أي رد فعل تجاه الظلم. إن علماء كهؤلاء ،
استطاعوا فترة حكومة بني امية وبني العباس أن يزوّروا أحاديث الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام ويمتدحوا في بعضها سلاطين ظلمة من سلسلة بني العباس وبني
امية!
باء
ـ أنّ علماء كهذا
يمكنهم أن يزلزوا الأسس الاعتقادية للناس ؛ فإنَّ الناس العوام ، عند ما يشاهدون
عالماً غير عامل ، يتزلزل اعتقادهم في الدين ، بل قد يترددون في حقائق من قبيل
الجنة والنار ويوم الحساب والقيامة فيقولون لأنفسهم : (إذا كانت هناك قيامة
فالآمرين بالدين والتدين أولى بأن يعملوا لذلك اليوم).
وعلى هذا ،
فالسلاطين إذا أظلموا على الناس دنياهم ، فالعلماء المنحرفون يُظلمون على الناس
أُخراهم.
جيم
ـ العالم المنحرف
يجرُّ الناس نحو الذنب. إنَّ الدول المخالفة للإسلام أسسوا في القرن الأخير ـ لأجل
مواجهة الإسلام ـ فرقة ضالة ، ولأجل تقوية هذه الفرقة ربُّوا في أحضانهم عالماً
منحرفاً استطاع تأليف كتاب أيّد فيه الفرقة واستفاد في تأييده للفرقة من الآيات ،
وكان كتابه بدرجة من الضلالة بحيث عدّت خدمته للفرقة أكثر من خدمة مؤسسها لها.
من هنا على متعلمي
المعارف الإلهية أن يعلموا أن سبب هكذا انحراف هو عدم الإخلاص ، فإنَّ بعض الطلاب
يبغي العلوم لا لوجه الله تعالى بل لأغراض دنيوية مثل الهوى والهوس وحب الدنيا ،
وبهذه الأغراض تتهدم آخرته لتصبح جحيماً.
الإنسان مهما بلغ
من مقام ، عليه أن لا يرى نفسه في أمان من وساوس الشيطان ، فإنَّ هذا الاحساس هو
بداية الانحراف والسقوط ، بل على الإنسان أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء ،
الخوف من الهوى والهوس والوساوس الشيطانية ، والرجاء والأمل برحمة الله ولطفه ،
فهو أرحم الراحمين.
عالم الدين من
وجهة نظر الإمام الحسن العسكري عليهالسلام
ينقل الفقيه الشيخ
الأعظم الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيّم (فرائد الأصول) حديثاً
جميلاً من التفسير الجليل المنسوب للإمام الحسن العسكري عليهالسلام نأتي به هنا :
(ومثل ما في
الاحتجاج عن تفسير العسكري عليهالسلام في قوله تعالى : (وِمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ ...) الآية من أنَّه قال رجل للصادق عليهالسلام : فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون
الكتاب إلّا بما يسمعون ، ومن علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم
والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلدون علمائهم؟ فإنْ لم يجز
لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.
فقال عليهالسلام : «بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من
جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا فإنَّ الله تعالى ذمَّ عوامنا بتقليدهم
علمائهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم. واما من حيث افترقوا فلا».
قال : بيّن لي يا
بن رسول الله!
قال : «إن عوام
اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الاحكام عن
وجهها ... فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا
تصديقه ولا العمل بها بما يؤديه إليهم عمّن لا يشاهدوه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم
في أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله ... وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر
والعصبية الشديدة ... فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين
ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه
حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون
إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم. فأمّا من
ركب من القبائح ...
وآخرون يتعمدون الكذب علينا ... فضلوا أو أضلوا اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من
جيش يزيد (لعنة الله عليه) على الحسين بن علي عليهالسلام».
سؤال : لماذا كان
العلماء المنحرفون أسوأ حالاً من جنود يزيد؟
الجواب : إنَّ جند
يزيد أعلنوا بصراحة عدائهم ، إلَّا أنَّ علماء السوء بمثابة الذئاب الذين تقمصوا
قمصان الرعاة وهم يكيدون بالدين باسم الدين. وواضح أنَّ خطر هؤلاء أشدّ من خطر من
أعلن عدائه بصراحة.
إنَّ ما يفتخر به
الشيعة هو أنّهم خلال العصور الماضية كانوا تبعاً للمراجع والعلماء الذين اجتمعت
فيهم شرائط الزعامة حسب ما أراده الأئمّة عليهمالسلام ، وأنَّهم كانوا ولا زالوا تحت مضلّة وألطاف هؤلاء
العظماء.
ولا شكّ أن تقليد
علماء زهّاد ذوي بصيرةٍ لا أنّه غير مذموم فحسب بل واجب حسب ما نستشفه من آيات
القرآن وروايات أهل البيت عليهمالسلام.
__________________
المثل السابع عشر
:
مسجد ضرار
يقول الله تعالى
في الآيات (١٠٧ ـ ١٠٩) من سورة التوبة :
(والّذِيْنَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْراً وَتَفْرِيْقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ
وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحلِفُنَّ إنْ
أرَدْنَا إلَّا الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فيه
أبَدَاً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقُ أنْ تَقُومَ
فيهِ فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ
أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه على تَقَوى مِنَ اللهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ
أسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)
تصوير البحث
إنَّ الآيات
الثلاث التي تعتبر المثل السابع عشر للقرآن تحدثت عن مسجد ضرار الذي اسّسه أعداء
الدين لأجل مواجهة الدين الجديد واعتبروه متراساً ومرصداً محكماً لهم لمواجهة
الدين بالدين.
شأن النزول
أشار أكثر
المفسرين إلى شأن نزول الآية ، ونحن هنا نذكر شأن النزول أيضاً :
__________________
إنّ بني عمرو بن
عوف اتخذوا مسجد قبا ، وبعثوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من
بني غنم بن عوف فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد ، وكانوا اثني
عشر رجلاً ، وقيل : خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ونبتل
بن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.
فلّما بنوه أتوا
رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنّا قد بنينا
مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية ، وإنّا نحب أن تأتينا
فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة فقال صلىاللهعليهوآله : «انّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله
فصلّينا لكم فيه» ، فلمّا انصرف رسول الله صلىاللهعليهوآله من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.
الشرح والتفسير
(والّذِيْنَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ
وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل). نعم إنّ جبرئيل عليهالسلام نزل على الرسول مانعاً إياه عن الصلاة في هذا المسجد ؛
وذلك رغم أنَّ ظاهره للعبادة ، لكن واقعه معبد للأصنام ومركز للتآمر ضدّ المسلمين
، فالآية هنا بيّنت أربعة أهداف من وراء بناء هذا المسجد.
١ ـ (ضِرَارَاً) إي أنَّ مؤسسي هذا المجسد كانوا يستهدفون الإضرار
بالمسلمين من خلاله وذلك بجعله متراساً لأعداء الإسلام.
٢ ـ (كُفْراً) إنّ الهدف الآخر لهم من وراء بناء هذا المسجد هو تقوية أسس
الكفر ، والمسجد دوره هنا كمركز لدعم الشرك والكفر.
٣ ـ (تَفْرِيقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ) الهدف الآخر لهم وهو من أخطر الاهداف عبارة عن إيجاد
الفرقة بين المسلمين ، واستهلاك الطاقة الموحدة التي يمتلكونها ، في النزاعات فيما
بينهم ، الأمر الذي يُضرّ بالاطراف الإسلامية المتنازعة أكثر من اضراره في شيء آخر
، وهذا مبدأ يحكم جميع الاختلافات.
٤ ـ (إرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل) إي إعداد مركز للاعداء في قلب الدولة الإسلامية ، الأعداء
الذين يكنون العداء لله ورسوله من ذي قبل.
أبو عامر النصراني
العدّو اللدود للإسلام
عن (مجمع البيان)
: «إنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبي المسوح فلمّا قدم النبيّ صلىاللهعليهوآله المدينة حسده ، وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة
إلى الطائف. فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أحد
المسبيبين والموقدين لحرب أحد.
وسمّى رسول الله صلىاللهعليهوآله أبا عامر (الفاسق) ، وكان قد أرسل إلى المنافقين ان
استعدوا وابنوا مسجداً فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود ، وأخرج محمداً من
المدينة ، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك
الروم».
وبعد هذا طلب
هؤلاء من الرسول صلىاللهعليهوآله أن يفتتح المسجد ، لكن جبرائيل نزل ونهاه عن ذلك بهذا
الخطاب :
(وَلَا تَقُمْ فِيهِ
أبَدَاً) والرسول (صلىاللهعليهوآله) لم يقم فيه ولم يصلّ فيه
أبداً.
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيْهِ) أي أنَّ مسجد ضرار ليس محلاً مناسباً لعبادة الله الواحد ،
والمسجد المؤهل لذلك يتسم بالسمات التالية :
١ ـ أن يكون أساس
تأسيسه هو الإيمان والتقوى ، وهذا القسم من الآية يعلمنا أن يكون أساس تأسيس مراكز
مثل الحسينيات والمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية والادارية هو الايمان
والتقوى ، فهما روح الأعمال.
٢ ـ السمة الاخرى
هي أن يكون الحضور من المتقين والطاهرين ؛ وذلك لأن المصلين في المسجد يعدون
معرّفاً للمسجد.
إن السمتين
حاصلتان في مسجد قبا ، فقد كان أساس تأسيسه الإيمان والتقوى ، كما أنّ مصليه كانوا
من المؤمنين عكس ما كان في مسجد ضرار فلا أساسه كان يعتمد الإيمان والتقوى ولا
حضوره كانوا من المؤمنين.
الأمر بتخريب مسجد
ضرار
الرسول صلىاللهعليهوآله لم يكتف بعدم افتتاح المسجد والصلاة فيه ، بل أمر المسلمين
بإحراقه ثم
__________________
تخريب جدرانه
وتهيئته ليكون مرمى للنفايات.
(أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرْفٍ هَارٍ)
(الشفا) يعني
الطرف من كلّ شيء ، واطلقت هذه المفردة على شفاه الفهم لأجل ذلك.
(الجرف) يعني
الجنب فجرف الشيء أي ما يجانبه ولذلك اطلق على شاطئ النهر جرف.
(هارٍ) يطلق على
الشيء الآخذ بالسقوط. إنَّ النهر قد يفرغ جرفه من الداخل ليصبح الجرف أجوف ،
والإنسان الذي لا يعلم بذلك قد يقدم على المشي على هذا الجرف فيسقط فيه ويغرق.
الله تعالى يشبّه
بناء مسجد ضرار ببناءٍ على جرف نهر ، والجرف لا يشرف على ماء النهر ، فانّ ذلك قد
لا يؤدي بالإنسان إلى موته وهلاكه الحتمي لانه قد يكون عارفاً بالسباحة ، بل إنَّ
هذا الجرف مشرف على جهنّم ذاتها بحيث إذا سقط إنسان فيه فذلك يعني هلاكه الكامل
وانتفاء احتمال نجاته ...
وهل الإنسان إذا
كان عاقلاً يرضى باقامة بنيانه في أرضٍ رخوة كهذا الجرف ويتحمل ما فيه من مخاطر؟
نعم ؛ إنَّ المسجد
الذي أساسه التقوى ورضاء الله فبناؤه يكون محكماً جداً ولا يؤدي بالإنسان إلّا إلى
النجاة ، أمَّا المسجد الذي يؤسّس على أساس الكفر والشرك ويكون مقراً للأعداء فهو
بدرجة كبيرة من الخطورة ويؤدي بالإنسان إلى السقوط. وحسب ما تذكر الآية إنه سقوط
في جهنّم.
هل يمكن العثور
على تعبير أجمل ومَثَلٍ أوضح لمصادر الشرك والنفاق مثل التعبير الذي تضمنته الآية
الكريمة؟!
خطابات الآية
١ ـ إنّ المستفاد
من الآية هو ضرورة مراقبة المسلمين أعمالهم ، وأنَّ الأعداء قد يواجهون الدين
بالدين نفسه وبآلياته ذاتها ... ولهذا عند ما نقرأ تاريخ الإسلام نعثر على الكثير
من الفرق
التي أسسها
الأعداء لضرب الإسلام الخالص.
من المذاهب
الموضوعة (فرقة البهائية الضالة) التي اتضح حالياً للجميع مكان تأسيس هذه الفرقة
وشخصيات المؤسسين والمستفيدين من تأسيس هذه الفرقة.
٢ ـ على المسلمين
أن يكونوا كيّسين وأن لا تغرّهم الظواهر. ما أن تحصل فتنة فعلى المسلمين أن
يتعرّفوا على متوليها ومموّليها والمستفيدين والمتضررين منها ؛ وذلك خوف الاغترار
باولئك الذين ينوون تخريب البلاد باسم استعماره ، أو أسر المسلمين باسم تحريرهم أو
سلب الدين عنهم باسم الدين نفسه.
وقد قال الرسول صلىاللهعليهوآله في هذا المجال : «المؤمن
كيّسٌ فطن حذرٌ».
__________________
المثل الثامن عشر
:
الدنيا العابرة
يقول الله تعالى
في الآية ٢٤ من سورة يونس :
(إنَّمَا مَثَلُ
الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ
الأرْضِ مِمَّا يَأكُلُ والنَّاسُ وَالأنْعَامُ حتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ
زُخْرُفَهَا وازّيَّنتْ وظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا
أمْرُنا لَيْلاً أوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بالأمْسِ كَذَلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
تصوير البحث
الحديث في المثل
عن الحياة الدنيا العابرة ، والتذكير بها خوف أن يغتر الإنسان بظاهرها الخلّاب
ويتعلّق بها ، فإنَّ الإنسان قد يفقد كل شيء في وقت يتصوّر أنّ كل شيء قد تهيّأ
وأُعد لصالحه. ويدعو الله في نهاية الآية الإنسان للتفكير لعلّه ينقذه ويجد لنفسه
من خلاله مخرجاً.
الشرح والتفسير
(إنَّمَا مَثَلُ
الحَيَاةِ الدُّنْيَا) استخدمت عبارة (الحياة الدنيا) ما يقرب السبعين مرة في القرآن
، والدنيا قد تعني أحد المعنيين التاليين :
الف ـ أن تعني
القرب ، ودنيا مؤنث (أدنى) ، وذلك باعتبار أن الحياة الدنيا أقرب قياساً للحياة
الآخرة التي هي بعيدة نسبياً.
باء ـ أن يراد
منها السافلة أو التافهة ، ومنها اطلاق (الدني) على الإنسان الساقط
والسافل. وباعتبار
أنَّ الحياة الدنيا حياة تافهة وتفقد القيمة الكافية فهي حياة دنيا عكس ما عليه
الحياة الآخرة فإنَّها عليا وتمتاز بالقيمة المتفوّقة.
هذا ، اضافة إلى
أنَّه يستفاد من آيات قرآنية مثل الآية التالية : (وإنّ الدَّارَ
الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ) أنَّ الحياة هي الحياة الآخرة فحسب ، أمّا الدنيا فهي لا
تستحق من الحياة إلّا الاسم ، بل هي موت تدريجي!
على كل حال ،
فإنَّ الحياة الدنيا إمّا أنّها حياة لا قيمة لها ، أو أنّها ليست حياة بالكلية.
(كَمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ) أي مثل هذه الحياة العابرة كمثل الماء الذي ينزل من السماء
بقطراته الشفافة والفاقدة للون ، وباختلاطه بالأرض تنمو نباتات ومحاصيل متنوّعه.
المراد من
الاختلاط في الآية هو تنوّع النباتات.
إنّ النباتات على
ثلاثة أقسام :
١ ـ القسم الذي
يشكل الأغذية للإنسان مثل الفواكه والخضروات والحبوب (مِمَّا يَأكُلُ
النَّاسَ)
٢ ـ القسم الذي
يشكل أغذية للحيوانات (مِمّا يَأكُلَ ...
الأنْعَامُ) وهي قد تشترك ـ نوعاً ما ـ بين الحيوان والإنسان كالاشجار
التي يفيد الإنسان من ثمارها ، والحيوان يفيد من أوراقها وغصونها. وقد تكون خاصة
بالحيوانات مثل العلف.
٣ ـ القسم الآخر
هو النباتات والأشجار التي تزيّن الطبيعة مثل الأزهار والحشائش الاخرى (حَتَّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا
وازيَّنت وَظَنَّ أهلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْها)
أي في الوقت الذي
هطل فيه المطر وأثمرت الاشجار وحان الوقت لجني الثمار في هذا الوقت تحدث حادثة
وتخلط كل حسابات الإنسان وتحول دون جنيه ثمار ما زرع. وهذا أمر مؤلم لمن تعلّق
بالدنيا.
(أتَيها أمْرُنَا
لَيْلاً أو نَهَارَاً) نعم ، في الوقت الذي يرى الإنسان أن الدنيا أقبلت عليه
__________________
وكشفت عن وجهها
الخلاب والخادع ، ويجد أنَّ كل شيء حسب ما يرام ، في هذا الوقت يصدر أمر الله
بالعذاب ليلاً أو نهاراً لتتدمر بذلك كل الآمال والزحمات ، بحيث تبدو الدنيا لم
تكن شيئاً مذكوراً.
إنّ كلمة «أمْرُنَا»
في الآية الشريفة تدعونا للدقة والتأمل الوافر من حيث إنّها تضمُّ موارد ومصاديق
كثيرة وتشمل كل أنواع العذاب الذي يصدر من الله.
نشير إلى بعض من
تلك المصاديق.
١ ـ قد تؤمر
مجموعة من الحيوانات تبدو كأنها ضعيفة مثل الجراد ، فتؤمر الجراد لتهجم على مزرعة
بشكل كتلة ، لم تبقِ منها شيئاً إلّا أكلته أو دمرته ، كما يحصل ذلك بين الحين
والآخر في بعض الدول.
٢ ـ وقد يلقى هذا
الأمر على عاتق السموم من الرياح ، فيؤمر بتنفيذ مهمة العذاب الإلهي ، وهو عند ما
يمرّ بشيء يسمّه ويجفّفه ، بحيث إذا مرّ من مزرعة أبدلها إلى رماد يذهب مع الريح.
٣ ـ وقد يتكفل
بتنفيذ المهام الإلهية موجود هو أخطر من ريح السموم ، مثل الصاعقة التي تدمّر كل شيء تصطدم به مثل الجبال والاشجار والانعام
والناس ، أو مثل موجودات أخرى نشير إليها في البحوث المقبلة.
هناك نقطة مثيرة
تضّمنتها عبارة (لَيْلاً أوْ
نَهَارَاً) وهي أنَّ الإنسان لا خيار له غير التسليم والخضوع للعذاب
الإلهي. ولا يفرق في ذلك الليل والنهار ولا يتصّور أن الإنسان سوف يخضع للعذاب في
الليل باعتباره مسلوب القدرة آنذاك ، بل انَّ العذاب إذا نزل سيستسلم له الإنسان
سواء كان نازلاً في الليل أو في النهار.
(فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدَاً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ) أي عند ما يصدر أمر بالعذاب تتهدم ممتلكات الإنسان وتدمّر
مزارعه في آن ، بحيث لا تبدو الأرض وكأنها كانت مزروعة قبل لحظات ، بل تبدّل إلى
كومة من الرماد.
(كَذَلك نُفَصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي أنَّ اهداف هذا المثل لا يدركها إلّا الذين
__________________
يتفكّرون فيه ،
ولا يدرك غور هذه الآيات الإلهية إلّا بالتفكّر والتأمل الذي لا توجد عبادة أرفع
مستوى منه.
فلسفة المثل
لأجل استيعاب
فلسفة المثل نشير هنا إلى ثلاث من خصائص الحياة الدنيا :
١ ـ الحياة الدنيا
عابرة ولا ثبات ولا دوام فيها.
٢ ـ الحياة الدنيا
جوفاء ، ظاهرها فاتن وباطنها خالٍ من المحتوى ، وقد تبلورت بوضوح في حياة بعض
الناس الذين تجذبنا حياتهم من بعيد وتجعلنا نأسف على حياتنا ونتحسّر على حياتهم ،
لكن عند ما نقترب لهم نحمد الله كثيراً على كون حياتنا ليست مثل حياتهم من حيث
كثرة المساوىء والابتلاءات.
٣ ـ الحياة الدنيا
تُغرُّ الإنسان وتخدعه.
وفي حديث للرسول صلىاللهعليهوآله أشار فيه إلى هذه الخصائص الثلاث : «الدّنيا تغر وتضر وتمر».
من هنا نستوعب
فلسفة المثل في أنَّه من دونه لا يمكننا إدراك ماهية الحياة الدنيا. والإنسان من
خلال المثل يدرك حقيقة الدنيا وماهيتها أفضل. ولذلك تمسك الله به إيضاحاً وبياناً.
تفسير وتطبيق
للمثل المذكور
في الآية الشريفة
شُبِّه الإنسان وحياته الدنيا بالمطر ، وبذلك يشير القرآن إلى قابليته وأهليته
العالية ، فاذا فُعّلت هذه الأهلية لأمطرت عليه ثماراً من قبيل الابتكار والخلاقية
المتنوّعة ، ولاستخدم كل طاقته في سبيل الحياة الأفضل ، ولنشط في مختلف المجالات ،
ولاستهلك طاقات جمة في سبيل بلوغ الأهداف الخاصة. إلّا أنَّ حادثة تحصل فجأة تخيّب
كل
__________________
آماله وتدمّر كل
ما جناه في حياته حتى هذه اللحظة ليبدو وكأنه لم يفعل شيئاً لحياته أبداً ولم يكن
قد فعل وتحمّل لأجل ضمان المستقبل.
إنَّ هذه الحوادث
هي (الأمر الالهي) ، وقد تتبلور في داخل جسم الإنسان ويسلّم لها الإنسان رغم ضعتها
وصغرها. وعلى سبيل المثال قد تحصل جلطة في دم الإنسان تسري في الشرايين لتصل إلى
القلب فتحدث سكتة فيه ، أو تصل إلى الدماغ فتحصل سكتة فيه أيضاً قد تتسبب في شل
جزء من جسمه إذا لم تمته.
والأبسط من ذلك هو
أن يأمر الله تعالى خلية من خلايا جسم الإنسان للتتكاثر بشكل غير متعارف وبتصاعد
هندسي كأن تصبح الخلية خليتين والخليتان أربع خلايا والأربع ثمانية والثمانية ستة
عشر وهكذا إلى أن تتبدّل فجأة إلى غدة سرطانية تنتشر في جميع بدنة شيئاً فشيئاً
لتجعل من الإنسان قعيد البيت (فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ) فيبدو وكأنه قد مات منذ سنوات وآماله قد اندثرت منذ ذلك
الحين.
وقد يلقى الأمر
الإلهي في عهدة حادثة خارجية مثل الزلزلة أو الطوفان أو الاعصار أو الشهاب السماوي
او غير ذلك.
هذا المثل وما
شابهه من الحوادث التي شهدناها طوال عمرنا مرات عديدة بمثابة صافرة الانذار تحذرنا
أن لا تغرّنا الحياة الدنيا ولا نتعلّق بها ولا نرتكب الجرائم لأجل بلوغ الأهداف
الدنيوية الآنية.
من المناسب أن
نفكر بعمق في هذه الآية الشريفة وفي أمثالها ، ونعدّها كالمصباح نستنير به الطريق.
خطابات الآية
١ ـ معرفة الله
إنّ الله بتشبيهه
الحياة بقطرات المطر علمنا شيئاً من دروس المعرفة ، ورسّخ في قلوبنا الايمان
بالله. الآية تعلّمنا أنَّ الله بواسطة هذا الماء الشفاف الذي لا لون له يستطيع أن
يخلق ألواناً مختلفة.
إنّ الأرض تُسقى
بماء واحد (يُسْقَى بِمَاءٍ
وَاحدٍ) ، لكنّ الثمار والفواكه والاشجار تنبت متنوّعة ، فيخرج من
هذا الماء أحلى الفواكه وأشدّها حموضة وأشد السموم مرارة ، وأجمل الأزهار و... هذه
كلها من ماء واحد وتراب واحد. إنَّ قدرة الله عجيبة حقاً! لكن أسفاً للعادة لكونها
تحجبنا وتمنعنا دون أن نفكر في هذا الكتاب الناطق لله.
٢ ـ كل ما في
الكون مخلوق على أساسٍ من النظم
إنَّ الله جعل ماء
المطر سبباً للبركة والعمران ، وهو بذاته إذا زاد عن حدّه المتعارف سبب الدمار
والكوارث ، وإذا قلّ عن مقداره المتعارف سبّب الجفاف والقحط.
وهذا درس آخر
للإنسان في أن يكون معتدلاً ومنتظماً في جميع مجالات حياته ويجتنب الإفراط
والتفريط.
على الإنسان أنْ
لا يفرط حتى في العداء والخصومة ، ولهذا فرض الإسلام آداباً للحرب وهي عبارة عن
أوامر جميلة ولطيفة محذراً من خلالها المسلمين التفريط في العداء. وعليه ، فالمسلم
يكون منتظما ومبرمجاً في جميع شؤونه.
٣ ـ قد تتبدّل
النعمة إلى نقمة
أي قد يكون الشيء
الذي يمنح الإنسان الحياة هو بذاته يكون سبباً لدمار الإنسان وموته ، وذلك بأمرٍ
من الله تعالى. إن الماء يمنح الإنسان حياة في هذه الدنيا لكنّه قد يتبدل إلى سيل
جارف وقاتل.
٤ ـ إذا جرى الماء
كان سالماً وهنيئاً وذا طعم لذيذ
أمّا اذا ركد
الماء تعفّن وتلوّث ويكون غير صالح للشرب. ففي هذه الحالة لا أنَّه لا يمنح الحياة
فحسب ، بل يكون سبباً للتلوّث. إنَّ الاموال والثروات ذات نفس الخصلة هذه ،
__________________
فيمكنها أن تنمّي
اقتصاد البلاد إذا كانت جارية ويتداولها الناس ، إلّا أنها عند ما تحتكر وتركد في
مكان واحد فقد تسبب السقم في اقتصاد البلد.
٥ ـ بعض النباتات
سامة رغم جمالها
بعض النباتات تبدو
زينة جميلة مثلما تبدو بعض الزهور لكنها في الواقع سموم قاتلة.
لهذا كان علينا أن
لا نغتر بالظاهر وإن كان جميلاً ، بل علينا سبر الغور والتفكّر فيه لكشف الواقع ثم
انتخاب المناسب.
وفي نهاية الآية
وصية للتفكير ، ومدح للعلماء والمفكّرين.
يقول رسول الله صلىاللهعليهوآله : «أعطوا أعينكُم حظها من العبادة».
قالوا : وما حظها
من العبادة يا رسول الله؟ قال : «النظر في المصحف والتفكّر فيه والاعتبار عند
عجائبه».
فكّروا في آيات
القرآن لكي لا تبتلوا بما ابتلى به النماردة والفراعنة وامثال ابو لهب كما فكروا
من جهة اخرى بامثال سليمان وموسى وداود و... توقفوا وتأملوا في عجائب آيات القرآن.
لا تكتفوا بقراءة
القرآن رغم ما لهذه القراءة ـ وبخاصة في شهر رمضان المبارك ـ من أجر وثواب جزيل ،
بل لتقترن مع التدبّر والتأمّل.
__________________
المثل التاسع عشر
:
الكافر والمؤمن
يقول الله تعالى
في الآية ٢٤ من سورة هود :
(مَثَلُ
الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأَصَمّ والبَصِيْرِ وَالسَّميعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثلاً أفلا تَذَكَّرُونَ)
تصوير البحث
يقارن الله العظيم
في هذا المثل بين الكافرين والمؤمنين ، ويشبِّه أحد الفريقين بالأعمى والأصم
والآخر بالبصير والسميع ، وذلك لأنَّ الايمان والتقوى يورثان السمع والبصر ، أما
اللجاجة والتعصب والكفر فيحجبان عن هذين الموهبتين الالهيتين.
إشارة إلى الآيات
ما قبل آية المثل
الآيات التي تسبق
آية المثل هذه تبيّن أحوال المؤمنين والكفار ، ومن الضروري إلقاء نظرة عليها لكي
نتمكن من شرح الآيات وتفسيرها ببصيرة أكثر.
سيرة الكافرين
شرحت الآية ١٩ من
سورة هود أحوال الكافرين حيث قالت : (الَّذِيْنَ
يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَيْبغُونَها عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ
كَافِرُونَ)
لقد بيّنت الآية
ثلاثاً من خصال الكفّار :
١ ـ الكفار يمنعون
عن سبيل الله ويحولون دون دخول الآخرين في هذا السبيل.
٢ ـ الكفار يبغون
الأعوجاج عن طريق الحق ، أو أنَّهم يريدون إظهاره معوجّاً ، مع أنه ـ حسب سورة
الحمد ـ طريق مستقيم ولا إعوجاج ولا افراط ولا تفريط فيه بل هو متعادل ومتوازن.
٣ ـ الكفار ينكرون
المعاد والحياة بعد الموت. ويبدو أن هذه القضية هي السبب الأساس في انحطاطهم ؛
وذلك لأنَّهم عند ما أنكروا المعاد سعوا في اظهار طريق الحق معوجاً ومنعوا من
اهتداء الآخرين إلى هذا الطريق.
ثم يقول الله في
الآية ٢٢ من نفس السورة : (لَا جَرَم أنَّهُمْ
فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ)
أي أنَّ الكفار
الذين منعوا من اهتداء الناس إلى طريق الحق ، وأظهروه وكأنّه معوجاً ، وفي النهاية
أنكروا المعاد ، إنّهم في المعاد أخسر من الجميع.
سيرة المؤمنين
الآية ٢٣ من سورد
هود همّت بدراسة الفريق الثاني (المؤمنين) وقالت : (إنَّ الّذينَ آمَنُوا
وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ
فِيْهَا خَالِدُونَ)
بيّنت الآية
الشريفة ثلاث خصال للمؤمنين :
١ و ٢ ـ الإيمان
والعمل الصالح ، إنّ هذين الخصلتين ذكرتا معاً في كثير من الآيات القرآنية ، فهما
لازم وملزوم ولا يمكن تفكيكهما ، ولهذا كان إدعاء الإيمان بالنسبة للذين لا يعملون إدعاء
خواء ، وهم غير مؤمنين في الواقع. ومن جانب آخر ، أنَّ الصادقين الذين يعملون
صالحاً من دون إدعاء ، هم المؤمنون الحقيقيون ؛ وذلك لأنّهم ـ كما أشرنا سابقاً ـ بمثابة
الغصون والاوراق لشجرة واحدة.
٣ ـ الخصلة
الثالثة التي يحملها المؤمنون هي خصلة (الاخبات). إنَّ (الاخبات) جمع (خبت)
والاخيرة تعني ـ في الاصل ـ الصحراء الواسعة والمستوية ، وقد اطلقت بعد ذلك على
__________________
بعض خصائص الإنسان
، نشير هنا إلى ثلاث حالات منها :
الف ـ تستخدم في
الإنسان ذي الروح المتواضعة ، فكما أنَّ الصحراء المستوية تتواضع أمام الماء وتسمح
له بالسير في جميع بقاعها ، كذلك روح الإنسان المتواضع فإنَّها تستسلم للحق
ببساطة.
باء ـ أنَّ مفردة (مخبتْ)
كما تُطلق على الإنسان المتواضع تطلق كذلك على من سلّم نفسه لله تعالى ، أي كما
أنَّ الأرض المستوية مستسلمة ، كذلك روح الإنسان المؤمن.
جيم ـ تطلق هذه
المفردة على من اطمئنَّ بالله تعالى. الإنسان عموماً عند ما يخطو في الصحراء يخطو
باطمئان ومن دون خوف وذعر ، عكس ما لو كان يمشي في جبال وأراضٍ وعرة ، فإنَّ خطاه
ستقترن بالخوف والذعر ، وخطى الإنسان المؤمن في طريق العبودية تقترن بالاطمئنان.
وعلى هذا ،
فالمؤمنون الذين يحملون هذه الصفات (الايمان والعمل الصالح والاخبات) هم اصحاب
الجنة خالدين فيها ويتمتعون بنعمها.
الشرح والتفسير
(مَثَلُ
الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأصمِّ والبَصِيْرِ والسَّمِيع) بعد أن بيّن الله خصائص الفريقين في الآيات السابقة نعت
هنا كلاً من الفريقين بصفات فقال : إن الكافر مثل الأعمى والأصمّ ، والمؤمن مثل
البصير والسميع.
(هَلْ يَسْتَوِيَانِ
مَثَلاً أفَلَا تَذَكَّرُونَ) والسؤال هنا استنكاري أي أنَّ الفريقين لا يستويان فالأعمى
ليس كالبصير والأصم ليس كالسميع ؛ كذلك المؤمن فهو غير الكافر وليس مثله.
المفروض بهذه
المقارنة أن تثير مخاطبي الآية وتذكّرهم ، أليس كذلك؟!
لأجل الوقوف على
عمق هذا المطلب واستيعاب آثار الايمان والقدرة اللامتناهية لرب العالمين ، نقوم في
البداية بدراسة أهمية العين والاذن ودورهما في جسم الإنسان.
العين من أعظم
آيات الله
لا شك أنَّ العين
من أعظم الآيات الإلهية ، بل يمكننا القول : إنها أعجب آيات الله سخرها
تعالى في خدمتنا.
إنّ العين ذات بناء معقد جداً ، والأعجب من ذلك أن البناء يتشكل من مواد بسيطة
جداً ، فهي تتكون من مقدار قليل من الشحوم والعضلات ومقدار بسيط من السوائل.
إنَّ هذا يكفي
للكشف عن قدرة الله تعالى ، فهو يستطيع بناء وسيلة معقدة من مواد بسيطة جداً.
للعين سبع طبقات
ممتازة ومجزّأة ، وهي مستقلة عن بعضها البعض بالكامل وقد رتّبت بشكل لطيف جداً ،
كما أنه تعالى جعل لكل طبقة وظائف خاصة.
لا يوجد في الدنيا
كاميرا يمكنها التصوير تلقائياً مثل ما تعمل العين ، فهي تعمل دون حاجة إلى منظّم
لعدستها ، فهي تنظم نفسها لتصوير أدنى وأقصى نقطة في أقل زمن ممكن. مع أن تنظيم
العدسة للاماكن البعيدة في كاميرات التصوير يحتاج إلى وقت غير قصير نسبياً ، وقد
يستدعي هذا الأمر ساعة من الزمن إذا أُريد تصوير لقطة حساسة.
كذلك الأمر
بالنسبة لتنظيم النور ، فاذا كنا ـ مثلاً ـ في محيط مضيء ثم انطفأت الكهرباء فيه
وساد الظلام ، فإنَّ بؤبؤة العين توسع نفسها لتتكيف مع المحيط وتتمكن من الرؤية.
وفي العين يوجد
عضلات تتحرك في ست جهات تمكنها من الحركة إلى الأمام والخلف اضافة إلى الحركات
الاربع أي اليمين واليسار والفوق والتحت.
ومن عجائب العين
الاخرى هو السائل الذي يترشح منها ويسمى الدمع. إنَّ الدمع غذاء للعين كما أنَّه
سائل لغسلها ولتطهير هذا البناء الدقيق والظريف من أي تعفن يحتمل حصوله.
من خصائص العين
أنَّها هي بنفسها تقوم بترميم ما يطرأ عليها من اشكالات ونواقص.
هل هناك شيءٌ من
مصنوعات الإنسان يحضى بهذه الخصائص؟ لننصف ونرى لو لم يكن هناك دليل وآية على
اثبات الخالق غير هذه العين أليس ذلك بكاف؟ كيف يمكن تصديق أن الطبيعة الفاقدة للأحاسيس والشعور
يمكنها خلق جهاز بهذه العظمة؟
الاذن آية الله
الاخرى
رغم أنَّ بناء
الاذن قياساً للعين ليس بنفس الدرجة من حيث التعقد والظرافة ، إلّا أنَّه
__________________
يحكي كما هو حال
العين عن قدرة الله تعالى. إنَّ الاذن تتكون من الجزء الخارجي والداخلي والوسط.
والاقسام تقع في مناطق متجزءة عن بعضها الآخر ، ولكلٍّ وظائف خاصة ومستقلة. هناك
عظام يشبه عملها عمل المضرب ، كما أنَّ هناك طبلة ترتعش بضربات المضرب ،
والارتعاشات هذه عند ما تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب تُفسَّر هناك. والعجيب في
هذا كله أنَّ الاذن يمكنها تعيين جهة الصوت.
إنَّ العين والاذن
نعمتان إلهيتان أنعمهما الله علينا ، وهما عجيبتان جداً ، وفي توصيفهما كتبت كتب
كثيرة ، ولكلٍّ منهما من حيث الطبابة مختصون ، بل انَّ في العين لوحدها عدة
تخصصات.
العين والاذن
وسيلتان مهمتان للمعرفة
إنَّ أهمّ وسائل
المعرفة عند الإنسان هي العين والاذن. إنّ الإنسان عند ما يولد يكون خلواً من أي
علم (وَاللهُ أخْرَجَكُم
مِنَ بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) والإنسان يحصل على العلوم بعد أن تنمو عنده حاسة السمع
والبصر.
إنَّ العلوم
التجريبية تنتقل للإنسان عبر حاسة البصر ، فالإنسان يبلغ النتائج المختلفة في
المختبرات بعد ما يراها بعينه ، ورؤيته هذه هي التي تنقل النتائج إلى الذهن. أما
العلوم النقلية ـ وبخاصة العلوم التي قدمت من الوحي الالهي ـ فهي تنتقل عبر حاسة
السمع (الاذن). بالطبع أن العلوم العقلية تعتمد في الأساس على العلوم الحسية أي
أنَّ الأشياء ما لم تر أولم تسمع فلا يتمكن العقل من إداركها ، وذلك لأنَّ أساس
العلوم العقلية هو (تجريد) و (تعميم) المحسوسات ، ولهذا اذا كان هناك إنسان بالغ
أصم وأعمى ـ وهو بالنتيجة أخرس ـ فان مستوى فهمه سيكون بمستوى فهم طفل عمره خمس
سنوات حتى لو كان يحضى بدماغ بمستوى دماغ ابن سيناء ؛ لأنَّ هكذا انسان يكون
فاقداً لعمودين أساسيين من أعمدة العلوم العقلية وهما البصر والسمع.
__________________
الكافر يفتقد
وسائل المعرفة
وفقاً لما ذكرت
الآية ، أنّ الكافر أعمى وأصم ، أي أنَّه يفقد وسائل المعرفة أو أنَّ هذه الوسائل
مسلوبة منه ، لذلك لا يدرك شيئاً من نور الأيمان. أما المؤمن فهو ـ بفضل نور
الإيمان ـ يتمتع بحاسة السمع والبصر بشكل كامل ، ويفيد من العلوم ، ووسائل
المعرفة.
لماذا كان الكافر
أعمى وأصم؟
الوصف المستخدم في
الآية يفيد أنّ العمى والصم هما بسبب حاجب الكفر الذي يحول دون السمع والنظر (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِم وَعَلَى أبْصَارِهْم غِشَاوَةٌ)
إنَّ اللجاجة مع
الله وعدم التسليم له والصفات الرذيلة الاخرى سببت عدم إدراك الكفار للحقائق.
يقول الإمام
السجاد عليهالسلام في دعائه العرفاني (أبو حمزة الثمالي) : «إنّك لا تُحْجَب
عن خلقك إلّا أن تحجبه الأعمالُ دونك».
وعلى أساس هذا
الدعاء ، فإنَّ أعمال الناس هي التي تحجب الإنسان عن الله. وفي بعض نسخ هذا الدعاء
ذكرت مفردة (آمال) مكان أعمال ، وعلى هذه النسخة ، فإنَّ الآمال هي التي تحجب
الإنسان عن الحقائق والمعارف الإلهية.
الإيمان عند ما
يظهر في الإنسان فإنَّ حجب التعصب والجهل والغرور والكبرياء والأنانية تتلاشى
لوحدها ، ويتضح للإنسان بعد ذلك كل شيء ، بل الله نفسه يهديه من الظلمات إلى نور
الإيمان ، لذلك قال الله في الآية ٢٥٧ من سورة البقرة : (اللهُ وَلىُّ الِّذينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُورِ والّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوت يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّوْرِ إلَى الظُّلُماتِ أُوْلئِكَ أصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ)
كيف يمكن إزالة
الحجب؟
كيف يمكن أن يكون
لنا عين واذن قرآنية؟ كيف يمكن أن يكون لنا عين ترى الحقيقة؟ وفقاً
__________________
لما أقرَّته الآية
الشريفة فإنَّ هذه الحجب تزال إذا أزلنا عن أنفسنا ستار الجهل والتعصب واللجاجة
لنرى ما يرى أولياء الله.
ما علينا هو أن
نكون مؤمنين.
لقد ذكرت علامات
للمؤمن في روايات أهل البيت عليهمالسلام ، ولأجل الاطلاع نأتي بنموذجين هنا :
علامات المؤمن
١ ـ يقول رسول
الله صلىاللهعليهوآله : «لا يؤمن عبدٌ حتّى يحب للناس ما يُحب لنفسه».
٢ ـ في رواية اخرى
يقول الإمام الصادق عليهالسلام : «إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على
الباطل وإن نفعك».
وحسب هذه الرواية
فإنَّ الحقيقة والصدق من علائم المؤمن ، وهي تحمل في طيّاتها خطاباً للأحزاب
والتكتلات السياسية في البلد بأن يقوم نشاطهم على الصدق والحقيقة وتجنّب الزيف.
إنهم إذا بلغوا مرحلة يرجّحون فيها حديث عنصرهم الطالح على حديث العنصر الصالح
للتكتل المنافس فذلك يعني أنّهم لم يدركوا حقيقة الايمان ، ودعواهم الايمان زيف لا
أكثر.
اللهم ارزق جميع
المسلمين الايمان الكامل.
__________________
المثل العشرون :
الذين يدعون من دون الله
يقول الله في
الآية ١٤ من سورة الرعد :
(لَهُ دَعْوَةُ
الحَقِّ والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ إلّا
كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا
دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلّا فِي ضَلالٍ)
تصوير البحث
إنّ آية المثل
درست قضية الدعاء والتوسّل ، وهي تسعى لتعليم الإنسان إلى مَن يمدّ يده؟ ثم مثَّلت
أولئك الذين يطرقون أبواب المخلوقات دون خالقهم طالبين حاجاتهم بمن بسط يديه إلى
الماء ....
سؤال :
قبل البتِّ بشرح
وتفسير آية المثل ينبغي التساؤل عن سبب عدم التطرّق إلى بعض الأمثال التي جاءت قبل
سورة الرعد ، مثل الآية الشريفة ٣٢ من سورة المائدة التي اعتبرت قتل النفس البريئة
بمثابة قتل الناس جميعاً واحياء نفس بريئة بمثابة احياء الناس جميعاً. فإنّ فيها
تشبيهاً وتمثيلاً نوعاً ما ، فَلِم لم تأت في البحث.
الجواب:
في القرآن امثال
وتشابيه كثيرة ، لكن بحثنا في الامثال القرآنية لا التشابيه.
إنَّ التشبيه هو
تنظير شيء بشيء كأن يقال : (إن حسن كالأسد). فهذا تشبيه وليس مثلاً ،
أما المثل فهو
تجسيد وبيان لقصةٍ أو جماعة أو قضية أو مطلب عقلي ليس في متناول أذهان الناس ، كما
لو أنَّ الله أراد بيان قضية الحق والباطل وهما قضيتان غير حسية مثّلهما بالمطر
والسيل والزبد الذي يتجمع على الماء ، فيمثّل الحق بالماء والباطل بالزبد ، من حيث
أنّ الزبد رغم ابهته وارتفاعه وظهوره إلّا أنه أجوف ويتلاشى بسرعة ... وبناءً على
هذا الايضاح فقد حصلنا على معيار كلي للتمييز بين الأمثال والتشابيه.
البرق والسحب
الثّقال
لأجل الاستيعاب
الأفضل للمثل المذكور علينا شرح الآيات ١٢ و ١٣ من سورة الرعد باقتضاب.
يقول الله تعالى
في الآية ١٢ من سورة الرعد : (هُوَ الَّذِي
يَرُيْكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنْشِأُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)
إنّ البرق من آثار
عظمة الله تعالى ، فهو يزرع الأمل في نفس الإنسان كما يزرع الخوف والقلق.
إنّ البرق يبشّر
الناس بهدية المطر الإلهية ؛ وذلك لأن الرعد والبرق يتسببان في نزول الكثير من
المطر.
كيف يسبب البرق
نزول المطر؟
اصطدام السحب التي
تحمل شحنات كهربائية متضادة يوجد حرارة تقدّر بخمسة عشر ألف درجة سانتيغراد. إن
هذه الحرارة تحرق الهواء المحيط بها وبذلك يقل ضغط الجو الأمر الذي يؤدي إلى هبوط
المطر. من جانب آخر قد يتبلور البرق على شكل صاعقة فيحرق حينئذٍ ما يصطدم به من
الغابات والقرى والاشخاص والحيوانات والمزارع ، وهذا هو الذي ينجم عنه خوف
الإنسان.
(وَيُنْشِأُ
السِّحَابَ الثِّقَالَ) قد يتصور كثير من الناس أنَّ السُّحُب لا تختلف ، وهي تعمل
على وتيرة واحدة ، مع أنَّ الحقيقة شيء آخر ، وهي تختلف عن بعضها الآخر كثيراً.
ممّا تختلف فيه
السحب هو أنّها تنقسم إلى ثقال وخفاف ، والثقال تتموقع في جوٍّ أقرب إلى سطح الأرض
، أمَّا الخفاف ففي جوّ مرتفع أكثر عن سطح الأرض ، وسبب اقتراب الثقال هو كثرة
الرطوبة والماء فيها ، الأمر الذي يمنعها من التصاعد إلى أجواءٍ أبعد.
الرعد دليل على
عظمة الله
يقول الله تعالى
في الآية ١٣ من سورة الرعد : (وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ
فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيْدُ
المِحَالِ)
تشير الآية
الشريفة إلى موضوعين ، أحدهما : الرعد ، والثاني : الصواعق. وبما أنَّا تناولنا
موضوع الصواعق في البحوث السابقة لذا نخص بحثنا هنا بالرعد.
لقد قلنا سابقاً :
إنَّ اصطدام سحب ذوات شحنات كهربائية مختلفة تولّد قدحة ضوئية وصوت ، فالنور يقال
له : برق ، أما الصوت فيقال له : رعد. إنَّ الصوت والضوء يحصلان في وقت واحد ، لكن
بما أنَّ سرعة الضوء أسرع من الصوت بمرات ، لذلك يصلنا الضوء قبل أن يصلنا صوت
الاصطدام.
رغم ما يبدو من
بساطة في ظاهرة الرعد ، إلّا أنّه يُعد من آيات الله العظمى ، وله تأثير مهم على
حياة جميع الموجودات.
لقد ذكر العلماء
آثاراً كثيرة للرعد والبرق نشير هنا إلى أهمها :
١ ـ هطول الأمطار
هي أول فوائد الرعد والبرق ، وهي فائدة تعم جميع الموجودات سواء الإنسان أو
الحيوان أو النباتات أو الجمادات.
٢ ـ يقتل الرعد
والبرق بعض الآفات النباتية ؛ وذلك لأنَّ الحرارة التي توجد من خلال هذين
الظاهرتين تسبب أكسجة الماء أي خلق ماءٍ مؤكسج يتكون من ذرتين من الأوكسجين بدل
ذرة واحدة مع ذرتين من الهيدروجين. ومن فوائد هذا الماء أنه من المطهرات ويمكنه
قتل بعض الآفات والموجودات المضرة. إنَّ هذا الماء متوفّر في الصيدليات ويستخدم
لغرض التطهير. وكلما زادت ظاهرتا الرعد والبرق كلّما قلت الآفات النباتية.
الفائدة الاخرى
للرعد والبرق هو انتاج الكثير من الاسمدة للنباتات. إنّ هذين الظاهرتين
تنتجان كل عام
عشرات الملايين من الاطنان من الأسمدة القوية والمفيدة والمؤثرة على جميع
النباتات.
طريقة ايجاد هذه
الاسمدة هو أنَّ الحرارة الناشئة عن الرعد والبرق تسبب تركيب الماء بذرات الكاربون
فينتج أوكسيد الكاربون ، وعند ما يهبط هذا الاوكسيد على الأرض يتركب مع الاتربة
فينتج نوعاً من السماد المفيد والقوي والمؤثر.
نعم ، إنَّ الرعد
والبرق لهما هذه الآثار ، وهما من آيات الله العظمى. والمدهش أنَّ الله كشف عن هذه
الأسرار العلمية في وقت لم تخطر في ذهن الإنسان هذه الامور أبداً.
طبقاً للآية
الشريفة ، الرعد يحمد الله ويسبّح له ، والتسبيح هنا يعني تنزيه الله من أي عيب
ونقصٍ ، ألم يكن قتل الآفات النباتية تنزيهاً لله من كل عيب ونقص؟ أليست هذه
الظاهرة تسبيحاً لله نوعاً ما؟
إنَّ الرعد يحمد
الله على صفاته وجلاله وجماله. ألم تكن تغذيه النباتات نوعاً من الحمد والثناء لله
في عالم الممكنات والمخلوقات؟
لا شكَّ أنَّ
الآيات ١٢ و ١٣ تشير إلى هذه النقطة وتعدّها من وجوه عظمة الخالق.
الخلاصة : أنَّ
الآيتين أشارتا إلى بعض من الآيات الإلهية المهمة ، أي الرعد والبرق والمطر
والصاعقة.
الشرح والتفسير
(لَهُ دَعْوَةُ
الحَقِّ) يختلف المفسرون في المراد من هذه الجملة ، فالبعض يرى أنها
تعني التوحيد ، والتوحيد خاص بذاته تعالى.
ويعتقد بعض آخر
أنَّ المراد منها هو القرآن المجيد ، فهي تشير إلى هذا الكتاب الإلهي.
وكثير من المفسرين
فسَّرها بالدعاء ، أي إذا أراد الإنسان أن يستجاب دعاؤه دعى الله خالصاً ، فغيره
لا يحلّ شيئاً من المشاكل بل الله هو الوحيد القادر على استجابة الدعاء وحل
المشاكل.
والشاهد على هذا
الرأي (الرأي الثالث) الذي نحن نذهب إليه هو ذيل الآية ، حيث تقول :
(وَمَا دُعَاءُ
الكَافِرينَ إلّا فِي ضَلَالٍ)
إنَّ سبب كون دعاء
الكافرين في ضلال هو أنَّهم يسألون من لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه ، ولا
يستطيع كسب منفعةٍ لنفسه فضلاً عن نفعه الآخرين.
(والّذِيْنَ يَدْعُونَ
مِنْ دُوْنِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ إلّا كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى
الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) إنّ شاهد حديثنا في المثل العشرين هو هذا الجزء من الآية.
إن الذين يدعون
غير الله ويقصدون معابد الاصنام ويتوسلون بها لأجل حلّ مشاكلهم ، فمشاكلهم سوف لا
تُحل. ومثل إنسان كهذا مثل الذي يبسط يده ويمدها ليأخذ الماء ويشرب ، وهو لا
يستطيع من خلال هذا العمل شرب الماء أبداً.
اختلف المفسرون في
تفسير (كَبَاسِطِ كَفّيْهِ
إلى المَآءِ ...) نشير إلى أقوالهم هنا :
١ ـ المراد منها
هو شخص عطشان يريد إرواء عطشه فيقصد بئراً ليس فيه حبل ولا دلو ، وعمق البئر كثير
جداً ، فيبسط هذا الشخص يديه في البئر ، لكن يديه لا تمتدان إلى أكثر من مترٍ
واحدٍ. ولا شك أنَّ شخصاً مثل هذا سوف لا يبلغ هدفه ولا يروي عطشه.
٢ ـ مراد الآية هو
الشخص الذي يقف بجنب البئر ويشير للماء لكي يصعد ويشرب منه.
ومن الواضح أن
الماء هنا لا يُنال بالاشارة إليه ، بل هناك حاجة واقعية لوسيلة ترفعه.
نعم ، دعاء
الكافرين عند معبد الأصنام ضلال ، وحالهم حال إنسان كهذا.
٣ ـ إنَّ (باسط)
تعني الذي يفتح يديه ولا يحنيهما بحيث يتمكن الاغتراف بهما. فإنَّ هذا الشخص يذهب
إلى جنب الماء ويغترف منه بيديه حال كونه فاتح يديه وباسطهما ، وهو أمر لا يوفّر
له الماء فيضطر للابتعاد عن مصدر الماء ، وهو عطشان.
نرى أنَّ التفسير
الأوّل هو أنسب الثلاثة ، رغم إمكانية القول بأنّ الثلاثة صحيحة وكلها تبيّن
مراداً واحداً ؛ وذلك لانَّا نعتقد بامكانية استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى
واحد.
وعلى ما تقدم
علينا ـ لأجل حل المشاكل ـ أن لا نطرق غير باب الله ، بل نقصد بابه منذ البداية ،
فهو الخالق والرازق والمحيي والمميت وهو حلّال المشاكل وكل شيء بيده. اما غيره فلا
__________________
شيء بيده ؛ لأنّه
ما من موجود إلّا وهو يحتاج إلى الله الغني ، فالكل يحتاج إليه فكل شيء عاجز ، وهو
القادر ، وكل شيء ضعيف ، وهو القوي والقادر المطلق ، فلا يصح الذهاب لا لمعبد
الأصنام فحسب بل لكل شيء غير الله.
خطابات الآية
١ ـ هل التوسّل
بالمعصومين عليهمالسلام شرك؟
وبعبارة اخرى : هل
أنَّ الأدعية والتوسلات بالأئمة تشملها الآية الشريفة وينهى عنها الشارع المقدس
وينبغي الاجتناب عنها؟
نقول جواباً عن
التساؤل الماضي : إنَّ التوجه لهؤلاء العظماء لا يعني طلبنا منهم حل المشاكل بشكل
مباشر ، بل نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ويبحثوا لنا عن حلٍّ لنا من الله
القادر المطلق ؛ وذلك لأنّا نعتقد أنَّ هؤلاء إذا استطاعوا فعل شيء فبأذنٍ من
الله. أما الوهابيون الذين ينسبون لنا الشرك والكفر لأجل هذه الأدعية والتوسلات
فانّهم على خطأ ، وهم لا يعرفون المعنى الحقيقي للشرك والكفر ، كما أنَّهم لم
يستوعبوا ماهية التوسل الذي عند الشيعة.
في رحلتي لمكة
والمدينة عام ١٤١٩ ه. ق التي كانت لغرض أداء العمرة ، حضرت صلاة الجمعة في اليوم
الثاني والعشرين من شعبان في المسجد الحرام ، وكنت أصغي لما يقول الخطيب. والمدهش
هنا أنَّ الخطيب كان يقرأ عن ورقة قد أعدّها من ذي قبل ، يبدو أنّه ما كان مجازاً
لإضافة او تنقيص ولو كلمة واحدة ، فتذكرت خطبة الجمعة في مدن ايران ومدى ما يتمتع
به الخطيب من حرية التعبير والتحليل. وعلى أي حال هاجم هذا الخطيب في أثناء خطبته
اولئك الذين يتوسلون عند القبور المشرّفة ورماهم بالشرك والكفر.
بالطبع لم نسكت
أمام هجوم هذا الخطيب ، بل كتبنا رسالة إلى زعماء السعودية اعترضنا فيها عما تفوّه
به هذا الشخص.
إنَّ الذين
يعتقدون بالدعاء والتوسّل لا يعتبرون أولياء الله شركاء لله ، بل شفعاء عنده. وبعبارة
اخرى : أنَّ اعتقادنا هو تجسيد للآية الشريفة (المائدة ١١٠) التي تحدّثت عن السيد
المسيح (على نبينا
وآله وعليهالسلام) (وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كِهْيئَةِ الطَّيْر بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً
بِإذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى
بِإذْنِي ...)
في هذه الآية نسب
الخلق والاحياء والشفاء كلها للسيد المسيح عليهالسلام لكن بإذنٍ من الله تعالى.
والشيعة لا تقول
شيئاً غير هذا الذي في الآية الكريمة ، فالشيعة تعتقد أنَّ العظماء والأولياء
يمكنهم فعل الكثير الذي يعجز عنه البشر لكن باذن الله ، كما يمكنهم أن يشفعوا
للعباد عند الله لحل مشاكلهم. وعلى هذا فدعاء الشيعة وتوسلهم لا شرك ولا كفر.
ومع هذه الايضاحات
نقول : إنَّ الذي يعدُّ الشيعة لاجل دعائهم وتوسلهم مشركين ، فهو يعدُّ السيد
المسيح مشركاً كذلك.
ويمكننا أن نستفيد
مما سبق ضمنياً أن المعجزة قد لا تحصل بدعاء النبي وإجابة الله مباشرة ، بل قد
تكون من النبيّ أو الولي مباشرة لكن بإذنٍ من الله تعالى كما هو الحال بالنسبة
لمعجزة شق القمر التي صدرت عن رسولنا صلىاللهعليهوآله ، وهذا أمر غير مستبعد.
٢ ـ الصور
المختلفة لعبادة الأصنام
لعبادة الاصنام
تاريخ طويل واشكال مختلفة ، فقد تكون بشكل صنم يُصنع بأيدي الناس من الحجر أو
الخشب أو الفلز بل وحتى من الاغذية ، ثم يقع لها الإنسان ساجداّ وعابداً.
في برهة من الزمن
كان المشركون يقدمون على انتخاب موجودات غير ذات شعور يعتبرونها أصناماً للعبادة ،
لذلك عبد البعض الشمس ، والآخر النجوم أو القمر ، بل انّ البعض أقدم على عبادة أنهار أو بحيرات مهمة مثل نهر
النيل أو بحيرة ساوة في ايران ، وقد يكون جفاف بحيرة ساوه وانطفاء معبد فارس عند
ولادة الرسول بسبب أنها كانت معابد للإنسان آنذاك.
__________________
وفي بعض من بقاع
العالم كان البعض يعبد الاشجار وبخاصة شجرة الصنوبر التي كانت منذ القدم معبوداً
لمجموعة من الناس. من هنا اعتقد بعض المفسرين أنَّ (أصحاب الأيكة) هم أنفسهم عبدة
شجرة الصنوبر الذين كانوا منشأ لخرافة (سيزده به در) أي الثالث عشر من بداية السنة
الشمسية.
وفي زمن كانت
الحيوانات آلهة لبعض من الناس. ومِمّا يؤسف له أنّ هذا النوع من العبادة لا زال
موجوداً في بعض المناطق من الهند.
وقد ألّه البعض
أشخاصاً من البشر ، كما هو الحال بالنسبة لفرعون حيث كان البعض يعبده كربٍّ لهم ،
ويقول القرآن المجيد نقلاً عن فرعون نفسه : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ
يا أيُّهَا المَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلهٍ غَيْرِي) وقد ألّه البعض الملائكة في بعض الأحيان.
يقول أحد المؤرخين
: (كل شيء في العالم قد تألّه ، وكان يُعبدُ في يوم ما ونحن لا نعرف شيئاً لم
يتألَّه ولم يُعبد في يوم من الأيام).
على كل حال ، أنَّ
ما يجمع عبادة الأصنام هو التوجه إلى ما سوى الله والغفلة عن الله رب العالمين ،
وقد جاء على لسان بعض العظماء : (كلّ ما شغلك عن الله فهو صنمك). من هنا عُدَّ
المال والبنون والمرأة والثروة والمقام والصديق وكل شيء يغفلنا عن الله صنماً.
القرآن قد شطب على
كل شيء سوى الله ، ولا يرى أهلية العبادة لغير ذاته الحقة ، فإنَّ جميع المخلوقات
فقيرة وتحتاجه وتفتقر فيضه في كل آنٍ ولحظة ، ليس في بداية الخلق فحسب بل لادامة
الحياة واستمراريتها كذلك.
إنّ مثل حاجة
الإنسان إلى الله كمثل حاجة المصباح إلى مولد الكهرباء ، فكما أنَّ المصباح يحتاج
إلى المولد في كل لحظة ما دام متقداً ، كذلك الإنسان فانه يفتقر فيض الله في كل
لحظاته ما دام حياً.
وبعبارة أُخرى :
أنَّ كل لحظة من لحظات العمر هي خلق وصنع جديد (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي
__________________
شَأنٍ) وبخاصة إذا فسرنا ذلك حسب رؤية (الحركة الجوهرية) فإنَّ
الأمر سَيكون أوضح.
الدعاء من وجهة
نظر القرآن والروايات
إنّ الدعاء قضية
مهمة جداً وقد انعكست بشكل واسع في القرآن وروايات المعصومين عليهمالسلام. وفي هذا المجال مباحث وأسئلة عديدة نشير إلى بعضها هنا :
١ ـ ما هي فلسفة
الدعاء؟ إذا كنا مستحقين للاجابة فالله العالم بالظاهر والباطن سيستجيب لطلباتنا
من دون حاجة إلى دعاء ، وإذا لم نستحق الاجابة فإنَّ الله سوف لا يجيب لطلباتنا
سواء دعوناه أم لم ندعه ، ولا تأثير لدعائنا هنا!
وبتعبير آخر :
أنَّ طلبتنا إذا كانت بمصلحتنا فسيوفرها لنا الله من دون حاجة إلى دعاء ، وإذا لم
تكن بمصلحتنا فانه سوف لا يوفرها مهما أصررنا بالدعاء والتوسّل.
إذن ما فلسفة
الدعاء وما دوره؟
٢ ـ ما هي شروط
إجابة الدعاء؟ وما علينا فعله لكي يستجيب لنا الله الدعاء ولكي نبلغ هدف الاجابة؟
٣ ـ ما هي موانع
استجابة الدعاء؟ لماذا لم يُستجب لبعض الأدعية رغم الاصرار الوافر في طلبها؟
٤ ـ ما هو أسوأ
دعاء؟
الدعاء أفضل عبادة
المستفاد من
الآيات والروايات هو أنَّ الدعاء ليس كونه عبادة فحسب ، بل من أفضل العبادات.
__________________
ولأجل إيضاح أهمية
الدعاء نشير إلى ثلاث آيات من القرآن وست روايات من المعصومين :
١ ـ يقول الله
تعالى في الآية ٦٠ من سورة غافر (المؤمن) : (وَقَالَ رَبُّكُمْ
ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الّذِين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ)
استخدمت الآية في
البداية مادة (الدعاء) ثم أبدلتها بمادة (العبادة) في نهاية الآية.
لماذا عبّر القرآن
بالعبادة عن الدعاء؟
قال البعض : إنَّ
العبادة بمعناها المطلق هي دعاء ، ولأجل ذلك كان تعبير الروايات بأنَّ «الدعاء مخ
العبادة».
٢ ـ يقول الله
تعالى في الآية ٧٧ (آخر آية) من سورة الفرقان : «(قُلْ مَا يَعْبَؤُ
بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُم فَقَد كَذَّبْتُم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً)
إنَّ هذا التعبير (ما يعبؤُ بِكُم ...) والذي يعني عدم اهتمام الله بكم لو لم تدعوا ، لم يستعمل
في العبادات الاخرى مثل الحج والصوم والجهاد وغير ذلك ، وقد استخدم في الدعاء فقط
، وهو تعبير يعني باطلاقه أنّ الذي يجعل الله يهتم بكم ويعتني رغم الذنوب والآثام
هو الدعاء ، فقدروا هذه العبادة وثمّنوها.
٣ ـ يقول الله
تعالى في الآية ١٨٦ من سورة البقرة بعد الحديث عن فضيلة واحكام شهر رمضان المبارك
: (وإذا سَألك عِبَادِي
عَنِّي فَإنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
لا شكّ أنّ تعبير
الآية التالية : (نحن أقْرَبُ إلَيكْمْ
مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ) للإشارة إلى قرب الخالق إلى المخلوق ، هو أجمل تعبير يمكن
أن يرد في هذا المجال.
وعلى هذا ، فإنَّ
التفكير في الآيات السابقة يرشدنا إلى أنَّ الدعاء من وجهة نظر الإسلام أمر مهم
جداً بحيث اضافة إلى كونه عبادة يوجب اعتناء الرب بالإنسان ، كونه وسيلة لتقرّب
العبد إلى مولاه.
الدعاء في
الروايات
__________________
قلنا سابقاً :
إنَّ الكثير من الروايات تناولت قضايا الدعاء ، نكتفي هنا بذكر ستٍ منها.
١ ـ يقول رسول
الله صلىاللهعليهوآله : «الدعاءُ سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض».
نعم ، رغم أنَّ
الدعاء عبادة سهلة ، لكنّه ، حسب ما يستفاد من كلمات الرسول صلىاللهعليهوآله ـ يحضى بشأن رفيع عند الله. إلّا أنَّ الإنسان غافل عنه
بسبب سهولته وبساطته.
٢ ـ يقول أمير
المؤمنين عليهالسلام : «الدعاءُ مفتاحُ الرحمة ومصباح الظُّلمة». نعم ، هو مصباح ليس في الدنيا فحسب بل في الآخرة كذلك.
٣ ـ يقول رسول
الله صلىاللهعليهوآله في رواية اخرى : «عمل البرّ كلّه نصف العبادة ، والدعاء
نصف».
٤ ـ يقول الإمام
الصادق عليهالسلام : «أكْثِرْ من الدعاء فإِنّه مفتاح كلّ رحمةٍ ونجاح كلِّ
حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء ، وليس باب يكثر قرعه إلّا يوشك أن يفتح
لصاحبه».
وعلى هذا ،
فالإنسان لا ينبغي أن يخيب أمله بمجرد عدم الإجابة ، لأنّ الله قد يريد تطهير قلب
العبد وتأديبه وتربيته من خلال الدعاء.
٥ ـ يصف الإمام
الصادق عليهالسلام الدعاء بالشكل التالي : «أفضل العبادة الدعاء».
٦ ـ يقول الإمام
علي بن موسى الرضا عليهالسلام : «عليكم بسلاح الأنبياء» ، قيل : ما سلاح الأنبياء؟ قال :
«الدعاء».
يستشف مما سبق من
الآيات والروايات أنَّ للدعاء شأناً عظيماً في الإسلام ويحضى بأهمية كبيرة.
سر الدعاء في
الإسلام
__________________
لماذا يحضى الدعاء
في الدين بدرجة وقيمة كبيرة ، بحيث عُدَّ أفضل العبادات وسلاحاً للمؤمن وعموداً
للدين ونور السماوات والأرض ومفتاح الرحمة ومصباح الهداية ونصف العبادة وسر النصر
وسلاح الأنبياء وسبباً لرفعة شأن الإنسان عند الله؟
إذا دققنا في هذه
التحفة والهدية الإلهية ودرسناها جيداً لوجدناها أهلاً لهذه الأُمور كلها.
إنَّ الدعاء يترك
آثاراً مهمةً في الإنسان ، وأهم تلك الآثار هو التربية ، فإنَّ الدعاء سبب لتربية
الإنسان وتزكيته.
إنَّ التعليم
والتربية اللتين ابتنيت عليهما بعثة الأنبياء ، يُعدان من أهم أهداف البعثة ، ومما لا شك فيه أن التعليم مقدمة للتربية ، لذلك كانت
التربية الهدف النهائي للبعثة.
العلاقة بين
الدعاء والتربية
للدعاء آثار
تربوية كثيرة نشير إلى ثلاثة منها :
إنّ الأثر الأوّل
هو إيجاد نور الأمل في قلوب الناس ، فالإنسان الخائب الأمل يكون في عداد الموتى.
إنَّ المريض يتحسّن إذا كان قد ملأ قلبه بنور الأمل وسوف لا يتحسّن إذا فقد أمله في
التحسن ، كما أنَّ السبب الرئيسي لنجاح المقاتلين في ميادين الحرب هو الأمل
والمعنويات العالية ، أما العسكر الذي يفقد الأمل ولا يتحلى بمعنويات عالية فسوف
يخسر المعركة ولو كان قد عُدَّت له العدة وجُهِّز بأكثر الاسلحة تطوراً.
إنَّ الدعاء يعكس
ضوء الأمل في قلب الإنسان.
إنَّ أصحاب الدعاء
والمتوكلين على الله ـ رغم مشاكلهم الكثيرة وأعداءهم الجسورين وفقرهم المالي ـ إذا
توجهوا إلى الله وناجوه ، حيث قلوبهم نضحت بنور الأمل ، وتفاءلوا بالمستقبل ،
وكأنّهم مُنحوا حياة جديدة ؛ وذلك لأنّهم مدوا أيدي العون إلى من كانت أصعب الشدائد
عنده أسهلها ، مدوا أيديهم إلى الله الذي لا موقع للصعب والسهل عنده ، وذلك لأنَ الصعب
يعني الشيء الذي فوق القدرة والسهل يعني الشيء الذي أدنى من القدرة ، وهل هناك
__________________
شيء يفوق قدرة
الله؟
وعلى هذا ، فلا اختلاف
عند الله بين الصعب والسهل ، فاذا أراد شيئاً قال له (كن) فيكون في لحظة حتى لو
كان ذلك الشيء هو صنع ملايين من الشموس المثيلة لشمس الأرض.
إنَّ الإنسان إذا
دعا وناجى من يملك مثل هذه القدرة وسجد له وخشع وبكى وطرح مشاكله عليه ، فلا شك
أنَّ نور الأمل سيستحوذ على قلب هذا الشخص.
٢ ـ الاثر الثاني
للدعاء هو ايجاد نور التقوى في الإنسان الذي هو السبب في تقرّب الإنسان إلى ربّه.
التقوى هو زاد
نجاة الإنسان يوم القيامة ؛ وهو جواز دخول الجنة.
الدعاء يحيي هذه
الجوهرة الثمينة في قلب الإنسان ، إنَّ الإنسان إذا ناجى الله وتوسل به ودعاه
باسمائه الحسنى وصفات جماله وجلاله ، فإنَّ ذكر هذه الصفات سيترك أثراً يسوق
الإنسان نحو الله بشكل يشعر الإنسان بأنه إذا أراد الاستجابة تاب وأناب إلى الله.
إنَّ الدعاء يدعو
الإنسان إلى التوبة ، والتوبة تدعو الإنسان لاعادة النظر في حياته ، وفي نهاية هذه
الحركة يتقد نور التقوى في حياة الإنسان.
جاء في حديث : «من
تقدّم في الدعاء استجيبت له إذا نزل به البلاء ، وقالت الملائكة : صوت معروف ولم
يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت
الملائكة : إنّ ذا الصوت لا نعرفه».
يقول الإمام علي عليهالسلام في خطبة همّام القيمّة عند بيانه لأوصاف المتقين : «نُزّلت
أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزلّت في الرّخاء».
ولهذا ، لا فائدة
في مناجاة فرعون وإقراره بالتوحيد ، فقد جاء في الحديث ما يلي :
__________________
«... قال جبرائيل
: ... لمّا غرق والله فرعون قال : آمنت أنّه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو
اسرائيل. فأخذت حمأة (جكومة من طين) فوضعتها في فمه ...».
٣ ـ إنّ الاثر
التربوي الثالث للدعاء هو تقوية نور المعرفة.
إنّ الإنسان عند
ما يتجه إلى الله سوف يبدأ بالتفكير بأن الله قادر وعالم بما خفي عنا وبما ظهر
ومحيط بجميع الأسرار ، وهذا سوف يرفع من مستوى معرفة الإنسان ، وبخاصة إذا كانت
الأدعية المقروءة من الصحيفة السجادية أو المناجاة الشعبانية أو الصباح أو كميل أو
الندبة ، فهي تضمّ أرقى الدروس العرفانية ، ومع وجود أدعية ، أمثال هذه ، لا داعي
بالنسبة لطلبة العرفان أن يلجؤوا إلى كتب مشكوك في أمرها.
وعلى هذا ،
فالدعاء يوقد نور التقوى والمعرفة في قلب الإنسان.
سؤال : نقرأ في
دعاء شهر رجب ـ الذي يستحب قراءته بعد كل صلاة من الشهر ـ العبارة التالية : «يا
من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه».
وعلى أساس هذه
العبارة فان الله يعطي كل شخص سواء دعاه أم لم يدعه ، وسواء كان عارفاً به أم لم
يكن. وعلى هذا فما فائدة الدعاء وجدواه؟
الجواب : إنّ لفيض
الله وبركاته أقساماً وأنواعاً :
قسم يمنحه الله
لجميع البشر ، مثل الغيث ، فالجميع من الكافر والمؤمن والعارف وغيره يفيدون منه.
وقسم من البركات
تمنح للعارفين من المؤمنين ولا تشمل غيرهم.
وقسم من البركات
والفيض يُمنح للداعين فقط دون غيرهم.
جاء في حديث : «لا
تقل إنَّ الأمر قد فرغ منه ، إنَّ عند الله منزلة لا تُنال إلّا بمسألة».
وعلى هذا ، فإنَّ
القسم الأول هو الوحيد الذي يشمل الجميع أما القسم الثاني والثالث فالإيمان
والدعاء يؤثران فيهما.
موانع وشروط
استجابة الدعاء
__________________
لماذا لم يُستجب
لبعض أدعيتنا؟ لماذا لم تتحقق وعود الله في مجال استجابة الدعاء؟ هل الاشكال من
قبل الله ـ نعوذ بالله ـ أم الاشكال من قبل الداعين أنفسهم؟
إنَّ هذه الشبهات
كان يطرحها الصحابة والمسلمون في زمن الأئمة المعصومين (عليهمالسلام) ، وكان أهل
الذكر (الائمة) يجيبون عليها في روايات وردت عنهم.
مجموع الروايات
السابقة وروايات اخرى جاءت في هذا المجال (ولم تتضمن أسئلة) تكشف عن أنّ هناك
شروطاً لاستجابة الدعاء ، على الداعين توفيرها وتحصيلها ، كما عليهم إزالة الموانع
والعقبات عن الاستجابة.
وعلى هذا ، فإنَّ
الإنسان إذا دعى من دون تحصيل الشروط ورفع العقبات والموانع ، ولم يستجب دعاؤه ،
فما عليه أن يلوم إلّا نفسه. إنَّ مَثَلَ الداعي من دون تحصيل الشروط ورفع الموانع
مَثَلُ المريض الذي يذهب للطبيب للتداوي فيكتب الطبيب له نسخة تتضمن إرشاد المريض
بحقن ابرٍ في كل يومين مرة ، وبعد استلام المريض الدواء واستهلاكه وعدم الشفاء
يرجع المريض للطبيب قائلاً له بعصبية : (أي طبيب أنت وأي دواء كتبت لي؟! لم أشف
منه أبداً) فيسأله الطبيب : (هل حقنت الابر في كل يومين مرة؟) فيجيبه : (لا بل في
كل ثلاثة أيام).
ويسأله مرة اخرى
هل : (استخدمت المضادات الحيوية في كل ثمان ساعات؟) فيجيبه المريض : (كنت أبتلع في
اليوم كبسولة واحدة) ويسأله مرة اخرى : (امرتك بالاستراحة لمدة اربعة أيام هل
استرحت فيها أم لا؟) فيجيبه : (وهل هذا أمر ممكن رغم ما نعانيه من غلاء في السلع
والأغذية؟ فاني رجعت للعمل في نفس اليوم).
فيهز الطبيب رأسه
ويقول له : (لا إشكال في الأدوية التي كتبتها لك ، والاشكال هو فيك من حيث إنَّك
لم تعمل بما أمرتك به ، الامر الذي أدى بك أن لا تسترجع صحتك وعافيتك فلا تلم إلا
نفسك).
كذا الحال لو أعطى
متخصص زراعي بذوراً لفلاحٍ وأمره بنثرها وزرعها والعناية بها بشكل خاص وسقيها في
أوقات محددة ، والفلاح لم يعمل بوصايا المتخصص ، وكانت النتيجة هي عدم إثمار
البذور ، فإنَّ المقصّر هنا هو الفلاح نفسه لا شخص آخر.
اعزتي : أيها
الصيام المحترمون! إخواني وأخواتي الأعزة! إن أدعيتنا مثل البذور فلا يكفي
نثرها على الأرض ،
بل هي بحاجة إلى سقي وعناية خاصة واستخدام الأسمدة والسموم لمكافحة الآفات.
إنّ ما تقرّه
الروايات هو ضرورة توافر الظروف والشروط وارتفاع الموانع لأجل الاستجابة. لكن
المؤسف هنا هو توقعنا الأجابة من دون توفير هذين الأمرين ، وذلك غير معقول.
نشير هنا إلى بعض
من شروط وموانع استجابة الدعاء :
١ ـ عدم معرفة
الله أهم مانع عن الإستجابة
بعبارة اخرى :
أَنَّ معرفة الله من الشروط الاساسية بل أهم شرط لاستجابة الدعاء.
وهل يمكن الطلب
مِمَّن لا يُعرف وممَّن نجهله؟!
في رواية عن
الإمام الصادق عليهالسلام سأله البعض عن سبب عدم استجابة الدعاء فأجابهم : «لأنّكم
تدعون من لا تعرفونه».
وعليه ، فكما قلنا
سابقاً : إنّ الدعاء يلقي بنور المعرفة في قلب الإنسان ، والمعرفة هي الأساس
للدعاء ، أي أنّ لهذين آثاراً متبادلة.
يقول الله في
القرآن : (إنَّ الصَّلاة
تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ) أي أنَّ المجتمع المصلي لا يتلوّث بالذنوب وكذا الأفراد ؛
لأنَّ الصلاة هي الضمان والأمان من الذنوب.
مع ملاحظة الآية
الشريفة السابقة ، لماذا نرى بعض المصلين يرتكبون الذنوب؟ هل الاشكال ـ نعوذ بالله
ـ من الآية نفسها أم من المصلي ذاته؟ المصلي إذا ما كان عارفاً بالذي يصلي إليه
ويسجد له ، فإنَّ صلاته سوف لا تكون تأميناً له من الذنوب ومانعاً له عن المعصية. إنَّ
معرفة الله جوهرة ثمينة وهي شرط لكثير من العبادات ، بل هي شرط حتى للزيارات ؛
وذلك لأنَّ ثواب وآثار الزيارات تخص ذلك البعض الذي تقترن زيارته بمعرفة الله.
__________________
وعلى هذا ، فإنَّ
الشرط الأوّل لاجابة الدعاء هو معرفة صفات جلال الله وجماله وأفعاله واسمائه
الحسنى ، وعلى كل شخص أن يحوي هذه المعرفة قدر طاقته وامكانه.
٢ ـ النيّة
الصادقة والقلب المخلص
إنَّ الشرط الثاني
لاجابة الدعاء هو النية الصادقة والطاهرة والقلب المخلص والعاري عن الرياء.
وفي هذا المجال
يقول الإمام الصادق عليهالسلام «إنّ العبد إذا
دعا الله تبارك وتعالى بنيّةٍ وقلبٍ مخلصٍ استجيب له بعد وفائه بعهد الله عزوجل».
إنَّ العمل بعهد
الله والوفاء به ـ والذي هو صفاء القلب والاخلاص في النية ـ هو شرط قبول الدعاء.
ينبغي الالتفات
إلى كيفية تربية الدعاء للإنسان ، إنَّا نطرق باب الله لقضاء الحاجة وحلّ المشاكل
، إلّا أنَّه علينا أن نعلم بعدم امكانية الاستجابة إلّا بالاخلاص وصفاء القلب ،
لذلك كان علينا السعي في التزكية وتهذيب النفس.
٣ ـ الاكل الحلال
شرط مهم وصعب لاجابة الدعاء
يقول الرسول صلىاللهعليهوآله في رواية جميلة جداً ومنذرة كذلك : «أطب كسبك تستجاب دعوتك
، فإنّ الرجل يرفع إلى فيه حراماً فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً».
بعض الناس تلوثت
أموالهم ومكاسبهم بالحرام وذلك بالتطفيف والربا وظلم الآخرين وعدم أداء الواجبات
المالية ، رغم ذلك يتوقعون من الله الإجابة.
المستفاد من
الكلام الثمين لرسول الله صلىاللهعليهوآله هو أنَّ الدعاء عامل مهم في تربية الإنسان ويحضُّ الإنسان
على رعاية الحلال والحرام.
__________________
من الإنصاف أن
نقول : إنَّ رعاية الحلال والحرام له دور مهم في حياة الإنسان ، وأنَّ الناس إذا
اهتموا بهذا الجانب من حياتهم لما تكدست الاضبارات والشكاوى في المحاكم.
إذا راعى الناس
الحلال والحرام ما كان مجتمعنا يضمُّ هذا المقدار من الفقراء.
أسفاً أنّ البعض غافل
عن هذا ويبرّر عمله بشكل أو آخر ويقول : أين الحلال والحرام؟ لا وجود للحلال لكي
نراه.
يقول أحد هؤلاء
الذين يتمسكون بتبريرات هي هراء في الواقع : (إنَّ الحلال الوحيد في الدنيا هو ماء
المطر ويمكنك الاستفادة منه في وسط النهر فقط لأنه مكان نطمئن بعدم غصبه ، فعند
هطول الامطار قف هناك وافتح فمك لتناول القطرات ، وهذا هو المقدار الوحيد المسلّم
بحليته).
إن أُناساً مثل
هذا يخادعون أنفسهم (يُخَادِعُونَ اللهَ
وَالّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلّا أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)
وبعبارة اخرى :
أنَّهم يغالطون أنفسهم ؛ وذلك لأنَّ حديثنا في الحلال والحرام الظاهريين ، وهم
يتحدثون عن الحلال والحرام الواقعيين ، مع أنَّا مأمورون بالعمل حسب الظاهر لا
الواقع.
ألم يهيء أئمتنا
مأكولاتهم ومشروباتهم من سوق المسلمين هذا ، وهم في الوقت ذاته يلتزمون بالظواهر
ولا يحتاطون إلّا في الاماكن المناسبة. مثلاً كانوا يفيدون من الخبز واللحم اللذين
لم تدفع زكاتهما؟
ومن المناسب لنا
كذلك أن نعدّ مقدار استهلاكنا السنوي للخبز واللحم وندفع زكاته ؛ لأنّ الكثير من
المزارعين والرعاة لا يدفعون زكوات أموالهم ونحن نفيد من محصولاتهم ومنتجاتهم ،
وهذا مؤسف حقاً ؛ لأنه ابتلاء لنا.
رغم أننا معذورون
بسبب عدم العلم إلّا أنَّ عدم الدفع سوف يترك أثره الوضعي. ولذلك كان عده ودفع
زكاته أمراً مستحسناً ويسبب الطهارة القلبية والنزاهة الروحية.
النتيجة هي أنَّ
الأكل الحلال لا يؤثر في الدعاء فحسب ، بل في جميع عبادات الإنسان من
__________________
الصلاة والصوم
والحج والزيارات الواجبة والمستحبة وأمثال ذلك. ومن ناحية أُخرى ، انّ الأكل
الحرام لا يمنع عن استجابة الدعاء ، بل يؤثر سلباً على نشاط الإنسان ومعنوياته
وعباداته وزياراته ويجره إلى الكسل عن قراءة القرآن واقامة الصلاة ، وهو في
النهاية يحول دون الالتذاذ بهذه الأعمال.
٤ ـ حضور القلب
الشرط الرابع
لاستجابة الدُّعاء هو حضور القلب ، ومن الواضح أنَّه شرط ذات أهمية وقيمة ؛ لما
جاء في رواية : سُئل النبي صلىاللهعليهوآله عن اسم الله الأعظم؟ فقال : «كل اسمٍ من اسماء الله أعظم
ففرِّغ قلبك من كلِّ ما سواه وادعه بأي اسم شئت».
من هنا يتضح أنَّ
الأسم الأعظم ليس لفظاً خاصاً ـ كما يتصوره البعض ـ لكي يُنطق به وتحل به جميع
المشاكل ، بل إنّه حالة وصفة خاصة ينبغي ايجادها في باطن الإنسان ، وهي عبارة عن
تطهير القلب.
القلب إذا كان
مركزاً للأصنام (صنم المال وصنم المقام وصنم الشهرة وصنم الزوجة والاولاد وما شابه
ذلك) فالدعاء إذا صدر فيصدر من معبد الأصنام هذا. ومن الواضح أنَّ دعاءً كهذا لا
يستجاب.
الخطوة الأولى
للاستجابة هو الاقتداء بما فعله ابراهيم عليهالسلام وعلي عليهالسلام في كسرهما الأصنام ، فبذلك تطهر القلوب ، فهي آنذاك تصفى
للواحد الأحد ، ثم ادعه بأي اسم شئت ، وسوف لا تكون النتيجة إلّا الاستجابة.
مع الالتفات إلى
الشروط الاربعة الماضية نقول : هل نحن وفّرنا هذه الشروط؟ هل كان طعامنا من حلال؟
هل كان قلبنا خالياً من الأغيار؟ هل كان الصفاء والاخلاص في النية هو الذي يحكمنا؟
هل كنا نعرف الله؟
__________________
إذا كنا نفقد هذه
الشروط علينا السعي في كسبها وبخاصة في شهر رمضان المبارك ، شهر الرحمة واللطف
الالهي ، وهو شهر تستعدُّ فيه روح الإنسان لهذه الامور أكثر ، كما هو فرصة مناسبة
للدعاء ...
استجابة بعض
الأدعية ليست بمصلحة الإنسان!
رغم أنَّا كُلّفنا
بالدعاء ونأمل الاجابة ، لكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ إجابة بعض الأدعية ليس
بمصلحة الإنسان رغم أنَّه يراها بمصلحته وأنها توفر سعادته ، لكن الله يرى فيها
الهلاك والشقاء لذلك لا يستجيب لها.
قلنا في قصة ثعلبة
الانصاري التي مضت في البحوث السابقة : إنَّ ما أراده وطلبه من الله لم يكن
بمصلحته ، إلّا أنَّه كان يصرّ على دعائه وطلبه ، وكانت نتيجة الاستجابة هي فقده
الايمان وضلالته واعتراضه على بعض القوانين الإلهية. وهذه القصة تتضمن دروساً
وعبراً عظيمة للجميع.
قد يُقدم شاب على
خطبة بنت ترفض الزواج منه ، فيدعو الله ويتوسل إليه كثيراً لكي يميل رأيها ويغيره
نحوه ، رغم ذلك لا يستجاب دعاؤه ، فتضلّ في ذاكرته فترة طويلة من الزمن ، إلّا
أنّه يلتفت إلى مصلحة عدم استجابة الدعاء بعد ما يفهم أنَّ المرأة تلد اطفالاً
معتوهين مثلاً.
وعلى هذا ، ما
علينا أنْ نقلق من عدم استجابة أدعيتنا ؛ وذلك لأنَّه يمكن أن تكون عدم الاستجابة
بسبب عدم المصلحة. إضافة إلى هذا ، فإنَّ هناك روايات وردت عن المعصومين عليهمالسلام حكت عن أنَّ الله يعطي العبد في الآخرة ما يعادل أدعيته
غير المستجابة.
سؤالان مهمان عن
الدعاء
السؤال الأوّل :
نجد فيما ورد عن أئمتنا أدعية لا تستجاب أبداً ، كما هو الحال في أدعية شهر
__________________
رمضان الذي تضمّن
بعضها عبارة : «اللهم اقضِ دين كلّ مدين» مع أنَّا نعلم أنَّ هذا الدعاء لا يستجاب
؛ لأنَّه ما دامت الدنيا موجودة فهناك ديون للناس ، والحياة من دون هذه الديون
حياة خيالية لا أكثر ، فما الهدف من هذه الأدعية؟
الجواب : إنَّ
الديون على قسمين ، قسم نشهد ممارسته من قبل التجار والكسبة بأن يستلفوا السلع دون
دفع ثمنها ، ويسددون الثمن بعد بيعها ، أو استلاف الموظفين والعمال السلف من أصحاب
العمل ، وتسديدها تدريجياً من إيراداتهم الشهرية.
والقسم الآخر هو
الدين الذي لا تتوفر للإنسان أرضية دفعه ، رغم ذلك هو مجبور على استلافه ويعلم
بعجزه عن الدفع. ويبدو أنَّ مراد الامام من الدين هو القسم الثاني لا الأول.
القسم الثاني من
الديون لا أنه يستحسن الدعاء فيه ويمكن تحقق الاجابة له ، بل إنَّه بناءً على ما
أمر به الإسلام ينبغي تزامن الدعاء مع اجراءات عملية ؛ وذلك لأنَّ في المجتمع
الإسلامي المتكامل ـ وهو مجتمع صاحب العصر والزمان (عج) ـ لا ينبغي وجود حتى جائع
واحد أو عار واحد أو فقير واحد ، لذلك نقرأ في الدعاء : «اللهم أشبع كلَّ جائع ،
اللهمَّ اكسُ كلَّ عُريان ، اللهم أغن كلّ فقير».
إنَّ شاهد هذا
الحديث هو رواية وردت عن الإمام الصادق عليهالسلام : «إنَّ الله عزوجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أنّ ذلك
لا يسعهم لزادهم».
ومضمون الرواية
السابقة وغيرها هو أنَّ الناس لو دفعوا ما عليهم من واجبات مالية لما بقي جائع ولا
فقير ولا عاري في المجتمع ، وإذا وجدت هذه الشرائح فبسبب عصيان الاغنياء ومنعهم
الفقراء عن حقهم.
إنَّ مجتمع صاحب
الزمان يخلو من الفقر والجوع والدين ... والدعاء لرفع هذه المشاكل لا تبعد إجابته.
السؤال الثاني :
من الاعمال ذات الفضيلة الوافرة في ليلة القدر هي وضع القرآن على
__________________
الرأس ، رغم أنَّ
القرآن كوصفة الطبيب (وَنُنَزِّلُ مِنَ
القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمُؤمِنِيْنَ) ، ولكنها وصفة لا تنفع إلّا بعد العمل بها ، فما جدوى وضع
القرآن على الرأس عند الدعاء في تلك الليلة؟
الجواب : القرآن
ذات جانبين ووصفة الطبيب ذات جانب واحد. فإنَّ القرآن هو كلام الله من جهة ، وهو
ذات الفاظ بذاتها مقدسة من جهة أُخرى. ولذلك يعتقد المسلمون بلزوم الوضوء إذا
أرادوا لمسه. ومن جهة أخرى ، مضمونه مقدس ، لذلك عدّ القرآن (الثقل الأكبر) وأهل
البيت عليهمالسلام (الثقل الأصغر) ،
ولهذا لا يصح قياس وصفة الطبيب على القرآن.
بالطبع ، انَّ هذا
العمل (وضع القرآن على الرأس) يحمل في طياته رسالات خاصة ، فهو يعلمنا لزوم عدم
وضع القرآن تحت الأيدي والارجل (من حيث الظاهر) ، ومن حيث المحتوى والمضمون فهو
يعلمنا اعتبار القرآن على رأس قائمة الاعمال والنشاطات ، وعلى العمل بقوانينه بشكل
متواصل ، وعدم نسيان أحكامه.
المثل الحادي والعشرون
:
الحق والباطل
من أجمل امثال
القرآن هو مثل الحق والباطل ، يقول الله تعالى في بيان هذا المثل ذات المغزى
العميق في الآية ١٧ من سورة الرعد :
(أنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً
رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أوْ
مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحقَّ والبَاطِلُ فأمَّا
الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفَاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ
كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ)
تصوير البحث
إنَّ الحديث في
هذا المثل عن الحقّ والباطل وسعتهما ومجاليهما وعلائمهما وآثارهما وتعريفهما ، وفي
النهاية المواجهة الطويلة والمتواصلة بينهما التي كانت على طول التاريخ.
الشرح والتفسير
(أنْزَلَ مِنَ
السّمَاءِ مَاءً فسالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا) إنَّ نتيجة هطول الامطار على الجبال ونزوله منها هو تجمع
المياه في الاودية حسب حجمها ، وجريانه وصيرورته أنهاراً صغاراً ، وإذا التقت صنعت
نهراً كبيراً ، واذا تجاوز الماء سعة النهر تبدّل إلى سيول عظيمة ومخرّبة.
(فاحْتَمَلَ السَّيْلُ
زَبَداً رَابِياً) هذه الانهار كثيراً ما يحصل فيها أمواج تضرب الاحجار
والموانع التي تقع في طريقها ، وهذه العملية توجد زبداً في الماء يشبه الزبد الذي
يوجده
مسحوق الغسيل ،
يتجمّع على سطح النهر يبدو ساكناً ، أمّا النهر فيستمر في حركته تحت الزبد.
(ومِمّا يُوقِدُونَ
عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِليَةٍ أو مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) هذا الزبد الاجوف والمتكبّر لا يختص بالماء بل قد يحصل
للفلزات عند الصهر والذوبان مثل الحديد والنحاس وغيرهما.
ما يلفت النظر هنا
هو أنَّ عبارة (مِمَّا يُوْقِدُونَ
عَلَيْهِ) أشارت بظاهرها إلى أنَّ النار تُسلّط من الفوق على هذه
المعادن رغم أنَّ النار في السابق كانت توقد على الفلزات من تحت أمّا حالياً
فمعامل الصهر المتطوّرة تسلّط النار من فوق ومن تحت أي لم تستغن عن تسليط النار
على الفلز من الاعلى ، وهو أمر أشار له القرآن منذ ذلك الحين.
(كَذَلك يَضْرِبُ
اللهُ الحَقَّ والبَاطِلَ) أي أنَّ الله لأجل إيضاح المواجهة بين الحق والباطل والتي
يمتد عمرها إلى طول التاريخ يضرب هذا المثل ، فيشبّه الحق بالماء والباطل بالزبد
الأجوف.
(فأمّا الزّبدُ
فيَذْهَبُ جُفَاءً) فإنَّ الزبد ، رغم تفوقه على الماء ورغم علوه عليه ، يذهب
جفاء وكأنَّه لا شيء. إنّ الأمواج التي توجدها السيول هي السبب في ايجاد هذا الزبد
، وبمجرد أن تصل المياه المتلاطمة إلى سهول تصبح آسنة وسرعان ما يذهب الزبد وتترسب
الاوساخ العالقة في الماء ولا يبقى إلَّا الماء الخالص ؛ ذلك لأنّ عمر الباطل قصير
، والهلاك هو نهايته.
(وأمَّا مَا يَنْفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) فالذي يبقى هو ما ينفع الناس من الماء الصافي والفلزات
الخالصة. فالماء ، إمَّا أن يركد في مكان يستخدم للشرب والسقي وإمَّا أن ينفذ في
الأرض ليلتحق بالمياه الجوفية ذخراً للمستقبل ، يستخدم بعد ما يخرج كعيون تلقائياً
أو من خلال حفر الآبار.
(كَذَلك يَضْرِبُ
اللهُ الأمْثَالَ) أي يبيّن الله هذه الأمور للناس في صورة أمثال لكي تدرك
بشكل أفضل.
خطابات الآية
لقد تناولت الآية
قضايا دقيقة جداً ممّا يتعلّق بالحق والباطل باقتضاب ، نقوم هنا بتفصيل هذه
القضايا وبيانها.
١ ـ تعريف الحق
والباطل
على أساس هذه
الآية ، فإنَّ الحق يعني الحقائق والواقعيات ، وأما الباطل فيعني الاوهام
والخيالات التي لا أساس لها.
إنَّ الماء واقع
وحقيقةً ، يتطابق ظاهره مع باطنه ، وله آثار واقعية. أمّا الزبد فله ظاهر خادع من
دون أن يكون له باطن ، كما هو الحال في الخيالات والاوهام.
لقد جاء في
الآيتين ١١٧ و ١١٨ من سورة الاعراف في بيان قصة موسى عليهالسلام مع السحرة كما يلي : (وأوْحَيْنَا إلى
مُوْسَى أنْ ألقِ عَصَاكَ فإذا هِيَ تَلْقَفُ ما تَأفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
إنّ الحق هو معجزة
النبيّ موسى عليهالسلام ، والباطل هو سحر السحرة ، فالمعجزة حقيقة وواقع ؛ لأنَّ
عصا موسى عليهالسلام تبدلت واقعاً إلى أفعى ولم تكن الحادثة تلك شعوذة ـ نعوذ
بالله ـ أمّا أفاعي السحرة فكانت شعوذة خالصة ولم تكن واقعاً ، بل إفكاً ، كما
يعبر عنها القرآن.
إنَّ السحرة كانوا
قد أعدوا عصياً وحبالاً ملؤوها بالزئبق ، ووضعوها جميعاً في مكان ما ، وكان الناس
وفرعون والسحرة وكذا موسى عليهالسلام جالسين يشاهدون ما يحصل. عند ما سطعت الشمس على هذه الحبال
والعصي ارتفعت درجة حرارة الزئبق ، الأمر الذي جعل الحبال والعصي تتحرك وتلتوي على
بعضها البعض بحيث تبدوا كانها أفاعي ، ولكنَّها في الواقع خيال لا أكثر.
٢ ـ علائم الحق
والباطل
مما يستفاد من
الآية هو أنَّ علامة الحق كونه مفيداً للناس ، وعلامة الباطل كونه مضراً لهم ،
فالماء مفيد وله تأثير ، والزبد مضر ولا فائدة تتوخى منه ؛ وذلك لأن الزبد لا يروي
ضمأ العطشان ولا يسقي الزرع ولا يُنميه ولا يولّد شيئاً من الطاقة ، ولا يُشغّل
طاحونة أو دولاباً.
ومن العلائم
الاخرى للحق والباطل هو كون الحق خاضعاً ومتواضعاً ، أما الباطل فمتكبر.
فالحق هو الماء
المتواضع تحت الزبد ، وأما الباطل فهو الزبد العالي والمتكبّر.
العلامة الثالثة
للحق والباطل هو أنَّ الباطل ضوضائي ، أما الحق فهاديء وساكن. فالماء
هادئ وساكن ، أمّا
الزبد فصارخ وصاخب ، ولا يمكنه العيش دون هذا الضوضاء والصراخ والصخب.
٣ ـ سعة الحق
والباطل
إنَّ سعة الحق
والباطل بسعة مفاهيم الحياة. فالحق والباطل لا ينحصران في جانب من الحياة ، بل
يعمان جميع شؤونها ويشملانها ، من السياسة والثقافة والصحافة وغير ذلك. وبعبارة
اخرى : يشمل جميع الجوانب المادية والمعنوية للحياة. وهذا المعنى يستفاد من القرآن
المجيد ومن آية المثل ذاتها ، فكما أنَّ الزبد لا يختص بالماء كذلك الباطل لا يختص
في شيءٍ ما.
٤ ـ عاقبة
المواجهة بين الحق والباطل
في هذه المواجهة
يبقى الحق ويزهق الباطل ويمحق ، إلّا أنَّ انتصار الحق على شكلين مؤقت وزمني وآخر
نهائي. إن أنصار الحقّ إذا استقاموا ولم ينحرفوا فسينتصرون في أزمنة مختلفة ما
داموا مستقيمين غير منحرفين ، أمّا النصر النهائي فلا يحصل إلّا بظهور صاحب العصر
والزمان بقية الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه) ، وحينئذٍ سيتغير وجه الدنيا
وستحكم الدنيا حكومة عالمية حقة.
من الآيات التي
فسرت في الحجة بن الحسن العسكري عليهالسلام هي هذه الآية ، حيث فسِّر الماء في المثل بوجود الحجة
المبارك ، والزبد بالظلم والجور والانتهاز والاستعمار فانها ستزول يوماً ما.
٥ ـ المواجهة بين
الحق والباطل دائمة
كما أشرنا سابقاً
، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل بدأت منذ بداية الخلق ، والعصور جميعها ضمت
هذين الظاهرتين ، وستضم العصور المقبلة هذين الظاهرتين وستستمر هذه المواجهة
حتى النهاية. لقد
كان لكل نبي شيطان ، فقبال آدم عليهالسلام كان ابليس ، وقبال الأنبياء الآخرين شياطين اخرون ، كما
تكشف الآية التالية عن هذا الأمر : (وَكَذَلك جَعَلْنَا
لُكِلِّ نبىٍّ عَدُّواً شَيَاطِينَ الأنْسِ والجِنِ)
المستفاد من الآية
الشريفة هو أنَّ الشيطان ليس شيئاً خفياً دائماً ، بل قد يكون من الناس أنفسهم ،
وقد يكون هذا هو سبب تقديم الآية شياطين الانس على الجنّ.
وعلى هذا ، فإنَّ
المواجهة بين الحق والباطل لا زالت مستمرة حتى استقرار حكومة الحق وبسط سيطرتها
على بقاع الأرض جميعاً ، وتتحقق الآية الشريفة التالية : (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ
البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوْقاً) في ظل ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ،
والمواجهة قبل ذلك متواصلة.
٦ ـ كيفية تبلور
الباطل
كيف نشأ الباطل
وتبلور؟ هل الله تعالى هو الذي خلق بعض الموجودات الباطلة رغم أنَّه حق بل ابرز
وأرفع حق؟
إنَّ الباطل موجود
عدمي وهو وهم وخيال قد تلبّس ثوب الحق ، مثل الزبد الأجوف ، ذات الظاهر الخلاب
والخادع.
الجميل هنا هو
أنَّ الباطل اذا عمل على إبطال نفسه فذلك ببركة الحق. إنَّ المزيفين ـ الذين يعتمدون
الزيف كمهنة لهم ـ إذا لم يتقمّصوا قمصان ذوي الشأن والاعتبار سوف لا يتوفقون في
عملهم الباطل هذا ، كذلك الكذّابين فإنَّهم إذا لم يتمسكوا بالحق ولم يتظاهروا
بالصدق لما صدّقهم أحد. والمنافق إذا لم يرتدِ ثوب الإنسان الصالح ، والعدو إذا لم
يتقمص قميص الصديق ،
__________________
والزبد إذا لم
يطفو على الماء ، وبالجملة ما لم يجتمع الباطل بمختلف مصاديقه إلى جنب الحق فلا
تكون هناك مواجهة. وعليه فالباطل عدمي ووجوده يتوقف على الحق. أمّا الحق ، فأمر
وجودي وهو مصدر البركات والمنافع وذا آثار كثيرة للإنسان.
الحق والباطل من
وجهة نظر الآيات والروايات
بما أنَّ أهم بحث
في حياة الإنسان هو قضية (الحق والباطل) ، وهي تحضى بموقع خاص عند جميع البشر
بمختلف توجهاتهم الفكرية ، لذلك كان من المناسب دراسة هذه القضية من وجهة نظر
الآيات والروايات :
لقد تحدث القرآن
عن الحق والباطل بمقدار كثير ، وتكررت مفردة الحق ٢٤٤ مرة ، مع أنَّ مفردة الباطل
تكررت ٢٦ مرة فقط.
وهذه النسبة تكشف
عن أنَّ القرآن المجيد ذاته من مصاديق الحق.
ما هي مصاديق الحق؟
لقد ذكر في القرآن
مصاديق مختلفة للحق نشير إلى بعض منها هنا :
١ ـ أبرز وأرفع
مصداق للحق هو ذات الله القدسية ، وهي في الحقيقة جامعة لجميع مصاديق الحق ، وهي
عين الواقع والوجود المطلق.
من هنا صرّح الله
في الآية الكريمة ٦٢ من سورة الأنعام ما يلي : (ثُمّ رُدُّوا إلى
اللهِ مَوْلَيهُم الحَقِّ ألا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبِيْنَ) فعلى أساس هذه الآية ، إنَّ الله الذي لا مثيل له هو
الحقّ.
٢ ـ النموذج الآخر
وهو من أبرز مصاديق الحقّ عبارة عن خلق السموات والأرض أو الكون أجمع.
تقول الآية
الشريفة ٢٢ من سورة الجاثية : (وَخَلَقَ اللهُ
السَّمَاوَاتِ والأرْضَ بالحَقِّ)
٣ ـ المصداق
الثالث للحق هو القرآن نفسه ؛ وذلك لأن الآية ٤٨ من سورة المائدة عند بيانها لهذا
المطلب تقول : (وأنْزَلْنَا إليْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ)
٤ ـ الدين المبين
والمنقذ للبشرية ، أي الإسلام ، وهو مصداق واضح آخر من مصاديق الحق. لذلك يقول
الله تعالى في الآية ٢٨ من سورة الفتح : (هُوَ الّذِي أرْسَلَ
رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِيْنَ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ)
وخلاصةً ، كل وجود
هو منبع لخير البشر وسعادتهم يُعدّ حقاً ، لذلك كان الله الحق المطلق ؛ لأنَّه
منبع جميع البركات والسعادات ، كما أن السماوات والأرض والقرآن المجيد ودين
الإسلام والتوحيد ، باعتبارها جميعاً منشأ للهداية والبركة ، عدّت حقاً.
وكل شيء هو منبع
ومصدر للشقاء فهو باطل ، مثل الشيطان والأصنام وعبادتهما والرياء والتظاهر والنفاق
وامثال ذلك.
جولة الباطل ودولة
الحق
المستفاد من
الروايات هو أنَّ الباطل قد يكون له جولة وصراخ وصخب إلّا أنَّ عمره مهما كان فهو
قصير ومؤقّت : «للباطل جولةٌ وللحقّ دولة» والدولة هي الثبات والبقاء والخلود ، والجولة هي النفاق
والخداع المؤقت.
كن مع الحق دائماً
حسب ما ورد في
الروايات الإسلامية ، على المسلم في كل حال أن يكون مع الحقّ والحقيقة. إذا أردت
التسلّح بسلاح النصر أمام الأعداء ، فعليك التمسك بسيف الحقّ الصارم ، كما قال
الإمام علي عليهالسلام : «الحق سيف قاطع».
إذا أردت أن تكون
من أهل النجاة في مقام العمل ، وأن تكون صاحب حجة وبرهان في مقام الكلام ، فعليك
بالتوجّه نحو الحقّ ، كما يقول الإمام علي عليهالسلام : «الحقّ منجاة لكل عاملٍ
__________________
وحجّة لكلِّ قايلٍ».
إذا أردت من
الاخرين قبول كلامك ، واذا ابتغيت النصر ، فقل الحقّ والتزمه. وإذا أردت مركبا
هادئاً يوصلك إلى غايتك فكن مع الحقّ. يقول الإمام علي عليهالسلام : «ألا وإنّ الحق مطايا ذلل ، ركبها أهلها ، وأعطوا
أزّمتها ، فسارت بهم الهوينا حتى أتت ظلًّا ظليلاً».
الحق مرُّ والباطل
حلوٌ
تقترن مع الحق
والدفاع عنه مشاكل ؛ وذلك لأنّه مرُّ والباطل حلو.
إنّ مرارة الحقّ
كمرارة الدواء الذي فيه شفاء ، وحلاوة الباطل كحلاوة السم القاتل ، لذلك قال
الرسول صلىاللهعليهوآله : «الحق ثقيل مرٌّ ، والباطل خفيف حلوٌ ، ورُبَّ شهوة
ساعةٍ تورث حزناً طويلاً».
نعم ، انَّ الحقّ
ثقيل ومرّ ؛ لأنَّه لا يكون في صالح الإنسان دائماً بل قد يضره ، وقد يكون عكس ما
تروق له النفس والشهوات الإنسانية ، وقد يتزامن مع لوم الاخرين وعتابهم ومع مشاكل
جمّة يثقل على الإنسان تحّملها ، أما الباطل فخفيف وحلو ، لكنه كالسم القاتل ،
لذلك قد يؤدي إلى ندمٍ يرافق الإنسان حتى موته ، كما لو ارتكب الإنسان ذنباً لم
يستغرق فترة طويلة ، لكن عقابه الحبس المؤبد ، فذلك يعني كفارة ساعة من الذنب عمر
في الحبس والسجن.
الباطل يتقمّص
قميص الحق دائماً
المهم هنا هو أنّ
الباطل لا يظهر بثوبه الحقيقي دائماً ؛ وذلك لأنَّ اتضاح واقعه يعني عدم تمكّنه من
الخداع ، بل إنّه يظهر بمظهر الحق لكي يغرَّ ويخدع الكثير.
يقول الإمام علي عليهالسلام في هذا المجال في الخطبة رقم خمسين من نهج البلاغة : «يؤخذ
من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه».
__________________
أي بما أنَّه لا
زبون للباطل المحض ، لذلك يمزجه أتباعه مع شيء من الحق ليبدو وكأنه حقّ ، فعندئذٍ
يأتي دور الشيطان ليستولي على أوليائه وأصحابه.
لذلك علينا أن لا
ننخدع بالظاهر ، إذا أردنا شراء كتاب مثلاً فما علينا أن ننخدع بغلافه الجميل أو
يغرّنا عنوانه الخلّاب وشعاراته ؛ وذلك لأنّ أهل الباطل قد يستخدمون هذه الخدع
لترويج سمومهم وأباطيلهم. وهذا الأمر نفسه صادق بالنسبة للافلام والمسرحيات
والجرائد والمجلات والاساتذة والمعلمين والجيران والأحزاب و...
إنَّ أهل المعرفة
والبصيرة هم الذين يميزون الباطل عن الحقّ ، وذلك لما أعطاهم الله من (فرقان)
منحةً لتقواهم.
علي عليهالسلام محور الحقّ
هناك الكثير من
المطالب المدونة عن فضائل الإمام علي عليهالسلام وشخصيته وردت في كتب السنة والشيعة ، ومن جملة ما اتفق
الفريقان على نقله هو الحديث العجيب واللطيف القائل : «علي مع الحقّ والحقّ معه
وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار عليّ» وهو حديث منقول عن الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآله.
إنّ هذا الحديث
مقياس معتبر لتمييز الحقّ عن الباطل ؛ ولذلك أفادت بعض الروايات أنَّ المسلمين في
صدر الإسلام عند ما يتشابه عليهم المسلمون والمنافقون والمتظاهرون بالإسلام ويصعب
تمييز ذلك ، أفادوا من هذا المقياس واعتبروا المسلمين هم المحبون لعلي وأتباعه ،
المنافقون هم الذين يكنّون العداء والبغض له.
إنَّ الشيعة تفتخر
بأن لها زعيماً عظيماً ومحقاً ما كان يمنعه شيء عن احقاق الحقوق ، ما كان يتحمل
الانحراف عن جادة الحقّ ولو كان صادراً من صحابي أو أحد أقربائه ، وكان يأمر
بالجبران بمجرد حصوله.
__________________
من جملة مصاديق
هذا الكلام هو قصة قنبر غلام علي الوفي وعضده التنفيذي في حكومته ، لقد أُمر هذا
الغلام بإِجراء حدِّ الجلد ، إلّا أنه أخطا في التنفيذ وزاد على الحدّ ثلاث جلدات
على المجرم ، فأمر هذا القائد المحق قنبر أن يعدّ نفسه لأجل اقتصاص المجرم منه.
ونقرأ في قضية
عقيل أنه ما وافق منحه شيئاً زائداً على ما منحه للمسلمين ، بل أحمى حديدة وقرّبها
من يد عقيل ، فصاح عقيل من شدّة الحرارة.
__________________
المثل الثاني
والعشرون :
التقوى جواز دخول الجنة
يقول الله تعالى
في الآية ٣٥ من سورة الرعد :
(مَثَلُ الجَنَّةِ
الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِمٌ
وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا وعُقبى الكَافِرِيْنَ النَّارُ)
تصوير البحث
الآية السابقة ،
رغم بساطة ظاهرها ، تعدّ من أعقد الأمثال القرآنية ، إنها بتّت بتشبيه الجنة ـ التي
هي مأوى المتقين ـ وذكرت لها ثلاث خصال.
الشرح والتفسير
إنَّ التشبيه
المستخدم في الآية يبدو تشبيهاً بسيطاً ، إلّا أنَّه في الواقع ـ كما قلنا سابقاً
ـ من أعقد التشابيه المستخدمة في القرآن المجيد.
يعتقد المفسّرون
أنَّ في الآية شيئاً محذوفاً ، وهو جملة يجب تقديرها إمَّا في بداية الآية لكي
تتلقى الآية خبراً للمبتدأ المحذوف ، أو أن نقول بأنَّ صدر الآية مبتدأ ، وخبرها
محذوف.
نعتقد نحن أنَّ
خبر الآية محذوف ، ولأجل اتضاح الأمر نقدّم مقدمة :
المراحل الأربع
قبل الولادة
إن الإنسان يجتاز
أربع مراحل ليكتمل ويكون إنساناً.
في البداية يكون
الإنسان عبارة عن تراب تنمو فيه نبتة أو شجرة ، فيصبح هذا التراب جزءاً من النبات
، يأكل حيوان ما هذا النبات ليصبح جزاءاً من بدنه ، يتناول الإنسان لحم هذا
الحيوان فيصبح لحم الحيوان هذا جزءاً من بدن الإنسان.
يمكن بيان المراحل
الأربع هذه بشكل آخر بأن نقول : إن الإنسان كان تراباً في يوم من الإيام (المرحلة
الأولى) ومن الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه تناول التراب مباشرة بل ما تبدّل منه إلى
نبات أو حيوان (المرحلة الثانية) في (المرحلة الثالثة) يتبدل النبات أو الحيوان
إلى نطفة إنسانية. الجنين في مراحله الأولى ينمو نمواً نباتياً ؛ لأنه يفقد الحس
والحركة ، فهو ينمو فقط ، وبعد الشهر الرابع حيث يكون قادراً على الحركة والحس ،
وعندها تبدأ (المرحلة الرابعة) ، وهي تستمر حتى تعلّق الروح بالجنين.
إنّ لهذه المراحل
الأربع عجائب كثيرة ، والمرحلة الجنينية من أعجبها.
عجائب من عالم
الجنين
استطاع العلماء
اليوم إعداد صورٍ حيّة عن الجنين ، وصنع فيلمٍ مدّته نصف ساعة يصوّر المراحل
الجنينية جميعها ، وهذا الفيلم بمثابة هدية عجيبة قدّمت للإنسانية في عصرنا
الحالي.
كيف استطاع الله
خلق هذه العجائب كلها؟ نلفت انتباهكم إلى نموذجين من هذه العجائب.
١ ـ نطفة الإنسان
تبدأ من خلية واحدة ، ثم تنتصف هذه الخلية لتصبح اثنين ، وكلٌّ من هذين الخليتين
ينتصفان كذلك لتصبح الخلايا أربعاً ، ويستمر الانقسام هكذا بشكل تصاعدي. إنّ هذا
التكاثر في الخلايا يستمر حتى تتكون خلايا متشابهة بالكامل وتنقسم حيندئذٍ إلى
مجاميع. بعض منها يتكفل بخلق رأس الإنسان وبعض يؤمر بخلق العين أو اليد أو الرجل
أو غير ذلك.
إنَّ هذه الخلايا
جميعاً متشابهة لكن كيف حصل أن تخصصت البعض في صنع اليد والبعض الآخر بصنع الرجل؟
من أمر هذه الخلايا بالصنع المختلف رغم التشابه الموجود فيها؟ كيف تلهم هذه
الخلايا؟ ومن الذي ألهمها هذه القابلية؟! لم يستطع أحد الكشف عن هذه الأسرار بعد.
٢ ـ إنَّ الجنين
في بطن أمه يسبح في كيس خاص مليء بسائل غليظ وزنه يعادل وزن الطفل تقريباً. وعلى
هذا ، فالجنين لا يضغط بشكل مباشر على جسم الأم ، كما أنَّ الأُم لا تحمّل الطفل
ضغطاً مباشراً. يا ترى ما يحدث لو لم يكن ذلك الكيس؟
كيف يمكن للجنين
أن يحافظ على نفسه ويستمر في حياته رغم ظرافته ونعومته ورغم ما يتعّرض له من ضربات
تنشأ عن الجلسة الخاصة للأُم أو نومها في اتجاهات مختلفة؟
أعدَّ الله العالم
القادر محيطاً وبيئة للجنين تشبه حالة الإنسان عند فقدان الجاذبية ، بحيث لا يتأثر
بالضغط إذا تعرض له مهما كان اتجاهه ، ولهذا عند ما يلد يشعر بالوزن ، الأمر الذي
يحرّضه على الصراخ والصياح.
إنَّ كيس السائل
هو أفضل مكان للجنين. فإنَّ هذا الكيس يصدّ الضربات من أي اتجاه وردت ، كما أنَّه
يعدّل درجة الحرارة ، بحيث إنَّ الام اذا تعرّضت للحرارة الشديدة أو البرودة
الشديدة سوف لا تنتقل هذه الحرارة أو البرودة إلى الجنين مباشرة ، بل ينتقلان إلى
الجنين بعد مرورهما بالسائل الموجودة في الكيس ودور السائل هنا هو تعديل درجة
الحرارة ونقلها بعد ذلك لجسم الجنين.
وعلى هذا الأساس ،
يقول الله في الآية السادسة من سورة الزمر : (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنْعَامِ
ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذلِكُم اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَا إلهَ إلّا
هُوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ)
مراحل كمال
الإنسان الأربع
لاجل بلوغ الكمال
، على الإنسان أن يطوي أربع مراحل أو عوالم :
١ ـ عالم رحم
الام. ٢ ـ عالم الدنيا. ٣ ـ عالم البرزخ. ٤ ـ عالم القيامة.
والمدهش هنا أنَّ
الإنسان يجتاز كل مرحلة ، وهو لا يعلم بالضبط بما تضمّ وتؤول إليه المرحلة
اللاحقة. إنَّ الطفل في رحم الام لا يمكنه تصوّر مفاهيم الدنيا ، حتى لو كان له
عقل
__________________
وذكاء كذكاء وفهم
ابو علي ابن سيناء ، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس
والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات ، وقد استطاعت أن تبيّن له
هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه ، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً. إنَّ مثلنا نحن
بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، نحن سمعنا بوجود
عالم باسم البرزخ قطعاً ، لكن ما هي الف باء تلك الحياة؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك
أحياء؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها؟
نحن لا ندرك أياً
من هذه الامور. إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ
عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها
انتم في الحياة الدنيا. إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء
، وهل يتوقف الماء في المصفاة؟!
إنَّ موقف
البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة ،
كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم.
وعلى هذا الأساس ،
تقول الآية الشريفة ١٧ من سورة السجدة : (فَلَا تَعْلَمُ
نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ)
إذا أخذنا مفردة (نفس)
باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وذلك يعني
هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.
جاء في حديث قدسي
ما يلي : «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب
بشرٍ».
أي أنَّها نعم لم
ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور ، وذلك لأنّ عالم
القيامة لا يمكن استيعابه.
وعلى هذا ، فمن
جهةٍ أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها ، ومن جهة أخرى
ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن
الأعمال السيئة.
__________________
من هنا كان توصيف
وبيان هذه الحالات والأعمال بالالفاظ الدنيوية أمراً مستحيلاً ولا يمكن بيانها
بوضوح ، لذلك كان علينا مزاولة هذا العمل باستخدام المفاهيم الدنيوية المشابهة
لتلك المفاهيم والألفاظ الأقرب لهذا البيان ، لترتسم بذلك صور قريبة لواقع النعم
والعذاب الاخروي.
كمثال على ذلك ،
عند ما يقال بأنَّ في الجنة أشجاراً ، فإنّه لا يمكن القياس والمقارنة بين فوائد
الأشجار في العالمين. وبالنسبة إلى تفسير الآية ٥٤ من سورة الرحمن (وَجَنَى الجَنّتَيْنِ دَانٍ) فيقال : إنَّ ثمار أشجار الجنة قريبة غير بعيدة بحيث تكون
سهلة الوصول. وفي تفسير الآية ٤٨ من السورة المذكورة (ذَوَاتَا أفْنَانٍ) يقال : إنّ الغصن الواحد يضمّ ثماراً مختلفة ، لكن لا يعرف
أنَّ الثمار هناك هي نفسها التي هنا.
أو أنَّ أصحاب
الجنة إذا ما أرادوا الاصغاء إلى الأنغام والموسيقى ، أخذت غصون الاشجار تتلاطم
وتخرج من نفسها أصواتاً وأنغاماً.
وعلى هذا ، فنحن
ندرك وجوه الشبه بين أشجار الدنيا والآخرة ، لكنا لا ندرك ولا نشعر بها ولا بما
يتولد من أنغام وموسيقى وثمار.
إيضاح
مع الالتفات إلى
المقدمة ، فإنَّ الآية من جملة الآيات التي هي في صدد عرض تشابيه للجنة ، وبيان أو
ترسيم موقع المتقين فيها. من هنا كان خبر الآية محذوفاً ، أي أنَّ الآية كانت بهذا
الشكل : (مَثَلُ الجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كجنةٍ تجْرِي ...) أي أنَّ في الجنة بساتين ليست مثل بساتين دنيانا ؛ لأنّه
أولاً : أن منابع المياه فيها ذاتية وتلقائية ، وتوجد عين قرب كل شجرة ولا حاجة
لتأمين المياه من الخارج. ثانياً : أنَّ ثمار الجنة دائمية وفي جميع الفصول.
ثالثاً : أنَّ ظل الاشجار هناك دائمي وخالد ، أي أنَّ أوراق الاشجار لا تتساقط
أبداً.
الخطابات المهمة
للآية
المستفاد من
الآيات العديدة هو كون التقوى هو مقياس الثواب الإلهي في الآخرة.
في مجال التقوى
دوّنت البحوث الكثيرة ، ولأجل الاستيعاب الأكثر لهذا المضمون ، الذي هو جواز دخول
الجنة وميزان قيمة الإنسان وزاده في الآخرة نشير إلى روايتين وردتا هنا :
١ ـ يقول الرسول
في حديث مختصر وذات مغزى عميق في نفس الوقت : «تمام التقوى أن تتعلّم ما جهلت
وتعمل بما علمت».
بناءً على هذه
الرواية ، لا يُعدُّ الجهل عذراً ، بل على الإنسان أن يتعلّم ما يجهل ليعمل بما
علم ويُعاتب الذين يبرّرون أعمالهم بأنهم جهال ، ويقال لهم : لماذا لم تتعلموا؟
٢ ـ يقول الإمام
علي عليهالسلام في حديث مختصر ومميّز : «من ملك شهوته كان تقياً».
إنَّ الإنسان
بتقواه يتمالك غضبه وشهوته وحب الجاه والمقام وحب الشهرة والتطرّف و... فهو سيتحكم
بهذه الامور جميعاً.
إنَّ هذين
الروايتين يعرضان تعريفاً جميلاً وجامعاً ومفهوماً للتقوى ، ينبغي السعي والعمل
لأجل تحقيق ما ورد في هذين الروايتين الشريفتين وبخاصة في شهر رمضان المبارك ؛
باعتبار أنَّ التقوى هي جواز دخول الجنّة وزاد الآخرة.
__________________
المثل الثالث
والعشرون :
أعمال الكفّار
يقول القرآن في
الآية ١٨ من سورة إبراهيم :
(مَثَلُ الّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِم أعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ
عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيءٍ ذَلك هُوَ الضَّلال البَعِيْدُ)
تصوير البحث
تناولت الآية بيان
أعمال الكفار الصالحة ، وتلمّح بأنَّ أعمالهم بسبب كفرهم غير مقبولة. من هنا كان
احتمال حساب أعمالهم الصالحة بمعزلٍ عن كفرهم أمراً مرفوضاً.
ارتباط آية المثل
بسابقاتها
الآيات السابقة
تناولت دراسة من اصطلحت عليه (جَبَّارٍ عَنِيْدٍ) وهو الشقي الذي يأس من ألطاف الله ورحمته ، وأنَّ جهنم
ستتطلع إلى أمثال هذا ، وسيسقى من ماء متعفن ، نتنة رائحته. وهنا يطرح سؤال وهو :
هل سيُتغاضى عن أعمال الكفار الصالحة؟
المتعارف أنَّ
الأعمال الصالحة قد تصدر من هؤلاء الاشقياء ، فيقال عن فرعون مثلاً : كان له مطبخ
واسع يغذي به بيوت المدينة ، وكان يستفيد الجميع من هذا المطبخ ومن طعامه ، من
الفقراء والمرضى والحوامل وغيرهم.
قد تنجز أعمال
خيرية مهمة على يد حكامٍ ظلمة ، وهناك الكثير من المساجد التاريخية
الفخمة التي بنيت
على يد هؤلاء الظلمة. إن العتبات المقدسة للائمة المعصومين وغيرهم عليهالسلام كثيراً ما بُنيت أو عمّرت ووسعت على يد الظلمة ، وكمثال
على ذلك المسجد الحرام ومسجد النبيّ حيث وسِّعا من قبل زمرة آل سعود الظالمة ، كما
أن كثيراً من المستشفيات المهمة والجامعات الضخمة والمستوصفات والمدارس العلمية
وما شابه ذلك بنيت على يد أمثال هؤلاء الظلمة وبأمرٍ منهم ، لكن يا ترى هل أنَّ
هذه الأعمال الصالحة والعظيمة تفقد الأثر ولا تفيد صاحبها شيئاً في الآخرة؟ ألا
تتغمّد هؤلاء الطاف الله ورحمته بسبب هذه الأعمال الكبيرة؟
إنَّ آية المثل
التي سنقبل على شرحها وتفسيرها في الاسطر المقبلة هي بصدد الاجابة على هذا السؤال
المقدر الذي قد يخطر في ذهن القارئ للآيات التي سبقتها.
الشرح والتفسير
(مَثَلُ الّذِيْنَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِم) إنَّ أمثال القرآن على قسمين : قسم يُضرب على أعمال الإنسان
، وآية المثل هذه من هذا القسم حيث تناولت دراسة أعمال الكفار.
القسم الآخر هو
الامثال التي تضرب على الشخصيات ذاتها بأن يشبّه الاشخاص أنفسهم بشيء ما مثل ما
مرّ في الآية الشريفة ٢٦١ من سورة البقرة ، حيث شبّهت المنفق بحبة الحنطة التي
تنتج سبعمائة حبّة.
على أي حال ،
الآية الشريفة تناولت اولئك الذين كفروا بربهم ، لكن الملفت في الآية هنا هو
أنَّها استخدمت مفردة (رب) بدل مفردة (الله) ، وكأنها تريد الاشارة إلى الآثار
الربوبية في كل مكان ورحمة الله وبركاته على جميع أعضاء جسم الإنسان وفي جميع
اللحظات ، فهي تريد القول للإنسان : إنَّك تفيد من نعم الله ـ التي يكفي واحدة
منها لشكر الله ـ كل يوم وعلى طول العمر ، رغم ذلك تكفر وتجحد به ، مع أنَّ على
الإنسان أن يكون شاكراً لله على نعمه دائماً.
(أعْمَالُهُمْ
كَرَمَادٍ) الآية شبَّهت أعمال الكفار الصالحة بالرماد ، ولم تتطرق الآية
إلى أعمال الكفار السيئة ، وذلك لأنَّها دون القيمة التي تستدعي التطرّق لها
وبحثها.
فوائد الرماد
نشير هنا إلى بعض
من فوائد الرماد وآثاره :
١ ـ إذا خلط
الرماد بالتربة سينتج سماداً مفيداً جداً ، ولهذا نرى البعض يحرق ما تبقى من
المزارع بعد الحصاد بغية تبديله إلى سماد جيد.
٢ ـ إنَّ الرماد
ينظف الاشياء الوسخة ويذهب بصدئها ويصقلها ، وفي الازمنة السابقة كان الناس يصقلون
بعض الصفائح الفلزية بالرماد لكي يصنعوا منها مرآة شفافة.
٣ ـ الفائدة
الاخرى للرماد أنّه يحافظ على النار وحرارته ، بحيث إذا ألقينا التراب على النار
أنطفأت النار ، لكن إذا ألقينا رماداً عليها ضلّت النار تحافظ على نفسها وما
انطفأت إلّا في زمن متأخر.
(اشْتَدّتْ بِهِ
الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ على شيءٍ مِمّا كَسَبُوا) من الواضح أنَّ اليوم اذا كان عاصفاً أخذ الريح معه كل ما
كان خفيفاً ودقيقاً ، وكلما كان ذلك الشيء أدق كلّما صعب جمعه ، أما اذا كان
رماداً فاستحال الجمع ؛ وذلك لصغر الأجزاء المكونة للرماد وتلوّنها بلون البيئة
التي تسقط فيه. وإذا اجتمع اهالي المدينة كلهم ـ لا صاحب الرماد فحسب ـ ما
استطاعوا أن يجمعوا شيئاً مما فقدوه من الرماد ولو بمقدار مثقال.
إنّ عاصفة الكفر
والجحود تعمل بأعمال الكافر كما تعمل العاصفة الطبيعية بالرماد ، بحيث لا يبقى شيء
من ذلك العمل للكافر يتمتع به.
(ذَلك هُوَ الضّلَالُ
البَعِيْدُ) إنَّ انحراف هؤلاء عن الصراط المستقيم كالانحراف والضلال
البعيد عن الطريق الذي يصعب جبرانه والرجوع عنه نحو الطريق الصواب.
خطابات الآية
١ ـ الايمان شرط
صحة الأعمال
رصيد الأعمال
الحسنة والصالحة هو الايمان ، فاذا لم يقترن العمل بالايمان فانه سيفقد قيمته.
ذكر الفقهاء : أنّ
الايمان هو شرط قبول العبادة ، بل شرط صحتها ، أي أنَّ الصلاة والصوم
والحج والانفاق
وإعانة المحتاجين وغير ذلك من الاعمال تكون فاقدة للقيمة إذا لم تتزامن مع
الإيمان.
ولقد طرح نفس
البحث في قضية (الولاية) فاعتقد البعض أنَّ الولاية شرط قبول الأعمال ، أي رغم
أنَّ الأعمال ـ من وجهة نظر شيعية ـ صحيحة إلّا أنَّ الله لا يقبلها إذا لم تقترن
بالاعتقاد بالولاية. وقد يعتقد البعض أنَّها شرط القبول والصحة أي لا يسقط التكليف
من ذمة من لا يعتقد بها وإن جاء به.
في هذا المجال
وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة نأتي بنموذج واحدٍ منها :
يقول الإمام
الباقر عليهالسلام : «لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله
وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه
ما كان له على الله حقُّ في ثوابه أبداً».
إنّ هذه الآية
طرحت ذات البحث في أصل الايمان بالله ولمحت بأنّ الذي لا ايمان له لا ثواب له رغم
اتيانه بأفضل الأعمال ، وقد طرح هذا البحث في آيات عديدة أُخرى نشير إلى بعضٍ منها
:
الف ـ لقد جاء في
الآية ٢٦٤ من سورة البقرة التي مرّ الحديث عنها ما يلي :
(... كَالّذِي
يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَومَ
الكَافِرِينَ)
باء ـ جاء في
الآية ٣٩ من سورة النور :
(وَالّذِيْنَ كَفَرُوا
أعْمَالُهُم كَسَرَابٍ بَقِيْعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتّى إذا جآءَه لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيْعُ
الحِسَابِ)
جيم ـ ويقول الله
في الآية ٢٣ من سورة الفرقان :
(وَقَدِمْنَا إلَى مَا
عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورَاً) وهذه الآية كغيرها لم تمنح أي قيمة
__________________
للعمل إذا لم ينشأ
عن إيمان.
دال ـ جاء في
الآية ٥٤ من سورة التوبة :
(وَمَا مَنَعَهُم أنْ
تُقْبَلَ نَفَقَاتُهُمْ إلّا أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولِهِ ولا يأتُونَ
الصَّلاةَ إلّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلّا وَهُمْ كَارِهُونَ)
إنَّ هذه الآية
كذلك تعتبر الإيمان شرط قبول العمل. وعليه ، فإنّ الآية المذكورة وآيات وروايات
كثيرة اخرى عدّت الإيمان شرطاً لصحة العمل وكماله ، كما أنَّ بعض الآيات والروايات
اعتبرت الولاية بنفس المستوى ومنحت الاعتقاد بها نفس القيمة التي منحتها هذه
الآيات لمبدأ الايمان بالله.
لماذا الإيمان
والولاية شرطان لصحة العمل؟
بعبارة أُخرى :
لماذا لم يفتح الله لاعمال الكفار الصالحة أو الطالحة حساباً مستقلاً ، بأن يحاسب
الكافر على أعماله الطالحة بمعزلٍ عن حسابه لأعماله الصالحة؟
الجواب : لقد جاء
جواب هذا السؤال في الآيات والروايات التي عدّت الولاية والإيمان شرطين لصحة
الأعمال.
جاء في رواية
تقدمت أنَّ الإمام عليهالسلام يقول : «ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع
أعماله بدلالته إليه» ، أي أنَّ للأعمال الصالحة شروطاً ومقدمات وملابسات يحدّدها
الإمام المعصوم نفسه وإذا لم تتم بتنسيقٍ معه فانها قد تكون ناشئة عن هوى وهوس
وتصبّ في غير مجالها.
إنّ غير المؤمنين
عند ما يؤدون أعمالاً صالحة مثل المرضى الذين يداوون أنفسهم بعقاقير خاصة من دون
مراجعة طبيب ، ومعالجة من هذا القبيل قد تلحق بالإنسان أضراراً كثيرة تصل إلى
الموت أحياناً.
إنّ الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام هم أطباء روحيون ، ولأجل أن يداوي إنسان أوجاعه ، عليه
بالعمل حسب وصفتهم لا وصفة غيرهم.
من هنا يقسم
الإمام علي عليهالسلام ـ في كلام جميل يخاطب به كميل بن زياد ـ الناس إلى ثلاثة
أصناف :
١ ـ العلماء
الربانيون الذين وجدوا وسلكوا طريق الهداية والصراط المستقيم.
٢ ـ المتعلّمون
والذين هم في طريقهم إلى المعرفة ويفيدون من العلماء والاساتذة لبلوغ طريق الهداية
والنجاة.
إنّ مثل هذين
الاثنين كمثل الشمس والقمر حيث احدهما يعدّ مصدراً ومنبعاً للنور والإضاءة ،
والآخر رغم أنَّه ليس مصدراً للنور إلّا أنه يلهم من نور الآخرين ليتنوّر ويكون
مصباح هداية في الليالي الظلمانية.
٣ ـ الصنف الثالث
هو أولئك الذين لا هم أساتذة وعلماء ولا هم متعلمون ولا هم في طريقهم إلى العلم ،
فلا هم مصدر للنور ومنبع له ولا هم متنورون بنور الاخرين ، بل انّهم اناس غير
هادفين ولا يعتمدون شيئاً في حياتهم إلّا الخواء ، وهم مثل البعوضة التي يهددها
أبسط نسيم ويذهب بها إلى أي جهة شاء.
إنَّ الذين
ينتشلون أنفسهم من خط المعصومين عليهمالسلام ويرفضون الولاية ، رغم ذلك يؤدون أعمالاً صالحة ، هم من
الصنف الثالث ، وحياتهم كلها اضطراب واعوجاج ، وشأنهم شأن الشجرة التي ترقص مع كل
ريح.
وعلى هذا ، فإنَّ
فلسفة اشتراط الايمان والولاية هو هداية الأعمال باتجاه الصراط المستقيم ، وشأن
ذلك شأن المريض الذي يتداوى تحت رعاية الطبيب المختص.
٢ ـ الدوافع
المعنوية لغير المؤمنين
ثاني خطاب للآية
هو أنّ غير المؤمنين لا يملكون الدوافع المعنوية ، بل دوافعهم كثيراً ما تكون
مادية ، كنموذج لذلك هو الخدمات الإنسانية التي يقوم بها ثلة من البشر ، في اطار
المنظمات الإنسانية الدولية ، فهي من جهة خدمات إنسانية اخلاقية وتصل المحتاجين
إليها من البشر ، لكنها في نفس الوقت كثيراً ما تكون غطاءً لممارسة التجسس لصالح
الدول الكبرى.
قد يكون الهدف من
هذه الاعانات هو الحفاظ على حياة هؤلاء المستضعفين لاجل استغلالهم أكثر فأكثر ،
كما كان يفعل النخاسون وأصحاب العبيد حيث كانوا يطعمون عبيدهم المقدار الذي يحافظ
على حياتهم وهو مقدار لا يشبعهم ، ولذلك نرى أنَّ بعض هذه الخدمات
الإنسانية تستهدف
اغراضاً مادية غير إنسانية.
وقد أشارت الآية
٥٤ من سورة التوبة ـ التى مضى شرحها ـ إلى هذا المطلب ، حيث قالت :
(وَمَا مَنَعَهُم أنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُم إلّا أنّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا
يُأتُونَ الصَّلَاةَ إلّا وَهُم كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلّا وَهُم كَارِهُونَ)
من هنا خاطب
الإمام علي عليهالسلام مالك الاشتر في عهده له طالباً منه أن يختار لصلاته أفضل
أوقاته ؛ وذلك لأنك اذا أحكمت علاقتك بخالقك فالله سيحكم علاقتك
بباقي المخلوقات.
على أساس الآية
الكريمة ، أنّ انفاق المنافقين وغير المؤمنين وإعاناتهم المادية لم تنشأ عن نية
خالصة بل نشأت عن كراهة وعدم رغبة.
لا قيمة لانفاقهم
ولو بذلوا أفضل أموالهم وأكثرها ؛ وذلك لعدم ايمانهم بالله وبالولاية ، كما أنَّ
عملهم لم يكن عن صدق نية. على سبيل المثال إذا أراد المؤمن بناء مدرسة اختار منطقة
محرومة لرفع الحاجة عن تلك المنطقة كما أنّه سوف لا يبخل في احكام بناء المدرسة
وصرف المبالغ في هذا السبيل ، أما الإنسان غير المؤمن أو المنافق بما أنَّ هدفه الرياء
والتظاهر لذلك يختار مكاناً ذا طلعة وفي مرأى من الناس وفي منطقة قد تكون مستغنية
عن المدرسة ، ولا يفكر في إحكام البناء ؛ وذلك لأنّ جمال البناء يحقق اهدافه.
إنَّ أعمال غير
المؤمنين غالباً ما تكون عن هوى وهوس ، ولاجل كسب الشهرة والجاه والمورد ، ولا
علاقة لهم بالنية الخالصة. اضافة إلى هذا ، نحن نعتقد أنَّ غير المؤمنين لا يمكنهم
التحلّي بالاخلاق الحسنة.
الاحباط في القرآن
كما أنَّ الايمان
والولاية شرطان في البداية ، ولا قيمة لعمل بدونهما ، كذلك ادامة واستمراراً ،
فالمفروض أن يستمر هذان الشرطان حتى نهاية العمر والانتقال من هذا العالم إلى عالم
الآخرة.
__________________
وعلى هذا ، لو أنّ
شخصاً جاء بجميع الاعمال الحسنة ، لكنه في اللحظات الأخيرة من عمره رحل خلو
الايمان ، فإنَّ أعماله التي انجزها في الدنيا سوف لا تفيده شيئاً في الاخرة
أبداً.
هذه المسألة من
مصاديق (الاحباط) الذي تعرّض له القرآن بشكل واسع. إنَّ ست عشر آية أشارت إلى قضية
الاحباط في العمل ، نتعرض لاثنين منها.
١ ـ جاء في الآية
٨٨ من سورة الأنعام ما يلي : (وَلَو أشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) تعدّ هذه الآية الشرك أحد عوامل إحباط الأعمال الحسنة.
٢ ـ وجاء في الآية
٦٥ من سورة الزمر : (وَلَقَدْ أُوْحِىَ
إِلَيْكَ وَإِلى الّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ)
رغم أنَّ الآية
تخاطب الرسول صلىاللهعليهوآله ، لكن من الواضح أنَّه هو مركز التوحيد والحنيفية ولا
يتوقع منه أن يكون مشركاً يوماً ، لذلك نقول : إنّ الآية تحذير للآخرين لا له.
الحبط في عالم
الطبيعة
هل من العدالة أن
تحبط الأعمال الكثيرة بذنب ما؟ بعبارة اخرى : هل الأمر يتفق مع قوانين الطبيعة؟
الجواب : أنَّ
الاحباط مشهود في عالم الطبيعة والتكوين وموجود كذلك في عالم التشريع والقوانين
الدينية ، كما أنَّه موجود في أعمالنا الروتينية.
قد يعمل المزارع
ليل نهار ويبذل قصارى جهده للحفاظ على البستان الكبير والمليء بالثمار المتنوعة ،
إلّا أنَّه قد يوقد النار في جانب منه ويغفل لفترة ليرى أنَّ النار سرت إلى جميع
البستان وأكلت كل جهوده التي بذلها لانضاج ثمار هذا البستان.
وقد يقوم الإنسان
السليم خلال سنوات من العمر بكل ما تستدعيه اصول الصحة والرعاية الصحية ، لكنه
لأسباب واخرى يتعاطى المخدرات ليصبح بعد عدة أيام إنساناً سقيماً لا حول له ولا
قوة ولا صبر ولا صحة ولا طاقة ولا بهجة. وعلى هذا ، فانَّ النار احبطت ما زرع
المزارع وما أنتج ، والمخدرات أحبطت سلامة الإنسان ودمرتها.
ويمكن الاتيان
بمثال ثالث وهو : بناء سدّ ضخم يستدعي استخدام طاقة عمال ومهندسين لمدة سنوات
متوالية ، وبعد ملئه بالماء واستخدامه في الاغراض الخاصة ، يأتي سيل عظيم يغفل
المشرفون عليه عن
فتح المنافذ والبوابات المخصصة لتقليل وطأة ضغط الماء على السدّ ، الأمر الذي يؤدي
إلى كسر السدّ وإذهاب جهود سنوات من العمل سدى.
وعلى هذا ، فمسألة
الحبط لا تختص بالقضايا الدينية والعقائدية ، بل إنَّها جارية في قضايا التكوين
والممارسات اليومية والعادية للإنسان ، ولا يتنافى ذلك مع العدالة الإلهية. علماً
أنَّ المسبب الأساسي لهذا الاحباط هو الإنسان نفسه ، فهو نفسه المسبب في اندلاع
الحريق في البستان وتبدد طاقات جسم الإنسان المتعاطي للمخدرات وانكسار السد
وتهديمه.
إذن ، على
المسلمين أن لا يفكروا بالاتيان بالأعمال الحسنة فحسب ، بل عليهم التفكير في
الحفاظ على هذه الأعمال. فإنَّ الحفاظ على الأعمال أصعب بمرات من الاتيان بها ،
فقد يقدم الإنسان على إحراق بستان حياته بوسائل بسيطة جداً ، وكمثال على ذلك ما
ورد في الآية ٢٦٤ من سورة البقرة ، التي اعتبرت أنّ المنّ والأذى عوامل لاحباط
الانفاق والصدقات.
إذا تبنى شخص
يتيماً وربّاه منذ صغره وأنفق عليه الكثير وأرسله إلى المدرسة الابتدائية ثم
الاعدادية والجامعة ، ثم وفّر له فرصة الزواج وعمل على تزويجه ، وفي يوم من الأيام
وفي مجلس عام أراد أن يتباهى هذا الشخص ويمنّ على اليتيم فقال له : (لم تكن إلّا
طفلاً يتيماً فأعلتك وأنفقت عليك وأرسلتك إلى المدرسة والجامعة وأنا الذي منحتك
هذا الشأن و...) ؛ فوفقاً لمفاد آيات القرآن ، هذا الشخص أحبط أعماله التي أنجزها
طوال حياته.
وحسب المستفاد من
بعض آيات القرآن ، انَّ المسلمين ما كان لهم الحقّ أن يسيئوا الادب للرسول صلىاللهعليهوآله أو يرفعوا أصواتهم عليه ، وإلّا فتحبط أعمالهم : (يَا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لَا
تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُم فَوْقَ صَوْتِ النّبيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم وَأنْتُم لَا تَشْعُرُونَ)
كما أنَّه عدّ مرض
الحسد النفسي من عوامل الاحباط .. في بعض الروايات. يقول الرسول صلىاللهعليهوآله : «إيّاكم والحسد فإنّه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
في النهاية : انّ
الايمان والولاية شرطان لصحة الأعمال ، وعدمهما يحبط العمل سواء كان في بداية
العمر أو أثنائه.
__________________
المثل الرابع
والعشرون والخامس والعشرون :
الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
جاء في الآيات ٢٤
و ٢٥ و ٢٦ من سورة إبراهيم ما يلي :
(أَلَم تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبةٍ أصْلُها ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ تُؤْتِي أكُلَهَا كُلّ حِيْنٍ بِإذْنِ رَبِّهَا
وَيَضْرِبُ اللهُ الأمثَال للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيْثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيْثَةٍ اجتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ
قَرَارٍ)
تصوير البحث
هذه الآيات من
أجمل الآيات ومن أبلغ الأمثال القرآنية. إنّ في الآيات الثلاث تمثيلاً جميلاً
وبليغاً للكلمة الطيبة من جانب ، وللكلمة الخبيثة من جانب آخر ، وفيها يعدّ الله
الفوائد والآثار المترتبة على كل واحدة منهما.
ارتباط آيات المثل
بسابقاتها
إنَّ ذكر هذين
المثلين لا يخلو من ارتباط بما ورد في الآيات السابقة من نسبة الكلمة الطيبة إلى
الله والخبيثة إلى الشيطان ، كما أنّها قد تضمّنت مضامين ومفاهيم رفيعة. وهنا نص
الآية ٢٢ من سورة إبراهيم : (وَقَالَ الشّيْطَانُ
لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكُم
فاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُوْنِي وَلُوْمُوا أنْفُسَكُمْ مَا أنَا
بِمصْرِخِكُمْ وَمَا أنْتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إنّي كَفَرتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ
مِنْ قَبلُ إنَّ الظَالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ)
ينبغي الالتفات
إلى أنّه نقل كلامان في الآية ، أحدهما لله ، وهو وعده الحقّ الذي أوفى به ، وهو
مصداق للكلمة الطيبة. والثاني هو للشيطان الذي هو وعد باطل ولم يفِ به الشيطان ،
كما أنّه مصداق للكلمة الخبيثة.
حسب ما ورد في
الآية الشريفة ، فإنَّ استجابة دعوة الشيطان اختيارية غير جبرية ، وكل من تابع
الشيطان فبارادته ، لذلك يلوم الشيطان الإنسان يوم القيامة ؛ لأنّ الإنسان يعلم
بطبيعة الشيطان الخبيثة رغم ذلك يلتحق بركبه.
ألا يعلم الإنسان
بمعاملة الشيطان لابيه آدم عليهالسلام؟ إنّ مكره هو الذي أدى به إلى خروجه وانقطاع نسل الإنسان
من الجنّة بالكامل. ألم يسمع الإنسان بقسم الشيطان باتيان الإنسان من بين يديه
ومن خلفه لاجل إغوائه وحرفه عن الصراط المستقيم؟ إذن لماذا الإنسان ، رغم علمه الوافر ، يغرّه الشيطان
بوعوده الباطلة والكاذبة ويترك كلام الله الصادق؟!
الشرح والتفسير
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجرَةٍ)
إنَّ هذه الشجرة
التي ضرب الله بها مثلاً ذات خمس خصائص :
١ ـ «طَيِّبَةً»
أول خصائصها أنها طيّبة أي طاهرة وذات رائحة مطلوبة. إنَّ بعض الاشجار يستفاد من
جميع أجزائها من الاوراق والاغصان والثمار والجذور وأصماغها ، كما أنّ منظرها جميل
وعطرها مريح ، إلّا أنّ بعض الاشجار ذات منظر قبيح ورائحة كريهة وجذور نتنة
وثمارها مُرّة.
إنَّ الشجرة التي
ضرب الله بها مثلاً هي شجرة طاهرة وجميلة وبالجملة طيبة.
٢ ـ «أصْلُهَا
ثَابِتٌ» الخاصية الاخرى لهذه الشجرة أن جذورها ثابتة ومحكمة في الأرض. من مظاهر
قدرة الله تعالى أنه جعل تناسباً بين غصون الشجرة وجذورها فكلما كانت
__________________
الغصون أعظم وأكثر
، كانت الجذور عظيمة وكثيرة وعميقة بتلك النسبة التي للغصون ، وهي تحفظ الشجرة
وغصونها من العواصف والفيضانات كما يفعل الحبل بما شدّ به.
٣ ـ «فَرْعُهَا
فِي السَّماءِ» الخاصية الاخرى أنّ نموها صعودي وعمودي نحو السماء.
مما لا شك فيه أنّ
دور الجذور هو تغذية الغصون والاوراق ، لكن ما دور الغصون المرتفعة جداً والمتجهة
نحو السماء؟
للغصون المرتفعة
فوائد وآثار مختلفة نشير إلى بعضٍ منها :
الف ـ الغصون
المرتفعة تتنفس الهواء بشكل أفضل من غيرها من الغصون الاخرى. المعروف هو أنَّ
أوراق الاشجار تتنفس ، والعجيب هنا هو أن مردود هذا التنفّس عكس مردود تنفس
الإنسان ، فالأشجار تستنشق ثاني اوكسيد الكاربون وتطرح الاوكسيجين ، بينما الإنسان
يستنشق الاوكسيجين ويطرح ثاني اوكسيد الكاربون.
إنَّ فلسفة
المفارقة هذه هي أنَّ الأشجار لو كانت تتنفس نفس الغازات التي يتنفسها ويحتاجها
الإنسان ، لأصبحت الأرض بعد فترة وجيزة من الزمن غير صالحة للعيش ؛ لأنّ الاوكسيجين
سينفد تدريجياً ، ولا يبقى في الجو غير ثاني اوكسيد الكاربون ، وهو غاز قاتل
بالنسبة للإنسان.
لذلك كان علينا أن
نزرع في المدن وبخاصة المدن الكبرى أشجاراً لتصفية الهواء من الغازات السامة
الناشئة عن استهلاك الوقود في السيارات والمعامل ، اضافة إلى أنَّ الأشجار توفر
لنا غاز الأوكسيجين.
من فوائد الريح
أنه يبدل الهواء الملوّث الخالي من الاوكسيجين بهواء نقي فيه مقدار كافٍ من
الاوكسيجين.
إنّ رحمة الله
تأتي بالهواء النقي وتذهب بهواء المدن الملوّث.
باء ـ تستفيد
الاغصان المرتفعة من نور الشمس بشكل أفضل. إنَّ هذا النور يؤثر كثيراً على عملية
جذب ثاني اوكسيد الكاربون وطرح الاوكسيجين ، ولذلك كانت الحدائق في النهار ذات جو
وهواء أفضل من هوائها الليلي الخانق.
جيم ـ انَّ
الاغصان المرتفعة في مأمن من الغبار والتلوّثات التي يوجدها الإنسان على
سطح الأرض ، وقلما
تطال هذه التلوثات الاغصان المرتفعة كثيراً.
نقطة مهمة في مجال
المعرفة
من دروس المعرفة
الإلهيّة التي ننتقيها هنا هي أنَّ الأرض تجذب المياه التي تعلو سطحها وتمتصها إلى
أدنى مستوى ممكن أي نهاية القشرة ، وهذا قانون عام ، لكن المدهش هنا هو أنَّ
الأشجار تجتذب الماء الذي في حواليها وتحول دون نفوذ المياه إلى الطبقات السفلى من
قشرة الأرض ليتحول إلى مياه جوفية. فالاشجار بايصالها الماء إلى الغصون والاوراق
مهما علت تعمل عكس تيار جاذبية الأرض ، وعملها يشبه مضخة الماء الضخمة التي قد تمد
غابة كثيفة باطنان كثيرة من الماء لكن من دون صوت وعكس اتجاه الجاذبية الأرضية.
وهل غير الله
القادر يستطيع أن يفعل هكذا؟!
في النهاية نقول :
إنّ ثالث خاصية للشجرة الطيبة هو احتواؤها على أغصان مرتفعة جداً تفيد من الهواء
النقي المرتفع عن سطح الأرض كما تفيد من نور الشمس بشكل أفضل ، وهي أخيراً في مأمن
من تلوّثات الهواء في الطبقات الدنيا من جو الأرض.
٤ ـ «بإذْنِ
رَبِّهَا» الخاصية الاخيرة لهذه الشجرة هي أنَّها رغم كون ثمارها تنضج في جميع
الفصول ، إلّا أنَّها تنمو وتعمل حسب قوانين الطبيعة ولا تشذّ عنها ، وهي مطيعة
لهذه السنن التي جعلها الله تعالى. إن هذا الأمر لم يختص بأمثال هذه الشجرة ، بل
جميع ما في الطبيعة خاضع وخاشع له : (وَلَهُ أسْلَمَ من
فِي السّمَاوَاتِ والأرْضِ)
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيْثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيْثَةٍ) إنّ لهذه الشجرة الخبيثة خاصيتين :
١ ـ «اجتُثَّتْ
مِنْ فَوقِ الأرْضِ» أي أنَّها عكس الطيبة ذات الجذور الثابتة والمحكمة في الأرض ،
فجذور الخبيثة مقتلعة من الأرض ولا تستطيع هذه الجذور الحفاظ على الشجرة من
الطوفان والسيول والاعصار ، فهي مجتثة الجذور.
٢ ـ «مَا لَهَا
مِنْ قَرَارٍ» أي لاثبات لها ويطرأ عليها التزلزل لأدنى ريح عاصف.
__________________
إنّ شجرة تخلو من
الثمار والعطر ولا يمكنها ايجاد الظل المناسب لا تفيد إلّا للايقاد.
ما هي (الكلمة
الطيبة)؟
هناك بحث بين
المفسرين في تفسير معنى (الكلمة الطيبة) ، نشير إلى بعض النظريات في هذا المجال :
١ ـ يعتقد البعض
أنَّ المراد من «الكلمة الطيبة» هي كلمة «لَا إله إلَّا الله» فإنَّ هذه الكلمة كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها
في السماء ، وهي في الحقيقة شجرة سعادة الإنسان. إنّ هذه الشجرة التي هي حقيقة
التوحيد ، تحيي قلب الإنسان وتكسر كل ما فيه من أصنام ، بحيث تجعله لا يسجد أمام
أصنام المال والرشوة والربا والسرقة والاعتداء. ولا يكذب الآف الكذبات لأجل الحفاظ
على مقامه ، ولا يرتكب الجرائم لأجل الحفاظ على مال الدنيا ؛ وذلك لأنّ أعمالاً
كهذه تعدّ شركاً ولذلك يُدعى المرائي في الاخرة منافقاً أو فاجراً.
إن التوحيد إذا حل
وحيى في قلب الإنسان قضى على الهوى والهوس الذي هو السبب الرئيسي لجميع الانحرافات
ودمّره.
من هنا جاءت رواية
جميلة في هذا المجال : «أبغض إلهٍ عُبد على وجه الأرض الهوى».
إن شجرة التوحيد
الطيبة إذا زرعت في قلب الإنسان طردت كل ما حولها من أصنام.
٢ ـ يعتقد بعض آخر
من المفسرين أنَّ المراد من الكلمة الطيبة هو (المؤمن) ، فقد اطلق على الموجودات (كلمة
الله) في القرآن المجيد ، والمؤمن كلام إلهي كذلك ، الشمس والقمر والنجوم والسماء
والأرض كلها كلمات الله ، فهي في كتاب الله التكويني من كلمات هذا الكتاب ، كما
أنَّ هذا المصطلح استخدم في حق السيد المسيح عليهالسلام.
إنَّ شجرة وجود
المؤمن هي من قبيل الشجرة الطيبة التي تثمر في جميع الفصول ، وثمارها
__________________
السخاء والشجاعة
والجود والرحمة والحب والاحسان والايمان وما شابه ذلك.
٣ ـ وقد فسّر
البعض الكلمة الطيبة بالأئمّة المعصومين عليهمالسلام.
إنَّ هؤلاء بمثابة
الشجرة الطيبة التي ملأت غصونها بالثمار ، وكل من طالع تاريخ حياتهم وسيرتهم أو
اقترب لمزارهم وحرمهم أو أصغى أو طالع كلماتهم وخطبهم أو مدّ يد العون إليهم فسوف
لا يبقى خلو اليدين.
٤ ـ إنَّ (العلماء)
هو تفسير آخر للكلمة الطيبة ؛ وذلك لأنّ الناس يفيد من ثمار وجودهم.
٥ ـ (الفكر النزيه)
هو خامس تفسير للكلمة الطيبة ، فإنَّ الافكار النزيهة والطاهرة هي بمثابة الشجرة
الطيبة التي ثبتت على طول التاريخ.
٦ ـ (الحديث الحسن)
هو تفسير سادس ذكر للكلمة الطيبة ، فإنَّ الحديث الحسن قد يخلد ويثبت ويفيد منه
المجتمع.
وهناك رواية
معروفة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله مدوّنة في كتاب (إرشاد الديلمي) حيث يقول فيها :
«ما أهدى المرء المسلم
عن أخيه المسلم هديّة أفضل من كلمةٍ حكمة يزيده الله بها هدى ويردّه عن ردىً».
لقد جاء في قصة
النبيّ موسى عليهالسلام والخضر عليهالسلام انهما عند ما بلغا مدينة انطاكية واجهوا جفاءً من قبل
ساكني المدينة ، خرجوا من المدينة ووجدوا هناك حائطاً خرباً ، أمر الخضر ببنائه ،
فكان أمر الخضر لموسى مزعجاً فقال له الخضر آنذاك : إنَّ تحت الحائط كنزاً ليتيمين
كان ابوهما امرئ جيداً ويؤمل أن يكونا كذلك.
لقد ورد في بعض
الروايات أنَّ الكنز هناك لم يكن ذهباً وفضةً ، بل مجموعة من الحكم التي تركها
أبوهما لهما ، كما هو الحال بالنسبة إلى الكلام الثمين لأمير المؤمنين عليهالسلام ، فهو أغلى من أي
__________________
كنز وهو يصلح
لجميع العصور والأجيال.
كلمة طيّبة من
الإمام الحسن المجتبى عليهالسلام
إنّ جنادة بن أبي
سفيان من أصحاب الإمام الحسين عليهالسلام المخلصين ، طلب من الإمام أن يعظه في الساعات الاخيرة من
عمره المبارك ، ورغم أنّ الإمام كان في وضع صحي غير مناسب ، إلّا أنه استطاع أن
يزوّد هذا الإنسان المخلص ببعض النصائح الجميلة وذات المغزى العميق ، منها الجمل
التالية :
«إن أردت عزاً بلا
عشيرة وهيبة بلا سلطان فأخرج عن ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزوجل». نعم ، كلام حق ، فإنَّ العزة والاعتبار والسلطة في طاعة
الله والعبودية له (فإنَ العِزَّة للهِ
جَمِيْعاً)
__________________
المثل السادس
والعشرون :
لله المثل الأعلى
يقول الله تعالى
في الآية الكريمة ٦٠ من سورة النحل :
(لِلّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأعْلَى وَهُو
العَزِيْزُ الحَكِيْم)
تصوير البحث
كما ذكرنا سابقاً
، فإنّ الهدف من أمثال القرآن هو بيان المسائل العقلية المعقدة في صيغة مسائل حسية
قابلة للاستيعاب من قبل الجميع ؛ وذلك لأنَّ القرآن للجميع ، فكما أنّه يخاطب
النوابغ من العلماء ، يخاطب ابسط الناس والاميين منهم كذلك.
هناك بحث بين
المفسّرين في أنَّ هذه الآية تُعدُّ من أمثال القرآن أم لا؟
سبب الاختلاف هو
وجود تفسرين للآية ، على أساس أحدهما تكون الآية مثلاً ، وعلى أساس الاخر تكون
الآية ليست مثلاً ، ولأجل اتضاح الأمر ، نأتي بالتفسيرين هنا :
التفسير الأوّل
طبقاً للتفسير
الأوّل ، انّ مفردة المثل جاءت بمعنى الصفة ، أي أنَّ الذين لا يؤمنون بالقيامة
يحملون صفاتٍ قبيحة وغير مطلوبة. والحقيقة كذلك ، لأنَّ الذين يظلمون ويرتشون
ويكذبون ويقتلون و.... لا بدّ أنهم لا يعتقدون بيوم القيامة ، وإلّا ما ارتكبوا
هذه الذنوب.
يقول القرآن
الكريم في الآية ٤ من سورة المطففين : (ألَا يَظُنُ
أُولَئِكَ أنَّهُم مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيْمٍ)
وحسب ما يستشفُّ
من الآية ، فإنَّ سبب تطفيف المطففين هو عدم اعتقادهم وايمانهم بيوم القيامة.
نعم ، إنَّ غير
المؤمنين بيوم القيامة يحملون صفات سيئة وقبيحة. من هنا كان على الإنسان أن يخطو
جميع خطاه في ظلّ منهج يتحكّم بسلوكه ويضبطه ، وإلّا فكثير هم الذين يقترفون الذنب
وإن عظم لأجل كسب المال والمنافع ، مهما كانت تافهة وحقيرة.
(وللهِ المَثَلُ
الأعْلَى) لأنَّه قدير لا يمكن هزمه ، كما أنّه حكيم وذات منهج قويم.
إنّ ذوي السلطة
الظاهرية هم كثيراً ما يكونون غير حكماء ، ولا يفيدون من سلطتهم بشكل مطلوب.
إنَّ للسلطة آفات
كثيرة ، منها الغفلة عن البرمجة والنظام والحكمة ، لكن الله القادر ـ وله أرفع
قدرة وسلطة ـ هو الحكيم المطلق.
وعلى أساس هذا
التفسير ، فالآية الشريفة لا تُعدُّ مثلاً.
التفسير الثاني
طبقاً لهذا
التفسير ، انَّ مفردة المثل حافظت هنا على معناها اللغوي. إنَّ الذين لا يؤمنون
بيوم القيامة والمعاد لا في العمل ولا في العقيدة ، لهم مثل السوء كالامثال التي
ذكرت لهم في القرآن المجيد.
إنَّ المثل الذي
ذكر في الآية ١٧ من سورة البقرة ، والذي كان في حق المنافقين ، هو من جملة الأمثال
السيئة التي تُضرب لغير المؤمنين بالمعاد. يقول الله هنا : (مَثَلُهُم كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ
نَاراً فَلمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)
ومن الأمثال التي
جاءت في هذا المجال هو المثل المذكور في الآية ١٧٦ من سورة الاعراف ، حيث شبّه
الله المشركين هناك بالكلب المريض الذي يلهث والذي لا يحترم الصديق ولا العدو.
__________________
(وَللهِ المَثَلُ
الأعْلَى وَهُو العَزِيزُ الحَكِيْم) أي أنَّ لله من الأمثال ما ليس لغيره ، فلله المثل الأعلى
، ويُعدُّ كل مثل في حقه ناقصاً مهما ارتفع شأنه ؛ وذلك لأن أمثلتنا من عالم
الموجودات الممكنة ، وهي جميعاً ناقصة ومحدودة ، ولا يمكن تصوير اللامحدود
بالمحدود.
والآية التالية : (فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثَالَ) تشير إلى هذا المطلب.
رغم ذلك ، إذا
أردنا بيان مثال لله تعالى فالآية ٣٥ من سورة النور هي أنسب ما يمكن الاتيان به ،
فإنَّ الله هناك شُبِّه بالنور ؛ وذلك لأنّه لا موجود أكثر فائدة وبركة ولطافة
وسرعة من النور ، فإنَّ لله الامثال العليا والرفيعة.
سؤال : قد يخطر في
الذهن هذا السؤل : خلق الله كل شيء ، لكن مَن خلق الله؟
الجواب : نعم ،
انَّ الله خلق كل شيء ، لكن لم يخلق أحدٌ الله ؛ وذلك لأنّ الله موجود أزلي وأبدي
، أي كان ويكون وسوف يكون. إنّه لم يُخلق أبداً لكي نبحث عن خالق له. لأجل اتضاح
المطلب نسترعي انتباهكم إلى المثال التالي الذي فيه صياغة للامور المعقولة في
قوالب محسوسة :
إنّ الفحم الحجري
الذي هو نفايا الغابات في العصور الغابرة معلول للطاقة الشمسية. وحتى النفط الذي
هو الآن أكبر مصدر للطاقة في العالم معلول للطاقة الشمسية ؛ وذلك لأنَّه يقال :
إنَ النفط عبارة عن بقايا أو مستحاثات الحيوانات في العهود الماضية دُفنت لتتحول
إلى هذه المادة بعد قرون. ومن الطبيعي أنَّ الحيوانات تتغذى من النباتات ،
والاخيرة تفيد من نور الشمس ولو لم تكن الأخيرة لما كانت النباتات.
إنَّ المحركات
الضخمة التي تُنصب على الشلالات لأجل توليد الطاقة تستمد طاقتها من الشمس بالشكل
التالي : الشمس تسطع على البحار ، فتتبخّر مياه البحار ، فتتبدل المياه إلى سحب ،
لتنزل على الأرض تارة اخرى بشكل مطر وغيث مبارك ، وهذه الامطار تتبدل إلى سيول
تحرك المحركات لتوّلد الطاقة الكهربائية.
أما طاقة الشمس
فذاتية ، أي لا تصلها من خارج الشمس ، بل في الشمس نفسها ما يمنحها الطاقة دون
الحاجة إلى ما هو خارج عنها.
وعليه ، رغم أنَّ
الشمس مخلوقة إلّا أنَّها لا تحتاج إلى من يولّد لها الطاقة. وهذا المثال يمكنه
أن يوضح أزلية
الله وأبديته وأنه غني عن الخالق ومن يمنحه الوجود أو السلطة.
في النتيجة : انَّ
التفسير الثاني للآية الشريفة يجعل الآية من أمثال القرآن.
ارتباط آية المثل
بسابقتها
تحدثت الآيات التي
سبقت هذه الآية (أي الآيات ٥٧ و ٥٨ و ٥٩) عن العادات والعقائد القبيحة لعرب
الجاهلية التي منها وأد البنات.
جاء في الآيتين ٥٨
و ٥٩ ما يلي : (وإذَا بُشِّرَ
أحَدُهُم بالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيْمٌ يَتَوَارَى مِنَ
القَوْمِ مِنْ سُوْءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أيُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنٍ أمْ يَدُسُّهُ
فِيِ التُّرابِ ألَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)
المستفاد من
الآيتين هو أنَّ العرب كانوا يغتمون إذا رزقوا بنتاً ، وهذا أمر يجعل الجميع
يتساءل عن سبب ذلك.
لماذا كان عرب الجاهلية
يئدون بناتهم؟
إنَّ الدراسات
كشفت عن وجود علتين لهذه الظاهرة :
١ ـ كانوا يظنون
أنَّ الذكور مولّدون للثروات والمال ، أما البنات فمستهلكات لهذه الثروة. ما كان
للنساء آنذاك نشاط اقتصادي ، أما الذكور فكانوا ينتجون في قطاعات اقتصادية مختلفة
أو في مجال السرقات وقطع الطريق وما شابه. لذلك كانوا يقولون : إن حقّ العيش خاص
بالذكور ، أما الاناث فلا حقّ لهنَّ في الحياة الدنيا.
٢ ـ التعصّب
الأعمى ، يقال : إنًّ حرباً حصلت بين قبيلتين من العرب ، وقد أسرت القبيلة
المنتصرة رجال ونساء وبنات القبيلة الخاسرة. وفي فترة الأسر تزوجت نساء القبيلة
الخاسرة من رجال القبيلة المنتصرة. وبعد زمن انتهى أمر القبيلتين إلى الصلح وتبادل
القبيلتان أسراهم ، لكن النساء اللاتي تزوجن رفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، الأمر الذي
تبع ملامات وافرة ضد تلك النساء. ومن شخصيات القبيلة الخاسرة شخص أقسم أن يقتل
البنت
إذا ولدت له لكي
لا يرى بعد ذلك عاراً كهذا.
سرى هذا المرض
تدريجياً إلى الآخرين ، ليتخذ هذا الذنب العظيم عنواناً مقدساً مثل (الدفاع عن
العرض) أو (حفظ الغيرة والحميّة) وما شابه ذلك.
لقد أصبح متعارفاً
في الوقت الراهن أن ترتكب الجرائم العظمى بعناوين مقدسة ، ومن جملة تلك العناوين
هي عنوان (حقوق البشر) ، وبهذا الشعار يسلبون حقوق الكثير من الناس والشعوب. كما
أنهم يأسرون الإنسان تحت عنوان (الحرية) أو يقترفون الذنوب والجرائم تحت عنوان (التحضّر)
، وهي جرائم لم يرتكبها الإنسان البدائي وغير المتحضّر.
على أي حال ، إنّ
عرب الجاهلية كانوا ملوّثين بهذا الذنب العظيم ، إلّا أن مجيء الإسلام أغلق اضبارة
هذه الجريمة العظمى ليتوج الإنسانية ويقدّم للنساء خدمة عظمى.
من جانب آخر ،
هؤلاء العرب الذين كانوا يعتبرون البنات موجودات مشؤومة ، كانوا يعتقدون أنّ
ملائكة الله بنات ، وكانوا يعبدونها ليكسبوا رضا الله.
ولذلك جاء في
الآية ٥٧ من سورة النحل ما يلي : (وَيَجْعَلُونَ للهِ
البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)
خاطب الله في
الآية العرب وكلمهم بالمنطق الذي يعتقدون به ، وسألهم إذا كنتم تعدّون الملائكة
بنات الله ، فلما ذا تئدون البنت عند ما يرزقكم الله إياها؟!
بالطبع ترسبات هذا
الفكر الجاهلي لا زال موجوداً في أذهان البعض ، ولذلك عند ما يريدون رسم الملائكة
يرسمونها على شكل بنات.
البنت كشدّة الورد
من المؤسف أنَّ
هذا الفكر الجاهلي الخاطيء لا زال يشغل حيزاً في أدمغة بعض العوائل ولا يرون
مساواة بين الذكر والانثى ، ويتأذون من سماع ولادة بنتٍ لهم.
هناك الكثير من
الروايات في مصادرنا الإسلامية تبنّت الردّ على هذه الافكار ، نشير إلى
__________________
نموذجين منها ،
نأمل أن نزيل بهما وبالروايات الاخرى هذه الافكار المشؤومة.
١ ـ بُشِّر النبيّ
صلىاللهعليهوآله بابنةٍ فنظر إلى وجوه أصحابه فرأى الكراهة فيهم ، فقال : «مالكم؟
ريحانة أشمّها ورزقها على الله عزوجل».
كثير من الاولاد
كانوا وبالاً على والديهم وسبباً لنكستهم ، وكثيراً من البنات كنّ سبباً لرفعة رأس
والديهن. إن فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) كانت فخراً لابيها ، ونسل الرسول صلىاللهعليهوآله كله يرجع إلى هذه البنت.
٢ ـ جاء في ذيل
الآية الشريفة : (وأمّا الغُلَامُ
فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِيْنَا أنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً
فأرَدْنَا أنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرَاً مِنْهُ زَكَوةً وَأقْرَبُ
رُحْماً) إنَّ الله رزق هذين الأبوين بنتاً كانت كشدة الورد ، لا
أنَّها لم تسبب نكسة للابوين فقط بل كانت سبباً لرفعة رأسهم ، وذلك لأنَّ سبعين
نبيّاً كان من نسلها ، فهل هذه البنت شؤم والذكر جيد وحسن؟!
وفقاً لآية المثل
، إنَّ الكفار بالله وباليوم الآخر لهم أسوأ الامثال ، وكلامهم بذيء ، ويعتقدون
أنّ لله بنات ، مع أنَّه ليس كذلك ، فهو لم يلد ولم يولد.
لحيثيتين يحتاج
الإنسان إلى ولده :
الاولى : أنَّ عمر
الإنسان محدود ، ويحتاج الإنسان إلى الاولاد لكي يحافظ على نسله.
الاخرى : لا يتمكن
الإنسان الحفاظ على قواه حتى نهاية عمره ، بل يضعف الإنسان كثيراً ببداية الكهولة
، وحينئذٍ يحتاج إلى من يعتمد عليه ويعينه في تلك الأيام.
اما بالنسبة إلى
الله ، فهو أزلي وأبدي ولا معنى للموت بالنسبة إلى ذاته المقدسة ، كما أنَّه قادر
وقوي مطلقاً فلا يحتاج إلى الولد ذكراً أو أنثى.
اضافة إلى هذا ،
امتلاك الولد يستلزم الجسمانية ، وبديهي أن ذات الحق ليست جسماً (تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلك عُلُوّاً
كَبِيْرَاً)
__________________
المثل السابع
والعشرون :
عبيد الأصنام وعباد الله
يقول الله تعالى
في المثل السابع والعشرين وفي الآية ٧٥ من سورة النحل ما يلي :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْدَاً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ وَمن رَزَقْنَاهُ منّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْرَاً هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ
بَلْ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
تصوير البحث
تحدّثت الآية عن
عبيد الأصنام والمؤمنين. ويشبّه الله عبدة الأصنام هنا بالعبد المملوك الذي لا
يملك شيئاً من المال ، كما أنّه غير حرٍّ في اتخاذ القرار. أمّا المؤمنون فإنّ
الله هو رازقهم ، كما أنهم يشركون الاخرين بأرزاقهم ، وذلك بالانفاق سراً وجهراً.
ارتباط آية المثل
بسابقاتها
تحدثت الآيات
السابقة عن عبادة الأصنام ، وعن سبب عبادة الإنسان لموجودات لا يمكنها حل أي مشكلة
من مشاكله ، رغم أنّه عاقل والمفروض بأعماله أن تكون هادفة.
من هنا جاء في
الآية ٧٣ من نفس السورة ما يلي : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُم رِزْقاً مِنَ السّمَاوَاتِ والأرْضِ شَيْئاً
وَلا يَسْتَطِيعُونَ)
دوافع العبادة
للعبادة دوافع
عديدة ، ومن دوافع عبادة الله القادر هو قضية" شكر المنعم" ، فالإنسان
عند ما ينظر إلى
ذاته وحواليه يرى نفسه غارقة بالنعم العديدة من العين والاذن واليد والرجل والفكر
والسماء والأرض والشمس والهواء والاشجار والغابات وأمثال ذلك ، ولهذا يحكم وجدانه
بضرورة شكر المنعم وتقديره.
هل يمكن شكر
المنعم دون معرفته؟ من هنا كان الشكر سبباً لمعرفة الله.
وعليه ، شكر
المنعم هو من دوافع عبادة خالق المخلوقات.
قد يكون المعبود
خالياً من التأثير على حياة الإنسان ، لا أنه لا فائدة فيه ، ولا يزوّد عابديه بأي
خير ، بل إنّه لا يستطيع الدفاع حتى عن نفسه ، وهو بحاجةٍ إلى حماية الاخرين. وإنّ
موجوداً كهذا ليس أهلاً للعبادة ، ولا شك أنّ عقل الإنسان يرفض هذا النوع من
العبادة.
بالطبع ، إنَّ
عبدة الأصنام لا يعدون أصنامهم هي خالقة المخلوقات ، بل حسب ما ورد في القرآن : لو
سألناهم مَن خلق السماوات والأرض لأجابوا : الله هو الذي خلقها لا أصنامهم العاجزة. وهذا يكشف عن أنَّهم لم يكونوا مشركين
في الخلق ، كما أنَّهم كانوا يعدّون الله الرازق الوحيد.
غاية الأمر أنَّهم
كانوا يعتقدون أنَّ الاصنام تبتُّ بحل المشاكل بشكل مباشر ومستقل أو كشفعاء عند
الله ، لذلك جاءت الآية ٣ من سورة الزمر لتقول : (ألا للهِ الدّينُ
الخَالِصُ والّذِين اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِيَاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلَّا
لِيُقَرِّبُونَآ إلَى اللهِ زُلْفَى)
لا شك أنَّ كلام
المشركين باطل وواضح عدم صحته ، كيف يمكن لأصنام أن تحلّ مشاكل الآخرين رغم أنّها
عاجزة عن حلّ مشاكلها ذاتاً.
وفقاً لما جاء في
النص القرآني ، فإنَّ إبراهيم عليهالسلام عند ما حطّم الأصنام (في تلك القصة المعروفة والجميلة) قال
: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُوْنِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُم أُفٍّ لَكُم وَلِمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَفَلَا تَعْقلُونَ)
__________________
فالإنسان العاقل ـ
إذن ـ لا يستسلم ولا يركع أمام أصنامٍ كهذه.
تعقيباً على ما
ورد في هذه الآيات من نهي الإنسان عن عبادة الأصنام جاءت آية المثل.
الشرح والتفسير
الآية سعت للتمييز
بين المؤمن (عبد الله) والمشرك (عابد الصنم) ، فشبّهت المشرك بالرق الذي لا إرادة
له بل إرادته تابعة لمولاه ، كما أنّه لا يملك شيئاً من المال ولا يملك قرار نفسه
، بل إنَّ بعض المالكين يجيزون لأنفسهم قتل عبيدهم في حالة الغضب والضجر ، فهم
كانوا يعتقدون أنَّ المالك له الحق في التصرف بأمواله بأي شكل شاء. إنّ المشركين
لهم شأن كهذا الرق الذي يفقد الارادة والاختيار.
أمّا المؤمن
الموحّد فهو بمثابة الإنسان الحر الذي رزقه على الله هنيئاً مريئاً ، ويشرك
الاخرين في هذا الرزق الحسن بالانفاق إليهم في السر والعلانية.
هل يتساوى هذان
الاثنان؟ طبعاً لا يتساوون.
إنَّ الذي جرّ
هؤلاء المشركين إلى هذا العمل هو جهلهم.
خطابات الآية
١ ـ العبيد في
الإسلام
هل امتلاك العبيد
أمر مطلوب؟
هل يسمح الوجدان
البشري بممارسة العبودية؟
لماذا لم يحرر
الإسلام العبيد عند ظهوره؟ ولما ذا لم يلغ هذه الظاهرة بالكامل؟
لماذا هناك احكام
خاصة في الفقه تتعلق بالعبيد؟
لماذا لم يتساو
العبيد والاحرار في حقوقهم الإنسانية؟
وآخر سؤال هو : هل
تتفق روحية العبودية مع الإسلام الذي هو دين فطري؟
إنَّ جواب الاسئلة
الماضية نجدها في كتاب مستقل يحمل عنوان (الإسلام وتحرير
العبيد) وكذلك في محال متعددة من تفسير الأمثل ، رغم ذلك نشير إلى
الاجابات بشكل مختصر هنا :
إنَّ تحرير العبيد
من الأهداف المهمة لدين الإسلام ، وقد تحقق هذا الهدف تدريجياً وبمرور الزمان.
وينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ ظاهرة سيئة ما إذا تجذّرت في المجتمع فلا يمكن
اقتلاعها في فترة قصيرة ، بل ينبغي اتخاذ اجراءات ابتدائية خاصة لأجل اجتثاثها من
المجتمع ، وفي غير هذه الحالة ، فان مشاكل جمة ستواجه المجتمع والقائمين على اصلاح
سلوكياته.
لو بتَّ الرسول صلىاللهعليهوآله منذ البداية بإلغاء هذه الممارسة مباشرة ، وقام المسلمون
بتحرير عبيدهم (الذين يفقدون رأس المال) وبإخراجهم من بيوتهم ، لأدى ذلك إلى مشاكل
عديدة ومفاسد اجتماعية من قبيل السرقة والزنا واللواط ، وهم في النتيجة سيهدمون
أساس المجتمع ، لذلك كان تحريرهم المفاجيء أمراً غير صحيح.
من هنا وضع
الإسلام منهجاً تدريجياً خاصاً لتحرير العبيد ولضمهم إلى المجتمع الحر ومن دون
حصول هذه المشاكل المحتملة.
عمل الإسلام في
البداية على قطع مناشىء التعبيد في المستقبل ، لكي لا يُرقّ إنسان فيما بعد ، ولم
يبق إلّا طريق واحد وهو الإسترقاق عن طريق الحرب ، وذلك عند أسر الأعداء ، رغم ذلك
جعل الإسلام بديلاً لذلك حيث منح المسلمين الحق في تحرير الاسرى أو تبديلهم بفدية
، ومن جانب آخر أكد على استحباب تحرير العبيد وفرض لذلك ثواباً عظيماً لكي يتشجّع المسلمون على تحرير عبيدهم.
وقد ورد في بعض
الروايات أن عليّاً أعتق ألف عبدٍ من كدّ يده.
كما قد جاء في
رواية أن الإمام الحسن عليهالسلام حرّر جارية له بمجرد أن أهدت له يوماً زهرة ، وقال لها : «أنتِ
حرة لوجه الله» ، وبعد تعجب أحد أصحابه على عمله هذا ، قال له : «أدّبنا الله
تعالى».
__________________
وتمشياً مع مبدأ
التحرير المطلق للعبيد ، فرض الإسلام تحرير الرقّ ككفارة لكثير من الذنوب.
إنَّ الشخص إذا
أفطر في شهر رمضان عمداً ، فعليه ـ اضافة إلى القضاء ـ الكفارة ، وأحد خيارات
الكفارة المفروضة هو تحرير عبدٍ ، وكذا الحال بالنسبة إلى حنث اليمين والعهد
والنذر فإنَّ تحرير عبد هو أحد الخيارات المفروضة هنا.
وبهذا المنهج
الدقيق للإسلام تحقق التحرير التدريجي للعبيد ، قبل أن تُعلن الدنيا عن قرار تحرير
العبيد بمئات السنين.
٢ ـ العبودية
المتطوّرة
يعتبر القرآن
المجيد المؤمنين أحراراً والمشركين عبيداً. ومن هنا ندرك أنَّ مصطلح (العبيد) لا
ينحصر في معناه المتعارف ، بل هناك أنواع اخرى للعبودية ، وهي عبودية الشهوة
والهوى والهوس والمال والثروة والجاه والمقام وأصناف اخرى للعبودية المتطوّرة.
يقول ابن عباس : «إنَّ
أول درهمٍ ودينارٍ ضرباً في الأرض نظر إليها إبليس فلمّا عاينهما أخذهما فوضعهما
على عينيه ، ثمّ ضمّهما إلى صدره ، ثمّ صرخ ثم ضمهما إلى صدره ثمّ قال : أنتما قرة
عيني ، وثمر فؤادي ، ما ابالي من بني آدم إذا أحبّوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي
من بني أدم أن يحبّوكما».
أي أن صنم المال
والثروة وعبودية المال والدنيا هي أخطر من العبودية المتعارفة.
العالم اليوم الذي
أعلن عن تحرير العبيد ، هو في الحقيقة غيّر نوعية العبودية ولم يزلها بالكامل.
أرباب القوى
العظمى عند تبريرهم للجرائم التي يرتكبونها يقولون بصراحة : إنَّ هذه الجرائم
تقتضيها مصالحنا ، فإنَّه لو لم يكن هناك حرب وإهراق للدماء وقتل واختلاف وتفرقة ،
فإنَّ معامل الاسلحة ستتعطّل. ألم يكن هذا شركاً وعبادة للأصنام؟!
__________________
أليس هؤلاء أسرى
أموالهم وثرواتهم وعبيداً لها؟!
هناك بعض يغتمون
كثيراً ويقيمون العزاء لأجل حرمانهم من تجمّلات الدنيا وزخرفها! إن هؤلاء أسرى
حقيقيون.
يوسف عليهالسلام إنسان حرٌّ
المستفاد من
القرآن المجيد هو أنَّ زليخا (زوجة عزيز مصر) لم تكن الوحيدة التي دعته لتنفيذ
رغباتها وشهواتها الشيطانية ، بل إنَّ كثيراً من نساء اشراف مصر وكبارها كنَّ
يشجّعن يوسف عليهالسلام على إطاعة زليخا والقيام بهذا العمل الشيطاني ، لذلك جاء
في كلام يوسف عليهالسلام : (رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إلي مِمَّا يَدْعُونَنِي إليْهِ)
هناك احتمالات في
مضمون الكلام المستخدم لتشجيع يوسف عليهالسلام ، فقد يكون مضمون الكلام هو : (يوسف! أنت شاب وزليخا إمرأة
جميلة فلما ذا لا تستسلم لها)؟ وقد يكون : (إذا لم تهو جمال زليخا وحسنها ، فلا
أقل فكّر في مقامها وجاهها ، فانك قد ترتقي مقاماً من خلالها) ، وقد يكون : (إذا
لم تكن من أهل الجمال والجاه والمقام ، فخف انتقام زليخا وطعنها بك).
أما يوسف الحر فقد
قاوم هذه الوساوس التي تقمّصت ثياباً جميلة وجذابة ورجّح عبودية الله على أي شيء
آخر وقال : (رَبِّ السِّجْنُ
أحَبُّ إلَى مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)
إلهي! إنَّ هذه
النسوة الملوّثات يدعنني لتحمّل أسر الهوى والهوس ، وأنا أبغي الحرية وأحبها رغم
أنّها قد لا تحصل إلّا في الزنزانات والسجون ، وذلك أحب إلي من أسر النفس الأمارة
، يا إلهي العظيم!
إنّ هذه المحنة
عصيبة جداً وأنا غير قادر عليها لوحدي فلا تتركني دون عناية منك ، ولا تكلني إلى
نفسي طرفة عين.
انَّ الله أعان
يوسف الحر وجعله يعيش الحرية في سجون العزيز ، التي اقترنت مع رفعة رأس وافتخار ،
كما أنها كانت مقدمة لحكومته وسلطانه وإثبات نزاهته وطهارته.
__________________
إنَّ يوسف عليهالسلام لو لم يذهب إلى السجن لما توافرت له فرصة تعبير المنام ،
وتعبير المنام لو لم تتوافر فرصته لما تبرّء من الاتهامات ولما اقترب من السلطان
ولما حكم في النهاية.
إلهي! نحن جميعاً
أسارى الهوى والهوس نوعاً ما ، لكن نحب أن تنقذنا من أسرنا ، فأعنّا على ذلك.
علي عليهالسلام حرٌّ آخر
من التفاسير
الواردة في تفسير المؤمن الذي ورد في آية المثل هو الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام. نعم إنّه كان حرّاً من عبودية الهوى والهوس والمال
والثروة. كان ينفق كل ما عنده من ثروة في سبيل الله حتى في اثناء الصلاة.
نال الحكومة
الظاهرية بعد سكوت وقعود في البيت ومظلومية تحّملها مدة سنوات ، وقد أصبح آنذاك
حاكماً وذا سلطة ، رغم ذلك ما كان يجرؤ على التلاعب في بيت المال وإنفاقه بما تروق
له نفسه. وقصته مع أخيه عقيل خير شاهد على هذا ، ولنقرأ القصة على لسان أخيه هنا ،
وقد مرّت على لسان الإمام علي عليهالسلام فيما سبق :
«أقويت (أي افتقرت)
وأصابتني مخمصة شديدة ، فسألته فلم تند صفاته (التعبير كناية عن بخل الإمام) فجمعت
صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم. فقال : (ائتني عشية لأدفع إليك شيئاً)
، فجئته يقودني أحد ولدي ، فأمره بالتنحي ثم قال : (ألا فدونك) ، فأهويت حريصاً قد
غلبني الجشع (الحرص الشديد) أظنها صرّة ، فوضعت يدي على حديد تلتهب ناراً ، فلمّا
قبضتها نبذتها وخرت كما يخور (أي يصيح) الثور تحت جازره ، فقال لي : (ثكلتك امّك
هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا ، فكيف بك وبي غداً إن سلكنا في سلاسل جهنّم)؟
ثم قرأ : (إِذْ الأَغْلَالُ فِي
أَعْنَاقِهِم وَالسَلَاسِلُ يُسْحَبُونَ) ثم قال : (ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلّا ما
ترى) فانصرف إلى أهلك».
__________________
إنَّ عقيل قام
ليخرج بعد ما رأى في هذا الحاكم الصلابة وعدم استعداده للعدول عن طريق العدالة ولو
للحظة واحدة.
هل نعلم على طول
التاريخ حاكماً قادراً يعامل أخاه هذه المعاملة ، التزاماً بالعدالة؟
إلهي! وفّق
مسؤولينا للعمل كما كان يعمل الامراء الاحرار ، لكي يقدموا الضوابط والقوانين على
العلاقات.
المثل الثامن
والعشرون :
المؤمن والمشرك
يقارن الله في
الآية ٧٦ من سورة النحل بين المشرك والمؤمن ويقول :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا أَبْكَمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى
مَولَيهُ أيْنَمَا يُوَجِّهَهُ لَا يَأتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَويَ هُوَ وَمَنْ
يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ)
تصوير البحث
عنت الآية
بالمقارنة بين الإنسان المؤمن والإنسان المشرك ، وقد قارنت الآية بين الاثنين بمثل
جميل ودقيق بحيث لا يمكن إثره انكار الفوارق بين الإنسانين ، وبخاصة إذا لاحظنا
الصفات التي ذكرت للمشرك في الآية ، فانَّ ملاحظتها يفرض علينا القول بعدم امكانية
المقارنة بينهما لشدة الاختلاف في هذه الصفات.
الشرح والتفسير
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ) في هذا المثل قارن الله بين شخصين الأوّل وهو المشرك يحمل
الصفات الخمس التالية :
١ ـ (أَحَدُهُمَا أبْكَمٌ) أي أنّه أخرس. وأبكم مفردة اخرى للاخرس ، والفرق بينهما أن
الأخرس هو الذي عرضت له هذه الحالة أثناء حياته ، ولم يكن أخرس منذ الولادة. أمّا
الأبْكَم فهو الذي يلد على هذه الحالة.
وقد أضاف بعض من
أهل اللغة أن الابكم هو الذي يكون على هذه الحالة منذ الولادة ، والسبب عقلي أي
الضعف في قواه العقلية ، فهو يعاني من تخلف عقلي. وعلى هذا فإلّا بكم صاحب دماغ
ضعيف وسقيم ، ويشبّه الله المشرك بهذا الذي يلد ضعيف العقل.
٢ ـ (لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ) الخصلة الثانية لهذا الإنسان هي أنّه غير قادر على عمل شيء
، فهو ضعيف روحياً وجسمياً.
٣ ـ (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولَيهُ) الخصيصة الاخرى لهذا الإنسان أنّه كلٌّ أو ثقل على الآخرين
، أي أنّ هذا العبد ثقل على مولاه.
المتعارف أنَّ
الناس يقتنون العبيد لأجل حلِّ مشاكلهم ، إلّا أن العبد هذا ، لا أنه لم ينجز
عملاً انتاجياً أو خدمة ما فحسب ، بل هو مستهلك بحت ولذلك كان كلاً على مولاه.
٤ ـ نستفيد من
العبارة الماضية أن هذا الشخص عبد وليس حراً ، بعبارة اخرى انه ملك لغيره لا لنفسه
ولا يملك إرادة نفسه.
٥ ـ (أيْنَمَا يُوجّههُ لَا يَأتِ بِخَيْرٍ) آخر خصلة له أنه لا يتوفّق في أي عمل يقدم عليه ، ويرجع
منتكس الرأس كلّما ارسل لقضاء حاجة.
وعلى هذا ، فإنَّ
المشرك يبدو شخصاً يحمل الصفات التالية :
١ ـ عبد يفقد
الارادة.
٢ ـ أبكم منذ
الولادة.
٣ ـ لا يستطيع
انجاز عملٍ ما.
٤ ـ كَلُّ على
مولاه.
٥ ـ فاشل في جميع
أعماله.
(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ
وَمَنْ ...) أي هل يستوي هذا الإنسان الحامل لهذه الصفات مع إنسان
ستأتي صفاته؟
الإنسان الآخر (المؤمن)
الذي سنبتُّ بتوصيفه يحمل خصلتين ممتازتين وبارزتين :
١ ـ (يَأمُرُ بِالعَدْلِ) أول خصائصه أنّه يأمر بالعدل والقسط ، أي أنَّه عادل ويعمل
طبقاً لما تستلزمه العدالة. وأمره بالعدالة يكشف عن شخصيته القيادية والادارية.
٢ ـ (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فهذا الإنسان اضافة إلى عدالته وأمره بها ، يحضى بخصيصة
اخرى ، وهي أنَّه يخطو على الصراط المستقيم.
قد يكون البعض من
طلّاب العدالة والقسط في المجتمع ، لكن بما أنّ مساعيهم لم تنشأ ولم تصب في الطريق
الصواب والصحيح فهي كثيراً ما تنتهي إلى الظلم والجور. وقد نجد شخصيات من
الشيوعيين يطالبون بالعدالة حقاً ، لكنهم سلكوا طريقاً غير صائب لاجل تحقيق
العدالة ، فانتهى أمرهم إلى جرائم كثيرة وبشعة اقترفوها خلال سبعين عاماً من
حكومتهم.
إذن ، مثل المؤمن
مثل الإنسان العادل والطالب للعدالة الذي يسير على طريق الحق والصواب ، أما مثل
الكافر فمثل العبد الابكم الذي لا إرادة له و....
وهل يتساوى (مع
هذه المفارقة) المشرك والمؤمن؟ لا شك أنه لا يوجد من ينكر المفارقة هذه.
خطاب الآية
الشرك وعبادة
الأصنام في القرن العشرين
يتصور البعض أنّ
عهد الشرك وعبادة الأصنام قد ولّى ولا يوجد مشرك حالياً ، مع أنّ الواقع ليس كذلك
، فهناك مشركون وعبدة للأصنام ؛ وذلك لأنَّ للشرك (ذلك البلاء المهلك) أنواعاً
وأقساماً كثيرة. من هنا قال القرآن : (وَمَا يُؤمِنُ
أكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلّا وَهُم مُشْرِكُونَ)
نعم ، إنَّ أكثر
الذين يدّعون الايمان نجد في معتقداتهم عروقاً من الشرك تصب في قلوبهم.
لو قيل للذي ادّخر
مالاً وأعدّ لنفسه ثروة ضخمة : انَّ هذه الثروة ليست لك ، وأنت مجرد أمين عليها ،
فاعط المحتاجين كما نصّت الآية على ذلك : (وَأَنْفِقُوا مِمّا
جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ)
__________________
لأجاب : لي أولاد
وبنات وهم مقبلون على الزواج وعلى دخول الجامعات ، ومصارفهم كثيرة وثقيلة ... إنّ
هذا المسلم مشرك في الحقيقة ؛ وذلك لأنَّه غير مقتنع برازقية الله بشكل كامل ،
وتوحيد رازقية الله عنده ناقص ، وإلّا فإنَّ الله الذي كان قادراً على حفظ هؤلاء
الأطفال في أرحام امهاتهم قادر على إعانتهم في الدنيا إلى نهاية عمرهم.
إنّ المترائين
الذين يتظاهرون بعبادة الله أمام الناس ، لأجل كسب العزة والجاه عند الناس ، هم في
الحقيقة يمارسون الشرك بتظاهرهم هذا ؛ لأنَّ الآية ٢٦ من سورة آل عمران نصّت على
أنّ الذل والعز بيد الله تعالى لا بيد هؤلاء الناس الفقراء إلى ربّهم (قُلِ اللهُمَّ مَالك المُلْكِ تُؤْتِيَ
المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ
وَتُذِلّ مَنْ تَشَاءُ ...)
إنّ المشرك ضعيف
وفاشل ووحيد دائماً ، أما المؤمن الموحّد والآمر بالعدل والسائر في الطريق الصواب
فإنَّ الله معه دائماً.
لذلك يقول الله
تعالى في الآية ٥١ من سورة غافر : (إنّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنَا والّذِيْنَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُومُ الأشْهَادُ)
كما قال الله في
الآية ٣٠ من سورة فصلت المباركة : (إنّ الّذينَ قَالُوا
ربّنا اللهُ ثُمّ استَقَامُوا تتنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكةُ ألّا تَخَافُوا
وَلَا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بالجَنّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) حسب ما صرّحت به هذه الآية ، فإنّ الله يعين المؤمنين من
خلال إرسال الملائكة إليهم.
وعلى هذا ، فإنَّ
الشرك (الذي هو منشأ كثيرٍ من المفاسد) لا زال موجوداً في عالمنا اليوم ، وله
أقسام عديدة على المؤمنين أن يتبرؤوا منها.
من الآيات التي
فُسّرت في الإمام علي عليهالسلام هي هذه الآية (آية المثل) ، وحسب ما جاء في رواية وردت عن
أهل البيت عليهمالسلام : أنَّ المُرَاد من (مَنْ يَأمُرُ
بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الإمام علي والائمّة المعصومون عليهمالسلام.
بالطبع هذا لا
يعني عدم شمول الآية للآخرين ، بل الرواية تعني أنَّ علياً والائمة عليهمالسلام هم
__________________
أبرز مصاديق هذه
الآية. نعم ، إنّ عدالة علي عليهالسلام بمستوى جعلته يستحوذ لا على قلوب المسلمين فحسب ، بل على
قلوب جميع الأحرار في العالم.
من هنا يقول
الكاتب المسيحي (ميخائيل نعيمة) : لا يختص علي بالمسلمين فحسب ، بل نحن المسيحيون
كذلك نحب علياً.
حقاً كما قال ،
ولو كان الإمام علي عليهالسلام مختصاً بالمسلمين فحسب لما كتب الكاتب المسيحي المعروف (جورج
جرداق) كتاباً في علي عليهالسلام أسماه : (صوت العدالة الإنسانية) ، حيث تعامل فيه مع علي عليهالسلام كمعاملة عاشق له ، عاشق لفكره ، عاشق لعدالته ، عاشق لقلمه
، عاشق لسلوكه واخلاقياته ، عاشق لتقواه. ويبدو أنَّ هذا الشخص ذاته الذي قال في
علي عليهالسلام : يا دنيا! مالك لو تستنفري جميع قواك ليكون لك رجل كعلي
في كل قرن ، لكن أسفاً أن الدنيا غير قادرة على ذلك.
هناك مطالب كثيرة
وردت في عدالته ، إلّا أنّ بعضها باعتبار شهرتها لم تنل الاهتمام الدقيق والكافي.
إنَّ كثيراً من
خطبه ورسائله في نهج البلاغة تحكي عن عدالته ، منها قصته المعروفة مع أخيه عقيل
التي قد أشرنا لها في البحوث الماضية مراراً ، وهي تشكل قصة لا مثيل لها في
التاريخ أبداً.
وفي نفس الخطبة
التي جاءت فيها قصة عقيل جاءت قصته مع الأشعث بن قيس المنافق الذي كان سبباً لكثير
من الاختلافات والاستفزازات والمؤمرات في عصر حكومة الإمام علي عليهالسلام. إنَّ هذا المنافق تخاصم مع مسلم على قطعة أرض وقد وقعت
اضبارة الاثنين بيد علي القدوة في العدالة. وفي ليلة أراد الاشعث إرشاء علي عليهالسلام بإهداء حلوى له فكان جواب علي هو النفي والتأنيب ، فهي
إمّا رشوة أو صدقة أو زكاة ، وكلها حرام ، فالرشوة حرام على جميع القضاة ، وأمّا
الزكاة والصدقة فهي حرام على آل الرسول جميعاً.
__________________
أراد الأشعث
المنافق أن يكسب الموقف ولو بطلي الباطل صبغة الحقّ ، حيث قال : إن هذه هدية ، وهي
لا تدخل في العناوين السابقة ، ولكل مسلم الحقّ بأن يهدي ، وردّها غير صحيح.
فاجابه : «هبلتك
الهبول! أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت أم ذو جنّةٍ ، أم تهجر؟ والله لو
أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها ، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلب
شعيرة ما فعلته ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمُها».
نعم ، الدنيا التي
تُقترف الجرائم لأجل كسب مقدار قليل من زينتها هي أهون من ورقة شجرة في فم جرادة.
علينا نحن الشيعة
أن ندرس أنفسنا ونراجع لنعرف إلى أي مدى نتحلى بالعدالة العلوية؟ وأي مقدار فهمنا
من دروس عدالة علي؟ وهل يا ترى خطونا الخطوات الكافية لأجل ذلك ، أم أنّا شيعة في
القول واللسان فقط دون العمل؟ لا شك إذا كنا نبحث عن السعادة والنجاة ، فلا مفرّ
من العبور من صراط علي ، كما علينا التزام حبه وعشقه دائماً ، لأنَّ السعي لا يجدي
نفعاً إذا لم يقترن بالحب.
__________________
المثل التاسع
والعشرون :
حديثو العهد بالإسلام
يقول الله في
الآية ٩٢ من سورة النحل :
(وَلَا تَكُونُوا
كَالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أيْمَانَكُم دَخَلاً بَيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أمَّةٍ
إنَّمَا يَبْلُوَكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبينّنّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا
كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُونَ)
تصوير البحث
كان المسلمون في
صدر الإسلام أقلية والمشركون يشكلون الأكثرية. وتلك الثلة من الشباب ، الذين عشقوا
الرسول وآمنوا به ، كانوا يواجهون ضغوطاً من قبل عوائلهم وأصدقائهم والمجتمع
المشرك عموماً ، فبعض منهم مثل أبي ذر وبلال وعمار قاوموا جميع الضغوط
وثبتوا على عقيدتهم وضحّوا لأجلها وماتوا وهم مسلمون ، إلّا أنّ البعض الآخر لم
يطق ملامة المحيطين به (وهم الاكثرية) واعتراضاتهم ، وارتدّوا بعد ما اجتازوا
مراحل الإسلام والايمان الصعبة ، والآية هذه تعرضت للثلة الاخيرة من المسلمين
المتزلزل إيمانهم.
الشرح والتفسير
(وَلَا تَكُونُوا
كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكَاثَاً) يخاطب الله في هذه الآية حديثي العهد بالإسلام الذين
تحمّلوا مشاق الإسلام والايمان وتخطّوا مشاكل هذه المرحلة وتتوجوا
__________________
بالإسلام أفضل دين
سماوي ، ويحذّرهم دون أن يكونوا كتلك التي نقضت غزلها بعد أن تحملت مشاق ومتاعب
الغزل والحياكة. فإنَّ مثل الذي يرتد عن الإسلام والايمان إلى الشرك كمثل تلك
السفيهة أو البلهاء.
اختلف العلماء في
اسم تلك السفيهة ، فبعض قال : انها رائطة ، وبعض قال : انها ربطة ، وبعض آخر قال :
إنّها رابطة. المهم أنها امرأة كانت تعيش في عهد الجاهلية ولشدة غبائها وبلهها
كانوا يسمونها حمقاء.
إنَّ ما كانت
تعمله هذه الحمقاء المتموّلة هو أنّها في صباح كل يوم كانت تعدُّ صوفاً وتأمر
جارياتها بغزل الصوف ، ثم تأمر الجاريات عصر ذلك اليوم بارجاع الغزل إلى الصوف ،
أي تأمر بنقض الغزل. وعملها هذا كان يتكرر كل يومٍ.
يحذّر القرآن
الكريم حديثي العهد بالإسلام أن لا يعملوا بايمانهم واسلامهم كما كانت تعمل هذه
المرأة الحمقاء بغزلها.
(تَتَّخِذُونَ
أيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي لا تتخذوا قسمكم ذريعة للخيانة والفساد ولا تتماطلوا في
بيعتكم مع الله.
(أنْ تكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أرْبَى مِنْ أمَّةٍ) أي لا تتخذوا قلتكم وكثرة المشركين ذريعة لنقض بيعتكم مع
الله ورسوله ، فإنَّ القلة والكثرة ليستا إلّا ذرائع وتبريرات.
(إنَّمَا يَبْلُوكُمُ
اللهُ بِهِ) أي أنَّ هذه القلة في العدد هي امتحان لكم ، وما عليكم
إلّا السعي لأجل اجتيازه بنجاح.
(وَلَيُبَيِّننَّ
لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُونَ) لا شك أنّ الله سيبّين للجميع يوم القيامة ما كان يختلف
فيه الناس ، وآنذاك سيندم الكفار والمشركون على عدم إيمانهم.
هذا المثل جميل
وبليغ وجذّاب جداً ، كما أنَّه تحذير للمسلمين على أن يغزلوا حبال إيمانهم
باستحكام وقوة خوف النقض بعد هذه المشاق والمتاعب وخوف الوقوع في الشرك تارة اخرى.
خطابات الآية
١ ـ إنَّ الصوف
إذا لم يُفتل فلا فائدة فيه ، ولا يمكن صناعة شيء منه ، أما عند ما يُغزل ، فاذا
كان غزله رفيعاً
ودقيقاً تبدل إلى خيوط تصلح لصناعة الاقمشة والسجاد ، وإذا كان سميكاً تبدل إلى
حبال وأمكن صناعة خيام صحراوية منه.
إنَّ المجتمع
المتشتت والمتفرق كالصوف غير المفتول لا يصلح لشيء ، أما إذا اتحد وتلاحم ، فانّ
ذلك سيكون منشأ لخيرات وبركات كثيرة.
٢ ـ إنَّ الصوف في
الحالات الاعتيادية ضعيف وهش ويذهب به الريح حتّى لو كان نسيماً ، ولا قدرة له على
المقاومة ، رغم ذلك فإنَّه لو افتل وغُزل باستحكام فقد نتمكن حمل أثقل السلع
بواسطته ، بل قد يتحكمون ويسيطرون على السفن الكبيرة من خلال ربط خطاف السفينة به.
٣ ـ إنّ السبب
الوحيد لاستحكام هذا الصوف هو اتحاد وتلاحم فتائله. نعم ؛ إنَّ اتحاد هذه الفتائل
والتنسيق والتعاضد فيما بينها وترك الاختلاف والتشتت هو منشأ لخيرات كثيرة. وهذا
يعلّم الإنسان أن في ذاته قابليات كثيرة تكمن وتوجد فيه بالقوة ، وهي قابليات إذا
فتلت واستحكم غزلها فستثمر محاصيل جديدة اخرى مثل الارادة ووحدة الكلمة والايمان
والتوكّل على الله.
من هنا خاطب
القرآن المسلمين بأنهم فُتلوا بالايمان ، وعلى العاقل أن لا يفتح فتائل الايمان
هذه.
لقد ورد في خطبة
زينب (عليهاالسلام) عند ما وصلت بوابة الكوفة وخاطبت الناس هناك : «إنّما مثلكم
كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة ...». والواقع كذلك حيث بايعوا علياً في عهده وبايعوا سفير الحسين
مسلم بن عقيل بعد ذلك. وهذا أمر أحكم غزلهم لكنهم نقضوا هذا الغزل إثر وعد ووعيد
وتهديدات. وبذلك يثبت أنّ دعوتهم للإمام الحسين عليهالسلام وإعلانهم عن الوفاء له لم تكن إلّا خدعة ، وهم الآن يبكون
ويقيمون المآتم عليه!
إنَّ الذي له باع
في الأدب العربي وطالع خطبة زينب (عليهاالسلام) يدرك قيمة هذه الخطبة. ونحن نعتقد
أنَّ زينب (عليهاالسلام) بعملها هذا هزت عرش حكومة الشام ، وكانت المقدمة لسقوط
بني أمُيَّة والثورات والحركات التي حصلت بعد ذلك الحين.
__________________
أهمية الوفاء
بالعهد
هناك الكثير من
الروايات أكّدت على أهمية الوفاء بالعهد ، نشير إلى ثلاث منها :
١ ـ في حديث قصير
للرسول صلىاللهعليهوآله يقول : «لا دين لمن لا عهد له».
هذا الحديث المهم
يعني أنَّ الذي لا يلتزم بعهده يتساوى مع الذي لا دين له أبداً. والذي يعاهد اليوم
وينقضه غداً هو إنسان دون دين ، فإنَّ الإنسان الذي لا يفي بعهده أمام خلق الله
سوف لا يفي بعهده أمام الله كذلك.
٢ ـ يقول الإمام
علي عليهالسلام في عهده لمالك الاشتر :
«وإن عقدت بينك
وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ،
واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ، فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدُّ عليه
اجتماعاً ، مع تفرّق أهوائهم ، وتشتُّت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهودِ».
إنّ العالم اليوم
يفي بالعهود وأكثر الدول تلتزم بما تعهدت به ، وكذا الناس في عهد الجاهلية وعهد
عبادة الاصنام ، فإنّها سنة لم تختص بالقرآن والمسلمين فحسب بل عامة ، ومما ينبغي
على المسلمين هو وفاؤهم بعهودهم مع الله ومع خلقه.
٣ ـ يقول الإمام
الباقر عليهالسلام في حديث جميل له : «ثلاث لم يجعل الله عزوجل لأحد فيهنّ رخصة أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر والوَفاء
بالعهد للبرّ والفاجر وبرّ الوالدين بَرين كانا أو فاجرين».
على ما قرأنا في
الآيات والروايات ، فإنَّ الوفاء بالعهد يقع في صدر قائمة أعمالنا. وإذا أراد عبد
أن يستجيب الله لدعوته وطلباته عليه أن يفي بعهوده مع الله.
__________________
المثل الثلاثون :
كفران النعمة
يقول الله تعالى
في الآيتين ١١٢ و ١١٣ من سورة النحل :
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأتِيْهَا رِزْقُهَا رَغَداً
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ
وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَائَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُم العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)
تصوير البحث
تعرّضت الايتان
إلى مصير اولئك الذين لا يشكرون نعمَ الله بل يكفرون بها ، ولأجل ذلك استحقوا
العذاب الشديد من الله.
الشرح والتفسير
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
قَرْيَةً) شبّه القرآن المجيد الكافرين بنعم الله والمنكرين لها
بالقرية المعمورة التي تحضى ـ بسبب عمرانها المادي والمعنوي ـ بالمواصفات
الأربع التالية :
١ ـ (آمنة) ، إنَّ الأمان هو أوّل صفة لهذه القرية ، وباعتبار أنَّ
نعمة الأمان أهم النعم
__________________
الإلهية لذلك
قدّمها على غيرها من النعم على ما يبدو.
في الحقيقة ،
الامان إذا كان مفقوداً في مكان ما فإنَّ المكان سيفقد الإقتصاد السليم ، كما
أنَّه سيفقد امكانية التعليم والصناعة والتقنية الحديثة ، وامكانية العبادة وأداء
الشعائر الدينية ، وخلاصة سوف لا يُنجز عمل بشكله الصحيح إذا لم يقترن بالأمان.
إنَّ شعب ايران
الأبي سوف لا ينسى أنه كان يواجه مشاكل أثناء الدفاع المقدس حتى في مجال العبادة ، فقد يكون البعض في أثناء صلاته
ويسمع صفارة الأنذار ، الأمر الذي يوقع المصلي في حرج ومازقٍ روحي يجعله يشك في
كيفية أداء عبادته. وعلى هذا ، فإنَّ قضية الأمن تحضى بأهمية كبيرة تؤثر حتى على
العبادة وكيفية أدائها.
عند ما وطأت قدما
إبراهيم الخليل عليهالسلام أرض مكة الجرداء ، وبنى بين الجبال بيت الله الحرام ، دعى
لأهل تلك المدينة دعاءً ينقله الله في الآية ١٢٦ من سورة البقرة كما يلي : (رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدَاً آمِنَاً
وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ
الآخَرِ)
في هذه الآيات
النورانية نقرأ أنَّ أوّل دعاء دعى به إبراهيم لأهل المدينة هو الأمن.
إنَّ عقوبات اولئك
الذين يخلّون بأمن البلد والمجتمع هي من أشدّ العقوبات في دين الإسلام المقدس ، ولذلك
فرضت على" المحارب" عقوبات شديدة قد تصل إلى مستوى الإعدام.
إنّ السّراق
المسلحين ـ سواء بالاسلحة النارية أو غير النارية ـ يُعدُّون محاربين وينبغي
عقابهم بأشد العقوبات ، كما أنَّ الذين يخلّون بأمن منطقة واسعة يعدون (مفسدين في
الأرض) وعقابهم الإعدام.
٢ ـ (مُطْمَئِنَّةً) قد تحضى المدينة بأمان ، لكنَّ أمانها متزلزل وغير ثابت ،
وقد تحضى بأمان ثابت وغير متزلزل ، والامان الذي أشارت إليه الآية هو الأمان
المتواصل والثابت.
٣ ـ (يَأتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ) كما مضى فإنَّ الأمان يجلب كل شيء حتى الإقتصاد السليم
والقوي. في هذا البلد الذي أمن من السوء تأتي الناس أرزاقهم من كل مكان وصوب ،
__________________
وهناك مجالات
كثيرة ومتنوّعة لكسب الرزق.
٤ ـ (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) أي أنَّ الله إلى جانب ما وفَّر لهم من نعمٍ مادية (الأمان
والاقتصاد السليم) منحهم نعمة معنوية وهي إرسال نبيّ معصوم وبصير منهم ؛ لكي يتمَّ
تعاليمهم ومعارفهم.
إنَّ أهل هذه
المدينة يتمتعون بهذه الخصال الأربع ويعيشون في رخاء ، رغم ذلك لم يشكروا الله على
نعمه.
(فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ
اللهِ فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والخَوفِ) إنّ أهالي هذه البلدة كفرت بدل أن تشكر نعم الله ، وكانت
النّعم سبباً لتكبرّهم وغرورهم وأنانيتهم ، فظلموا بدل أن يفيدوا من النعم بشكل
صحيح ، وكان نتيجة ذلك نزول العذاب الإلهي ، وأذاقهم الله ، إثر ذلك ، الطعم
المرَّ للجوع وسلب منهم الأمان ، فكانت السرقات والغارات تهددهم في كل وقت ،
وتسلَّط أوباشهم عليهم ، وتدمَّر اقتصادهم إثر تزلزل الأمان عندهم.
سؤال : إنَّ تعبير
«أذَاقَهَا» لا يتناسب مع تعبير «لِبَاسَ» بل المناسب هنا استخدام مفردة «ألْبَسَهَا»
، فما سرّ هذا التعبير؟
الجواب : هناك
نقطتان دقيقتان في مجال استخدام (اذاق) مع (لباس) نشير إليهما هنا :
الف ـ اللباس يضم
الجسم كله ويحتويه ، وكذا العذاب الإلهي فانه يشمل جميع القرية.
باء ـ بالنسبة إلى
عبارة «أذَاقَهَا» ينبغي الالتفات إلى أنّ إحساس الإنسان واستيعابه ذات مراحل
ومراتب :
قد يدرك الإنسان
شيئاً من خلال حاسة السمع ، كأن يسمع بصوت النار ، فيدرك وجود حريق.
وقد يرى الإنسان
النار فيستوعب وجودها بالباصرة ، وهذا الادراك ذات مرتبة أعلى من سابقه.
وقد يلمس النار
فيدرك وجودها ، وهذا النوع من الادراك يقع في مرتبة أعلى من السابقتين.
وقد يدرك الإنسان
الشيء من خلال تذوّقه ، وهذا أعلى درجات الاحساس. وسبب
استخدام الآية الشريفة
لمادة الاذاقة هو أنها تريد الأشارة إلى شدّة إدراكهم وتحسسهم للعذاب الإلهي وطعمه
المر.
(بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ) أي أنَّ صنيعة أهل القرية هو السبب في نزول هذا العذاب
الإلهي ، فانَّ الإنسان قد يقترف الذنوب التي ترجع عواقبها عليه ، رغم صعوبة
تحمّلها.
على سبيل المثال ،
إذا حلَّ النظام الطبقي في مجتمع ما ، وكان الاغنياء لا يكترثون من معاناة الفقراء
، فإنَّ الأمان الاقتصادي سيسلب من هذا المجتمع وتعود مردوداته جُلّها على
الاغنياء أنفسهم ، وسبب ذلك ليس إلّا بخل الاغنياء وامتناعهم عن الانفاق وإعانة
الفقراء.
لذلك جاء في رواية
: «إذا بخل الغنيّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه».
أي أنّ الفقر هو
السبب في السرقات وفي النهاية السبب في فقدان الأمن في المجتمع.
كما جاء في رواية
اخرى : «سُوسُوا أموالكم بالصّدقة».
أي أنَّ طريقة حفظ
الأموال ليست هي ادخارها ، بل في التصدُّق ببعضها لكي لا يؤدي نار الفقر إلى إحراق
أمن المجتمع وإحراقها في النهاية.
خطابات الآية
١ ـ العذاب والبؤس
نتيجتان لأعمالنا
إن الذي يُستشفُّ
من آيات القرآن ، وبخاصة الايتين هنا ، هو أنَّ مشاكلنا وما نتحمله من العذاب هو
نتيجة أعمالنا وأنَّ الله لا يظلم أحداً.
إذا كان معظم
الشباب في مجتمع لا يتمتعون بأبسط وسائل العيش ولا يمكنهم التقدم على الزواج ، ومن
جانب آخر فيه أفراد يتمتعون بأفضل وسائل العيش ويوفّرون لأولادهم مبالغ كبيرة
كصداق لزواجهم ويصرفون الملايين في هذا المجال ، وشاع في هذا المجتمع الفساد والفحشاء
وعدم الأمن ، فهل المقصر في هذه الظواهر غير أفراد المجتمع ذاتهم؟! مَنْ يُلامُ
غير أفراده؟
__________________
من هنا يقول
القرآن المجيد في الآية (٤١) من سورة الروم : (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي
البَرِّ وَالبَحْرِّ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الّذِي
عَمَلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
نعم ، إنَّ منشأ
جميع هذه المصائب والمشاكل هو ذات الإنسان. إنَّ الأب الذي لا يفكر إلّا في جمع
المال وادخاره ولا يكترث بتربية الأولاد والعائلة ، إذا واجه في المستقبل مشاكل
اخلاقية ومصائب من قبيل تعاطي أولاده للمخدرات ، فلا يلوم إلّا نفسه ؛ لأنّه هو
السبب في تلك المشاكل لا غيره.
عند ما اعتقلنا
عام ١٣٤٢ ه. ش بصحبة بعض الشخصيات السياسية والدينية ، وارسلنا إلى معتقل طهران ،
كنا نسمع في بعض الأيام أصواتاً مرعبة ، كنت أتصور أنها نتيجة التعذيب الروحي الذي
كان يلحقه أفراد الأمن بالسجناء ، إلّا أنّي علمت بعد ذلك أنّ منشأها هو المتعاطون
للمخدرات وقد حان الوقت لتناولهم هذه المواد ، وباعتبار فقدانها في السجن كانوا
يواجهون آلاماً شديدة ... لا شك أنَّ هذه المصائب نتيجة لأعمالهم.
ليت النتائج تتوقف
إلى هذا الحد ، بل إنَّها قد تطال العرض ، فيبيع هذا الشخص عرضه مقابل مقدار بسيط
من هذه المخدرات.
شخص من أهل الهوى
والهوس كان يحب بنتاً ولا يتوفق للقاء بها رغم أنّه جرّب جميع الطرق ، إلى أن فكّر
في جرّ أخيها إلى المخدرات وتعاطيها ، فتوفق في ذلك ، وبعد الاعتياد عليه قطعها
عنه ، وقال له : لا طريق لك إليها بعد ذلك إلّا أن تصطحب اختك معك. وبذلك توفق من
النيل من هذه البنت.
لقد استفاد العدو
من طرق كثيرة لإيقاع شبابنا في الفخ. والمخدرات هي أحد تلك الطرق التي استفاد منها
، وهو يعلم أنَّ الشاب الذي يتعاطى هذه المادة ويبتلي بهذا المرض يفقد إرادته
ويمكن جرّه إلى أي عمل شاء.
٢ ـ هل كان وجود
خارجي لهذه القرية؟
المستفاد من الآية
هو أنَّ للقرية ذات المواصفات الاربع وجوداً خارجياً ، لذلك كان النقاش بين
المفسّرين في تحديد مكانها.
هناك احتمالات
كثيرة نضمّن بحثنا هذا اثنين منها فقط :
١ ـ يعتقد بعض
المفسّرين أنَّ هذه القرية الآمنة هي مكة ، فهي مصداق بارز للقرية الآمنة ، كما أنَّها في الحقيقة
تحضى بنعمة توفّر جميع انواع الثمار فيها ، ورغم أنها تفقد بذاتها بعض النعم ،
إلّا أن ذلك البعض يفدها من باقي المناطق والدول ، وهي بذلك تحضى بنعم قلما نجد
مكاناً يحضى بها.
عند ما هجر الرسول
صلىاللهعليهوآله مكة قاصداً المدينة ، كانت مكة تعاني من الجفاف الذي دام
سبع سنوات ، وكانت هذه المحنة نتيجة كفرانهم نعمة تواجد الرسول فيهم ، وقد بلغ بهم
الجفاف أنَّ رسول الرحمة صلىاللهعليهوآله أرسل لهم أغذية من المدينة ، كما أنَّ الجفاف هذا اقترن مع
فقدان الأمن فيها.
نعم ، إنّ كفران
النعمة سيتبعه عذاباً إلهياً وهذه سنة إلهية صادقة في كل مكان وزمان ، وتكرّر في كل
مكان تتكرر فيه كفران النعمة.
٢ ـ يعتقد بعض آخر
من المفسرين أنّ المراد من هذه القرية هو مدينة سبأ حسب ما جاء في سورة سبأ ، فإنَّ تلك البلدة كانت عامرة
كثيراً ، وكان فيها سدّ يُدعى (مأرب) تبدلت هذه البلدة بفضل هذا السدّ إلى قطعة من
الخضار ، وكانت النعم فيها متوفرة بشكل لا يحتاج قاصدها إلى أن يصطحب معه غذاء
ومتاع ؛ لأنَّه يكفيه أن يضع سلة على رأسه ويمشي في طرقها ، فإنَّ السلة ستمتلئ
بعد فترة وجيزة بثمار الاشجار التي في طرفي الشارع.
إنّ هذه المدينة
كانت تتمتع بالأمن والاستقرار والنعم الوافرة ، إلّا أن أهلها اختاروا طريق الكفر
لهذه النعم ، فأوحى الله إلى فئران أن دمّري هذه المدينة ، فأثقبت هذه الفئران
السد ، وتوسعت هذه الثقوب تدريجياً إلى أن دمّرت السد في ليلة ، وأخذ الماء بسيوله
الجارفة المدينة بأجمعها ودمّر ما فيها من قصور ومزارع وبيوت وأشجار وبساتين. وكان
التدمير إلى درجة اضطّر بعده للهجرة من سلم من أهالي المدينة ، وما استطاعوا العيش
فيها.
__________________
لقد ذاق عصرنا
حالياً ثمرة كفران النعمة ، فاوربا قبل الحرب العالمية الثانية كانت غارقة في
النعم وكانت مدنها معمورة وذات حضارة متقدمة وتقنية عالية و... فقد كانت تحضى بكل
شيء ، إلّا أنَّ كفرانهم للنعم أبلاهم بحرب شاملة كان ضحيتها ثلاثين مليوناً من
القتلى وثلاثين مليوناً آخرين بين معوّق أو مجروح ، وتدمّر إثر ذلك قسم كبير من
أوربا.
وعلى هذا ، فإنَّ
الآيات هذه تحذير لنا بأن لا نكفر بنعم الله المعنوية والمادية ، ما علينا هو
شكرها.
المثل الحادي
والثلاثون :
أمثال الكفَّار
يقول الله تعالى
في الآية ٤٨ من سورة الاسراء :
(انظُر كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الأمثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبيلاً)
تصوير البحث
هذا المثل يختلف
عمَّا تقدَّم وعمَّا سيأتي من أمثال ؛ لأنَّ الأمثال التي جاءت في القرآن أوضحت
أموراً عقلية معقَّدة وغير حسية ، أمَّا هذه الآية فحكت الأمثال التي جرت على ألسن
الكفَّار في حق الرسول صلىاللهعليهوآله ، وهي أمثال استهدفوا بها الإضلال ، عكس أمثال الله حيث
استهدفت الهداية والإرشاد.
الشرح والتفسير
لأجل معرفة ما جاء
على لسان الكفار في حق الرسول صلىاللهعليهوآله ينبغي الرجوع إلى الآيات التي سبقت هذه الآية.
يقول الله في
الآية ٤٥ من سورة الاسراء :
(وَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ
حِجَاباً مَسْتُوراً)
ما هو الحجاب
المستور؟
اختلف المفسرون في
معنى الحجاب المستور ، فبعض اعتبره الستار الحقيقي الذي يمنع من
رؤية الأشياء التي
خلفه. وعند ما كان الرسول صلىاللهعليهوآله يتلو القرآن يُجعل ستار حائل بينه وبين الكفار يمنع من
رؤيتهم إيَّاه ، لكنهم كانوا يسمعون صوته. والمراد من المستور هنا هو غير المرئي ،
أي أنَّه كان ستاراً لا يُرى بالعين يُجعل بين الرسول صلىاللهعليهوآله والكفار.
فلسفة هذا الستار
غير المرئي هي أنَّ الرسول صلىاللهعليهوآله عند ما كان ينشغل بتلاوة القرآن يقرأ آيات في ذمِّ الكفّار
والمشركين والأصنام وآيات عن مستقبل الاسلام وانتصاراته ممَّا قد يغيظ الكفار
ويجعلهم ينفجرون غيضاً وكمداً ، وهو أمر يشكِّل خطراً على حياة الرسول ؛ لاحتمال
هجومهم على الرسول وتعرّضه لبعض المساوئ ، وقد جعل الله هذا الستار لكي يحول بينه
وبينهم .
يعتقد بعض آخر من
المفسرين أنَّ عبارة (حجاباً مستوراً) كناية عن الحجاب المعنوي من اللجاجة والتعصّب والجهل
والعداوة ، فهذه الصفات المذمومة تبلورت على نحو حجاب للمشركين حالت دون فهمهم آيات
القرآن ، التي هي سبب هداية القلوب وضيائها ، لكنها لا تؤثر في هذه القلوب بسبب
هذا الحجاب المضمر .
إذن ، كلا
التفسيرين في مقام بيان مفهوم أنَّ هذا الحجاب كان مانعاً عن نفوذ الآيات في قلوب
المشركين.
جاء في الآية ٤٦
من نفس السورة :
(وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإذَا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أدْبَارِهِمْ نُفُوراً)
بلغ تعصّبهم
ولجاجتهم مستوى جعلهم يولّون أدبارهم عن الحق ويعرضون عنه نفرةً منه بدلاً من أن
يولوا أدبارهم عن الباطل ويعرضوا عنه.
ولهذا جاء التعبير
العجيب واللافت التالي على لسان نوح عليهالسلام في الآية ٧ من سورة نوح :
(وَإنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُم جَعَلُوا أصَابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأصَرُّوا وَاسْتَكْبَروا اسْتِكْبَاراً)
الآية تحكي مستوى
جهل وعناد معاصري النبيّ نوح عليهالسلام حيث ما كانوا يكتفون بوضع
__________________
أصابعهم في آذانهم
بل كانوا يستغشون ثيابهم ويضعونها على رؤوسهم لكي ينتفي بالكلية احتمال سماعهم
شيئاً من كلام نوح عليهالسلام الحق.
نعوذ بالله جميعاً
من بلاء التعصّب واللجاجة وحفظنا من حريق ناره.
وجاء في الآية ٤٧
من سورة الاسراء :
(نَحْنُ أعْلَمُ بِمَا
يَسْتَمِعونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُون إلَيْكَ وَإذْ هُمْ نَجْوى إذ يَقُولُ
الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)
والآية تشير إلى
شيطنتهم من الاستماع ثم التسقيط والتنقيص بغية منع الناس من الإهتداء ، فيناجي
أحدهم الآخر ويقول : إنَّ النبي رجل مسحور.
إنَّ الرجل
المسحور يُعدُّ من الأمثال التي قالها المشركون في حق الرسول.
ما تعني المسحور؟
عرب الجاهلية
كانوا يرون سبب الجنون مساس الجن أو حلوله في الانسان ويدعون الذي حلَّ فيه الجن مجنوناً ، كما يرون سبباً آخر
للجنون ، وهو سحر السحرة ويدعون المبتلى بهذا مسحوراً.
وبناءً على هذا
شبَّه المشركون الرسول صلىاللهعليهوآله بالمسحور علَّهم بذلك يحولون دون ترك أثر لكلام الرسول
الجذّاب في قلوب الناس.
يستفاد من آية
المثل الشريفة أنَّ المشركين كانوا قد ضربوا للرسول أكثر من مثل واحدٍ عَدُّوه
فيها مسحوراً أو مجنوناً أو كاهناً وساحراً وشاعراً.
أسلحة الجاحدين
على طول التاريخ
كان ولا زال الرسل وأوصياؤهم والأئمة ونوّابهم الخواص والعوام
__________________
والعلماء والفقهاء
وكلُّ من خطى خُطاهم موضع إتِّهام من قبل الجاحدين ومنكري الله ، ولا ينفكون
دائماً عن إلصاق مختلف التهم والتخرُّصات والأكاذيب بهؤلاء الثلَّة من سالكي طريق
الحق والحقيقة لغرض إبعاد طلَّاب المعارف الإلهية عنهم ، كما فعلوا ذلك عند الثورة
الاسلامية في إيران وقد شهدنا الأعداء دائماً يلصقون التُّهم بالثوّار وبالامام رحمهالله وبأتباعه وأنصاره الأوفياء ، لكنَّا نعلم جميعاً أن حبل
الكذب قصير ، ولا تبقى الحقيقة خافية دائماً.
من التهم التي
الصقوها بالرسول صلىاللهعليهوآله تهمتان رائجتان سبق وأن اتُّهم بهما باقي الأنبياء ، وهما
: ساحر ومجنون ، وفي ذلك يقول القرآن :
(كَذَلِكَ مَا أتى
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّاقَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) .
كما قلنا فإن هذه
التهم والتخرُّصات ما كانت إلَّا لإغفال الناس ، لكنها لم تترك أثراً ، لذلك ما
انفكوا عن تبديلها وتغييرها إلى مستوى التناقض أحياناً من قبيل نسبة السحر
والكهانة والجنون للرسول وهي متناقضة ؛ لأن السحر والكهانة يستدعيان الذاكرة
القوية والذهنية الناشطة ، ولا يمكن لمجنون أن يكون ساحراً أو كاهناً.
الحقائق المستبطنة
في الاتهامات
في هذه الاتهامات
حقائق مستبطنة ينشرها الأعداء بنحوٍ لا إرادي ، فهم ينسبون الجنون والسحر للرسول
مثلاً ، وفلسفة هذه النسبة المستقبحة أنهم جاءوا للرسول وقالوا له : ما الهدف من
دعوتك للدين الجديد؟ إذا كان هدفك جمع المال فسنعطيك مالاً تصبح به اغنى رجال مكة
وإن كنت ترغب الزواج فسنزوّجك أفضل نساء مكة ، وإذا كنت ترغب في الرئاسة فسنجعلك
رئيساً علينا.
لكن الرسول صلىاللهعليهوآله أجابهم بعبارته التالية : «والله لو وضعوا الشمس في يميني
والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» .
__________________
ولأجل هذا الجواب
الصريح كانوا ينسبون له الجنون ؛ لأن شخصاً يترك أفضل النساء والجاه والمقام
والثروة لغرض الدعوة للتوحيد لا بدَّ وأن يكون ـ حسب عقليتهم ـ مجنوناً.
نعم ، إنَّ
الموحِّدين مجانين من وجهة نظر عبدة الدنيا ، الموحِّد عند ما يجد ضالة في الشارع
أو الزقاق يسعى متواصلاً للحصول على صاحبها ، وهذا العمل يُعدُّ جنوناً من وجهة
نظر الدنيويين ؛ لأن العقل من وجهة نظرهم هو عبادة الدنيا ، أمَّا الطهارة والتقوى
فجنون!
من هذه التهم التي
أطلقها الأعداء نفهم أن الرسول صلىاللهعليهوآله كان رجلاً لا يراهن على مبادئ الاسلام ولا يستبدلها بأي
شيءٍ ، ولذلك دُعي مجنوناً ومسحوراً.
ونستفيد من نسبة
الكهانة إليه أنه كان يعلم الغيب ويخبر عنه دون أن يخطأ بحيث يصدق إخباره ويتطابق
مع الواقع ، ولهذا جاء ما يلي في الآيات الاولى من سورة الروم :
(غُلِبَتِ الرُّومُ
فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ
سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
المُؤمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)
وفقاً للآية غُلبت
الروم بواسطة الفرس ، وبعد فترة غير طويلة غلبت الروم الفرس ، وتزامن مع ذلك
انتصار المسلمين ، وعند ما شاهد الكفار تحقُّق هذا الأمر وصدق إخبار الرسول بالغيب
نسبوا إليه الكهانة ، واين هو من الكهانة مع أن إخباره عن الغيب يكشف عن واقع
وحقيقة مستقبلية لا كذباً ولا وهماً.
لماذا نسبوا إليه
الشعر؟
سبب نسبة الشعر
إلى الرسول صلىاللهعليهوآله هو أنَّ آيات القرآن كانت فصيحة وبليغة وموزونة بدرجة
استقطبت قلوب الناس ، فما كان مفرٌّ للكفار إلَّا أن يقولوا : إنَّه شاعر ، وقد
أجابهم القرآن الكريم من الآية ٦٩ من سورة ياسين بما يلي :
(وَمَا عَلَّمنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّاذِكْرٌ وقُرآنٌ مُبِينٌ)
نسبة الشعر للرسول
صلىاللهعليهوآله تكشف عن جاذبية ولطافة وظرافة في القرآن.
ونسبة السحر
للرسول صلىاللهعليهوآله تحكي عن آثار مهمة ومعجزة ترشَّحت عن الرسول صلىاللهعليهوآله ، الأمر الذي أعجزهم عن مواجهته بالحق والحقيقة والواقعية
فاضطرَّهم ذلك لإلصاق هذه
التهمة ، وقصة
أسعد بن زرارة التي مضى ذكرها في الجزء الاول شاهد حسن على ما نقول.
خطاب الآيات
التربوي
الآيات المزبورة
تعلِّمنا أنَّا إذا أردنا إدراك الحقيقة فعلينا إزالة الحُجُب التي تمنع من
الإدراك وبخاصة حجاب التكبّر والتعصُّب والأنانية واللجاجة ، وإذا لم تزل هذه
الحجب فسيبدو الباطل حقاً ، وعندها ينحرف الانسان عن طريق الحق.
يقول الرسول صلىاللهعليهوآله :
«مَن كانَ فِي
قَلْبِه مِثْقالُ حبَّة مِن خَرْدَلٍ من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب
الجاهلية» .
إذن ، ينبغي إزالة
حجاب التعصُّب لرؤية الحق.
__________________
المثل الثاني
والثلاثون :
المستكبرون والمستضعفون
إثنى عشر آية من
سورة الكهف (وهي الآية ٣٢ إلى ٤٤) تشكِّل المثل الثاني والثلاثين من بحثنا ، يقول
الله في هذه الآيات :
(وَاضرِب لَهُم
مَثَلاً رَجُلَينِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعْنَابِ وحَفَفْناهُما
بِنَخلٍ وجَعلنا بَيْنَهُما زَرْعاً* كلتا الجَنَّتَينِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ
تَظلِم مِنْهُ شَيئاً وفجَّرنَا خِلالهُمَا نَهَراً* وكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ
لِصَاحِبِه وهَوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالاً وأَعَزُّ نَفَراً*
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِه قَالَ مَا أُظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أبَداً* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبّي
لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً* قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاورُهُ
أكفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلاً* لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَداً* وَلَولَا
إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ إنْ
تَرَنِ أَنَا أقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً* فَعَسى رَبِّي أَن يُؤتِيَنِ خَيْراً
مِن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسَباناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ
صَعِيداً زَلَقاً* أوْ يُصِبحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَباً*
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أنَفَقَ فِيهَا وهي
خَاويةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَداً*
وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ ومَا كَانَ مُنتَصِراً*
هُنَالِكَ الوَلايةُ لله الحَقِّ هُوَ خيرٌ ثَوَاباً وَخيرٌ عُقْباً)
تصوير البحث
تضمَّنت الآيات
الإثنى عشر مثلاً هو من أكبر أمثال القرآن ، وهو مثل المؤمنين والكافرين
أو المستكبرين
والمستضعفين ، فشبَّه الله الطائفتين بشخصين ، أحدهما : ثري ومغرور بماله وثروته ،
والآخر : مستضعف لكنه موحِّد. ونهاية هذين الشخصين زوال ثروة الثري وفناءها ،
ممَّا أدى إلى استيقاظه من نوم الغفلة. والمثل يستبطن نكات ظريفة ولطيفة نعرض لها
تدريجياً.
علاقة آيات المثل
بسابقاتها
لماذا طرح الله
هذا المثل ضمن هذه السورة؟ وهل هناك علاقة بين آيات المثل والآيات التي سبقتها؟
الجواب
: إذا راجعنا
الآيات السابقة للمثل وجدنا علاقة بينها وبين آيات المثل ، وبذلك تبدو ضرورة بيان
هذا المثل في هذه السورة.
ولأجل ذلك يقول
الله في الآية ٢٨ من نفس السورة :
(وَاصْبِر نَفْسَك
مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَوة والعَشِيِّ يُريدُونَ وَجهَهُ وَلَا
تعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَة الحَيَاةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ
أغْفَلنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبعَ هَواهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً)
قيل في شأن نزول
الآية : إنَّ مجموعة من أثرياء العرب المشركين جاءوا للرسول صلىاللهعليهوآله وأعربوا عن رغبتهم للإلتحاق بدين الرسول ولكنهم قالوا : ما
يمنعنا من الالتحاق بركبك وجود فقراء حواليك من أمثال سلمان وأبي ذر وصهيب وخبَّاب
، فلا تناسب بيننا وبينهم فأبعدهم عنك لكي نلتفَّ حولك .
ولهذا الشأن نزلت
الآية وأوضحت معيار الاسلام الأصيل ومنهجه في هذا المجال ، وأوضحت وظيفة الرسول صلىاللهعليهوآله تجاه القضية.
تحطيم القيم
الكاذبة من أهداف الأنبياء
من الأهداف المهمة
للأنبياء والأولياء وبخاصة الرسول الكريم صلىاللهعليهوآله هو تحطيم القيم الكاذبة ؛ لأنه كان للمال والثروة أرفع
قيمة من وجهة نظر عَبَدَة الأصنام عهد الجاهلية ، ولا
__________________
زالت هذه النظرة
تحكم عالمنا اليوم ، ولا تنتظم الحياة الدنيا ما دامت هذه القيم الكاذبة تحكم
مجتمعاتنا.
عند ما بُعث
الرسول صلىاللهعليهوآله وأنبأ عن دينه الجديد قال بعض مشركي مكة : تعالوا اسمعوا
خبراً جديداً ، إنَّ يتيماً فقيراً لا يملك مالاً يدَّعي النبوّة ويبلّغ لرسالة
جديدة من الله ، وهل هذا ممكن؟ ولو أراد الله أن يبعث لنا رسولاً فلما ذا لم يبعث
واحداً من أثرياء مكة أو الطائف؟
(وَقَالُوا لَوْلَا
نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) .
سبب تفوّه
المشركين بهذا الكلام هو أنهم كانوا يصنّفون المال والثروة في أعلى مرتبة للقيم ،
وقد سبقهم في ذلك فرعون ، فعند ما دعاه موسى عليهالسلام إلى الدين الالهي نظر إلى ظاهره وقال ضاحكاً : وهل يمكن
لراعٍ أن يكون نبياً؟ أنا لا أستسلم لراعٍ مع ما أملك من ثروة وسلطة.
نعم ، كانت السلطة
والثروة تشكّل أعلى مراتب القيم عند هؤلاء الناس ، وكانت بعثة الرُسُل لغرض تحطيم
هكذا قيم سقيمة.
في آيات كثيرة من
القرآن المجيد عدَّ الله القيم الدنيوية كالمال والبنون لعباً ولهواً ، كما اعتبر القيمة الحقيقية تتمثّل في التقوى .
من هنا قال الله
في الآية ٣٣ من سورة الزخرف :
(وَلَوْلَا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ امَّةً وَاحِدَةً لجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرَّحْمنِ
لِبيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضَّةِ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرونَ)
وفي الآية ٥٣ من
نفس السورة يتحدَّث فرعون عن نبوّة موسى عليهالسلام ويقول لمن حواليه وللمصريين : (فَلَوْلَا القِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ
مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَة مُقْتَرِنِينَ) ويريد بذلك أنَّ على الرسول أن يكون ثرياً.
بُعث الأنبياء
لإبطال هذه التوهّمات وتحطيم هذه القيم الكاذبة ، وآية المثل الكريمة تدخل
__________________
في هذا الاطار ،
أي أنَّها تريد تحطيم هذه القيم الكاذبة ، حيث قالت :
(واصْبِر نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِين يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَوة والعَشِيّ يُريدَون وَجْهَهُ) أي عليك يا أيها الرسول أن تكيِّف نفسك مع أمثال سلمان وأبي
ذر وبلال وصهيب الذين يدعون ربَّهم دائماً ويتوجّهون إليه رغبة في وجهه الكريم رغم
فقرهم وفقدهم للمال والثروة وغيرها من القيم الدنيوية الكاذبة.
(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنَا قَلْبَهُ
عَن ذِكْرِنا) أي لا تتناسهم رغبة في زينة الحياة الدنيا وطاعة لمن غفل
قلبه عن ذكرنا ، أي ذكر الله.
(واتَّبَعَ هَواهُ
وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطاً) فإن هؤلاء الأثرياء تابعون لأهوائهم ، وأعمالهم لا تخلو عن
الإفراط والتفريط.
المستفاد من هذه
الآية أن الاسلام للمستضعفين والفقراء لا الأثرياء المغرورين.
كان هذا المنطق
والنهج عجيباً للبعض لذلك ضرب لهؤلاء مثلاً أوضح فيه شأن المستضعفين والمستكبرين
لكي تتضح من خلال ذلك القضية للجميع.
الشرح والتفسير
(وَاضْرِب لَهُم
مَثَلاً رَجُلَيْن)
يطلب الله من
الرسول أن يضرب لهم مثل رجلين أخوين أو صديقين.
اختلف المفسرون في
أنهما كانا صديقين أو أخوين ، فبعض قال بأنهما كانا أخوين بلغهما ثمانية آلاف درهم
كإرث من أبيهما ، أحدهما اشترى بمقدار قليل من الأربعة آلاف درهم وسائل بسيطة يعيش
بها وانفق ما تبقى ، أمَّا الآخر فاستهلك سهمه من الإرث كله لأغراضه الشخصية ولم
ينفق منه في سبيل الله ولا درهماً ، فأصبح صاحب رأس مال وبستان وحياة مرفّهة ،
والآية تشير إلى قصة هذين الأخوين.
__________________
يرى بعض آخر من
المفسرين أنَّ الرجلين كانا صديقين ولا نسبة بينهما .
مضمون الآيات يفيد
أنَّ النظرية الثانية هي الصحيحة ، أي أن المراد من رجلين هو صديقان لا أخوان.
المطلب الآخر الذي
يمكن استفادته من الآيات هو أن الآيات ليس بياناً محضاً لمثلٍ كما ظن البعض ذلك ،
بل هي بيان لقصة حقيقية حصلت في الأزمان الماضية بيَّنها الله في صيغة مثل.
(جَعَلْنا لأحَدِهمَا
جَنَّتَيْنِ مِنْ أعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنهُما
زَرْعَاً كِلْتا الجَنَّتَينِ آتَتْ اكُلَهَا وَلَمْ تَظلِمْ مِنْهُ شَيئاً
وَفجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)
المستفاد من عبارة
(وَفَجَّرْنَا
خِلالَهُما نَهَراً) أن البُستان كان يُسقى من الخارج ، ثم اكتفى ذاتياً من حيث
السقي بعد ما فُجرِّ النهر في داخل ارضه.
(فَقَالَ لِصَاحِبِه
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)
عند ما ينال ضيّقو
الصدر والمغرورون شيئاً من مال الدنيا ويبلغون مستوى فيها يبدون وكأنَّ الزمان
والمكان يدين لهم ، فبعضهم عند ما يبلغ شأناً في المجتمع ينسى صديقه الذي كان إلى
جنبه مدَّة سنوات ، وعند ما يلتقيه يتصرَّف وكأنَّه لم يلتقِ به من قبل. إن صاحب
البستان الثري الذي تحدَّثت عنه الآية كان من هذا القبيل ، فقد اغترَّ بنفسه عند
ما شاهد بستانه والنهر الذي يجري فيه وما انتج من ثمار ، فكان يتفاخر بما حصل
وينظر إلى صديقه القديم والفقير نظرة تحقير ويقول : أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ
نفراً من العمال والمزارعين والحشم والخدم.
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظَالِمٌ لَنْفسِهِ قَالَ مَا أظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَداً) أي أنه ما كان يظن أن بستانه سيفنى يوماً ما بل سيبقى دون
أن يزول بآفة أو ما شابه.
عبارة (وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) تشير إلى أن كل ظالم يبدأ بظلم نفسه في البداية ثم ظلم
الآخرين ، كما هو حال المحسنين حيث يفيدون أنفسهم بأعمالهم الصالحة ثمّ يفيد
الآخرون بها.
على أي حال ، نسى
هذا المغرور ذكر الله الذي خلق له هذه الجنَّة والذي يمكنه أن يفنيها في كل لحظة
بحيث لا يبقى لها أثر مذكور.
__________________
(وَمَا أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمةً وَلئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا
مُنْقَلَباً)
لقد أنكر هذا
الرجل يوم القيامة بسبب تفاخره وغروره ونسيانه ربّ العالمين ، وبلغ جحوده مستوى أن
قال لصديقه : لا أظن أنَّ هناك قيامة ، ولو كانت هناك قيامة كان ذلك يعني موتي
وانفصالي عن أموالي وجنتي وزراعتي ، وأنا لا اريد الانفصال عن الدنيا لذلك أنكر
يوم القيامة.
ثمّ قال : على فرض
وجود قيامة فإنِّي سأكون من المقرّبين كذلك ، ولو لم أكن من المقرّبين لما أعطاني
الله هذا المقدار من المال والثروة ، فكثرة الثروة دليل على قربي إلى الله في عالم
الآخرة ـ على فرض وجوده ـ وسأكون هناك أقرب منك إلى ربِّ العالمين.
هذا هو ظن كثير من
الأثرياء ، جهلاً منهم بأنَّ ذلك اختبار إلهي وقد يكون بلاءً.
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمّ مِن نُطْفَة)
صديقة الفقير صاحب
الصدر المشروح يرى رفيقه مريضاً فيهمُّ في علاجه بأساليب نفسانية جميلة لعلاج مرض
الغرور فيه ، أي مرضه الأساس الذي سببته كثرة النعم ، ولو عالج مرضه هذا تعالجت
باقي أمراضه.
طريقان لمعالجة
الغرور
يمكن معالجة
الغرور عن طريقين :
الاول
: أن نرجع المغرور
إلى ماضيه ، إلى طفولته ، حيث كان عاجزاً عن الاحتفاظ بلعاب فمه ، إلى الزمن الذي
كان في رحم امّه ، حيث كان جنيناً يتغذّى من الدم ، وما كان أحد غير الله قادراً
على مساعدته ، نرجعه إلى حيث كان نطفة قذرة ينفر الانسان من النظر إليها ، ونرجعه
إلى حيث كان تراباً فاقداً للقيمة.
الثاني
: أن نذكِّره
بالمستقبل ونرسمه له ، فنأخذ بيده إلى المقبرة ونقول له : يرقد في هذه المقبرة
اناس كانوا مثلنا أقوياء ومتموّلين لكنهم ماتوا في النهاية ، فتلاشت أجسامهم ولم
يبق منها إلَّا العظام ، والعظام ستتآكل كذلك بمرور الزمان ولم يبق من الإنسان
إلَّا الصخرة التي توضع على قبره ، والصخرة ستزول كذلك ولم يبق من الانسان إلَّا
اسماً في التاريخ ، والتاريخ
سينسى بعد مدَّة
من الزمان ، بحيث لم يبق من الانسان شيء يُذكر وكأنَّه لم يلد أبداً.
عاقبة الانسان
المغرور
لم يكن ولن يكون
عاقبة حسنة للمغرور أبداً. كان وزير عهد حكومة رضا خان الظالم يُدعى تيمور تاش
وكان مغروراً وجباراً وخطراً وصاحب صلاحيات وسلطة واسعة بحيث يُعدُّ المحور الأساس
للسلطة.
في يوم كان علماء
طهران قد اجتمعوا في مجلس فبلغهم أن تيمور تاش وزير البلاط يقصد المجيء إليهم ،
فدخل هذا الرجل الذي يعيش سكرة الغرور وقال : «أنتم تقولون : للكون ربٌّ؟! يمكنني
أن أبرهن على عدم وجود الربّ بألف دليل».
نظر العلماء إليه
وما كان أحدهم يتجرّأ بالتفوّه بشيء ، كما أنَّهم يعلمون ما من شيء يؤثِّر فيه ولا
يرونه أهلاً للإجابة. وعلى كل حال ختم المجلس وذهب تيمور تاش.
لكن رياح الزمان
لا تجري دائماً بما تشتهيه السفن ، فلم يمضِ زمن طويل حتى أصبح تيمور تاش موضع غضب
الشاه فادع السجن الانفرادي ثم حكم عليه بالإعدام.
عند ما كان في
السجن ذهب أحد العلماء لزيارته فوجده يدور في زنزانته مردداً أبيات عرفانية للشاعر
مولوي تقرُّ بالله.
يقول هذا العالم :
تعجبّت من ذلك واقتربت منه وقلت له : هل تعرفني؟ قال : نعم ، قلت :
جئتُ لُابطل ألف
دليل ادعيت وجودها بدليل واحد ، وهو : إن الله هو الذي أسقط تيمور تاش المغرور من
قمة السلطة ليضعه في سجن. فهزَّ رأسه معرباً عن أسفه.
نعم ، هذا هو شأن
ضيقي الصدر والمغرورين ، أما واسعو الصدر فيكونون متواضعين ، كالامام علي عليهالسلام ، حيث لم يختلف شأنه أثناء ٢٥ سنة من سكوته مع شأنه أثناء
٥ سنوات من حكومته.
__________________
يقول الامام علي عليهالسلام : «سُكْر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سُكر الخمور» ؛ وذلك لأنَّ الانسان يفيق من سكرة الخمر بعد لحظات أمَّا
سكرة الغرور فلا يفيق منها الانسان حتى الموت أحياناً ولا يوقظه منها إلَّا صفعة
الموت والأجل ، حيث لا وقت للتدارك والجبران.
وفي رواية اخرَى
يقول أمير المؤمنين عليهالسلام : «بينكم وبين الموعظة حجاب من الغِرَّة» .
إذن ، علينا
التوقّي من الابتلاء بالغرور من خلال استذكار الماضي والتفكّر في المستقبل ، وخاصة
بما بعد الموت.
(ثُمَّ سَوَّاك
رَجُلاً)
أي صَنَع منك
رجلاً بعد اجتياز مراحل الجنين المختلفة ، والتي تشكّل كلٌّ منها اعجوبة فريدة من
نوعها ، ومن خلال برنامج منتظم ومتكامل يخلق إنسان كامل لا ينقصه شيء ، ولو طرأ
أقل تغيير في هذا البرنامج لولد الطفل أعمى أو أصم أو معتوه أو توأم متلاصق وما
شابه.
من فلسفة وجود
ولادة الأطفال المشوهين وناقصي الخلقة هو الاطلاع على هذه المرحلة المهمَّة من
الخلقة ، ولكي يتذكّر الانسان بعد ما يصبح متموِّلاً وصاحب سلطة ، ولكي لا يغتر ،
ولكي يكون شاكراً لنعم الله ولولي نعمته دائماً.
ولأجل ذلك لا يسأل
النزيهون عن جنس الطفل عند ولادته بل عن سلامته ؛ لأن الذكورة والانوثة كلاهما من
نعم الله تعالى ، والمهم هو سلامة الطفل.
(لَكِنَّا هُوَ اللهُ
رَبِّي وَلَا اشْرِكُ بِرَبّي أَحَدَاً)
بعد ما بيَّن
القرآن منطق ذلك الصديق الثري الغافل عن الله بدأ ببيان منطق الصديق الفقير المؤمن
الذي نصح الثري ولم تؤثر نصيحته في صديقه.
استخدام الآية
لمفردة الربّ دون باقي أسماء الله يحضى بأهمية قصوى ، فهو استخدام دقيق ويعني أنَّ
الله ربّاني منذ أن كنت نطفة إلى آخر عمري ، ولو لم تكن تربية الربّ القادر لم أكن
شيئاً يُذكر ، فهو ولي نعمتي وصاحبي ومالكي ، وهل يمكن جعل شريك لربٍّ يملك كل ما
لدي؟!
(وَلَوْلَا إذْ
دَخَلْتَ جَنَّتكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةِ إلَّابالله)
__________________
بعد ما بيَّن
الصديق المؤمن منطقه ومنهجه اتَّجه إلى صديقه قائلاً : عند دخولك جنَّتك الواسعة
ذات الثمار الكثيرة والمعطَّرة بعطور الفواكه والمضلَّلة بالاشجار والباردة
والمنشطة لماذا لا تقول : هذه ممَّا أنْعَمَ الله عليَّ من نعمٍ فلا قوة لأحدٍ
غيره ، وكل قوّة تنشأ منه.
يا صديقي! عليك
عدّ هذه النعم من الله ، وعليك شكره على هذه النعم والألطاف والرحمات ، ولا تغتر
بل استفد منها بأفضل ما يمكن ، كما عليك أداء حق الأيتام والفقراء والمحتاجين
منها.
(إنْ تَرَنِ أنَا
أَقَلُّ مِنْكَ مَالاً وَوَلدَاً فَعَسى رَبَّي أَنْ يُؤتِيَنِ خَيْراً مِنْ
جَنَّتِكَ)
يذكّر المؤمن
صديقه هنا قائلاً له : إنَّك تفكّر بوضعك الراهن حيث إنك متموّل وصاحب سلطة ، وأنا
فقير ولا أملك سلطة ولا أفراداً ، لكنَّك لا تفكّر في المستقبل الزمن الذي قد
يدمّر فيه الله جنتك في لحظة واحدة ويعطيني جنَّة أفضل من جنتك.
الروايات التي
وردت في ذيل هذه الآية حكت عن أن الوضع المالي لذلك الفقير كان جيداً .
(ويُرسِلَ عَلَيْهَا
حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فتُصْبحَ صَعِيداً زَلَقاً)
الحسبان يعني
إصابة السهم للهدف ، والتسمية باعتبار أن الإصابة كانت عن حساب ، كما يُطلق
الحسبان على الصاعقة التي تصيب الهدف ، وكذلك الزلزال التي تصيب الهدف وتدمّره ،
والخلاصة أن الحسبان يُطلق على كلِّ بلاء مؤثر ومحسوب.
الآية تتمة خطاب
المؤمن الفقير لصديقه ، فيقول له : قد يغيّر الله كلّ شيء في لحظة واحدة ويرسل على
جنتك بلاء سماوياً أو حسباناً يبدّل به جنتك المثمرة إلى صحراء.
(أوْ يُصْبِحَ ماؤها
غَوْراً فَلَنْ تَستَطِيعَ لَهُ طَلَباً)
أو تبتلع الأرض كل
ما احتوته جنتك فلا يبقى منها أثر ، ولا قدرة لك عندئذٍ لعمل شيء ، كما يحصل ذلك
عند حصول الزلزال وما شابهها من الكوارث الطبيعية بحيث تُدمَّر قرية كاملة أو
تغطَّى بالوحل في لحظة واحدة.
__________________
إذن ، على الانسان
أن لا يغتر بما لديه ، بل المفروض به التفكير في تحولات قد تطرأ في المستقبل.
(وَاحِيطَ بِثَمَرِه
فَأصْبَحَ يُقلِّبُ كفَّيْهِ عَلى ما أنْفَقَ فِيها)
وكما قال له صديقه
المؤمن فإنَّ بلاءً سماوياً وصاعقة نزلت ودمَّرت أشجار جنَّته وزراعته ، فبهت
المغرور عند ما دخل جنَّته ورأى الثمار مدمَّرة والأشجار قد احترقت ، وقد ذهبت كل
أمواله وآماله سُدى ، فأصبح يُقلّب كفّيه تحسراً على ما كان قد أنفق على زراعته
وما استثمره من الأموال فيها.
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ
عَلَى عُرُوشِها)
الآية تصف كيفية
خراب الأبنية والعمارات ، وهي عجيبة من حيث إنها تصف الانهدام بأن الجدران
والأعمدة سقطت على السقوف ، بينما المألوف هو سقوط الجدران والأعمدة ثم سقوط
السقوف عليها.
قد يكون سبب ذلك
هو أنَّ الصاعقة هدَّمت السقوف في البداية ثم هدمت الأعمدة والجدران فسقطت على
السقوف .
(وَيَقُولُ يا
لَيْتَني لَمْ اشْرِك بِربّي أحَدَاً)
استيقظ الصديق
المغرور من سكرة الغرور بعد ما نزل العذاب الإلهي ودمَّر جنّته وزراعته وأفقده كل
ما يملك من رأس مال ، وقال : ليتني لم اشرك بالله ولم أنكر يوم القيامة والمعاد
ولم ابتلِ بسبب الشرك والجحود بالعقاب الإلهي.
(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً)
لم ينصره أحد
ممَّن كان يحوم حوله عند ما كان صاحب مال وثروة من الأصدقاء والمعارف ، ولم يحمه
أحد من عذاب الله ، وما كان لهم القدرة لنصرته.
اعتبروا
كان شخص في قم
يُدعى السيد صادق ، كان قد فقد إحدى عينيه ، وكان له بستان عنب ،
__________________
عند ما كان يحلُّ
فصل جني العنب يجتمع حوله أصدقاؤه ويهمّون بتمجيده واحترامه ويدعونه في هذه الأيام
(الحاج السيد صادق) ، وعند انتهاء فصل جني العنب يتباعدون عنه وإذا أرادوا ذكره
دعوه بصادق الأعمى.
كان السيد صادق
ملتفتاً إلى اتصاف أصدقائه بأحد صفات الذباب وقد أنشد في المجال أبياتاً وصف فيها
أصدقاءه وأحوالهم السقيمة.
(هُنالِكَ الوَلايَةُ
للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وخَيْرٌ عُقْباً)
أي أنَّ الولاية
الحقيقية لله وحده فقط ، ولا يمكن الوثوق بولاية وصداقة أحدٍ غيره.
اختلف المفسرون في
أن (هُنالِك) إشارة لعالم الدنيا أم الآخرة. لكن يبدو أنها إشارة إلى
العالمين ، والآية تعرّضت لولاية الله في كلا العالمين.
الولاية شأن مهم
جداً ، وتأتي من مادة التوالي ، أي مجيء شيئين أحدهما بعد الآخر ، فيقال لشعبان
ورمضان اللذين يأتي أحدهما بعد الآخر شهران متواليان.
وإذا جاء طبيبان
إلى العيادة أحدهما تبع الآخر قيل : توالى الطبيبان على المجيء إلى العيادة.
بما أن الصديق
يصاحب صديقه الآخر دائماً قيل له : ولي ، أي كلٌّ منهما وليّ الآخر ، وبما أن الله
صديق المؤمن ومصاحبه وناصره قيل له : ولي.
إذن ، الولي يعني
الصديق والناصر والمعين والرئيس.
فرَّق البعض بين
الوِلاء (بالكسر) مع الوَلاء (بالفتح) ، فبالكسر تعني النصرة وبالفتح تعني السيادة
والرئاسة.
وهناك بعض آخر
اعتبر الكلمة بمعنى واحد سواء كانت بالكسر أو بالفتح.
خطابات الآية
١ ـ زمن تأثير
التوبة
ممَّا يستفاد من
آيات المثل الاثنى عشر هو : أنَّ للتوبة زمناً خاصاً فاذا مضى ذلك الزمن ترفض
التوبة.
رغم أن الروايات
حكت سعة باب التوبة وأنه باب يدخله المذنبون والعاصون والمجرمون إلَّا أن هذا
الباب يُغلق في ثلاثة أزمنة :
(الف : التوبة عند
نزول البلاء)
إذا تاب الانسان
عند تورطه بشوكة البلاء فلا تُقبل توبته.
ولهذا يقول الله
في الآية ٦٥ من سورة العنكبوت :
(فَإِذا رَكِبوُا في
الُفلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّين فَلَمَّا نَّجاهُمْ إلى البَرِّ
إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ)
أي أنهم يتوبون
ويدعون الله عند ما يبتلون بأمواج البحر وعند ما يشعرون بتهديد وتحدّي الموت ،
وتوبتهم هنا مرفوضة ؛ لأنها نشأت عن اضطرار ، وهي من قبيل إعلان شخص عن توبته
واستغفاره تحت ضربات السوط ، فإن توبةً من هذا القبيل غير مقبولة.
هؤلاء المشركون
الذين أعلنوا عن توبتهم واستغفارهم ودعوا الله في ظرف الخوف الذي عاشوه في السفينة
، وعند ما يهدأ البحر أو ترسو السفينة قرب اليابسة ينسون الله تارة اخرَى ويعودون
إلى شركهم.
إذن ، لا تُقبل
توبة كهذه ؛ لأن التوبة هي التي يتغيّر معها منهج حياة الانسان ، وهذه التوبة لم
تغيِّر من منهج المشركين ولا سلوكهم شيئاً.
التوبة التي تحصل
في الزنزانة وتُنسى بعد الخروج منها ، أو التي تحصل عند المرض وتُنسى بعد الشفاء ،
أو التي تحصل في خضم الحوادث وتُنسى بعدها ، هذه كلها توبات غير مقبولة ؛ لأنها
ردود فعل مؤقتة تحصل إثر جلد الحوادث الإلهية وصفعاتها.
(باء : توبة المذنبين
عند الموت)
عند ما يسمع
الانسان صفعة الأجل وتفتح عينيه نحو البرزخ ويتبلور عنده اليقين بالموت والوداع مع
الدنيا فلا تقبل منه توبة ، وقد قال الله تعالى في الآية ١٨ من سورة النساء :
(وَلَيْسَت التَّوبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُون السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ
إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ اولئكَ أعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَاباً أليماً)
وفرعون من زمرة
هؤلاء ، فانَّه عند ما شاهد شوكة الموت ووجد نفسه على عتبة الغرق
قال : (آمَنْتُ أنَّهُ لَاإِلَهَ إلَّاالَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائِيلَ وَأنَا مِنَ المُسْلمين) ، لكن توبته هذه لم تُقبل ، وقد ورد في بعض الروايات أن
جبرئيل أخذ حمأة (أي طيناً أسود منتناً) فوضعه في فم فرعون وقال له : (أَلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ
مِنَ المُفْسدِينَ) .
وهل من المناسب قبول
توبة فرعون بعد كل هذه الجرائم التي ارتكبها من شق بطون الحوامل وقتل أولادهنّ
الذكور ، والاجراءات الظالمة بحق الناس ومطاردة بني اسرائيل وتعذيب مؤمنيهم؟
إذن ، لا تُقبل
التوبة على عتبة الموت وعند ما تفتح عينا الانسان نحو البرزخ.
(جيم : التوبة عند
مشاهدة العذاب الإلهي)
كثير من الناس
يتوب عند مشاهدة العذاب الإلهي ، وتوبة من هذا القبيل غير مقبولة.
يقول الله في هذا
المجال في الآيات ٨٤ و ٨٥ من سورة المؤمن (غافر) :
(فَلَمَّا رَأوْا
بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشرِكِينَ
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بَأسَنَا سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَت فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ)
لا تأثير للتوبة
عند رؤية العذاب ، ولذلك لم تُقبل توبة قوم نوح عليهالسلام عند الطوفان ولا توبة قوم لوط عند نزول عذاب الأحجار التي
تساقطت من السماء وكذا غيره من العذاب.
أعزّتي ، الموت لا
يخبر عن وقت مجيئه ، بل هو يكمن في كلِّ لحظة من لحظات العمر ، وعوامله وأسبابه
بسيطة جداً تتحقق لأي إنسان. ولذلك على الانسان أن ينوب إلى الله ويتوب توبة
حقيقية في كل لحظة ، ولا يترك التوبة إلى زمن قد اغلقت فيه جميع أبوابها.
المستفاد من
الآيات المتقدِّمة أنَّ رفض التوبة في ظل الظروف المزبورة لا يختص بقوم أو شعب أو
نحلة ما ، بل هو سنة إلهية تجري في حق جميع الأقوام والشعوب والنحل.
٢ ـ لا قيمة
للدنيا
يستفاد من آيات
المثل أن لا قيمة ولا اعتداد بالأموال والمقام والثروات والقوى
__________________
الجسمانية ،
والاعتماد على الامور الدنيوية بمثابة الاعتماد على بيت العنكبوت بل على ما هو
أضعف وأوهن .
قوة الشباب
والنشاط والقوى العضلية ليست دائمة ، لا ينبغي الاغترار بها.
قد يصبح بطل من
الأبطال أضعف انسان بسبب المرض ، كما حصل ذلك في الواقع ، وهناك بعض من الأبطال
عجزوا في آخر عمرهم عن المشي والحركة دون الاستعانة بالآخرين.
قصة بطل
كان بطل قمي معروف
بالقدرة البدنية وطول القامة وكان يخدم في حرم فاطمة المعصومة سلام الله عليها في
قم ، وعند إرتدائه ملابس الخدمة يكتسب ابّهة أكثر ، وكان يهابه الشرورون في
المدينة بحيث يبتعدون عنه عند ما يرونه ، وفي يوم من الأيام وجدته على كرسي
المقعدين يدفعه طفل لإيصاله للحرم لغرض الزيارة.
تذكرت عندها أيام
بطولته وقدرته البدنية العالية وقلت : أين هذا وأين ذاك؟! يا لها من دنيا غادرة ،
لم تكن جنَّة ذلك المغرور الأمر الوحيد الذي هو عرضة للزوال والدمار بل انَّه لا
يمكن الوثوق بجميع امور الدنيا.
المطبخ السلطاني
تشاجر اثنان من
امراء خراسان إثر اختلاف بينهما ، وقد انتهى الشجار إلى حرب وهزيمة وأسر أحدهما
بيد الآخر. وفي يوم من الأيام جيء للأسير بالغذاء وكانت آنية ذلك الزمان تشبه
السطل ذات المقبضين ، وقد تركه إلى جانب ليبرد فجاء كلب وأراد الأكل منه ، فلعق
منه وبسبب حرارته صدر منه رد فعل سريع أدَّى إلى دخول رأسه في مقبض الآنية ففرَّ
والآنية معلّقة برقبته ، فضحك الأمير الأسير بصوت عالٍ وقال : كان مطبخ السلطان
تحمله أربعمائة
__________________
عربة واليوم يسرق
كلب حساء ومطبخ الأمير .
٣ ـ التدقيق في
اختيار الصديق
كما تقدَّم أنَّه
كان لهذا الثري صاحب البستان والثروة والسلطة أصدقاء كثيرون ، وكان يتفاخر بهم ،
لكنهم تفرّقوا وابتعدوا عنه عند ما فقر وواجه الخسارة وأصبح مُداناً ، فما أعانوه
على مشكلته ، كما أنَّه بنفسه ما استطاع جبران ما تحملّه من خسائر.
يا ترى ، ما سبب
عدم إعانة إصدقائه له؟
سبب ذلك واضح ،
فإنهم لم يكونوا أصدقاءً له بل لثروته وسلطته ، فكانوا بمثابة الذباب الذي يحوم
حول السكريات.
إنَّ أصدقاءً من
هذا القبيل تنتهي صداقتهم بنهاية سلطة الانسان وثروته ، فبعض منهم أصدقاء لسلطة
الانسان وتنتهي صداقته بانتهاء السلطة ، وبعضهم أصدقاء لجمال الانسان وتنتهي
صداقته بانتهاء الجمال ، وبعضهم أصدقاء لثروة الانسان وتنتهي صداقته بانتهاء
الثروة ، وبعضهم أصدقاء للمقام ، وتنتهي صداقته بانتهاء المقام وبلوغه نهاية الخط.
أصدقاء الثري
الذين ورد ذكرهم في آيات المثل كانوا من هذا القبيل ، أي أنهم كانوا أصدقاء لثروة
ذلك الانسان وسلطته ولم يكونوا أصدقاءً له بالذات ، مضافاً إلى أنَّهم لم يكونوا
أصدقاء حقيقيين عند ما كان ثريّاً بل كانوا بلاءً عليه ؛ لأن أشخاصاً من هذا
القبيل وبأهداف مادية دنيوية يظهرون له ـ بتملّقهم ـ الزين شيناً والشين زيناً ،
أي أنَّهم لم يكونوا أصدقاءً حقيقيين أبداً.
سؤال
: من هم الأصدقاء
الحقيقيون؟ وعلى مَن يُطلق عنوان الصديق الحقيقي؟
الجواب
: ينبغي الأخذ بنظر
الاعتبار معايير خالدة لانتخاب الصديق ، لكي تبقى صداقته وتدوم. علينا اعتبار
محبيّ العلم والإيمان والتقوى وما شابه ذلك أصدقاء لنا ؛ لأنَّ محبة هؤلاء لا
تتزلزل بالحوادث والمتغيّرات ، والمحبة تستمر ما دام التقوى والايمان والعلم
والاعتقاد بالآخرة موجوداً.
__________________
وقد وردت هذه
المواصفات كمعايير لاختيار الصديق في بعض الروايات نشير إلى اثنين منها :
١ ـ يقول الامام
علي عليهالسلام : «مودَّة أبناء الدنيا تزول لأدنى عَرَضٍ يُعْرَضُ» .
إن أصدقاء من هذا
القبيل يتخذون صبغة خاصة في الحوادث بحيث يبدون وكأنهم لا يعرفون صديقهم السابق أو
لم يروه من ذي قبل.
٢ ـ يقول الامام
أمير المؤمنين عليهالسلام في رواية اخرَى : «وُدُّ أبناء الآخرة يدوم لدوام سببه» .
صداقة أمثال هؤلاء
صامدة وثابتة على كل حال ، سواء أقبلت الدنيا أم أدبرت ، وفي الأسر والحرية ، وفي
المرض والسلامة.
هكذا أصدقاء
قليلون وبخاصة في آخر الزمان ، لذلك ورد عن الرسول صلىاللهعليهوآله قوله : «أقلُّ ما يكون في آخر الزمان أخ يوثق به أو درهم
من حلال» .
حقاً إنَّ كليهما
قليلان وعزيزان. فلنفرض حصول الانسان على مالٍ حلال بمشقة كثيرة فيضعه في حسابه في
البنك ، عندئذٍ يختلط بأموال أشخاص مرابين ولا يعتقدون بالخمس والزكاة ولا يدفعون
ما عليهم من وجوه شرعية اخرَى أو يرتزقون عن طريق السرقة أو يحتكرون ما يحتاجه
الناس أو يهرّبون السلع المحظورة وغيرهم ممَّن لا تخلو أموالهم من الحرام ، ورغم
أنه لا تكليف في الظاهر ملقى على عاتق الانسان المفروض هنا إلَّا أنَّ اختلاط
أمواله الحلال بالأموال الحرام يترك أثراً وضعياً.
وقد يكون هذا هو
سبب ما ورد في الحديث التالي :
«يأتي على الناس
زمان لا يبقى أحد إلَّا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره»
نتطلع إلى اليوم
الذي يسعى فيه الناس جميعاً لكسب الرزق الحلال ويرفع المرابون أيديهم
__________________
عن الربا ويمتنع
السارقون عن السرقة والمحتكرون عن الاحتكار والمهربون عن تهريب المخدرات.
٤ ـ من هو وليّ
المؤمنين؟
الله ولي الذين
آمنوا وناصرهم ومعينهم في الدنيا والآخرة ، فهو القادر على كل شيء ، كما جاء ذلك
في الآية ٢٥٧ من سورة البقرة :
(اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذين
كَفَرُوا أوْلِياؤهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى
الظُّلُمَاتِ اولئكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
كما أن أولياء
الله هم أولياء للمؤمنين كذلك ، حيث يقول الله في الآية ٥٥ من سورة المائدة :
(إنَّما وَليُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقيمُون الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ
الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُون)
بناءً على هذه
الآية يُعدُّ الرسول صلىاللهعليهوآله والامام علي عليهالسلام أولياءً للمؤمنين.
كما ورد في
الآيتين ٣٠ و ٣١ من سورة فصِّلت كون الملائكة أولياء للمؤمنين كذلك :
(إنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ
أَلَّا تَخَافُوا ولَا تَحْزَنُوا وَأبْشِرُوا بالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ
تُوعَدُونَ نَحْنُ أَولِياؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ ولَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ)
وبما أنَّ الناس
غير معصومين فالملائكة تهمُّ دائماً بحفظ المؤمنين من الحوادث والمخاطر ، وهذه هي
الولاية التكوينية.
وجود الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهالسلام وأولياء الله سبب للبركة والآثار المعنوية ، وعند ما يُسأل
المعصوم عن فائدة وجود إمام غائب ، أي المهدي (عجل الله فرجه) بيننا ، يقول : «كما
ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب» .
__________________
إذن ، الله
والرسول صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام والملائكة أولياء للمؤمنين ، بشرط أن يخطو المؤمن في طريق
الحق تعالى ، فاذا خطى المؤمن خطوة نحوه تعالى خطى الله باتجاهه خطوات كثيرة ،
وإذا قلنا (ربّنا) واستقمنا شملتنا ألطاف إمام الزمان (عجل الله فرجه) ، كما شملت
بعضنا.
علينا مدّ أيدينا
نحو السماء والتضرُّع إلى الله تعالى لكي يحلَّ مشاكلنا الفردية والاجتماعية
والسياسية بعناياته الخاصة.
المثل الثالث
والثلاثون :
الحياة الدنيا
يقول الله تعالى
في الآيات ٤٥ و ٤٦ من سورة الكهف :
(وَاضرِبْ لَهُم
مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنَزلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ
نَباتُ الأَرْضِ فَأصبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ
شَيءٍ مُقْتَدِراً* المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالبَاقيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
تصوير البحث
شبَّه الله تعالى
الحياة الدنيا في هذا المثل بماء الغيث. الخصوصية البارزة لهذا الماء أنَّه يضفي
طراوة ونشاطاً على الزرع والنباتات مدّة أيام ، لكن هذه الطراوة والنشاط تنتهي
بحلول فصل الخريف ، أي فصل الموت المؤقت للنباتات ، وينتهي به شوط قصير من حياة
النباتات. وهذا الشوط تحذير في الحقيقة إلى الانسان الغارق في الحياة الدنيوية
بأنَّ حياته سيحلُّ فيها فصل الخريف حيث بداية الموت.
الشرح والتفسير
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا)
يخاطب الله بهذه
الآية الرسول صلىاللهعليهوآله بأن يضرب للناس الغارقين في الدنيا مثلاً على هذه الحياة
ويشبّهها بما شببهها.
لماذا ضرب الله
هذا المثل هنا؟
قد يكون ذلك
باعتبار أنَّه أشار إلى عاقبة عَبَدَة الدنيا والذين غرقوا في مُتعها من خلال
الآيات الاثنى عشر الماضية ، ولأجل اتّضاح أصل الحياة الدنيا طرح الله هذا المثل
تعقيباً للمثل المتقدِّم.
(كَمَاءٍ أنْزَلْناهُ
مِنَ السَّماءِ)
يسقط هذا الماء
على أرجاء الأرض كلها سواء كانت خصبة أو سبخة ، لكن الأراضي لم تستفد من هذا الماء
بنحوٍ واحد ، فقد يكون هذا الماء سبباً للحياة في جزءٍ وقد يكون سبباً للعذاب
الإلهي في جزءٍ آخر.
(فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأرْضِ)
عند ما يسقط هذا
الماء على الأراضي الخصبة يضفي عليها حياة وطراوة ونشاطاً وافراً ، فتنبت من جراء
ذلك نباتات مختلفة ومتنوّعة ، كلٌّ منها تكشف عن قدرة الخالق ، وتتشكل بذلك مناظر
طبيعية خلابة ومحيّرة للعقول في فصلي الربيع والصيف ، وتحرّض كل صاحب بصيرة لتمجيد
الخالق وتحسينه.
(فَأصبَحَ هَشيماً
تَذْرُوهُ الرِّياحُ)
لكن عمر الطراوة
والنشاط ، الذي منحه الماء للنباتات وجمَّل الارض ، قصير ؛ لأنّه بعد أيام حيث
يحلُّ فصل الخريف والشتاء ويتبدَّل الخضار إلى صفار والنشاط إلى خمول وموت ، وعند
ما تهبُّ الرياح حاملة معها رسالة الموت الظاهري للطبيعة تتساقط أوراق الأشجار
التي كانت تجمّل الطبيعة وتجعلها خضراء خلابة ، وبعد ما ترقص في الهواء للحظات تقع
على الأرض لتُدفن في باطنها.
(وَكَانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شىءٍ مُقتدِرَاً)
بالطبع ، هذه
التحولات والتغييرات التي تطرأ على الانسان وجميع الموجودات في العالم تحتاج إلى
قدرة الله من حيث الوجود والبقاء ، فهي فقيرة إلى قدرته تعالى ، أمَّا ذات الحق
فقادرة ومستطيعة دائماً ، ولا يؤثّر فيها مرور الزمان وتحوّلات الفصول والمناخات
وغير ذلك ، بل الله بقدرته أوجد هذه التحوّلات ، وكل شيء يتغيّر إلَّا ذاته الطاهرة.
نعم ، الله قادر
على كل شيء.
(المَالُ والبَنُونَ
زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا)
البنون كالمال
بمثابة رأس مال في الحياة الدنيا ، كما هو حال النباتات ففي برهة من الزمن تُعدُّ
سبباً لجمال الأرض ويتباهى بها الانسان أحياناً ، لكنها ممَّا لا ينبغي الوثوق بها
، ولا ممَّا تسبب إنقاذ الانسان ونجاته في الدنيا وفي الآخرة.
(والبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ ربِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
الرصيد الذي يمكن
الاعتماد عليه والذي يُعد ذخراً حَسَناً عند الله تعالى هو الأعمال الصالحة
الباقية التي عبَّر عنها الله في هذه الآية بالباقيات الصالحات.
نعم ، الأعمال
الصالحة والقيم الثابتة تعدُّ رصيداً يعتمد عليه ، فهي ذات صبغة خالدة ولا خريف
فيها ولا موت.
بأي شيءُ شبِّهت
الحياة الدنيا؟
سؤال
: بأي شيءً شُبِّهت
الحياة الدنيا في هذه الآية؟ هل شبِّهت بالأشجار الطرية ذات العمر القصير والتي
تموت بحلول فصل الخريف ، كما تقدَّم شرح ذلك ، أو أنَّها شبِّهت بماء المطر الذي
ينزل من السماء شفافاً صافياً؟
إذا كان الثاني
فعلينا معرفة وجوه الشبه بين الدنيا والمطر؟
الجواب
: الإنصاف أنها
شبِّهت بكليهما ، والمعنيان والتشبيهان صحيحان ، وقد تقدَّم تفصيل تشبيه الدنيا
بالنباتات ، أما وجه تشبيهها بالغيث فهو كون الغيث ينزل من السماء وينصبُّ في قالب
النباتات ، ويمنحها حياة ونشاطاً وقوة فتخضر الدنيا بها وتصبح زاهية بزهور
النباتات ، وبعد مدَّة قصيرة من عمرها تتَّجه نحو الموت وتنتهي ويتبخَّر الماء ويتركها
هيكلاً بلا روح متّجهاً نحو السماء تارة اخرَى ، وهذا هو الذي يُؤدي إلى موت
النباتات.
نعم ، ينزل الغيث
من السماء لكي يرسخ في صلب النباتات ويمنحها حياة ، وبعد مدَّة يرجع إلى السماء (إنَّا للهِ وإِنَّا إلَيْهِ راجِعُونَ) عائداً إلى أصله ومحافظاً على سنة الرجوع والعود إلى
الأصل.
__________________
الهدف من تشبيه
الحياة الدنيا بالغيث هو إفهام الانسان بأنَّ روحه مثل الماء الذي ينزل من السماء
ومن العالم العلوي جُعلت في هيكله المادي ، فعليه انتهاز فرصة تواجدها في جسمه
والاستفادة من الحياة بأحسن وجه ممكن ، وعليه الإكثار من الأعمال الصالحة ، وليكن
مطيعاً مخلصاً وعبداً خاضعاً لذات الحق تعالى ، وهذا هو متاعه في سفره نحو الآخرة
والصعود إلى دار العقبى والعالم العلوي. إذن فليقدّر الانسان لحظات عمره القصيرة
في الدنيا ولينتهزها حتى أقصى لحظة.
يشبّه أحد العلماء
أرواح الناس بالغواصين الذين يبحثون عن اللؤلؤ والمرجان ويضطرّون لأجل ذلك للغوص
إلى أعماق البحار ، والغوص يستحيل على الغواص إلّا أنْ يصحب معه ثقلاً ثم يفصله
عند ما يعثر على اللؤلؤ أو المرجان المستهدف لكي يمكنه أن يطفو على سطح الماء تارة
اخرَى.
الانسان في هذه
الحياة بمثابة الغواص الباحث عن اللؤلؤ والمرجان المعنوي ، وهي المقامات والكمالات
الاخلاقية والطاعات العبودية ، خضوعاً لله الأحد في بحر الوجود الموّاج ، قضاءً
لأيام من الاسر في عالم التراب ، والانسان الموفّق والناجح والمنتصر فيه هو
الانسان الذي اصطاد صيداً جيداً واستطاع تحرير نفسه من قيد جسمه الترابي صعوداً
نحو دار البقاء متحرّراً من كل قيد.
اختلاف هذه الآية
مع الآية ٢٤ من سورة يونس
جاء ما يلي في
الآية ٢٤ من سورة يونس والتي تقدَّم الحديث عنها في المثل الثامن عشر :
(إِنَّمَا مَثَلُ
الحَيَاةِ الدُّنيا كَمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الأرْض مِمَّا يَأكُلُ النّاسُ والأنْعَامُ حَتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ
زُخْرُفَهَا وأزَّيّنَتْ وَظَنَّ أَهلُها أنَّهُمْ قَادِرونَ عَلَيْها أتَاهَا
أمْرُنا لَيْلاً أوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاها حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بالأمْسِ كَذَلِك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
والسؤال
: هل المثل المذكور
في الآية ٤٥ من سورة الكهف تكرار للمثل المذكور في الآية ٢٤ من سورة يونس من حيث
اتحاد وجه التشبيه فيهما؟
الجواب
: المثلان مختلفان
وليسا مكرَّرين ؛ لأنَّ الحديث في المثل المطروح في سورة يونس
عن حصول حادث
مفاجئ يمحو آثار حياة النباتات ونشاطها ، وذلك قبل إتمام عمرها الطبيعي ، أمَّا
المثل الذي هو موضع بحثنا (الآية ٤٥ من سورة الكهف) فالحديث فيه ليس عن حادث خاص
يطرأ فجأة بل الحديث عن حادث يطرأ تدريجياً في فصل الخريف يسلب النباتات خضارها
ونشاطها وطراوتها حتى ينتهي الأمر إلى جفافها وموتها في نهاية المطاف ، لكن
تدريجياً لا فجأة.
هذه السنَّة
الالهية تصدق في حق الانسان كذلك ، فهو يمرُّ بمرحلة الطفولة ثمّ الشباب ثم
الكهولة والشيخوخة.
على كلِّ حال ،
هذه الحياة الدنيا زائلة وينبغي الإعداد والتهيّؤ لحياة البقاء الاخروية حيث
الديمومة والقيمة العالية.
خطابات الآية
١ ـ تنوّع
النباتات من معالم القدرة الإلهية
(فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأرْضِ)
هذه العبارة تشير
إلى تنوع واختلاف النباتات ، وعدد فصائلها حالياً يبلغ مئات الآلاف ، وهذه
الإحصائية التي يقرُّها علماء النباتات تخص الأماكن التي بلغها البشر دون تلك التي
لم يستطيع بلوغها أو الوصول إليها.
يقول العلماء : ما
يعادل هذا العدد وقد يزيد عليه من فصائل نباتية توجد في أعماق البحار والغابات
التي لم تطئها أقدام البشر ولم يكتشف نباتاتها ، ولهذا يقال بأن عدد فصائل
النباتات قد يصل إلى المليون ، ولكلِّ فصيلة منهج وبرنامج خاص ، كما أنَّ لكلٍّ عجائب
كثيرة.
__________________
هناك نباتات
تتشكّل من زهرة فقط ، أي أنَّها لا تحتوي على غصون وأوراق وغير ذلك بل كل ما هناك
زهرة تنبت مباشرة على الأرض. والأعجب من ذلك هو النباتات الآكلة للحوم ، فهي تحس
وتتحرّك ، وعند ما يقترب منها حيوان تلفُّ غصونها وأوراقها حول ذلك الحيوان
لتلتقمه وتبتلعه.
كلٌّ من هذه
النباتات مَعْلمٌ من معالم القدرة الإلهية ، يسلِّم بها حتى المنكرون لو فتحوا
أعينهم وأبصروا بها ، فإنَّ آثار الله تجدها كل مكان لكن رؤيتها تحتاج إلى عين
باصرة.
٢ ـ ما هي
الباقيات الصالحات؟
ذكر المفسرون
احتمالات عديدة للباقيات الصالحات ، نشير إلى خمسة منها :
الف
: المراد هو
الصلوات اليومية الخمس ؛ لأنها أعمال صالحة وخالدة كذلك ، فالصلاة تعمر كل مكان
اقيمت فيه من البيت والدائرة والمجتمع والبلد ، والمكان الذي لا تُقام فيه صلاة
يخرب ويُدمَّر. الصلاة إذا وجَّهت القلب الذي هو مركز الاضطرابات والقلق نحو الله
طمأنته وسكّنته ، وملخَّص الكلام هو أنَّها معيار قبول أو ردّ الأعمال
وباقي العبادات .
باء
: المراد من
الباقيات الصالحات هو الذكر الشريف التالي : (سبحان الله والحمدُ
لله ولا إله إلَّااللهُ واللهُ أكبر) .
هذا الذكر ينزّه
الله تعالى عن كل عيب ونقص ويوصفه بصفات الكمال ، وربٌّ بهذه الصفات جدير بالحمد
والثناء ؛ لأنَّه الوحيد المتصف بهذه الصفات الكمالية والوحيد الذي هو جدير وأهل
للعبادة ، ولا معبود غيره ، وهو أرفع شاناً ممَّا نصفه به وممَّا نظن ونتصوَّر
وأعظم من أن تحدَّه افكارنا.
__________________
جيم
: المراد منها صلاة
الليل ، فهي صلاة تحضى بأهمية كبيرة ، وكل ما قلنا فيها كان قليلاً ، يقول الله في
هذا المجال :
(وَمِنَ اللّيلِ
فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلةً لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ ربُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) .
بلوغ المقام
المحمود غير ميسَّر حتى للرسول صلىاللهعليهوآله إلَّا من خلال صلاة الليل. بالطبع لا ينبغي للانسان أن
يأتي بجميع آداب ومستحبات صلاة الليل وبخاصة بالنسبة إلى أولئك الذين قصدوا تواً
نيل هذه السعادة العظمى بل يكفيهم الاتيان بأحد عشرة ركعة بنحوها العادي والمألوف
، رغم أن الذي يأتي بباقي آدابها ومستحباتها سينال قسطاً أوفر من الثواب عند الله
قطعاً.
أتمنى التوفيق
للقيام بهذه العبادة الكبرى لكي يتسنَّى لنا الإحساس بلذة بلوغ المقام المحمود
تدريجياً.
دال
: فسَّر بعض
المفسِّرين الباقيات الصالحات بالبنات اللاتي يتم تربيتهنَّ بالآداب الاسلامية
ليصبحن امهات نموذجيات ؛ لأنَّهن منشأ أمل لوالديهن في عالم الآخرة.
هاء
: نقرأ في رواية
وردت عن الامام الصادق عليهالسلام أن حبَّ أهل البيت وولايتهم من مصاديق الباقيات الصالحات .
هذه خمسة تفاسير
مختلفة للباقيات الصالحات ، لكن تقدَّم منا أنَّ هذه التفاسير رغم تضادها الظاهري
غير متضادة ولا متنافية في الواقع ، ويمكن شمول الباقيات الصالحات لها جميعاً من
خلال القول بأن كلاً من التفاسير التي ذكرناها والتفاسير التي لم نذكرها بمثابة المصاديق للباقيات الصالحات ، فإنَّ لهذا العنوان مصاديق متعدّدة ومختلفة.
__________________
والنتيجة هي أن لا
يتعلَّق الانسان بدنياه الفانية والعاجلة بل عليه التعلُّق بالباقيات الصالحات.
مباحث تكميلية
١ ـ ما هي الحياة
الدنيا؟
الدنيا مؤنث أدنى
، والحياة في عبارة (الحياة الدنيا) مؤنث موصوف ، والدنيا صفتها.
الدنيا والأدنى
يعنيان القرب وقد تعني الدنائة والوضاعة. وبهذا يكون معنى الجملة الحياة القريبة
ويقابلها الحياة البعيدة أي الآخرة ، أو بمعنى الحياة الوضيعة والدنيئة ، ويقابلها
الحياة العليا والرفيعة ، أي الآخرة.
الدنيا مجموعة من
الامكانيات المادية من قبيل الثروة والمال والمقام والزوج والولد والمنزل والسيارة
والامور الاخرى التي تحضى بأربع خصال :
١ ـ فانية وغير
دائمة ، كما اشير إلى ذلك في كثير من الآيات والروايات.
٢ ـ خادعة وذات
مظهر جذاب ، فهي جميلة وفاتنة جداً إذا نظرنا إليها من بعيد.
٣ ـ جوفاء ، أي
رغم ظاهرها الجذّاب نجدها ـ عند الاقتراب منها ـ جوفاء خالية ، كالسراب الذي يبدو
ماءً من بعيد ، لكنه لا شيء في الواقع ومن قريب.
٤ ـ ممزوجة بمختلف
المشاكل والمصائب ، فلا تخلو الحياة من المشاق والمتاعب أبداً.
مجموع ما تقدَّم
مع هذه الخصائص الأربع يشكلّ الحياة الدنيا ، رغم ذلك فانَّها إذا اتّخذت صبغة
إلهية والتزمت الأهداف السامية والعليا فلا تبقى دنيا بل تصبح آخرة.
عن ابن أبي يعفور
: قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إنَّا لنحبّ الدنيا ، فقال لي : «تصنع بها ما ذا»؟ قلت :
أتزوّج منها وأحج وأنفق على عيالي وأنيل إخواني وأتصدق ، قال لي : «ليس هذا من
الدنيا ، هذا من الآخرة» .
إذن ، إذا اتُّخذت
الحياة لغرض الالتذاذ المادي ولتلبية الشهوات والأهواء كانت عبادة
__________________
للدنيا ، وإذا
اتّخذت جسراً لبلوغ الأهداف المعنوية السامية كانت آخرة.
٢ ـ الدنيا من
وجهة نظر الروايات
في الروايات نجد
مباحث كثيرة وواسعة عن الدنيا ، بل يمكن القول بأنَّ الدنيا من أوسع المباحث
المطروحة في الروايات.
من المباحث
المطروحة في الروايات عن الدنيا هو التمثيل لها ، نشير إلى نماذج منها.
الف
: يقول الإمام
الكاظم عليهالسلام :
«مثل الدنيا مثل
ماء البحر كُلَّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله» .
وفقاً لهذا الحديث
كون الدنيا لا تروي عطش أيٍّ من عَبَدة الدنيا ، وإذا ظنَّ أحد أنَّه سيقتنع ،
بمستوى خاصٍ من مستويات الدنيا ومقاماتها فإنَّ ظنَّه وَهْمٌ وخيال لا أكثر ، ومن
المحالات ، وعكسه ، أي طلب الزيادة ، هو الواقع الصادق.
لم يبلغ أثرياء
الدنيا الكبار مستواهم المعاشي ودنياهم الدنية إلَّا بعد ارتكاب جرائم تنفر النفس
لبيانها فضلاً عن أرتكابها ، وقد أعدوا لهم إثر هذه الجرائم حياة كمالية اسطورية
يصعب تصوّرها على الآخرين ، فقد قيل في بعضهم أن له حوض سباحة في طائرته الخاصة.
لكن يا ترى هل
يشبعون؟ وهل ذلك يروي ضمأهم؟ كلا ، انّهم يسعون لاكتساب الأكثر فالأكثر دائماً ،
ولأجل ذلك يقتحمون كل مجالات التجارة مهما كانت ، فيتاجرون بالأسلحة التي يُقتل
بها المذنبون وغير المذنبين سواء ، كما يتاجرون بالأسلحة الكيمياوية التي يكفي
قذيفة منها لقتل الآلآف من المدنيين العُزَّل بأبشع وجه ، فيضيق العيش عندئذٍ لا
على البشر فحسب بل على جميع الموجودات الحية ، رغم ذلك فهم غير مكترثين بالعواقب
المفجعة والوحشية لهذه الأعمال والتجارة ، وما يهمهم هو زيادة أرباحهم وأموالهم.
إنَّهم مستعدون ـ لإرواء
عطشهم تجاه الدنيا لأن يتاجروا بالمخدرات وأن يحطّموا عوائل ومجتمعات ويسلبوا
الشباب إرادتهم بهذه المواد ؛ وذلك لأجل زخرفة دنياهم أكثر فأكثر.
__________________
إن هؤلاء القذرين
حاضرون للمتاجرة بالبشر ، وهي تجارة قذرة تشمئزُّ منها النفوس ، فيشترون الأطفال ـ
سواء بنات أو بنين ـ من الدول الفقيرة وبمبالغ زهيدة ليبيعونهم بمبالغ طائلة
للمتموّلين وأصحاب الأهواء من أمثالهم ، وهي عملية تخلّف آلاماً وحسرات ، حيث يبقى
الوالدان يتحسَّران على رؤية ولدهم ويتحمّلون حرقة فراقه إلى آخر العمر. ولا يهمهم
ذلك ؛ لأنَّ هدفهم زيادة المال وإنماءه.
يا لهم من اناس
دنيئين؟ لكن لماذا هم كذلك؟
يمكن الإجابة على
ذلك بالقول : إنَّهم لا يفكّرون بغير الدنيا ولذاتها المتنوعة ، ولا علاقة لهم
بشأن الدين والشرف والانسانية ، وقد قُيِّد وجدانهم البشري في زنزانة الحرص والطمع
وطلب الزيادة ، ودُفنت فطرتهم تحت تلٍّ من الرذيلة والدناءة.
باء
: يقول سابع إمام
للشيعة موسى بن جعفر عليهماالسلام واصفاً الدنيا :
«مَثَلُ الدنيا
مَثَلُ الحيَّة مسُّها ليِّن وفي جَوفِها السمُ القاتل» .
هذا الحديث يشير
إلى خداع الدنيا ويشبهّها بالحية ذات المنظر الفاتن والباطن المسموم والقاتل.
جيم
: يقول الامام علي عليهالسلام :
«إنَّما الدنيا
شَرَكٌ وقع فيه مَن لا يعرفه» .
ويا له من شرك
واسع وكبير يسع لصيد وقرابين مختلفة ومتنوّعة!
دال
: كما يقول أول أئمة الشيعة :
«الدنيا ظلُّ
الغَمَامِ وحُلم المَنَام» .
يحكي هذا الحديث
الشريف جانباً من الدنيا ، وهو كونها زائلة وغير دائمة ، فهي من قبيل
__________________
الظلّ الذي تفتعله
الغمام ، وهو ظلٌّ سائر وغير دائم ولا ثابت في محل ما ، فلا يمكن اللجوء إليه
هروباً من حرارة الشمس.
الدنيا منام يراه
الانسان النائم ، وهو خيال أجوف ، من قبيل رؤية الانسان لكنوز كثيرة يمتلكها ، ولا
يجدها ولا آثارها في اليقظة.
إذن ، الدنيا
فانية ، كما أنها جوفاء وخالية من المحتوى.
هاء
: في حديث يصف
لقمان الحكيم الدنيا لابنه كما يلي :
«إنَّ الدنيا بحر
عميق قد غِرق فيها عالَمٌ كثير» .
الذي يغرق إمَّا
أن يصبح طعاماً للحيوانات البحرية أو أن أمواج البحر تلقي به إلى أماكن بعيدة ،
بحيث لا يبقى منه أثر. والدنيا تفعل بالانسان كما يفعل البحر بالغريق ، فهي قاسية
وغير وفيّة.
عاش في هذه الدنيا
أقوام ونحل كثيرة لا نجد لها أثراً حالياً ، فهي قد غرقت في بحر الدنيا ، فعلينا
البحث عن وسيلة نجاة من بحر الدنيا يُطمئن إليها ننقذ بها أنفسنا من الغرق.
واو
: يقول الامام علي عليهالسلام فيما يخصُّ أهل الدنيا :
«أهل الدنيا
كَرَكْبٍ يُسار بِهِم وهُمْ نيام»
عبدة الدنيا يقضون
حياتهم في نوم الغفلة ، وقد أدهشتهم شهوات الدنيا ولذّاتها ، لذلك لا يصطحبون معهم
متاعاً في سفرهم نحو الآخرة ، يستيقظون عند ما يشعرون بصفعة الأجل ، عندها يندمون
ويأسفون ، لكن ذلك لا يفيدهم ؛ لأن زمن التدارك قد مضى وولَّى.
زاء
: يصف رسول الله صلىاللهعليهوآله الدنيا بمثل جميل ويقول :
«الدنيا سجن
المؤمن وجنَّة الكافر» .
يحكم المؤمنين
قيود كثيرة في الدنيا ، هي من قبيل الحلال والحرام ورضا الله وغضبه والمحرمات
والواجبات ، وهي قيود تحدُّ من نشاطات المؤمنين كثيراً ، أمَّا الكفَّار فهم في
حلٍّ من
__________________
جميع هذه القيود ،
فهم أحرار والأهواء هي التي تحكمهم ، ولذلك يُعدُّ المؤمن سجين الدنيا في زنزانة
تتحطّم عند الموت لتحلِّق روحه منها نحو الحرية. وهذا هو السبب في أنَّ أولياء
الله يتطلّعون إلى الموت ويعدونه فوزاً «فُزْتُ وربِّ الكعبة» أو يتمنّونه «اللهمَّ
عجِّل وفاتي سريعاً» ، فهم يستقبلون الموت برحابة صدر ولا يهابونه أبداً.
إذا كان دفتر
أعمال الانسان أبيض كان الموت نعمة له ؛ لأنه يتخلَّص عنده من الدنيا المفعمة
بالمصائد والفخاخ الشيطانية ، ويتخلَّص كذلك من قيود الدنيا ليبلغ نعمة الحرية
التي ينالها المؤمن في الآخرة.
حاء
: يصف النبي عيسى عليهالسلام الدنيا كما يلي :
«إنَّما الدنيا
قنطرةٌ فاعبروها ولا تعمروها» .
الدنيا ليست هدفاً
ولا غاية ، بل وسيلة ، والنظر إلى الدنيا من هذه الزاوية يعدُّ إيجابياً جداً ،
ونرتكب خطأً كبيراً إذا نظرنا إليها كهدف وغاية. لذلك شبّهها النبي عيسى عليهالسلام بالجسر الذي ينبغي العبور عليه لا المكث فيه ، فالعاقل لا
يبني منزلاً على الجسر ، فهو ليس محلاً للتوقف والعيش ، والعجيب إذا صدر ذلك من
الانسان.
في هذا المجال ورد
حديث عن الامام علي عليهالسلام يقول فيه : «عجبت لعامر الدنيا دار الفناء وهو نازل دار
البقاء» .
طاء
: ينقل الامام علي
بن الحسين عليهماالسلام مكاشفة عن أمير المؤمنين عليهالسلام فيما يخصُّ الدنيا الدانية ، حيث يقول :
«إنّي كنت بفدك في
بعض حيطانها ، فإذا أنا بامرأة قد قحمت عليّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها ، فلمّا
نظرت إليها طار قلبي ممَّا تداخلني من جمالها فشبهتها ببُثينة بنت عامر الجُمحي
وكانت من أجمل نساء قريش ، فقالت : يا ابن أبي طالب ، هل لك أن تتزوّج فاغنيك عن
هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك؟ فقال
لها : مَن
__________________
أنت حتى أخطبك من
أهلك؟ فقالت : أنا الدنيا. قال : قلت لها : فارجعي واطلبي زوجاً غيري». ثمّ أنشد عليهالسلام أبياتاً جميلة في ذمها .
تقدَّمت تسعة من
الأمثال الواردة عن الدنيا على لسان المعصومين واذا جمعناها إلى الآية تصبح عشر
أمثال جميلة تعكس بوضوح الجوانب والخصائص الأربع التي ذكرناها للدنيا.
اللافت أن
المعصومين أينما تحدَّثوا عن موضوع بيّنوه بنحو واف لا لُبس ولا نقص فيه ، وبه
تتمُّ الحجة على الجميع بحيث لا يمكن لأحد أن يدَّعي عدم العلم أو المعرفة.
٣ ـ ما سبب ذم
الروايات الدنيا؟
كثرة مذمّة الدنيا
من قبل الروايات إشارة منها إلى نقطة جاءت في نفس الروايات تحدّد فلسفة وعلة هذه
المذمّة ، على سبيل المثال جاء ما يلي في رواية وردت عن الوجود المقدس للامام
الصادق عليهالسلام :
«رأس كلِّ خطيئة
حب الدنيا» .
هذه الرواية تُرجع
الذنوب كلها (وهي من قبيل السرقة والتهمة والغيبة والاستهزاء وإيذاء المؤمن والزنا
واللواط والاعتداء على الآخرين وترك الواجبات وفعل المحرمات) إلى حبّ الدنيا
وعبادتها.
وفي رواية لافتة
وجميلة يقول الامام الكاظم عليهالسلام :
«إعلم أنَّ كل
فتنة بذرها حبُّ الدنيا» .
وفي رواية يقول
رسول الله صلىاللهعليهوآله :
«أكبر الكبائر
حبُّ الدنيا» .
__________________
تحليل الروايات
الدنيا محلّ
التزاحم عكس الآخرة ، فلا تزاحم فيها ، وبعبارة اخرَى : للتزاحم مجال في الامور
الدنيوية ، ولا يُتصوَّر هذا التزاحم في الامور المعنوية. وعلى سبيل المثال إذا
كنت حافظاً للقرآن فلا يتزاحم ذلك مع حفظ القرآن من قبل الآخرين حتى لو حفظه نساء
الدنيا ورجالها جميعاً. وعكس ذلك في الأمور الدنيوية فإذا كنت مالكاً لقطعة من
الارض ، تزاحم ذلك مع ملك شخصٍ آخر لنفس الأرض. أي هناك تزاحم بين ملكك وملك
الآخرين أو إذا كان زيد رئيساً للجمهورية فلا يمكن لعمرو أن يكون رئيساً للجمهورية
كذلك.
وبما أنَّ هذه
الدنيا دار تزاحم كانت سبباً للذنوب. وامكانيات الدنيا لو قسمت بعدالة بتكافؤ
لأمكن للجميع الاستفادة منها بالنحو المطلوب إلَّا أن طلّاب الزيادة وعبدة الدنيا
حالوا دون حصول تعادل في توزيع الامكانيات ووفّروا الأرضية للتعدي والتجاوز على
الحقوق ، وبذلك تندرس حقوق الضعفاء وتضيع. وهذا هو تصوير كون الدنيا منشأً للذنوب.
إذن ، لو اقتنع
الانسان بما لديه واتَّخذ القناعة كمنهج لحياته حفظ نفسه بعيداً عن التلوّث بكثير
من الذنوب.
المثل الرابع
والثلاثون :
تنوّع أمثال القرآن
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هَذَا القُرْآنِ للنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ
شَيءٍ جَدَلاً) .
تصوير البحث
خلافاً لباقي
الأمثال حيث تحدَّثت عن عينيات خارجية فان الحديث في هذه الاية عن المسائل الكلية
وتنوع أمثال القرآن ، لعلَّ هذه الأمثال تقنع بتعدّدها وتنوّعها الانسان الجاحد
والمجادل وتهديه إلى الصراط المستقيم.
هل هذه الآية من
أمثال القرآن؟
اختلف المفسرون في
هذا الباب ، فبعض عدَّها من أمثال القرآن وبعض آخر رفض إدراجها في الأمثال ،
وبرأيي أن الإجابة على هذا السؤال يتوقّف على كيفية تفسيرنا لأمثال القرآن ، فإذا
كان المراد من المثل التمثيل بشيء ذي عينية خارجية ، كما هو حال الكثير من أمثال
القرآن ، كانت هذه الآية خارجة عن نطاق المثل ، وإذا كانت الإشارة الكلية إلى
أمثال القرآن كافية في صدق المثل اندرجت هذه الآية تحت هذه الأمثال ؛ لأن هذه
الآية تشير إلى تنوّع الأمثال القرآنية.
__________________
يُذكر أن بعضاً
ممَّن كتب في أمثال القرآن أخطأ هنا ، ومع احترامي له أقول : لا ينبغي عدّ الآية
مثلاً بمجرد تضمّنها مفردة (مثل) ، فقد جاء في الآية :
(فأتوا بِسُورةٍ مِنْ
مِثْلِهِ) رغم ذلك لا علاقة للآية بالأمثال القرآنية ، بل تحدَّثت عن
إعجاز القرآن المجيد.
كما وردت مفردة (مثل)
في الآية التالية : (للذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ) وهي كذلك لا علاقة لها بأمثال القرآن ، بل الحديث فيها عن
الإرث.
ومن جانب آخر ،
هناك البعض من أمثال القرآن لم تستخدم فيها مفردة (مثل) ، رغم ذلك يعدها الجميع من
الأمثال.
النتيجة
: وجود أو عدم وجود
مفردة (مثل) لا يدل على كون الآية من الأمثال أو ليست من الأمثال ، بل المثل هو أن
تبيّن الآية معنى عقلياً معقداً في قالب أمرٍ محسوس يسهل استيعابه للجميع.
الشرح والتفسير
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا
فِي هَذَا القُرآن للنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)
مفردة (صَرَّفنا) من مادة التصريف ويعني التبديل والتغيير ، ولذلك يقال
صَرَّافاً لمن يبدّل النقد من عملة إلى اخرَى فيبدل الدينار بالدولار أو بالعكس
مثلاً.
وقد اطلق اصطلاح (علم
الصرف) على العلم المعروف ؛ باعتبار كونه علماً يعني بتبديل الكلمة إلى أشكال وصيغ
مختلفة من الماضي والمضارع واسم الفاعل والمفعول والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث
والمخاطب والغائب وغير ذلك.
يقول الله في هذه
الآية : إنَّا بيّنّا أمثالاً مختلفة ومتنوّعة للناس ، وبيّنا الموضوع المتحد
باشكال وصيغ مختلفة ومتنوعة لعلَّ الانسان يهتدي بها إلى ربّه.
__________________
(وَكَانَ الإنسانُ
أكْثَرُ شَيءٍ جَدَلاً)
ما ذا يعني الجدل؟
الجدل يعني فتل
الحبل فتلاً جيداً ، كما يطلق على المتصارعين ، باعتبار اشتداد وانفتال أحدهما
بالآخر ، كما يُطلق على نقاش شخصين في القضايا الفكرية والمنطقية ، حيث تُفتل
أفكار كلٍّ منهما بالآخر وتلتحم.
النتيجة
: كون الجدل في
البداية اطلق على فتل الحبل وشدّه ثم توسّع هذا المفهوم ليشمل كل انفتال مادي حتى
لو كان من قبيل تصارع شخصين ، ثم اطلق على مفهوم أوسع ليشمل انفتال الأفكار بالنحو
المشار إليه في الأسطر المتقدّمة.
استخدم القرآن
ولغرض هداية الانسان أمثالاً متعدّدة ومتنوّعة ، لكن الانسان رغم ذلك يجادل في
الحق ويقف أمامه أكثر من أي موجود شاعر آخر. الانسان موجود مجادل ، هذا هو سبب عدم
تسليمه للحق وهو سبب جحود البعض في صدر الاسلام وعدم إيمانهم رغم سماعهم آيات
القرآن من الرسول صلىاللهعليهوآله ورؤيتهم إيّاه كل يوم ، وظلوا هكذا حتى الموت. وقبال هؤلاء
اناس آمنوا بمجرّد سماعهم آية من آيات القرآن دون أن يروا الرسول صلىاللهعليهوآله.
سبب ذلك واضح ،
فالذين لم يؤمنوا كانوا اناساً مجادلين يقلبون الحقائق بالجدل ، أمَّا اولئك الذين
آمنوا بالرسول لمجرّد جرعة واحدة من جرعات الهداية دون أن يروا الرسول فقد كانوا
يبحثون عن الحقيقة والهدى ، وهذا هو الشرط الأساس للهداية.
أشار الله إلى هذا
الموضوع المهم في بداية سورة البقرة وعبر جملة قصيرة حيث قال : (ذلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدَىً
للمُتَّقِينَ) ؛ وذلك لأن المراد من التقوى في هذه الآية ليس المعنى
المألوف والمصطلح بل المتقين هنا هم اولئك الذين خلت قلوبهم من العناد واللجاجة
والجدل ، فالقرآن بالنسبة إلى هؤلاء سبب للهداية ، أمَّا أصحاب اللجاجة والعناد
فما يزيدهم القرآن إلَّا ضلالاً فضلاً عن أن يكون سبباً لهدايتهم.
أمثال أبي لهب
وأبي جهل لم ينهلوا من القرآن شيئاً ، وذلك لأنهم كانوا يفقدون أرضية النهل من
بركات ونعم هذا الينبوع ، فإنَّ قابلية القابل شرط مضافاً إلى فاعلية الفاعل ،
فكما أنَ
نزول قطرات الغيث
الشفافة شرط لنمو النباتات كذلك الأرض المعدَّة والخصبة شرط لنمو النباتات.
خطابات الآية
١ ـ تنوّع أمثال
القرآن
سؤال
: لماذا استخدم
القرآن أمثلة متنوّعة؟ ولما ذا بيَّن مطلباً ومضموناً واحداً بقوالب متباينة؟ تارة
يمثّل بالحيوانات وأُخرى بالصالحين أو الفاسدين واخرى بالنباتات أو نور الشمس وما
شابه ذلك ، فما سبب هذا التنوّع؟
الجواب
: ذهنية الأشخاص
تختلف كاختلاف أشكالهم الظاهرية ، فشخصيات الأفراد وقدراتهم على الاستيعاب والتحليل
وأذواقهم وثقافتهم مختلفة ، وإذا أراد المتكلّم أن يتوفّق ويؤثر في المخاطبين
فعليه صياغة كلامه بقوالب مختلفة ومتنوّعة ناظراً في ذلك إلى قابليات المخاطبين ؛
لأنَّ منهجاً في البيان قد يكون مؤثراً في الشباب وغير مؤثر في الكهول أو بالعكس ،
وقد تؤثر جملة في شخصٍ امّي ولا تؤثر في المثقف ، وقد تكون بعض المطالب مؤثرة في
النساء غير مؤثرة في الرجال وهكذا.
إذن ، على
المتكلّم أن يلاحظ هذه النقطة المهمة وينوّع في أساليب بيانه سعياً في التأثير على
جميع المخاطبين وبمختلف مستوياتهم.
مخاطبو القرآن
المجيد اناس كانوا عهد البعثة ، وسيكون له مخاطبون إلى يوم القيامة وفي أرجاء
المعمورة وبأذواق وأفكار ومستويات وتطلّعات ومعلومات مختلفة فاستخدم أمثالاً
متنوّعة علماً منه باختلاف البشر في مختلف الجوانب. وبعبارة اخرَى : إنَّ كتاباً
من هذا القبيل لا يمكنه أن يتحدَّث بأدبيات واحدة مع اختلافات وتنوّع مخاطبية ، بل
عليه تنويع أدبياته ليستوعبه الجميع.
على سبيل المثال
تحدّث القرآن عن نفسه بأنحاء مختلفة ، ففي مورد يقول : (قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ
نُورٌ
وكِتَابٌ مُبينٌ) فشبَّه نفسه بنور الشمس حيث ينفذ في كل مكان ويؤثر أثره
حيث ينفذ.
وفي مورد آخر
يشبّه نفسه بالشجرة ذات الجذر والأصل الثابت والتي تثمر في كلّ وقت وفصل ، حيث
يقول :
(ألَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيّبةً كَشَجَرَةٍ طَيَّبةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ
وفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ
اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُون) .
القرآن الكريم هو
من ضمن التفاسير الواردة للكلمة الطيبة ، فإنَّه بمثابة الشجرة المثمرة والطيّبة دائمة وعامة
البركات ويمكن للجميع الاستفادة منها ، كلٌّ حسب قابليته.
وفي مورد آخر تحدث
القرآن عن سعة كلامه الحق قائلاً :
(قُلْ لَوْ كَانَ
البَحْرُ مِداداً لِكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) .
القرآن المجيد من
التفاسير الواردة في هذه الآية .
إنَّ بطون القرآن
ومفاهيمه وتفاسيره ومصاديقه الجديدة كثيرة جداً بدرجة لا يكفيها استخدام بحار
الأرض كمداد وحبر للكتابة.
عند ما نراجع
كلمات المعصومين عليهمالسلام نجدهم قد انتهجوا منهج القرآن في الكلام مع المخاطبين ،
ويعبرون عن المطلب الواحد تعابير مختلفة ويستخدمون له بيانات متنوّعة. على سبيل
المثال عند ما يجيبون عن السؤال عن قدرة الله يجيبون أجوبة متناسبة مع قابليات
الأفراد وقدراتهم على الاستيعاب ، لاحظوا النموذج التالي :
السؤال
: قيل لأمير
المؤمنين عليهالسلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر
الدنيا أو تكبر البيضة؟
__________________
الجواب
: يجيب الامام علي عليهالسلام كما يلي : «إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز
والذي سألتني لا يكون» .
لكن هذا السؤال
غلط مِن الأساس ؛ لأنَّ مفهوم هذا السؤال كون العالم كبيراً وصغيراً في ذات الوقت
، وهو من قبيل القول بأن موجوداً طوله عشرين متراً وعشر أمتار في آن واحد ، فهذا
تناقض محال. ولو طلبت من طالب أن يقسّم عشرين جوزة بين ثلاثين طالباً على أن لا
يصل لكلٍّ منهم أقل من جوزة كاملة ما استطاع الطالب فعل ذلك ، فهل التقصير منه أو
من طلبتك غير الممكنة؟ طبيعي أن لا تعكس هذه المسألة عجز الطالب بل انَّ المسألة
غلط.
الامام علي عليهالسلام عند ما وجد في السائل ذهنية جيدة ومعرفة بمسائل من قبيل
التناقض والامكان وما شابه أجابه بما تقدَّم من جواب.
ذات السؤال سأله
آخر من الامام الرضا عليهالسلام فكان جواب الامام الرضا عليهالسلام مختلفاً عن جواب الامام علي عليهالسلام ، فقد قال له : «نعم وفي أصغر من البيضة ، وقد جعلها في
عينك ، وهي أقل من البيضة ؛ لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ، ولو
شاء لأعماك عنها» .
وجواب الامام كان
متناسباً مع عقلية المخاطب وقابليته وقدرته على الاستيعاب.
النتيجة
: هي ضرورة اختلاف
الخطاب باختلاف المخاطب من حيث القدرة على الاستيعاب والقابلية على إدراك المفاهيم
، وهذا لا يعدُّ نقصاً ولا يُحمل على قلة معلومات المتكلم بل يعد فناً عظيماً
يكشف عن قدرة المتكلم على البيان ، ولذلك على مبلغينا أن يلمّوا بألسن جميع
المخاطبين وعقليّاتهم لكي ينفذوا في قلوب الجميع ويؤثروا أثرهم وإلَّا فيُحرمون من
الموفقية.
٢ ـ منع الجدال
الجدال والمراء عن
غير حق حرام في الاسلام ، ويعد من الكبائر ، ولذلك لا يرضى الاسلام
__________________
بالمناظرات إلَّا
إذا قصد طرفاها اتّضاح الحق والحقيقة وكانا يبحثان عن الحق ، أمَّا إذا قصد كلٌّ
منهما التغلّب على الطرف الآخر كان ذلك جدلاً محرماً.
على المناظرين أن
يتحلُّوا بشجاعة لقبول الحق ، وهذا هو المطلوب في الاسلام.
في مجال الجدال
نقرأ آية وروايتين.
١ ـ جاء في الآية
٣ من سورة الحج :
(وَمِنَ النَّاسِ مَن
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيْدٍ)
يجادل البعض حول
التوحيد وحول الله تعالى دون أن يكون له علم ومعرفة في هذا المجال ، ويطلق
مجادلاته عن هوى وهوس ، وهؤلاء المجادلون يعدون من أتباع الشيطان ؛ لأن الشيطان
رائدهم في هذا المجال ، وقد انحرف بواسطة الجدل ، عند ما أمره الله بالسجود بصحبة
الملائكة امتنع عن السجود مستخدماً القياس وقائلاً لربّه : خلقت آدم من تراب
وخلقتني من نار ، والنار أفضل من التراب . مع أن السجدة لم تكن لترابية آدم عليهالسلام بل للروح الالهية التي نفخها الله فيه.
إذن ، جدال إبليس
هو الذي جلب له الشقاء ، كما أنَّ المجادلين أتباع الشيطان المجادل.
٢ ـ يقول رسول
الله صلىاللهعليهوآله في رواية :
«ما ضَلَّ قوم
إلَّا أوثقوا الجَدَلَ» .
وهذا الحديث يعني
أن الجدل سبب الضلالة.
٣ ـ يقول الامام
علي عليهالسلام في رواية قصيرة :
«الجَدَلُ في
الدين يُفسد اليقين» .
خلاصة ما تقدم كون
الجدل غير المنطقي سبباً في الضلالة ومفسداً لليقين ، والمجادلون أتباع الشيطان ،
وما علينا هو الابتعاد عن الجدل والتسليم إلى الحق والخضوع له.
__________________
المثل الخامس
والثلاثون :
التوحيد والشرك
الآية ٣١ من سورة
الحج تشكّل المثل الخامس والثلاثين ، وقد جاء فيها :
(وَمَنْ يُشرِكْ
باللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهوِي
بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
تصوير البحث
المثال يحكي
موضوعاً هو موضع اهتمام جميع الأديان ، أي الشرك والتوحيد ، فقد شبَّههما هنا
بالسماء والسقوط منها ، وسيأتي شرح ذلك.
الشرح والتفسير
(وَمَنْ يُشرِكِ
باللهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ)
في هذه الآية
شُبِّه التوحيد بالسماء والشرك بالسقوط من السماء ذات الشمس والقمر والنجوم ، أي
مصادر النور والضياء والبركات ، مضافاً إلى أن السماء نفسها تحضى بجمال وعظمة
خاصة.
التوحيد مركز
النور والعظمة الإلهية ويأتي للموحدين بالبركة والضياء ، أمَّا الشرك فبمثابة
السقوط من سماء التوحيد.
مع الالتفات إلى
هذه المقدمة تقول الآية : اولئك الذين امتنعوا عن توحيد الله وجعلوا
شريكاً له وخرجوا
عن صفوف الموحّدين بمثابة الذي يسقط من السماء ، ومن الطبيعي أن لا يعيش الذي يسقط
من السماء إلى الأرض.
(فَتَخْطَفُهُ الطيرُ
أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ وفي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
المشرك الذي يسقط
من السماء إلى الأرض لا ينجو ؛ لأنه سبيتلى ـ وهو معلق في الهواء ـ بأحد مصيرين
نتيجة كلٍّ منهما الموت والفناء.
الأول
: أن يقع فريسة
للطيور الجوارح آكلات اللحوم والجيف ، بحيث كل طير منها تلتقم جزءً من لحمه ،
وعندها لا يصل إلى الأرض إلَّا عظامه.
الثاني
: إذا لم يبتل
بالطيور المتقدّم ذكرها فسيبتلي بالأثناء برياح وعواصف تلقيه في مكان بعيد لا يصله
انسان لكي ينقذه.
وخلاصة الكلام أن
المشرك شُبِّه في هذه الآية بالذي يسقط من السماء نحو الأرض ويبتلي في الأثناء بطيور
جوارح آكلة لحوم أو رياح وعواصف تلقي به إلى مكان سحيق يستحيل على انسان الوصول
إليه.
خطابات الآية
١ ـ ما المراد من
الطيور؟
لا يبعد أن يراد
من الطيور المتقدّم ذكرها هو الاهواء .
المشرك مبتلى
بالأهواء ، فبعض من الأهواء تُذهب بماء وجه الانسان ، وبعضها الآخر تُذهب بانسانية
الانسان ، وبعضها الآخر تُذهب بشجاعة الانسان أو مروّته أو غير ذلك ، وفي النتيجة
لا يبقى من الانسان المشرك شيء ، بل طيور الأهواء والهوى والهوس تأكل كل ما لديه
من شخصية وانسانية.
٢ ـ ما المراد من
الريح
قد يكون المراد من
الريح التي أشارت إليه الآية والذي يلقي الانسان الساقط إلى أماكن
__________________
بعيدة يصعب الوصول
إليها هو الشيطان الطاغي ، فالمشرك إذا نجى من طيور الهوى والهوس قع أسيراً بريح
الشيطان العاصي فيأخذ به إلى حيث لا ناصر ولا معين يعيش الضلال والشقاء.
٣ ـ لا هدوء
للمشرك
جاذبية الأرض من
نِعم الله علينا ، فهي تسبب أن يكون وزن لكل شيء ، ولولاها لما كان استقرار وثبات
لشيء في الكرة الأرضية. المنازل والمزارع والمعامل والمدارس والمستشفيات مستقرَّة
في مكانها بسبب وزنها والجاذبية التي ترد عليها. وهذه الجاذبية خاصة بالأرض وتقلُّ
كلما ابتعدنا عن الأرض ومركزها ، والأشياء تفقد أوزانها خارج ميدان جاذبية الأرض ،
ولذلك يدخل روّاد الفضاء دورات تعليم وتأقلم على الفراغ والفضاء الخالي من
الجاذبية قبل رحلتهم الفضائية لكي يستعدوا لقضاء مدّة في الفضاء.
من سبل تجربة
الفراغ وفقدان الجاذبية هو السقوط الحر من الأماكن المرتفعة ، عندها يجرّب الانسان
حياة لم يجرّ بها سلفاً ، ولهذا يعتقد الأطباء أن كثيراً من الذين يسقطون من شاهق
تحصل لهم سكتات قبل الوصول إلى سطح الأرض.
يشعر المشرك عند
سقوطه من السماء بحالة الفراغ والخلو من الوزن ، وعندها تنتابه أحاسيس الاضطراب
تخيّم على وجوده بالكلية ، ويبدو أن الذي ينفصل عن التوحيد ويتوجّه نحو الشرك
يودّع الهدوء والطمأنينة ويلتقي بالاضطراب والقلق ، ولا يعود له الاطمئنان والهدوء
إلّا تحت ظلِّ التوحيد وترك الشرك وعبادة الأصنام (أَلَا بِذِكَرِ اللهِ
تَطمَئِنُّ القُلوبُ) .
وهذا أمر يقرُّ به
حتى المشركون أنفسهم ، فقد جاء في الآية ٦٥ من سورة العنكبوت : (فَإذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ؛ وذلك لأنَّهم يعلمون جيداً بأنَّه لا أحد سيُرجع لهم
الطمأنينة غير الله ، فيدعونه مخلصين له ، أمَّا الأصنام فيعلمون بعجزها عن
إنقاذهم ، لكن
__________________
توحيدهم مؤقت
ويعودون إلى الشرك تارة اخرَى بعد ما يصلون إلى السواحل حيث ترسو سفنهم.
والخلاصة أن الشرك
وعبادة الأصنام سبب للاضطراب والقلق ، والتوحيد سبب للطمأنينة والهدوء.
٤ ـ لا إرادة
للمشرك
الانسان صاحب
إرادة قبل السقوط ، لكنه عند ما يسقط ويعلق في الفضاء تنسلب عنه الإرادة ، ولا
يستطيع تقرير شيء ، والمشرك عند ما يسقط من سماء التوحيد يكون كذلك ويفقد إرادته
وقدرته على اتّخاذ قرار.
أهمية التوحيد
التوحيد أهم مباحث
القرآن المجيد وباقي الكتب السماوية ، وقد دعى الانبياء وأوصياؤهم الناس إليه
وحذّروهم عن الشرك وعبادة الأصنام.
لا مسألة أهم من
التوحيد في التعاليم الدينية ، والشاهد على هذا آية من القرآن تكرّرت بالنص في
موضعين من سورة النساء ، هما الآية ٤٨ و ١١٦ ، حيث جاء هناك :
(إنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أنْ يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
واللافت هنا أن
المراد من الغفران هنا هو الغفران دون توبة ، أمَّا مع التوبة فيُغفر الشرك كذلك.
فإنَّ أكثر الصحابة باستثناء بعض قليل مثل الإمام علي عليهالسلام كانوا مشركين ، وعند ما أسلموا وتابوا غفر الله لهم.
إذا مات العاصي
قبل أن يتوب فلا يُغفر له إن كان مشركاً ولا أمل في غفرانه ، أمَّا إن كانت معصيته
اموراً اخرَى غير الشرك فيحتمل أن يغفر الله له وأن يشفع له أولياء الله ، أمَّا
المشرك فلا يُغفر له ولا يُشفع له ، فالشرك لا يقع موضع غفران ولا شفاعة. وهذا
يكشف عن أهمية التوحيد وخطره وعظمته في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فالتوحيد ينبوع
السعادات والشرك ينبوع الشقاء ودمار لكل حسنة.
سؤال
: ما سبب أهمية
التوحيد؟ وما سبب ذم الشرك وبغضه إلى هذا الحد؟
الجواب
: فلسفة الأهمية
البالغة للتوحيد والذم الشديد للشرك هي امور مختلفة نشير إلى بعضها :
الأول
: أول أثر وبركة
للتوحيد هو اتّحاد المجتمعات البشرية. تختلف البشرية فيما بينها باللغات والأعراف
والعقائد والأفكار والتقاليد والثقافة وما شابه ذلك ، وفي بلد مثل ايران حيث يشكّل
جزءً بسيطاً من العالم توجد لغات عديدة وثقافات وأقوام متنوّعة ، وقس عليه باقي
أرجاء المعمورة ، ففيها آلاف اللغات والقوميات والثقافات ، لكن يا ترى ما حلقة
الاتصال بين البشر؟ وما نقطة الاشتراك بينهم؟ وإذا قرّرت الشعوب والحكومات العيش
تحت ظلِّ حكومة عالمية واحدة فما الذي يشتركون فيه؟
لا شكَّ أن
التوحيد المتجذّر في معتقداتهم الأساسية يشكّل أهم عامل في اتحادهم ، فالتوحيد
محور جيّد جداً للاتّحاد وحبل متين يمكن للجميع أن يتمسك به.
يشير الله إلى هذا
المطلب في الآية ٦٤ من سورة آل عمران قائلاً :
(قُلْ يَا أهْلَ
الكِتَابِ تَعَالوا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ ألَّا نَعْبُدَ
إلَّااللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أرْبَاباً
مِنْ دُونِ اللهِ)
تتجلَّى هذه
الوحدة في مراسم الحج على أرض الحجاز ، حيث يمكن مشاهدة الملايين من المسلمين من
بلاد مختلفة وبألوان ولغات وثقافات وتقاليد متفاوتة جميعهم محتشدين هناك متجهين
نحو كعبة معبودهم ، يبدون كالنهر الشفاف قاصداً الالتحاق ببحر الوحدة اللامتناهي
ينبعون من قلل الانسانية العالية ويلتقون حول الكعبة معلنين خضوعهم وتسليمهم للحق
تعالى.
في آخر صلاة جمعة
قبل عرفة في مكة المكرمة يشترك أكثر من مليون مسلم ، وهي أعظم صلاة جمعة للمسلمين
في السنة ، يصطفون جميعم في صفوف العبودية ويرفعون أيديهم دفعة واحدة داعين ربَّهم
معظّمينه وممجّدينه ، فيركعون متّحدين ، ويسجدون متّحدين ، وبذلك
تتشكّل لقطات بديعة
فريدة للاتحاد والتلاحم .
يا ترى كم ستزداد
اللقطة جمالاً وبداعة لو أن رقعة الاتحاد تجاوزت المسلمين لتبلغ مستوى العالم
بمختلف ثقافاته ، تمسكاً بحبل الله.
إذن ، الاتحاد من
الآثار المهمة للتوحيد ، وفي قباله الشرك الذي يؤدي إلى التفرّق والاختلاف. كان للعرب
الجاهليين ثلاثمائة وستين صنماً ، وهذا يعني اختلافهم وتشتتهم إلى ثلاثمائة وستين
فرقة صغيرة وانقسام مجتمعهم إلى هذا العدد رغم صغره ، ومن الطبيعي أن لا يخلو هكذا
مجتمع من نزاع وجدال وصراع وقتل وعصيان وأن لا يكون له نصيب من السعادة والهدوء ،
لكن هذا المجتمع اتَّحد وتماسك في ظل التوحيد وهداية الاسلام ورسوله ، وتفوّق
عندها على جميع المجتمعات.
الثاني
: الأثر الآخر
للتوحيد هو منحه الموحّدين قدرة وقوّة ، كما أن الشرك يسلب عن المشركين قدرتهم
ويجعلهم عاجزين.
ما انفك المشركون
عن حياكة المؤامرات ضد الرسول صلىاللهعليهوآله والمسلمين عند ما كانوا اقلية في مجتمع مكة ، فكانوا يأتون
كل يوم بمؤامرة جديدة سعياً لإطفاء نور الاسلام وإخماد جذوته.
جاء رؤساء قريش
لأبي طالب في يوم من الأيام لكي يعلنوا وقف اطلاق النار ـ كما يصطلح عليه حالياً ـ
مع الرسول صلىاللهعليهوآله وبعد النقاش الذي دار بين الطرفين قال الرسول صلىاللهعليهوآله : مخاطباً أبا جهل : «أدعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين
لهم بها العرب ويملكون بها العجم» ، فقال أبو جهل : ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر
أمثالها؟ قال : «تقولون لا إله الَّا الله وتخلعون الأنداد من دونه» .
لا زالت هذه
العبارة التي أطلقها رسول الله صلىاللهعليهوآله تشكّل طريق حلٍّ للبشر حيث عيوا الحروب والخلافات
والنزاعات ؛ وذلك لأن الرجوع إلى شجرة التوحيد الطيبة هو الحل
__________________
الوحيد لحلِّ هذه
المشاكل وبلوغ السلطة المتزامنة مع العزة والأمان والهدوء والطمأنينة والعدالة
الحقيقية.
تعالوا نفكر
ونتأمل في كيفية تبديل الاسلام عرب الجاهلية في مكة والمدينة ، الذين كانوا غارقين
بالاختلاف والنزاعات الدامية ، إلى اناسٍ مقتدرين وذوي عزّة استطاعوا تحت ظلِّ
الاخوّة والاتحاد أن يفتحوا شرق الأرض وغربها في أقل من نصف قرن؟ ألم تكن تلك
العظمة ثمرة للتوحيد والتمسك بحبل الله؟
الثالث
: التوحيد يأتي
بالهدوء والطمأنينة إلى المجتمع. السبب الأساس للجرائم والمعاصي في الدنيا هو
الشرك وعبادة الأصنام ، والشرك لا يقتصر على عبادة الأخشاب والاحجار بل يشمل كل
عبادة لغير الله من المقام والهوى وما شابه ، فهذه كلها شرك نوعاً ما ، والانسان
عند ما يعبد هذه الامور يغفل عن الله فيرتكب الكثير من الذنوب والمعاصي والجرائم.
تقدّمت الاشارة
إلى رواية حكت أن الشيطان قبَّل أول درهم ودينار ضربا في الأرض ، ونظر إليهما
ووضعهما على عينيه ثم ضمهما إلى صدره ثمّ قال : «أنتما قرَّة عيني وثمرة فؤادي ما
أُبالي من بني آدم إذا أحبوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي من بني آدم أن يحبوكما» .
لا زال الشرك
رائجاً في عصرنا رغم حلول الفكر والتعقل مكان الجهل ، فكم من جرائم تُرتكب لأجل
جمع المال واكتنازه؟ لا هدوء ولا أمان في مجتمعات هذا العصر ، بل النزاع والاضطراب
هو الحاكم فيها ، ولو كانت المجتمعات موحِّدة لحلَّ فيها الأمان والطمأنينة
والهدوء.
لبلوغ المجتمع
الموحِّد علينا كسر أصنام أنفسنا ، وعلينا مراجعة معبد الأصنام الكائن في قلوبنا
بين الحين والآخر لنكسر الأصنام التي تكوّنت فيها. ما أحلى القلوب التي شأنها شأن
الكعبة بعد الاسلام حيث تكسَّرت جميع الأصنام التي كانت فيها.
إنَّ قلوب البعض
تشبه الكعبة قبل الاسلام حيث كانت تكتض بالأصنام ، لكن أصنامها من نوع الثروة
والمال والنساء والأولاد والجاه والمقام والأماني وغيرها.
القلب بيت الله
علينا تطهيره من كل الأصنام ، ومن صدأ الشرك لكي نشاهد من خلاله صاحب البيت
الأصلي.
__________________
المثل السادس
والثلاثون :
عبادة الأصنام
جاء في الآية ٧٣
من سورة الحج :
(يَا أيُّها النّاسُ
ضُرِبَ مَثلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ
يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ)
تصوير البحث
هذا المثل حول
الشرك والتوحيد ، كما هو حال المثل المتقدّم ، وهما تنويع لبيان مطلب واحد ، لعلّ
ذلك يفيد الجميع ؛ باعتبار اختلاف مستوياتهم. والله تعالى ضرب مثلاً هنا صوَّر فيه
ضعف وعجز الأصنام وعبدتها.
ماهية عبادة
الأصنام
عبادة الأصنام من
المسائل المعقّدة ، يمكن الإجابة عن بعض أسئلتها التالية :
ما الأهمية التي
كان يوليها عبدة الأصنام لأصنامهم؟ هل كانوا يعدّونها خالقهم وربّهم؟
وإذا كان الجواب
إيجابياً فكيف يمكن للانسان العاقل أن يعتبر شيئاً قد صنعه بيده خالقاً له؟ وإذا
كان الجواب سلبياً فما تبرير عملهم الجاهلي تجاهها؟
طرح القرآن الكريم
هذه التساؤلات ، كما أجاب عنها.
جاء في الآية
الثالثة من سورة الزمر :
(أَلا للهِ الدينُ
الخَالِصُ وَالَّذِين اتّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلياءَ مَا نَعْبُدُهُم
إلَّالِيُقرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفى إنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في مَا هُمْ
فيهِ يَخْتَلِفُون)
كما جاء ما يلي في
الآية ١٨ من سورة يونس :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤلاءِ شُفَعاؤنا
عِنْدَ اللهِ)
وفقاً لما ورد في
هاتين الايتين فانَّهم ما كانوا يعدون الأصنام خالقين ، بل كانوا يعتقدون بخالقية
الله تعالى ، لكنهم كانوا يولونها قداسة خاصة ويعتبرونها شافعة وواسطة جيدة بينهم
وبين ربّهم ، فهي تشفع لهم. هذا شأن غالب المشركين ، لكن بعضاً قليلاً منهم كانوا
يعدون الأصنام خالقين ، أمَّا الأغلب فما كانوا يحملون هذه العقيدة ، وكانوا
يعبدونها لأجل أن تقرّبهم إلى الله خالقهم ، فيطلبون منها السعادة والسلامة والسعة
والبركة وما شابه ذلك ، وبذلك نسوا الله تدريجياً لتصبح الأصنام المعبود المستقل
والمناجى الأصيل.
سؤال
: البيانات
المتقدَّمة أوضحت مدى تعقّد عمل المشركين ، لكن يبقى سؤال وهو : كيف يمكن للانسان
العاقل أن يسجد لشيء صنعه بيده ويعتبره واسطة ينال به من فيض الله ، ويعتبره
مقدّساً إلى درجة قد يضحّي لأجله انساناً آخر.
الجواب
: لم تكن أصالة
للأصنام في الأيام الاولى من بداية عبادتها ، أي بداية الانحراف الكبير ، فقد كانت
عندهم نموذجاً للمقدسات. على سبيل المثال لو جاء نبي أو وصي إلى بلدة عُدَّ عندهم
واسطة بينهم وبين الله تعالى وحضي باحترام خاص ، باعتبار هذه العلاقة ، وعند ما
يتوّفاه الله يُصنع له نصب تذكاري لكي يستمر التقديس والاحترام ، لكن هذه العلاقة
المفروضة تُتناسى بمرور الزمان بحيث يتَّخذ النصب ذاته طابعاً مقدساً ، ولا يتداعى
في أذهان الناس العلاقة الاولى لصاحب النصب وخالقه ، بل يصبح النصب بذاته وعلى نحو
الاستقلال مقدساً فيُعبد.
وهذا هو حال
الانصاب والتماثيل التي تُصنع لغرض الإشارة إلى مصادر البركة والنور من الشمس
والقمر وما شابه ، فإنها تُعبد تدريجياً وبعد مرور زمن. ومن هذا القبيل كذلك أن
يؤتى بحجر من مكان مقدس مثل الكعبة فتوضع في مكان لكي يتذكّر الحاج سفره الروحاني
إلى بيت الله متى ما انتبه إلى الحجر ، لكن بعد فترة من الزمن تُنسى هذه العلاقة
ليصبح الحجر بعد ردح صنماً ومعبوداً بحد ذاته.
أو من قبيل ما
يعتقده البعض من أن الله تعالى أرفع شأناً من أن تحيط به الأفكار ، ولا يمكن
للأفكار أن تفعل ذلك ، ولا فائدة في ربٍّ لا تحيط به الأفكار ، لذلك ينبغي أن نبحث
عن مخلوقاته التي هي في متناول أيدينا ويمكن للأفكار أن تحيط بها فنعبد بعضاً
منها. وهذا ممَّا نجده عند بعض الفرق الصوفية المنحرفة ، فالمرشد لهذه الفرق يقول
لمريديه : عند ما تصلون للآية : (إيَّاكَ نَعْبُدُ
وإيَّاكَ نَسْتَعِينَ) في الصلاة تصوّروا مرادكم ومرشدكم ، وهذا هو نقطة بداية
الانحراف نحو الشرك.
على أي حال ، كان
للأنبياء والرسل أطول مواجهة مع الشرك والمشركين ؛ لكون الشرك بلاءً كبيراً على
الانسانية في الماضي والحاضر.
أساليب مواجهة
عبادة الأصنام
سؤال
: ضرورة مواجهة
الشرك وعبادة الأصنام أمر بديهي وواضح ، لكن ما هي أساليب هذه المواجهة؟ وما هي
الأساليب التي اختارها الأنبياء والأوصياء لمواجهة هذه الظاهرة؟ وكيف كان تعاملهم
مع هذا الانحراف الخطر والعظيم والمعقَّد؟
الجواب
: وفقاً لما جاء في
القرآن المجيد فإن الأنبياء سلكوا أساليب متنوّعة لمواجهة الشرك وعبادة الأصنام
نشير إلى نماذج منها :
الأول
: تعريف الناس
وبخاصة المشركين بخالق الكون الأصيل. وقد أشار القرآن إلى هذا الاسلوب في الآية ٦١
من سورة العنكبوت من خلال طرح سؤال والإجابة عليه ، حيث جاء هناك :
(وَلَئِنْ سَألتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللهُ فأنَّى يُؤْفَكُونَ)
أي أنَّ الله خالقنا
ورازقنا وولي نعمنا وملجأنا ومحيينا ومميتنا ، وإذا كان كذلك فلما ذا نعبد أصناماً
من دونه؟ ألا ينبغي للانسان أن يسلِّم نفسه لولي نعمته ويخضع له؟
سعى الأنبياء
لإيقاظ فطرة المشركين ومسح الغبار عنها لربطها بخالقها الأصلي وتوحيدهم إيّاه.
الثاني
: تحقير الأصنام
وبيان عجزها وكذبها أمام القدرة الإلهية ، وذلك يقلّل من قداستها وقيمتها عند
المشركين.
في هذا المجال
تُطرح على المشركين أسئلة من قبيل : هل تدرك هذه الأصنام ما يدور حولها من شؤون؟
أو هل يمكنها الإجابة على أسئلتكم؟ أو هل هي قادرة على حل مشاكلكم؟
من الواضح أن
السلب هو جواب هذه الأسئلة جميعها ، وإذا كان الواقع كذلك كان ذلك يعني أنها عمياء
صماء ولا إرادة لها ، وعلى هذا كيف يمكن لها أن تكون حلالة لمشاكلكم؟
في القصة المعروفة
عن النبي إبراهيم عليهالسلام عند ما سئل عَمَّن كسر الأصنام وحطّمها أجاب :
(بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ
هَذا فَسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُون) .
القرآن ينقل جواب
المشركين كالتالي :
(فَرَجَعُوا إِلى
أنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا على
رُءوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاءِ يَنْطِقُونَ) .
عند ما شاهد فيهم
إقراراً على عدم امكانية تكلم الأصنام فضلاً عن دفاعها عن نفسها بدأ بذمّها
تحقيرها والمشركين كذلك وقال :
(قَالَ أفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ افٍّ لَكُمْ ولِمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أفَلا تَعْقِلونَ) .
سعى إبراهيم عليهالسلام من خلال تحقير الأصنام وبيان ضعفها وكونها ليست منشأً لا
للخير ولا للشرِّ لتنبيه المشركين إلى سوء عملهم وبطلان اعتقادهم.
الثالث
: إيقاظ وجدان
المشركين النائم وتوظيف هذا الوجدان في هذا الطريق ، وقد أشارت الآية ٦٥ من سورة
العنكبوت إلى هذا الاسلوب حيث تورّط المشركون في السفينة وسط البحر بأمواج عظيمة
شعروا إثرها بقرب موتهم فاذا بهم يدعون الله مخلصين له وطالبين منه المعونة. وهذا
يكشف عن لجوئهم إلى الله في المعظلات حيث ينقطع أملهم بكل شيء غيره وتنغلق عليهم
الأبواب إلَّا بابه ، ويعرفون عندئدٍ أن لا معبود أهل للعبادة غير الله تعالى.
__________________
الآية التي هي
موضع بحثنا بيان لضعف الأصنام وعجزها ، ولمزيدٍ من الإيضاح نشرع بتفسيرها.
الشرح والتفسير
(يَا أيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمِعُوا لَهُ)
التعبير بضرب مثل
قد يكون لأجل أن هذا المثل الجميل وذات المغزى كان دارجاً بين الموحدين منذ
الأزمان الماضية ولم يكن جديداً ، رغم ذلك طرحه الله هنا تارة اخرَى ؛ لكونه ذات
طابع تربوي عالٍ ويحتوي على عبرٍ جيدة.
(إنَّ الَّذينَ تَدْعُون
مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ)
الأصنام التي
يعبدها المشركون ويسجدون ويركعون لها ضعيفة إلى درجة أنَّها غير قادرة على خلق
ذبابة ، كحشرة صغيرة ، بل ان اصنام العالم كلها لو تكاتفت واجتمعت لأجل خلق ذبابة
واحدة ما استطاعت عمل ذلك.
(وإنْ يَسْلُبُهُمُ
الذُبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ)
بل ضعف الأصنام
أشدّ ممَّا ذكر ، فلو أنَّ الذباب أخذ من الأصنام شيئاً ما كانت قادرة على
استرجاعه ، فهي لا إرادة لها ولا قدرة على عمل شيءٍ ما ، أي أنَّها لا تنفع ولا
تضرُّ ولا قابلية لها لدفع الشر عن عبادها ؛ لأنَّها غير قادرة عن الدفاع عن نفسها
فضلاً عن الغير.
يقال : كان
المشركون في أيام خاصة من السنة ، كأيّام العيد يطلون أصنامهم بالعسل والزعفران أو
بموادٍ مشابهة لهما مما يجعلها ملجأً ومصدر طعام للذباب ، وتستمر الذباب بالتردّد
والحوم حول هذه الأصنام حتى آخر قطرة من العسل ، وإذا أخذت الذباب ذرة بسيطة من
هذا العسل فإنَّ الصنم غير قادر على استرجاعه ، ولهذا يخاطبهم الله قائلاً : إنَّها أصنام ضعيفة عاجزة
عن استرجاع ما سُرِق منها من العسل ، فكيف يمكن للانسان أن يطلب منها العون
والمساعدة.
__________________
(ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالمَطْلُوبُ)
نقلت احتمالات
متباينة في تفسير هذه الجملة ، يبدو أن اثنين منها أقوى من الباقي :
الاول
: المراد من الطالب
الذباب ، ومن المطلوب الصنم ، أي أن الذباب ضعيف ، كما هو حال الصنم.
الثاني
: المراد من الطالب عبدة الأصنام (المشركون) ، ومن المطلوب
الأصنام ، أي أن الأصنام وعبدتها كلاهما ضعيفان ، أما ضعف الأصنام فواضح ، وأمَّا
ضعف المشركين ، فباعتبار ضعفهم الفكري والعقائدى.
أراد الله هنا
التذكير بنقطة هي أن الله هو الوحيد القادر على حل مشاكل الانسان لا الموجود
الضعيف والعاجز عن الدفاع عن نفسه.
تتداعى هنا عدّة
أسئلة :
١ ـ هل هناك تشبيه
في آية المثل؟
بحث المفسرون قضية
الضعف وما إذا كان قد شُبِّه في الآية بشيءٍ ما أو لا ، فبعض قال : لا يوجد تشبيه
في الآية ، والحديث فيها عن ضعف الأصنام وعجزها عن خلق موجود صغير مثل الذباب ،
ولم يشبّه المسألة بشيءٍ ما ، وهو كلام أوقع ذلك البعض بمشاكل ، وبرأينا مفردة (مثل)
ذات معنيين :
الاول
: المَثَل تعني
الشبيه والمِثْل ، وهو تشبيه لأمر معقول خارج عن الحس والتجربة بأمرٍ محسوس.
الثاني
: المَثَل بيان
لمصداق واضح لأمرٍ ما.
والمراد من المثل
في الآية هو المعنى الثاني ؛ لأن الله أراد أن يبيّن بالآية ضعف عبادة الأصنام
وعقيدة المشركين في الأصنام ، وبذلك حكى مصداقاً واضحاً لهذا الضعف والعجز في قالب
المثل المزبور.
٢ ـ هل الذباب
موجود حقير؟
لم يشر القرآن إلى
الذباب إلَّا في هذه الآية ، وهو موجود يبدو للانسان حقيراً وفاقداً للقيمة ، فهل
هو كذلك حقاً؟
الجواب
: ينبغي القول هنا
: الذباب لا أنه موجود قيِّم فحسب بل من عجائب المخلوقات ومن آيات الله.
فهذا الموجود رغم
صغرة يحتوي على جهاز تنفّس وهضم وفم ولسان ومعدة وأمعاء وجهاز أعصاب وفهم وإدراك
وعضلات قوية جداً ، بحيث يمكنه تحريك أجنجته بها بسرعة ، وله أعضاء اخرَى كذلك.
اللافت أنه يحضى
ببنية هي أكثر تعقيداً ودقة من طائرة كبيرة ، ويُعدُّ صناعة طائرة كبيرة أبسط من
خلق ذبابة ؛ فإنَّ الطائرة لا إدراك لها ولا شعور ولا إرادة ولا جهازاً تناسلياً ،
وغير قادرة على إعداد غذاء لنفسها ولا يمكنها الدفاع عن نفسها ، أمّا الذبابة فلها
القابلية على جميع ما تقدَّم.
إذن ، الذباب من
عجائب المخلوقات حقاً ، ولا أحد قادر على خلق هذا الموجود ، رغم التطوّر والتقدُّم
العلمي الكبير الذي حصل في مجالات علمية مختلفة ، عندئذٍ يُطرح سؤال آخر.
على عتبة القرن
الحادي والعشرين سمعنا أن الانسان أصبح قادراً على الاستنساخ ، وذلك يعني تمكنه في
ظروف خاصة من خلق انسان أو حيوان من جزء صغير جداً من أجزاء انسان أو أي حيوان آخر
، والنتيجة هي : خلق موجود دون ام وأب ، وهذا يكشف عن قدرة الانسان على خلق ما هو
أعظم من الذباب ، فكيف يمكن عدّه عاجزاً عن خلق ذبابة؟
في الجواب نقول :
لا يمكن عدّ هذه العملية خلقاً ، بل هي من قبيل غرس شتلة مأخوذة من شجرة لتصبح بعد
مدة شجرة ضخمة ومثمرة ، وجسم الحيوانات والانسان من قبيل الأشجار التي يمكن إيجاد
أشجارٍ شبيهة لها بعد قطع جزءٍ صغير منها وشتله في مكان آخر ، فيتحوّل بعد فترة
شجرة كبيرة ؛ والتناسخ من هذا القبيل ، وبخاصة أنا نعتقد كون خلية الانسان تحتوي
على كل خصوصيات الانسان ، وتبقى قضية الحياة لغزاً من الألغاز لم يُحل بعد.
جسر نحو التوحيد
في شهر التوحيد
مهما كنَّا ومهما
استطعنا نبقى ضعفاء أمام القادر المطلق ، ومرض السرطان المهلك من نماذج ذلك الضعف.
تنمو خلايا الجسم
بنحوٍ منتظم ومتوازن ، لكن قد تكون هناك خلية يخرج نموّها عن حاله الطبيعي فتنمو
أكثر ممَّا ينبغي أن تنمو وتكبر كثيراً لتتحوَّل إلى غدّة تشلُّ عضلات جسم الانسان
تدريجياً ، والانسان رغم تقدّمه وتطوّره علمياً ما استطاع أن يجد علاجاً لهذا
المرض ، وقرابينه تزداد كل يوم ، هذا مضافاً إلى المرض الجديد الذي يُدعى (الايدز)
، وذلك هو قول الله :
(ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالمَطْلُوبُ)
إلهي ، العزة لك
والقدرة لك والعلم لك والحياة والممات بيدك ، وكل شيء منك ، والسعادة منك نعبدك
وحدك لا شريك لك (إنَّكَ عَلَى كُلِّ
شيءٍ قَدِيرٌ) .
__________________
المثل السابع
والثلاثون :
ذات الله لا مثيل لها
الآية ٣٥ من سورة
النور تشكل المثل السابع والثلاثين من أمثال القرآن الجميلة ، يقول الله فيها :
(اللهُ نُورُ
السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ
فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِىءُ وَلَو لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ
مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ)
تصوير البحث
هذا المثل من أهم
أمثال القرآن المجيد ، وقد هَمَّ المفسرون والعرفاء بتفسيره ، وكلٌّ من الطائفتين
ذكر له تفسيراً خاصاً ، والآية تمثيل بيّن وبليغ لذات الله تعالى ، حيث شبّهته
بالنور ، ويأتي شرحه.
الآية تشتمل على
مثلين
في الآية مثلان ،
الأول هو المستبطن في العبارة : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ والأرْضِ) ، والثاني هو الذي تستبطنه باقي عبارات الآية.
نحن على يقين بأن
الله تعالى ليس نوراً محسوساً لذلك علينا تقدير كاف التشبيه في الآية لتكون
كالتالي : الله كنور السماوات والأرض ، فان تجسيم الله تعالى أمر محال ذاتي. وعلى
هذا تكون الجملة الاولى لوحدها مثالاً.
هل يجوز التمثيل
لذات الله؟
هل يجوز لنا أن
نمثّل لذات الخالق تعالى ونشبِّه ذلك الموجود المعنوي الواجب الوجود بموجودات
مادية ممكنة الوجود؟
الجواب بالايجاب
والسلب معاً ، فلا إشكال في التمثيل وفقاً لما جاء في الآية الكريمة ، فإنَّ الله
نفسه مثّل لذاته ، لكن التمثيل ممنوع كذلك وفقاً لما جاء في الآية ٧٤ من سورة
النحل ، فقد جاء هناك : (فَلا تَضْرِبُوا للهِ
الأمثالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
وإذا كان التمثيل
ممنوعاً وفقاً لما جاء في الآية الأخيرة لماذا مثَّل القرآن لذات الله في الآية ٣٥
من سورة النور؟
جاء الجواب على
هذا السؤال في ذيل الآية ٧٤ من سورة النحل ، فقد ورد هناك : (إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ، أي أنَّه لا مانع من التمثيل لله من قبل الله نفسه ،
أمَّا التمثيل له من قبلكم فلا يجوز ؛ لأنكم لا تعلمون بما تمثّلون به ، فقد
تمثّلون لذاته بما يثبت النقص له ، بينما هو لا يمثِّل لذاته إلَّا التمثيل
المناسب ؛ لأنَّه يعلم بذاته والانسان لا يعلم بها.
شأن نزول الآية ٧٤
من سورة النحل هو أن المشركين كانوا يبرّرون عبادتهم للأصنام بالقول بأنَّ الله
بمثابة الملك والأصنام بمثابة وزراء له ، وبما أنَّه لا يمكن الوصول إلى الملك
فنقترب إلى الوزراء ونتمسك بهم تقرُّباً إلى الملك .
نزلت هذه الآية
لردِّ التبرير المتقدِّم ، معلنة منع التمثيل لذات الله على الاطلاق ، مغلِّطة ذلك
التمثيل ؛ وذلك باعتبار أنَّ الملك أو أي انسان آخر موجود ضعيف ومحدود من حيث
الزمان والمكان ، فلا يمكن للجميع الوصول إليه ، أما الله العالم والقادر فهو
موجود وحاضر في كل مكان وزمان وفي قلب كل انسان ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ،
والاتّصال به ممكن وسهل للجميع ، بل أسهل من الاتّصال بالام والأب والزوج والأخ
والاخت والولد ؛ وذلك لأنه غير محدود ويمكن مناجاته وخطابه في كل لحظة وآن ، وفي
النوم واليقظة ، وعند القيام والقعود ، وفي الصحاري والبوادي ، وفي الشوارع ، وتحت
أي ظرف من الظروف.
__________________
يصف الله العلماء
في الآية ١٩١ من سورة آل عمران قائلاً :
(الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ الله قِياماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانكَ
فقِنا عَذابَ النَّارِ)
إذن ، لا مشكلة في
الاتصال بالله والتواصل معه لكي نحتاج لإيجاده إلى واسطة مثل الأصنام ، ولهذا لا يمكن
تشبيه الله بموجود ضعيف عاجز ، فهو يسمعنا ويرانا عند الصلاة التي ندعوه في كل
واحدة منها مرّتين على أقل تقدير ونقول : (إيَّاكَ نَعْبُدُ
وإيّاكَ نَسْتَعِينُ) ، ولا يمكن قياسه مع ممكن الوجود.
ونتيجة ذلك : عدم
امكانية التمثيل لله إلَّا من قبل الله نفسه فحسب.
بالطبع ، ما تُضرب
له من أمثال توضِّح بعض الجهات من وجوده وتعيننا على معرفة جوانب خاصة منه ، ولا
تمثيل يُبيّن جميع أبعاد وجوده فهو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيءٌ) ؛ باعتبار أن المخلوقات جميعها فانية أما هو فباقٍ ، كما
أنَّ كلَّ شيء متناهٍ وهو غير متناهٍ ، وكل المخلوقات ضعيفة وجاهلة ، وهو قادر
وعالم.
الشرح والتفسير
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ والأرْضِ)
لأجل اتّضاح هذا
المثل الذي شُبِّه فيه وجود الله المقدس بنور السماوات والأرض علينا دراسة خواص
النور.
نور الشمس هو
المصداق الباز والكامل للنور ، وله خواص وآثار متعدِّدة ، أهمها أربع :
١ ـ الهداية
يمكن الاهتداء
بالنور ، ويمكن استخدام نور القمر والنجوم لهذا الغرض. ولهذا يضلُّ الانسان في
الليالي المظلمة. فالاهتداء أثر مهم للنور.
__________________
٢ ـ التربية
والنمو
الأثر المهم الآخر
لنور الشمس هو النمو ، فالانسان والحيوانات والنباتات وجميع الموجودات الحية تنمو
وتتربّى برعاية هذا النور ، وتنعدم الحياة أينما انعدم النور.
نور الشمس ينفذ
إلى عمق ٦٠٠ أو ٧٠٠ متر في البحر ، وتبدأ الظلمات الخالصة فيما بعد هذا العمق ،
ولأجل ذلك كان العلماء يتصوّرون كون الحياة منعدمة في تلك الظلمات ، بينما عثروا
على موجودات حية فيها.
والسؤال المطروح
هنا هو : كيف أمكن للموجودات أن تعيش وتتربى في هذه الأعماق دون نور؟
الحقيقة أنَّ هذه
الموجودات تنال نصيباً من النور ؛ لأن بعض الأغذية التي تُعدُّ في المستويات
الأعلى من هذه البحار تسقط إلى تلك الأعماق لتتناولها الموجودات هناك. وهذا يعني
أن الله قد أعدَّ مطبخاً واسعاً بحجم سطح البحار لإطعام الموجودات الحية في البحر.
فالنمو والتربية
والحياة أثر مهم آخر للنور.
٣ ـ إيجاد القدرة
والحركة
الأثر المهم الآخر
لنور الشمس كمصداق أكمل للنور هو إيجاد القدرة على الحركة وإيجاد الطاقة.
يعتقد العلماء أن
منشأ الطاقة الموجودة هو نور الشمس ، والحرارة التي تصدر من الحطب عند احتراقه هي
في الحقيقة نتيجة لادّخار نور الشمس في الحطب عند ما كان شجرة تنمو بنور الشمس ،
وتتحررّ هذه الطاقة عند احتراق الحطب لتتبدل إلى قوّة محرّكة.
يُعدُّ الفحم
الحجري من مصادر الطاقة ، وقد حصل على طاقته من الشمس كذلك ؛ لانَّه ـ وفقاً
لاكتشافات العلماء ـ عبارة عن بقايا لأشجار تحجّرت في باطن الأرض تدريجياً لتصبح
فحماً بعد مرور زمن طويل.
النفط من أهم
مصادر الطاقة في عصرنا الراهن ، وقد اكتسب طاقته من الشمس كذلك ؛ لأنه عبارة عن
بقايا حيوانات تربّت في البحر وتفسّخت بعد جفاف البحار إثر تحولات
وانقلابات تحصل
على وجه الأرض ، تُدفن بعدها بقايا هذه الحيوانات لتتدّل بمرور الزمان إلى مادة
سوداء معروفة بالنفط. ومن الواضح أن الحيوانات تتغذى من النباتات ، والأخيرة تنمو
بفضل نور الشمس.
الكهرباء من مصادر
الطاقة المهمة ، وهي كباقي مصادر الطاقة تنال قدرتها من الشمس كذلك ، فماء البحر
يتبخّر بواسطة نور الشمس ويصعد إلى الطبقات العليا من الجو ، ثمّ يتبدّل البخار
إلى غيث يسقط على سطح الأرض ، فتتبدل قطراته إلى قنوات وأنهار يُدَّخر ماؤها خلف
السدود ، ويوضع في السدود محركات تربينية تُحرَّك من خلال الماء المتجمّع خلف
السدود عند ما تُفتح منافذ له نحوها.
الريح هو الآخر من
مصادر الطاقة ، وهو يحصل بفضل نور الشمس.
والنتيجة : كل
مصادر الطاقة في عالم المادة تستلهم قوتها وقدرتها من نور الشمس.
٤ ـ رفع موانع
الحياة
من الآثار المهمّة
الاخرى لنور الشمس هو كونه بمثابة مضاد حيوي للميكروبات ، فهو يعمل على تطهير
الأرض من الميكروبات والبكتيريا المضرّة ، والشمس عند ما تسطع تقتل هذه الموجودات
إذا نالتها إشعاعات من الشمس ، ولو لم يكن نورها لتبدّلت الأرض إلى مستشفى واسعة
ومقبرة عظيمة.
إذن ، تعدُّ
الهداية والتربية وايجاد القدرة والطاقة ورفع موانع الحياة من الآثار المهمّة لنور
الشمس.
ومع الالتفات إلى
الخصائص المتقدِّمة لنور الشمس نبتُّ بشرح الآية الشريفة ، لكي يتّضح كيفية تشبيه
الله بنور السماوات والأرض.
كما أن النور سبب
للاهتداء كذلك الله تعالى ، فهو مرشد وهادي الموجودات جميعها ، المادية منها
والمعنوية ، وقد جاء في الآية ٥٠ من سورة طه :
(رَبَّنا الَّذِي
أعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
هداية الله
للموجودات تختلف باختلافها ، فيهدي الله بعضها بالهداية الغريزية وبعضها
الآخر بالهداية
الالهامية وبعضها من خلال التعاليم التي يأتي بها الإنبياء والأوصياء ، والمسلَّم
هو أن الموجودات كلها مشمولة بهداية الله تعالى ، ولو لم تكن هدايته لما اهتدى
موجود أبداً.
على سبيل المثال ،
توجد طيور لا تعرف امها ولا أبيها ؛ لأنها لم ترَ والديها أبداً ، فهما يموتان قبل
تفقس البيوض ، رغم ذلك نرى الفراخ تَخرج من البيوض وهي تعلم منهج حياتها من
الطيران والبحث عن الطعام واختيار الطعام المناسب والتزاوج والتلاقح وصناعة العش
وما شابه ذلك ، فكيف أمكنها تعلُّم ذلك دون أن يكون لها مرشداً من أب أو ام؟ ذلك
عين الهداية الغريزية والتكوينية التي منحها الله سبحانه للموجودات ، (الذي أعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى!)
شملتنا نحن البشر
الهداية التكوينية والتشريعية كذلك ، فمن الذي علَّم حديث الولادة أن يمصَّ ثدي
امه؟ ومَن عَلَّمه أن يبكي عند ما يشعر بالجوع أو العطش أو الألم؟ هذه كلها من
مصاديق الهداية التكوينية ، أما الهداية التشريعية فهي التي شملتنا بواسطة تعاليم
الرسل والأنبياء والأئمة.
كما أنَّ نور
الشمس يربّي الموجودات ويجعلها تنمو كذلك الله خالق الموجودات فهو يربّيها ، ولهذا
اطلق عليه (رب العالمين) ، ونكرّر هذه الصفة مرّتين في كل صلاة نصلّيها.
تربية الله
للانسان تبدأ منذ انعقاد النطفة وتستمر حتى نهاية عمره ، ولو انقطع فيض الله
ورعايته لنا لحظة واحدة انتهينا جميعاً ، ولهذا نقول بأن حياة جميع الموجودات بيد
الله الحسيب.
الأثر الآخر لنور
الشمس هو كونه منشأ للطاقة ، والله تعالى منشأ لجميع الطاقات المتصوّرة في العالم
حتى الشمس التي هي منشأ كل طاقة مادية على وجه الأرض ، فهي من مخلوقاته تعالى
وتستلهم طاقتها منه ، ولو انقطعت فيوضات الله تعالى عن الشمس للحظة واحدة لتلاشت
بحيث لا يبقى منها شيء رغم عظمتها وضخامتها ، ولهذا يُقال : (لا حول ولا قوّة
إلَّا بالله العلي العظيم).
الله عظيم يمكنه
منح المخلوقات حركة وقدرة وقابلية ، وهو الوحيد القادر على خلق موانع مادية للحركة
، وقادر كذلك على رفعها ، فلو أراد تلاشت كل قدرة ، أمَّا البشر فضعيف إلى
درجة قد يقتله
ميكروب أو فيروس لا يمكن رؤيته إلَّا بمجهر قوي.
علينا التدقيق في
عبارات تتردَّد على ألسنتنا كثيراً من قبيل : (لا حول ولا قوّة إلَّا بالله) أو (بحول
الله وقوّته أقوم وأقعد) ، فإن التدقيق فيها يوصلنا إلى نيتجة هي : لو رفع الله
فيضه عن الانسان لفقد الانسان كل قواه ولأماتته موجودات ضعيفة جداً ولعجز عن حفظ
لعاب فمه كما يعجز عن ذلك حديث الولادة.
الآثر الآخر لنور
الشمس هو عمله كمضادٍ حيوي ، كما تفعل ذلك المضادات الحيوية والمطهرات الصناعية ،
والله يعمل كذلك ، فهو يرفع موانع الحياة ليتسنَّى لموجودات من قبيل الانسان أن
يعيش على وجه الأرض.
على سبيل المثال ،
نذكر الأسماك كغذاء للبشر ، فاناث الأسماك تفرز بيوضاً كثيرة جداً لو سمح للبيوض
جميعها أن تعيش لاكتضَّ البحر بالأسماك بحيث تسلب ماء البحر قدرته على الحركة ،
لكن تدابير الله تعالى كانت في خلق موجودات اخرَى في البحر تعيش على هذه البيوض
وتقضي عليها ، إيجاداً للتوازن والتعادل في بيئة البحر.
ومثال آخر ، بعض
النباتات تنمو بسرعة فائقة جداً يمكنها أن تغطي مدينة كاملة في فترة قصيرة. ومثال
آخر كذلك هو وجود حيوانات سريعة التكاثر لو سمح لها لما تركت مساحة ومجالاً للبشر
وباقي الموجودات. لكن الله تعالى رفع هذه الموانع كلها وجعل تعادلاً في البيئة
ليتسنى للجميع العيش معاً.
تحطُّ ميكروبات
كثيرة على عيون الناس يومياً وبخاصة في المدن الملوّثة ، بامكانها أن تعمي عيون
البشر جميعهم في فترة قصيرة لكن الله خلق الدموع لدفع هذه الميكروبات وقتلها ، فان
الدمع يحتوي على مواد من صنف المضاد الحيوي يطهّر العين ، وهي مواد موجودة في لعاب
الانسان كذلك وتلعب نفس الدور الذي تلعبه في الدموع.
إذن ، الله كالنور
سبب للهداية والتربية والطاقة والحيوية ويمنح الحياة ويرفع الموانع عنها ، ولهذا
هو :
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ والأرْضِ)
الأشياء التي
شُبِّهت بالنور
في الآيات
والروايات شُبِّهت أشياء كثيرة بالنور ، نكتفي بذكر خمسه نماذج.
١ ـ ذات الله
تعالى ، (اللهُ نُورُ
السَّمَاواتِ والأرْضِ) ، وقد تقدَّم شرح ذلك في الأسطر السابقة.
٢ ـ القرآن المجيد
، كما جاء في الآية ١٥ من سورة المائدة : (قَدْ جَاءَكُمْ مِن
اللهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبينٌ) ، والنور في هذه الآية إشارة إلى القرآن الكريم.
٣ ـ الرسول الأكرم
صلىاللهعليهوآله ، كما ورد ذلك في الآية ٤٦ من سورة الاحزاب : (وَدَاعِياً إلى اللهِ بإذْنِهِ وسِراجاً
مُنيراً)
٤ ـ أئمة الهدى عليهالسلام فهم نور الهُدى في ظلمات الضلال ، كما جاء ذلك في زيارة
الجامعة الكبيرة : «خَلَقَكُم اللهُ أنْواراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِين».
٥ ـ العلم كذلك
شُبِّه بالنور ، فقد ورد ما يلي في الرواية : «العلمُ نورٌ يقذفهُ اللهُ في قلبِ مَن
يشاء» .
يُذكر أن العلم من
حيث الحصول على قسمين :
الف
: علم اكتسابي
تحصيلي ، وهو الذي يحصل عليه الانسان بالسعي والجهد في المدارس والحوزات
والجامعات.
باء
: علم إلهي ، وهو
الذي يقذفه الله في القلوب الجديرة والمفعمة بعشق الله والطاهرة ، وهو ليس
اكتسابياً.
هذه خمسة نماذج
ممَّا شُبِّه بالنور ، وعند التدقيق فيها نراها تشترك في شيءٍ واحدٍ ، وهو الله
تعالى ، فالقرآن المجيد كلام الله ، والرسول صلىاللهعليهوآله مبعوث من قبل الله ، والائمة خلفاء رسول الله ، والعلم
يقذفه الله في القلوب المؤهلة. وعلى هذا ، جميع الأنوار ترجع إلى الله تعالى.
(مَثَلُ نُورِه
كمِشكَاةٍ فيها مِصْبَاحٌ ...)
__________________
تقدَّم أن الآية
٣٥ من سورة النور عبارة عن مثلين ، مضى الحديث عن المثل الأول حيث شبِّهت ذات الله
بنور السماوات والارض ، أمَّا المثل الثاني فيبدأ من عبارة (مَثَلُ نُورِهِ ...) إلى آخر الآية.
طرحت بحوث كثيرة
في ذيل المثل الثاني ، فكل صاحب تخصُّص نظر إلى الآية من زاوية تخصصه ، وفسَّر
علماء الكلام الآية من وجهة نظرهم ، وفسرها الفلاسفة من وجهة نظرهم الخاصة ،
وفسَّرها العرفاء من وجهة نظر عرفانية ، وفسَّرها مفسرو القرآن بما يتلاءم مع
اختصاصهم ، سنشير إلى بعض من هذه التفاسير ، وقبل البتِّ بالتفسير نورد توضيحاً
حول السراج أو المصباح.
السراج في التاريخ
كان الانسان يعيش
في الظلام قبل اكتشاف النار ، وما كان يستفيد إلَّا من الأنوار الطبيعية ، مثل
الشمس والقمر والنجوم ، ثم اكتشف أكبر وأهم نعمة إلهية ، وهي النار ، بعد ما شاهد
القدحة الحاصلة من اصطكاك شيئين أو احتراق مواد جافة لسبب ما ، عندها حصل تحوّل
عظيم من جميع الجوانب في حياة البشر ، بحيث يمكن الادّعاء بأنَّ النار أهم سبب
للتقدُّم الصناعي ولتسهيل العيش على الأرض.
استخدم الانسان
النار لإيجاد الحرارة وللإضاءة كذلك ، وصنع لهذا الغرض وسائل تكاملت تدريجياً ،
منها : السراج الذي اعدَّ لأجل استخدام النار للإضاءة.
السراج الذي كان
يستخدمه الانسان في عصر الجاهلية وأوائل ظهور الاسلام داخل ضمن سلسلة التكامل الذي
نالته الصناعات البشرية ، وهو آنذاك كان يتكوّن من خمسة أجزاء ، ومورد الآية هو
السراج الذي كان يُستخدم آنذاك ، لنتعرف هنا على أجزائه الخمسة.
١ ـ الفتيلة ، وهي
الخرقة التي تجتذب الوقود لتحترق وتُضيء ، والتي عُبِّر عنها بالمصباح في الآية
الكريمة.
٢ ـ الزجاجة ، وهي
التي توضع فوق الفتيلة لكي تنظم جريان الهواء ، ولا تترك الفتيلة تخرج منها دخاناً
بسبب عدم الاحتراق الكامل ، الأمر الذي يؤدي إلى اسوداد السقف بسخام
المصباح ، كما أن
الانارة ضعيفة دون هذه الزجاجة.
٣ ـ الوعاء الذي
عبّر عنه القرآن بالمشكاة.
السراج المزبور
يعمل جيداً في الظروف الاعتيادية لكنه ينطفأ عند هبوب الريح ، كما أن الزجاجة
تنكسر إذا صدمها شيءٌ ، ولهذا كان يستدعي وجود مكانٍ معدٍّ له ، وعلى هذا الأساس
تُصنع أوعية خاصة تُقسَّم إلى قسمين :
الف
: الأوعية المحمولة
، وهي مستطيلة يحيطها الزجاج من كل الأطراف ، فيها نافذة يدخل من خلالها السراج ،
ويمكن حملها ونقلها من مكان إلى آخر.
باء
: الأوعية الثابتة
التي لا يمكن نقلها من مكان إلى آخر ، وغالباً ما توضع حيث يوجد رفّ أو شباك يطل
على ساحة البيت ليضيء المصباح للبيت ولساحته ، ويجعل فوقه منفذ لتبادل الاوكسجين
ونافذة لإدخال السراج في الوعاء. وأحياناً تجعل الزجاجة في الجانب المطل على
الساحة ويترك الجانب المطل على البيت دون زجاجة.
فائدة هذا الوعاء
هو المنع من انطفاء الشعلة أو تحطم زجاجة السراج.
٤ ـ الوقود ،
الأمر الآخر الذي يستدعيه السراج هو الوقود الذي تجتذبه الفتيلة ويشتعل بعد إيقاد
النار في الفتيلة .
٥ ـ مصدر الطاقة
والوقود ، إذا كان وقود السراج زيت الزيتون فلا بدَّ وأن يكون مصدر لهذا الزيت ،
وهو شجرة الزيتون.
والنتيجة : كون
شجرة الزيتون والوعاء والزجاجة والفتيلة تشكّل مجموعها عوامل خمسة لتوليد النور
والإضاءة ، وهي امور أشارت لها الآية الكريمة.
الشرح والتفسير
(مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ في زُجاجة الزُّجَاجَة كَأنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)
__________________
زجاجة هذا السراج
شفافّة ونظيفة ولامعة وتنير كإنارة النجم في السماء.
(يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبَارَكَةِ زَيْتُونَة لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)
مصدر طاقة هذا
السراج شجرة الزيتون المباركة والنابتة لا في شرق البستان بحيث تكون في الظلِّ عند
شروق الشمس ولا في غرب البستان بحيث تُحرم من نور الشمس عند الغروب ، بل هي وسط
البستان تتمتّع بنور الشمس والهواء الطلق بأفضل ما يمكن.
(يَكَادُ زيْتُهَا
يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْه نَارٌ)
وقود السراج زيت
الزيتون ذات جودة عالية جداً ، يؤخذ من الشجرة المزبورة ، وهو شفّاف ويبدو بحدّ
ذاته منيراً ومشعاً دون إيقاد النار فيه ، فهو خالص جداً.
(نُورٌ عَلَى نُورٍ
يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)
النور يصدر من كل
أجزاء السراج ، من المصباح ومن الزجاجة ومن الوعاء ، بحيث يبدو السراج نوراً
متراكماً ، والله سبحانه وتعالى يهدي ويرشد مَن يشاء إلى هذا النور الإلهي.
(وَيَضْرِبُ اللهُ
الأمْثَالَ للنَّاسِ واللهُ بكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ)
يضرب الله هذه
الأمثال لكي يستوعب الناس بمختلف مستوياتهم المفاهيم العالية بنحو أفضل ، والله
عليم بكل شيء.
خطابات الآية
١ ـ ما المراد من
نور الله؟
شبِّه نور الله
تعالى في هذه الآية بالسراج ذات الأجزاء المتقدّم ذكرها ، فما ذلك النور الذي
شبِّه بالسراج؟
أبدى المفسرون
نظريات مختلفة في هذا المضمار ، لكنَّ هناك نظرية منسجمة مع ما يراه المتكلمون ،
وهي كون المراد منه نور الإيمان.
نور الايمان شعلة
متّقدة ومصباح في زجاجة قلب الانسان ، وقلب الانسان ونور الايمان وضعا في وعاء
الصدر. المشكاة هي صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه والمصباح نور الإيمان المتّقد في
قلب المؤمن. يستلهم نور الايمان المتّقد في قلب المؤمن طاقته من الكلمات النورانية
للقرآن
المجيد وروايات
المعصومين ، أي أن الآيات والروايات بمثابة زيت الزيتون الذي يؤمّن وقود سراج
الايمان الكائن في قلب الانسان ، ولهذا تزداد نورانيته كل يوم وكلّما اقترب من
الآيات والروايات.
مصدر وقود الايمان
(الآيات والروايات) هو شجرة الوحي المباركة التي هي لا شرقية ولا غربية ، فليست
ذات طابع مادي بحت ولا ذات طابع معنوي بحت ، بل تغطي كل الجوانب والأنحاء. وهذا
الوقود زلال وشفاف وصاف جداً ، فلا خطأ ولا زيغ في الآيات وكلمات المعصومين ، فهي
كلمات مضيئة ولامعة لا تحتاج إلى شيء آخر لإيقادها.
كلٌّ من الآيات
والروايات نور على نور ، آيات الله في القرآن المجيد نور ، وكلمات المعصومين نور
على نور كلمات الله.
إن الله يهدي من
يشاء من خلال آياته وروايات المعصومين ، والله يضرب الأمثال المتنوّعة للناس ، وهو
يعلم ما يضرب من الأمثال.
إذن ، وفقاً لهذا
التفسير ، المراد من نور الله هو نور الإيمان ، والشاهد عليه ما ورد في بعض الآيات
من التعبير بالنور للاشارة إلى نور الايمان ، كما جاء ذلك في آية الكرسي :
(اللهُ وَليُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والَّذِين
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِن النُّورِ إلى
الظُّلُمَاتِ) .
هذا مضافاً إلى
الروايات التي دلَّت على أن كلمات المعصومين نور ، وبهذا يكون المراد من النور في
الآية هو نور الإيمان.
٢ ـ «يَهْدِي
اللهُ لنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ» ما ذا تعني؟
سؤال
: هل أن الله يهدي
من أراد هدايته ولا يهدي من لم يرد هدايته؟ أو هل الهداية الإلهية المبتنية على
اساس الحكمة تشمل أولئك الذين شملتهم مشيئة الله فقط؟
الجواب
: مشيئة الله تتبع حكمة الله دائماً ، والحكيم يهدي وفق
محاسبات لا اعتباطاً.
__________________
إن هذه الهداية
الالهية شملت سلمان الفارسي الذي طوى مسافات شاسعة بين ايران والمدينة وتحمَّل
المشاق والمتاعب الكثيرة لأجل لقاء الرسول وقبول دينه ، وقد كان من أوائل المسلمين
الذين لبّوا دعوة الرسول وبقى على عقيدته وصمد وقاوم ودافع عنها حتى آخر لحظات
عمره الشريف.
ولم تشمل هذه
الهداية أمثال أبي لهب وأبي سفيان ؛ لأنهما كانا إلى جنب الرسول وكانا يرانه كل
يوم ويسمعان حديثه وآيات الله ، ولم يزدهما ذلك إلَّا عصياناً ولجاجاً ومقاومة
لهذا الدين.
من الواضح أن شمول
أو عدم شمول الهداية لم يكونا اعتباطاً بل كانا عن حكمة ، فقد تحمَّل سلمان المشاق
والمتاعب الوافرة لأجل هذا الدين ، وتحمَّل عبء العبودية والرق مرات عديدة وتحمَّل
التعذيب ، ولم تثبّط هذه الامور عزيمته على لقاء الرسول ، فكان جديراً للهداية
حقاً ، أما العصاة المتعصّبون وعبدة الأهواء والمغرورون ، فكان التعصّب والغرور
واللجاجة قد ضرب بينهم وبين نور الايمان ستاراً يمنع من نيلهم من هذا النور ،
فكانوا دون نصيب منه.
لا يمكن للأعمى أن
يهتدي بنور الشمس مهما كان قوياً ، وهذا ليس لنقص في نور الشمس بل لسقم في عينيه.
والخفاش إذا كان
يعيش في الظلام ويهرب من نور الشمس سعياً وراء الظلمات فلأجل أنه غير جدير ولا
مؤهَّل لنور الشمس ، بل ذلك هو شأنه.
النور نور مهما
كان ، وما علينا هو إعداد أنفسنا للاستلهام منه ، فنتجنّب الرذائل الأخلاقية لكي
نكتسب أهليه الهداية الالهية.
إذن ، الآية : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) تعني : يهدي الله لنوره من وجدت فيه الأهلية والجدارة.
والآية : (وَاللهُ بكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) تعني : الله عالم بمن تحققت فيه هذه الجدارة فيهتدي ومن لم
تتحقق فيه فلا يهتدي بل يُحرم من الهداية. وبتعبير آخر : لا يتوفّق الانسان لعمل
إلَّا إذا عشقه ، ولو أراد الانسان الهداية الإلهية فعليه أن يحب الله ويترك
الأهواء واتّباع الشيطان.
شكى شخص عند أحد
العظماء بأنه لم يُوفّق لرؤية صاحب الأمر والزمان (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب
مقدمه الفداء) حتى في المنام ، رغم حبه إياه وعشقه الوافر له.
فقال له العالم :
أدلّك على طريق يبلغ بك إلى الرؤية ، كُل هذه الليلة طعاماً مالحاً جداً ونم دون
أن تشرب ماء بعده.
عمل هذا الشخص
بوصفة هذا العظيم ، فنام عطشاناً ، وقد سرق العطش منه النوم إلَّا أنه كان ينام
بين الحين والآخر وكلَّما نام شاهد في المنام ماءً وأنهاراً ومنامات تتعلَّق
بالماء فقط ولم يرَ في المنام شيئاً غير الماء. وفي الصباح استيقظ وقال مع نفسه :
عملت بوصفه ذلك الرجل ولم أرَ إلَّا الماء ، فذهب وحكى له ما جرى ، فأجاب ذلك
الرجل : إنك كنت أمس عطاشاً ومشتاقاً للماء حقاً فما رأيت في منامك غيره ، ولو كنت
مشتاقاً لرؤية الحجة بن الحسن حقاً (عجل الله فرجه) لرأيته.
يناسب بحثنا رواية
وردت عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقد قال في طعم الإيمان : «ثلاثٌ مَن كنَّ فيه ذاق طعم
الإيمان ، مَن كان لا شيء أحبُّ إليه من الله ورسوله ، ومَن كان لإنْ يُحرَق
بالنار أحب إليه مِن أنْ يرتدَّ عَن دينه ، ومن كان يحبُّ لله ويُبغض لله» .
وجود هذه الثلاثة
في الانسان يعني الالتفات والتوجّه الخالص لله لا للزوج والأولاد والأهواء
والجيران والأصدقاء والمعارف ، كما تعني اختيار الانسان الحرق بالنار فيما لو
خُيِّر بينه وبين البقاء على دينه ، كما تعني أن لا يعادي إلَّا مَن أراد الله
معاداته وان لا يحب إلَّا من أحبه الله ، أي أن علاقاته تبتني على حبّ الله وبغضه
، عندئذٍ يذوق الانسان طعم الإيمان وحلاوته.
وهناك رواية اخرى
يقول فيها الرسول صلىاللهعليهوآله :
«مَن كَانَ أكثرُ
همّه نيل الشهوات نزعَ من قلبه حلاوة الإيمان» .
كيف يقوى إيماننا؟
سؤال
: مع الأخذ بنظر
الاعتبار الأهمية القصوى للايمان ، فما نعمل لتقويته؟ أو كيف يمكننا
__________________
أن نوقد نور
الايمان في قلوبنا؟
الجواب
: هناك أساليب
متعددة لتقوية الإيمان نشير إلى بعضٍ منها :
الاول : التعرُّف على
القرآن
يقوى إيماننا أكثر
كلَّما تعرَّفنا على القرآن أكثر ، ويضعف إيماننا كلما ابتعدنا عن ينبوع السعادة
هذا ، وقد صرَّحت بذلك الآية الثانية من سورة الأنفال :
(إِنَّمَا
المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلى ربِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
أيُّها الأعزة ،
عليكم التعرُّف على القرآن أكثر فأكثر ، فاتلوا القرآن وراجعوا تفسيره ، وبخاصة أن
تفاسيراً جيدة أصبحت في متناول اليد هذا العصر.
يسرّني أن أرى بعض
المسلمين الذِين يعيشون بين الكفار قد حافظوا على دينهم وإيمانهم بل ازدادوا
إيماناً بفضل هذا الاسلوب.
الثاني : التدقيق في
أسرار الخلق
الدنيا التي
نعيشها مفعمة بآيات الله تعالى ، وإذا سبق وأن قيل في ورقة الشجرة : إنها بمثابة
كتاب لُاولي الألباب ، يقال فيها اليوم : إنها مكتبة لذوي العقول ، وتكفي الانسان
ليتعرَّف على الله إذا لم يمر منها دون تفكّر ، فهي من عجائب الخلق رغم كثرتها
وتواجدها في كل مكان من ساحات المنازل والشوارع والازقة.
يقول العلماء :
إذا وضعنا الورقة تحت مجهر نجدها تتكون من بناء ذات عدَّة طبقات ، لكل طبقة بناء
خاص ومسئوليات خاصة. في الورقة شبكة معقدة وطويلة ومنتظمة من الأنابيب ، لا يمكن
للمهندسين تصميم هكذا شبكة لأنابيب المياه في مدينة. ولهذا يقال : كل ورقة مكتبة
لمعرفة الخالق.
لبلوغ هذا الهدف ،
يمكن للشباب أن يطالعوا ما دوِّن في علم الأحياء والنبات ، والتي تُدرّس بعضها في
الإعدادية ، وكلَّما دققنا في خلق الله كلما زادت معرفتنا ، وكانت نتيجة هذه
المعرفة وثمرتها حب الله ، وفاكهة حب الله الصون من الخطأ وارتكاب المعصية.
الثالث : التقوى
والورع
الاجتناب عن
ارتكاب الذنوب والسير في طريق الاسلام المستقيم من عوامل تقوية الايمان ، وكلَّما
زاد تقوى المؤمن وورعه كلما تنوّر قلبه بنور الإيمان أكثر فأكثر ، وكذا العكس ، أي
كلَّما ضعف تقوى الانسان كلما ضعف إيمانه.
كما أن هناك علاقة
متبادلة بين الايمان والتقوى ، فكما أن التقوى تقوّي الايمان كذلك الايمان فهو
يقوى التقوى ويزيد فيه.
الرابع : التوسّل
والدعاء
التوسّل بلطف الله
والمعصومين عليهمالسلام من عوامل تقوية الإيمان ، فلا ينبغي الغفلة عنهما ،
والمفروض في التوسّل والدعاء أن يقترنا بحضور القلب والواقعية ، وأن ينطلقا من
الإحساس بالحاجة حقاً ، فلا ندعو ولا نتوسل إلَّا ونعتبر أنفسنا فقراء محتاجين ،
ونخاطب الله ونقول : (لا نأمل شيئاً إلَّا منك) أو (مَن لنا غيرك)؟
لو أحكمنا علاقتنا
مع الله تعالى أصلح الله علاقتنا مع باقي المخلوقات.
أتمنى أن نبلغ
منازل الإيمان العليا من خلال العمل بهذه الأوامر والأساليب.
في نهاية البحث
ننقل حديثاً جميلاً عن الرسول صلىاللهعليهوآله يقول فيه : «إنَّ أعلى منازل الإيمان درجة واحدة مَن بلغ
إليها فقد فاز وظفر ، وهو أن ينتهي بسريرته في الصَّلاح إلى أن لا يُبالي لها إذا
ظهرت وأن لا يخاف عقابها إذا استرت» .
مباحث تكميلية
تفاسير متباينة
لآية واحدة!
قلنا : للآية
تفاسير مختلفة ، تقدَّم تفسير واحد وسيأتي تفسيران (التفسير الفلسفي والتفسير
الروائي) ، وقبل التعرُّض لهذين التفسيرين ينبغي الإجابة عن السؤال التالي :
هل يمكن أن يكون
عدَّة تفاسير لآية واحدة؟ وهل يمكن أن يكون هناك عدَّة معاني لجملة
__________________
واحدة وفي وقت
واحد؟ وهل يجوز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد؟
الجواب : نعتقد أن
ذلك ليس جائزاً فحسب بل يُعدُّ فناً ويكشف عن بلاغة المتكلم وجمال وعمق كلامه ؛
فاستعمال اللفظ في أكثر من معنى من محاسن الكلام وكماله .
وعلى هذا ، فلا
مانع للآية أن يكون لها سبعون تفسيراً قصدها المتكلم جميعاً ، ونجد نماذج لذلك في
باقي مجالات اللغة العربية بل حتى غير العربية. وعلى سبيل المثال ذُكر سبعون معنى
لمفردة العين ، كعضو الانسان المعروف والذهب والشمس وغير ذلك. وقد وصف أحد الشعراء
الرسول صلىاللهعليهوآله بالبيتين التاليين :
المرتجى في
الدُّجى والمبتلى بعمى
|
|
والمشتكى ضمئاً
والمبتغى ديناً
|
يأتون سدته من
كل ناحية
|
|
ويستفيدون من
نعمائه عيناً
|
أي أنَّ طوائف
أربع تأتي للرسول وتطلب منه شيئاً ، هم :
١ ـ المبتلون
بالظلمات يأتون لعين وشمس وجوده.
٢ ـ العُمي الذين
يقبلون عليه لنعمة عينه.
٣ ـ الفقراء
يأتونه لطلب العين ، أي الذهب.
٤ ـ المسلمون
الذين يشعرون بالظمأ فيقدمون له لطلب عين الماء.
ضمَّن هذا الشاعر
الماهر المعاني الأربعة للعين في مفردة العين التي وردت في شعره.
على أي حالٍ ، لا
مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحدٍ ، ولهذا يمكن للآية الواحدة أن يكون
لها عدَّة معاني وتفاسير ، على أن يكون لكلِّ تفسير شواهده وقرائنه لا أن يكون
تفسيراً اجتهادياً وبالرأي ، فنحن ممنوعون من ذلك.
بعد هذه المقدمة
نَبتُّ بالتفسيرين الآخرين لهذه الآية.
الف : التفسير
الفلسفي
ذكر الفلاسفة
تفاسير متعدِّدة لهذه الآية نشير إلى واحدٍ منها.
__________________
يقول الفلاسفة :
هناك ثلاثة عوالم ، هي :
١
ـ عالم المعقولات : وهو عالم العقول والمجرّدات ، أي عالم ما وراء المادة ، وهو عالم لا زمان فيه
ولا مكان ولا جسم ولا أجزاء.
٢
ـ عالم النفوس : وهو العالم الذي تلتقي فيه المجرّدات بالمادة ، مثل روح الانسان التي هي من
المجرّدات تلتقي بجسمه الذي هو مادي.
٣
ـ عالم الأجسام : وهو الذي أشارت إليه العبارة : (مَثَلُ نُورِهِ) ، فهي تعني نور الوجود ، فقد شبَّه الفلاسفة الوجود بالنور
في كثيرٍ من مباحثهم ، وقالوا هنا : المراد من النور هو نور الوجود الذي يقع في
ثلاث مراحل ، في عالم المجردات توجد الملائكة ، وفي عالم النفوس يوجد الناس وفي
عالم الأجسام توجد الأجسام الاخرى.
المراد من المصباح
الذي ورد في الآية هو عالم العقول ، وهذه العقول تقع في الزجاجة التي هي عالم
النفوس ، وهذه العقول التي في النفوس توضع في مشكاة تُدعى أجسام. ينشر الله نور
الوجود ، حيث خلق العقول والمجردات أولاً ثم الزجاجة التي هي النفوس ثمّ الوعاء
والمشكاة ، وهو عالم الأجسام ، أما شجرة الزيتون المباركة فهي ذات الله تعالى ،
التي هي مصدر كل الموجودات في العالم ، وأما الزيت فهو فيض الوجود الذي ينبع من
الله تعالى.
الخلاصة : فسَّر
الفلاسفة النور الالهي بالوجود ، وطابقوا المصباح والزجاجة والمشكاة على العوالم
الثلاثة.
باء : التفسير
الروائي
يستفاد من
الروايات الواردة في تفسير هذه الآية أن المراد من المصباح هو العلم ، فهو سراج
منير يهتدي به الناس ، والمراد من المشكاة قلب الرسول صلىاللهعليهوآله الطاهر ، والمراد من الزجاجة هو وصي الرسول ، أي الامام
علي عليهالسلام ، فقد حافظ على الرسول وآثر بنفسه لأجل الرسول وتحمَّل
الأخطار والمشاق في هذا المجال ، والمثال البارز لهذا الكلام دفاعه عنه في معركة (احد)
، فقد كتب الشيعة والسنة أن مَن تبقى حياً من المسلمين فرَّ إلَّا علي فقد عكف في
ساحة الحرب دفاعاً
عن الرسول وللذود عنه فكان يحوم حوله ويواجه كل من قصد الرسول وأراد قتله.
انتهت معركة احد
وعلي عليهالسلام يحمل معه جروحاً كثيرة ، عدَّتها بعض الروايات إلى تسعين
جرحاً ، وفي رواية وردت عن الامام نفسه يقول فيها : «أصابني يوم احد ست عشر ضربة
سقطت إلى الأرض في أربع منهنَّ ، فأتاني رجل حسن الوجه ، حسن اللمّة ، طيّب الريح
، فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال : أقبل عليهم ، فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله ،
وهما عنك راضيان» قال علي عليهالسلام : «فأتيت النبي صلىاللهعليهوآله فأخبرته فقال : يا علي أقرّ عينك ذاك جبرئيل» .
جملة (نورٌ على نورٍ) تشير إلى الأئمة الاثنى عشر ، فكلٌّ منهم نور على النور الذي
سبقه ، والمراد من الشجرة المباركة هو الشجرة الإبراهيمية المباركة التي تفرَّع
منها الرسول صلىاللهعليهوآله ، والمراد من (لا شَرقِيَّة وَلا
غَرْبِيَّة) هو نفي التوجُّهات اليهودية والمسيحية .
__________________
المثل الثامن
والثلاثون :
سراب الحياة
جاء ما يلي في
الآية ٣٩ من سورة النور :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمآنُ مَاءً حتى إذَا جَاءهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حسابَهُ واللهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ)
تصوير البحث
وردت هذه الآية في
الكفار غير المؤمنين ، عكس آية المثل السابق ، حيث وردت في المؤمنين (وفقاً لأحد
التفاسير) ؛ فهي أجابت على التساؤل التالي : هل تقبل الأعمال الحسنة لهؤلاء عند
الله أم لا تُقبل منهم أيٌّ من الأعمال الحسنة؟ جواب الآية على هذا التساؤل كان من
خلال ضربها مثلاً يأتي شرحه.
الشرح والتفسير
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)
لأجل اتّضاح معنى
الآية ينبغي شرح المفردتين (سراب) و (قيعة).
السراب من مادة
سَرْب ، وتعني الحركة والجري من الأعلى نحو الأسفل ، ففي العربية مفردات دقيقة ،
فقد وضع العرب للجري من الأعلى إلى أسفل مفردة غير التي وضعوها للجري من الأسفل
إلى الأعلى أو الجري على الارض المستوية ، أي أنَّهم كانوا يضعون مفردة
مستقلة للحالات
المتباينة والمختلفة ، فللجري من الأعلى إلى الأسفل وضعوا (سَراب) ، والذي تورَّط
بالسراب يقال : (سَرَب) ، كما قد يُطلق (سَرْب) على الماء الجاري ؛ لأنه يجري
ويسيل من الاعلى إلى الأسفل دائماً ، أما علميّاً فالسراب ليس ماءً بل يشبه الماء
وينشأ من انكسار الضوء .
حرارة سطح الارض
إذا ازدادت سببت ترقيق طبقات الجو القريبة من سطح الأرض ، والضوء الذي يأتي من
الطبقات العليا ينكسر عند ما يصل سطح الأرض ، ويبلغ الانكسار إلى مستوى الانعكاس
الكامل ، فيعكس لون السماء الأزرق فتبدو طبقات الجو القريبة من سطح الأرض ماءً ،
وهو ما يُطلق عليه السراب.
أرجع بعض العلماء
قصة سعي هاجر زوجة إبراهيم عليهالسلام بين الصفا والمروة إلى رؤيتها السراب ، وخلاصة القصة : أن
هاجر صعدت جبل الصفا سعياً نحو الماء فشاهدت سراباً على جبل المروة ، فركضت نحو
المروة ، لكنها لم تجد ماءً ، فنظرت إلى الصفا فرأت سراباً فركضت نحوه كذلك ولم
تجد ماءً عند ما بلغته ، واستمر سعيها للبحث على الماء بين الجبلين سبع مرَّات حتى
نبعت عين زمزم تحت رجلي اسماعيل عليهالسلام ، وبذلك نجيا من الموت .
اتضح بذلك معنى
السراب لغةً وعلمياً ، لكنَّ المعنيين غير منظورين في الآية ، والمراد من السراب
في الآية المعنى الكنائي ، الذي هو عبارة عن الشيء الذي يبدو جميلاً وخلَّاباً من
بعيد ، وهو أجوف في الواقع.
مفردة (قيعة) تعني
الصحراء الخالية من الماء والكلأ ، واختُلِف في كون هذه الكلمة مفرداً أو جمعاً ،
والإنصاف أنَّها مفرد ، كما هو حال السراب.
إذن ، من كان نور
الإيمان منطفأً عنده ولا إيمان له فان أعماله الصالحة وعباداته وسجداته وانفاقه
وإعاناته كسراب في صحراء جرداء خالية من الماء والكلأ.
(يَحْسَبُهُ الظمآنُ
مَاءً)
__________________
الظمأ يعني العطش
، والظمآن هو العطشان ، والسراب يجذب العطشان نحوه ؛ باعتبار حاجته الملحّة للماء.
(حَتَّى إذَا جَاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)
الظمآن بعد ما يرى
السراب ، يتحرّك باتجاهه ، وعند ما يصل إليه لا يجد ماءً ، فينظر إلى حيث كان ،
فيرى سراباً آخر ، فيتّجه نحوه كذلك ، وهذه العملية تستمر هكذا ، ممَّا يؤدّي إلى
ازدياد عطشه. هذا هو شأن الكفار يوم القيامة ، فهم يبحثون عن أعمالهم الحسنة التي
أدوها في الدنيا لعلَّها تنجيهم ، لكنهم لا يحصلون على شيء فيرجعون خلو اليدين ؛
لأن أعمالهم كانت بمثابة السراب الذي يبدو ماءً وما هو بماء.
(فَوَجَدَ اللهَ
عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)
يتعطش الكافر يوم
القيامة إلى الأعمال الصالحة ، فيرى من بعيد تلاً من أعماله فيتّجه نحوها ، وعند
ما يقترب منها يجدها لا شيء بل يجد الله (أي يجد عظمته أو عذابه) يهتمُّ بحسابه
ويريه جزاء أعماله القبيحة.
(واللهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ)
لا يتوانى الله في
حساب الكفار ، بل يُسرع في حساباتهم. وحساب يوم القيامة يختلف عن الحسابات العادية
التي نمارسها يومياً ، فهو حساب معقّد ودقيق ويستدعي وقتاً طويلاً ، فمن الصعب
جداً أن تُراجع أعمال الانسان كلها منذ بداية خلقته ، سواء التي نفذّها بيده أو
برجله أو بلسانه أو بقلبه أو بعينه أو اذنه.
رغم ذلك جاء في
رواية : «إنَّه تعالى يُحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر» ، وهذا هو معنى (واللهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ)
لكن يا ترى كيف
يمكن هذا؟
للاجابة على هذا
السؤال ينبغي إلقاء نظرة على بعض منجزات البشر.
يوضع في الطائرة
صندوق يُدعى الصندوق الأسود ، وهو في الحقيقة نظام مراقبة يشرف
__________________
على حركات
وإيعازات الطيّار بدقة ، وإذا برز نقص أو إشكال فني في الطائرة يحدّده مباشرة حتى
لو سقطت الطائرة وتحطّمت وقُتِل مَن كان فيها.
النموذج الآخر
الحاسوب الذي تستخدمه المخابرات في العالم ، فهي قادرة على سرد كل معلومات ذات
علاقة بحادث أو قضية أو شخص ما في لحظات من خلال حاسوباتها.
والنموذج الأبسط
لذلك أجهزه الحاسوب التي تحدّد ساعات دخول وخروج الموظفين في دائرة ، فهي تعيّن
مقدار تأخُّر الموظف وساعاته إن نقصت ، ومقدار راتبه في نهاية الشهر.
كذلك أعمال
الانسان فإنّها مراقبة من قبل أجهزة إلهية دقيقة جداً ، تسجّل عندها كل حركة ونشاط
للانسان ، وبامكان الله تعالى أن يحصل على أعمال الانسان الكثيرة التي قام بها
خلال عشرات السنين من عمره بنظرة واحدة ، (واللهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ)
غالباً ما تخلو
الأعمال السريعة والمستعجلة مِن الدقة الكافية ، لكن الدقة هنا فائقة بحيث لا يبقى
شيء ولو بسيط دون حساب ، رغم السرعة العالية.
معاذ بن جبل يسأل
رسول الله صلىاللهعليهوآله يا نبيَّ الله ، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به يا رسول
الله؟ فيجيبه الرسول صلىاللهعليهوآله : «فهل يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلَّا حصائد
السنتهم» .
أي أن كلام
الانسان لا يُحاسب عليه فقط بل خطره أكثر من خطر باقي الأعمال ، ويمكنه إدخال
الانسان في النّار ، وبخاصة أن كبائر الذنوب تُقترف باللسان. ولهذا علينا الانتباه
عمَّا يصدر منَّا من أعمال ، فإنَّا محاسبون على كل واحد منها ، خصوصاً اللسان
الذي خطره أكبر من غيره.
النتيجة : وفقاً
لما جاء في هذه الآية كون أعمال الانسان الكافر بمثابة السراب الذي يبدو شيئاً من
بعيد ، وهو لا شيء ولا واقع له من قريب ، فلا يغني من جوع ولا يروي من عطش.
خطابات الآية
١ ـ المثل لدنيا
الكافرين أم لُاخراهم؟
سؤال
: هل أعمال الكفار
في الآخرة بمثابة السراب ولا فائدة تعقبها أم في الدنيا كذلك؟
__________________
وبتعبير آخر : هل
أن أعمال الكفار غير مثمرة في الدنيا والآخرة معاً؟
الجواب
: نعتقد أن الآية
تشير إلى دنيا الكفار وإلى آخرتهم ، فأعمالهم في الدنيا كذلك سراب لا أكثر.
الانسان المعاصر
تورَّط بأنواع مختلفة من السراب الذي يسعى حثيثاً نحوه ثمّ يجده لا شيء ، ومن ذلك
الحرية الغربية.
إذا نظرنا إلى
العالم الغربي من بعيد نرى الحرية الجميلة تتلألأ فيه وتجتذب الانسان نحوها ،
لكنَّا عند ما ندخل في المجتمعات الغربية لا نجد أثراً للحرية الحقيقية ، بل نجد
الغربيين اسرى لُامور مختلفة من قبيل الأهواء والموضات والمخدرات ومختلف الأمراض
الجنسية والتمييز العنصري وما شابه ذلك.
الإدمان جعل من
الانسان موجوداً لا ابالياً تجاه الدين والشرف والناموس. كما أن الموضات والأزياء
لا تنسجم مع العقل السليم ؛ لأن ترك لبس الحذاء أو الملابس بذريعة سقوط موضته
يُعدُّ نوع إسراف مذموم. أما الأهواء فقد سيطرت على الانسان كالأخطبوط الذي يسيطر
على فريسته ، وقد سلب من الانسان كل نشاطاته العقلائية.
نعم ، الحرية
الغربية سراب لا أكثر ، فهي ذات ظاهر جذاب وباطن أجوف ، كما هو حال حياة الانسان
غير المؤمن ، فهي حياة سرابية من جميع الجهات ، فقد نراها حياة مرفّهة وسعيدة من
بعيد ، لكن واقعها من قريب غريق الهموم والأمراض ، بحيث نصيبه عند الغداء أو
العشاء قرص صغير من الخبز لا أكثر!
كتبت احدى الصحف
أنَّ في أمريكا غابة تدعى غابة انتحار الأثرياء ، يقصدها الأثرياء بعد مللهم من سراب
الحياة فيقدمون على الانتحار.
أليست هذه الحياة
سراباً؟ فهي من بعيد قصر فخم وحياة مرفّهة وسيارة فاخرة وعمل مفضَّل وامكانيات
وافرة ومعمل وأسهم و... أمَّا من قريب فمرض واضطراب ويأس وفراغ وما شابه ، إذن
حياة الكفار سراب لا أكثر.
يقول الله تعالى
في الآية السابعة من سورة الروم : (يَعْلَمُونَ
ظَاهِرَاً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون)
أي أنهم يعلمون
زخارف الحياة وزينتها وما ظهر منها ، ويجهلون باطنها الأجوف.
ومن نماذج السراب
في حياة الانسان المعاصر هو الامراض النفسية الموحشة. نعلم بتقدُّم العلم والطب
كثيراً في علاج الأمراض العضوية والبدنية ، كما أنه قضى على كثيرٍ من الأمراض التي
كانت في العهود السابقة ، أمَّا الأمراض النفسية فقد أخذت بالانتشار ، ومن المحتمل
أن يأتي يوم يستحيل فيه العثور على انسان سليم نفسياً ؛ لأنَّ سراب الحياة سلب منه
النوم ، ولا يمكنه أن يغفو ساعات متوالية إلَّا بأقراص منوّمة.
تجاوز هذه الدنيا
الفانية والخادعة يتم من خلال العمل بالوصفة الدقيقة للطبيب الكبير المعالج لهذه
الأمراض ، أي الامام علي عليهالسلام ، حيث قال : «تَخفَّفُوا تَلْحَقُوا» .
الاسفار القديمة
كانت تتمُّ على نحو قوافل ، وما كان يتوفّق فيها إلَّا مَن كانت أمتعته قليلة
وخفيفة وإلَّا يتخلَّف عن القافلة في مراحلها الاولى ، والامام عليهالسلام يرى شأن السفر في الدنيا نحو الآخرة شأن السفر مع القافلة
، فمن خفّف فيها استطاع اللحاق بها وإلَّا تخلّف.
٢ ـ الاسلام دين
النوعية لا الكمية
لم يطلب الاسلام
أعمالاً كثيرة من المسلمين بل طلب منهم أعمالاً خالصة ، ولهذا قد توضع يوم الآخرة
تلاً من الأعمال في الميزان لا تزن شيئاً. نفس الاشخاص يوزنون كذلك من حيث الاخلاص
، وفي هذا المجال جاءت الرواية التالية : «إنَّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم
القيامة لا يزن جناح بعوضة» .
إذن ، ما يوليه
الاسلام من أهمية هو عمق العمل ، ولهذا لا يوصي الاسلام بالكثرة والكمية أبداً بل
بالكيفية والنوعية.
يقول الله تعالى
في الآية السابعة من سورة هود :
(لَيَبْلُوكُمْ
أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً) ، داعياً الانسان من خلال هذه الآية إلى الاهتمام بنوعية
العمل وكيفيته.
__________________
المثل التاسع
والثلاثون :
أعمال المشركين
يقول الله تعالى
في الآية ٤٠ من سورة النور :
(أوْ كَظُلُماتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لم يَكَدْ يَرَاهَا ومَنْ
لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)
تصوير البحث
تضمَّنت سورة
النور ثلاثة أمثال ، أحدها : الآية ٣٥ ، وقد تحدثّت عن نور الايمان ، وفي المثالين
الآخرين (الآية ٣٩ و ٤٠) ورد الحديث عن أعمال الكفار ، فشُبِّهت أعمالهم في الآية
٣٩ بالضوء الكاذب الذي يبدو ماءً (السراب) ، أمَّا في المثل الذي هو موضع بحثنا
فلا يعتبر الله أعمالهم ضوءً ولو كاذباً بل ظلمات مطلقة.
الشرح والتفسير
(أوْ كَظُلُمَاتٍ في
بَحْرٍ لُجِّيٍّ)
لجيّ من اللجاجة
وتعني الإلحاح على عمل ، كما لو راجعت شخصاً لكي يقوم بعملٍ لك ، لكنه يرفض
فتراجعه تارة اخرَى فيرفض كذلك وتستمر المراجعات ... وهذا لجٌّ. ومن هذا الباب
اطلق لُجّي على البحر عند ما تتتابع أمواجه ، فكأنَّ الأمواج تلجُّ. والله شبَّه
أعمال الكفار بظلمات البحر إذا كان لجّيّاً.
(يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)
يصف القرآن هذا
البحر الموَّاج بأن أمواجه تتلاحق موج بعد موج أو موج فوق موج وفي ليلة غائمة.
البحار كلَّما
عمقت كلما ازدادت أمواجها وعظمت ، ويمكن تصوّر عظمة الأمواج في البحار العميقة من
خلال قياسها مع الأمواج الصغيرة التي تحصل في حوض السباحة التي هي أصغر بكثير من
أمواج البحار وبخاصة العميقة منها.
المستفاد من توصيف
القرآن بأن البحر لجّي كونه عميقاً ، كما أن العلماء يقولون : لا ضوء في الأعماق
الأكثر من سبعمائة متر ، وهذا يكشف عن وجود ظلمات دامسة في هذه الأعماق. والعجيب
أن في هذه الأعماق توجد نباتات وحيوانات مشعَّة ، أي يشعُّ منها ضوء. فمن اين جاءت
بالضوء؟ وما هي الأجهزة التي تولّد الضوء؟ يا مَن في البحر عجائبه؟
ما سبب كون أعمال
الكفَّار بمثابة الظلمات التي في البحر اللجّي وفي أعماق لا يصلها ضوء؟
لهذا الأمر علتان
، أحدهما : عمق البحر ، وثانيهما : أمواجه. الأمواج تسبب انكسار الضوء وتمنع من
عبوره إلى أعماق البحر ، مضافاً إلى هذه الظلُمات المتراكمة فإن السماء غائمة وممطرة
، وعادة ما تكون الغيوم الممطرة متراكمة وتزيد من الظلام ، عكس الغيوم الاخرى التي
يقل تراكمها ويسهل عبور الضوء منها .
(ظُلمَاتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لم يَكَد يراها)
ملخّص الكلام هنا
أن عوامل الظلام جميعها قد اجتمعت في هذا البحر ، من الليل المظلم والسحب
المتراكمة والممطرة التي تمنع من نفوذ الضوء فيها ومن العمق الكبير ومن الأمواج
المتتالية التي تكسر الضوء.
لقد تراكمت
الظلمات هنا إلى مستوى لو أنَّ شخصاً وضع يده أمامه ما أستطاع رؤيتها حتى لو قرّب
يده من عينيه ، مع أنَّه بامكانه رؤيتها في الليالي العادية.
__________________
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَل
اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)
الله مصدر كل ضوء
ونور ، ومن أراد النور فعليه اخذه من مصدره ، وهذا هو المراد من هذه الآية ،
والمراد من النور هنا نور المعنوية والعلم والمعرفة والإيمان ، وما يمكن الحصول
عليه إلَّا من منبع النور.
أعمال الكفَّار
مثل الشخص الذي ذكرته الآية حيث يكون في قعر بحر مظلم تراكمت عليه الظلمات بحيث لا
يمكنه رؤية يده ، عكس المؤمنين فانَّ نور إيمانهم نور على نور ، يفيد منه الآخرون
كما يفيد المؤمنون ذاتهم منه.
خطابات الآية
١ ـ أعمال
الكافرين فقط ، لماذا؟
سؤال
: أهم عامل يشكّل
شخصية الانسان هو العقيدة والإيمان ، فلما ذا شُبِّهت أعمال الكافرين فقط هنا
بالظلمات ولم تُشبَّه عقائدهم وكلامهم؟
الجواب
: عمل الانسان
ترجمة لعقيدته وطريقة تفكيره ، وفي الحقيقة العمل يكشف عن ماهية الانسان وواقعه
ولا يدع مجالاً للنفاق إلى مدَّة طويلة ، مع أنَّ بالامكان إخفاء العقائد الفاسدة
والتفوّه كذباً بما يعاكسها بحيث يبدو الانسان صاحب عقائد صالحة.
الايمان القوي هو
الذي يظهر أثره في العمل ، وقد جاء في تعريف الإيمان : «الإيمان عقد بالقلب ولفظ
باللسان وعمل بالجوارح» .
رغم أن العقيدة
والايمان يشكلان أهم عاملين لشخصية الانسان ، لكن العقيدة تتجسّد في القول والعمل
، وامكانية النفاق في القول كثيرة ، وعمل الفرد هو الذي يكشف عن شخصيته ، والآية
أكَّدت على أعمال الكفَّار رغم أنَّ عقائدهم وأقوالهم كأعمالهم ظلمات في ظلمات.
٢ ـ «ظُلُماتُ
بعضُها فَوْقَ بَعْضٍ» إلى أي شيء تشير؟
يقول البعض : إن
الظلمات الثلاث ناظرة إلى عقائد الكفَّار وأقوالهم وأعمالهم.
__________________
وبعض آخر يقول :
الظلمات الاولى تشير إلى ظلمة جهل الانسان ، فالجاهل لا إيمان له ، وإذا سلك طريق
العلم هداه هذا الطريق وأرشده.
والظلمات الثانية
تشير إلى الجهل الناشئ عن الجهل ، أي كون الانسان لا يعلم بأنه جاهل ، وهو خطر
كبير ؛ لأنَّ الذي لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم يظن كونه هادياً ومصلحاً ، لكن
واقعه عكس ذلك ، فجهله مركب ، عكس الذي يجهل ويعلم أنَّه يجهل فإنَّ جهله بسيط.
والظلمات الثالثة
تشير إلى من يجهل ولا يعلم أنَّه يجهل بل يتصوَّر نفسه عالماً .
استخدم القرآن
الكريم تعبيراً جميلاً جداً في الآية ١٠٤ من سورة الكهف واصفاً هؤلاء بما يلي :
(الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعاً)
مثل هؤلاء يعدون
خيانتهم خدمة ، فيعصون الله ويظنون أنهم يطيعونه ، وهذه هي الظلمات الثلاث
المتراكمة بعضها فوق بعض.
٣ ـ الجبر أم
الاختيار؟
سؤال
: جاء في نهاية
الآية : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَل
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ، فهل هي تعني أن الله تعالى يمنح من نوره إلى البعض
فيهتدون بالطبع ، ويمنع عن البعض نوره فيضلّون بالطبع؟ أليس هذا جبراً؟
الجواب
: جرت سنَّة الله
تعالى على أن يتم توفير الأرضية من قبلنا والإفاضة منه ، أي نحن نوجد القابلية ،
والفاعلية منه تعالى. وعلى هذا يجعل الله نوره ويعطيه لمن وفَّر في نفسه الأرضية
والقابلية اللازمة للنور الإلهي. وهذا لا يعني أنَّ الله تعالى يجعل نوره اعتباطاً
ودون حساب أو كتاب ، بل نور الايمان لا يدخل في قلب اللجوج والمتعصّب والمعادي
للحق وسيئ السيرة ومتَّبع الأهواء ؛ لأنّه لم يُعدّ الأرضية اللازمة لدخول هذا
النور. القلب مرآة الانسان لا ينعكس فيها النور الالهي ما لم تمسح وتنظَّف ، كما
لا ينعكس لو كانت قد صدأت
__________________
وفسدت ، وسبب ذلك
الانسان نفسه.
علينا أن نوفّر
الأرضية اللازمة للنيل من الفيض الإلهي في كل اللحظات.
من هنا يتّضح
الجواب عن سبب قولنا في الصلاة : (إهْدِنَا الصِّراط
المُسْتَقِيم) ، مع أنا لو كنا في غير الصراط المستقيم لما كنا نصلّي؟ أليس
ذلك تحصيل حاصل؟
وجوابه : أنا
بحاجة إلى فيض الله تعالى ونوره في كل لحظة ، ولهذا علينا الحفاظ على هذه القابلية
دائماً وفي كل وقت وعلى كل حال لكي نكون أهلاً لنور الايمان ، كما هو شأن المصباح
الكهربائي الذي يحتاج إلى الكهرباء في كل آن ولحظة وإلَّا فينطفأ بمجرّد انقطاع
التيار.
في هذا المجال
يُنقل عن الرسول صلىاللهعليهوآله قوله دائماً :
«إلهي لا تكلني
إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً» ، وهذا الحديث يشير إلى حقيقة هي : أنَّ الانسان يستعدُّ
لتقبُّل الهداية الإلهية بعناية منه تعالى ، ولا تتأتَّى هذه العناية إلَّا في
ظلِّ سعي الانسان في طريق العبودية.
مباحث تكميلية
١ ـ مظاهر من نور
الإيمان
في أول إجراء
اتّخذه الرسول بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أمر ببناء مسجد وتشكيل حكومة
اسلامية. وعلى هذا كيف يمكن القول بفصل الدين عن السياسة؟
من خلال الدراسة
المبسطة لسيرة حياة رسول الله صلىاللهعليهوآله نعرف أن المسجد في ذلك العهد كان بمثابة المقر والمركز للقيادة
رغم بساطته.
وفقاً لما جاء في
الكتب التاريخية فان مسجد الرسول صلىاللهعليهوآله كان عبارة عن أربعة جدران بُنيت من الوحل ، ولم يكن له سقف
، وكان ارتفاع الجدران بمستوى قامة انسان ، وما كان بالامكان الاستفادة منه عند
هطول الأمطار ، لذلك جاء بعض الصحابة إلى الرسول صلىاللهعليهوآله
__________________
يطلبون منه بناء
سقف للمسجد ، وبعد أن سمح بذلك بدأ المسلمون ببناء السقف ، فبني من السعف ، أمَّا
أعمدته فكانت من جذوع النخل.
وقد بقي هذا
المسجد على بساطته حتى آخر عمر الرسول صلىاللهعليهوآله ، لكن بما أن الذين قاموا بهذا العمل أشخاص مؤمنون ، وكلٌّ
منهم بمثابة منبع لنور الإيمان ، توسع بعد وفاة الرسول تدريجياً ليتبدَّل إلى أعظم
واجمل مسجد في العالم الاسلامي بلغت مساحته حالياً كل المدينة عهد الرسول صلىاللهعليهوآله ، ولو أن أحدنا بذل أموالاً طائلة في سبيل رؤية هذا المسجد
كان عمله في محله.
نعم ، إنَّ أعمال
المؤمنين النيّرة تنمو وتتسع.
عند ما أخذوا
بأسرى كربلاء إلى الشام أقعدوهم في بيت خرب يقرب من قصر يزيد الذي شق السماء
بارتفاعه والذي كان يلفت نظر كل مارٍّ ، أمَّا حالياً فالبيت الخرب أصبح مزاراً
تهوي إليه قلوب الشيعة من محبي أهل البيت عليهمالسلام ، وأمَّا القصر فأصبح خربة لا أكثر ، وأمَّا قبر معاوية
فمهما بحثت عنه لا تجد إلَّا أثراً ضعيفاً في الباب الصغير ، في بيت صغير خرب ،
رغم أنه كان حاكم الشام ومطلق العنان في تلك البلاد وظالماً جباراً لا يعرف غير
أهوائه وشهواته. أمَّا بنت الحسين الصغيرة فقبرها معمور ويهوى إليه الناس من كل
مكان.
نعم ، ذلك من
خصائص الايمان ، فيعلو ضياؤه وبهاؤه كلما طال عمره ، أمَّا الكفر فتتراكم ظلماته
كلَّما طال عليه الزمان.
المصداق الآخر
لهذا الإدّعاء هو ما حصل في معركة احد حيث طُلِب من المسلمين حفر خندق أطراف
المدينة يمنع من عبور المشركين رجالاً وفرساناً وفي الأثناء واجهوا صخرة عجزوا عن
كسرها ورفعها من مكانها فاستعانوا بالرسول ، ولنقرأ الحادث على لسان الرواية :
«... فبينا
المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه ، فبعثوا جابر بن
عبد الله الأنصاري إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله يعلمه ذلك ... فقلت : يا رسول الله ، إنَّه قد عرض لنا جبل
لا تعمل فيه المعاول ، فقام مسرعاً حتى جاءه ثم دعا بماء في إناء وغسل وجهه
وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ، ثم شرب ومجّ ذلك الماء في فيه ثم صبَّه على ذلك
الحجر ثمّ أخذ معولاً فضرب ضربه فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثم ضرب
اخرَى فبرقت برقة
فنظرنا فيها إلى
قصور المدائن ، ثمّ ضرب اخرَى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : أما إنّه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها
البرق ، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل» .
هزأ المنافقون من
تنبؤات الرسول ، وقالوا : كيف سيفتح المسلمون هذه البقاع وهم يعيشون حالياً تحديات
تهدد وجودهم ودينهم ، وما أستطاعوا الغلبة على المشركين العرب فضلاً عن غيرهم.
انتهت الخندق بنجاج المسلمين وانتصارهم ورفعة رأسهم ، ولم يمضِ زمن طويل من تنبؤات
الرسول صلىاللهعليهوآله حتى رأى المسلمون تحقّقها في أرض الواقع ، واستطاع الاسلام
بعد خمسين عاماً من الحادث السيطرة على أجزاء كبيرة من العالم.
نعم ، ذلك امتياز
نور الإيمان حيث يزداد بريقه وضياؤه بمرور الزمن ليبدو أفضل من ذي قبل دائماً ،
أمَّا الأعمال السوداء لغير المؤمنين فتزداد ظلاماً بمرور الزمن.
كل ما لنا فقد
حصلنا عليه في ظل الايمان ، ويكفي للمؤمن أن يكون الله وليَّه يهديه من وادي الظلمات
إلى النور ، وبئس حال الكفار ، الذين وليُّهم الشياطين يخرجونهم من وادي النور إلى
وادي الظلمات.
٢ ـ علامة الإيمان
في نهاية البحث
ننقل رواية عن الرسول صلىاللهعليهوآله يحكي فيها واحدة من علائم المؤمن :
«لا يستكمل عبدٌ
الإيمان حتى يحبُّ للغير ما يحبُّ لنفسه» .
من السهل التفوّه
بهذه العلامة ، ولكن من الصعب جداً العمل بها.
__________________
المثل الأربعون :
الأضل سبيلاً
يقول الله تعالى
في الآية ٤٤ من سورة الفرقان :
(أمْ تَحْسَبُ أنَّ
أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كالأنعَامِ بَلْ هُمْ
أضَلُّ سَبيلاً)
تصوير البحث
المثل يخصُّ
الكفار والمشركين الذين سلكوا طريق اللجاجة والعناد أمام الرسول صلىاللهعليهوآله ، وألحوا على عقيدتهم الباطلة وسعوا نحو أهوائهم حتى ذهبت
قواهم العقلية فما باتوا يدركون شيئاً ، لذلك شبَّههم الله بالأنعام.
الشرح والتفسير
لاتّضاح خطاب هذا
المثل الفريد من نوعه علينا دراسة الآيات التي سبقت آيته.
تحدَّثت الآيات
السابقة عمَّا أورده الكفار من إيرادات وانتقادات تجاه الرسول صلىاللهعليهوآله وقالت :
(وإذَا رأوْكَ إنْ يتَّخذونَكَ
إلَّاهُزُواً) ، أي أنهم يستهزؤون بالرسول متى ما شاهدوه ، وكان ذلك أحد
ردود الفعل التي صدرت من أعداء الرسل والأنبياء ، واقترنت مع نسبة بعض
الصفات السلبية
للانبياء. فرعون ـ مثلاً ـ كان يعتبر نفسه ربَّاً ويقول : (أنا ربُّكُمُ الأعْلَى) وينسب إلى موسى الجنون قائلاً : (إنَّ رَسُولَكُمُ الذِي ارْسِلَ إليْكُم
لَمَجْنُونٌ) .
(أهَذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) ، أي أنَّه لو كان رسولاً فلما ذا يبدو كباقي البشر ويفعل
كما يفعلون ، (مَالِ هَذَا
الرَّسُولُ يأكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ) ، مع أن المفروض بالرسول أن يكون من الملائكة.
بطلان هذا الكلام
واضح ، فالمفروض بالرسول أن يكون من البشر لا الملائكة ، لكي يفهمهم ويفهم آلامهم ومشاكلهم ويشعر بها فيعالجها
بالعلاج المناسب. ولو كان من الملائكة لما أدرك مشاكلهم ولما احس بها ، مضافاً إلى
أنَّه لا أحد من البشر يصغي لكلام الملائكة ؛ لأنَّ الناس سيقولون : ما تقوله
الملائكة خاص بأمثالها ويناسب ما يجانسها ؛ باعتبارها معصومة ولا شهوة لها ، ولا
يمكن لنا العمل بما تقول به الملائكة ، فإننا غير معصومين و... أما لو كان الرسول
من جنس البشر فان هذه الذرائع جميعها ترتفع ولا مجال للتشبّث بها.
(إنْ كَادَ ليُضِلُّنا
عَنْ آلهتنا لَولا أنْ صَبَرْنا عَلَيْهَا) ، وهذا الكلام أطلقه المشركون بعد ما مضى منهم من استهزاء
، ويريدون بذلك أنهم قاوموا الرسول وصمدوا على عبادة الأوثان ، ولو لا ذلك
لانجرفوا مع الرسول ، كما يزعمون.
كلمات المشركين
متناقضة هنا ، فهم ينسبون له الجنون من جانب ، ومن جانب آخر يبرزون تخوّفهم من
تأثير كلام الرسول عليهم ، مع أنه لا أحد يخاف تأثير كلام المجنون عليه ، ولو كان
مجنوناً حقاً فلا ينبغي الخوف من تأثير كلامه ، ولو لم يكن مجنوناً فالمفروض أن
يكون كلامه صادقاً ، فلما ذا يُرفض كلامه؟ وكلامهم هذا يكشف عن سخف عقائدهم ويبرز
ذلك
__________________
بوضوح.
أجاب الله تعالى
بثلاثة أجوبة على كلامهم الباطل والمتناقض :
الاول
:(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ مَن أضَلُّ سَبيلاً) .
وهذا الجواب يعني
الانتظار إلى يوم رؤية العذاب ، فعندئذٍ يتّضح الحق والباطل.
سؤال
: لماذا لم يدرك
الكفار الحق قبل نزول العذاب؟
الجواب
: الأهواء ضربت على
قلوبهم ستاراً لا يسمح دخول الحقائق فيها ، فالأهواء وعبادة الأصنام والمال والجاه
والمقام الدنيوي بمثابة الحجب والموانع التي تمنع من إدراك الحقائق ، وهذه الموانع
لا تُرفع إلَّا بالعذاب الإلهي.
وهذا هو سبب
اعتراف فرعون بحقيقة (أنَّه لا إله
إلَّاالّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إسرائيلَ وَأنَا مِنَ المُسْلِمِينَ) بعد ان أوشك على الغرق ، رغم أنه كان يقول : (مَا عَلِمْتُ لكم مِنْ إلَهٍ غَيْري) ، لكن إيمانه عندئذٍ دون جدوى.
عند ما ينزل
العذاب الإلهي تُزال حُجب الغرور والغفلة والجهل ، وبعدها يفهم الكفّار من هو
الأضل سبيلاً.
سؤال
: الآية الكريمة في
مقام الإجابة على الكفّار ، وهل يُعدُّ التهديد بالعذاب الإلهي جواباً؟
الجواب
: نعم ، قد يكون
التهديد بالعذاب آخر جواب ، ولا يوجد جواب غيره.
السفسطائيون
ينكرون كل شيء ويشكون في كل ما يوجد حتى في شكوكهم ذاتها ، وكبار الفلاسفة يقولون
: السفسطائيون يرفضون كل دليل يُقام ، وأفضل دليل هو أن تُضرم ناراً وتقرّبهم
إليها وتقول لهم : لا وجود لهذه النار والحرارة الصادرة منها ، فهي خيال لا أكثر ،
ولا يمكن أن يحترق بها أحد ، لأنّ الاحتراق وهم لا حقيقة ، عندها يتراجعون عنها
تدريجياً ليتبدَّل هذا الانسان إلى واقعي بعد ما كان سوفسطائياً.
__________________
إذن ، لا طريق
لإيقاظ المتعصبين واللجوجين من غفوتهم وغفلة أفكارهم غير العذاب الإلهي ، فهو الذي
يزيح ستار الغفلة ويوقظهم.
الثاني
:(أَرَأَيْتَ مَنِ
اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) .
كيف يمكن هداية من
كان إلهه هواه؟ إنَّ تعاملهم غير المؤدب مع الرسول صلىاللهعليهوآله وما يطلقونه من كلام بذيء تجاه الرسول ، كله يرجع إلى
اتّباع الأهواء ، وإلَّا فبطلان عبادة الأوثان أمر واضح.
أساساً لا يخفى
الحق على أحد دائماً ، بل لا بدَّ وأن يظهر له في وقت ما ، وما يمنع من اتّضاح
الحق هو عبادة الأوثان. ألم يكن الحق واضحاً عهد الامام علي عليهالسلام في حربه مع معاوية (لعنه الله)؟
في جانب كان علي عليهالسلام مركزاً للعدالة والعبادة ، وأنصاره عبارة عن ثلَّة من
المسلمين المخلصين من الصحابة الذين لا يبغون من الحرب إلَّا رضا الله تعالى ، وفي
الجانب الآخر كان معاوية مركزاً للظلم والتمييز وسبباً للاضطرابات وعدم الثبات في
الدولة الاسلامية ، ويحوم حوله مجموعة من الذين جمعتهم مائدة معاوية الدسمة
ورشاويه ، وهل يستحيل تشخيص الحق بين هاتين الطائفتين؟ بالطبع لا ، لكن الأهواء
والموائد المنوّعة والرشاوي والأموال هي التي منعت من التشخيص.
يا رسول الله ،
أنت لا تستطيع إنقاذ هؤلاء ، فإن أربابهم أهواءهم ، وبئس للانسان الذي يصبح إلهه
هواه ، فهو أخطر ما يمكن أن يكون في حياة الانسان.
يقول المؤلف
الشهير ويل ديورانت : «لمَّا كان لكلِّ شيء روح أو إله خفيٌّ فالمعبودات الدينية
لا تقع تحت الحصر» ، كما يقول : «لا تكاد لا تجد حيواناً في الطبيعة كلها ـ من
الجعران المصري إلى الفيل عند الهندوس ـ لم يكن في بلدٍ ما موضع عبادة» .
لكن جاء في رواية
: «أبغض إلهٍ عُبد على وجه الأرض الهوى» ؛ وذلك لأجل أنَّ هذا
__________________
الصنم يلوّث
الانسان بكثير من الذنوب ، من قبيل : المسكرات والمخدرات والسرقة والتهريب والقتل
وما شابه. كثير من المجازر التي تُرتكب في الوقت الراهن تحصل بدافع من اتباع الهوى
والنفس. إنَّ مجزرة هيروشيما من قبل امريكا وقصف مدينة حلبجة بالاسلحة الكيمياوية
من قبل النظام العراقي ودفن النساء والأطفال البوسنيين وهم أحياء ، كلها من الآثار
المخرّبة لحكومة الاهواء على حياة البشر.
على أي حال ، لا
مشكلة ولا صعوبة في تمييز الحق عن الباطل ، على أن لا يتَّبع الانسان هواه.
الثالث
:(أمْ تَحْسَبُ أنَّ
أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلونَ) .
في هذه الآية
يخاطب الله تعالى المشركين ويجيب على كلامهم الوارد في آية المثل ، قائلاً للرسول
: إنَّ أكثرهم لا عقل لهم يدركون به ولا آذان لهم يسمعون بها ، فهم كالحيوانات
العاجزة عن الإدراك ، بل هم أضلُّ سبيلاً من الحيوانات ، فإن صوت الحق ملأ العالم
، وآيات الله وآثاره موجودة في كل مكان ، لكن سماع صوت الحق ومشاهدة آثار الله
وآياته تستدعي آذاناً تصغي وعيناً تشاهد وعقلاً يعي ويدرك ، وهم يفقدون هذه
الأشياء.
لو أن ضوء الشمس
ملأ الأرض كلها ما استطاع الأعمى أن يراه ، كما أن الأصم لو كان جالساً على شاطئ
البحر ما كان بإمكانه أن يسمع صوت أمواجه ، وهذا هو شأن الكفار فلا يسمعون الحق
ولا يرونه ولا يدركونه ، فهم كالأنعام بل أضل.
لماذا شُبِّه
الكفار بالحيوانات؟
كما لاحظنا فان
الله شبَّه الكفّار الذين لا يسمعون ولا يرون ولا يدركون من الحق شيئاً بالحيوانات
، بل اعتبرهم أضل من الحيوانات ، لكن لماذا؟
هناك وجوه شبه بين
الكفار والحيوانات ، هي :
الف
: لا تدرك
الحيوانات شيئاً ، فلا قدرة لها على الفهم والاستيعاب ولا شعور لها ، وأعمالها
__________________
تصدر عنها بدافع
غريزي ، وهذا هو شأن الكفار ، فلا شعور لهم ، لذلك لا يدركون شمس الحقيقة؟
باء
: الحيوانات لا
تشعر بالمسؤولية ، فهي لا تدرك كون المزرعة ليتيمٍ أو موقوفة وأن الدخول إليها
حلال أم حرام ، فهي لا ترى نفسها مسؤولة تجاه هذه الامور ؛ لأنَّها لا تدرك ، أي
أن عدم إحساسها بالمسؤولية ينشأ عن عدم إدراكها ، وعدم احساس الكفار بالمسؤولية من
هذا القبيل ، فهو ناشئ عن عدم إدراكهم.
جيم
: الحيوانات تابعة
لغرائزها ، فهي لا تعرف غير العلف والاصطبل ، وكذا حال المشركين ، فهم لا يعرفون
غير أهوائهم وما تمليه عليهم.
دال
: الحيوانات غير
تابعة للمنطق ، ولا ترى معنى للاستدلال ، وكذلك الكفار ، فهم عاجزون عن إدراك
استدلالات القرآن القوية رغم بساطتها ، والتي وردت في مجالات مختلفة مثل التوحيد
والمعاد ، ويصرّون دائماً على كلماتهم التي يرددونها دائماً.
هاء
: لا تشخّص
الحيوانات المصالح والمفاسد ، ولا تعلم بما يصلحها أو يفسدها ، ولهذا قد تجازف أو
تقرب من المخاطر وهي لا تعلم ما قد أقدمت عليه ، كما هو حال الكفار الذين لا
يعلمون بأنَّ عبادة الأصنام واتّباع الأهواء لا يجلب لهم نفعاً ولا فائدة ، كما لا
يعلمون أن السعادة والنجاح يتحقق في ظلِّ التوحيد.
هذه وجوه خمسة
يشترك فيها الكفار مع الحيوانات ، ولهذا شُبِّهوا بها في الآية الكريمة.
(بَلْ هُمْ أضَلُّ
سَبِيلاً)
مقارنة الحيوانات
بالمشركين تثبت تفوّق الحيوانات على المشركين ، وكون الأخيرين أسوأ حالاً من
الحيوانات ، للُامور التالية :
الأول
: الحيوان حيوان
كان ويكون وسيبقى كذلك ، وهذا هو شأنه ولا يمكنه أن يتجاوز حيوانيته ؛ لعدم
قابليته على التطوّر والتقدُّم ، أمَّا الانسان فله القابلية على التطوّر ليكون
حتى أفضل من الملائكة ، لكنه قد يبقى في مرحلة الحيوانية بسبب تماديه في العناد
وتعصبه ، ممَّا يجعله أن يكون دون مستوى الحيوانات.
لا يُلام الشخص
على عدم انتفاعه من السوق إذا دخله دون أن يكون له رأس مال ، بينما
يُلام لو دخله وقد
كان له رأس مال ولم ينتفع منه. والانسان الذي سجدت له الملائكة ونفخ الله فيه من
روحه وأصبح أفضل المخلوقات إذا سقط كان أضل من الحيوانات دون شك.
الثاني
: الحيوانات تقدِّم
خدمات كثيرة للانسان ، فبعضها تمنح الانسان لبناً يعبّر عنه القرآن تعبيراً جميلاً
في الآية ٦٦ من سورة النحل ، حيث جاء هناك : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنَ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَناً خالِصاً سَائغاً للشاربين) ، وكثير من المنتجات الاخرى مثل اللحم والعظم والصوف
والجلد بل حتى الدم فان الانسان وكذا باقي الحيوانات تفيد منه ، هذا كله مضافاً
إلى الإفادة منها كوسائل للنقل والحمل ، علاوة على كونها أداة طيّعة بيد الانسان .
الثالث
: الحيوانات تتَّبع
منهجاً غريزياً ، بعبارة اخرَى : إيعازات خلقتها هي التي تهديها إلى أهدافها أمَّا
المشركون فان الأهواء ضربت على عقولهم وفطرتهم ستاراً ، لذلك كان خطر ضلالتهم
أكثر.
الرابع
: خطر الحيوان محدود
مهما بلغ ، فالذئب من أخطر الحيوانات ، وأقصى خطره أن يهاجم قطيعاً من الغنم ويأكل
أو يقتل عدّة خرفان ، أمَّا خطر الانسان عند ما يتَّبع الأهواء ويعصي العقل فقد
يلقي بقنبلة نووية في هيروشيما ويقتل (٨٥٠٠٠) انساناً في لحظة واحدة ويصيب آخرين
لا زالوا يعانون من إصاباتهم. ألم يكن هكذا اناس أضل من الحيوانات؟
الخامس
: الحيوانات لا
تسعى للتمظهر بمظهر حسن عند ما ترتكب ذنباً ولا تسعى لتبرير أعمالها السيئة ،
أمَّا المبعدون عن الهداية فيبرّرون جرائمهم الكبرى ويقولون في تبرير قصف مدينتين
يابانيتين بقنابل نووية : لو لم نعمل هذا لاستمرَّت الحرب وطالت ولزادت الضحايا
والقرابين إثر ذلك!
يقول أحد الكبار :
لو أنَّ الآية الشريفة المزبورة كانت قد نزلت دون ذيلها (بَلْ هُم أضَلُّ سَبِيلاً) لمتُّ غيظاً ؛ لأن الحيوانات أفضل من بعض الناس بكثير.
خطاب الآية
العزَّة في ظل
الإيمان
يستفاد من مجموع
ما قيل في تفسير هذه الآية الكريمة أن الانسان إذا كان يسعى نحو بلوغ
__________________
مقامه الحقيقي
وشأنه الواقعي وأراد تنمية قابلياته والنجاة من خطر السقوط فعليه السير تحت ظل الايمان
والطاعة ، والعمل بما أوصى به الإمام علي عليهالسلام حيث قال : «مَن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وغنى بلا مال ،
وهيبة بلا سلطان فلينتقل عن ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته» .
__________________
المثل الحادي
والأربعون :
اتَّخذوا أولياءً من دون الله
الآية ٤١ من سورة
العنكبوت تشكّل المثل الحادي والأربعين من أمثال القرآن ، حيث جاء فيها :
(مَثَلُ الَّذِين
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْليَاءَ كَمَثَلِ العَنْكبُوتِ اتَّخذَتْ بَيْتاً
وَإِنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
تصوير البحث
بما أنَّ التوحيد
والشرك من أهم مباحث القرآن ولهما دور أساسي في سعادة الانسان وشقائه ، لذلك خصَّ
الله تعالى بعضاً من أمثلته بهذا الموضوع ، مستخدماً مبدأ التنويع في بيانه. والمثل
المزبور يتعلق بالشرك وعبادة الأوثان ، مشبّهاً فيه المشرك وما يعبد من الاصنام
بالعنكبوت وبيته ، بياناً لضعف الأصنام وعجزها.
أهمية التوحيد
تقدَّم أن الشرك
كان أول اهتمامات الإنبياء والرسل ، وكان يشكل أساس المواجهة بينهم وبين معاصريهم
، أمَّا التوحيد فكان أهم ما دعى إليه وأساس دعوتهم ؛ وذلك لأجل أنَّ الشرك أساس
شقاء البشر ومنشأ كل الدنوب والانحرافات العقائدية ، أمَّا التوحيد فأساس السعادة
ومنشأ النجاج والفلاح.
التوحيد ينير
القلب ويوحّد المجتمع ، أمَّا الشرك فلا يجلب معه إلَّا الظلمات والتشتّت والتفرقة
في المجتمع ، ولهذا اختص ثلث القرآن بموضوع التوحيد والمسائل ذات الصلة به.
الشرح والتفسير
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتّخذوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْلياءَ)
شبَّه الله تعالى
المشركين هنا بالعنكبوت وأصنامهم ببيت العنكبوت ، والتشبيه لا يختص بالمشركين بل
يشمل كل مَن اتّخذ إلهاً غير الله كولي لنفسه ، فالآية عامة دون اختصاص بالمشركين.
وعلى هذا تكون شاملة لوثن المقام والسلطة والشهوة والأهواء النفسانية والثروة وكل
ما يمكن أن يُعصى الله به.
(كَمَثَلِ
العَنْكَبُوتِ اتَّخذتْ بَيْتاً)
أي أن مثل هؤلاء
كمثل العنكبوت التي تتّخذ بيتاً لتلجأ إليه ، وهؤلاء قد يكونون مشركين أو غيرهم
ممَّن اتخذ إلهاً غير الله ، ومثل آلهتهم كمثل بيت العنكبوت ، وهو قد يتمثَّل
بالمقام أو الشهوة أو الصنم أو ما شابه ، فهذه كلها بيوت للعنكبوت.
(وإنَّ أوْهَنَ
البُيُوتِ لبَيْتِ العَنْكَبُوتِ)
وهل يمكن الوثوق
بمثل بيت العنكبوت؟ وهل يمكن الوثوق بغير الله والاطمئنان به؟
الجواب بالسلب
قطعاً ؛ لأن بيوت العنكبوت من أوهن البيوت وأضعفها ؛ وذلك لأنها مصنوعة من مواد لا
مقاومة لها أمام الحوادث ، وتتلاشى بقطرات ولو قليلة من المطر ، فضلاً عن السيول ،
كما أنها تتلاشى بشعلة الشمعة الضعيفة ، فضلاً عن الحريق ، كما يكفيها نسيماً من
الريح لتتلاشى دون حاجة إلى إعصار ، كما أنها تتلاشى بغبار بسيط وبما شابه ذلك
وهذا يكشف عن ضعف هذه البيوت ، كما يلاحظها الجميع.
(لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ)
أي أن الاتكاء على
الأوثان المزبور كالاتكاء والوثوق ببيت العنكبوت لو كان هؤلاء يعلمون بذلك.
خطابات الآية
١ ـ أصنام جديدة
كما تقدَّم فإنَّ
عبادة الأوثان لم تقتصر على عبادة أحجار أو أخشاب ، بل تشمل كل عبادة لغير الله ،
وفي عصرنا الحاضر هناك الكثير من الأوثان من قبيل المقام والشهوة والمال والثروة
والأهواء النفسانية والشياطين وكل ما يغفل الانسان عن الله.
تحدَّثت الآية ٦٠
من سورة يس عن أحد أشكال عبادة الأصنام قائلة : (ألَمْ أعْهَدْ
إلَيْكُمْ يَا بنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدوا الشَّيْطانَ) ، أي أنَّ عبادة الشيطان وطاعته من أصناف عبادة الأصنام ،
لكن هل تعلمون كيف تكون عبادة الشيطان؟ وهل هي تعني الصلاة والصوم للشيطان؟
في الإجابة على
ذلك ينبغي القول : كلا ، فلا يعمل أحد هذا ، وعبادته تعني متابعة شخص والائتمار
بأوامره .
العمل وفق أوامر
الشيطان عبادة له ، وكل أمر لم يصدر من الله وائتمر به الانسان كان نوع شرك وعبادة
للأصنام.
٢ ـ بيت العنكبوت
من آيات الله العظمى
بيت العنكبوت من
عجائب الخلق ، كذلك العنكبوت نفسه الذي يبدو بأعيننا موجوداً قليل القيمة. وقد
اكتشف العلماء حتى الآن عشرين ألفاً من أصناف العنكبوت ذات أشكال وسلوك وحياة
متباينة.
في القسم التحتاني
من بطنه توجد حفرة صغيرة بحجم رأس الأبرة ، في داخلها سائل لزج يُدخل العكبوت
أطرافه فيها ويخرج مقداراً من هذا السائل اللزج يصنع منه خيوطاً تُستحكم عند
تعرُّضها للهواء ، وبهذه الخيوط ينسج بيتاً أو شبكة للصيد.
يوفر العنكبوت
غذاءه من خلال الحشرات التي تقع في شبكته ، فهو من الحيوانات التي
__________________
تتغذّى على
اللحوم. بعض الحشرات تقع في الشبكة وهي طائرة ، فيهمُّ بسرعة على لفِّها بخيوطه
لتصبح سجينته حتى الموت فيأكلها عندئذٍ.
لهذه الخيوط خصائص
فريدة نشير إلى بعضٍ منها :
الاولى
: أكثر استحكاماً
من الفولاذ ، فإذا صنعنا خيوطاً من الفولاذ بنفس مقاسات خيوط العنكبوت كانت خيوط
العنكبوت أكثر استحكاماً ، وإذا صنعنا أنابيب من سائل العنكبوت بحجم قطر انابيب
الفولاذ كانت أنابيب سائل العنكبوت أقوى وأكثر استحكاماً بمرات.
الثانية
: ينسج العنكبوت من
السائل الموجود في حفرة بطنه ما يقرب من ٥٠٠ خيطاً أو وتراً ، وهذا أمر عجيب حقاً.
الثالثة
: الأعجب من ذلك
كله أن بعض الخيوط تشكّلت من أربعة خيوط أقل سمكاً ، كلُّ منها يتشكل من ألف خيط.
ألم يكن ذلك من
آيات الله؟ (وَكَأيِّن مِنْ آيَةٍ
فِي السَّماواتِ وَالأرْض يَمرُّونَ عَلَيْهَا وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) .
الرابعة
: هندسة العنكبوت
مما تثير الإعجاب ، فهذا الحيوان الضعيف ينسج بيته على غرار أشعة الشمس بنحو مساوي
ومنتظم ، مراعياً في ذلك الفواصل والزوايا بدقة فائقة.
خلاصة الكلام ، أن
الله تعالى أعمل دقة ونظاماً في غاية الدقة عند خلقه هذه الحشرة التي تبدو ضعيفة.
كلٌّ من العجائب
تكفي لمعرفة الله تعالى ، مع أن الكون مفعم بهذه العجائب والآيات ، ولا مسألة غير
التوحيد تتمتع بهذا المقدار من البراهين والأدلة ، فلها مليارات من البراهين ،
فكلٌّ من النجوم والكواكب وحتى الحيوانات وأوراق الاشجار والبشر كلها أدلة على
الله تعالى ، فهو ليس بالأمر الخفي.
سؤال
: إذا كان وجود
الله تعالى بهذه الدرجة من الوضوح فلما ذا ينكره الماديون؟
__________________
الجواب
: إنَّهم يقرّون
بوجود الله بنحوٍ أو آخر لكنهم يبدّلون اسمه ، فعند ما يتحدّثون عن عظمة الله
وقدرته المتجلّية في معدة الانسان حيث يمكن له العيش بثلثها فقط ، يقولون : (الطبيعة
عملت بنحوٍ حيث يمكن للانسان العيش بثلث المعدة إذا تعطَّل ثلثا أجزاء المعدة ،
فعند التعطيل يقوم الجزء غير المعطَّل بجميع النشاطات المطلوبة من المعدة). وفي
الحقيقة مرادهم من الطبيعة هو الله تعالى ، فنحن ندعوه ونخاطبه ولا ندعو الطبيعة
ولا نخاطبها ؛ لأنَّها غير ذات شعور وليست أهلاً للخطاب.
٣ ـ فلسفة التمثيل
بحيوان ضعيف
عند ما سمع
المشركون تشبيه الله المشركين بالعنكبوت وأصنامهم ببيت العنكبوت اعترضوا وتساءلوا
عن سبب تمثيل الله بحيوانات ضعيفة ، وهل هي تتناسب مع عظمة الله؟
أجاب القرآن عن
اعتراضهم وتساؤلاتهم من خلال الآية ٤٣ من نفس السورة ، حيث قال :
(وَتِلْكَ الأَمثَالُ
نَضْرِبُهَا للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّاالعَالِمُونَ)
أي أن الفصيح
والبليغ يتكلَّم بما يقتضيه الحال ، فإذا كان الحديث عن ضعف وهون موجودٍ من قبيل
معبود المشركين فعليه التمثيل بما يكشف عن هذا الضعف والوهن ، وأي مثال أفضل من
بيت العنكبوت يكشف عن ضعف وهون الأوثان؟
٤ ـ قيمة العلم
أكّد القرآن على
العلم والمعرفة في موضعين من الآيات المتقدّمة :
الاول
: في نفس المثل حيث
ذيّله بالعبارة التالية : (لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ)
والثاني
: عند الإجابة على
اعتراض المشركين على تمثيل القرآن بحيوانات ضعيفة مثل العنكبوت والبعوض ، فقد جاء
هناك : (وَمَا يَعْقِلُهَا
إلَّاالعالِمُونَ)
مفهوم الجملتين ،
حيث أكّد فيهما القرآن على العلم ، هو كون العلماء والمفكرين هم المخاطبون
الأصليون لهذا الكتاب ، رغم أنَّه كتاب لجميع البشر.
كلَّما ازدادت
قابلية الانسان العلمية كلَّما ازداد نهماً منه.
أهمية العلم في
ديننا بالغة بحيث يُعدُّ رأس الفضائل وغايتها ، كما أنَّه من الأعمال الموصى بها في ليالي القدر ، رغم
كون هذه الليالي للدعاء والمناجاة والتوبة .
مباحث تكميلية
١ ـ لنعتبر من
التاريخ
عند ما نتصفّح
التاريخ نجد شواهد كثيرة تحكي عن ضعف وهون كلّ قدرة غير الله تعالى.
يحكي القرآن
الكريم قصة قوم سبأ في الآيات ١٥ ـ ٢١ من سورة سبأ ، وهي نموذج كامل وشاهد حقيقي
على ما نقول.
خلاصة قصة قوم
سباً
كانت في بلاد قوم
سبأ جبال تجري منها سيول عند هطول الأمطار ، ممَّا يؤدي إلى تدمير مزارعهم
ومنازلهم ، فأقدموا على إيجاد سدٍّ ترابي يمنع وصول السيول إلى المزارع والمنازل ،
ويبدو أنَّه أول سدٍّ بناه البشر ، فأوجدوا بحيرة عظيمة خلف السد ، كما أوجدوا
قنوات لري المزارع والبساتين.
تبدّلت بلادهم
ببركة هذا السد إلى مزرعة عامرة عظيمة ملؤها الأزهار والثمار والفواكه ، فازدهر
اقتصادهم ، وكان منشأً لبلورة حضارة سمّيت باسمهم ، وقد بلغ الرفاه والنعم في
بلدهم إلى درجة كانت الطرق جميعها مُظلَّلة بالاشجار المثمرة ، وكان المسافرون
يمشون تحت ظل الاشجار ما داموا في هذا البلد ، كما كانوا في غنى عن حمل أمتعة معهم
باعتبار وفرة فواكه واثمار أشجار الطريق ، بل كان يكفيهم أن يحملوا معهم سلة
يملؤونها من أمتعة الطريق.
لكن وفور النعمة
يبعث إلى الغرور والغفلة ، فقد بدأ يصدر من البعض ما يكشف عن
__________________
نكرانهم نعم الله
، فكانوا يقولون مثلاً : (يا له من وضع ، فقد كان السفر خاصاً بالأثرياء ، وحالياً
الجميع بإمكانه السفر) ، أو (يا له من بلد تتّصل فيه القرى بالمدن والقرى بالقرى ،
وكل مكان فيه مشجَّر ومعمور؟ يا رب فرّق بين القرى) ، وكثير من الكلمات الاخرى
التي تصدر عن غفلة.
أدَّى نكران
النعمة إلى نزول العذاب الإلهي وتدمير ما كان معموراً.
هل تعلمون كيف
دمّر الله هذا البلد العامر؟ هل دمَّره بالقنابل النووية؟
كلا ، كانوا ضعفاء
كبيت العنبكوت ، فما كانت الحاجة إلى قنابل نووية ، فقد أوكل الله وظيفة تدمير هذا
البلد إلى مجموعة من الفئران ، لكي يُفهم الانسان أن كل قدرة غير الله ضعيفة كضعف
بيت العنكبوت.
أوجدت الفئران
ثقوباً صغيرة في السد توسَّعت هذه الثقوب تدريجياً إلى أن أدت إلى انهيار السد في
ليلة تزامن مع صوت مرعب ، وغطى الماء البلد لكي يتبدَّل إلى مستنقع بعد ما كان
يبدو بلداً أخضر من كثرة الأشجار والمزارع والبساتين ، ولم يعد بلداً مؤهلاً للعيش
، فهجره أهله إلى البلاد المجاورة.
٢ ـ أليس الاتكال
على غير الله اتكال على بيت العنكبوت؟
النموذج الآخر
للقدرات الشبيهة ببيت العنكبوت هو قدرة الشاه نادر قلي أفشار ، فقد استطاع بقدرته
طرد الأفغان الذين كانوا يسيطرون على إيران ظلماً وعدواناً ثمّ أقدم على توسيع
رقعة سلطته ، فهاجم عدَّة دول حتى وصل الهند وتحوّل إلى اسطورة ، لكنَّ هذه
الأسطورة وافاها الأجل ببساطة. في ليلة غضب على أحد طباخيه ، وخوفاً من توقيع حكم
إعدامه صباح اليوم اللاحق سابق الطباخ وأقدم على قتل نادر شاه ليلاً وقطع رأسه ،
وهو نائم.
نعم ، هذا هو شأن
كل قدرة بيت عنكبوتية ، وإذا دقَّق الناس فهموا أنه لا يمكن الوثوق بقدرة غير قدرة
الله ، ولا يمكن الاتكاء على غير الوحيد الأحد.
المثل الثاني
والأربعون :
توحيد المالك
يقول الله تعالى
في الآية ٢٨ من سورة الروم :
(ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم مِنْ
شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخَافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقُومٍ يعْقِلُونَ)
تصوير البحث
نظراً للأهمية
الفائقة للتوحيد وفروعه المختلفة جاء هذا المثل لبيان أحد فروع الشرك والتوحيد ،
منطلقاً من بعض عقائد المشركين وموظفاً وجدانهم وفطرتهم للتفكير في التوحيد ، ومن
خلال طرح بعض التساؤلات حثَّهم على التفكُّر في عبادة الأصنام وقضاياه المختلفة.
فروع التوحيد
للتوحيد فروع
مختلفة نشير إلى بعض منها باختصار.
١ ـ توحيد الذات
توحيد الذات يعني
القول بأن ذات الله تعالى واحدة ، وهو خالق ومبدأ كل شيء ، وفي قبال ذلك الوثنيون
الذين يقولون بمبدأين الكون هما : الله والشيطان ، وأن الانسان مخلوق من الشر
والخير ، وخالق الخير لا يمكنه أن يكون خالقاً للشر ، كما أن خالق الشر لا يمكنه
أن يكون
خالق الخير ،
والله مبدأ الخير ، والشيطان مبدأ الشر.
واجهت الأديان
التوحيدية وبخاصة الاسلام هذه العقيدة ، ومن وجهة نظر المسلم لا شرَّ في العالم ،
وكل ما يوجد هو خير ، لكن الأشقياء يسيؤون استخدام الأشياء ، فالمال والثروة
والمقام والشهوة كلها خير ، لكن المسيئين يستخدمونها بنحو غير مشروع ، وبذلك
يتبلور الشر ، وسوء استخدام شيء لا يدل على كونه شراً.
تجري هذه القاعدة
في حق باقي الأحياء كذلك ، فسموم الحيوانات ليست شراً ؛ لأنها وسائل للدفاع عن
نفسها ، كما أنَّ كثيراً من الأدوية تُعدُّ بهذه السموم ، لهذا نرى اهتمام بعض
شركات صناعة الأدوية بقضية تربية الحيوانات السامة من قبيل الأفاعي.
إذن ، لا شرَّ في
الكون لكي نحتاج للقول بوجود مبدأين للكون ، وكل ما يوجد يُعدُّ خيراً ولا مبدأ
للعالم اكثر من واحد ، فهو مبدأ كل شيء وكل أمر وهو ذات الله ، وهذا ما يطلق عليه
توحيد الذات.
٢ ـ توحيد الصفات
المراد من توحيد
الصفات هو كون كلٍّ من الصفات عين الاخرى ، عكس صفات الانسان ، فكلٌّ منها غير الاخرى.
يدا الانسان من مظاهر قدرته ، ودماغه وسيلته للتعقل والإدراك ، أمَّا الله تعالى
فذاته كلها قدرة وذاته كلها علم ، وذات قدرته عين ذات علمه ، وذات علمه عين ذات
قدرته.
وهناك تفسير آخر
لتوحيد الصفات ، وهو أنَّه لا يمتلك أحد الصفات الإلهية ، وهو وحيد في صفاته
ومنفرد بها ، علمه وقدرته ورحمته وحكمته موجودة فيه بنحو استقلالي ، ولم يأخذها من
آخر ، عكس ما عليه الانسان فقد اكتسب قدرته وعلمه من الله ولم تكن فيه على نحو
الاستقلال ، والله هو الذي منحه هذه الصفات.
٣ ـ التوحيد في
الأفعال
هذا التوحيد يعني
رجوع جميع الأفعال والحركات والنشاطات إليه ، وكل ما يملكه
الآخرون حتى
الأنبياء والأولياء من حياة وحركة ونشاط يرجع إليه تعالى.
إذا قالت الشيعة
بالتوسُّل بالأولياء فلا يعني ذلك قدرة الأولياء على العمل على نحو الاستقلال وأن
قدرتهم على أداء شيء في عرض قدرة الله تعالى ، بل تعتقد الشيعة بقدرة هؤلاء على
عمل شيء بإذنٍ من الله تعالى أو أن بإمكانهم الطلب من الله ليلبي حاجاتنا.
إذا استطاع عيسى عليهالسلام على إبصار الأعمى أو إحياء الموتى أو تبديل تمثالٍ لطير
إلى طير حقيقي أو معالجة المرضى الذين انقطعت الآمال عن شفائهم ، فذلك كله بإذن
الله لا أن عيسى عليهالسلام كان قادراً بنحو مستقل على تنفيذ هذه الأعمال ، كما صُرِّح
بذلك في الآيّة ٤٩ من سورة آل عمران والآية ١١ من سورة المائدة.
خطأ الوهابية في
نسبة الشرك إلى الشيعة وبعض الفرق السنية ينشأ من تصوّرهم أنَّا نقول بالقدرة
المستقلة لكلٍّ من الأولياء ونعتبر قدرتهم في عرض قدرة الله ، مع أنَّا نعتقد في
أولياء والائمة المعصومين نفس الاعتقاد الذي صرَّح به الله سبحانه في حق عيسى عليهالسلام.
يسرّني أن بعضاً
من مفكّريهم التفت إلى هذا الخطأ وأصلح معتقداتهم في هذا المجال ، ونشرت له كتب
تخص الموضوع .
٤ ـ التوحيد في
الحاكمية
الحاكم الوحيد
للكون هو الله تعالى ، ومَن أراد الحكومة فعليه كسب الإذن من الله والعلم وفق
قوانينه ، وهذا ما يُطلق عليه التوحيد في الحاكمية ، وهو من فروع التوحيد.
الحكومات حتى
حكومات الأنبياء تكتسب شرعيتها من تأييد الله لها ، وإذا شكّل النبي صلىاللهعليهوآله حكومة في المدينة فبإذنٍ من الله تعالى. وإذا شكّل الامام
علي عليهالسلام حكومة في الكوفة فبأمر من رسول الله وإذن من الله ، وكذلك
حكومة باقي الأئمة عليهمالسلام.
حكومة الولي
الفقيه في هذا الزمان مشمولة بهذه الضابطة ، فالفقيه يتولّى الحكومة في عهد
__________________
الغيبة ، وفقاً
لما جاء في روايات عن امام الزمان (عجل الله فرجه) وباقي المعصومين عليهمالسلام ، وبهذا تكتسب حكومة الولي الفقيه شرعيتها من الله ، رغم
أن قبولها من قبل الناس يعد عاملاً مؤثراً جيداً في المجال التنفيذي.
الآية ١٨٩ من سورة
آل عمران تشير إلى هذا الفرع من فروع التوحيد ، حيث جاء هناك : (وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ)
٥ ـ توحيد المالك
توحيد المالك يعني
اعتبار الله مالكاً لكلِّ شيء في السماوات والأرض ، بعبارة اخرَى :
الملكية الحقيقية
لله فقط ، وما عند الآخرين فبإذن الله ومنه تعالى. ملكية الله للكون ملكية تكوينية
، فهو الذي خلق الكون وحافظ عليه. وقد جاء في بداية آية الكرسي : (اللهُ لَاإلهَ إلَّا هُوَ الحَيُّ
القيُّوم) ، والقيوّم تعني القائم بالذات والمقوِّم للغير ، أي أن
الله قائم وباق بالاتكاء على ذاته ، وقيام وبقاء باقي الموجودات مرتبط به ، فهو
خالق الكون وحافظه ، ولهذا يُعدُّ المالك الحقيقي له. أمَّا ملكية الانسان للبيت
والسيارة وما شابه فملكية اعتبارية لا حقيقية ، رغم امكانية تصوّر الملكية
الحقيقية في حق الانسان ؛ لأن ملكيته لعينه ويده واذنه وباقي أعضائه ليست ملكية
اعتبارية بحيث يمكن بيعها وشراؤها ونقلها بل ملكية حقيقية ، بالطبع في طول ملكية
الله لها لا في عرضها.
إذن ، الله المالك
الحقيقي للكون كله ، وجعل مالك له غير الله يُعدُّ شركاً ، والمشركون عُدُّوا كذلك
؛ لأنهم كانوا يعتبرون الأصنام تملك النفع والضرر ، ويقولون بتأثيرها بنحو مستقل
لا بإذن الله ، وذلك شرك.
أشارت آية المثل
إلى هذا الفرع من فروع التوحيد ، ومع لحاظ ما تقدَّم نبتُّ بشرحها.
الشرح والتفسير
(ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِن أنْفُسِكُمْ)
جملة (مِن أنْفُسِكُمْ) تشير إلى مطلب جيّد ، وهو أن الله يوظّف معتقدات المشركين
الباطلة
__________________
لإبطال عقائدهم
الاخرى ، وهي نقطة مهمة في المناظرات والمناقشات ، ولا تعني صحة الاعتقادات
الموظّفة والمستدل بها.
(هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا
مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ مِنْ ما رَزَقْنَاكُمْ)
خلاصة المثل : لو
كان لك عبد لا يملك شيئاً ولا صلاحية له لعمل شيء إلَّا بإذنك ، فهل أنت مستعد
لجعل ذلك العبد شريكاً لك فيما رزقك الله وفيما جعله ملكاً لك؟
(فَأنْتُمْ فِيهِ
سَواءٌ)
بأن تتساوى أنت
وعبدك في الأملاك واتخاذ القرارات وإبداء الرأي.
(تَخَافُونَ كخيفتِكُم
أنْفُسَكُم)
ذكرت تفاسير
مختلفة لهذه العبارة نبيّن واحداً منها :
ان تشترك مع عبدك
في جميع الاموال والممتلكات وتخاف أن يتصرَّف العبد بالأموال المشتركة بنحو مستقل . عندئذٍ فهل أنت مستعد لإشراكه في أموالك كلها؟ أنت غير
مستعد قطعاً. إذن لماذا تجعلون لله شركاء من الأصنام ، مع أن جميع ما في الكون من
مخلوقات لله؟ وهل يمكن أن يكون مخلوق الله شريكاً له؟
عبدك ليس شريكاً
لك ، فكيف تجعل مملوك الله شريكاً له؟ أنت غير مستعد لإشراك عبدك في أموالك رغم
أنَّ ملكيتك لها اعتبارية ، فكيف لك أن تجعل مخلوق الله شريكاً له ، مع أن ملكيته
للمخلوقات حقيقية؟
(كَذَلِكَ نفصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
العقلاء والعلماء
والمفكرون مخاطبون في القرآن دائماً ، والدين الذي يدعو دائماً للتعقل والتفكير
والعلم هو دين إلهي ؛ لأنَّ الأديان الباطلة وغير السماوية تدعو للجهل ، وتجعل
__________________
أتباعها يعيشون
الجهل لكي يتيسَّر لها الاحتفاظ بهم.
جاء في رواية عن
الامام الصادق عليهالسلام : «إن الثواب بقدر العقل» ، وبناءً على هذا الحديث لو أنَّ عدداً من الناس صلوا
ركعتين فانهم لا ينالون ثواباً متساوياً ، فقد يعادل ثواب صلاة أحدهم مائة ألف ضعف
ثواب صلاة الآخر ، بل قد لا يصل ثواب صلاة أحدهم مستوى ثواب ركعتين ؛ وذلك لأن
العقل مُعامِل لثواب الأعمال.
خطابات الآية
١ ـ الله مالك
لكلِّ ضرر ونفع ، ولا يؤثر شيءٍ دون إذنه ، وحتى النار لا تحرق دون إذنه ، ولهذا
لم تحرق نار نمرود إبراهيم عليهالسلام ولم تضرّه أقلّ ضرر ؛ لأن الله لم يأذن لها بذلك.
السكين لا تقطع
دون إذن الله ، ولهذا لم تذبح إسماعيل رغم ظرافة رقبته ورغم قوّة إبراهيم عليهالسلام ؛ وذلك رغم أن الله أمر الخليل بالذبح إلَّا أنَّه لم يأذن
للسكين بالقطع ، وهذا ما يُدعى بالتوحيد في الأفعال.
٢ ـ تقدَّم أن
الله يستخدم بعض عقائد المشركين ويوظّفها لغرض إبطال عقائدهم الاخرى ، رغم أن
العقائد المستخدمة غير صحيحة. وقد استخدم القرآن هذا المنهج في آية هذا المثل ،
وأثبت بطلان عقائدهم من خلال عقائدهم ذاتها ، وقال : إذا كنتم غير مستعدين لتشريك
عبيدكم بأموالكم وممتلكاتكم فكيف لكم أن تجعلوا مخلوقات الله شركاء له؟ بالطبع لا
يعني ذلك أنهم لو استعدوا لهذه الشراكة جاز جعل شريك لله.
وقد استخدم هذا
المنهج في موارد اخرى كذلك ، على سبيل المثال يعتقد المشركون بأن الملائكة بنات
الله ، مع أنَّهم يخجلون من تبشيرهم بولادة بنت لهم ، كما نقرأ ذلك في الآية ٥٧ ـ ٥٩
من سورة النحل :
(وَيَجْعَلُون للهِ
البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشتَهُونَ وإذا بُشِّرَ أحَدُهُمْ بالانْثى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسوَداً وَهُو كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ ما
بُشِّرِ بِهِ أيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ألا سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ)
__________________
إذا كنتم تعدّون
البنت موجوداً غير ذات قيمة فلما ذا تجعلون لله بنات. بالطبع ، هذا لا يعني إقرار
الله تعالى بما يعتقدون به تجاه البنات ، بل الآية تريد تنبيه المشركين على عدم
انسجام عقائدهم ، وهو بحدِّ ذاته دليل على بطلانها ؛ لأنَّ العقائد الحقة منسجمة
دائماً.
بحث تكميلي
الرق من وجهة نظر
الاسلام
الرق ممَّا يرفضه
وجدان البشرية جميعها ، ولهذا انتفضت ضده البشرية قبل قرن ، لتعلن اغلاق اضبارة
الرق ، وما بات لأحدٍ بعدها الحق في امتلاك انسان آخر أو اعتباره عبداً له ، رغم
أن بعضاً من مدافعي ما يصطلح عليه بحقوق البشر يمارسون هذه التجارة ويشترون
أطفالاً من الدول الفقيرة بأسعار زهيدة ليبيعونهم في الدول الغربية بأسعار باهضة.
سؤال
: ما رأي الاسلام
في الرق؟ وباعتبار أن الاسلام بشَّر بالحرية ، فهل خطى في هذا المجال؟ وهل سلك
منهجاً خاصاً لتحرير العبيد؟
الجواب
: لاتّضاح الجواب
على هذا السؤال ينبغي توضيح ثلاثة مطالب :
الاول
: لم يبدع الاسلام ظاهرة العبودية ، بل هي كانت موجودة قبل
الاسلام بآلاف السنين.
الثاني
: رسم الاسلام
خطَّة لتحرير العبيد ونفّذها خلال مراحل.
المرحلة
الاولى : ترغيب الناس
لتحرير العبيد من خلال أقوال المعصومين عليهمالسلام وكذا أفعالهم ، فعلى سبيل المثال وردت الرواية التالية عن
رسول الله صلىاللهعليهوآله :
«شرُّ الناس من
باع الناس» . طبقاً لهذا الحديث فإن التعامل على الانسان أسوء تعامل ،
ومعاملته أسوء معاملة ، وهناك روايات اخرَى نعرض عن ذكرها.
رغَّب المعصومون عليهمالسلام الناس عملياً في تحرير العبيد ، ومن مفاخر الامام عليّ عليهالسلام أنَّه حرَّر
__________________
ألف عبد من كد يده
. كما أن الامام الحسن عليهالسلام حرَّر إحدى جواريه بداعي أنَّها أهدت له زهرة .
المرحلة
الثانية : الحدّ من مصادر
التعبيد ، فالإسلام منع ترقيق الانسان بسبب ديونه أو سرقته ، كما منع بيع الأحرار
على من غصبهم ، كما نهى بشدّة عن بيع الأولاد من قبل والديهم بسبب الفقر.
المرحلة
الثالثة : اتخاذ الإجراءات
العملية لتحرير العبيد ، فقد نفّذ الاسلام إجراءات عملية كثيرة في هذا المجال ، من
قبيل فتح مجال لهذا الأمر في باب الزكاة ، وجعل كفارة بعض الذنوب تحرير رقبة ، كما
منع بيع الجارية ذات الولد من مولاها ، لكي تتحرَّر من إرث ابنها بعد وفاة مولاها
، كما سمح للعبيد الاستئذان من المولى للعمل ولتهيئة المبلغ الكفيل لشراء النفس وتحريرها
من مولاها.
سؤال
: لماذا لم يحرِّر
الاسلام العبيد دفعة واحدة ، ولم يعلن حريتهم في وقت واحد؟
الجواب
: لم يكن ذلك لصالح
العبيد ؛ لأنهم كانوا قد قدموا الحجاز من بلاد بعيدة ، ولم يكن لهم في الحجاز أحد
، كما لم يكن لهم ثروة ، ولو تركوا أحراراً آنذاك لانسابوا في الشوارع والأزقة ،
ولشكّلوا كارثة ، ولمات بعضهم من الجوع ، أمَّا لو تحرّروا بنحو تدريجي لاستقطبهم
المجتمع دون مشكلة.
الثالث
: غيَّر الاسلام
مفهوم العبودية ، ونهى عن قتل العبيد وتعذيبهم وإيذاءهم ، واعتبرهم كباقي الناس ،
ومنحهم نفس الشخصية التي يتمتّع بها باقي البشر ، ولهذا كان الامام علي عليهالسلام يشتري ثوبين ويعطي واحداً منهما لقنبر غَلامه ، وفي رواية
أنه اشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين وطلب من قنبر أن يأخذ الذي
بثلاثة دراهم .
وبهذا لا يبقى
العبد عبداً بل يصبح سيداً ، بل أكثر من ذلك حيث سمح الاسلام للعبد أن يصبح إمام
جماعة وقاضياً وآمراً عسكرياً.
__________________
وجاء في سيرة
الامام السجاد عليهالسلام : كان له عبد كسول وكثير النوم ، فدخل الامام المنزل يوماً
ورآه نائماً وقد عرق كثيراً من شدَّة الحر فأخذ يروّح له بالمروحة ، وبعد ما
استراح استيقظ ، فقال له الامام : استرح لكن عليك أداء وظيفتك تجاهنا كذلك.
للمزيد راجع
الأمثل ذيل تفسير سورة محمّد صلىاللهعليهوآله.
__________________
المثل الثالث
والأربعون :
انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة
يقول الله تعالى
في الآيات ١٣ ـ ٣٠ من سورة يس :
(وَاضْرِبْ لَهُم
مَثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلنَا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا
إلَيْكُم مُرْسَلُونَ* قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ
الرَّحْمَنُ مِن شَيءٍ إِن أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ* قَالُوا رَبُّنَا
يَعْلَمُ إِنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا البَلاغُ
المُبِينُ* قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لئِن لَمْ تَنتَهُوا
لنَرْجُمَنكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالُوا طَائِرُكُم
مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَل أَنتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ* وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا
المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ*
اتَّبِعُوا مَن لَّايَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ* وَمَالِيَ
لَاأَعْبُدُ الذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ*ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ
آلِهَةً ان يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّاتُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيئاً
وَلَا يُنقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* إِنِّي آمَنتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ* وَمَا
أَنزَلنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنزِلِينَ* إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ* يَا
حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأتِيهِم مِن رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِءُونَ)
تصوير البحث
المثل المزبور
يرتبط بوضع المسلمين في مكة ، فقد كانوا فئة قليلة ، وكان المشركون يشكّلون
الأكثرية ، والقرآن استهدف من بيانه هذا المثل إعطاء المسلمين وعداً بالنصر
وتسكين قلوبهم
وطمئنتها من خلال نقل قصص ذات صلة. هذا من جانب ، ومن جانب آخر هدَّد فئة الأكثرية
من المشركين وحذّرهم من الاغترار بكثرة نفوسهم وقدرتهم فقد تغلب الفئة القليلة
الفئة الكثيرة.
يمكن النظر إلى
آية المثل من زاويتين ، وفقاً لإحداهما تكون الآية تشجيعاً وطمئنة للأقلية ،
ووفقاً لثانيهما تكون الآية تهديداً لأعداء الاسلام ومشركي مكة.
الشرح والتفسير
تذيّلت هذه الآيات
بأبحاث مختلفة في الروايات والتفاسير ، نأتي بملخّصها هنا ، لكن قبل شرح الآيات
نوضّح مفردة (قرية) و (أصحاب القرية).
القرية لغة تعني
جمع الناس أو المصر الجامع ، ولهذا أطلق القرآن هذه المفردة على مكة رغم كونها مدينة كبيرة آنذاك ، كما استخدمت هذه المفردة في
مصر (البلد العربي
المعروف) ، والقرية تُطلق على كل تجمّع للناس سواء كان ذلك في ريف أو مدينة ،
وسواء في المدينة الكبيرة أو الصغيرة أو بلد ، فهي تصدق على كل تجمُّع سكاني
انساني ، لكن المعنى المراد في الآية هو الاول ، أي تجمُّع الناس.
والمراد من أصحاب
القرية هو أهالي انطاكية ، وهي مدينة تقع في جنوب شرقي تركيا على ضفاف البحر
الأبيض المتوسط ، وقد كانت جزءً من الشامات في السابق ، أي جزءً من الروم الشرقية
، ووقعت بأيدي الفرنسيين في الحرب العالمية الاولى ، وقد أراد الفرنسيون إرجاعها
إلى المسلمين آنذاك ؛ لكنهم وجدوا أغلب أهاليها من المسيحين واحتملوا إيذاءهم من
قبل المسيحيين فأعطوها لتركيا.
كانت انطاكية قبل
ظهور المسيح بلداً عامراً ومركزاً لتجمُّع المشركين وعبدة الأوثان ، وبعد بعثته
أرسل إليها اثنين من حوارييه يُدعيان بولص وبرنابا .
__________________
التقى المبعوثان
قرب انطاكية راعياً كبير السنّ يُدعى (حبيب النجار) ، فحصل حوار بينهم ، سألهما
حبيب النجار : من أنتما ومن أين جئتما؟ فقالا : نحن مبعوثا السيد المسيح رسول الله
عيسى ، بُعث مؤخراً ، جئنا انطاكية لدعوة أهلها إلى عبادة الله ودين عيسى عليهالسلام.
قال الشيخ : هذا
إدعاء كبير ، ويمكن لكلِّ أحد أن يدعيه ، فهل لكما دليل ومعجزة لاثبات كلامكما؟
قالا : نعم ، نشفي
الذين استعصت أمراضهم.
قال الشيخ : لي
مريض قعيد المنزل منذ سنوات ، فإذا عالجتموه كنت أول من آمن بكم.
قصد المبعوثان
المريض وعالجاه ، وبذلك آمن حبيب النجار بالدين الجديد. ثمّ دخلا المدينة ودعيا
الناس إلى الدين الجديد ، فآمن المشركون بعد ما رأوا معاجز منهما. وانتشر خبرهما
وشاع في انطاكية كلها ، فكان الناس يقصدونها أفواجاً أفواجاً ويؤمنون بهما.
غضب من هذا
التحوّل أولئك الذين كانوا يرون مصالحهم في الاستمرار على عبادة الأصنام ، فهاجموا
المبعوثين وانهالوا عليهما بالضرب الشديد.
أحاط الخطر ببولص
وبرنابا ، فقصدا ملك أنطاكية يشتكيان عنده حالهما ، لكن هؤلاء منعوهما من لقائه.
وبعد التفكير في الموضوع قرّرا الانتظار جنب جدار القصر ويلفتا نظر الملك بالتكبير
(الله أكبر) عند ما يخرج ، باعتبار كون التكبير عبارة جديدة ، وعندها يلتقيان به
ويطرحان شكواهما عنده.
بعد مدَّة خرج
الملك من قصره ، فكبَّرا ، فسمع تكبيرهما وانتبه لهما ، فسأل حواشيه : مَن هما؟
فأجابوه : إنَّهما انتفضا على أصنامنا وأهانوها ، فأمر بسجنهما دون أن يسمع
كلامهما.
بلغ عيسى عليهالسلام خبر اعتقالهما ، لكن هذا الخبر لم يثنه عن عزمه ولم يثبط
عزيمته في الدعوة إلى التوحيد ، فكان يعلم بأن التبليغ لا يتمُّ إلَّا بمبالغ
طائلة وثمن غالٍ وبشهداء ومعوّقين واسرى ، وينبغي تحمُّل هذه كلها لأجل القيام
بهذه المهمَّة ، فأمر شخصاً آخر لاستمرار عملية التبليغ ، وهو (شمعون الصفا) رئيس
الحواريين.
__________________
بعد دخول شمعون
المدينة أدرك ما كان قد أوجده الدين الجديد من ضجيج وصدى ، فما رأى المصلحة في
التبليغ له بنحو مباشر بل في التقرُّب إلى الملك مستهدفاً النقطة الأساسية للخطر.
ولأجل ذلك أوجد تدريجياً علاقة صداقة مع بعض شخصيات البلاط ، وباعتبار حسن بيانه
وفكره وأخلاقه كسب ثقة البلاط بسرعة ، فعرّفوه إلى الملك ، وبعد فترة قصيرة استطاع
زرع محبته في قلب الملك وازداد شأنه عند الملك شيئاً فشيئاً.
مضت أيام وهو
يترصد اليوم والفرصة المناسبة لإنقاذ زملائه وللقيام بعملية تبليغ الدين الجديد.
وفي يوم انفتح الكلام عن سجينين يدعيان بولص وبرنابا ، فسأل شمعون الملك : ما
ذنبهما؟ فحكى الملك قصتهما بالتفصيل ، فسأله شمعون : وهل حقَّقت في ذنبهما أم لم
تحقق؟ فأجاب الملك : عند ما شاهدنا نشاطهما غضبنا عليهما وأودعناهما السجن دون أن
نحقِّق في أمرهما.
قال شمعون : كان
من الأفضل أن تحقِّق في أمرهما ، واسمح لهما حالياً أن يأتيا ليتم التحقيق. فوافق
الملك على ذلك وجيء بهما إلى هناك.
لم يعرّف شمعون
نفسه ، وباشرهما بالسؤال : لماذا سجنوكما؟ وما جنايتكما؟
قالا : نحن مبعوثا
الرسول عيسى عليهالسلام امرنا أن ندعو الناس إلى التوحيد.
قال شمعون : وما
دليلكما على ما تقولانه؟ وهل لكما معجزة تثبت ذلك؟
قالا : نعم ،
نعالج المرضى المستصعب علاجهم بإذن الله.
أمر الملك للاتيان
بمريض استحال علاجه فعالجاه ، ممَّا آثار تعجّب الملك وحواشيه.
فسألهما شمعون :
وهل لكما معجزة اخرَى؟
قالا : نحيي
الموتى بإذن الله ، ففعلا ذلك أمام الملك.
عندئذٍ حذّر شمعون
الملك من فقدانه التاج والعرش إذا لم يستسلم لمبعوثي عيسى عليهالسلام ؛ لأن آياتهما صحيحة وتثبت كونهما من مبعوثي رسولٍ بعثه
الله.
وبهذه الخطة
الدقيقة التي رسمها شمعون أسلم الملك بعد ما اتّضحت له الحقيقة ، وبعد ما بلغ
الناس اعتناق الملك الدين الجديد قدموا أفواجاً أفواجاً معلنين اعتناقهم الدين
الجديد.
اعتنقت انطاكية
جميعها هذا الدين الجديد إثر مساعي هؤلاء المبلغين الثلاثة ، وإثر تحمّلهم
المشاق والمتاعب
والسجن والتخطيط الصحيح وتغيير اسلوب الدعوة في الوقت المناسب.
وفقاً لهذا
التفسير ، فإنَّ الآيات الثمان عشرة لهذا المثل عبارة عن طمئنة وتبشير للأقلية
المسلمة المتواجدة في مكة ، فهي تخاطبهم : أيها المسلمون الذين تعيشون تحت وطأة
الضغط والتعذيب ، لا تخافوا قلَّة عددكم ، فإنكم ستنتصرون على الأعداء الأكثرية في
مكة إذا استقمتم وتحملتم المصاعب وواجهتهم المشاكل والمصائب وخططتم تخطيطاً صحيحاً
واستخدمتم الاسلوب الأنجع في الإعلام والتبليغ ، رغم كثرة أعدائكم وتفوّقهم عليكم
بالكمية.
وفقاً لنقلٍ
وحكايةٍ اخرَى لهذه القصة ، شهدت عليه بعض الآيات حسب الظاهر ، فإنَّ رسل عيسى عليهالسلام قتلوا بعد ما بتّوا بالتبليغ هناك ولم يؤمن الملك ولا
الناس بهذا الدين الجديد إلَّا البعض ، فابتلوا بعذاب الله ، وكان من نوع الصاعقة
السماوية ، أشارت لها الآية ٢٩ من سورة يس : (إنْ كانَتْ
إلَّاصَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ خامِدُونَ)
وفقاً لهذا
التفسير ، فإن الآيات المتقدِّمة تهديداً للأكثرية المشركة في مكة ، وتخاطبهم : لا
تغتروا بكثرتكم ، فلا حاجة للكثرة والعدد الكبير لتدميركم ، ويكفيكم صيحة الله
لتوجد زلزال تحترقون به جميعكم.
إذن ، للآيات
المزبورة تفسيران ، أحدهما : كونها طمئنة للمؤمنين ، وثانيهما : كونها تهديداً
للمشركين.
خطابات الآيات
للآيات المزبورة
خطابات كثيرة نقتنع بثلاثة منها :
١ ـ لا تخافوا
قلَّة عددكم
لا ينبغي للمؤمنين
أن يخافوا الأعداء لقلَّة عددهم ، وفي هذا المضمار يقول الامام علي عليهالسلام : «لا تستوحشوا في طريق الحق لقلّة أهله» ، فإن القلَّة عند الله كثرة ، كما جاء في الآية الكريمة :
__________________
(كَمْ من فِئةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ الله) .
على الشباب الذين
يهاجرون للدول الغربية لغرض الدراسة أن لا يخافوا عند ما يجدون أنفسهم وحيدين في
عبادة الله وطاعته بين مجموعة كبيرة من عبدة الأهواء ، ولا ينبغي لهم أن ييأسوا من
هذا الوضع وينجرفوا مع الكثرة.
أيها الموظف
المتدين في الدائرة ، الذي تجد نفسك الوحيد الذي لا تسمح لنفسك أخذ الرشوة ، عليك
أن لا تخاف من انفرادك ، واسعَ لأن تنهى زملائك عن المنكر وتأمرهم بالمعروف ، وإذا
صبرت واستقمت في هذا الطريق فسيلتحق بك الآخرون.
٢ ـ الاتحاد سرّ
الانتصار
خطاب الآية الآخر
هو الاتحاد والوفاق ، فقد انتصر الحواريون عند ما تكاتفوا ، والتكاتف هو سر
انتصارهم وكل انتصار يحصل في مكان أو زمان ما ، وهو أمر نحتاجه في هذا الوقت أكثر
من أي وقت آخر ، وكل ما يدعو للتفرقة هو من الشيطان ؛ لأن الفرقة منه.
٣ ـ التخطيط في
التبليغ
ينبغي بالاعلام
والتبليغ أن يتم وفق خطة ومنهج مُعد ، فعلى حواريي عيسى الأولين أن يدعوا الناس
إلى التوحيد علناً ، وعند ما ابتلوا بالسجن كان على شمعون أن يسلك المنهج غير
المباشر في التبليغ لكي تحصل النتيجة المطلوبة.
هذا هو شأننا كذلك
، فلا يمكننا النجاح في العمل مع وجود عدوٍّ مكّار ومحتال إلَّا أن نسير وفق منهج
وخطة مرسومة ، وهل يمكن مواجهة عدوٍّ خطط للاستعمار خلال عشرات السنين المقبلة دون
أن يكون لنا خطط وبرمجة مناسبة؟
__________________
المثل الرابع
والأربعون :
الشرك والتوحيد
يقول الله تعالى
في الآية ٢٩ من سورة الزمر :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتشَاكِسونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ
يَستَوِيانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)
تصوير البحث
هذا المثل ككثير
من أمثال القرآن يدور حول محور الشرك والتوحيد. شبِّه المشرك هنا بالعبد الذي
يملكه أرباب متعددون ومختلفون فيما بينهم كثيراً ، كلٌّ منهم يأمر العبد بأمرٍ
مختلف ، ممَّا يسبب حيرة العبد ، كما شبِّه الموحِّد بالعبد الذي له مولى واحد ،
وكل اموره تجري وفق برنامج ومنهج محدد.
التوحيد أساس
الاصول والفروع
الكثير من
المسلمين يتصوَّر أن التوحيد أحد اصول الدين فحسب ، وأنَّه بمثابة باقي الاصول
الخمسة من العدالة والنبوة والامامة والمعاد ، كما أن فروع الدين عشر ، مع أنَّ
التوحيد يُعدُّ الأساس لُاصول الدين وفروعه ، وليس أصلاً في طول باقي الاصول ،
والاسلام طرح أصل التوحيد في مجالات مختلفة ، نشير إلى بعض النماذج.
الاول
: نعتقد أن خالق
الكون واحد ، (اللهُ لا إلهَ
إلَّاهُوَ الحَيُّ القيُّومُ) .
الثاني
: الاسلام يقول
بنوع خاص من التوحيد في حق الرسل والأنبياء ، ولا يفرّق بينهم ويكنُّ الاحترام
لجميعهم ، (لا نُفرِّقُ بَيْنَ
أحَدٍ من رُسُلِه) ، والفرق في رسالاتهم ودينهم ، فلكلٍّ دين خاص بزمانه
وظروفه المكانية والزمانية ، ويُعدُّ حقاً في ذلك الزمان والمكان ، فدين موسى كان
دين الحق في زمانه ، ودين عيسى كان دين الحق في زمانه وعصره ، وهي من قبيل مراحل
التعليم التي تبدأ بالابتدائية وتنتهي بالجامعة وتمر بالمتوسطة والاعدادية ، أمَّا
الاسلام فهو دين إلى آخر الزمان وقيام القيامة ، ويمكن تنفيذه والعمل به في كل عصر
؛ لأن الرسول محمّد صلىاللهعليهوآله خاتم الرسل والانبياء.
إذن يعتقد
المسلمون ـ وفقاً للآية المتقدمة ـ بنوع خاص من التوحيد في حق الرسل والأنبياء.
الثالث
: يمكن تصوّر
التوحيد في المعاد كذلك ، بمعنى أنَّ الناس جميعاً منذ بداية خلق الانسان وحتى آخر
انسان سيجتمعون في يوم القيامة للحساب ، وقد أشارت الآية الكريمة ٤٩ ـ ٥٠ من سورة
الواقعة إلى هذا المطلب ، حيث قالت : (قُلْ إنَّ الأوَّلين
والآخرِين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقاتِ يَومٍ مَعْلُومٍ)
إذن ، هناك نوع
توحيد يمكن مشاهدته في يوم القيامة.
الرابع
: الناس والبشر
مشمولون بنوع خاص من التوحيد ؛ لأنهم جميعاً من أب واحد وامّ واحدة ، وكلهم سواسية
عند الله تعالى ولا رجحان لأحدهم على الآخر إلَّا بالتقوى. وقد أشار القرآن إلى
هذا الصنف من التوحيد في الآية ١٣ من سورة الحجرات : (يَا أيُّهَا النَّاسُ
إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وانثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ
لَتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
كما قال الرسول صلىاللهعليهوآله : «المؤمنون تتكافئ دماؤهُم» ، ولهذا تتساوى دية المسلمين سواء
__________________
الصغير الذي لم
يمضِ من عمره إلَّا عاماً منهم والكبير الذي أتمَّ مراحل دراسية عُليا.
الخامس
: القانون والدين
الإلهي واحد ، ولا يُقبل من الانسان إلَّا ديناً واحداً ، وهو الاسلام : (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلامُ) .
السادس
: يتَّحد المسلمون
في القبلة التي يتجهون نحوها في الصلاة.
السابع
: كتاب المسلمين
السماوي واحد ، وهم جميعاً تبع لكتاب واحد ، هو القرآن.
الثامن
: على المجتمع
الاسلامي أن يكون متحداً ليشكِّل امَّة واحدة.
يوجد حالياً أكثر
من خمسين دولة اسلامية تفرِّقها الحدود السياسية والجغرافية ، ومن وجهه نظر
اسلامية لا اعتبار بهذه الحدود ، والمسلمون جميعهم إخوة وسواسية ، وفي هذا المضمار
وردت الرواية التالية : «المؤمن أخو المؤمن» .
ومخلص الكلام أنَّ
الدعوة للتوحيد والوحدة نعثر عليها في كل مكان ، ولهذا لا يُعدُّ التوحيد أصلاً من
اصول الدين فحسب بل أساساً لُاصول الدين وفروعه. وهذا هو سبب تعدّد وكثرة الأمثال
القرآنية التي تعرَّضت لهذا الموضوع.
الشرح والتفسير
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشَاكِسُونَ)
مثَّل الله المشرك
بالعبد الذي يملكه عدَّة أرباب متشاكسين وغير متفقين.
مادة (شَكَس) تعني
الاختلاف والنزاع وسوء الخلق وسوء التعامل والمشاجرة ، وأرباب هذا العبد متشاكسون
ومختلفون دائماً ، ويأمر كلٌّ منهم العبد بأمر يناسبه ، فيتحيَّر العبد ؛ لأن
أحدهم يقول : إذهب إلى المكان الفلاني والآخر يقول له : لا تذهب ، أو أحدهم يقول :
استرح اليوم ، والآخر يقول : عليك العمل اليوم وبذل جهد أكثر ، أو أحدهم يقول :
سافر اليوم ، والآخر يقول : لا تسافر ، وهكذا ...
__________________
هذا من جانب ، ومن
جانب فإنَّه في حيرة من حيث مؤونته الشخصية واليومية ؛ لأن كلاً من الأرباب يلقي
مسؤولية تأمين احتياجاته على الآخر. وبذلك تختل حياته ويظل في حيرة من أمره.
مثل المشركين كمثل
هذا العبد ؛ لأنهم جعلوا حياتهم رهن هذه الأصنام فأصبحوا جاهلين بأهدافهم ، وفي
حيرة من أمرهم ولا يعلمون بأيٍّ يتعلّقون ، فتتعلق قلوبهم بشيءٍ يوماً ما وفي يوم
آخر تتعلق قلوبهم بشيء آخر.
شأنهم شأن غير
الموفقين والفاشلين الذين يبرمون عقدة الصداقة مع أحدٍ في يوم ويفتحونها في يوم
آخر ليبرموها مع آخر ، ويستمرون بنهجهم هذا. أو من قبيل اولئك الذين يميلون مع
الريح اين ما مالت وينضمّون إلى راية في يوم ويلجئون إلى اخرَى في يوم آخر ،
فاليوم تهوى قلوبهم إلى الجاه والمقام ، وغداً إلى الثروة وبعد غد إلى الشهرة ،
ولا ينتبهون إلى ما هم عليه إلَّا وقد انتهت أيام عمرهم.
(رَجُلاً سَلَماً
لِرَجُلٍ)
أمَّا مثل الموحد
فمثل العبد الذي له أرباب واحد ، أمره واضح ، وهو غير متحيّر ، ومطيع لسيده ومسلّم
أمره إليه ، ولا مشكلة له من حيث تأمين احتياجاته.
نعم ، قلوب
الموحّدين تعلّقت بمعبود واحد ، فهو ملجأهم وناصرهم ومعينهم ومرادهم وملبيّ
حاجاتهم ، ولا يرجون أحداً غيره ، ولا إبهام في وظائفهم وما ينبغي عليهم فعله ،
فلا يعيشون حيرة ابداً.
أيها الناس ،
كونوا في ظل معبود كهذا ، ونالوا من نوره الرباني ، وأنيروا طريقكم به ، فإن
العزّة له والقدرة لديه والذلة بيده ، ولو أرادت الدنيا بأكملها شيئاً وهو أراد
شيئاً آخر فلا تتحقق إلَّا إرادته.
كان فرعون قد
قرَّر قتل موسى وهو في بطن امِّه ، ووظّف لأجل ذلك جميع امكانياته ، فبقر بطون
الكثير من الحوامل ، وقتل الكثير من الأطفال ، وارتكب جرائم كثيرة ، لكنه ما توفّق
لتحقيق رغبته وإرادته ؛ لأن الله كان قد أراد شيئاً آخر ، فتربَّى موسى عليهالسلام في حضن فرعون نفسه ، إذن علينا التعلق بربٍّ كهذا.
(الحَمْدُ للهِ)
الحمد خاص له
تعالى ومنحصر به ؛ لأنّه خالق ورازق وحافظ وهادي ، وما من شيء إلَّا منه عزوجل.
(بَلْ أكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ)
المشركون لا
يعلمون شيئاً ؛ لأن الطغيان والشهوات حالت دون إدراك الحقائق.
خطابات الآية
١ ـ وحدة مصدر
القرارات
أول خطاب للآية هو
أن يكون مصدر صناعة القرارات عند المشاكل الاجتماعية واحداً ، فلو تعددت مصادر
صناعة القرار في المجتمع ولم تتَّحد أو تتمركز أصبح المجتمع بمثابة العبد الذي
تعددت أربابه وظلَّ متحيّراً ، وبذلك يفقد المجتمع قواه ، وسوف تستهلك طاقاته في
النزاعات التي تحصل بين التكتلات ، وبعد فترة ينسى المجتمع قضاياه الأساسية.
٢ ـ علي عليهالسلام مصداق كامل لآية المثل
المصداق الكامل
والأتم لهذه الآية التي وردت في العبد ، الذي لا مولى له إلا واحد ، ولا يتّبع
أحداً سواه ويتوكل عليه ، هو مولى الموحدين وأمير المؤمنين عليهالسلام.
في هذا المضمار
ننقل روايتين ، احدهما وردت عن طريق أهل السنة ، والثانية وردت في مصادر الشيعة :
١ ـ ينقل أبو
القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) ، الذي يجمع شأن نزول الآيات ، حديثاً عن
الامام علي عليهالسلام في ذيل آية المثل يقول فيه : «أنا ذاك الرجل السلم لرسول
الله».
نعم ، الامام علي عليهالسلام سلَّم أمره إلى رسول الله واجتنب عن اتخاذ موالي متعددين ،
وهذا ليس ادعاءً ، بل التاريخ يشهد له بذلك ، فقد كان عاشقاً للرسول ومطيعاً له
وذاباً عنه في أخطر اللحظات.
٢ ـ يقول المفسّر
الشيعي الكبير العياشي في تفسيره وفي ذيل الآية المزبورة : «الرجل السلم حقاً
عليٌّ وشيعته».
كان قلب علي
مفعماً بحب الرسول ، وقلوب الشيعة مفعمة بحب علي ، كانت حياة علي إلهاماً من حياة
الرسول ، وحياة الشيعة إلهاماً من حياة علي ، وعلي ضحَّى بنفسه في سبيل الرسول ،
والشيعة يضحّون بأنفسهم في سبيل علي المرتضى.
تكميلاً للبحث
نذكر نموذجين من تضيحات الامام علي عليهالسلام في سبيل الرسول صلىاللهعليهوآله.
الف
: جاء في الآية ٢٠٧
من سورة البقرة :
(وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ واللهُ رَؤوفٌ بالعِبَادِ)
العلَّامة الأميني
رحمهالله من عشاق أمير المؤمنين ومن شيعته ينقل في الجزء الثاني من
كتابه القيِّم (الغدير) تذييلاً للآية عشر مصادر معروفة لأهل السنة يعترفُون فيها
بنزول الآية في شأن علي عليهالسلام ، ويدَّعي التواتر في الروايات المنقولة هنا.
جاء في روايات هذا
الباب : «كمن المتآمرون حول بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله محدقين به من كلِّ جانب ، ومكثوا يرقبون ريثما يغلب عليه
النوم لينهالوا عليه بضرباتهم ، لكنَّ الحق تعالى أطلع رسوله على مكرهم ، ونزل
جبرئيل بقوله عزوجل :
(وَإذْ يَمكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أْوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمكُرُون
وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ) .
وأتاه الأمر بأن
ينام أمير المؤمنين عليهالسلام في فراشه وأن يغادر مكة فأخبر علياً عليهالسلام أن المشركين آتون في طلبه الليلة ، وأنه أمر بالرحيل عن
مكة إلى غار ثور ، وأمر بأن يخلّفه في فراشه ، كي لا يعلم المشركون برحيله ، فسأله
عليهالسلام : وهل ستكتب لك السلامة؟ قال : أجل ، قال : حبّاً وكرامة ،
ثم سجد لله شاكراً ، وكانت تلك أول سجدة شكر في هذه الامة ، ثمّ رفع رأسه وقال :
اذهب أينما أمرت روحي لك الفداء ، ثمّ احتضنه صلىاللهعليهوآله وبكى ، ثمّ استودعه الله ، وأخذ جبرئيل بيده وخرج به من
البيت وهو يقرأ :
(وَجَعَلْنَا مِنْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَينَاهُمْ فَهُمْ
لَايُبْصِرُونَ) .
__________________
فلمّا تقاطروا إلى
البيت عند الصبح وقف لهم أمير المؤمنين عليهالسلام زاعقاً بهم ، فسألوه : أين محمد؟ فأجاب : وهل أودعتموه
عندي؟ لقد خرج ...» .
وبعد ما دار نقاش
بين الإمام وأبي جهل ، قال الأخير : لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد ،
وإلَّا فما منعه أن يبيت في موضعه وإن كان ربّه يمنع عنه كما يزعم؟
فقال علي عليهالسلام : «ألي تقول هذا يا أبا جهل؟ بل الله قد أعطاني من العقل
ما لو قسّم على جميع حمقاء الدنيا ومجانينها لصاروا به عقلاء ومن القوّة ما لو
قسّم على جميع ضعفاء الدنيا لصاروا به أقوياء ، ومن الشجاعة ما لو قسّم على جميع
جبناء الدنيا لصاروا به شجعاناً ...» .
باء
: فرَّ المسلمون في
معركة احد عند ما واجهوا الخسارة ، لكن عليّاً بقي يدافع عن الرسول ويصدّ كل ضربة
توجَّه إليه ، فكانت النتيجة ٩٠ جرحاً ، وبعد انتهاء المعركة بعث الرسول بطبيبين
إلى علي ، لكنهم عجزوا عن معالجته ، وكلما خاطوا جرحاً انفتق جرح آخر لتقاربها.
ثم جاء علي إلى
الرسول قائلاً له : استشهد في المعركة من استشهد من أبطال الاسلام لكن الشهادة
حيزت عنّي وشق ذلك عليَّ.
فقال له الرسول صلىاللهعليهوآله : «أبشر فانَّ الشهادة من ورائك» .
وعند ما ضربه عبد
الرحمن بن ملجم تذكّر ما بشره به رسول الله صلىاللهعليهوآله من الشهادة والقتل في سبيل الله فصاح بصوت عالٍ : «فُزْتُ
وربِّ الكعبة» .
النتيجة أن علياً عليهالسلام أثبت حبّه الوافر للرسول وتضحيته في هذا السبيل ، كما
اتّضح أن الاسلام كأفضل دين وأكمله لم يصلنا ببساطة وسهولة لكي نفقده كذلك ، بل
علينا الحفاظ والدفاع عنه بأثمن ما عندنا ونضحّي بالغالي والرخيص في هذا السبيل.
__________________
المثل الخامس
والأربعون :
المسيح عيسى عليهالسلام
الآيات ٥٧ إلى ٥٩
من سورة الزخرف تشكّل مثلنا الخامس والأربعين ، حيث جاء فيها :
(ولَّما ضُرِبَ ابنُ
مَرْيَم مَثلاً إذا قَومُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ وَقَالُواءَالِهتُنَا خَيْرٌ أمْ
هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إنْ هُوَ
إلَّاعَبْدٌ أنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَني إسْرائِيلَ)
تصوير البحث
لم يمثّل القرآن
هنا كما فعل في أمثال القرآن الاخرى ، بل أشار إلى مثلٍ ضربه المشركون في حق عيسى عليهالسلام.
وهناك اختلاف في
اعتبار هذه الآية من أمثال القرآن ، فبعض أدرجها في الأمثال وبعض آخر رفض ذلك.
معنى (المثل) في
استخدامات القرآن
لأجل اتّضاح
المطلب المتقدّم علينا التعرّف على معنى أو معاني مفردة المثل الواردة في القرآن.
جاءت هذه المفردة
بمعاني مختلفة ، هي كالتالي :
الاول
: المعنى الذي هو
موضع بحثنا في أمثال القرآن ، أي تشبيه معنى معقّد غير محسوس بمعنى محسوس وبسيط
وواضح يسهل هضمه على الجميع ، كتشبيه ثواب الصدقة بحبة أنبتت
سبع سنابل في كل
سنبلة مائة حبة . وأمثال القرآن تبحث عن هذا الموضوع في الآيات حتى لو لم
يرد فيها مفردة (مثل).
الثاني
: ما يطلقه عوام
الناس من تشبيهات للانبياء ، من قبيل ما ورد في الآية ٧٨ من سورة ياسين : (وَضَربَ لَنَا مَثَلاًونَسِيَ خَلْقَهُ
قَالَ مَنْ يُحيى العِظَامَ وَهيَ رَمِيمٌ)
وشأن نزول الآية
هو شخص يُدعى (ابي بن خلف) أو (امية بن خلف) أو (العاص بن وائل) أو (عبد الله بن
ابي) نهض للاحتجاج على الرسول صلىاللهعليهوآله وابطال أدلّته على المعاد ، فأخذ بعظام ومن المحتمل أنَّه
فتتها أمامه وقال له : من يحيى العظام بعد ما تفتتت؟ ومن يستطيع إرجاع الحياة لها؟
وأيُّ عقل يمكنه التصديق بعودة حياة هذه العظام؟
فأجابه الله
جواباً حاسماً قائلاً : (قُلْ يُحييهَا الَّذي
أَنْشَأهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
على أي حال ، وردت
مفردة المثل هنا وتعني ما ضربه الناس من الأمثال لا ما ضربه الله نفسه ، وهي أمثلة
خارجة عن موضوع بحثنا ؛ لأنَّ بحثنا يخصُّ الأمثلة التي ضربها الله نفسه لا الناس.
الثالث
: الحوادث المرّة
والمؤلمة التي يواجهها الانسان في طول حياته ، فقد اطلق عليها مثل في القرآن ، كما
جاء ذلك في الآية ٢١٤ من سورة البقرة :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أنْ
تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ
مسَّتْهُمُ البَاسَاءُ الضَرَّاءُ وَزُلْزِلوا حَتَّى يَقولَ الرَّسُولُ
والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ألَا إنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)
فالمثل هنا فسِّر
بما جرى على مَن تَقدَّم من الأقوام.
الرابع
: بمعنى العبرة ،
وهذا المعنى ورد في الآية ٥٥ و ٥٦ من سورة الزخرف :
(فَلَمَّا آسَفُونَا
انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجْمَعِينَ فَجَعُلْنَاهُمْ سَلَفاً
ومَثَلاً للآخَرِينَ)
المثل هنا بمعنى
العبرة ، كما أنَّ آياتٍ من هذا القبيل خارجة عن موضوع بحثنا ، أي أمثال القرآن.
__________________
الخامس
: بمعنى النموذج والاسوة
، كما ورد ذلك في آية المثل الذي نحن فيه ، أي الآية ٥٩ من سورة الزخرف.
المعنى الأول
للمثل هو المعنى الوحيد الذي يدخل في صلب موضوع بحثنا ، ويخرج منه المعاني الأربعة
الباقية ، فهي خارجة عن كونها أمثالاً قرآنية ، رغم أن البعض ضمّها إلى أمثال
القرآن ، وهو أمر مؤسف ؛ لأنهم جعلوا كل آية اشتملت على مفردة المثل في عداد أمثال
القرآن ، وذلك خطأ.
هل آية هذا البحث
مثل قرآني؟
لهذه الآية تفاسير
مختلفة ومتباينة ، تندرج في عنوان أمثال القرآن وفق بعض التفاسير ، وتخرج عنها وفق
تفاسير اخرَى ، نلفت انتباهكم إلى بعض هذه التفاسير :
التفسير الأول
وفقاً لما جاء في
الآية ٩٨ من سورة الأنبياء فان الأصنام وعبدتها كلاهما في النار ، حيث ورد فيها : (إنَّكُم وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَهَا وارِدُون) ، أي أنهما يصبحان بمثابة الحطب لجهنَّم.
افتعل المشركون
ضجيجاً بأن المسيح وفقاً لهذه الآية يدخل جهنم (نعوذ بالله) ؛ لأنه معبود لبعض
المسيحيين ، وكذلك الملائكة (نعوذ بالله) ؛ لانها معبودات لبعض الناس ، وجادلوا في
هذا الأمر وأخذوا يهزؤون بالرسول ويقولون : إذا كانت جهنَّم مأوى للملائكة ولعيسى
فلا بدَّ وأن تكون مكاناً جيداً ، ونحن مستعدون للذهاب إليها من خلال عبادة
الأصنام.
أجاب الله على هذه
الضجَّة بقوله : عيسى عبد من عبادنا ، لم يدَّعِ الالوهية ، والمعبود الذي يدخل
جهنَّم هو الذي يرضى بأن يُعبد ، أما المسيح لا أنه لم يرضَ على عبادة نفسه فحسب
بل يكره ذلك ويتألَّم منه.
إذن ، ما كانت
الضجّة التي افتعلها المشركون إلَّا جدلاً ومغالطة لا أكثر ، وهي بمثابة الفقاعة
الجوفاء. وبهذا التفسير تخرج الآية عن كونها من أمثال القرآن.
التفسير الثاني
شبَّه الله تعالى
المسيح عليهالسلام بآدم عليهالسلام في الآية ٥٩ من سورة آل عمران ، إذ قال : (إِنَّ
مَثَلَ عِيْسى عِنْدَ اللهِ كَمثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُراب) ، أي أنَّه كما استطاع خلق آدم من تراب ، يمكنه كذلك أن
يخلق عيسى من مريم (سلام الله عليها) دون زواج.
إذا اعتبرنا الآية
٥٧ من سورة الزخرف تشير إلى هذا المثل وأن ضجيج المشركين كان لأجل هذا الموضوع ،
فان الآية عندئذٍ تندرج في أمثال القرآن ، لأنها تشير إلى مثلٍ طرحه الله تعالى ،
وقد استخدم فيه تشبيهاً جميلاً.
التفسير الثالث
عند ما انطرح مثل
عيسى بدأ المشركون بافتعال ضجَّة قالوا فيها : إن الرسول يريد دعوة الناس إلى
عبادته ، ولأجل التمهيد لذلك طرح مثل عيسى عليهالسلام باعتباره معبوداً للنصارى ، والقرآن ردّ على هذه الدعاوي
بقوله : عيسى عبد من عبادنا ، ومن نعم الله على بني اسرائيل.
والآية مندرجة تحت
أمثال القرآن وفقاً لهذا التفسير.
خطابات الآية
الضجيج من معالم
الجاهلية
الجاهل انسان
متعصّب ، والمتعصّب من أصحاب الضجيج لا من أصحاب المنطق.
للامام علي عليهالسلام خطبة في (نهج البلاغة) تُدعى القاصعة ، أشار فيها إلى
الضجيج كبلاء كبير تعاني منه المجتمعات البشرية في الماضي والحاضر ، والخطبة وحدها
تكفي للكشف عن مقام الأمير الرفيع وعلمه وعظمته ومنطقه.
يقول أمير
المؤمنين في جزء من الخطبة : «فالله الله في كِبْر الحمية وفخر الجاهلية ، فإنَّه
ملاقح الشنآنِ ومنافخ الشيطان التي خدع بها الامم الماضية والقرون الخالية حتى
أعتقوا في
حنادس جهالته
ومهاوي ضلالته» .
كلام الامام جميل
جداً ، وكأنَّه بيان لآلآم المجتمع المعاصر ، وعلى متعصّبي مجتمعاتنا الحالية أن
يدركوا خطاب الامام ويتخلّوا عن التعصّب الذي ليس في محلّه ويتركوا الضجيج
ويسلّموا أنفسهم للحق والحقيقة.
__________________
المثل السادس
والأربعون :
الصحابة
آخر آية من سورة
الفتح تشكّل المثل السادس والأربعين من أمثالنا ، يقول الله فيها :
(مُحَمَّدٌ رسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً
سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعدَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً)
تصوير البحث
هذا المثل الجميل
الذي يتكوّن من توصيف ورد في التوراة ومثل ورد في الإنجيل يتحدَّث عن أصحاب الرسول
الحقيقيين ، وهو يحكي ـ من جانب ـ عمَّا كان يتّصف به الصحابة ، ومن جانب آخر يخبر
عمَّا ينبغي عمله وما هي مواصفات من أراد أن يصير مسلماً حقيقياً وناصراً للرسول صلىاللهعليهوآله وأهل بيته.
شأن نزول الآية
نزلت سورة الفتح
بعد صلح الحديبية ، إذ طلب الرسول من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة أن
يستعدوا للحج والعمرة وزيارة بيت الله الحرام ، فأحرم الرسول بصحبة ألف
واربعمائة من
المسلمين في مسجد الشجرة ، وغادروه باتجاه مكة ، ولم يأخذوا معهم من المعدات
الحربية غير السيف الذي كان يحمله كل مسافر لغرض الدفاع عن نفسه ، وبذلك وبارتداء
المسلمين ثوبي الإحرام بدى بوضوح كونهم غير قاصدين الحرب ، وظاهرهم يكشف عن
نواياهم الحقيقية كزائرين.
لأسباب خاصة
تحرَّك الرسول صلىاللهعليهوآله بصحبة المسلمين باتجاه الحديبية ، وتوقّفوا هناك. قلق المشركون واضطربوا بسبب قدوم
المسلمين ، وكان قلقهم ناشىء عن أن دخول المسلمين مكة واتيانهم بمناسك الحج بالنحو
المتباين مع النحو الدارج يثير انتباه باقي الحجاج ويؤثر فيهم أو يميل قلوبهم نحو
الاسلام فيسلمون. ولأجل ذلك قرروا منعهم من دخول مكة ، وبعثوا إلى المسلمين شخصاً
يُدعى (عروة بن مسعود) وهو من علمائهم وأذكيائهم ، وبعد وصوله إلى المسلمين سأل
الرسول عن سبب مجيئة إلى مكة ، فأجاب الرسول : جاء المسلمون للزيارة والعمرة
المفردة ، ولهذا لم يأتوا معهم بعدّة حربية من الدروع والخناجر و... وبعد
المفاوضات تقرَّر أن يبقى المسلمون في الحديبية حتى يخبر عروة زعماء قريش بنتيجة
مفاوضاته مع المسلمين.
وفي هذه الأثناء
شاهد عروة لقطة كانت مؤثرة في انعقاد صلح الحديبية ، لقد شاهد الرسول صلىاللهعليهوآله يتوضأ والمسلمون يتسابقون على قطرات الوضوء التي تسقط من
أعضائه ليتبرّكوا بها.
بعد ما رجع عروة
إلى مكة عرض على زعماء قريش نتائج مفاوضاته وأوصاهم بعدم مواجهة المسلمين ؛ لأن
المسلمين ذائبون في عشق الرسول صلىاللهعليهوآله ومستعدون لكل تضحية وعمل في سبيله ، وذكر لهم قصة وضوئه.
__________________
وبعد نقاش دار
بينهم توصلوا إلى أن يبرموا صلحاً مع المسلمين بشرط أن لا يحجوا هذا العام.
قصد عروة وسهيل بن
عمرو الحديبية لإبرام عقد الصلح مع المسلمين ، وبعد لقائهما الرسول صلىاللهعليهوآله واتفاقهما ، أمر الرسول صلىاللهعليهوآله الامام علي عليهالسلام بكتابة عقد الصلح.
أمر الرسول عليّاً
بكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) لكن سهيل اعترض زاعماً أنَّهم لو كانوا متفقين مع
المسلمين في شعاراتهم لما تنازعوا معهم ، وطلب كتابة (بسمك اللهمَّ) .
ثقل على المسلمين
كلام سهيل ، لكن الرسول صلىاللهعليهوآله وافق عليه وأمر علي كتابة ما كان دارجاً كتابته ثم قال
لعلي : «اكتب! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهيل بن عمرو» ، فقال سهيل : لو
شهدت أنك رسول أنك رسول لم اقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال لعلي : «اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن
عبد الله سُهيل بن عمرو ...» ، وعندئذٍ انعقد صلح الحديبية ، وتقرّر فيه أن يقدم
المسلمون العام المقبل ويقيموا في مكة مدَّة ثلاثة أيام لغرض الزيارة وأداء العمرة
المفردة .
ترتبت آثار كثيرة
على صلح الحديبية ، والفتح المبين الذي أشارت له الآيات الاولى من سورة الفتح هو
هذا الصلح ، فقد كان فتحاً مبيناً حقاً ؛ لكثرة مردوداته الايجابية وبركاته ، رغم
استياء بعض المسلمين والمتطرّفين وضيقي الصدور ممَّن لا ينظرون إلَّا للمستقبل
القريب ، حيث قال البعض : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوآله : «اصبر واحتسب ، فانَّ الله جاعل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجاً ومخرجاً».
وبعد الانتهاء من
كتابة الصلح والإشهاد عليه أمر الرسول المسلمين بالنحر والذبح للإحلال من الاحرام
، ثمّ رجعوا إلى المدينة.
عندها نزلت آيات
تطمئن قلوب المسلمين وتسكّنها وتعدهم بفتح مكة ودخولها بعز : (لَتَدْخُلُنَّ
المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ) ، وهي تعدُّ من معجزات القرآن ؛ لكونها أخبرت عن الغيب.
__________________
كما وعدت الآيات
المسلمين الانتصار على باقي الأديان والمذاهب في العالم : (ليُظهِرَهُ
عَلَى الدّينِ كُلِّهِ) ، ثم أدرجت أوصاف المؤمنين وأصحاب الرسول.
بعد ما اتضح شأن
نزول الآية نبتُّ بتفسيرها.
أوصاف أصحاب الرسول
في التوراة
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ)
الانسان المتعصّب
والجاهل مثل سهيل بن عمرو ينكر نبوة محمد صلىاللهعليهوآله ورسالته ، وهذا لا يغيّر الواقع ، وما على المسلمين أن
يستاؤوا من انكار مثل هذا الشخص ؛ لأن الله خالق الكون قد قبل نبوة محمّد صلىاللهعليهوآله ورسالته.
(والَّذِينَ مَعَهُ
أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّار)
الذين معه ويسيرون
في خطه ولم يدّعوا الاسلام فقط بل اثبتوا كونهم مؤمنين بجدارة في ميادين العمل ،
وكانت عقيدتهم بالرسول صادقة وحقيقية يحملون خمس صفات عالية.
وأنتم كذلك ، إذا
أردتم أن تكونوا من أنصار امام الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فعليكم
الاتصاف بهذه الصفات الخمس.
أول صفة هي أن
يكونوا أشداء وأقوياء أمام الأعداء ، ولا يهابونهم ، بل يقفون أمامهم كالسد المانع
ذي قوة على الصد والمنع الشديد.
وفقاً لهذه الآية
، فإنَّ استخدام العنف في حق الأعداء لا أنه غير مستعاب فقط بل مطلوب ولازم
أحياناً. اولئك الذين يرفضون العنف بالكلية في زماننا هم لا يعرفون معنى العنف ولا
يفهمونه ، ولا معرفة لهم بآيات القرآن وتاريخ الاسلام.
ينبغي الوقوف أمام
الذئب الذي لا يفهم اللين والمنطق والاستدلال باستحكام وقوة ، بل ينبغي استخدام كل
ما نملك من سلاح لصده ومنعه.
كثير من الناس في
عصرنا الحالي هم أسوء من الذئب ، اولئك الذين يبقرون بطن الحامل
__________________
بطلقة رصاص
ويقتلونها مع طفلها تقمّصوا ثوب الانسانية وليسوا بأناس ، وعلينا الوقوف أمامهم ؛
لأنهم لا يفهمون غير العنف ، والعدالة عينها في الدفاع والمقاومة ، وهو أمر منسجم
مع الطبيعة ، وذلك من قبيل كريات الدم البيضاء التي تفزع للمواجهة بمجرد احساسها
بالخطر وشعورها بدخول عدو أجنبي ، أي الميكروبات.
إذن ، أول صفة
لأنصار الرسول هو مواجهة الأعداد بشدّة والوقوف باستحكام أمامهم.
(رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)
الصفة الثانية
للمسلمين الحقيقيين هي اللين والرحمة فيما بينهم بنفس نسبة الشدة التي يتمتعون بها
لمواجهة الأعداء ، فهم شديدون مع الأعداء ومتراحمون فيما بينهم ، أي يتمتعون
بجذابية تجاه بعضهم الآخر ودافعة تجاه الأعداء والكفار ، والمسلم الحقيقي هو الذي
تجتمع فيه صفة القهر واللطف.
لو لم يكن
المجاهدون الشيعة في جنوب لبنان انعكاساً ل (أشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) لاستطاعت اسرائيل الزحف من لبنان إلى باقي الدول المجاورة
لها ؛ لأن اسرائيل ذئب ، والذئب لا يفهم شيئاً غير العنف ، فقد لمع هؤلاء الشباب
وفعلوا فعلتهم ، وكما قال فيهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله : إنّهم
فعلوا ما لم تفعله جيوش الدول العربية جميعها.
(تَراهُمْ رُكّعاً
سُجَّداً)
الصفة الثالثة
للمسلمين الحقيقيين هي علاقتهم المتواصلة مع الله ، فيركعون ويسجدون لله دائماً.
وهذه العبارة تعني
أن أعمالهم جميعها من الركوع والسجود والاستراحة والترفيه والحب والبغض وكل سلوكهم
عبارة عن عبادة ؛ لأنها تصدر عنهم بنية القربة وإرضاءً لله تعالى ، ويستلهمون
قدرتهم وقوتهم من خلال هذه العبادة ، فيبدون أشداء أمام أعداءهم ولينين ورحماء
فيما بينهم.
(يَبتَغُونَ فَضْلاً
مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً)
صفتهم الاخرى هي
خلوص نيتهم تبعاً لرسولهم صلىاللهعليهوآله ، فلا يبتغون ولا يطلبون شيئاً من خلال أعمالهم غير رضا
الله والفضل من قبله تعالى ، ولا نجد في أعمالهم الرياء والتظاهر.
أيّها القرّاء ،
الإخلاص إكسير عجيب ، والانسان يزداد توفيقاً كلما ازداد إخلاصاً ، فالاخلاص
والاخلاص ثم الاخلاص.
(سِيمَاهُمْ فِي
وُجوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السُّجُودِ)
الصفة الاخرى
لأصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله الحقيقيين هو ظهور علامات وآثار العبادة والسجود في وجوههم
، فالإناء ينضح بما فيه.
السيماء في
العربية تعني العلامة ، وعلامة المسلم الحقيقي هو ارتسام عقيدته الباطنية وعباداته
التي يمارسها في الخفاء على وجهه وسرايتها إلى ظاهره ، ونور إيمان قلبه يشع من
وجهه. وإذا وسَّعنا في معاني الآية قلنا : يمكن مشاهدة آثار الإيمان في جميع لقطات
حياته ، في سلوكه الفردي والاجتماعي ، وفي حركاته وسكناته.
(ذَلِكَ مَثَلُهُمْ
فِي التَّوْراةِ)
هذه الصفات الخمس
لأصحاب الرسول صلىاللهعليهوآله ورد ذكرها في التوراة.
أعزتي ، الطريق
واضح ، لكنه بحاجة إلى همّة وإرادة مستحكمة ، اتَّصف بهذه الصفات الخمس لترى نفسك
في لواء أنصار صاحب الزمان (عجل الله فرجه).
يا أيّها الذين
قضوا عمرهم قائلين : (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) ، إن الفوز العظيم في
الاتّصاف بهذه الصفات الخمس.
علي عليهالسلام نموذج كامل للصفات الخمس
في مجال المقاومة
والصمود يقول الامام علي عليهالسلام : «واللهِ لَوْ تظاهرت العرب على قتالي لما ولَّيتُ» ، وهو نفسه الذي كان رمزاً في الغضب والمواجهة كان في ذات
الوقت بحراً من اللطف والعاطفة عند ما يرى يتيماً مسلماً فيجلسه في حضنه ويلاطفه
ويمسح بيده على رأسه ويذرف الدموع عليه ، بحيث لا يصدق أحد أن هذا الرجل هو نفسه
الذي يقف أمام الأعداء كالجبل الصامد.
__________________
علي يذهب لمساعدة
زوجة شهيد ويقرّب وجهه من التنور ليذيق نفسه حرارته ، خوفاً من أن يغفل يوماً عن
الأيتام.
علي يعيش العبودية
دائماً ، فهو أسوة العابدين وقدوتهم ، وأحياناً يأتي بألف ركعة يومياً .
لا مثيل لإخلاص
علي ، فكان قطعة من الإخلاص ، عند ما بارز عمرو بن عبد ود في معركة الخندق غلبه
وكاد يقتله فبصق عمرو في وجه علي وشتمه فتوقف عن قتله ومشى قليلاً في ميدان
المعركة ثم قتله ، وعند ما سأله المسلمون عن سبب ذلك الإجراء وأنّه لماذا لم يقتله
مباشرة بعد ما تغلّب عليه ، قال : «قد كان لشتم امي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه
لحظّ نفسي فتركتُهُ حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله» ، أي أنه لو كانه قتله مباشرة كان لانتصار النفس سهم في
قتله فهدّأ نفسه لكي يكون قتله خالصاً لوجه الله تعالى.
علائم الايمان
كلها مطبوعة في سلوك علي ، وآثار العبادة تشع من وجهه النوراني.
مثل أصحاب الرسول
في الإنجيل
قرأنا أوصاف أصحاب
الرسول في التوراة من خلال الأسطر السابقة ، وهذا يكشف ضمنياً عن أن الرسول ليس
الوحيد للذي كان قد ذُكر في التوراة والانجيل بل وكذلك أصحابه من خلال ذكر أوصافهم
، كما تقدم توضيح ذلك.
آية المثل أشارت
إلى مثل أصحاب الرسول الحقيقين في الانجيل وقالت :
(وَمَثَلُهُمْ في
الإنجيل كَزَرْعٍ)
أي مثل أصحاب
الرسول الصادقين في كتاب النصارى السماوي (الانجيل) كمثل المزرعة أو الزرع الذي له
مواصفات خمس.
١
ـ (أخْرَجَ شَطْئَهُ)
__________________
للشطأ معنيان ،
أحدهما : ما يخرج حول اصول الشجر ، فينمو تدريجاً ليستقل ويصبح شجراً بعد مدة.
ثانيهما : فراخ الحيوانات إذا ازدادت ، وعلى العموم الشطأ يفيد معنى التكاثر
والتوسّع وما شابه.
أول خصلة للزرع
المذكور في الآية هو أنه غير عقيم بل يتكاثر وتزداد رقعته ، ولا حدود له.
٢
ـ (فَآزرَهُ)
آزر يؤازر تعني
الرعاية والحماية والتقوية ، وقد اطلقت مفردة (الوزير) على المقام المعروف ،
باعتباره يقوّى الملك ويحميه ، كما اطلقت هذه المفردة على الامام علي عليهالسلام ؛ باعتباره يدافع عن الرسول ويحميه ويسعى في طريق تقوية
الدين.
الزراعة المفروضة
في المثل لا أنها تتكاثر وتنمو وتزداد فحسب بل فراخها وما ينتج منها ترفع الموانع
من طريقها وتؤمن احتياجاتها وتقوي أصلها وتؤازره.
٣
ـ (فَاسْتغْلَظَ)
الخصيصة الثالثة
هي أن الشطأ المحمي في المزرعة يستحكم في الأرض تدريجياً وفي ظل هذه الحماية
يستغلظ ويقوى.
٤
ـ (فَاسْتَوَى عَلى
سُوقِهِ)
تستمر الرعاية
والحماية للشطأ إلى حيث تشعر بالاستقلال وعدم الحاجة إلى التقوية والحماية وأن عهد
الارتباط والحاجة للغير قد ولَّى ، وتقوم بنفس العمل الذي كان أصلها يقوم به ،
ويمرُّ شطؤوها بالمراحل التي مرَّ بها الأصل ، أي المؤازرة والاستغلاظ والاستقلال.
٥
ـ (يُعْجِبُ الزُّراعَ
لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّار)
نمو الزراعة
وتكاثر اصولها كبير ومبارك جداً بحيث تثير إعجاب المزارعين والفلَّاحين وتجعلهم في
حيرة من أمرها ، فيضعون أصابعهم في أفواههم تعجباً ، لما يشاهدونه من سرعة نمو
الاشجار وازديادها بحيث تغطي المزرعة بعد فترة قصيرة. أما الكفَّار فيمتلؤون
غيظاً.
(وَعَدَ اللهُ
الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرَاً عَظِيماً)
وعد الله أصحاب
الرسول بالمغفرة والأجر العظيم إذا تحققت فيهم شرطان ، الاول : آمنوا بالله
واصلحوا اعتقاداتهم حقاً.
الثاني : كانت
أعمالهم صالحة كنتيجة للاعتقادات السليمة ، وهذا يعني أن الله لم يعد جميع الصحابة
بل ذلك البعض الذي تحققت فيه الشروط المزبورة. والشاهد على ذلك هو أنَ (منهم) تبعيضية ، وتخصُّ بعض الصحابة ولا تشمل الجميع.
الخلاصة : الآية
شبهت أصحاب الرسول بالمزرعة النامية ، ولأجل إيمانهم وأعمالهم الصالحة بشّرتهم
بالمغفرة والأجر العظيم.
خطابات الآية
١ ـ الاسلام دين
عالمي
الآية المتقدّمة
من أمثال القرآن العجيبة ، وتحمل معها خطاباً مهماً وعظيماً للمسلمين.
وفقاً لهذه الآية
، لا ينبغي للمسلمين أن يسعوا لإصلاح أنفسهم وحفظ دينهم وعقيدتهم فحسب ، بل عليهم
التفكير والسعي لأجل نشر الاسلام وهداية باقي الشعوب والامم. حفظ الدين أمر مطلوب
ومستحسن لكنه غير كاف ، وعلى المسلم أن يخرج شطأً ويهتمَّ بتربية تلامذة وأولاداً
طيبين ويختار أصدقاء جديرين ويهمَّ بإصلاحهم ، ويشكّل عائلة نموذجية ، ويرعاهم
ويحميهم لكي يستحكموا تدريجياً ويستقلوا ، ثمّ كلٌّ منهم يدخل خط الانتاج والنمو
والحماية والاستحكام والاستقلال.
المجتمع الاسلامي
مجتمع متنامي ومتسع ومتكاثر ، وليس محدوداً ومنحصراً في حدوده ولا يتقدَّم ولا
يتطوَّر. الآية تأمر المسلمين أن لا يقتنعوا بما لديهم بل عليهم السعي لعولمة
الاسلام ، أي دين الحق الوحيد.
ما ذا يقول القرآن؟
وما ذا انجزنا وما عملنا؟ وما ذا أنجز الآخرون وما عملوا؟ القرآن ـ وفقاً لهذه
الآية ـ يأمرنا باستخدام كل ما لدينا من وسائل وآليات من المرسلات والأقمار
الصناعية والكامبيوتر والانترنت والمطبوعات والكتب والصحف والمبلّغين والسينما
وتوظيفها جميعاً لغرض تبليغ الاسلام وإيصال رسالته إلى العالم كله.
هل ترجمنا القرآن
، الذي هو وصفة سعادة البشر ويحتوي على أفضل المعارف الدينية ، إلى لغات أجنبية؟
هذا في وقت ترجم فيه الانجيل المحرَّف إلى آلاف اللغات وعرض على جميع الشعوب
والأقوام.
وهل عملنا هذا
يعدُّ استخداماً مناسباً للوسائل المتقدمة والتقنية الحديثة؟
آية المثل توجّه
خطابها للحوزات العلمية لأن يعدّوا مبلغين جديرين وبارزين ملمّين باللغات الأجنبية
تلبية للطلبات ، سواء في داخل الدول الاسلامية أو خارجها.
بعد تحطّم الاتحاد
السوفيتي شعرت اوربا الشرقية بفراغ عجيب ، وباعتبار وجود مسلمين هناك تبلورت
الأرضية لقبول الاسلام من قبل الاوربيين ، لكن ممَّا يؤسف له أنَّا كنَّا نفقد
المبلغين الذين ينطقون بلغات اوربا الشرقية ، ففقدنا هذه الفرصة الذهبية ، في وقت
أرسل البابا إلى هناك مائة ألفٍ من مبلّغيهم الذين ينطقون بلغات اوربا الشرقية مع
رأس مال يقدَّر بمائة مليون دولار ، وبذلك كانت الفرصة من نصيب المسيحيين.
في هذا المجال
مسؤولية الحوزات العلمية والجامعات والحكومات الاسلامية والآباء والامهات والمربين
والمعلمين والله ثقيلة جداً.
زعماؤنا الدينيون
كانوا موفقين في هذا المجال ، كما كانوا موفَّقين في المجالات الاخرى ، على سبيل
المثال كانت لعلي عليهالسلام في عصره كلمات وخطب وحكم ورسائل كثيرة مفعمة بالمعارف ،
وقد جمع (نهج البلاغة) مقتطفات من تلك الكلمات والخطب والرسائل ، ليت السيد الرضي
كان قد جمع كل ما صدر منه من رسائل وخطب وكلمات وحكم.
كان علي عليهالسلام بمثابة الزرع الذي يخرج شطأه ، كان منشغلاً دائماً في
هداية الناس والنشاطات الاجتماعية والعبادية. نشاهد عدد الألف في سيرة علي عليهالسلام كثيراً ، فقد حرَّر ألف عبدٍ من كد يده ، وكان أحياناً يأتي بألف ركعة يومياً ، وقتل في ليلة من ليالي معركة
__________________
صفين خمسمائة وعلى
رواية ألفاً من أنصار معاوية ، وكان يكبر عند كل ضربة .
على الشيعة أن
يقتدوا بعلي في جميع امورهم وبخاصة في مسائل من هذا القبيل.
ما الذي عمله
النبي صلىاللهعليهوآله في صدر الاسلام؟ كيف نمى الاسلام الذي ظهر في مهد الجاهلية
وعلى أرض مكة الجرداء؟ كيف أخرج شطأه وتوسّعت رقعته ليغطّي أكثر بقاع الأرض خلال
فترة تقل عن مائة عام؟
كانت مكة آنذاك
محاطة بخمس حضارات ، في الشمال الحضارة الرومية ، وفي الشرق الحضارة الفارسية وإلى
جنبها حضارة بابل في العراق ، وفي الجنوب حضارة اليمن ، وفي الغرب حضارة مصر ،
وعند ما بدأت تنمو شتلة الاسلام استحكمت واستقلت ثم بدأت تخرج شطأً فشطأً ، وفي
فترة تقل عن القرن فتحت ايران واليمن ومصر وبابل ، واستطاعت الشتلة أن تغطّي
ببراعمها بلاد أربع حضارات.
على المسلمين أن
يكونوا هكذا ، لكن ممَّا يؤسف له أنَّ بعضنا لا يسعى في تربية أولاده ، فهو لا
يراهم ولا يلتقيهم إلَّا وهم نائمون ، يستيقظ صباحاً وهم نائمون ولا يرجع إليهم
إلَّا ليلاً حيث غرقوا في نومهم ، ولا مجال له ليباشر عملية تربيتهم.
آخر شيء تبقَّى
أنَّ المسلمين حالياً إذا أرادوا أن يكونوا كما كان المسلمون في صدر الاسلام حيث
فتحوا بلداناً كثيرة فعليهم أن يصلحوا أنفسهم وأن يدعوا الاختلافات ويبدّلوا
فرقتهم إلى وحدة واتحاد وكتبهم وصحفهم إلى كتاب واحد وصحيفة واحدة.
٢ ـ المثل لا يشمل
جميع أصحاب الرسول
يُطلق الصحابي على
كل مَن تشرَّف في الكون بخدمة الرسول صلىاللهعليهوآله وزاره من قريب ، لكن هل المثل الجميل المذكور في الانجيل
يعم كل من كان صحابياً أم يخصُّ البعض من الصحابة؟
الجواب
: يتّضح جواب هذا
السؤال من خلال التدقيق في الآية ذاتها ، فقد جاء في ذيلها : (وَعَدَ اللهُ
الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحات مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجراً عَظِيماً)
__________________
والآية تقسِّم
الصحابة إلى القسمين التاليين :
الأول
: الذين آمنوا منهم
وعملوا الصالحات فلهم أجر عظيم.
الثاني
: الذين لم يؤمنوا
حقيقة وما عملوا الصالحات فهم محرومون من الأجر الإلهي العظيم.
إذن ، تنزيه جميع
الصحابة ـ كما فعل ذلك بعض أهل السنة ـ لا ينسجم مع القرآن الكريم ؛ لأن هناك آيات كثيرة خصوصاً في سورة التوبة وردت في ذم
بعض الصحابة ، مع أنَّا لو نزّهنا جميع الصحابة واعتبرناهم جيّدين ، فلما ذا
تنازعوا فيما بعد؟ ألا يعدُّ ذلك تناقضاً؟
في أحد أسفاري إلى
مكة كان لي نقاش في المسجد الحرام بعد صلاة المغرب مع بعض الاخوة من أهل السنة ،
جرّنا الحديث إلى قضية الصحابة ، فكانوا يقولون : إنَّهم منزَّهون جميعاً ،
فسألتهم : لو كنتم في حرب صفين فتنضمُّون إلى عسكر الامام علي عليهالسلام أم معاوية؟ فقالوا : إلى عسكر علي عليهالسلام ، لكنَّا لا نسيء إلى معاوية.
فسألتهم : لو
أعطاكم الامام علي سيوفاً وأمركم بقتل معاوية فما تفعلون؟ قالوا : ننفّذ أمر علي
ونقتل معاوية ، لكنَّا لا نقول في معاوية إلَّا قولاً حسناً؟! وهذا يشبه النصب
والهزل أكثر من الحقيقة.
يبرّر البعض هذا
المنهج من التفكير بأن كلاً من علي ومعاوية عمل وفق اجتهاده واستنباطاته الشخصية ،
ولذلك لا يعدان مقصرين ، وكذا الحال بالنسبة إلى طلحة والزبير وعائشة ، فما خروجهم
عن خلافة الامام علي عليهالسلام إلَّا وفق اجتهاداتهم ، ولهذا لا يعدون مذنبين أو مقصرين
عند الله ؛ لأن كلاً منهم عمل وفق ما تفرضه عليه وظيفته الشرعية.
بطلان هذا التبرير
واضح جداً ، فإذا قبلنا هذا الكلام فلا يبقى مذنب على وجه الأرض ، لأن هابيل
وقابيل عملا وفقاً لما تمليه عليهما اجتهاداتهما واستنباطاتهما ، ولا يمكن مؤاخذة
أيٍّ منهما وفقاً لهذا المنهج ، كما أنَّ كلاً من موسى وفرعون ، وإبراهيم ونمرود ،
وعيسى وعبدة الأصنام ، وشعيب وقومه و... عمل وفق اجتهاده واستنباطه ، ولا يُعدُّ
واحد منهم مقصّراً أو مذنباً!!!
__________________
المثل السابع
والأربعون :
الغيبة
يقول الله في
الآية الثانية عشر من سورة الحجرات :
(يَا أيُّها الَّذِينَ
آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظنِّ إنَّ بَعْضَ الظنِّ إثْمٌ وَلا
تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يَأكُلَ
لَحْمَ أخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ)
تصوير البحث
رغم عدم ورود
مفردة مثل في هذه الآية ، إلَّا أن أمراً معنوياً وغير مادي شُبِّه فيها بأمر
محسوس ومادي ، لهذا تندرج في أمثال القرآن.
في هذه الآية
شُبِّهت الغيبة ، التي هي من الذنوب الكبيرة والخطرة وبلاءً عاماً ، بأكل لحم الأخ
الميت ، وتريد القول من خلال ذلك : كما أنَّه لا أحد يأكل لحم أخيه كذلك الحال
المفروض في الغيبة ، فلا ينبغي أن ترتكب أبداً.
تعريف مجمل بسورة
الحجرات
الحجرات هي السورة
التاسعة والأربعون من القرآن ، وهي مدنية وذات ثمانية عشر آية ، وتضمَّنت مجموعة
من الأوامر والآداب تخصُّ كيفية التعامل مع الرسول صلىاللهعليهوآله وأولياء الله ، ولو سميناها سورة الأخلاق كانت تسمية في
محلها ؛ لما تضمّنته من أوامر أخلاقية عديدة.
في فضل هذه السورة
روي ما يلي عن الرسول صلىاللهعليهوآله :
«من قرأ سورة
الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد مَن أطاع الله ومن عصاه» .
قد يظنُّ البعض
أنَّ ذكر فضائل جمّة من قبيل ما ورد في الحديث الشريف لقراءة سورة صغيرة مثل
الحجرات يُعدُّ مبالغة ، لكن بطلان هذا الظن واضح ؛ لأن الرسول صلىاللهعليهوآله والمعصومين عليهمالسلام عموماً لم يبالغوا أبداً ، ومراد الحديث وما شابهه ليس
التلاوة المجرّدة بل التلاوة مع التفكّر في معانيها مقترناً بالعمل بمضامينها.
الشرح والتفسير
(يَا أيُّها الَّذِينَ
آمَنُوا)
المخاطبون في هذه
الآية هم المؤمنون وقد حذِّروا فيها من اقتراف ثلاثة أعمال ، هي :
(١ ـ اجتنبوا كَثِيراً
مِنَ الظنِّ إنَّ بَعْضَ الظنِّ إثْمٌ)
يطلب ألله من
المؤمنين هنا أن يتركوا إساءة الظن للآخرين ، لأنَّه إن كان خاطئاً كان إثماً
كبيراً.
يريد الله
للمؤمنين محيطاً وبيئة آمنة تحفظ فيها الأموال والأرواح والشخصيات ، لا على مستوى
البيئة الخارجية فحسب بل على مستوى الأفكار والذهن. انظر إلى تعالي هذا الدين.
ينقل المرحوم
الفيض الكاشاني الحديث المفعم بالمعاني التالي عن الرسول صلىاللهعليهوآله : «إن الله حرَّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظنَّ به
السوء» .
إذا عملنا بهذا
الأمر الأخلاقي فحسب فان كثيراً من البغض والعداوة والحسد سينتفي ؛ لأن منشأ
الكثير من هذه الذنوب هو سوء الظن.
سؤال
: إساءة الظن ليس
إرادياً لكي يجتنب عنه ، فقد يتبلور سوء الظن لمجرّد رؤيتنا للقطة
__________________
خاصة دون إرادة أو
اختيار منا ، فكيف يمكننا ترك ما ليس بأيدينا؟
الجواب
: أولاً : ينبغي
السعي لحمل أعمال الآخرين وتصرّفاتهم على الصحة وعلى محامل حسنة ، وعلى سبيل
المثال لو شاهدنا شخصاً يأكل في شهر رمضان نقول : قد يكون مريضاً أو معذوراً لعذر
آخر. وإذا شاهدنا شاباً مع شابة نحتمل أنَّها من محارمه وأقربائه. وإذا شاهدنا
تصرّفاً غير مناسب صدر من شخص نقول : لا بدَّ وأنه صدر عنه إثر تعب أو اضطرار ...
جاء في الروايات :
احمل أعمال الآخر على سبعين محملاً ، وإذا تصوّرنا هذه الاحتمالات انمحت من أذهاننا سوء الظن
عن الآخرين تدريجياً.
ثانياً : إذا
استحكم في ذهنك سوء ظنٍّ تجاه شخص فلا تبرزه ولا تحرجه عن محيط ذهنك ولا تعمل وفقه
، فإذا كان صديقك وتحبه فاستمر في صداقتك وحبك له ، ولا تقلّل منهما شيئاً.
خلاصة الكلام : أن
لا تسمح لسوء الظن أن يؤثر في نفسك.
٢
ـ (وَلا تَجَسَّسُوا)
ثاني أمر أخلاقي
أمرت به الآية هو عدم التجسس على الآخرين. جاء التجسّس والتحسّس بمعنى واحد ، وهو
الفحص أو البحث أو السعي لادراك الامور ، والاختلاف بينهما في أن التحسس هو
التفحّص في الامور المشروعة والمجازة ، بينما التجسس هو التفحّص في الامور غير
المشروع التفحّص فيها. ومن ذلك قول يعقوب عليهالسلام لإخوة يوسف عليهالسلام : (يَا بَنيِّ اذْهَبُوا
فَتَحسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأخِيهِ) .
__________________
للناس أسرار
وأعمال سرية لا يرغبون البوح بها ولا اطلاع الناس عليها ، والسعي للاطلاع عليها
يُعدُّ تجسساً غير مجازٍ.
جاء في رواية : «إذا
حدَّث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة» ، أي أنه إذا كان يلتفت يميناً ويساراً خوفاً من اطلاع أحد
على سرّه فعليكم الاجتناب من السعي لإدراك ما يقوله ؛ وذلك لأن إفشاء اسرار الناس
من الذنوب الكبيرة ، وإفشاء أسرارهم يبدّل الدنيا إلى جهنم يصعب تحمّلها.
لا يمكن للناس
التعايش دون أن يتبادلوا الثقة ، والتجسس يزلزل اسس الثقة وأعمدتها.
بالطبع هناك موارد
مستثناة لا إشكال فيها ، من قبيل التجسس على شخص متَّهم بالارتباط بالأجانب يسرّب
لهم معلومات ، أو من قبيل التجسس على شخص متَّهم بتهريب المخدرات وما شابه ، وهذه
الموارد ليست من قبيل التجسس بل هي تحسس ، على أن يكون تحسساً منطقياً ووفق ضوابط
لا يكون مطلق العنان بحيث يسمح في الانصات للمكالمات الهاتفية مطلقاً.
٣
ـ (وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُم بَعْضاً)
ثالث وصية أخلاقية
هو الاجتناب عن الغيبة ، فلا ينبغي لأحد أن يفشي أسرار آخر في غيابه.
سؤال
: ما العلاقة بين
الذنوب الثلاث؟ وهل اقترنت اعتباطاً دون أن يكون بينها علاقة؟
الجواب
: الانصاف هو أن
هناك علاقة تربط هذه الذنوب فيما بينها ، وكلٌّ منها معلول للآخر. عند المعاشرة
يحصل سوء الظن ، ولو استطاع الانسان مقاومته ومواجهته كان عليه شكر الله ، ولو
استمر أدَّى إلى التجسس على أعمال الآخرين ، ولو استطاع جهاد هذه المرحلة والتغلب
عليها فبها ونعمت وإلَّا أنتجت ثمرة غير مباركة ، وهي الغيبة ، فالغيبة معلول
للتجسُّس.
إذن ، سوء الظن
منشأ للتجسس ، والتجسُّس علة للغيبة ، وبعبارة اخرَى الغيبة معلول
__________________
للتجسس ، والأخير
معلول لسوء الظن.
(أيُحِبُّ أحَدُكُمْ
أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهُتُموهُ)
بعد ما بيَّن الله
الذنوب الكبيرة الثلاثة ونهى المؤمنين عنها يضرب مثلاً للغيبة التي هي فاكهة مجالس
أكثر الناس ، قائلاً : إنَّها بمثابة أكل لحم الأخ الميت ، وهل أحدٌ منكم مستعد
لأكل لحم الأخ الميّت؟
سبب هذا التشبيه
هو أنَّ الغيبة تذهب بماء وجه المغتاب ، وإذهاب ماء الوجه بمثابة قطع قطعة من بدنه
، بل قد يكون أصعب من ذلك. وبما أن المسلمين إخوة فاغتياب أحدهم الآخر بمثابة أكل
لحم الأخ. وتشبيه الأخ المغتاب بالميّت باعتبار وجه الشبه بين الغائب عن المجلس
والميت ، فان كلاهما عاجزان عن الدفاع عن انفسهما.
التمثيل عجيب جداً
، وهل يمكن تصوّر ما هو أسوء من أكل لحم الأخ الميّت؟ وهل يستعد أحدنا عمل ذلك ولو
كان مجنوناً؟
يجيب القرآن على
هذه التساؤلات بقوله :
(فَكَرِهْتُمُوهُ
واتَّقُوا اللهِ إنَّ اللهَ توَّابٌ رَحِيمٌ)
نعم ، كلٌّ منا
يكره عمل ذلك ويستاء منه. وعلى هذا ، ينبغي بالانسان أن يتقي الله ويتجنَّب الغيبة
، بل لا يفكّر بها ، فالتفكير بها تفكير بأَكل لحم الميت.
اتقوا الله
واتركوا سوء الظن لكي لا تتجسّسوا ولا تطّلعوا على أسرار الآخرين ولكي لا تفشوها ،
وإذا سبق وأن ارتكبتم هذه الذنوب أو ذنوباً اخرَى فعودوا إلى الله وتوبوا منها بعد
ما أدركتم قبحها ، فالله يقبل التوبة ويغفر الذنوب ، فهو غفور رحيم.
خطاب الآية
الغيبة قبيحة
للغاية
خطاب الآية الواضح
والموجَّه للجميع هو أن التلاعب بكرامات الناس واستعابتهم بمثابة أكل لحم الانسان
، بل أكل لحم الانسان ميتاً ، وأي ميّت؟ ليس ميّت الأعداء بل ميّت الإخوان ، وهو
عمل يصدر من الحيوانات الأكثر وحشية فقط. ومن الواضح أن الانسان لو
كان يحمل شيئاً
بسيطاً من العاطفة لا يقدم على هذا العمل. إذن لماذا هذا التساهل في التلاعب
بكرامة الانسان وماء وجهه واعتبار الغيبة فاكهة المجالس؟
مباحث تكميلية
١ ـ عاقبة الذي يستغيب
أيَّها القرَّاء
المحترمون ، للغيبة عواقب سيئة كثيرة أشارت لها الروايات ، نكتفي هنا بذكر روايتين
:
الف
: جاء في رواية :
«مَن مات تائباً
من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنّة ومن مات مصرّاً عليها فهو أول من يدخل النار» .
باء
: ورد في روايات
أنَّ على الذي يستغيب أن يدفع غرامة غيبته ، وهي عبارة عن أخذ بعض ذنوب المغتاب (إذا
كانت له ذنوب) ووضعها في صحيفة أعمال الذي يستغيب ، وإذا كان المغتاب خالياً من
الذنوب تؤخذ بعض حسنات الذي استغاب وتعطى للمغتاب .
وفي رواية : «يؤتى
بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول : إلهي
ليس هذا كتابي ، فانّي لا أرى فيها طاعتي؟ فيقال له : إن ربّك لا يضل ولا ينسى ،
ذهب عملك باغتياب الناس ...» .
الروايات السالفة
تكشف عن أن الغيبة من حقوق الناس ، وهي أشدّ وأصعب من حقوق الله ، ولهذا يجب
احتياطاً إبراء الذمة من المغتاب ، وإذا كان في الإبراء مفسدة فعلية العمل للمغتاب
بكثرة إلى درجة يجبر فيها سوء عمله تجاه المغتاب.
بئس المصير مصير
من اغتاب شخصاً ومات الشخص قبل أن يبرء ذمته من الغيبة ، فلا يمكن الوصول إليه
عندئذٍ ، لكن عليه الإكثار من الأعمال الصالحة له لكي ترضى روحه عليه.
__________________
٢ ـ لا نخدع
أنفسنا
كثير من الناس
يخدع نفسه في مجال الغيبة ويسعى لتبرير سوء عمله بنحو وآخر ، مثلاً عند ما نعترض
على البعض ونأمره بعدم الغيبة يقول : (ذلك ليس غيبة ، بل إنّي أقول هذا أمامه) أو (هذه
ليست غيبة بل إحدى صفاته) ، مع أن هذا تبرير خاطئ ؛ لأن الغيبة لو لم تكن ذكراً
لاحدى صفات المغتاب كانت تهمة أو بهتاناً عليه ، وباعتبار كونها صفة لم يطّلع
عليها الآخرون كانت غيبة ، وذكرها عند المغتاب لا أنه لا يحلُّ المشكلة بل يضاعف
من الذنب ؛ لأنها تدخل عندئذٍ في باب إيذاء المؤمن ، وهو من الكبائر .
يتشبث البعض الآخر
بعذر آخر من قبيل : (أنَّه أساء لي فأغتابه) ، مع أن هذا لا يسيغ الغيبة ، فلو أن
شخصاً أساء لعرض آخر فهل يمكن للأخير أن يسيء لعرض الاول؟ بالطبع لا ؛ لأن الحاكم
الشرعي هو الوحيد الذي يمكنه تعزير المذنب.
٣ ـ إضفاء صفة
القداسة على الغيبة
البعض من الناس
يغتاب الآخرين بظاهر شرعي مقدس ، كما لو سأله آخرون عن فلان فيجيبهم : (آسف على أن
الشرع لم يسمح لي بالكلام عنه) ، وحديثه هذا أسوء من الغيبة ، ولو ذكر عيبه بصراحة
كان أفضل بكثير من ما يتركه من إبهام واحتمالات كثيرة في ذهن المستمع لكلامه ، وقد
قال بعض العلماء في هذا الكلام : إن صاحبه يتحمَّل ذنبين : الغيبة والرياء.
اللهم وفقنا
جميعاً لترك هذه الذنوب الثلاثة وبالخصوص الغيبة.
__________________
المثل الثامن
والأربعون :
قرب الله من الانسان
يقول الله تعالى
في الآية ١٦ من سورة (ق) :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإنسَانَ وَنَعْلَمُ ما تُوسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أقرَبُ إلَيْهِ مِنْ
حَبْلِ الوَرِيدِ)
تصوير البحث
لم تستخدم مفردة
مثل أو كاف التشبيه في الآية ، رغم ذلك أدرجناها في الامثال ؛ باعتبار ما تضمَّنته
من تشبيه أمر معقول ومعنوي بأمرٍ محسوس.
في الآية شبَّه
الله قربه إلى الانسان بقرب الوريد إلى الانسان بل اعتبر نفسه أقرب إلى الانسان من
قرب الوريد إليه.
إلقاء نظرة على
الآيات السابقة للمثل
آيات القرآن على
العموم مترابطة فيما بينها ترابطاً خاصاً ، وهذا الترابط قد يبدو واضحاً وجلياً ،
مثل آيات سورة يوسف التي تحكي قصة واحدة ، وأحياناً لا يكون الترابط جلياً وواضحاً
بل يتّضح بعد التأمُّل والتدقيق.
العلاقة بين آية
المثل والآيات التي سبقتها من نوع العلاقة الثانية ، فلا تُدرك ببساطة بل بعد
التدقيق والتفكير. وبعد هذه المقدمة نلقي نظرة عابرة على الآيات التي سبقت آية
المثل.
سورة (ق) مكية ،
والسورة المكية غالباً ما تتحدَّث عن التوحيد والمعاد.
ربَّى الرسول صلىاللهعليهوآله المسلمين خلال تواجده في مكة تربية عقائدية مستحكمة بنحو
كانت منشأً للحركات المستقبلية. والانسان إذا استحكمت عقيدته في مجالي التوحيد
والمعاد تعبَّد له طريق العقيدة الكاملة واتضح له سبيل السعادة.
إشكال الكثير من
الناس ينشأ عن ضعف عقيدتهم في المبدأ والمعاد ، وأمثال هؤلاء لا يرون الله حاضراً
في كل مكان ولا ناظراً على كل شيء ، ممَّا يحرّضهم على اقتراف الذنوب وارتكاب
الجرائم ، وإذا اعتبروه حاضراً وناظراً فيبقى ضعف اعتقادهم أو انعدامه في الحياة
بعد الموت.
عند ما امر ابن
سعد بقتال الامام الحسين عليهالسلام ، استاء من ذلك الأمر كثيراً ؛ لأنه أصبح بين خيارين ،
إمَّا قتال حفيد الرسول وابن بنته وإمَّا رفع اليد عن إمارة الري ، ذلك البلد
الخصب ، فنشبت عنده الحرب بين عقله وأهوائه ، وكانت الغلبة لأهوائه واختار إثر ذلك
حرب الامام الحسين عليهالسلام سعياً لبلوغ إمارة الري ، وأنشد عندها :
يقولون إن الله
خالق جنة
|
|
ونار وتعذيب وغل
يدين
|
فإن صدقوا فيما
يقولون انني
|
|
أتوب إلى الرحمن
من سنتين
|
وإن كذبوا فزنا
بدنيا عظيمة
|
|
وملك عقيم دائم
الحجلين
|
إذن ، الاعتقاد
بأصلي التوحيد والمعاد مفيد لا في الآخرة فحسب بل في الدنيا كذلك ، وبهما نستغني
عن المحاكم والسجون ، وهذا هو سبب تأكيد الرسول صلىاللهعليهوآله عليهما خلال تواجده في مكة ، كما أن محور حديث غالب الآيات
التي نزلت في مكة هو هذان الأصلان. أمَّا الآيات المدنية فقلَّ التأكيد فيها على
هذين الأصلين ، وغالبها كان يصبُّ في قضايا أخلاقية وفقهية وتاريخية وعسكرية ،
وقلَّما تعرَّضت للمبدأ والمعاد ؛ وذلك لأن اسس عقائد المسلمين ثبتت في مكة
واستحكمت هناك.
__________________
تعرَّض القرآن في
الآيات ٦ ـ ٨ من سورة (ق) إلى مسائل التوحيد قائلاً فيها :
(أفَلَمْ يَنْظُرُوا
إلى السَّمَاءِ فَوْقهُمْ كَيْفَ بَنيْنَاهَا وَزَيَّناهَا وَمَا لَهُمْ مِنْ
فُرُوج)
سؤال
: يظنُّ البعض أنَّ
السَّماء ليست سقفاً لكي نتصوّر فيه الثقب أو التزلزل ، وما نراه شيء يشبه السقف
لا سقفاً حقيقياً ، ويبدو أن كلام القرآن هنا غير منسجم مع الاكتشافات العلمية.
الجواب
: من معاني السماء
هو غلاف الكرة الأرضية ، أي الجو الذي أحاط بالكرة الأرضية ولا ثقب فيه ، وهو رغم
ظرافته يعد أكثر استحكاماً من السقف المصنوع من الفولاذ السميك جداً ، فهو يصد
الشهب رغم عظمتها ، وخطرها على الأرض كبير جداً ، بحيث إذا سقطت على الأرض أمكنها
تدمير منازل كثيرة ومزارع واسعة ومعامل وما شابه ، لكن الله حفظ الأرض وسكنتها من
خلال هذا الغلاف الذي يحرق الشهب عند ما تصطدم به ، لتتبدل إلى رماد.
هذا مضافاً إلى أن
الغلاف يمنع من دخول بعض الأشعة المضرّة إلى الكرة الأرضية ، ولو سمح لهذه الاشعة
بالدخول لعرَّضت حياة الانسان إلى الخطر.
إنَّ هذا الغلاف
بمثابة المصفاة الذي يصفي الأشعة التي تصدر من الشمس ليصل المفيد منها إلى الأرض
وينعكس غير المفيد إلى خارج الجو.
لو كان في هذا
الغلاف ثقوب لتسنَّى للشهب وكذا الأشعة المضرّة الدخول إلى الأرض ، ولعرَّضت حياة
الانسان إلى خطر جدّي. ألا يفكر الانسان الجاحد بهذه الآيات لكي يدرك عظمة خالقه؟
(وَالأرْضَ
مَدَدْنَاها وألْقَيْنَا فِيها رَوَاسِيَ وأنْبَتْنا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) .
كان سطح الأرض
يعمّه الماء ، وظهرت اليابسة تدريجياً ، ولهذا يُعدُّ ظهور اليابسة من آيات الله
العظمى ومن معالم التوحيد.
جبال الأرض بمثابة
الأوتاد (الرواسي) التي تصدُّ الإعصارات الشديدة ، وتمنع من حصول
__________________
آثار الزلازل
المخرّبة ، وهي بذلك من آيات الله ومعالم قدرته.
قضية الزوجية في
الحيوانات والنباتات دليل آخر على عظمة الخالق.
في القرن السابع
عشر من الميلاد اكتشف العلماء أن الزوجية لا اختصاص لها بالحيوانات ، بل النباتات
لها ذكر وانثى ، وإلَّا لما أثمرت.
كشف القرآن المجيد
عن هذا اللغز العلمي منذ ١٤ قرناً وأعلن وجود الزوجية حتى في النباتات.
(تَبْصِرَةً وذِكْرَى
لكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .
أي أنَّا جعلنا
الآيات السالف ذكرها لغرض الإبصار والتذكر لكلِّ عبد تائب.
بعد ما تعرَّض
الله تعالى إلى قضية التوحيد في الآيات الثلاث المتقدِّمة ينتقل في الآية ١٥ من
نفس السورة إلى قضية المعاد والحياة بعد الموت ويقول :
(أفَعَيِينَا
بالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبسٍ مِنْ خَلقٍ جَدِيدٍ)
أي أنَّهم ظنوا
أنا عجزنا في الخلق الأول وشكوا في امكانية خلقنا الثاني أو الجديد.
النتيجة : أن الله
تعرَّض في الآيات التي سبقت آية المثل إلى معارف توحيدية ، وآية المثل تمتُّ بهذه
الآيات بصلة ؛ باعتبار أنَّ محاسبة أعمال الانسان من الآثار المفروضة للمعاد.
المعاد للمحاسبة ،
وهي عملية منوطة بتسجيل وتثبيت الأعمال ، لكن من سجَّل الأعمال وأثبتها؟ هذا ما
تجيب عنه آية المثل.
الشرح والتفسير
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإنسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسوِسُ بِهِ نَفْسَهُ)
الله يعلم بكل ما
يصدر من الانسان ، لا أعماله الخارجية وكلامه فحسب بل بكل ما يدور في باطنه من
أسرار واعتقادات وأفكار.
الوسوسة في الأصل
تعني الصوت الذي يحدثه الحلي عند احتكاك بعضها بالآخر ، ثم
__________________
استخدم لكل ما
يخدع الانسان ، ومنها الأوهام والخيالات غير المرادة التي تنتقش في ذهن الانسان.
إذن ، الله يعلم
بكل شيء حتى في بالوساوس والأوهام التي تدور في الأذهان ، فبأي شيءٍ أنتم تشكّون؟
(وَنَحْنُ أقْرَبُ
إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَريدِ)
الله ليس بعيداً
عن الانسان بل قريب وقريب جداً أقرب ممَّا يتصوره الانسان.
للوريد معنيان :
١ ـ الوريد الذي
في أحد طرفي عنق الانسان.
٢ ـ الوريد الذي
يتصّل بالقلب.
القلب من مخلوقات
الله العجيبة ، فهو جهاز يعمل متواصلاً ليل نهار مدَّة ثمانين سنة أو أقل أو أكثر.
الله أقرب إلى
الانسان من وريد قلبه إليه ، ومع هذا هل يبقى شيء من الانسان خافياً على الله؟ هل
تخفى على الله أوهام الانسان وخيالاته؟ كلا ، بل هو يعلم بكل شيء.
خطاب الآية
آثار الايمان بقرب
الله
إذا آمنا بقرب
الله إلينا وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد نبدأ نشعر بأنَّا في محضرٍ من الله
تعالى دائماً ، ونخجل من ارتكاب الذنوب والمعاصي في محضره.
العالم الخارجي
ليس الوحيد الذي هو محضر الله تعالى ، بل كذلك عالم الباطن ، وما أقبح المعصية
وسوء الأدب في محضر الله الغفور الرحيم الكريم؟
مباحث تكميلية
١ ـ أمثال اخرَى
لقرب الله من الانسان
ضربت أمثال اخرَى
لقرب الله من الانسان ، من قبيل : مثل الله والانسان كمثل الروح إلى
البدن ، أو كمثل
الشمس إلى الكون ، أو كمثل المولّد للكهرباء إلى المصباح أو الوسائل الكهربائية
الاخرى ، التي تنطفئ بمجرد انقطاع التيار الكهربائي.
لكن لا أحد من
الأمثال المتقدّمة تبيّن قرب الله إلى الانسان مثلما بيّنه مثل الآية الشريفة.
الله تعالى أقرب
من كل قريب ، ولا ينفصل عنا أبداً ، لكن ليتنا نصدق ذلك؟ ولو صدَّق الانسان هذه
الآية فقط لاستحال ارتكابه الذنوب وتلوّثه بالظلم والآثام.
٢ ـ حديث للامام
الكاظم عليهالسلام
ورد في حديث أنَّ
أبا حنيفة (زعيم الطائفة الحنفية لأهل السنة) جاء إلى الامام الصادق عليهالسلام يوماً فقال : رأيت ولدك يصلي والناس يعبرون من أمامه إلَّا أنَّه لم ينههم عن ذلك ، مع أنَّ هذا العمل غير
صحيح. فقال الصادق عليهالسلام ادعوا لي ولدي موسى فدُعي له فكرّر الامام الصادق عليهالسلام حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر
قائلاً :
«إنَّ الله الذي
اصلى له أقرب إليَّ من حبل الوريد ، إنَّ الله عزوجل يقول : نحن أقربُ إليه مِن حبل الوريد» . وإذا كان الله بهذا المستوى من القرب للانسان فما يؤثر
عبور المارّة من أمام المصلي؟
إن الله قريب جداً
للانسان حقاً ، فلما ذا لا نستحيي؟
إنَّ عدم حياءنا
بسبب عدم فهمنا للآية أو عدم تصديقنا لها ، وإذا أردنا تصديقها فعلينا ترديدها
والترنم بها كل يوم ليل نهار.
__________________
المثل التاسع
والأربعون :
مثل آخر للحياة الدنيا
الآية ٢٠ من سورة
الحديد تعدُّ مثلاً آخر للحياة الدنيا ، يقول الله فيها :
(اعْلَمُوا أَنَّمَا
الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُر بَينَكُمْ وَتَكَاثُرٌ
فِي الأَموَالِ وَالأَولادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيَا إلَّامَتَاعُ
الغُرُورِ)
تصوير البحث
هذا المثل ضرب
للحياة الدنيا ، كما ضربت أمثال اخرَى تقدَّم شرحها ، لكنه يختلف عمَّا تقدَّم. في
هذا المثل شُبِّهت الحياة الدنيا بالغيث الذي يهبط على الأرض فينبت الزرع ويضفي
على الأرض حياة وطراوة عجيبة ، لكنه سرعان ما يفقد أثره وتنتهي الحياة والطراوة
بعد فترة من الزمن.
الشرح والتفسير
(اعْلَمُوا أنَّما
الحَيَاةُ الدُنْيا لَعبٌ ولَهْوٌ وزينةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وتكاثرٌ فِي
الأموَالِ والأولادِ)
المخاطبون في هذه
الآية ليس المسلمين فحسب بل الناس أجمعين ، الآية تقول : أيُّها الناس أينما كنتم
وعشتم وفي أي زمان ومكان ، إن الدنيا لا تخرج عن حالات خمس :
١
ـ (لَعِبٌ)
الدنيا لعب يمارسه
عدَّة من أتباع الأهواء ، كما يفعل ذلك الأطفال ، ورغم كبر سنهم إلَّا أنَّ عقولهم
وسلوكهم طفولية.
٢
ـ (لَهْوٌ)
مجموعة اخرَى من
الناس هم أصحاب اللهو ، وما داموا في الحياة الدنيا لا يفكرون بشيءٍ غير اللهو ،
وشعارهم اللهو ما داموا قادرين عليه.
٣
ـ (زِينة)
الشكل الآخر
للحياة الدنيا هو الزينة ، فالبعض لا يهتم بأمرٍ مثل ما يهتم بالزينة ، وهو دائماً
منهمك في الزينة والملابس الجديدة والموضات الجديدة والمنزل الجديد والحركات
الجديدة ، والخلاصة أنه لا شأن للبعض غير الزينة.
٤
ـ (تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ)
التفاخر هو الشكل
الآخر للدنيا ، وقد يكون المراد من التفاخر هنا هو التفاخر في الجاه والمقام
والشأن الاجتماعي ، الذي يتفاخر به البعض على الآخر.
٥
ـ (وتَكاثُرٌ فِي
الأمْوَالِ والأولاد)
الشكل الآخر
للدنيا هو التكاثر في الأموال أو الثروة والجانب الاقتصادي والأولاد.
الدنيا تنحصر
أشكالها فيما تقدَّم من الحالات الخمس.
سؤال
: ما المراد من
حالات الدنيا وأشكالها الخمسة؟ هل المراد منها أن الناس ينقسمون إلى خمسة أقسام ،
بحيث حياة البعض مفعمة باللعب وحياة بعض آخر مفعمة باللهو وحياة بعض آخر مفعمة
بالزينة وحياة آخرين مفعمة بالتفاخر أو التكاثر ، أو أن المراد كون الانسان يمرّ
بالمراحل والأشكال الخسمة من الحياة؟
الجواب
: يعتقد بعض
المفسرين أنَّ كل انسان يمرُّ بهذه المراحل الخمس حتى يبلغ الأربعين ، وعندها يكون
كاملاً ، والسنوات التي تسبق هذا العمر تنقسم إلى خمس مراحل ، كل مرحلة تتكوَّن من
ثمان سنوات ، المرحلة الاولى هي الثمان سنوات الاولى من عمر الانسان ، حيث يقضي
وقته باللعب ، وفي الثمان سنوات الثانية يقضي وقته باللهو والعبث ، وهي مرحلة
الأشبال والأحداث ، وفي الثمان سنوات الثالثة يقضي الانسان أوقاته في الزينة ، وهي
مرحلة
الشباب ، وفي
الثمان سنوات الرابعة يسعى لكسب الجاه والمقام والتفاخر به ، ومنذ الثانية
والثلاثين وحتى الأربعين يحاول جمع أكبر حجم من الثروة والمال والذهب ، وبدخوله
الأربعين يتكامل وتثبت شخصيته وتستقر .
(كَمَثَلِ غَيْثٍ
أعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ)
بعد ما بيَّن الله
تعالى ماهية الدنيا وحقيقتها ضرب لها مثلاً فقال بأنَّها تشبه الغيث الذي ينزل على
الأرض فيحييها وينبت فيها مختلف النباتات والزهور الجميلة ، بحيث تثير إعجاب
الكفَّار.
المراد من
الكفَّار هنا هو المزارعون والفلاحون ، والكفر بمعنى الستر والتغطية ، وأُطلق الكافر
على غير المؤمن باعتبار أنه يستر الحقيقة وما تعتقد به فطرته ، كما اطلق هذا اللفظ
على المزارع باعتباره يستر البذور ويخفيها تحت التراب ، كما يُطلق هذا اللفظ على
القبر والليل ؛ باعتبار أن القبر يستر الجسد والليل يستر أشياء كثيرة لظلمته.
على أي حال ، الآية
تشير إلى أن الغيث يثير إعجاب المزارعين لما يمنحه من حياة وطراوة ونشاط على وجه
الأرض ، فينبت النباتات وتتغيّر وجه الأرض بها.
(ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَراهُ مُصْفَرّاً)
لكن عمر النباتات
والاشجار والزهور التي نبتت جرَّاء الغيث ليس طويلاً ، وينتهي بحلول فصل الخريف ،
فيُذهب بكل ما جاء به الغيث من حياة ونشاط وطراوة.
(ثُمَّ يكُونُ
حُطَاماً)
بعد ما تصفرّ
النباتات تتبدَّل إلى حطام يتلاشى بريح بسيط أو نسيم ، فيذهب به إلى مكان أو آخر ،
بعد ما كان صامداً أما الأعاصير عند ما كان أخضر.
نعم ، الحياة
الدنيا بأموالها وزينتها ومقامها بمثابة هذه المزرعة ، أوَّلها زخرف جذَّاب ،
لكنَّها سرعان ما تتلاشى ، ولو شككنا في ذلك يكفينا أن نلقي نظرة عابرة على حياة
النباتات التي
__________________
تدوم ستة أشهر ،
فحياتها تصوير لحياتنا المادية ، لكنها تعيش ستة أشهر والانسان يعيش ستين عاماً ،
والموت هو نهاية كل حياة ، وكلٌّ من الانسان والنبات يموت يوماً ما ، والانسان
ضعيف كالنبات ، فهو في بداية ولادته عاجز على الاحتفاظ بلعاب فمه ، وينتهي به
الأمر في الشيخوخة إلى ذلك أيضاً.
(وفي الآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوانٌ)
سيبتلي الانسان في
الآخرة بأحد المصيرين ؛ العذاب الشديد أو المغفرة والرضوان.
(وَمَا الحَيَاةُ
الدُنْيا إلَّامَتَاعُ الغُرورِ)
ليست الحياة أكثر
من سلعة للخداع ، أي لها ظاهر جذاب خادع دون باطن.
خطابات الآية
١ ـ الدنيا خادعة
وفانية
خطاب الآية هو أن
لا تخدعكم الدنيا بظاهرها ولا تصدّكم عن أهدافكم الأساسية ، فالدنيا ممَّا لا يمكن
الوثوق بها ، فهي خادعة زائلة.
يصف الامام علي عليهالسلام الدنيا كما يلي : «تغرُّ وتضرُّ وتمرُّ» ، أي أنَّ لها
صفات ثلاث :
١ ـ خادعة تغرُّ
الانسان وتخدعه.
٢ ـ تضرُّ الانسان
وتصدّه عن الآخرة.
٣ ـ فانية وزائلة
وغير دائمة.
ثم يقول : «إنَّ
الله تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه ولا عِقاباً لأعدائه».
ثمّ يمثل للدنيا
مثلاً جميلاً ويقول : «وإنَّ أهل الدنيا كركبٍ بينا هم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم
فارتحلوا» .
في كل تشبيه ثلاثة
أركان ، هي : المشبَّه والمشبَّه به ووجه الشبه ، وعند ما نشبّه الانسان بالأسد ،
يكون الانسان مشبَّهاً ، والاسد مشبَّهاً به ، والشجاعة وجه الشبه ، أي أنَّا
نشبِّه الانسان بالاسد في الشجاعة.
__________________
وفي المثل الذي هو
موضع بحثنا تكون الدنيا مشبَّهاً ، والغيث والنباتات مشبّهاً به ، لكن ما هو وجه
الشبه؟ أي ما هو الذي في النباتات والزهور يشبه الدنيا؟
احتمل المفسرون
عدّة احتمالات هنا :
الاول
: شبِّهت الدنيا
بالنباتات من حيث عدم الثبات وكونها مؤقتة وزائلة ، فكما أن طراوة النباتات
وخضارها ليس دائماً وتصفرُّ بعد فترة من الزمن كذلك الحياة الدنيا فلا دوام لها
ولا وفاء لها لأيٍّ من البشر ، فهي زائلة وفانية .
الثاني
: وجه الشبه هو
التحولات الدنيوية السريعة ، فهي سرعان ما تتغيّر ، فالملك قد يتحوّل إلى فقير
متسوّل أو يُسجن ، والرئيس قد يُقال من منصبه ، وتحولات من هذا القبيل كثيرة في
الدنيا ، ولا ينبغي الوثوق بها في أي وقت ، فهي كبيت العنكبوت ، فإذا كنت شاباً
فلا تغرّك طاقتك وقدرتك ، وإذا كنت ثرياً فلا تغرّك ثروتك ، وإذا كنت صاحب مقام
وشأن فلا يغرّك شأنك ومقامك.
الخلاصة : لا تغتر
بوضعك الراهن ، فان الأوضاع غير ثابتة ، ويمكن أن تتحول الأوضاع كلها في حادث
واحدٍ.
الثالث
: اعتبر البعض
الخداع هو وجه الشبه ، فكما أن النباتات جذّابة وخادعة ومتنوّعة كذلك الدنيا ، فهي
كالحية ذات الظاهر الجذّاب والخادع.
العاقل لا يفكّر
بلحظة طراوة النباتات فقط بل بفصل الخريف ، الذي سرعان ما يقدم ويبدّل خضار
النباتات إلى صفارٍ ، فلا يغتر بخضارها الخادع ، ولا ظاهرها الفاتن دون أن يفكّر
بباطنها الأجوف .
٢ ـ الهدف من
الخلق
هل ينثر المزارع
البذور في الأرض دون هدف؟ هل ينمّي الفلاح النباتات والزهور دون
__________________
هدف؟ لماذا لم
يزرع الفلاح أعلافاً وأشواكاً بدلاً عن النباتات المفيدة؟
لا شكَّ بأن
للفلاح هدفاً ، وعلى هذا كيف يمكن لله الحكيم والأعقل من كل عاقل والأعلم من كل
عالم أن يخلق الانسان والدنيا دون هدف؟ وهل يمكن لله أن يخلق الانسان ويخلق جميع
المخلوقات لأجله ، لغرض اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر ولأجل أن يعيش أياماً
ثم ينتقل إلى عالم الآخرة؟
أيُّها الانسان ،
خلقك زارع الكون لهدف أهم ، وحياتك الخالدة تبدأ بعد الحياة الدنيا ، والدنيا
بمثابة عالم الأجنّة ، حيث موتك فيه هو الحياة (وَانَّ الدَّارَ
الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ، فاسعَ لتلك الحياة الخالدة ، ولا تلقِ نفسك في مستنقع
اللهو واللعب والتفاخر والزينة والتكاثر في الأموال والأولاد.
__________________
المثل الخمسون
والحادي والخمسون :
اليهود
الآيات ١٤ ـ ١٧ من
سورة الحشر تشتمل على مثلين ، يقول الله فيها :
(لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلَّا في قُرىً مُحَصَّنَةٍ أوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأسُهُم بَيْنهُمْ
شَديِدٌ تَحْسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بأَنَّهُمْ قَومٌ
لَّايَعْقِلُونَ* كَمَثَلِ الذِينَ من قَبْلِهِم قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أمْرِهِم
وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ* كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذْ قَالَ للإنسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كفَرَ قالَ إنّي بَرىءٌ مِنكَ إِنّي أخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ*
فَكَانَ عَاقِبَتَهُما أَنَّهُمَا في النَّارِ خَالِدَينِ فِيها وَذلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ)
تصوير البحث
الآيات الأربع تضمُّ
مثلين جميلين عن طائفة من اليهود تدعى بني النضير قصدت الحرب مع المسلمين بإيعاز
من المنافقين ، وهذه الآيات حذّرت هذه الطائفة من الحرب ومن عواقبها لكلٍّ من
المنافقين واليهود ، وضربت مثلين يأتي شرحهما.
تاريخ اليهود في
المدينة
لاتضاح الآيات
الأربع علينا إلقاء نظرة على تاريخ اليهود في المدينة.
كان في المدينة
يعيش ثلاث طوائف من اليهود ، هي : بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة ، كانوا قد
صنعوا لانفسهم قلاعاً مستحكمة ، وكانوا يعملون في المجالات التجارية ، وكانت
أوضاعهم المالية جيدة.
كان اليهود قد
قدموا من شبه الجزيرة العربية إلى المدينة ؛ محاولة منهم للقاء الرسول الموعود ؛
باعتبار أنَّهم كانوا قد سمعوا من علمائهم أن الرسول سيظهر في الحجاز. كانوا
يعيشون انتظار رؤية جمال الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله في مكة ، كما كانوا يبشرون أهل المدينة بظهوره وظهور دين
جديد.
عند ما ظهر الرسول
صلىاللهعليهوآله وجاء بدين جديد أضاء بنوره ظلمات الحجاز وجد متعصّبو
اليهود هذا الدين متضارباً مع مصالحهم وأهوائهم الشيطانية فهموا بالمخالفة.
اعاذنا الله من
هوى النفس ، ما ذا يعمل؟ مجموعة تهاجر من وطنها لتسكن موطن الرسول الموعود ، حبّاً
به وانتظاراً لرؤيته ، وعند ما تنقضي لحظات الانتظار الصعبة ويرونه أمامهم لا
أنَّهم لا يستقبلونه ولا يرحّبون به فحسب بل يخططون لقتله ويتّحدون مع أعدائه
ويتآمرون للقضاء عليه.
انتصر الاسلام في
هذه المواجهة وفتح القلاع الثلاث ودمَّر اليهود وتركهم بين قتيل وبين مغادر
المدينة بذلٍّ وصغار.
شأن نزول الآيات
بعد ما تلاشت
طائفة بني قينقاع إثر المواجهة التي حصلت بينها وبين المسلمين ، همَّ المنافقون
للإيعاز إلى طائفة بني النضير لمواجهة المسلمين ولشنِّ حرب ضدهم ، وقالوا لهم : لنتعاون
معاً لطرد الاسلام واجتثاثه من الجذور ما دام غير مستحكم ولم يشكل حكومة في
المدينة بعد.
الآيات المزبورة
تحذّر اليهود من التعاون مع المنافقين ومن الوقوع في مستنقع الشقاء بسببهم ،
والمنافقون سوف لا ينفعونكم شيئاً ، وأنتم لوحدكم غير قادرين على المقاومة أمام
المسلمين ، ومصيركم هو نفس المصير الذي ابتلى به بني قينقاع ، وعاقبة كلا
الطائفتين واحدة ، ثم يضرب لهم مثلين.
الشرح والتفسير
(لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إلَّافِي قُرَىً مُحَصَّنةً أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)
أيها المسلمون ،
لا تخافوا هؤلاء اليهود ، فهم لا يتجرّؤون مواجهتكم ، وإذا أرادوا مواجهتكم فمن
خلف قلاع محصّنة وجدران ، وهذا يكشف عن قدرتكم وقوتكم وعن ضعفهم وعجزهم.
(بَأسُهُمْ بَيْنَهُمْ
شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى)
شديدو البأس فيما
بينهم إذا تقاتلوا ، ممَّا يجعلكم تتصوّرون أنَّهم متحدون وأقوياء ، مع أنَّهم
متشتتين ، واتحادهم ظاهري ، وبذور التفرقة مزروعة في قلوبهم.
هذا هو حال اليهود
في العصر الحاضر ، فهم أقوياء ومتحدون عند القتال في الظاهر ، لكنهم عاجزون لا
خيار لهم أمام مسلمي حزب الله ، وأن بذور الفرقة مزروعة في قلوبهم ، فهم ماديون ومن عبدة
الدنيا ، ويميلون حيثما مالت مصالحهم وينفصلون ويتفرّقون أينما اقتضت تلك المصالح.
(ذلِكَ بأنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)
سبب اختلافهم
وفرقتهم هو جهلهم وعدم كونهم من ذوي العقول والفكر ، فالعقل سبب للاتحاد ، والجهل
سبب للاختلاف والفرقة.
إذن ، ما على
المسلمين أن يرهبوا اليهود.
وبعد بيان ما عليه
اليهود من الفرقة والاختلاف شرع في بيان مثلين لهم.
المثل
الاول : (كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ)
مثل بني النضير
كمثل الذين سبقوهم ممَّن دفعوا ثمن أعمالهم وكفارتها ، وهم حالياً يعيشون في عذاب
أليم.
وبهذا مثَّل الله
بني النضير بالأقوام الذين سبقوهم من حيث دفعهم كفارة سوء أعمالهم.
احتمل المفسرون
احتمالين في المراد من القوم المذكور في الآية :
الاول
: المراد هو مشركو
مكة الذين دفعوا ثمن أعمالهم أو كفارتها في حرب بدر. المنافقون أوعزوا لمشركي مكة
لخوض حرب بدر ، وبعد ما نشبت خسروها ورجعوا أذلاء ، واليهود
__________________
سيبتلون بنفس
المصير الذي ابتلى به هؤلاء.
الثاني
: المراد هو يهود
بني قينقاع ، الذين تأثروا بإيعازات المنافقين واغواءاتهم وخاضوا حرباً مع
المسلمين وخسروها وارغموا على ترك المدينة. فيا يهود بني النضير ، إن مصيراً كمصير
بني قينقاع في انتظاركم.
المثل
الثاني : (كَمَثَلِ الشَّيطانِ
إذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي
أخافُ اللهَ ربّ العَالَمِينَ)
كان المثل الاول
مضروباً في حق اليهود الذين حاربوا المسلمين بإيعاز من المنافقين ، أمَّا المثل
الثاني فيخصُّ المنافقين ، وبعبارة اخرى : كان المثل الاول يخصُّ مَن اثيروا
تحرَّضوا ، وهذا المثل لمَن أثاروا وحرّضوا.
يقول الله في هذا
المثل : المنافقون الذين أثاروا اليهود وأوعزوا لهم لحرب المسلمين مثل الشيطان
الذي يثير الانسان ويوعز له لأن يكفر بالله ، ويتركه هارباً بمجرّد أن لا يرى
الموقف لصالحه.
قد يتجلّى الشيطان
بشكل انسان ليخدع وليمرر حيله ، نشير إلى نماذج من هذا القبيل :
الف
: تمثَّل الشيطان
بشكل انسان في معركة بدر ، يدعو المشركين للحرب ويحرّضهم للهجوم على المسلمين ،
وسحب نفسه عند ما مالت كفّه الميزان لصالح المسلمين ، وأنزل الله عندها ملائكة
لنصرتهم ، وعند ما سئل عن سبب الانسحاب رغم أنَّه كان يحرّض على القتال ، قال :
إنّي أرى ما لا ترون .
باء
: عند ما عقد زعماء
قريش جلسة لدراسة قضية كيفية مواجهة الرسول صلىاللهعليهوآله تمثَّل لهم كشيخ عجوز من أهالي نجد ، اقترح عليهم أن
يُنتخب من كل قبيلة فتى ، يجتمعون ويهاجمون بيت الرسول صلىاللهعليهوآله ويقتلونه ، لكي يتوزَّع دمه على جميع القبائل ، وتعجز قريش
عن الانتقام من
__________________
جميع العرب ،
ووافقوا على هذه الخطة .
جيم
: في قضية بيعة أبي
بكر بعد وفاة الرسول يُقال : تمثَّل الشيطان للمسلمين كشيخ عجوز في المسجد ، وكان
أول من أقدم على بيعة أبي بكر .
على كل حال ، يقول
الله للمنافقين مثلكم كمثل الشيطان الذي يوعز للانسان بالكفر ويحرّضه عليه ، ثم
يلوذ بالفرار من الساحة عند ما يشعر بالخطر ، ويقول : إنّي بريء منك إنّي أخاف
الله ربّ العالمين.
هذا الكلام يصدر
من الشيطان عند ما يرى نفسه على حافة العذاب ، فيتوب ، لكن لا فائدة في التوبة عند
نزول البلاء والعذاب ، كما أن التوبة غير مقبولة على عتبة الموت حيث تنجلي ستار
الغفلة ، وحيث يتورّط الطرفان ، الشيطان الذي حرّض وأثار والانسان الذي تأثّر
وتحرَّض ، وكذا المنافقون الذي أثاروا اليهود وحرَّضوهم واليهود الذين أُثيروا
وتحرّضوا ، وعاقبة الطرفين هي جهنَّم وبئس المصير.
المثلان ضربا في
اليهود والمنافقين في صدر الاسلام ، لكن هل يختصان بعهد الرسول؟
الإنصاف في القول
بأن المثلين جاريان في جميع العهود والأزمان والأماكن ، وشاملان لكلِّ من همَّ
بقتال المسلمين بتحريض من المنافقين ، الذين يرفعون يد العون والإثارة عند ما يرون
الورطة بأعينهم ، بل أحياناً يهمّون بالدفاع عمَّن حرَّضوا الآخرين ضده ؛ وذلك
لانعدام مفاهيم من قبيل العهد والوفاء في قواميس المنافقين والشياطين.
خطابات الآية
١ ـ أعداء الاسلام
ضعفاء
وفقاً لما جاء في
الآية ، أعداء الاسلام ليسوا كما نتصوّر ، فهم غير متّحدين ولا أقوياء،
__________________
ويقاتلون حتى
حلفاءهم إذا ما تعرّضت مصالحهم للخطر ، فقلوبهم متفرِّقة ، وأفضل دليل على تفرّقهم
هو عدم الاشتراك في المصالح ، فلكلٍّ مصالح تخصّه.
٢ ـ الجهل سبب
الاختلاف
جاء في ذيل الآية
كون الجهل هو سبب التفرقة والاختلاف بين المشركين والكفّار ، إذ يقول الله : (ذلِكَ بأنَّهُمْ قَوْمٌ لَايعقِلُون) ، وهذا يعني أن الوحدة والاتّحاد يكشف عن النباهة والعقل
والدراية.
المجتمع الواعي هو
الذي يهتم بالمصالح العامة لكل المجتمع ، وسلامة الفرد بسلامة المجتمع ككل.
هل أدركنا هذا
الخطاب المهم الذي أوحاه الوحي وقال به العقل؟ وهل نحن مستعدون للتخلّي عن
اختلافاتنا وميولنا الحزبية نزولاً عند طلب العقل والشرع؟ كم من الطاقات والقوى
تُهدر في النزاعات الداخلية والحزبية؟ من المفروض أن تُصرف هذه الاموال والطاقات
الفكرية والثقافية في طريق عمران البلاد والدين ، فلما ذا تستهلك في نزاعات داخلية
تافهة؟
نعم ، الاتحاد
علامة العقل ، والاختلاف علامة الجهل.
٣ ـ الوثوق
بالمنافقين خطأ
عرفنا من آيات
المثل أنَّه لا يمكن الوثوق بالمنافقين الداخليين ولا الأجانب ، ولا ينبغي لأنصار
النظام الاسلامي وأتباع المدرسة القرآنية أن ينخدعوا بحيل المنافقين أو يتعاونوا
معهم أو يثقوا بهم ، فإنَّهم يلوذون بالفرار ويتركون الآخرين لوحدهم بمجرَّد
إحساسهم بالخطر ، بل يتعاونون مع الأعداء إذا وجدوهم أقوى.
كان المنافقون ولا
يزالون يشكّلون خطراً جدياً على الاسلام والمسلمين ، وسيبقون كذلك ، وما علينا
إلَّا الحذر منهم.
٤ ـ تاريخ
المتقدِّمين يضيء الطريق للمتأخرين
إذا أردتم اختيار
الطريق الصحيح لحياتكم فعليكم دراسة التاريخ ومطالعة سيرة المتقدِّمين ، لكي
تستفيدوا من تجاربهم وتعتبروا من عبرهم ، فانَّ التاريخ يكرّر نفسه.
يقول الامام أمير
المؤمنين عليهالسلام : «إنَّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين». وهذا هو المراد من تكرُّر التاريخ.
ينبغي النظر في
تاريخ المتقدِّمين وسيرتهم ، ومن خلال استيعاب ومعرفة عوامل انتصارهم أو خسارتهم
يمكننا أن نخطو نحو المستقبل بثقة وبنحو أفضل.
٥ ـ خُطى الشيطان
والمنافقين واحدة
النتيجة المستفادة
من تشبيه المنافقين بالشيطان هي أن نهج الشيطان والمنافقين واحد ، وانهم يخطون في
نفس النهج ، كما أن اليهود والمشركين من هذا القبيل ، ولهذا شُبِّه اليهود
بالمشركين.
الاختلاف الوحيد
بين الشيطان والمنافقين هو أن الاوائل شياطين الجن والآخرين شياطين الإنس ، أمَّا
مناهجهم وخططهم فواحدة ، وينبغي الحذر من كليهما.
إلهي! نعوذ بك من
شر الشيطان ونسألك أن تحيمنا منه.
__________________
المثل الثاني
والخمسون :
جاذبية القرآن المتميّزة
يقول الله تعالى
في الآية ٢١ من سورة الحشر :
(لَوْ أنْزَلنَا هَذَا
القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ)
تصوير البحث
هذا المثل يتعلَّق
بالجاذبية الخارقة للطبيعة التي يتمتّع بها القرآن ، وقد شبَّه الله تعالى قدرة
النفوذ المعنوي لكلامه في الانسان بخضوع وخشوع الجبال أمام القرآن ، بحيث لو نزِّل
هذا القرآن على الجبال لخشعت وخضعت له ؛ خوفاً من الله ورهبة منه. ثمّ يعتبر
التعقّل والتفكر في آيات الله هو الهدف من أمثال القرآن.
جاذبية القرآن
العجيبة
سيرة الرسول صلىاللهعليهوآله تكشف عن أن المشركين كانوا يخافون من جاذبية القرآن
القوية. وقد بيَّن القرآن خوفهم هذا في الآية ٢٦ من سورة فصّلت كالتالي :
(وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنَ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)
نعم ، كانت جاذبية
القرآن كبيرة جداً وكان خوفهم بدرجة حيث كانوا يوجدون ضوضاءً عند تلاوته من قبل
الرسول صلىاللهعليهوآله ، لكي لا تصل كلماته إلى أسماع الناس ، وغاية ما كانوا
يفعلونه في هذا
المجال أنَّهم كانوا يوصون من يدخل المسجد الحرام بوضع قطنة في اذنه لكي لا يسمع
شيئاً من كلام الرسول صلىاللهعليهوآله ويُسحر به .
ومن المؤسف أن هذا
المنهج بأساليبه المتقدِّمة متَّبع حالياً ، سعياً للحؤول دون بلوغ صوت الحق أسماع
الناس.
بعض التُّهم التي
ألصقها المشركون بالرسول صلىاللهعليهوآله تكشف عن هذا المعنى ، منها : تهمة السحر التي أشارت إليها
الآية الثانية من سورة يونس :
(قَالَ الكَافِرُونَ
إنَّ هذَا لسَاحِرٌ مُبينٌ)
الشرح والتفسير
(لَوْ أنْزَلْنَا
هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)
نعم ، لو أن هذا
القرآن كان قد نزل على الجبال لتلاشت ، لكن الانسان الغافل يسمعه يُتلى على لسان
الرسول صلىاللهعليهوآله ثلاثة وعشرين عاماً ، وقلبه لا يتأثر به ، وكأنَّه أقسى من
الحجر.
وردت نظريتان في
تفسير الآية الشريفة :
الاولى
: لو كان للجبال
عقل وإحساس وقابلية للاستيعاب والفهم وأنزلنا عليها هذا القرآن لخشعت ، أي أنَّ
الآية قضية شرطية لتنبيه الانسان ، وأنَّ المفروض بالانسان أن يخشع قلبه للقرآن
إذا كان له عقل ، لكنَّه لا يخشع للقرآن ولا يخضع له لماذا ؟
الثانية
: الآية ليست قضية
شرطية بل حقيقة ؛ لأن لجميع الموجودات إدراكاً وإحساساً يناسبه . وهذا المعنى انعكس في آيات عديدة ، منها : الآية الاولى
من سورة التغابن ، إذ جاء هناك :
(يُسَبِّحُ للهِ مَا
فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)
__________________
ولو لم يكن
للموجودات عقل وإدراك متناسب معها لما كان هناك معنى لتسبيحها ، بل هي تدرك فتسبح
وتقدّس وتحمد وتثني ، لكنا لا ندرك تسبيحها وتقديسها وذكرها ، أمَّا الذي يتمتّع
بحالة شهود عالم الباطن فيسمع تسبيح الموجودات ويفهمها.
الآية تندرج في
أمثال القرآن طبقاً للتفسير الاول ، لكنها تخرج عن موضوع بحثنا طبقاً للتفسير
الثاني.
الآية ٣١ من سورة
الرعد التي وردت في تأثير القرآن شاهد على التفسير الاول ، وقد جاء فيها ما يلي :
(وَلَوْ أنَّ قُرآناً
سُيِّرت بِهِ الجبالُ أوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل
للهِ الأمْرُ جَمِيعاً)
في شأن نزول هذه
الآية يرى بعض الفطاحل أنَّها نزلت جواباً على بعض مشركي مكة حيث جلسوا خلف الكعبة
واستدعوا الرسول صلىاللهعليهوآله ، فقدم إليهم أملاً في هدايتهم.
قال له المشركون :
إذا أردت أن نتّبعك فعليك إبعاد جبال مكة ، لكي تتسع من خلال ذلك أراضينا ، وعليك
كذلك تفجير الأرض وجعل ينابيع وأنهاراً فيها ، فنغرس أشجاراً ونزرع ، فإنك ـ كما
تزعم ـ لست أدنى من داود الذي سخّر الله له الجبال وكانت تسبّح معه ، أو سخِّر لنا الريح تنقلنا إلى الشام نحلُّ مشاكلنا
ونؤمّن حاجياتنا ونرجع في ذات اليوم ، كما سخَّره الله لسليمان ، وأنت ـ كما تزعم
ـ لست أقل من سليمان ، كما عليك إحياء جدّك قصي (من أجداد قريش) أو أيّ شخص آخر من
الموتى ، لكي نسأله عمَّا تدعو له من أنَّه حق أو باطل ؛ لأن عيسى عليهالسلام كان يحيي الموتى ، وأنت ـ كما تزعم ـ لست أدنى شأناً من
عيسى.
عندها نزلت هذه
الآية قائلة لهم : ما تقولونه صدر عن عناد ولجاجة لا سعياً للايمان بالرسول ،
ويكفي الرسول صلىاللهعليهوآله ما لديه من معاجز .
__________________
خطاب الآية
هيبة القرآن
وعظمته
هذه الآية تحكي
هيبة القرآن وعظمته ، وهي بدرجة تجعل الجبال متصدّعة ، ومع هذا كيف هو حال الذين
يُقرأ عليهم هذا القرآن متواصلاً دون أن يؤثر فيهم أدنى تأثير ، إن قلوب هؤلاء
أكثر قساوة من الحجر.
إلهي ، زدنا علماً
بالقرآن ، واجعل كل آية منه سبباً لزيادة ايماننا.
المثل الثالث
والخمسون :
علماء بلا عمل
الآية الخامسة من
سورة الجمعة تشكّل مثلاً آخر من أمثال القرآن الجميلة ، يقول الله تعالى فيها :
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلوا التّورَاة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَاراً بِئسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتِ اللهِ واللهُ لا
يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)
تصوير البحث
الآية تحدَّثت عن
اليهود الذين لم يؤمنوا برسالة محمّد صلىاللهعليهوآله رغم أن التوراة بشَّرت بها ، لكنهم تجاهلوا البشارة ،
وبتعبير أدق : الآية تضرب مثلاً للعلماء غير العاملين بعلمهم وتشبّههم بالحمار
الذي حُمّل كتباً لكن لا يمكنه أن يستفيد منها.
شأن النزول
عند ما نزلت الآية
الثانية من سورة الجمعة التي قالت بأن الله بعث الرسول صلىاللهعليهوآله في مجتمع امّي ، قال متعصبو اليهود : عدم إيماننا بالاسلام
بسبب أن الاسلام دين غير شمولي ويخصُّ المجتمع الامي المذكور في الآية ، التي هي
بمثابة الاعتراف بعدم شمولية الاسلام .
__________________
غالباً ما يبحث
اللجوجون والمغرورون عن الذرائع ، واليهود اللجوجون غير خارجين عن هذه القاعدة ،
والآية جواب لما تشبّث به هؤلاء من ذريعة.
الشرح والتفسير
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلوا التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً)
وهب الله تعالى
نعمة إلهية كبرى لليهود ، وهي كتاب التوراة السماوي ، لكنَّهم لم يؤدوا حق هذا
الكتاب ، وكأنهم لم يُوهبوا هذه الموهبة الكبرى ، ومثل هؤلاء كمثل الحمار الذي
يحمّلوه كتباً لا يفيد من مضمونها ومحتواها.
التوراة بشَّرت
بالرسول وذكرت علائم ومواصفات الرسول بنحو دقيق ، بحيث أصبحت معرفتهم الرسول
كمعرفتهم أولادهم ، رغم ذلك أنكروا الرسول أو تنكروه ، لماذا؟ ألم يهاجروا من بلدانهم الأصلية إلى الحجاز شوقاً لرؤية
خاتم الرسل؟ إذن ، لماذا أدبروا عن بشارات التوراة ولم يؤمنوا بالرسول وبدينه ، بل
حاربوه؟
مثل هؤلاء الذين
لا يعملون بعلمهم كمثل الحمار الذي لا يفيد من مضامين الكتب التي يحملها.
(بِئسَ مَثَلُ
القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتِ اللهِ)
كيف لا يُشبَّه
هؤلاء اليهود العنودون بالحمار مع أنهم أنكروا آيات الله تعالى لا في العمل فحسب
بل أنكروها بألسنتهم كذلك؟ وهذا الموقف الذي صدر من اليهود لم يختص بيهود صدر
الاسلام ، بل اليهود ـ طبقاً لما ورد في الآية ٨٧ من سورة البقرة ـ استكبروا أمام
كل رسول جاءهم بما يخالف أهواءهم النفسية ، فقتلوا بعضاً من الرسل وكذَّبوا بعضاً
آخر ، وهذه سيرتهم على طول التاريخ.
(واللهُ لا يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ)
رغم أن ذات الله
هي منبع الهداية ومصدرها إلَّا أن قابلية الانسان شرط في ذلك ، والله لا
__________________
يهدي إلَّا من
توفّرت فيه هذه الأرضية ، وهدايته لا تشمل من اتَّخذ العناد واللجاجة كمنهج له
وظلم نفسه.
خطابات الآية
١ ـ المثل عام
معنى العبارة : (حُمِّلوا ... ثُمَّ لَمْ يَحْمِلوا) هو أن الله منح اليهود نعمة كبرى دون أن يريدوها ، والنعمة
هي التوراة ، لكنَّهم لم يفيدوا منها. وهذا أمر لا يختص باليهود ، بل تشمل كل
انسان وكل نعمة منحها الله للانسان ولم يفد منها شيئاً.
العقل من النعم
التي لا بديل لها وقد منحها الله الانسان دون إرادة منه ، لكن كثيراً من الناس لم
يستفد من هذه النعمة بنحوٍ صحيح ومناسب.
السلامة نعمة كبرى
مجهولة ، منحها الله للانسان دون إرادة واختيار منه ، لكن يا تُرى
هل نفيد منها بنحو صحيح ومناسب ، أم أنها من مصاديق (حُمِّلوا ... لَمْ
يَحْمِلوا؟)
يا ترى هل استفدنا
من المعارف الدينية والقرآن وسنة الرسول والائمة وأقوال العلماء والمراجع ، التي
هي نِعَم كثيرة منحها الله إيَّانا دون إرادة منا ، لغرض هداية أنفسنا والمجتمع؟
٢ ـ لماذا الحمار؟
الحيوانات التي
تستخدم للحمل كثيرة ، لكن لماذا الله مثَّل العلماء غير العاملين واليهود
المتعصّبين بالحمار دون غيره من الحيوانات؟
الجواب
: يبدو أن ذلك
لاشتهار الحمار بالحماقة والجهل ، ولهذا يُضرب به المثل في حق الأحمق من الناس.
ويكفي في حماقة هذا الحيوان أنَّه لو امر بالعبور من طريق وعر ومفعم بالأخطار عشر
مرَّات لفعل ذلك دون أن يحاول تغييره.
__________________
لأجل أن يبيّن
الله حماقة اليهود ولجاجتهم وكذا العلماء غير العاملين شبَّههم بالحمار الذي لا
يفيد من الكتب التي يحملها على ظهره ، ولا يعرف عنها غير إحساسه بالثقل والتعب.
وهل يمكن تصوّر حماقة أكثر من حماقة الشخص الذي يحمل علوماً دون أن يفيد منها طول
عمره؟
٣ ـ سبب التعبير
بالأسفار لا الكتب
الأسفار من مادة
سِفر ، ويعني الكشف عن شيء ، ويُطلق على النساء غير المحجبات سافرات ؛ باعتبار
كشفهنَّ عمَّا يجب ستره ، كما استخدمت هذه المادة في السفر (أي التنقل من مكان إلى
آخر) ؛ باعتبار أن الانسان يكشف عن نفسه في السفر عكس ما كان عليه في الحضر حيث
يكون مستوراً في محلته وبيته وبنايته التي يعيش فيها أو في السيارة التي يتنقل بها
أو في دائرته أو معمله الذي يعمل فيه.
كما يُطلق على
الكتاب سفر ؛ بإعتبار كشفه عن الحقائق والواقعيات والمعارف الانسانية.
الكتاب السماوي
سبب لهداية الانسان نحو الحقيقة ويكشف له عن الواقع ، لكن الكثير من البشر لا نصيب
له من هذا الكتاب إلَّا عناء حمله ونقله دون أن يفيد منه شيئاً.
٤ ـ الهداية
تستدعي قابلية
كما تقدَّم ،
فإنَّ الأنوار الإلهية تقدم من الله ، أمَّا القابليات فنحن نوجدها. لا خلاف في
طبع الغيث اللطيف ، لكنه لا يُنبت الزهور أينما هطل ، بل الأمر يتوقّف على نوعية
الأرض ، فاذا كانت سبخة فلا تنبت الإَّ الأعلاف ، وتنبت الزهور قطعاً إذا كانت
خصبة.
لأجل ذلك قد يهتدي
الانسان ويبلغ قلّة الكمال إثر سماعه كلمه صدرت من الرسول صلىاللهعليهوآله قبل أكثر من ألف سنة ، فإن انساناً من هذا القبيل يحمل
قابلية الهداية. لكن أشخاصاً من قبيل أبي سفيان وأبي جهل قضوا عمراً إلى جنب
الرسول صلىاللهعليهوآله وسمعوا منه مباشرة آيات كثيرة وبلغتهم مواعظه العديدة ،
ولم يخطوا ادنى خطوة باتجاه الانسانية ، بل كانوا يبتعدون عن الانسانية شيئاً
فشيئاً ليصبحوا كالأنعام بل أضل سبيلاً ؛ وذلك لأجل انعدام القابلية فيهم.
__________________
٥ ـ الآية شاملة
لكلِّ عالم غير عامل
كما تقدَّم ، فإن
الآية رغم نزولها في اليهود إلَّا أنها دون شك شاملة لكل عالم لم يعمل بعلمه.
يقول المفسر
الكبير المرحوم العلامة الطبرسي في ذيل هذه الآية :
«قال ابن عباس :
فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به ، وعلى هذا فمن تلا القرآن ولم يفهم
معناه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقاً به وإن حفظه وهو
طالب لمعناه فليس من أهل هذا المثل» .
إذن ، الآية تحذير
للمسلمين جميعاً بأن لا يبتلوا بالمصير الذي ابتلى به اليهود ، وقد شملهم فضل الله
بتنزيل القرآن عليهم ، على أن لا يترك على الرفوف يتراكم عليه الغبار أو يعلّق على
الجدران لدفع العيون أو ليُهدى للعرائس أو ليُقرأ في مجالس الفاتحة فقط ، أو
لتجويد آياته وتلاوتها بصوت حسن وحفظه على أقصى تقدير دون أن تنعكس تعاليمه في
سلوكنا الفردي والاجتماعي ، ودون أن نجد له أثراً على عقائدنا وأعمالنا.
العلماء غير
العاملين في الروايات
للعلم والعالم
قيمة عالية في الثقافة الاسلامية ، حيث وصفت الروايات العلم بما يلي : رأس الفضائل
، ووراثة كريمة ، وأفضل غنية ، ومصباح العقل ، ونعم دليل ، وأفضل هداية ، وجمال لا
يحظى ، وأفضل الأنيسين ، وأفضل شرف ، وأشرف الأحساب .
كما وصفت العالم
بما يلي : العلماء ورثة الأنبياء ، ومصابيح الأرض ، وخلفاء الأنبياء .
ومن الواضح أن هذه
الفضائل والقيم خاصة بالعلم الذي يُجسّد في الخارج ويُترجم إلى واقع وللعالم الذي
يعمل بعلمه ، وإلَّا فالعلم الذي يخلو من العمل لا أنه لا يسبب الهداية ولا يضييء
الدرب للآخرين بل لا يهدي حامله كذلك.
ورد في رواية
يقشعر لها البدن عن الرسول صلىاللهعليهوآله :
__________________
«مَن ازداد علماً
ولم يزدد هدىً لم يزدد من الله إلَّا بُعداً» .
ممَّا يبعث إلى
التأمُّل في هذه الرواية هو أن الرسول صلىاللهعليهوآله لم يقل من لم يزدد هدى بعلمه لم يقترب إلى الله بل قال :
يزداد من الله بُعداً ؛ وذلك لأن عذر الانسان مقبول عند الله ما دام جاهلاً ، لكنه
عند ما يزداد علماً فلا يقبل الله له عذراً ، ولهذا يتراجع ويتخلَّف أكثر من ذي
قبل.
النتيجة : ينبغي
السعي لكسب العلم وينبغي تحمّل جميع المتاعب التي تواجهنا في هذا الطريق ، كما
ينبغي العمل بالعلم وجعل هذا العلم وسيلة لهداية أنفسنا وهداية الآخرين ، لكي لا
تصدق علينا الرواية والآية السالفتان.
__________________
المثل الرابع
والخمسون :
من خصائص المنافقين
جاء في الآية
الرابعة من سورة المنافقون :
(وإذا رأيتَهُمْ
تُعجِبُكَ أجسَامُهُمْ وإنْ يَقولُوا تَسْمَعْ لِقَولِهِمْ كَأنَّهُم خُشُبٌ
مُسنَّدةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيحةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللهُ أنَّى يُؤفَكُونَ)
تصوير البحث
بما أنَّ
المنافقين أخطر أعداء الاسلام كان من المفروض التعريف بهم والكشف عن واقعهم ، من
هنا وردت أوصافهم في آيات مختلفة ، منها الآية المزبورة ، التي أشارت إلى ثلاثٍ من
خصائصهم ، التي تكشف عن واقعهم وزيف ظاهرهم للجميع.
أوصاف المنافقين
من الضروري
التعرّف على أوصاف المنافقين ذوي الوجهين ، لغرض مواجهتهم ، ومن هذا المنطلق بتّ
الله بالتشهير بهم وتعريفهم في كثير من الآيات. وفي سورة المنافقون أشار إلى عشرة
من أوصافهم ، ثلاثة منها في آية المثل.
__________________
ونحن نبت بدراسة
هذه الأوصاف الثلاثة ، أملاً بالتعرُّف على المنافقين من خلال هذه العلائم الثلاثة
، كما يتعرَّف الطبيب الخبير على المرض المزمن والخطر من خلال علائمه.
الشرح والتفسير
١
ـ (وإذا رأيْتَهُمْ
تُعجِبُكَ أجسامُهُمْ)
صفة المنافقين
الاولى هي أن لهم ظاهراً جذّاباً وخادعاً ، أمَّا باطنهم فضعيف ، ولا يتمتَّعون
بشخصية ثابتة ، ولهذا يهتمّون بظاهرهم كثيراً ، فيبدون بظاهر قوي وجميل ومنتظم ،
لكن حقيقتهم شيء آخر.
أيها النبي ، إذا
نظرت لهم فلا يعجبك ظاهرهم ولا يخدعك ، وهم عكس المؤمنين ذوي الظاهر البسيط
وشخصيات ثابتة وواقعية.
روى بعض المفسرين
في صفة رئيس المنافقين (عبد الله بن ابي) : «كان عبد الله بن ابي رجلاً جسيماً
صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ،
وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلىاللهعليهوآله فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان
النبي صلىاللهعليهوآله ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم» .
٢
ـ (وإن يَقولوا تَسْمَعُ
لِقَوْلِهِمْ كَأنَّهم خُشُبٌ مسندة)
الصفة الثانية
للمنافقين هي كونهم يشبهون الاخشاب التي تستند أحدها على الاخرى. (الخُشب) جمع (خَشَب)
، و (مسنَّدة) تعني اليابسة التي لا تعتمد على نفسها بل تحتاج لشيءٍ آخر تعتمد
عليه .
__________________
يستبطن هذا
التشبيه نكات مختلفة ، وبتعبير آخر : شُبِّه المنافقون بالخشب المسندة لوجوه
مختلفة :
الف
: كما أنَّ الخشب
المسنَّدة لا أصل ولا جذور لها ، كذلك المنافقون فلا أصل ولا أساس لهم ، وهم بحاجة
إلى الآخرين دائماً ولا يمكنهم الاعتماد على أنفسهم ، فلا استقلالية لهم بل هم
بحاجة إلى الأجانب والكفار ، فيرتبطون بهم ، وتاريخ صدر الاسلام يؤيّد هذا. وقد
تقدَّمت قصة مسجد ضرار في المثل الثامن عشر ، وشاهدتم كيف تعاون أبو عامر النصراني
مع الروميين واعتمد عليهم وبنى مسجد ضرار في خطة للتآمر على المسلمين.
وبهذا تتّضح إحدى
صفات المنافقين ألا وهي الارتباط بالأجانب والاعتماد عليهم لإيجاد البلبلة
والاضطراب في البلاد الاسلامية.
باء
: الخصيصة الاخرى
للخشب المسنَّدة أنَّه لا فائدة فيها غير استخدامها كوقود وإحراقها لهذا الغرض ،
فلا تثمر شيئاً ولا تنمو فيها الأوراق ولا توجد ظلاً ، كما هو حال المنافقين ، فلا
فائدة فيهم.
جيم
: الخشبة اليابسة
لا تقبل الانعطاف ، كما هو حال المنافق ، فلا يمكن تغييره ؛ لتعصّبه ولجاجته ، حتى
لو أقمت له أفضل البراهين والأدلَّة وأوضحها ، فلا يلينوا أمامها أبداً ، عكس ما
عليه المؤمنون من اللين والانعطاف ، وهذا هو الذي يسبب اقتحامهم الأعاصير.
التفتوا إلى هذه
الرواية الجميلة التي وردت عن الرسول صلىاللهعليهوآله :
«مَثَلُ المؤمن
كَمَثَلِ الزرْع ، لا تزال الرياح تفيؤه ولا يزال المؤمن يُصيبه بلاءٌ ، ومثلُ
المنافق مثل الشجرة الأرزة لا تهتز حتى تُستحصد» .
والحديث يشير إلى
قابلية الانعطاف التي يتمتع بها المؤمن ولا يتمتع بها المنافق ، فالمؤمن كالزرع
الذي تحنيه الرياح ثم يرجع إلى ما كان عليه ، أمَّا المنافق فمثل شجرة الصنوبر ذات
القامة المستقيمة التي لا تقبل الانحناء ممَّا يجعلها تنكسر بالرياح الشديدة.
__________________
خلاصة ما تقدم أن
المنافق ذا الوجهين لا قابلية له على الانعطاف ، وبمثابة الخشبة المسندة التي
تستند على غيرها ولا أساس لها ولا فائدة ولا ثمرة.
٣
ـ (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَة عَلَيْهِمْ)
الصفة الثالثة
للمنافقين هي أنهم يسيئون الظن ، ويحسبون كل صيحة وضوضاء ضدّهم ، فهم مصاديق للمثل
المعروف (الخائن خائف) .
السارق يتلقَّى كل
نظرة تُلقى عليه نظرة ذات معنى ، ويقول في نفسه : أخاف أنه علم بسرقتي ، أو أخاف
أن يفشي سرقتي ، أو أخاف أن يكون شرطياً يعقبني ، وما شابه ذلك من الأوهام
والتصوّرات ، هذا مع أنه من المحتمل أن يكون الناظر لم يرَ السارق من ذي قبل ، لكن
طبيعة الخائن أنه يشعر بالخوف والاضطراب دائماً ، عكس الانسان الذي لم يتلوّث
بالخيانة وصحيفة أعماله طاهرة فلا يخاف الحساب والتحقيق ، ولا ينتابه الخوف
والاضطراب ولو نظرته آلاف العيون ، ولو كان في مركز الشرطة فلا يخاف شيئاً ، بل
سوف يشعر بالاطمئنان الأكثر عند ما يجد نفسه جنب قوى الأمن.
وخلاصة الكلام هنا
أن سوء الظن من صفات المنافق.
(هُمُ العدو
فَاحْذَرْهُمْ)
مع الأخذ بنظر
الاعتبار صفات المنافقين السابقة فهم أعداء وليسوا أنصاراً ، بل هم الأعداء
الأصليون وإن كان لكم أعداء آخرون ، لكن خطرهم أقل من خطر المنافقين ، ولهذا عليكم
الحذر من المنافقين أكثر من غيرهم.
الجملة الأخيرة
انعكست في كلام الرسول صلىاللهعليهوآله بنحو آخر ، حيث قال : «إنّي لا أتخوّف على امتي مؤمناً ولا
مشركاً ، أمَّا المؤمن فيحجرُهُ إيمانه ، وأمَّا المشرك فيقمعه كفره ، ولكن أتخوّف
عليكم منافقاً عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون» .
__________________
وهذا الحديث يكشف
عن سبب اعتبار الآية المنافقين الأعداء الأصليين بصراحة.
(قَاتَلَهُمْ اللهُ
أنَّى يُؤفكُونَ)
بعد ما بيَّن الله
الصفات الثلاث للمنافقين يشير إلى خطرهم البالغ ويعتبرهم أعدا المسلمين الأصليين
يدعو عليهم بأن يقاتلهم الله مثلما انحرفوا وضلوا وأضلّوا الآخرين .
إذن ، ينبغي
التعرُّف على المنافقين من خلال ما تقدَّمت الاشارة إليه من صفات وعلائم ، وبعد
التعرُّف عليهم ينبغي الاجتناب عنهم ، وبخاصة في زماننا الحاضر ، حيث أصبح خطرهم
أكبر ونشاطاتهم أوسع وأكثر تعقيداً.
خطاب الآية
معيار النفاق
إذا وجدت ضميرك لا
يهتز بسماع آيات القرآن.
وإذا وجدت نفسك لا
تخطو نحو الأعمال الصالحة ولا تبتعد عن الأعمال السيئة عند ما تقرأ آيات الثواب
والعقاب الإلهي.
وإذا وجدت نفسك لا
تتأثر بكلام الحق وتستمر في طريق الباطل فاعلم أن فيك رساً من النفاق قد نفذ في
قلبك جعلك تخطو في طريق المنافقين.
نعم ، إنَّ
المنافقين كالخشب المسنَّدة وكل من تشبَّه بهم صُنِّف معهم.
مباحث تكميلية
١ ـ مَن هو
المنافق؟
للمنافقين وجهان
وشخصيتان ، ظاهرهم شيء وباطنهم شيء آخر ، في الظاهر يدَّعون
__________________
الإيمان ويصنّفون
مع المؤمنين ويؤدون العبادات ، لكن قلوبهم تخلو من الإيمان أو فيها إيمان سقيم .
وقد ورد هذا
المعنى في الروايات الاسلامية ، فقد ورد في واحدة منها أن الله خاطب عيسى بن مريم عليهالسلام بالخطاب التالي :
«يا عيسى ليكن
لسانك في السرِّ والعلانية لساناً واحداً وكذلك قلبك ، إنّي احذّرك نفسك ، وكفى بي
خبيراً ، لا يصلح لسانان في فمٍ واحدٍ ولا سيفان في غَمَدٍ واحد ولا قلبان في صدرٍ
واحدٍ» .
على أي حال ،
النفاق هو أن يكون للانسان وجهان وظاهر يضاد الباطن ، ولا يمكن للانسان أن يتطهّر
منه بالكامل إلَّا أنْ يتَّحد ظاهره مع باطنه ويتطابقا.
اللهم ، أعنَّا
على هذا الأمر الخطر.
٢ ـ أخطار النفاق
خطر المافقين في
كل مجتمع أشد من أي خطر آخر ، وخطر الأعداء الذين يعلنون الحرب أقل بكثير من خطر
المنافقين ذوي الوجهين ؛ لأن الانسان عند ما يتعرَّف على أعدائه يستعد لمواجهتهم
ويتّخذ الإجراءات اللازمة ضدهم ، أمَّا الأعداء الذين تقمّصوا الصداقة فإنَّهم
يباغتون الانسان ويهجمون عليه قبل أن يستعد للمواجهة.
وهذا هو سبب كون
خطر المنافقين أكثر وأشد من غيرهم من الأعداء. وإذا راجعنا تاريخ
__________________
صلىاللهعليهوآله
عليهالسلام
الاسلام وجدنا
المنافقين كانوا سبباً لأكثر الضربات والانتكاسات ، وقد تحمَّل الاسلام الكثير
بسببهم ، ولو جمعنا في كتابٍ مؤامرات المنافقين وما افتعلوه من مشاكل ومصائب
للمسلمين أصبح كتاباً تربوياً جيداً. نشير هنا إلى بعض النماذج.
الف
: (قصة الإفك)
يستفاد من مجموع
الآيات ١١ ـ ١٦ من سورة النور أن امرأة بريئة ذات شأن وجاه اجتماعي تعرَّضت لتهمة
تمسُّ بعرضها من قبل أحد المنافقين ، وكان الغرض من هذه التهمة تشويه سمعة الرسول
وتدنيس عرضه في المجتمع. حاول بعض المنافقين المتظاهرين بالاسلام والايمان
لاستغلال الحادث والتصيّد بالماء العكر وكسب بعض النتائج لصالحهم ، فنزلت الآيات
المزبورة وأفشت مؤامرتهم .
باء
: (إيجاد العقبات في
الحديبية)
قرر الرسول صلىاللهعليهوآله بصحبة المسلمين في السنة السادسة من الهجرة أن يقصدوا مكة
للإتيان بالعمرة . ثمّ أطلع الرسول المسلمين أنَّه رأى مناماً يدخل فيه
بصحبة المسلمين المسجد الحرام ومكة ، والجميع منهمك بالاتيان بمراسم العمرة.
تحرك المسلمون
باتجاه مكة وبعد ما بلغو ذو الحليفة أحرموا فيها ، ثمّ تحرّكوا مصطحبين معهم نوقاً لأجل
تضحيتها . وبما أن الرسول لم يقصد من رحلته هذه غير العبادة العظمى
__________________
(الاتيان بالعمرة)
لم يحمل معه من الاسلحة إلَّا سيفاً ، وهو سلاح كل مسافر ، وكذا باقي المسلمين ،
حتى بلغوا أرض الحديبية .
بعد ما اطَّلع
زعماء قريش على حركة المسلمين باتجاه مكة أغلقوا الطريق أمامهم ليمنعوهم من
الاتيان بالعمرة ، وبعد حوادث مختلفة حصلت آنذاك انتهى الأمر إلى انعقاد معاهدة
صلح بين قريش والمسلمين تُدعى صلح الحديبية.
أثناء تدوين
المعاهدة خالف ممثل قريش (سهيل بن عمرو) كتابه (بسم الله الرحمن الرحيم) و (محمّد
رسول الله) في بداية العقد ، ممَّا أثار حفيظة المنافقين ، واتخاذ ذلك ذريعة
لايجاد بلبلة ، فأخذوا يقولون مثلاً : أيُّ منام أنت رأيته لنا؟!
أي زيارة وعدتها
إيّانا؟!
يا له من امتياز
منحته للكفّار!
وقد تعمّقت
الاعتراضات إلى أن بلغت كلام الله ، حيث عدَّ صلح الحديبية فتحاً مبيناً ، فقال بعضهم : أيُّ فتح هذا ، حيث صُددنا عن زيارة بيت
الله وصُدَّ هدينا؟ وقال بعض آخر : لم نشك برسالة الرسول يوماً مثلما شككنا به
اليوم.
هذا مع أن صلح
الحديبية أحد أكبر انتصارات المسلمين وقد كان له آثار إيجابية جمَّة .
جيم
: (فشل محاولة اغتيال
الرسول صلىاللهعليهوآله)
«اثنى عشر رجلاً
وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلىاللهعليهوآله عند رجوعه من تبوك ، فأخبر جبرئيل عليهالسلام رسول الله بذلك ، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم
، وعمّار كان يقود دابة رسول الله صلىاللهعليهوآله وحذيفة يسوقها ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فضربها
حتى نحاهم ...» ، وبذلك فشلت محاولتهم لاغتيال الرسول صلىاللهعليهوآله.
دال
: (اجتماع المنافقين في
السقيفة)
خبر موت الرسول صلىاللهعليهوآله أفجع قلوب المسلمين ، وقبل أن يتم تغسيل وتكفين ودفن
__________________
الرسول اجتمع
عدَّة من المغرّر بهم والمنافقين في سقيفة بني ساعدة تلبية لنداء الشيطان ، فحاكوا
مؤامرة خطرة ضد الاسلام ، ورغم إيصاء الرسول صلىاللهعليهوآله بعلي عليهالسلام كخليفة بعده إلَّا
أنَّهم توفّقوا لابعاده عن الخلافة ، وبذلك أوردوا أكبر ضربة قاصمة على الاسلام .
اللهُمَّ العن
أوَّل ظالم ظلم حقّ محمّد وآل محمّد وآخر تابع له على ذلك.
من الصعب إحصاء كل
ما أوجده المنافقون من عقبات ومؤامرات وضربات قاصمة ضد الاسلام ، فهؤلاء هم الذين
جاءوا بمعاوية الذي ارتكب جرائم بشعة ، وهؤلاء هم الذين جعلوا من الامام علي عليهالسلام والامام الحسن عليهالسلام قعيدي البيت ، وهؤلاء هم الذين خلقوا حادثة كربلاء المفجعة
، التي ذبح فيها أفضل البشرية و...
ملخص الكلام أن
المنافقين أخطر الأعداء لا للمجتمع الاسلامي فحسب بل لكلِّ المجتمعات ، ولذلك
هاجمتهم الآيات القرآنية بأعنف ما يمكن ، وكشفت عن حقيقتهم المزيّفة في سورٍ
مختلفة كسورة المنافقون والتوبة والبقرة والاحزاب.
اللهم ، احفظ
الاسلام والمسلمين من شر المنافقين وافضحهم واخزهم.
__________________
المثل الخامس
والخمسون :
الضوابط لا العلاقات
يقول الله تعالى
في الآية ١٠ من سورة التحريم :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
للَّذِينَ كَفَروا امْرأةَ نُوحٍ وَامرأةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ
عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتاهُما فَلَمْ يُغنيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئاً
وَقِيلَ ادْخُلا النَّارُ مَعَ الدَّاخِلينَ)
تصوير البحث
لا شكَّ أن لكلِّ
شيء معياراً ، فما معيار نجاة الانسان في الآخرة؟ هل ملاك النجاة العلاقة
والانتساب إلى الرسول صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام وأولياء الدين أم أنَّ الملاك الأساسي هو الإيمان والتقوى
والعمل الصالح؟ اختصَّت هذه الآية بالحديث عن هذا الموضوع.
دراسة إجمالية
لسورة التحريم
لأجل اتّضاح
العلاقة بين آية المثل والسورة ككل ينبغي إلقاء نظرة إجمالية على جميع آيات هذه
السورة.
السورة مدنية ،
ولها اثنى عشرة آية ، والذي يبدو من اسمها أنها تتحدّث عن شيء حرَّمه الرسول على
نفسه ، كما تشير إلى الملابسات التي أدَّت إلى هذا التحريم.
يدعو الله الرسول
في هذه السورة إلى نكث ما حرَّمه على نفسه ، كما هدَّد المتواطئون بعذاب إلهي شديد
إذا لم يتوبوا ، ثمّ بيَّن مطلباً ، وهو أن العلاقة والقرابة لوحدها دون الأعمال
الصالحة
لا تنجي الانسان ،
فلا ينبغي له أن يعتمد عليها ، ثمّ يضرب مثلين جميلين في أمرأة نوح عليهالسلام وامرأة لوط عليهالسلام اللتين لم ينفعهما قرابتهما بالرسولين المذكورين ؛ وذلك
لأنهما لم يعملا صالحاً ، فكان مصيرهما جهنم كباقي من دخلها من الناس.
قصة التحريم
وردت أقوال
متباينة في قصة التحريم ، أنسبها ما يأتي :
«إنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يذهب أحياناً إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في
بيتها حتى تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له ، ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ
عليها الأمر ، ولذا قالت : إنَّها قد اتفقت مع حفصة (إحدى أزواج الرسول) على أن
يسألا الرسول بمجرّد أن يقترب من أيٍّ منهما بأنَّه هل تناول صمغ المغافير ، علما أن الرسول كان يصرّ على أن تكون رائحته دائماً . وفعلاً سألت حفصة الرسول صلىاللهعليهوآله هذا السؤال يوماً وَرَدَّ الرسول بأنَّه لم يتناول صمغ
المغافير ولكنَّه تناول عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنَّه سوف لن يتناول
ذلك العسل مرة اخرَى ، خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذت على شجر صمغ
المغافير وحذرها أن تنقل ذلك إلى أحدٍ لكي لا يشيع بين الناس أن الرسول قد حرَّم
على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون بالرسول ويحرمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو
خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك.
لكنها أفشت السرَّ
فتبيَّن أخيراً أن القصة كانت مدروسة ومعدَّة ، فتألّم الرسول صلىاللهعليهوآله لذلك كثيراً فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضيح الأمر وتنهى
من أن يتكرَّر ذلك مرة اخرى في بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله» .
طبقاً لهذه
الرواية فإنَّ عائشة وحفصة ارتكبتا ذنوباً ثلاثة :
١ ـ حسدهما زينب
بنت جحش لكثرة حب الرسول لها.
__________________
٢ ـ كذبهما على
الرسول بأن فيه رائحة كريهة.
٣ ـ إفشاء سر
الرسول.
وهذه الذنوب
ثلاثتها من الكبائر.
الشرح والتفسير
بعد اتّضاح
العلاقة بين آية المثل وباقي آيات السورة نبتُّ بشرح آية المثل.
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
للذِينَ كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ)
رغم أن المثلين
وردا في امرأتين محدّدتين إلَّا أنَّ استخدام (الذين) يفيد التعميم والشمول
للجميع.
رغم أنَّ صلة كانت
تربط بين نوح عليهالسلام وامرأته وكذا بين لوط عليهالسلام وامرأته إلَّا أن هذه القرابة والصلة ما نفعتهما ؛ لأنه لم
يكن لهما أعمال صالحة.
يعتقد بعض
المفسرين أن اسم امرأة نوح (والهة) وامرأة لوط (والعة) ، لكن البعض عكس ذلك واعتبر اسم امرأة نوح (والعة) وامرأة
لوط (والهة) أو (واهلة) .
(كَانَتَا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتاهُما)
المراد من العبدين
الصالحين هو نوح ولوط فلم يستفيدا من نعمة تواجد هذين العبدين إلى جنبهما ولم يستضيئا
بهما الدرب ليهتديا ، بل منعا الهداية عن الآخرين ، خانتا زوجاهما.
ينبغي التذكر بأن
المراد من الخيانة هنا ليس الانحراف عن جادة العفة ، فإن ذلك لم يحصل لأيٍّ من
زوجات الأنبياء ، وقد ورد عن الرسول صلىاللهعليهوآله قوله : «ما بَغَتْ امرأة نبيٍّ قط» ، وهذا الحديث يدلُّ على أن الخيانة لم تكن خيانة زوجية
جنسية ، بل كانت من نوع آخر ، وهو إفشاء سر الزوج.
امرأة نوح كانت
تفشي أخبار من آمنوا سراً بنوح وتبوح بأسرارهم للوثنيين ، ممَّا يؤدي
__________________
إلى إيذاء النبي
والموحّدين.
أمَّا امرأة لوط
فعند ما شاهدت رسل الله عند لوط خرجت إلى الناس تخبرهم بمجيء شباب صبيحين إلى لوط
، سعياً منها لإثارتهم جنسياً ، وكما هو المعروف عن قوم لوط فانهم كانوا يمارسون
اللواط.
على أي حال ،
خيانة هاتين المرأتين في إفشائهما اسرار زوجيهما ، وافتعال مشاكل لهما من خلال
ذلك.
ومن الصعب بمكان
احتمال زوجةٍ تفشي أسرار زوجها وتوجد له المشاكل وتوتّر البيت وتعكّر صفوه ، رغم
أن المفروض بها أن تكون سبباً في سكينة البيت والعائلة .
(فَلَمْ يُغْنِيا
عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدّاخِلينَ)
مقياس نجاة
الانسان ـ كما تقدّم ـ هو الأعمال الصالحة لا العلقة الزوجية والعائلية وما شابه ،
لذلك لم ينفع هاتين المرأتين علقتهما الزوجية باثنين من الأنبياء ، فدخلا جهنم كما
يدخل باقي الناس ممَّن لا علاقة له بنبي.
وهذا لأجل أن يفهم
الجميع بأنَّ الأعمال الصالحة هي الوحيدة التي يمكنها أن تنجي الانسان من العذاب
الإلهي وتسبب له الفلاح والسعادة.
خطاب الآية
ملاك النجاة هو
العمل الصالح
كما تقدّم فإن
الملاك الأساسي والوحيد لإنقاذ الانسان يوم القيامة هو أعمال الانسان الصالحة لا
العلقة العائلية والقبلية ، ولا ينجو من ذلك اليوم من لم يكن له أعمال صالحة ولو
كان زوجة رسول.
زوجة شيخ الأنبياء
نوح وابنه نموذجان كاملان لهذا المطلب ، وعند ما استعدَّ نوح لركوب
__________________
السفينة وشاهد
ابنه موشكاً على الغرق طلب من الله الطلبة التالية :
(رَبِّ إِنَّ ابنِي
مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وَعدَكَ الحَقُّ وَأنْتَ أحْكَمُ الحَاكِمينَ) .
وهو يشير بالوعد
إلى ما ورد ذكره في الآية ٤٠ من سورة هود ، حيث وعد الله نوحاً أن يحمل أهله ومعه
ويركبهم السفينة.
أجاب الله نوحاً
في الآية ٤٦ من سورة هود ، وأشار فيها إلى أنَّه لا تأثير للعلقة والقرابة النسبية
في هذا الموضوع ، إذ ورد هناك :
(قَالَ يا نُوحُ إنَّه
لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالح فَلا تَسْألنَ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلمٌ إنّي أَعِظُكَ أنْ تكُونَ مِنَ الجَاهلِينَ)
نعم ، العلقة لا
تؤثر ولو كانت قوية بدرجة النبوّة ، فهي غير مفيدة ما دام الانسان غير صالح ،
ولهذا كانت عاقبة ابن نوح ، كباقي الكفار ، الغرق.
في قصة الامام
السجاد عليهالسلام مع طاوس الفقيه عبرة ، نقرأها هنا :
يقول طاووس الفقيه
: رأيته يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد ، فلمَّا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه
وقال : «إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتّحات للسائلين ،
جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد صلىاللهعليهوآله في عرصات القيامة» ، ثم بكى وقال : «وعزّتك وجلالك ما أردت
بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا
لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليَّ ...»
ثم بكى وقال : «سبحانك
تُعصى كأنَّك لا ترى ، وتحلم كأنَّك لم تعصَ ، تتودَّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأنَّ
بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم» ثم خرَّ إلى الأرض ساجداً.
قال : فدنوت منه
وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خدّه ، فاستوى جالساً وقال :
«من الذي أشغلني عن ذكر ربّي»؟
فقلت : أنا طاووس
يا ابن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ،
__________________
ونحن عاصون جانون
، أبوك الحسين بن علي وامك فاطمة الزهراء ، وجدّك رسول الله صلىاللهعليهوآله؟
قال : فالتفت
إليَّ وقال : «هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وامّي وجدّي ، خلق الله
الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان
ولداً قرشياً ، أما سمعت قوله تعالى : (فَإذَا نُفِخَ في
الصُّورِ فَلا أنسَابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ وَلَا يَتَساءَلُونَ) والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تقدّمها من عمل صالح» .
نعم ، إذا لم
يصطحب الانسان معه عملاً صالحاً يوم القيامة فلا ينفعه شيء ولا ينجيه ؛ لأن
القيامة ـ كما عبَّر عنها القرآن الكريم ـ عبارة عن يوم (لا يَنْفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ
إلَّامَنْ أتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .
النتيجة هي أن
الحسد والكذب وإفشاء أسرار الآخرين توجب بعداً عن الله ، والملاك الأساسي لانقاذ
الانسان يوم القيامة هو الأعمال الصالحة لا القرابة السببية أو النسبية.
__________________
المثل السادس
والخمسون :
استقامة زوجة فرعون
يقول الله في
الآية الحادية عشر من سورة التحريم :
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً للَّذِينَ آمَنُوا امرأةَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابنِ لي عِنْدَكَ
بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ونَجنِي مِنَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ)
تصوير البحث
كما قلنا فإنَّ
سورة التحريم تحدَّثت عن بعض المشاكل التي واجهها الرسول صلىاللهعليهوآله وفيها تنويه ببعض الضغوط التي أوردها الأعداء على الرسول صلىاللهعليهوآله ، فَإنَّ ضغوط الأعداء بلغت درجة ما بات يشعر إثرها
بالأمان الكافي حتى في منزله ، وقد مضى ذكر مؤامرة اثنين من زوجاته ، حيث أفشتا
سرّه صلىاللهعليهوآله.
المؤامرة المزبورة
وإفشاء سرّ الرسول صلىاللهعليهوآله سببتا نزول سورة التحريم ، ولأجل أن تفهم أزواج النبي وكذا
باقي الناس بأن الأعمال الصالحة هي الوحيدة التي تنجي الانسان من عذاب يوم القيامة
ضرب الله مثلين في هذا المجال ، في أحدهما تحدّث عن امرأتين خانتا نبيين من أنبياء
الله ، وفي الآخر تكلَّم عن امرأة مؤمنة لم تؤثّر علاقتها بطاغوت مثل فرعون على
درجتها عند الله تأثيراً سلبياً.
الشرح والتفسير
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً للَّذِينَ آمَنُوا امرأةَ فِرْعَوْنَ)
كانت هذه المرأة
تعيش في جهاز ملك هو أحد أكبر الملوك ظلماً ، ورغم أنها كانت تعيش في ظل نِعم
ورفاه عالي إلَّا أنَّها وجدت نفسها في مفترق طريقين ، هما : الدنيا والآخرة ،
فإمَّا أن تختار العيش في دنيا سعيدة مرفّهة ، وإمَّا العيش بقرب الله ودخول الجنة.
اختارت القرب
الإلهي ورجحته على الحياة الدنيا ، والله جعلها في أفضل الجنان عنده ، وعَدَّ
حياتها نموذجاً ومثلاً لكلِّ النساء بل حتى الرجال.
رغم أنَّ آسية بنت
مزاحم كانت زوجة فرعون الظالم وقريبة منه إلَّا أنها اختارت ضابطة الإيمان بالله ،
وكونها زوجة جبار كفرعون لم يثنها عن اتباع الحق ، ولم يجعل منها أمرأة تعيسة ،
كما لم يؤثّر القرب بالعباد الصالحين في زوجتي نوح عليهالسلام ولوط عليهالسلام ، ولم ينقذهما من عذاب يوم القيامة ، بل إحداهما غرقت
كابنها ، والاخرى دفنت تحت تلٍّ من الأحجار الإلهية ؛ وهذا كله لأجل أن الانتساب
والعلاقة لا دور لهما عند الله ولا يترجحان على الضوابط ، فهي الحاكمة في جهاز
الحكمة الإلهية.
(إذْ قَالَتْ رَبِّ
ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
ونجّني مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ)
حياة آسية بعد
إيمانها بربّ موسى اسوة وقدوة في كل لحظاتها ، وهذه الآية تشير إلى بعضٍ من تلك
اللحظات التي عاشتها تلك المرأة العظيمة ، وهي لحظات كونها ترزخ تحت أشدّ الضغوط
ومختلف أساليب التعذيب ، فضرب الله مثلاً بهذه اللحظات.
أصبحت آسية اسطورة
في الصبر والمقاومة ، وفي أحلك اللحظات وأشدها رفعت يديها إلى السماء طالبة من
الله تعالى ثلاث طلبات :
الاولى
: (رَبِّ ابنِ لي
عِنْدَك بَيْتاً في الجنَّة)
كان القرب إلى
الله تعالى يشكّل أول طلبة طلبتها هذه المرأة ، وهو شيء أرفع من الجنة ، ولا يمكن
قياسه بالجنة.
وقد استُخدم هذا
التعبير في حقّ الشهداء كذلك (عنْدَ ربِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) ، وآسية على عتبة الاستشهاد طلبت شيئاً هو جدير بالشهداء.
الثانية
: (ونجِّني مِنْ
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)
وهذه الطلبة تكشف
عن أنَّ الذي كان يؤذي آسية ليس التعذيب والضغوط ؛ لأنها تبدو لا شيء أمام رضا
الله ، بل الذي يؤذيها هو أعمال وأفكار وعقائد فرعون ، فهي لا تحتمل هذه العقائد
القاصرة ، لذلك لا يحلو لها العيش بقرب فرعون ، فدعت الله لانقاذها منه.
في اللحظات
الأخيرة من العمر وتحت أشد الضغوط والآلام أعلنت آسية عن استيائها من فرعون
ومظالمه وجناياته.
الثالثة
: (ونجّني مِنَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ)
الطلبة الأخيرة
لهذه المرأة الصالحة هي النجاة من المجتمع الفاسد الذي تعيش فيه ، أي لا أنها لا
تنثني للمجتمع الفاسد ولا تتأقلم معه بل تعتبر التأقلم معه والانصياع له عاراً ،
ولهذا أعربت عن استيائها منه في أعمالها وأقوالها.
الجمل الثلاث التي
شكَّلت دعاء هذه المؤمنة والعارفة في اللحظات الأخيرة من عمرها جميلة ودقيقة
ومحسوبة ، وبإمكان هذه الجمل أن تنير درب المؤمنين من الرجال والنساء ، فهي تنفي
ما يتمسك به البعض من ذريعة الضغط الذي يواجهه الانسان من قبل المجتمع أو الزوجة
لترك طاعة الله ولالتزام التقوى.
خطابات الآية
١ ـ الاستقلال
الفكري
لماذا آمنت آسية
بربِّ موسى رغم كونها تعيش في قلب الشرك وإلى جنب فرعون؟
كيف استطاعت هذه
المرأة الثورية الصبورة أن تخرق الحجب جميعها وتبلغ الدين الحق؟
سرّ موفقيتها يكمن
في استقلالها الفكري ، فما تركت المسائل الهامشية تؤثِّر سلباً على
__________________
فكرها وتحرفه أو
تسلبه منها. آمنت آسية وتنوّر قلبها عند ما رأت معجزة موسى ، حيث أسلم له سحرة
فرعون وسيطر الاضطراب والخوف على فرعون الذي كان يدّعي الربوبية ، وازداد إيمانها
وشعلته النيِّرة في قلبها تدريجياً بعد ما منعت من تأثير المجتمع والعائلة على
فكرها ونفسها .
٢ ـ لماذا لم
تستخدم آسية التقية؟
حقيقة التقية هي
تغيير شكل المواجهة ، وتجب فيما إذا كان إظهار العقيدة يعرِّض الانسان للخطر دون
فائدة ، لكن لماذا لم تستخدم آسية زوجة فرعون التقية ؛ حفظاً لنفسها وتغييراً
لظاهر المواجهة؟
الجواب
أولاً
: التقية تجري فيما
إذا كان بإمكان الانسان أن يخفي عقيدته ويكتمها ، لكن حبّ الانسان لله بمثابة
الشعلة التي تعلو ألسنتها لتظهر على حركات الانسان وسكناته حتى لو حاول إخفاءها.
شعلة حب الله كانت
قد اتقدت وارتفعت إلى درجة لا يمكن إخفاؤها بأي نحو من الأنحاء ، وهذا هو الذي جعل
من آسية أن تعلن إيمانها وتصمد أمام المشاكل والعقبات.
ثانياً
: قد يكون إظهار
الايمان والشهادة في هذا الطريق يعقبه فوائد أكثر من فوائد الحياة وكتمان الايمان
، وقد كان إظهار آسية لإيمانها وانتشار خبرها وخبر تعذيبها وصمودها في هذا الطريق
حتى الشهادة من هذا القبيل. مضافاً إلى أن هذه القضية بحدّ ذاتها تعدُّ وثيقة
دامغة على حقانية موسى عليهالسلام وبطلان دعاوي فرعون ، وسبباً لطمأنة المؤمنين وتعزيز ثقتهم
بأنفسهم ، باعتبار أنها تكشف عن امكانية نفوذ الايمان قلوب الأعداء ، وتهديدهم في
قعر دارهم. وهذا يسلب الذرائع التي قد يتمسك بها البعض لترك الايمان بالواحد
الأحد.
__________________
وقد شهد التاريخ
لعلماء أصبحوا شمعة أضاءت درب المؤمنين وزرعت الأمل في قلوبهم إثر تركهم التقية.
٣ ـ التعذيب عامل
تكامل أو وسيلة قهر!
يتوسّل الجبابرة
والظلمة بوسائل شتى للمنع عن الحقائق والخضوع لها ، والتعذيب واحدة من تلك
الوسائل. استخدم فرعون أقسى أنواع التعذيب في حقِّ آسية لكي يثنيها ويثبط عزمها
وإرادتها الحديدية ويردها عن اتِّخاذ دين الحق ، ورغم كونها امرأة إلَّا أنَّها
صمدت وقاومت وواجهت جميع حيل فرعون حتى آخر لحظات عمرها ، عكس ما عليه ضعيفو
الإيمان ، حيث يستسلمون إثر أدنى نوع من التعذيب.
من المسلَّم به أن
لا وجود لجهاز ودنيا أعظم زخرفة وأكثر جبروتاً من جهاز فرعون ، كما أنه لا تعذيب
ولا اضطهاد أعظم ممَّا مارسه فرعون المجرم ، لكن لا زخرفة دنيا فرعون وجبروته أثنت
آسية المؤمنة ولا اضطهادة ولا تعذيبه ، بل قد جعلت من التعذيب ـ الذي هو وسيلة
للقهر ـ وسيلة لتكاملها ، وأفدت بنفسها في طريق العشق الإلهي.
قصة إيمان آسية
ذهبت آسية ملكة
مصر بصحبة فرعون إلى مشاهدة سحر السحرة ومعجزة موسى عليهالسلام في ساحة المدينة ، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم التي كانت
مملوءة بالزئبق لتتحرّك إثر حرارة الشمس ولتبدو أفاعي حقاً ، فرح الناس واستأنسوا بعد ما حصل هذا وصفقوا للسحرة
وأطلقوا شعارات لصالح فرعون.
لكن لم يمضِ وقت
طويل على الفرحة وعلى إغواء الناس حتى جاء الدور إلى موسى عليهالسلام ، فألقى بعصاه ، امتثالاً لأمر الله ، فبدت حية كبيرة بلعت
كل ما كان ألقاه السحرة من العصي والحبال وتحرّكت باتجاه فرعون.
__________________
عندئذٍ تبدَّل
الموقف لصالح موسى عليهالسلام ، وتغيّرت الابتسامة والتصفيق والهلاهل إلى هموم واستياء
وتعجّب ، وخيَّم الرعب على فرعون والتعجّب على المشاهدين.
ظنَّ فرعون أن هذه
الأفعى ستبلعه ، وبدا الاضطراب على وجهه واضحاً ، وبخاصة بعد ما سقط التاج من على
رأسه.
أسلم السحرة
جميعهم وسجدوا ولم تؤثر فيهم تهديدات فرعون ولم تثبط عزمهم على الايمان بربِّ موسى.
بعد ما شاهدت آسية
هذه اللقطات غرقت بالتفكير ، وبعد مشوار انقدحت شعلة من الايمان في قلبها ازدادت
تدريجياً لتنير كل وجودها بل وحتى خارجه.
أخذت آسية بمناجاة
الله في الخلوة ، وبادرت بالقيام بالأعمال الصالحة ، وبعد ما شاهد فرعون آثار
الايمان وحب الله في سلوكها سألها عن الحقيقة ، فما استطاعت كتمان حبها المقدس وما
استطاعت الكذب عليه فقالت الحقيقة له.
غضب فرعون الجبار
كثيراً وهدّدها ، لكن تهديده لم يؤثّر فيها أدنى تأثير ، وكما قال الصادق عليهالسلام : «إن المؤمن أعزُّ من الجبل ، إن الجبل يستقلُّ منه
بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه» أي لا أنه لا ينثني أمام الريح فحسب بل يغيّر اتجاهه.
بدأت النصائح
والملامات تمطر على آسية من كل مكان وبخاصة الأقرباء والأصدقاء ، فكانوا يقولون
لها : كيف يمكن لك أن تدبري عن هذه النعم من الخدم والحشم والنعم التي تحيط بك
كملكة لمصر؟!
لكن جواب آسية
لهذه الاعتراضات والملامات هو : أنّي لا أرفع يدي من الايمان بالله.
ما كاد فرعون
يحتمل نفوذ موسى في بيته وفي قلب شريكة حياته ، ولو استمرَّت آسية على إيمانها
بإله موسى شكلت أزمة كبيرة لفرعون الطاغوت ، لذلك أصدر حكماً بالقضاء عليها.
أخذوا بآسية إلى
صحراء قاحل وأوتدوا رجليها على الأرض ووضعوا صخرة ثقيلة على صدرها وحرموها من
الماء والغذاء لعلَّها ترجع إلى دين فرعون أو تموت ، فاختارت هذه البطلة الطريق
الثاني.
__________________
عند ما أوشكت
أنفاسها على الانقضاء أخذت تدعو بالدعاء التالي : (رَبِّ ابنِ لي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ونجّني مِنَ
القَوْمِ الظَّالِمِينَ)
استجاب الله لدعاء
آسية وجعلها قدوة للمؤمنين والمؤمنات ، وصنّفها في زمرة أفضل نساء العالم ، كما
ورد ذلك على لسان الرسول صلىاللهعليهوآله ، إذ قال :
«أفضل نساء أهل
الجنّة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة
فرعون» .
ممَّا يُلفت أن
زوجة فرعون حقَّرت البلاط الفرعوني الطاغي بطلباتها الثلاث ، حيث رجّحته على بيت
في الجنَّة ، واعتبرته لا شيء في قبال جوار رحمة الله ، وبذلك أجابت من لامها على
ترك كل هذه الامكانيات التي كانت في متناول أيديها ؛ باعتبارها ملكة مصر ، وعلى
توجهها إلى راعٍ مثل موسى ، وهذا درس وعبرة للجميع.
إلهي ، وفقنا لحفظ
الايمان حتى آخر لحظات من عمرنا.
ربّنا ، نحن ضعفاء
أمام الوساوس الشيطانية ، فأعنَّا عليها.
آمين رب العالمين.
__________________
المثل السابع
والخمسون :
مريم بنت عمران
يقول الله تعالى
في الآية ١٢ من سورة التحريم :
(وَمَرْيمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيه مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ ربِّها وكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ)
تصوير البحث
ورد هذا المثل في
نفس الاتجاه الذي ورد فيه المثلان المتقدِّمان ، وهو يؤكّد أن المعيار الوحيد
للقرب إلى الله والحلول في ضيافته هو العمل الصالح والالتزام بالضوابط الالهية ،
ولا تغني الأواصر والعلاقات مهما كانت قوية.
بالطبع ، هناك
اختلاف بين هذا المثل والمثلين المتقدّمين نشير إليه فيما بعد.
الشرح والتفسير
(وَمَرْيمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيه مِنْ رُوحِنا)
الجانب الذي لاحظه
القرآن في التمثيل بآسية غير الجانب الذي لاحظه في التمثيل بمريم بنت عمران ، فقد
لاحظ هناك جانب الصبر والاستقامة وهنا جانب العفّة والطهارة.
بيَّن القرآن
ثلاثة امتيازات لمريم :
الأول
: العفّة ، فقد
كانت مريم عفيفة بدرجة أنها كانت تخاف جبرئيل ويرتعش جسمها
عند ما كان يأتيها
متمثلاً بشاب جميل ، وهي في الخلوة تغسل جسمها وتقول له : (إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ
كُنْتَ تَقِياً) ، ورغم أن جبرئيل طمئنها وقال لها : (إنَّما أنَا رَسُولُ ربِّكَ لأهَبَ لكِ
غُلاماً زكيّاً) إلَّا أن الاضطراب لا زال يسيطر عليها ، لذلك قالت له : (أنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْني
بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بغيّاً) ، وهذا كله يكشف عن مستوى عفتها وطهارتها.
الثاني
: (وَصَدَّقَتْ
بكَلِمَاتِ رَبِّها وكُتُبِهِ)
التسليم المطلق
والخالص إلى الله والعبودية هي الامتياز الآخر الذي بيّنه القرآن لمريم.
كانت مريم مصدِّقة
لكتب الله السماوية ولكلمات ربّها.
اختلف المفسِّرون
في أنّ (كتبه) عطف تفسيري على (كلمات ربِّها) أم لا ، وأنا أعتقد انعدام العطف
التفسيري أو قلة موارده في القرآن. وعلى هذا يكون المراد من (كتبه) هو الكتب
السماوية ، أي التوراة والانجيل والقرآن ، والمراد من (كلمات ربِّها) هو الأحاديث
القدسية ، أي كلام الله الذي لم يرد في الكتب السماوية .
الثالث
: (وَكَانَتْ مِنَ
القَانتِينَ)
قنوت مريم هو
امتيازها الثالث ، وهو يعني العبادة والطاعة ، وبما أنه جاء مطلقاً ودون قيد كان
يعني أنها مفعمة بالطاعة والعبادة لربِّها ربّ العالمين.
ليس من السهل أن
يكون الانسان مطيعاً خالصاً دون قيد أو شرط ، وكثير من أعمال عباد الله منتقاة ،
أي أنَّه ينتقي ما ينفعه ويذر ما لا ينفعه ، بينما عباد الله المخلصون يعملون له
مطلقاً مهما كانت آثار العمل ومردوداته.
نتيجة العفَّة
التي يُضرب بها المثل وكذا الايمان والاعتقاد بجميع ما أنزل الله والطاعة والعبادة
الخالصة التي لا مثيل لها أن نفخ الله فيها من روحه ومنحها ولداً طاهراً كعيسى بن
مريم عليهالسلام.
__________________
فوارق هذا المثل
مع المثلين المتقدِّمين
رغم أن الأمثال
الثلاثة المذكورة في سورة التحريم تابعت هدفاً واحداً ، وهو بيان الملاك الأساسي
لنجاة الانسان ، أي الضوابط الالهية لا العلاقات والانتساب بأولياء الله ، إلَّا
أنها متباينة فيما بينها.
كان الحديث في
المثل الاول عن امرأتين مشركتين أدبرتا عن الضوابط الإلهية فدخلتا جهنم مع
الداخلين ، ولم ينفعهما علاقتهما بزوجيهما اللذين كانا من كبار أنبياء الله ،
والمثل تحذير لضعفاء الايمان الذين تمسكوا بالانتساب لبعض أولياء الله.
في المثل الثاني
كان الحديث عن أمرأة صبورة ومقاومة ، قد تمسكت بالتعاليم الإلهية وما أكترثت بشيء
إلَّا برضا الله ، ولم تنتسب إلى أحدٍ من أولياء الله ، بل إلى طاغوت ، فقد كانت
زوجة فرعون الأكثر ظلماً في البشرية ، رغم ذلك لم تؤثّر هذه العلقة وهذا الانتساب
في عزمها وإرادتها ، وكان قرارها التزام الإيمان بالله وحفظه حتى آخر لحظة من
حياتها.
وهذا المثل يُضرب
لمن عاش في عائلة ومحيط غير مساعد ، تكثر فيه العقبات والموانع الموضوعة في طريق
الإيمان ، فالاقتداء بها يعني تجاوز الموانع والانتصار عليها وعدم التشبُّث بها
كذرائع.
الحديث في المثل
الثالث عن إمرأة عفيفة تمتعت بامتياز الانتساب وكذا العمل بالضوابط الإلهية في
أعلى مستوياتها ، ولهذا عُدَّت اسوة.
مزيد
ايضاح : البيئة التي كانت
تعيشها آسية غير مناسبة ولا تساعد على انعقاد الإيمان من جميع الجهات ، فقد كانت
تعيش منزلاً يُعدُّ بؤرة للكفر والشرك والعناد والوثنية ، وما كان يسمع فيه صوت
التوحيد أبداً ، وكان زوجها يعدُّ نفسه ربّاً أعلى بل ربّ الأرباب ، أمَّا البيئة التي كانت تعيشها مريم
فكانت بيئة طاهرة ومفعمة بالإيمان ، وقد كانت تسمع الترنمات الإلهية وهي جنين في
بطن امِّها.
ينقل القرآن
المجيد مناجاة ام مريم في الآية ٣٥ من سورة آل عمران كما يلي :
__________________
(رَبِّ إنّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْني مُحَرَّراً فتقَبَّلْ مِنّي إنَّك أنْتَ السَّميعُ العليمُ)
الطهارة حكمت بيئة
مريم حتى بعد الولادة ، فقد تكفّلها بعد وفاة أبيها نبي عصرها زكريا عليهالسلام بعد حوادث لطيفة حصلت ، ممَّا زاد في قداستها وسمح لها
دخول بيت المقدس والمسجد الأقصى لتقيم عباداتها هناك. وبلغ بها القرب إلى الله أن
كان الله يبعث لها الغذاء ، كما جاء ذلك في الآية ٣٧ من سورة آل عمران :
(فَتَقَبَّلَهَا
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وكَفّلَها زَكَرِيّا كُلَّما
دَخَل عَلَيْها المِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يا مَرْيمُ أنَّى لَكِ
هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ)
خلاصة الكلام أن
بيئة مريم عكس بيئة آسية ، رغم ذلك كلتاهما بلغتا الكمال.
جاء في رواية عن
الرسول صلىاللهعليهوآله : «كَمُلَ مِنَ الرِّجَال كثيرٌ ولم يكمل من النساء إلَّا
أربع ، آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة
بنت محمد» .
مريم وآسية عاشتا
بيئتين متضادتين وبلغتا الكمال ، وفي ذلك درس عظيم وعبرة للجميع. وعلى الناس أن
يفهموا أن المقياس الأساس هو إرادة الانسان وعزمه ، فلا يُعدُّ فساد العائلة أو
المجتمع والبيئة وما شابه ذلك عذراً ، فإنَّه يصعب بلوغ الهدف مع وجود هذه الامور
لكن لا يستحيل ، ويمكن الانتصار والتغلب على الموانع من خلال التحلّي بإرادة صلبة
؛ سعياً لبلوغ القرب الالهي ، كما فعلت آسية ، والارادة والعزم هما اللذان يلعبان
الدور الاساسي في هذا المجال.
خطابات الآية
١ ـ العفَّة رأس
مال عظيم
آية المثل أكّدت
على فضيلة العفة التي كانت مريم تتحلّى بها ، وهي صفة لو تمتع به أحد (سواء كان
رجلاً أو امرأة) حصل على كل شيء ولو فقدها فقد كلّ شيء. لو تحلَّت المرأة بهذه
__________________
الصفة ما تلوّثت
بالذنوب ولو توافرت جميع العوامل والأرضيات المساعدة على التلوّث ، ولو لم يتمتّع
بها شخص تلوّث بالذنوب ولو كان جنب أفضل البشرية.
العفة تعدُّ
النقطة التي تقابل عبادة الشهوة والبطن ، ومن أهم فضائل الانسان ، ويعتبرها علماء
الأخلاق صفة بين عبادة الشهوة والاغتمام والكسل. وفي هذا المجال وردت مباحث مختلفة
كثيرة في القرآن والروايات .
٢ ـ الارادة أساس
العمل
لا شكَّ أن
للعوامل والأرضيات ، من قبيل : العائلة والمجتمع والبيئة والحكومة وتوافر أرضيات
الطاعة أو المعصية ، دوراً وتأثيراً على سعادة الانسان وشقائه ، لكنَّ أيّاً من
العوامل المذكورة لا يمكنها أن تقهر الانسان وتجبره على انتخاب الطريق الذي يخالف
إرادته.
نفهم من الأمثال
الثلاثة المتقدّمة ، وبخاصّة مثل آسية ومريم عليهالسلام ، أن الارادة تشكل أساس العمل أو العامل الأساسي لأفعال
الانسان وأعماله واعتقاداته.
أثبتت آسية أنَّ
بامكان الانسان أن يحكِّم إرادته للايمان والتقوى في أحلك الظروف وأتعسها ، وأنه
يتوفّق رغم هذه الظروف ، كما عرفنا من سيرة زوجة نوح عليهالسلام وزوجة لوط عليهالسلام أن عاقبة الانسان لا تكون إلى خير حتى في أفضل الظروف إذا
لم يتمتع بإرادة ثابتة وقوية.
إذن ، الآيات
المتقدّمة جواب داحض لمن يعتقد بالجبر ، وتدلُّ بوضوح على أن السبب الاول والأخير
للسعادة والشقاء هو إرادة الانسان.
__________________
المثل الثامن
والخمسون :
تصوير للمؤمنين والكافرين
يقول الله تعالى
في الآية ٢٢ من سورة الملك :
(أفَمَنْ يُمْشي
مُكِبّاً عَلَى وجْهِهِ أهْدَى أمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُسْتقيم)
تصوير البحث
الآية الكريمة ـ بقرينة
ما سبقها وما لحقها ـ تصوير لحال المؤمنين والكافرين ، ومثل جميل لهذه القافلة التي تبدأ من نقطة العدم ثم تلبس
ثوب الوجود متّجهة نحو نقطة اللانهاية ، أي ذات الله تعالى. وهي قافلة قد ينحرف
البعض عنها في بداية حركتها أو في وسطها ، وبعض يستمر معها في حركتها المستقيمة
حتى نهاية شوطها.
نظرة إلى الآيات
التي سبقت المثل
الآيات الاولى
لهذه السورة تحدَّثت عن المبدأ وصفات الله تعالى ، ودعت الانسان للتفكير في صفات
الله وآياته ، ثم شرعت ببيان حال المؤمنين والكفار ، وفي المرحلة الثالثة ذكَّرت
ببعض آيات الله ، من قبيل آية خلق نظام الكون العجيب ، وبخاصة السماوات والكواكب
والارض ونعمها وخلق الطيور.
__________________
ندرس هنا إحدى
الآيات الإلهية ذات الصلة بآية المثل.
(أوَ لَمْ يَروْا إلى
الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ)
خلق الطير وطيرانه
بأشكال مختلفة من آيات الله المنَّان. وإذا دقّق الانسان في خلق الطير وكيفية
طيرانه العجيب أدرك قدرة الخالق صاحب كل قدرة في الكون ، وكل شيء يقابله هو كلا
شيء ، ويمكن الوثوق به والاتكاء عليه كافضل ما يمكن الاتكاء عليه.
يمكن للانسان أن
يكتسب القدرة على الطيران بالتامُّل في ظرافة خلق الطير ، ويمكنه كذلك اختراع
الآليات التي يمكن فتح السماوات بها وبلوغ محالٍّ من السماوات لم تبلغها الطيور.
كلَّما زاد
العلماء من دراساتهم على الطيور كلّما استطاعوا أكثر على رفع نواقص الطائرات. وعلى
سبيل المثال كانت عجلات الطائرات مفتوحة عند الطيران ممَّا يسبب بعض المشاكل لها ،
وبعد تدقيق العلماء في طيران الطير شاهدوا أنها تضمُّ رجليها عند الطيران ، وهذا
هو الذي دعاهم إلى صناعة طائرات تضمُّ عجلاتها عند التحليق. وهذا ممَّا يدعو حقاً
إلى تعظيم الخالق وتمجيده.
(صَافَّات وَيقْبَضْنَ)
من خلال هذين
الجملتين القصيرتين بيّن الله نوعين من طيران الطيور ، ففي الجملة الاولى بيَّن
نوعاً مرموزاً من الطيران ، وهو الطيران بصفّ الأجنحة دون تحريكها ، كما نلاحظ في
طيران بعض الطيور في طبقات السماء المرتفعة.
والنوع الثاني هو
الذي يتم من خلال تحريك الأجنحة ، كما هو ملحوظ في أكثر الطيور.
وهناك نوع ثالث من
الطيران ، وهو الذي يكون خليطاً من النوع الاول والثاني ، فتقبض أجنحتها تارة
وتصفها تارة اخرى.
وهناك نوع رابع من
الطيور ، وهي التي تحرّك أجنحتها لفترة ثم تضمّها وتتحرك في الجو على غرار الذي
يريد الغطس ، كما نلحظ ذلك في العصافير.
والخلاصة أن جميع
الطيور تشترك في أصل الطيران ، لكن كلاً منها تطير بنحو خاص يتناسب وفيزلوجية
جسمها والفضاء الذي تطير فيه ، والالتفات إلى نوعيات الطيران يزيد من ايمان الشخص
ويقينه بخالقه القادر.
(مَا يُمْسِكُهُنَّ
إلَّاالرّحْمنُ إنَّه بكُلِّ شَيءٍ بَصِيرٌ)
من الذي خلّص هذه
الطيور من جاذبية الأرض القوية التي تجذب حتى ذرات الغبار المتناهية في الصغر؟ ومن
منعها من السقوط على الأرض؟
يا لها من قدرة
فائقة ساعدت هذه الطيور على التحليق والطيران كل يوم ، متغلبة بذلك على جاذبية
الارض؟!
هناك بعض من
الطيور المهاجرة التي تقطع بالطيران ١٨٠٠٠ كيلو متراً في السنة! من الذي أنقذها من
جاذبية الأرض؟ كيف يمكنها تهيئة الغذاء لنفسها في سفراتها الطويلة؟ كيف أمكنها
التعرّف على الاتجاه الصحيح؟ هل هناك قدرة بإمكانها فعل ذلك غير قدرة الله العالم
والمحيط بكل شيء؟
مع الالتفات إلى
ما تقدَّم من شرح مبسط للآيات التي سبقت آية المثل ، وبخاصة مسألة التأمّل في خلق
الطيور ، نرجع إلى آية المثل لنبتَّ بشرحها وتفسيرها.
الشرح والتفسير
(أفَمَنْ يَمْشِي
مُكبّاً عَلَى وجْهِهِ أهْدَى)
تقسَّم الحيوانات
من حيث الحركة والمشي إلى ثلاثة أقسام : الاول : مستقيمة القامة ، وهي التي تمشي
على رجلين اثنين ، مثل الانسان ، الثاني : ذوات الأربع ، وهي التي تمشي على أربع ،
رجلين ويدين ، الثالث : الزواحف ، مثل الأفاعي.
شبَّه الله
الكفَّار في هذه الآية بالزواحف التي تزحف على بطنها.
(أمَّنْ يَمْشي
سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُسْتقِيمٍ)
كما شبّه المؤمنين
بمستقيمي القامة الذين يمشون بنحو سوي وعلى طريق مستقيم.
ومع هذا التشبيه
كيف يمكن المقارنة بين من يمشي مستقيم القامة وسوياً وبين من يمشي زاحفاً على بطنه؟
فمن هو أهدى منهما؟
__________________
ترك الله الحكم
والجواب على المقارنة إلى مخاطبي القرآن ، وحرّضهم على معرفة الاختلاف بين
الاثنين.
مشاكل حركة
الزواحف ومعايبها
للزحف مشاكل
متعدّدة :
الاولى
: تتحدّد عنده قدرة
النظر ، والأخطار تهدّده دائماً ، ويكون عرضة للسقوط في وادٍ أو الانحراف عن
الطريق ؛ لأنه عاجز عن تحديد الأخطار وتشخيصها في وقتها.
الثانية
: سرعة الزحف قليلة
جداً ، وقد تكون نسبتها إلى المشي العادي نسبة الواحد إلى العشرة.
الثالثة
: الزحف يتعب
الانسان بسرعة ، هذا على فرض عدم مواجهة موانع في الطريق وعدم انحرافه عنه وعدم
سقوطه في وادٍ والزاحف يتوقف عن الحركة بسرعة ؛ لكون الزحف متعباً جداً.
إذن ، الخطأ في
تحديد الخطر وعدم القدرة الكافية للنظر وبطء الحركة والتعب المفرط يعطل الزاحف عن
الاستمرار في الطريق ، وتعدُّ تلك الامور من معايب الزحف ومشكلاته. أما الذي يمشي
مستقيم القامة فقابليته على الرؤية أكثر ويرصد الأخطار من بعيد ـ وبخاصة أنَّ أكثر
حواسه واقعة في رأسه ـ ويحدّدها ويتّخذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، ولا
ينحرف عن الطريق ، مضافاً إلى أنَّه يتمتع بالسرعة الكافية ولا يتعب عاجلاً ، فلا
يتوقف.
هل يتساوى هذان
الاثنان؟ بالطبع لا ، والذي يمشي مستقيم القامة أهدى لطريقه من الذي يمشي زاحفاً.
المؤمن الذي يمشي
سوياً ومستقيم القامة في الصراط المستقيم ونور إيمانه يضيء له الدرب أهدى من
الكافر الزاحف الذي لا نور له يضيء دربه ولا سرعة ولا قابلية له لتحديد المخاطر
ولا السير لفترة طويلة.
هذا مضافاً إلى أن
الكافر الزاحف لا قدرة له على إبصار آيات الله التي تقدَّمت الاشارة إليها في
الآيات السابقة من السماوات والطيور وما شابه ، أمَّا الذي يمشي سوياً فله
القابلية على
إبصار آيات الله
جيداً ، فيتأمَّل فيها ويتدبّر ، ويدرك بذلك عظمة الله وقدرته أكثر ، فيخطو في
طريق الهداية باستحكام واستقامة.
خطاب الآية
الإيمان ينبوع
المحاسن
تقدَّم أن الآية
نزلت في توصيف المؤمنين والكفَّار ، وهي ليست الوحيدة التي وصفت الفريقين بل تقدمت
آيات وكذلك روايات في توصيفهما.
لماذا كل هذا
الحديث والتأكيد على الايمان وما يقابله ، أي الكفر؟
الحقيقة هي أن
الايمان والتقوى مصدر الخيرات والبركات ، وينبغي القول دون مبالغة : كلّ شيء يتحقق
في ظل الايمان والتقوى
من هو المؤمن؟
إذا كان الايمان
قلة عالية وارتقاؤها يُعدُّ منشأً لجميع المحاسن وإذا كان ثوباً ثميناً فينبغي
معرفة من هو الجدير بهذا الثواب الثمين والصعود إلى هذه القلة المليئة
بالافتخارات.
وصف الرسول صلىاللهعليهوآله المؤمن في ثلاث جمل قصيرة لكنَّها ذات معنى عميق ، حيث قال
: «المؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ» ، ومن خلال هذه الصفات الثلاث يجتاز المخاطر ، أمَّا غير
المؤمن فكالزواحف لا يتمتع بفطنة ولا كياسة ولا حذر ، ويقع في المصيدة ببساطة ،
وانسان من هذا القبيل يظن نفسه كيّساً ، وليس كذلك ، وبذلك يتلف رأس ماله الأعظم ،
وهو عمره ، ونهايته الهلاك دون جدوى
مراتب الايمان
كتاب الزرّاد :
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : نخشى أن لا نكون مؤمنين. قال : «ولِمَ ذاك»؟
__________________
قلت : وذلك أنا لا
نجد فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره ، ونجد الدينار والدرهم آثر
عندنا من أخ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : «كلَّا انكم مؤمنون ولكن لا تكملون إيمانكم حتى
يخرج قائمنا ، فعندها يجمع الله أحلامكم فتكونوا مؤمنين كاملين ، ولو لم يكن في
الأرض مؤمنون كاملون إذاً لرفعنا الله إليه وأنكرتم الأرض وأنكرتم السماء ، بل
والذي نفسي بيده انّ في الارض في أطرافها مؤمنين ما قدر الدنيا كلها عندهم تعدل
جناح بعوضة» .
يتمنَّى الامام في
رواية إدراك المؤمنين الذين تكامل الايمان عندهم وبلغوا القمة في الايمان ، ويوصي
من أدركهم أن يستفيض من نورهم ، ودنيا الحرام عندهم لا تعدل أكثر من جناح بعوضة.
اللهمَّ وفقنا لطي
مدارج الايمان حتى بلوغ قمة جبله الشامخ.
اللهمَّ ارزقنا
كياسة المؤمنين الحقيقيين وذكاءهم لكي يتسنَّى لنا رفع عقبات الرقي وبلوغ أعلى
درجات الايمان.
__________________
المثل التاسع
والخمسون :
البخلاء
يقول الله تعالى
في الآيات ١٧ ـ ٣٣ من سورة القلم :
(إنَّا بَلَوْنَاهُمْ
كما بَلَوْنا أصحابَ الجَنَّة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصبحِينَ* وَلَا
يَستَثنُونَ* فَطَافَ عَليها طائِفٌ مِن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ* فَتَنَادوا مُصبِحِينَ* أنِ اغذُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُم
صَارِمِينَ* فانطَلَقُوا وَهُم يَتَخافتُونَ* أَن لا يدَخُلَنَّهَا اليومَ
عَلَيكُم مِسكِينٌ* وَغَدَوا عَلَى حَردٍ قَادِرِينَ* فَلَمَّا رَأوهَا قَالُوا
إِنَّا لَضَالُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُمُونَ* قَالَ أَوسَطُهُم أَلَمْ أَقُل لَكُم
لَوْلَا تُسَبِّحُونَ* قَالُوا سُبحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ*
فَأَقبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ* قَالُوا ياوَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا طَاغِينَ* عَسَى رَبُّنَا أَن يُبدِلَنَا خَيراً مَنهَا إنَّا إلى رَبِّنَا
راغِبُونَ* كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أكبَرُ لَو كَانُوا
يَعْلمُونَ)
تصوير البحث
قد يجسِّم الله
الحقائق التربوية المهمة جداً في قالب تشبيه محض ، وقد يجسّمها من خلال قولبة قصة
حقيقية من الواقع الخارجي في إطار مثل ، والآيات السبع عشرة من سورة القلم من قبيل
القسم الثاني.
الشرح والتفسير
كان الحديث في
الآيات السابقة لآيات المثل عن المناعين عن الخير ، وعقب ذلك ذكر
__________________
قصة أصحاب الجنّة
في قالب تمثيل جميل.
يستفاد من تعابير
الآيات الجميلة أن هذه القصة كانت معروفة عند العرب قبل الاسلام ، بالطبع ليس
بالتفصيل المذكور هنا ، وحاول القرآن بيان نكات ظريفة في هذه القصة ، أوضح من
خلالها عاقبة المنَّاع للخير.
جاءت قصة أصحاب
الجنة في القرآن كالتالي :
(إنَّا بَلَوْنَاهُمْ
كما بَلَوْنا أصحابَ الجَنَّة)
يا رسول ، إنَّا
أدخلنا امتك في اختبار كما أدخلنا من قبلهم أصحاب الجنة ، ويراد من الجنة هنا البستان لا ما تقابل جهنم.
كان في الامم
السالفة والد خيّر ، له بستان واسع ، عند ما يحلُّ فصل جني الثمار كان هذا الرجل
السخي يخبر الفقراء والمساكين لينالوا نصيباً منها ، ولأجل ذلك كان البستان ينمو
ويثمر كل عام أكثر فأكثر.
توفي هذا الأب
السخي وترك البستان لُاولاده ، الذين كانوا بخلاء وقصيري النظر ، ويرون ثمار
البستان حقهم الخاص بهم دون غيرهم ، فمنعوا الفقراء والمساكين من النيل من البستان
، كما كان يفعل ذلك والدهم ، وكان لسان حالهم يقول : لِمَ نعطِ هؤلاء مع أنَّهم لم
يفعلو لنا ولبستاننا شيئاً ولم يعملوا فيه ، كما أنهم لم يستثمروا شيئاً من
أموالهم في البستان؟
وهل هم يدينون لنا
بشيء؟ وهل هو إرث آبائهم؟ والحق ينبغي أن يرجع لصاحبه ، ونحن أصحاب هذا الحق وما
لنا وهؤلاء الفقراء؟ ولما ذا يعيش الفقراء؟ فليموتوا!
ولأجل تحقيق
أفكارهم الشيطانية رسموا الخطة التالية :
(إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِ مُنَّها مُصبحِينَ* وَلَا يَستَثنُونَ)
تقضي خطتهم التي
أقسموا عليها أن يذهبوا في الصباح الباكر مع غلمانهم إلى البستان
__________________
ويجنون ثماره قبل
أن يأتوا الفقراء ، وإذا جاءوا فلا يشاهدون شيئاً يأخذونه معهم ، فذهبوا إلى فراشهم بهذا الأمل.
(فَطَافَ عَليها
طائِفٌ مِن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ)
الطائف تعني الذي
يطوف ، وقد اطلق هذا الاصطلاح على من يطوف الكعبة بهذا الاعتبار. كما يُطلق الطائف
على البلاء الذي ينزل ليلاً ، من قبيل السرقة التي غالباً ما تحصل ليلاً ، وسبب
الاطلاق هو أن السارق غالباً ما يطوف البيت الذي يقصد سرقته قبل أن يسطو عليه ،
وذلك ليتعرَّف على نقاط ضعفه وفجواته ليدخل منها.
تأوّهات المظلومين
تبلورت على نحو طائف وبلاء إلهي نزل على بستانهم وأتلفه.
(فَأَصبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ)
عند الصباح لم
يجدوا أثراً من الثمار والفواكه التي خططوا لها بالأمس ، فقد تبدَّلت جنتهم إلى
قطعة من الفحم.
ما هو البلاء الذي
نزل على هذه الجنة؟ قد يكون عبارة عن صاعقة أمرها الله أن تحرق الجنة لتبدّله إلى
فحم ورماد.
تكفي درجة حرارة
بمستوى مائة لإحراق هذه الجنة ، أمَّا إذا كانت درجة حرارة الصاعقة خمسة عشر ضعفاً
فما تفعل بالجنَّة؟ إنَّ هذه الدرجة من الحرارة تذيب كل أنواع الفلزات فضلاً عن
الأشجار والفواكه والخضار.
(فَتَنَادوا
مُصبِحِينَ* أنِ اغذُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُم صَارِمِينَ)
استيقظ أصحاب
الجنة صباحاً ولم يكونوا على علم بما كان قد حصل لبستانهم ، فنادى أحدهم الآخر
ليستعجلوا في اليقظة والذهاب لجني الثمار ، وبعد حمل المستلزمات الضرورية تحركوا
باتجاه البستان.
__________________
(فانطَلَقُوا وَهُم
يَتَخافتُونَ* أَن لا يدَخُلَنَّهَا اليومَ عَلَيكُم مِسكِينٌ* وَغَدَوا عَلَى
حَردٍ قَادِرِينَ)
أيقظ أحدهم الآخر
بإيجاد ضوضاء ، لكنهم خرجوا ببطء ودون إيجاد أي صوت ودون أن يتكلَّموا ، وإذا
أرادوا مبادلة الكلام همس أحدهم في إذن الآخر ، وما كان كلامهم إلَّا تحذير أحدهم
الآخر من أن يطلّع واحد من الفقراء على الموضوع.
نعم ، كانوا قد
قرروا أن يحولوا دون اطلاع الفقراء ، وأن يمنعوهم بقوّة دون الوصول إلى الجنة ،
ومن المحتمل أنَّهم وظّفوا بعض الأقوياء ليمنعوا الفقراء عن دخول الجنة إذا ما
اطَّلعوا رغم الإجراءات التي اتخذوها للحؤول دون اطلاعهم.
(فَلَمَّا رَأوهَا
قَالُوا إِنَّا لَضَالُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُمُونَ)
بعد الاجراءات
والاحتياطات التي قاموا بها وصلوا جنّتهم وفقاً لخطّتهم ، لكنَّهم عندئذٍ تعجّبوا
حيث لم يعثروا على أثرٍ للطراوة والخضار ، ولا نسيم ، ولا صوتاً للطيور ولا
للقنوات ، ولا فاكهة ولا شجرة ، فلم يبقَ من الجنة غير الفحم والرماد ، عندئذٍ
اعترفوا بخطأهم وأقرّوا بصحة منهج والدهم واعتبروا أنفسهم ضالين.
(قَالَ أَوسَطُهُم
أَلَمْ أَقُل لَكُم لَوْلَا تُسَبِّحُونَ)
يبدو أن واحداً من
الاخوة كان أعقلهم ، وكان مخالفاً لهم منذ البداية وكان مصرّاً على العمل وفق نهج
الوالد ، إلَّا أنَّ إخوته كانوا يشكّلون الأكثرية ، وهو الاقلية ، لذلك لم يكن
لرأيه تأثير عليهم ، لكنه بعد ما شاهد ـ كاخوته ـ ما آلت إليه جنتهم قال لهم ما
ورد في العبارة المتقدَّمة.
(قَالُوا سُبحانَ
رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ
يَتَلاوَمُونَ)
كانت ملامة أخيهم
بمثابة السوط الذي جلد ضميرهم وأيقظه من سبات الغفلة ، عندئذٍ جرى تقديس الله
وتسبيحه على ألسنتهم ، وبدءوا يعترفون بأنَّهم ظالمون.
إنَّهم ظلموا
أنفسهم ، كما ظلموا الفقراء ، ثم أخذ أحدهم يلوم الآخر ، ويحمّل أحدهم الآخر
مسؤولية هذا العمل ، وهو سيرة المذنبين دائماً.
نعم ، في الصباح
الباكر كان أحدهم يوقظ الآخر بصوت عال ، وتحرّكوا باتجاه الجنَّة
باحتياط ، وهم
حالياً يتَّهم بعضهم الآخر.
ممَّا يلفت أنَّ
الآية (قَالُوا سُبحانَ
رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) تكشف عن أنَّهم لم يتلقّوا نزول العذاب ظلماً من الله
عليهم ، بل نزّهوا الله من كل ظلم ، واعتبروا أنفسهم سبباً لهذا العذاب. إنهم
أعلنوا من خلال هذه الجملة كونهم ظلموا الآخرين فكانوا أهلاً لنزول العذاب ، ولم
يكن ذلك ظلماً من الله عليهم ، بل ما صدر منه هو عين العدالة والحكمة ونوعٌ من
اللطف في حقّهم ؛ لأن وجدانهم استيقظ من سباته إثر هذا العذاب فتابوا إلى الله
وأنابوا إليه.
(قَالُوا ياوَيْلَنَا
إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ)
ربّنا ، أغوتنا
نعمك وأغفلتنا عن صاحب النعم ، فانحرفنا.
ربّنا ، ما كنا
نعلم أنَّ الأموال التي وهبتها لنا لم تكن بأكملها لنا ، بل جعلت سهماً للفقراء
فيها.
ربّنا ، علمنا أن
ذلك كان اختباراً منك لنا فنتوب ونقرُّ بذنبنا ، وها نحن جئناك تائبين نادمين
داعيك بالدعاء التالي :
(عَسَى رَبُّنَا أَن
يُبدِلَنَا خَيراً مَنهَا إنَّا إلى رَبِّنَا راغِبُونَ)
يقظ أصحاب الجنة
من سبات الغفلة بصفعة العذاب الإلهي ، فاعتبروا ممَّا حدث لهم وتابوا ودعوا الله
بهذا الدعاء.
بعد التوبة
والدعاء عزموا بجدٍّ ومثابرة على العمل على الأرض ، فلم يمضِ وقت طويل ـ كما ينقل
ابن مسعود ـ حتى رزقهم الله بلطفه جنَّة أعظم وأفضل ممَّا كانت لهم . لكن بعض المفسرين يرى أن توبتهم لم تُقبل لعدم توافر شروط
التوبة فيهم .
(كَذَلِكَ العَذَاب
وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أكبَرُ لَو كَانُوا يَعْلمُونَ)
هذه الآية استنتاج
لقصة أصحاب الجنَّة ، وهي تحذير لكلِّ من كان يعيش حياة ذات وجوه شبه مع حياة
أصحاب الجنَّة ، فهي تقول : إن العذاب الاخروي أشدّ وأكبر من العذاب
__________________
الأليم والمفجع
الذي أنزلناه على هؤلاء. وعلى كل من توفَّرت عنده امكانيات وثروة أن يترك منها
سهماً للفقراء ، ولو بخل في ذلك وخطى في هذا الاتجاه بحيث لا هو بذل ولا ترك
الآخرين يبذلون فليطمئن من نزول عذاب الله عليه في الدنيا والآخرة.
بالطبع لا ينبغي
أن يكون العذاب دائماً عبارة عن صاعقة سماوية تحرق ممتلكات البخيل ، بل لله جنود
لكل زمان ومكان ، من قبيل : الآفات والحروب والسيول والأمراض المستعصية والجفاف
وانعدام البركة ، فهذه كلها جنود لله يبعثها حيث يشاء.
خطابات الآية
١ ـ الاستئثار
بلاء خطر
إذا اتُّخذت
الأموال والثروة جسراً للوصول إلى الغايات ، ولم يخرج حبّها عن مستوى الاعتدال كان
ذلك أمراً مطلوباً ومستحسناً ، أما إذا بلغ حبُّها مستوى الإفراط وعدَّت بحد ذاتها
هدفاً وليس وسيلة وأنتجت ثماراً من قبيل الاستئثار كان ذلك أمراً مذموماً.
ولأجل ذلك فرض
الاسلام الحقوق الواجب دفعها ، كما دعى المسلمين إلى الإنفاق الزائد على ذلك (الانفاق
المستحب) لكي يحول بذلك عن انتاج أو نمو شجرة الاستئثار البغيضة.
تتجلَّى أخطار
الاستئثار عند ما تتسع رقعة آثاره الذميمة لتشمل المجتمع كله بعد ما كانت منحصرة
في المستأثر فقط ، كما هو حال باقي الذنوب ، وذلك لأن آهات المظلومين والمستحقين
والمساكين قد تتبدَّل إلى إعصار يكتسح المجتمع بأسره.
علينا تطهير
أنفسنا من هذه الصفة الذميمة ، وذلك من خلال إنفاق بعضٍ من أموالنا (قدر الإمكان)
لمحرومي المجتمع وفقرائه ، ولنقتدِ في هذا المجال بالأئمة المعصومين عليهمالسلام.
ينقل في أحوال
الامام الصادق عليهالسلام قوله التالي :
«كنت آمر إذا
أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا ، وكنت آمر في كل يوم
أن يوضع عشر بنيات يقعد على كل بنية عشرة كلَّما أكل عشرة جاء عشرة اخرى يلقى لكلّ
نفس منهم مدّ من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والصبي
والمريض والمرأة
ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها لكلِّ إنسان منهم مدّاً ...» .
٢ ـ الهدف من
البلاء والعذاب
البلاء والعذاب
والمرض والمشاكل الاجتماعية والفردية والغلاء والتضخّم وما شابه ، كل ذلك ليس
عقوبة دائماً ، بل قد يكون بمثابة الصدمة التي يوردها الطبيب على المريض لكي يشعره
ويحسّسه. والله قد يستهدف من العذاب تربية الانسان وإيقاضه من غفلته.
العذاب الذي نزل
على أصحاب الجنَّة كان من هذا القبيل ، بناءً على رأي اولئك الذين يرون أنَّ
توبتهم قد قبلت ، بعد ما أعربوا عن ندمهم ، لينتهجوا بعدها نهج أبيهم في الانفاق
على الفقراء والمساكين ، ممَّا وفَّر الأرضية لأن يرزقهم الله الجنة مرَّة اخرَى.
٣ ـ العلاقة بين
الذنب وانقطاع الرزق
للعصيان والذنوب
والتخلّف عن القوانين الالهية عواقب سيئة لا في الآخرة فقط بل في الدنيا كذلك ،
فآثار العصيان مشهودة في الدنيا ، كما هي ثابتة في الآخرة.
البحث في الآثار
الدنيوية للذنوب بحث جميل ويكشف عن وجود بعدين للدين لا بعد واحد ، وقد انعكس هذا
البحث في آيات وروايات كثيرة.
الآيات التي هي
موضع بحثنا تشير إلى هذا المطلب ، والبخل والأسوأ منه منع الخير لا أنه لا يوجب زيادة
ثروة الانسان وأمواله فحسب بل يكون بمثابة الحريق الذي يحرق الزرع ويترك الانسان
يعيش البؤس والتعاسة.
الرواية التالي
ذكرها واحدة من كثير من الروايات الواردة في هذا المجال ، يقول الامام الباقر عليهالسلام :
«إنَّ الرجل ليذنب
الذنب فيدرأُ عنه الرزق» وتلا هذه الآية : (إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّها مُصبحِينَ ...) .
__________________
كما نقل عن ابن
عباس قوله : إنَّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق أوضح من الشمس ، كما بيّنها الله عزوجل في سورة ن والقلم .
النتيجة : العلاقة
بين الذنب وانقطاع الرزق واضحة ، وعلى الانسان ترك العصيان حتى لو كان طالباً
للدنيا فقط.
٤ ـ العناد أو
الإنابة؟
عند ما يشاهد
الانسان نتيجة أعماله في الدنيا يختار أحد الطريقين ، إمَّا اللجاجة والعناد
وإمَّا الإنابة والرجوع. البعض يتلقى البلاء لطفاً من الله يوقظه به من سبات
الغفلة ويمنعه دون تكرار الأخطاء ، فيتوب ويخجل ، ولا شك أن الله سيتغمدّه
بألطافه.
وبعض آخر في سبات
عميق ، لا شيء يوقظه منه إلَّا الموت ، فلا توقظه هذه الحوادث من نومه فيستمر في
المضي في درب الخطأ ، بل تزيد الحوادث من سرعة مشيه في هذا الطريق ، أي طريق
المعصية والذنوب عناداً ولجاجة ، وهو في الحقيقة في عنادٍ مع سعادته ، وكلَّما
تقدَّم كلما نقص احتمال نجاته ، وكلما ابتعد عن رحمة الله.
العناد ناشئ عن
الرذائل الأخلاقية ، ومصدرها الأساسي هو الجهل ، الذي خلَّف للانسان على طول
التاريخ آثاراً مشؤومة وغير مباركة كثيرة .
وفقاً لما جاء في
بعض الروايات فإنَّ أصحاب الجنة اختاروا الطريق الاول فتابوا وأنابوا إلى الله
فشملتهم الألطاف الالهية.
أمَّا أفراد من
قبيل أبي لهب وأبي سفيان ومعاوية فاختاروا درب العناد فأصبحوا لعنة على ألسن
المؤمنين إلى يوم القيامة.
__________________
٥ ـ العلاقة بين
التسبيح والتوبة
عند ما التفت
أصحاب الجنة إلى خطأهم تابوا وبدءوا توبتهم بتسبيح الله ، كما ورد في الآية : (قَالُوا سُبحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ)
كما نلحظ هذا
المعنى في قصة يونس التي وردت في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء ، فعند ما أدرك أنَّه
ترك الأولى تاب وقال :
(لا إلَهَ إلَّاأنتَ
سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فسبَّح الله أولاً ثمّ تاب.
كما نلحظ هذا
المعنى في قصة موسى عليهالسلام الواردة في الآية ١٤٣ من سورة الأعراف.
سؤال
: ما العلاقة بين
تسبيح الله والتوبة والندم؟
الجواب
: حقيقة المذنب
كونه جاهلاً لبعض صفات الله ذات الصلة بذنبه أو أنّه تجاهلها وأنكرها عملياً ،
فالسارق ـ مثلاً ـ يجهل صفة الرزق التي يتصف بها الله أو أنه أنكرها عملياً ، وعند
ما يدرك خطأه يصحِّح اعتقاده في البداية فيسبّح الله وينزهه من كل عيب ونقص ثم يبتُّ
بإصلاح أعماله وسلوكه ، ويجبر ما سبق منه بالتوبة والعمل الصالح.
النتيجة : الذنب
ينشأ عن عاملين ، الاول : الاعتقاد ، والثاني : السلوك والعمل ، ولهذا يُفرض
بالتوبة أن تكون اعتقادية وسلوكية.
ابتُلينا حالياً باختبارات مختلفة ، وما هي إلَّا نتيجة لأعمالنا
واعتقاداتنا ، فالجفاف بلغ مدناً كانت محاصرة بالأنهار والمياه ، من قبيل اصفهان
وعبادان ، وقد أعملت الحكومة بعض القيود ونظام الحصص في اصفهان وغيرها من المدن
ممَّا سبب مشاكل للناس. هذا من جانب ومن جانب آخر فان حرب الصحافة والاتهامات
والافتراءات تستمر بلا هودة ، وبعض الصحف استهدفت بجسارة جميع المقدسات ، يستحي
القلم من ذكر ولو نموذجاً واحداً منها .
__________________
ومن جانب آخر كذلك
فان مؤامرات الأعداء تزداد وتتعقّد يومياً ويزداد خطرها كل يوم. والأسوأ من ذلك
الاختلاف والنزاعات الكلامية بين الأحزاب السياسية ، فقد بلغت مستوى أن نسوا أرباب
الأحزاب مشاكل الناس إثرها.
ألَمْ تدعُنا هذه
الحوادث للإنابة إلى الله؟ ألم يأن لنا أن نسبّح الله وننزّهه ثمّ نتوب إليه لكي
يتغمّدنا بلطفه ورحمته وفيضه؟
اللهم ، اجعل
البلاء الذي سببناه لأنفسنا عاملاً ليقظتنا ووعينا.
اللهم ، أرنا طريق
الإنابة ووفقنا للتوبة.
__________________
المثل الستون :
الموقف تجاه الكلام الحق
يقول الله في
الآيات ٤٩ ـ ٥١ من سورة المدثر :
(فَمَا لَهُمْ عَن
التذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ* كَأنَّهُم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّت من قَسْوَرَةٍ)
تصوير البحث
في هذه الآيات
الثلاث ، التي تشكّل آخر مثل من أمثال القرآن الجميلة ، شبَّه الله جماعة الوثنيين
المتعصبين والمعاندين المتهربين عن تذكرات القرآن والرسول بالحُمُر الفارَّة من
صوت الأسد.
الشرح والتفسير
(فَمَا لَهُمْ عَن
التذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)
بعد ما ينقل القرآن
المجيد حوار أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم ، يطرح السؤال التالي : لماذا أعرض أصحاب
الجحيم عن التذكرات في الدنيا؟
تكرَّرت مفردة (تذكرة)
تسع مرّات في القرآن ، واريد منها القرآن في جميع هذه الموارد ، أمّا مفردة (ذكر)
، التي هي من نفس المادة ، فتكررت خمسين مرّة ، واريد منها القرآن المجيد كذلك في
كثير من الموارد ، منها : الآية ٦ من سورة الحجر : (يَا أيُّها الذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لمَجْنُونٌ) والقرآن هو الذي نُزِّل على الرسول صلىاللهعليهوآله.
وباعتبار أن
الرسول صلىاللهعليهوآله جاء بالذكر والتذكرة (القرآن المجيد) سُمِّي مُذكِّراً ،
فقد جاء في الآية ٢١ و ٢٢ من سورة الغاشية :
(فَذَكِّرْ إنَّما
أنْتَ مُذَكِّرٌ * لَستَ عَلَيْهِم بمُصَيْطِرٍ)
إذن ، القرآن
المجيد ذكر ، والرسول مذكِّر ، لكن من المؤسف أن بعضاً من العنودين والمتعصبين لا
يصغي إلى تذكرات الرسول ، بل يفرُّ منها.
(كَأنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)
الحُمُر جمع حمار
، وبما أنها مطلقة فتشمل جميع ما يندرج تحت هذا الصنف من الحيوانات ، لكن المراد
منه هنا ليس الحمار الأهلي الذي يستخدمه الانسان لأداء أعماله بل المراد هو الحمار
الوحشي ؛ وذلك للُامور التالية :
أولاً
: الحمار الوحشي
يخاف الأسد أكثر ويفرُّ منه ، وقيد (مُسْتَنْفِرَة) يفيد كون المراد الحمار الوحشي لا الأهلي.
ثانياً
: الحديث في الآية
عن الأسد والحمار ، ومن الواضح أن هناك تناسباً أكثر بين الأسد والحمار
الوحشي ، وبخاصة أن للأسد رغبة خاصة بصيد الحمار الوحشي ، والخوف يستولي على
الحُمرُ بمجرّد أن تسمع صوته بحيث تفقد صوابها ولا تعلم إلى أين تتجّه ، ويتفرّق
الفصيل إلى جهات عديدة.
أحسن القرآن بيان
كلّ شيء أراد بيانه واستخدم أرفع مستويات التعبير وأكملها فيه ، وفي هذه الآية رسم
الله أكمل أنواع الفرار والهروب ، وذلك من وجوه فصاحة القرآن وبلاغته.
لماذا يفرُّ
الوثنيون من تذكيرات الأنبياء؟ لماذا يفرون من الجنة المدعوون لها باتجاه جهنَّم؟ لماذا
يتجهون إلى الظلمات تاركين خلفهم النور؟
لماذا يتركون
الأماكن الآمنة ويتجهون نحو اماكن خطرة يحتمل السقوط فيها؟
يزداد إعجاب
الانسان عند ما يفكر بهذه الآيات وكذا روايات وردت في هذا المجال.
__________________
كان عبدة الأصنام
المتعصبون يفرّون من نداء الحق بذرائع مختلفة ، فبعض منهم كان يجعل القطن في اذنيه
لكي لا يسمع شيئاً من كلام الحق.
جاء أسعد بن زرارة
(من كفار المدينة) يوماً إلى مكة لتهيئة بعض وسائل الحرب وحاجات اخرى ، فشاهد جنب
باب المسجد الحرام واحداً من كفار مكة بيده كيس من القطن يدعو كل من أراد دخول
المسجد أن يجعل قطناً في اذنيه.
سأله أسعد عن سبب
ذلك ، فقال له : هناك ساحر جنب الكعبة يُدعى محمّد يسحر الناس بكلماته ، والقطن
يحول دون تأثير سحره على الناس ... .
وكان بعض آخر منهم
يجعل أصابعه في اذنيه لكي لا يسمع شيئاً من كلام الحق الجذّاب الذي يتفوّه به
الأنبياء ، بل كان البعض لا يكتفي بذلك ويجعل ثيابه فوق رأسه لكي لا تنقر اذنيه
ولو كلمة من كلمات الحق.
في هذا المجال
خاطب نوح ربه قائلاً :
(وإنّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ واسْتغشَوْا
ثيابَهُمْ وأصَرُّوا واسْتَكْبَروا اسْتِكْباراً) .
وبعض آخر كان يأمر
غلمانه ومن تحت يديه أن يحدث ضوضاء بالصراخ والصفير والتصفيق عند تلاوة القرآن لكي
يحولوا دون سماع نغمات القرآن الجميلة.
يقول الله في
الآية ٢٦ من سورة فصّلت :
(وَقَالَ الَّذينَ
كَفَروا لا تسْمَعُوا لِهذا القُرآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)
خلاصة الكلام : أن
المشركين والوثنيين كانوا يحولون دون بلوغ صوت الحق أسماع الناس ، ويستخدمون لهذا
الغرض أساليب مختلفة.
أسأل تارة اخرَى :
لماذا كانوا
يفرّون من تذكيرات الأنبياء والرسل؟
__________________
لماذا كانوا
أعداءً لسعادتهم وهدايتهم ونجاتهم؟
جواب هذه الأسئلة
ينحصر في أربع جمل : العناد ، والحماقة ، والتعصّب الذي في غير موضعه ، والجهل.
نعم ، هذه الامور
تحوول دون سماع صوت الحق وتؤدّي إلى فرار الانسان وهروبه من الحق.
اللهم ، وفقنا
لترك هذه الرذائل الأربع ، لكي نقبل نداءك الحق بكل وجودنا.
خطابات الآية
١ ـ القرآن ذكر
والرسول مذكِّر
سؤال
: لماذا اطلق على
القرآن (ذكر) و (تذكرة) وعلى الرسول صلىاللهعليهوآله (مذكِّر)؟ وما
السر في هذا التعبير؟
الجواب
: هذه التعابير
تستبطن نقطتين مهمتين ، هما مصادر لمعارف عليا.
النقطة
الاولى : ممَّا يمكن
استفادته من الآية التي هي موضع بحثنا وكذا آيات وروايات اخرَى كون التذكير إحدى
مهام الأنبياء ووظائفهم. وهذا يعني أن فطرة الانسان الطاهرة مجبولة على الايمان
وتعاليم الأنبياء (فِطرَةَ اللهِ التي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ، لا فيما يخصُّ اصول الدين فحسب بل وكذا فروعه ، والفطرة
بأعماقها تستبطن هذه التعاليم الرفيعة.
بناءً على ذلك
تكون وظيفة الأنبياء هي التذكير بهذه المعارف والقضايا الفطرية ، لكي لا ينساها
البشر ، بل يبقى واعياً متذكّراً لها وموحداً في فكره وسلوكه ، ومعتقداً بالمعاد
والحياة بعد الموت ، ومتداعياً في ذهنه ما استبطنته الفطرة بأعماقها من مفاهيم من
قبيل : العدالة والتقوى.
أوضح الامام علي عليهالسلام في الخطبة الاولى من (نهج البلاغة) وظيفة الانبياء ببيان
جميل جداً ، وقال في الإجابة عن سبب بعثة الانبياء :
__________________
«ليستأدوهم ميثاق
فِطرته ويذكّروهم منسيَّ نعمته ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول
...».
للبعثة أهداف
مختلفة :
الاول
: مطالبة البشر
بأداء ميثاق الفطرة. ومن هذه العبارة يستفاد أن الله أبرم مع فطرة البشر عهداً ،
وعلى الانسان أن يؤديه في حياته ، وقد يكون العهد الذي أشارت إليه الآية ١٧٢ من
سورة الأعراف هو هذا.
الثاني
: تذكيرهم بما نسوه
من نِعم الله ، فهو نوع تذكير ، ولو بحث الانسان عن تلك النعم لوجدها في أعماق
وجوده ، لكنه نساها ؛ لأنه غرق في الماديات ، ومن خواص عالم المادة أنَّه يُنسي ،
فالدنيا تُغفل الانسان وتنسيه.
الثالث
: أن يتمّوا عليهم
الحجة عن طريق البراهين العقلية ، مضافاً إلى القضايا الفطرية ، وبذلك يبلّغون
الانسان تعاليم السماء.
الرابع
: أن يكتشفوا
الأرضيات والجواهر المستودعة في فطرة الانسان وعقله ويستخرجوها.
الرسول بمثابة
المزارع الذي لا يخلق البذر بل يزرعها ويهيئ الأرضية اللازمة لنموّها ، والأنبياء
بتذكيرهم بالتعاليم التي تستبطنها فطرة الانسان يسعون في نموّها وازدهارها.
هناك شواهد من
الآيات والروايات على هذا الكلام ، منها ما ورد عن الرسول صلىاللهعليهوآله قوله : «الناس معادن كمعادنِ الذهب والفضة» ، أي أن الجميع يتمتع بوجود ذي قيمة ينبغي استخراجه بإشراف
الخبير.
إذن ، النقطة
الاولى التي استبطنتها هذه التعابير هي كون اصول الدين وفروعه متجذّرة في فطرتنا ،
وما يقوم به الانبياء هو التذكير بها.
النقطة
الثانية : هي ما ورد في
الآية ٢٦ من سورة الغاشية ، من أن التذكير هو الوظيفة الوحيدة للأنبياء ، ولا سلطة
على أكثر من ذلك ، وبعبارة اخرى : الدين غير اجباري ، فهم
__________________
يذكرون الناس
بالمعارف الالهية ولا يمكنهم أن يجبروهم على قبول الدين ، والدين من شؤون الناس
ذاتهم قبلوه ام لم يقبلوه.
لم يجبر الرسول
المشركين على قبول الدين ، بل دعاهم إليه ، وتركهم يقررون ما يشاؤون ، والنتيجة هي
أن بعضاً منهم ما استعدَّ حتى للاصغاء إلى كلامه.
٢ ـ ينبغي الإصغاء
لنداء الحق
خطاب الآية الثاني
هو ضرورة الإصغاء لنداء الحق من أي شخص صدر ، حتى لو كان طفلاً وأصغر من الصاغي بل
حتى لو كان عدواً ، فينبغي الإصغاء للحق والانصياع له دائماً ومن أيٍّ صدر.
٣ ـ عوامل
التذكُّر
آيات القرآن
وكلمات الأنبياء ليست الوحيدة التي تذكّر الانسان ، بل جميع الحوادث التي تحصل
للانسان تعدُّ عوامل للتذكُّر ، فالكوارث والجفاف والأمراض والزلازل والسيول وما
شابه ، كلها عوامل تساعد على التذكُّر.
لكل معلول علة
ينبغي البحث عنها ومعرفتها للاعتبار منها ، والتجربة تثبت وتدعو الانسان لأن يبحث
عن علّة كل ما واجه من مشاكل ولو كانت من قبيل جرح بسيط ، خوفاً من أن يكون نتيجة
لجرح لسان أو سوء أدب صدر منه.
الخلاصة : لا يحدث
شيء من لا شيء ، بالطبع هذه الحوادث بحد ذاتها ألطاف إلهية ، وبمثابة السوط الذي
يوقظ الانسان إذا ما جُلد به ، وبمثابة الغرامة التي تمنع من حصول الجريمة مقبلاً.
إلهي ، نسألك
بعظمة القرآن المجيد ، هذه التذكرة العظمى ، وبحرمة المذكِّر أن تجعلنا يقظين نعي
ونتذكَّر دائماً.
وآخر دعوانا أن
الحمد لله ربّ العالمين
الفهرس
المقدمه.......................................................................... ٧
تحليل لأمثال القرآن
أهمية القرآن وشهر
رمضان....................................................... ١١
علاقة شهر رمضان
المبارك بالقرآن................................................ ١٢
موضوع البحث................................................................ ١٢
الأمثال العملية
واللسانية......................................................... ١٣
١ ـ عندما تتراكم
الذنوب الصغيرة................................................ ١٣
٢ ـ ترسيم نار جهنم............................................................ ١٤
الهدف من الامثال من
لسان القرآن............................................... ١٥
أهمية خطاب المثل.............................................................. ١٦
تأمُّل في الآية.................................................................. ١٦
الشرح والتفسير................................................................ ١٧
خطأ المنافقين.................................................................. ١٩
جاذبية القرآن وانقاذ
المسلمين.................................................... ٢٠
نموذج آخر لتأثير
القرآن......................................................... ٢١
خطابات الاية.................................................................. ٢١
١ ـ البعوضة ليست
حيواناً حقيراً!................................................. ٢١
٢ ـ حجابان عظيمان :
كثرة النعم والتعود عليها.................................... ٢٢
٣ ـ الهداية والضلالة في
القرآن.................................................... ٢٢
معنى الهداية والضلالة........................................................... ٢٢
المثل الأول: المنافقون
تصوير البحث................................................................. ٢٥
الشرح والتفسير................................................................ ٢٥
دُوّن تفسيران للآية
الشريفة:..................................................... ٢٥
خطابات الآية.................................................................. ٢٧
١ ـ أقسام المنافقين.............................................................. ٢٧
٢ ـ صور النفاق................................................................ ٢٧
٣ ـ علائم النفاق............................................................... ٢٧
٤ ـ نبذة من تاريخ
المنافقين....................................................... ٢٨
المنافقون في القرآن.............................................................. ٢٨
خطر المنافقين من وجهة
نظر رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله)...................... ٢٩
٥ ـ التعبير بـ
(النار) في القرآن.................................................... ٣٠
٦ ـ النور والظلمات............................................................. ٣٠
٧ ـ خصال المنافقين
الثلاث...................................................... ٣١
٨ ـ منشأ (النفاق).............................................................. ٣٣
للنفاق ثلاثة مناشىء:........................................................... ٣٣
المثل الثاني: تمثيل آخر للمنافقين
تنوع أمثال القرآن............................................................... ٣٧
الشرح والتفسير................................................................ ٣٩
خطابات الآية.................................................................. ٤٠
١ ـ كيفية ايجاد البرق
والرعد والصاعقة............................................. ٤٠
٢ ـ الاختلاف بين
المثلين........................................................ ٤١
٣ ـ عالم النفاق أو
النفاق العالمي.................................................. ٤٢
٤ ـ ظهور المنافقين في
الإسلام.................................................... ٤٣
مراحل جهاد الرسول
لاعداء الإسلام.............................................. ٤٣
المرحلة الاولى:
الاستهزاء والاستخفاف بالدين...................................... ٤٣
المرحلة الثانية: نسبة
السحر والشعر للرسول(صلى الله عليه وآله)...................... ٤٤
المرحلة الثالثة:
المحاصرة الاقتصادية وقطع العلاقات.................................. ٤٥
المرحلة الرابعة:
التدبير لاغتيال الرسول(صلى الله عليه وآله)........................... ٤٥
المرحلة الخامسة:
الحروب المتوالية ضد المسلمين...................................... ٤٦
المرحلة السادسة،
اللجوء إلى اخطر سلاح (النفاق)................................. ٤٧
نتائج الأمثال................................................................... ٤٨
سعيد بن جبير عند
الموت........................................................ ٥٠
المثل الثالث: قسوة القلب
قصة بقرة بني اسرائيل........................................................... ٥٢
الشرح والتفسير................................................................ ٥٣
القلب الصناعي مرآة
لعظمة قلب الإنسان......................................... ٥٤
تسبيح الموجودات
جميعاً.......................................................... ٥٧
القسوة........................................................................ ٥٧
العلم والعاطفة وجه
تمايز الإنسان عن الحيوان....................................... ٥٩
دنيا دون عاطفة................................................................ ٥٩
الدين أو المذهب
يقويان العاطفة.................................................. ٦٠
عوامل القسوة في
القرآن......................................................... ٦١
القسوة في الروايات
الاسلامية.................................................... ٦٢
المثل الرابع: الكفار
الشرح والتفسير................................................................ ٦٨
خطابات الآية.................................................................. ٦٩
التقليد في القرآن................................................................ ٧٠
أقسام التقليد.................................................................. ٧٠
المثل الخامس: الإنفاق
تصوير البحث................................................................. ٧٣
طرق علاج الفقر............................................................... ٧٤
علاجات الإسلام.............................................................. ٧٥
الإنفاق طريق لرفع
الفقر......................................................... ٧٥
خطابات الآية.................................................................. ٧٦
١ ـ المراد من (في
سَبِيلِ اللهِ)...................................................... ٧٦
الأول: صندوق إعانة
عوائل السجناء.............................................. ٧٧
الثاني: جمعية اعانة
مرضى الكلية.................................................. ٧٨
٢ ـ المراد من
«الحبّة» في الآية الشريفة............................................. ٧٨
٣ ـ المراد من (يضاعف)
في الآية الشريفة.......................................... ٧٩
أرفع نموذج للإنفاق في
القرآن.................................................... ٧٩
٤ ـ دراسة المشبَّه في
آية الانفاق.................................................. ٨٢
نمو المال المنفق في
كلام الرسول(صلى الله عليه وآله)................................. ٨٤
(الانفاق) في تعابير
القرآن الجميلة................................................. ٨٥
المثل السادس: الإنفاق مع المنِّ والأذى
الشرح والتفسير................................................................ ٨٧
خطابات الآية.................................................................. ٧٩
سيرة الائمة في
الإنفاق والبذل.................................................... ٩١
الصدقة تدفع ميتة
السوء........................................................ ٩٢
المثل السابع: الإنفاق اللائق
الشرح والتفسير................................................................ ٩٥
خطابات الآية.................................................................. ٩٦
طرق الانفاق وإعانة
الاخرين..................................................... ٩٩
ما أحسن السعادة التي
ينالها الإنسان............................................ ١٠١
آداب الانفاق................................................................ ١٠٢
١ ـ الإنفاق ممَّا
تحبون.......................................................... ١٠٢
٢ ـ الانفاق في غاية
الادب..................................................... ١٠٣
٣ ـ التعجيل في دفع
الصدقة.................................................... ١٠٤
٤ ـ صدقات السر
والعلانية.................................................... ١٠٥
٥ ـ الأولوية للمساكين
المتسترين................................................ ١٠٥
المثل الثامن: عاقبة الاُمور
تصوير البحث............................................................... ١٠٧
الشرح والتفسير............................................................... ١٠٧
إنّ السوء كان عاقبة
هذا الشخص.............................................. ١١٠
خطابات آية المثل هي
الاحباط والتكفير......................................... ١١١
الاستدلال على وجود
الاحباط والتكفير......................................... ١١٢
المثل التاسع: أكل الربا
تصوير البحث............................................................... ١١٣
علاقة الآية بما قبلها........................................................... ١١٣
الشرح والتفسير............................................................... ١١٤
خطابات الآية................................................................ ١١٦
عقاب آكلي الربا في
الدنيا والآخرة.............................................. ١١٦
نسبة الجنون إلى
الشيطان...................................................... ١١٦
التناسب بين الجناية
والعقاب................................................... ١١٧
فلسفة تحريم الربا.............................................................. ١١٧
الإرتباط بين الإخلاق
والاقتصاد في الإسلام...................................... ١١٨
الاُسوة في القيم
الاخلاقية...................................................... ١٢٠
علي(عليه السلام)
والهدية الليلية................................................ ١٢٢
البحوث التكميلية
للآية....................................................... ١٢٣
١ ـ أكل الربا في
عصرنا........................................................ ١٢٣
٢ ـ النشاط المصرفي
اللاربوي هل هو ممكن؟...................................... ١٢٤
٣ ـ حكم الايداعات
والسلف.................................................. ١٢٥
٤ ـ آيات أخرى عن
الربا....................................................... ١٢٦
شأن نزول الآية............................................................... ١٢٦
المثل العاشر: الخَلْق المدهش لعيسى بن مريم(عليه السلام)
الشرح والتفسير............................................................... ١٢٩
قدرة الله في كلام
أمير المؤمنين(عليه السلام)...................................... ١٣٠
قصة خلق الإنسان............................................................ ١٣١
الاختلاف بين
(الفرضية) و (القانون)........................................... ١٣٢
رأي القرآن في خلق
الإنسان.................................................... ١٣٢
المثل الحادي عشر: إنفاق الكفار
تصوير البحث............................................................... ١٣٣
الشرح والتفسير............................................................... ١٣٣
خطابات الآية................................................................ ١٣٤
١ ـ المراد من الإنفاق
في آية المثل................................................ ١٣٤
٢ ـ الإنتقام من كافر
النعمة.................................................... ١٣٥
٣ ـ فلسفة الكوارث
الطبيعية.................................................... ١٣٧
إعتبروا....................................................................... ١٣٨
المثل الثاني عشر: الكفر والإيمان
تصوير البحث............................................................... ١٤١
شأن نزول الآية............................................................... ١٤١
ما هي الحياة؟................................................................ ١٤٢
أقسام الحياة.................................................................. ١٤٣
المراد من الحياة في
آية المثل...................................................... ١٤٤
لماذا عُدّ عرب
الجاهلية أمواتاً؟................................................... ١٤٤
آثار النور وبركاته.............................................................. ١٤٦
نور الفرقان................................................................... ١٤٦
التقوى ثمرة الصوم
والفرقان ثمرة التقوى........................................... ١٤٧
الأعمال القبيحة تبدو
حسنة في نظر الكفار...................................... ١٤٧
المثل الثالث عشر: شرح الصدر
تصوير البحث............................................................... ١٤٩
الشرح والتفسير............................................................... ١٤٩
خطابات الآية................................................................ ١٥٠
١ ـ الهداية والضلالة
بيد الله.................................................... ١٥٠
٢ ـ الاعجاز العلمي
للقرآن في آية المثل.......................................... ١٥١
٣ ـ شرح الصدر.............................................................. ١٥٢
الرسول (صلى الله عليه
وآله) وجاره اليهودي...................................... ١٥٣
المثل الرابع عشر: المبدأ والمعاد
تصوير البحث............................................................... ١٥٥
أهمية المبدأ والمعاد............................................................. ١٥٥
المعاد الجسماني
والمعاد الروحاني.................................................. ١٥٦
الشرح والتفسير............................................................... ١٥٨
فواكه مختلفة من ماء
وهواء وتراب واحد.......................................... ١٥٩
آثار المعاد.................................................................... ١٦٠
المثل الخامس عشر: البلد الطيّب
تصوير البحث............................................................... ١٦١
إشارة للمثل السابق........................................................... ١٦١
الشرح والتفسير............................................................... ١٦٢
لِمَن هذا المثل؟............................................................... ١٦٣
خطابات الآية................................................................ ١٦٣
١ ـ فاعلية الفاعل
وقابلية القابل كلاهما ضروريان................................... ١٦٣
٢ ـ مردودات القرآن
والوحي على الكافر عكسية.................................. ١٦٤
الناس ثلاثة أصناف........................................................... ١٦٥
الفاعلية اكتسابية أم
جبرية؟.................................................... ١٦٦
المثل السادس عشر: العالم المنحرف
تصوير البحث............................................................... ١٦٩
شأن نزول الآية............................................................... ١٦٩
الشرح والتفسير............................................................... ١٧٠
خطابات الآية................................................................ ١٧٢
خطر العلماء المنحرفين......................................................... ١٧٢
عالم الدين من وجهة
نظر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)..................... ١٧٤
المثل السابع عشر: مسجد ضرار
تصوير البحث............................................................... ١٧٧
شأن النزول.................................................................. ١٧٧
الشرح والتفسير............................................................... ١٧٨
أبو عامر النصراني
العدّو اللدود للإسلام......................................... ١٧٩
الأمر بتخريب مسجد
ضرار.................................................... ١٧٩
خطابات الآية................................................................ ١٨٠
المثل الثامن عشر: الدنيا العابرة
تصوير البحث............................................................... ١٨٣
الشرح والتفسير............................................................... ١٨٣
فلسفة المثل.................................................................. ١٨٦
تفسير وتطبيق للمثل
المذكور.................................................... ١٨٦
خطابات الآية................................................................ ١٨٧
١ ـ معرفة الله................................................................. ١٨٧
٢ ـ كل ما في الكون
مخلوق على أساس من النظم................................. ١٨٨
٣ ـ قد تتبدّل النعمة
إلى نقمة................................................... ١٨٨
٤ ـ إذا جرى الماء كان
سالماً وهنيئاً وذا طعم لذيذ.................................. ١٨٨
٥ ـ بعض النباتات سامة
رغم جمالها.............................................. ١٨٩
المثل التاسع عشر: الكافر والمؤمن
تصوير البحث............................................................... ١٩١
إشارة إلى الآيات ما
قبل آية المثل................................................ ١٩١
سيرة الكافرين................................................................ ١٩١
سيرة المؤمنين................................................................. ١٩٢
الشرح والتفسير............................................................... ١٩٣
العين من أعظم آيات
الله...................................................... ١٩٣
الاُذن آية الله
الاخرى......................................................... ١٩٤
العين والاذن وسيلتان
مهمتان للمعرفة........................................... ١٩٥
الكافر يفتقد وسائل
المعرفة..................................................... ١٩٦
لماذا كان الكافر أعمى
وأصم؟.................................................. ١٩٦
كيف يمكن إزالة الحجب؟..................................................... ١٩٦
علامات المؤمن............................................................... ١٩٧
المثل العشرون: الذين يدعون من دون الله
تصوير البحث............................................................... ١٩٩
البرق والسحب الثّقال......................................................... ٢٠٠
كيف يسبب البرق نزول
المطر؟................................................. ٢٠٠
الرعد دليل على عظمة الله..................................................... ٢٠١
الشرح والتفسير............................................................... ٢٠٢
خطابات الآية................................................................ ٢٠٤
١ ـ هل التوسّل
بالمعصومين(عليهم السلام) شرك؟................................. ٢٠٤
٢ ـ الصور المختلفة
لعبادة الأصنام............................................... ٢٠٥
الدعاء من وجهة نظر
القرآن والروايات........................................... ٢٠٧
الدعاء أفضل عبادة........................................................... ٢٠٧
الدعاء في الروايات............................................................ ٢٠٩
سر الدعاء في الإسلام......................................................... ٢١٠
العلاقة بين الدعاء
والتربية...................................................... ٢١٠
موانع وشروط استجابة
الدعاء.................................................. ٢١٣
١ ـ عدم معرفة الله
أهم مانع عن الإستجابة....................................... ٢١٤
٢ ـ النيّة الصادقة
والقلب المخلص............................................... ٢١٥
٣ ـ الاكل الحلال شرط
مهم وصعب لاجابة الدعاء............................... ٢١٥
٤ ـ حضور القلب............................................................. ٢١٧
استجابة بعض الأدعية
ليست بمصلحة الإنسان!.................................. ٢١٨
سؤالان مهمان عن
الدعاء..................................................... ٢١٩
المثل الحادي والعشرون: الحق والباطل
تصوير البحث............................................................... ٢٢١
الشرح والتفسير............................................................... ٢٢١
خطابات الآية................................................................ ٢٢٢
١ ـ تعريف الحق
والباطل....................................................... ٢٢٣
٢ ـ علائم الحق
والباطل........................................................ ٢٢٣
٣ ـ سعة الحق والباطل......................................................... ٢٢٤
٤ ـ عاقبة المواجهة
بين الحق والباطل............................................. ٢٢٤
٥ ـ المواجهة بين الحق
والباطل دائمة............................................. ٢٢٤
٦ ـ كيفية تبلور
الباطل......................................................... ٢٢٥
الحق والباطل من وجهة
نظر الآيات والروايات..................................... ٢٢٦
ما هي مصاديق الحق؟......................................................... ٢٢٦
جولة الباطل ودولة
الحق....................................................... ٢٢٧
كن مع الحق دائماً............................................................ ٢٢٧
الحق مرُّ والباطل
حلوٌ.......................................................... ٢٢٨
الباطل يتقمّص قميص
الحق دائماً............................................... ٢٢٨
علي(عليه السلام) محور
الحقّ................................................... ٢٢٩
المثل الثاني والعشرون: التقوى جواز دخول الجنة
تصوير البحث............................................................... ٢٣١
الشرح والتفسير............................................................... ٢٣١
المراحل الأربع قبل
الولادة....................................................... ٢٣١
عجائب من عالم الجنين........................................................ ٢٣٢
مراحل كمال الإنسان
الأربع.................................................... ٢٣٣
إيضاح...................................................................... ٢٣٥
الخطابات المهمة للآية......................................................... ٢٣٥
المثل الثالث والعشرون: أعمال الكفّار
تصوير البحث............................................................... ٢٣٧
ارتباط آية المثل
بسابقاتها....................................................... ٢٣٧
الشرح والتفسير............................................................... ٢٣٨
فوائد الرماد.................................................................. ٢٣٩
خطابات الآية................................................................ ٢٣٩
١ ـ الايمان شرط صحة
الأعمال................................................ ٢٣٩
٢ ـ الدوافع المعنوية
لغير المؤمنين................................................. ٢٤٢
الاحباط في القرآن............................................................ ٢٤٣
الحبط في عالم الطبيعة......................................................... ٢٤٤
المثل الرابع والعشرون والخامس والعشرون:
الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
تصوير البحث............................................................... ٢٤٧
ارتباط آيات المثل
بسابقاتها..................................................... ٢٤٧
الشرح والتفسير............................................................... ٢٤٨
نقطة مهمة في مجال
المعرفة...................................................... ٢٥٠
ماهي (الكلمة الطيبة)؟........................................................ ٢٥١
كلمة طيّبة من الإمام
الحسن المجتبى(عليه السلام).................................. ٢٥٣
المثل السادس والعشرون: لله المثل الأعلى
تصوير البحث............................................................... ٢٥٥
التفسير الأوّل................................................................ ٢٥٥
التفسير الثاني................................................................. ٢٥٦
ارتباط آية المثل
بسابقتها....................................................... ٢٥٨
لماذا كان عرب
الجاهلية يئدون بناتهم؟............................................ ٢٥٨
البنت كشدّة الورد............................................................ ٢٥٩
المثل السابع والعشرون: عبيد الأصنام وعباد الله
تصوير البحث............................................................... ٢٦١
ارتباط آية المثل
بسابقاتها....................................................... ٢٦١
دوافع العبادة................................................................. ٢٦١
الشرح والتفسير............................................................... ٢٦٣
خطابات الآية................................................................ ٢٦٣
١ ـ العبيد في الإسلام.......................................................... ٢٦٣
٢ ـ العبودية
المتطوّرة........................................................... ٢٦٥
يوسف(عليه السلام)
إنسان حرٌّ................................................ ٢٦٦
علي(عليه السلام) حرٌّ
آخر.................................................... ٢٦٧
المثل الثامن والعشرون: المؤمن والمشرك
تصوير البحث............................................................... ٢٦٩
الشرح والتفسير............................................................... ٢٦٩
خطاب الآية................................................................. ٢٧١
الشرك وعبادة الأصنام
في القرن العشرين......................................... ٢٧١
المثل التاسع والعشرون: حديثوالعهد بالإسلام
تصوير البحث............................................................... ٢٧٥
الشرح والتفسير............................................................... ٢٧٥
خطابات الآية................................................................ ٢٧٦
أهمية الوفاء بالعهد............................................................ ٢٧٨
المثل الثلاثون: كفران النعمة
تصوير البحث............................................................... ٢٧٩
الشرح والتفسير............................................................... ٢٧٩
خطابات الآية................................................................ ٢٨٢
١ ـ العذاب والبؤس
نتيجتان لأعمالنا............................................ ٢٨٢
٢ ـ هل كان وجود خارجي
لهذه القرية؟.......................................... ٢٨٣
المثل الحادي والثلاثون: أمثال الكفَّار
تصوير البحث............................................................... ٢٨٧
الشرح والتفسير............................................................... ٢٨٧
ما هو الحجاب المستور؟....................................................... ٢٨٧
ما تعني المسحور؟............................................................. ٢٨٩
أسلحة الجاحدين............................................................. ٢٨٩
الحقائق المستبطنة في
الاتهامات.................................................. ٢٩٠
لماذا نسبوا إليه
الشعر؟......................................................... ٢٩١
خطاب الآيات التربوي........................................................ ٢٩٢
المثل الثاني والثلاثون: المستكبرون والمستضعفون
تصوير البحث............................................................... ٢٩٣
علاقة آيات المثل
بسابقاتها..................................................... ٢٩٤
تحطيم القيم الكاذبة
من أهداف الأنبياء......................................... ٢٩٤
الشرح والتفسير............................................................... ٢٩٦
طريقان لمعالجة الغرور.......................................................... ٢٩٨
عاقبة الانسان المغرور.......................................................... ٢٩٩
اعتبروا....................................................................... ٣٠٢
خطابات الآية................................................................ ٣٠٣
١ ـ زمن تأثير التوبة........................................................... ٣٠٣
٢ ـ لا قيمة للدنيا............................................................. ٣٠٥
قصة بطل.................................................................... ٣٠٦
المطبخ السلطاني.............................................................. ٣٠٦
٣ ـ التدقيق في اختيار
الصديق.................................................. ٣٠٧
٤ ـ من هو وليّ
المؤمنين؟....................................................... ٣٠٩
المثل الثالث والثلاثون: الحياة الدنيا
تصوير البحث............................................................... ٣١١
الشرح والتفسير............................................................... ٣١١
بأي شيءُ شبِّهت
الحياة الدنيا؟................................................. ٣١٣
اختلاف هذه الآية مع
الآية ٢٤ من سورة يونس.................................. ٣١٤
خطابات الآية................................................................ ٣١٥
١ ـ تنوّع النباتات من
معالم القدرة الإلهية......................................... ٣١٥
٢ ـ ما هي الباقيات
الصالحات؟................................................. ٣١٦
مباحث تكميلية.............................................................. ٣١٨
١ ـ ماهي الحياة
الدنيا؟........................................................ ٣١٨
٢ ـ الدنيا من وجهة
نظر الروايات............................................... ٣١٩
٣ ـ ما سبب ذم
الروايات الدنيا؟................................................ ٣٢٣
تحليل الروايات................................................................ ٣٢٣
المثل الرابع والثلاثون: تنوّع أمثال القرآن
تصوير البحث............................................................... ٣٢٥
هل هذه الآية من أمثال
القرآن؟................................................ ٣٢٥
الشرح والتفسير............................................................... ٣٢٦
ماذا يعني الجدل؟............................................................. ٣٢٧
خطابات الآية................................................................ ٣٢٨
١ ـ تنوّع أمثال
القرآن.......................................................... ٣٢٨
٢ ـ منع الجدال............................................................... ٣٣٠
المثل الخامس والثلاثون: التوحيد والشرك
تصوير البحث............................................................... ٣٣٣
الشرح والتفسير............................................................... ٣٣٣
خطابات الآية................................................................ ٣٣٤
١ ـ ما المراد من
الطيور؟........................................................ ٣٣٤
٢ ـ ما المراد من
الريح.......................................................... ٣٣٤
٣ ـ لا هدوء للمشرك.......................................................... ٣٣٥
٤ ـ لا إرادة للمشرك........................................................... ٣٣٦
أهمية التوحيد................................................................. ٣٣٦
المثل السادس والثلاثون: عبادة الأصنام
تصوير البحث............................................................... ٣٤١
ماهية عبادة الأصنام........................................................... ٣٤١
أساليب مواجهة عبادة
الأصنام................................................. ٣٤٣
الشرح والتفسير............................................................... ٣٤٥
١ ـ هل هناك تشبيه في
آية المثل؟............................................... ٣٤٦
٢ ـ هل الذباب موجود
حقير؟.................................................. ٣٤٧
جسر نحو التوحيد في
شهر التوحيد.............................................. ٣٤٨
المثل السابع والثلاثون: ذات الله لا مثيل لها
تصوير البحث............................................................... ٣٤٩
الآية تشتمل على مثلين........................................................ ٣٤٩
هل يجوز التمثيل لذات
الله؟.................................................... ٣٥٠
الشرح والتفسير............................................................... ٣٥١
١ ـ الهداية................................................................... ٣٥١
٢ ـ التربية والنمو.............................................................. ٣٥٢
٣ ـ إيجاد القدرة
والحركة........................................................ ٣٥٢
٤ ـ رفع موانع الحياة........................................................... ٣٥٣
الأشياء التي شُبِّهت
بالنور...................................................... ٣٥٦
السراج في التاريخ............................................................. ٣٥٧
الشرح والتفسير............................................................... ٣٥٨
خطابات الآية................................................................ ٣٥٩
١ ـ ما المراد من نور
الله؟....................................................... ٣٥٩
٢ ـ (يَهْدِي اللهُ
لنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) ماذا تعني؟........................................ ٣٦٠
كيف يقوى إيماننا؟........................................................... ٣٦٢
مباحث تكميلية.............................................................. ٣٦٤
تفاسير متباينة لآية
واحدة!..................................................... ٣٦٤
الف: التفسير الفلسفي........................................................ ٣٦٥
باء: التفسير الروائي........................................................... ٣٦٦
المثل الثامن والثلاثون: سراب الحياة
تصوير البحث............................................................... ٣٦٩
الشرح والتفسير............................................................... ٣٦٩
خطابات الآية................................................................ ٣٧٢
١ ـ المثل لدنيا
الكافرين أم لاُخراهم؟............................................. ٣٧٢
٢ ـ الاسلام دين
النوعية لا الكمية.............................................. ٣٧٤
المثل التاسع والثلاثون: أعمال المشركين
تصوير البحث............................................................... ٣٧٥
الشرح والتفسير............................................................... ٣٧٥
خطابات الآية................................................................ ٣٧٧
١ ـ أعمال الكافرين
فقط، لماذا؟................................................ ٣٧٧
٢ ـ (ظُلُماتُ بعضُها
فَوْقَ بَعْض) إلى أي شيء تشير؟............................. ٣٧٧
٣ ـ الجبر أم
الاختيار؟......................................................... ٣٧٨
مباحث تكميلية.............................................................. ٣٧٩
١ ـ مظاهر من نور
الإيمان...................................................... ٣٧٩
٢ ـ علامة الإيمان............................................................. ٣٨١
المثل الأربعون: الأضل سبيلاً
تصوير البحث............................................................... ٣٨٣
الشرح والتفسير............................................................... ٣٨٣
لماذا شُبِّه الكفار
بالحيوانات؟.................................................... ٣٨٧
خطاب الآية................................................................. ٣٨٩
العزَّة في ظل الإيمان............................................................ ٣٨٩
المثل الحادي والأربعون: اتَّخذوا أولياءً من دون الله
تصوير البحث............................................................... ٣٩١
أهمية التوحيد................................................................. ٣٩١
الشرح والتفسير............................................................... ٣٩٢
خطابات الآية................................................................ ٣٩٣
١ ـ أصنام جديدة............................................................. ٣٩٣
٢ ـ بيت العنكبوت من
آيات الله العظمى........................................ ٣٩٣
٣ ـ فلسفة التمثيل
بحيوان ضعيف............................................... ٣٩٥
٤ ـ قيمة العلم................................................................ ٣٩٥
مباحث تكميلية.............................................................. ٣٩٦
١ ـ لنعتبر من التاريخ.......................................................... ٣٩٦
خلاصة قصة قوم سباً......................................................... ٣٩٦
٢ ـ أليس الاتكال على
غير الله اتكال على بيت العنكبوت؟........................ ٣٩٧
المثل الثاني والأربعون: توحيد المالك
تصوير البحث............................................................... ٣٩٩
فروع التوحيد................................................................. ٣٩٩
١ ـ توحيد الذات............................................................. ٤٠٠
٢ ـ توحيد الصفات........................................................... ٤٠٠
٣ ـ التوحيد في
الأفعال......................................................... ٤٠٠
٤ ـ التوحيد في
الحاكمية........................................................ ٤٠١
٥ ـ توحيد المالك.............................................................. ٤٠٢
الشرح والتفسير............................................................... ٤٠٢
خطابات الآية................................................................ ٤٠٤
بحث تكميلي................................................................ ٤٠٥
الرق من وجهة نظر
الاسلام.................................................... ٤٠٥
المثل الثالث والأربعون:
انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة
تصوير البحث............................................................... ٤٠٩
الشرح والتفسير............................................................... ٤١٠
خطابات الآيات.............................................................. ٤١٣
١ ـ لا تخافوا قلَّة
عددكم....................................................... ٤١٣
٢ ـ الاتحاد سرّ
الانتصار....................................................... ٤١٤
٣ ـ التخطيط في
التبليغ........................................................ ٤١٤
المثل الرابع والأربعون: الشرك والتوحيد
تصوير البحث............................................................... ٤١٥
التوحيد أساس الاُصول
والفروع................................................. ٤١٥
الشرح والتفسير............................................................... ٤١٧
خطابات الآية................................................................ ٤١٩
١ ـ وحدة مصدر
القرارات...................................................... ٤١٩
٢ ـ علي (عليه السلام)
مصداق كامل لآية المثل.................................. ٤١٩
المثل الخامس والأربعون: المسيح عيسى (عليه السلام)
تصوير البحث............................................................... ٤٢٣
معنى (المثل) في
استخدامات القرآن.............................................. ٤٢٣
هل آية هذا البحث مثل
قرآني؟................................................. ٤٢٥
التفسير الأول................................................................ ٤٢٥
التفسير الثاني................................................................. ٤٢٦
التفسير الثالث............................................................... ٤٢٦
خطابات الآية................................................................ ٤٢٦
الضجيج من معالم
الجاهلية..................................................... ٤٢٦
المثل السادس والأربعون: الصحابة
تصوير البحث............................................................... ٤٢٩
شأن نزول الآية............................................................... ٤٢٩
أوصاف أصحاب الرسول في
التوراة.............................................. ٤٣٢
علي (عليه السلام)
نموذج كامل للصفات الخمس................................. ٤٣٤
مثل أصحاب الرسول في
الإنجيل................................................ ٤٣٥
خطابات الآية................................................................ ٤٣٧
١ ـ الاسلام دين عالمي........................................................ ٤٣٧
٢ ـ المثل لا يشمل
جميع أصحاب الرسول........................................ ٤٣٩
المثل السابع والأربعون: الغيبة
تصوير البحث............................................................... ٤٤١
تعريف مجمل بسورة
الحجرات................................................... ٤٤١
الشرح والتفسير............................................................... ٤٤٢
خطاب الآية................................................................. ٤٤٥
الغيبة قبيحة للغاية............................................................ ٤٤٥
مباحث تكميلية.............................................................. ٤٤٦
١ ـ عاقبة الذي يستغيب....................................................... ٤٤٦
٢ ـ لا نخدع أنفسنا............................................................ ٤٤٧
٣ ـ إضفاء صفة القداسة
على الغيبة............................................. ٤٤٧
المثل الثامن والأربعون: قرب الله من الانسان
تصوير البحث............................................................... ٤٤٩
إلقاء نظرة على الآيات
السابقة للمثل............................................ ٤٤٩
الشرح والتفسير............................................................... ٤٥٣
خطاب الآية................................................................. ٤٥٣
آثار الايمان بقرب
الله.......................................................... ٤٥٣
مباحث تكميلية.............................................................. ٤٥٣
١ ـ أمثال اُخرى لقرب
الله من الانسان........................................... ٤٥٣
٢ ـ حديث للامام
الكاظم (عليه السلام)........................................ ٤٥٤
المثل التاسع والأربعون: مثل آخر للحياة الدنيا
تصوير البحث............................................................... ٤٥٥
الشرح والتفسير............................................................... ٤٥٥
خطابات الآية................................................................ ٤٥٨
١ ـ الدنيا خادعة
وفانية........................................................ ٤٥٨
٢ ـ الهدف من الخلق.......................................................... ٤٥٩
المثل الخمسون والحادي والخمسون : اليهود
تصوير البحث............................................................... ٤٦١
تاريخ اليهود في
المدينة......................................................... ٤٦١
شأن نزول الآيات............................................................. ٤٦٢
الشرح والتفسير............................................................... ٤٦٢
خطابات الآية................................................................ ٤٦٥
١ ـ أعداء الاسلام
ضعفاء...................................................... ٤٦٥
٢ ـ الجهل سبب
الاختلاف.................................................... ٤٦٦
٣ ـ الوثوق بالمنافقين
خطأ...................................................... ٤٦٦
٤ ـ تاريخ المتقدِّمين
يضيء الطريق للمتأخرين...................................... ٤٦٧
٥ ـ خُطى الشيطان
والمنافقين واحدة............................................. ٤٦٧
المثل الثاني والخمسون: جاذبية القرآن المتميّزة
تصوير البحث............................................................... ٤٦٩
جاذبية القرآن العجيبة......................................................... ٤٦٩
الشرح والتفسير............................................................... ٤٧٠
خطاب الآية................................................................. ٤٧٢
هيبة القرآن وعظمته........................................................... ٤٧٢
المثل الثالث والخمسون: علماء بلا عمل
تصوير البحث............................................................... ٤٧٣
شأن النزول.................................................................. ٤٧٣
الشرح والتفسير............................................................... ٤٧٤
خطابات الآية................................................................ ٤٧٥
١ ـ المثل عام................................................................. ٤٧٥
٢ ـ لماذا الحمار؟.............................................................. ٤٧٥
٣ ـ سبب التعبير
بالأسفار لا الكتب............................................ ٤٧٦
٤ ـ الهداية تستدعي
قابلية...................................................... ٤٧٦
٥ ـ الآية شاملة لكلِّ
عالم غير عامل............................................. ٤٧٧
العلماء غير العاملين
في الروايات................................................ ٤٧٧
المثل الرابع والخمسون: من خصائص المنافقين
تصوير البحث............................................................... ٤٧٩
أوصاف المنافقين.............................................................. ٤٧٩
الشرح والتفسير............................................................... ٤٨٠
خطاب الآية................................................................. ٤٨٣
معيار النفاق................................................................. ٤٨٣
مباحث تكميلية.............................................................. ٤٨٣
١ ـ مَن هو المنافق؟............................................................ ٤٨٣
٢ ـ أخطار النفاق............................................................. ٤٨٤
المثل الخامس والخمسون: الضوابط لا العلاقات
تصوير البحث............................................................... ٤٨٩
دراسة إجمالية لسورة
التحريم.................................................... ٤٨٩
قصة التحريم................................................................. ٤٩٠
الشرح والتفسير............................................................... ٤٩١
خطاب الآية................................................................. ٤٩٢
ملاك النجاة هو العمل
الصالح.................................................. ٤٩٢
المثل السادس والخمسون: استقامة زوجة فرعون
تصوير البحث............................................................... ٤٩٥
الشرح والتفسير............................................................... ٤٩٦
خطابات الآية................................................................ ٤٩٧
١ ـ الاستقلال الفكري........................................................ ٤٩٧
٢ ـ لماذا لم تستخدم
آسية التقية؟............................................... ٤٩٨
٣ ـ التعذيب عامل
تكامل أو وسيلة قهر!........................................ ٤٩٩
قصة إيمان آسية.............................................................. ٤٩٩
المثل السابع والخمسون: مريم بنت عمران
تصوير البحث............................................................... ٥٠٣
الشرح والتفسير............................................................... ٥٠٣
فوارق هذا المثل مع
المثلين المتقدِّمين.............................................. ٥٠٥
خطابات الآية................................................................ ٥٠٦
١ ـ العفَّة رأس مال
عظيم...................................................... ٥٠٦
٢ ـ الارادة أساس
العمل....................................................... ٥٠٧
المثل الثامن والخمسون: تصوير للمؤمنين والكافرين
تصوير البحث............................................................... ٥٠٩
نظرة إلى الآيات التي
سبقت المثل................................................ ٥٠٩
الشرح والتفسير............................................................... ٥١١
مشاكل حركة الزواحف
ومعايبها................................................ ٥١٢
خطاب الآية................................................................. ٥١٣
الإيمان ينبوع المحاسن........................................................... ٥١٣
من هو المؤمن؟............................................................... ٥١٣
مراتب الايمان................................................................ ٥١٣
المثل التاسع والخمسون: البخلاء
تصوير البحث............................................................... ٥١٥
الشرح والتفسير............................................................... ٥١٥
خطابات الآية................................................................ ٥٢٠
١ ـ الاستئثار بلاء
خطر....................................................... ٥٢٠
٢ ـ الهدف من البلاء
والعذاب.................................................. ٥٢١
٣ ـ العلاقة بين الذنب
وانقطاع الرزق............................................ ٥٢١
٤ ـ العناد أو
الإنابة؟.......................................................... ٥٢٢
٥ ـ العلاقة بين
التسبيح والتوبة................................................. ٥٢٣
المثل الستون: الموقف تجاه الكلام الحق
تصوير البحث............................................................... ٥٢٥
الشرح والتفسير............................................................... ٥٢٥
خطابات الآية................................................................ ٥٢٨
١ ـ القرآن ذكر
والرسول مذكِّر.................................................. ٥٢٨
٢ ـ ينبغي الإصغاء
لنداء الحق................................................... ٥٣٠
٣ ـ عوامل التذكُّر............................................................. ٥٣٠
الفهرس...................................................................... ٥٣١
|