بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

سُمّي عام ١٣٧٩ ه‍. ش في الجمهورية الإسلامية بعام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وذلك لأنه تضمّن عيد الغدير في بدايته وفي نهايته فتحقق فيه عيد الغدير مرتين (١).

ولهذا كان من المناسب جدّاً أن يتحرك المفكّرون وعشّاق هذا الإمام الهمام على مستوى تعريف الناس بفضائله وأحاديثه وأخلاقه وسيرته وسائر شئونه والقيام بدور فاعل في هذا المشروع الحضاري الإسلامي.

ومن هذا المنطلق وطبقاً للمعتاد في شهر رمضان من كلّ عام شرع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي مدّ ظلّه بالقاء محاضراته بعد صلاة الظهر والعصر بما يخصّ الأبحاث التفسيرية المتعلقة بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام لأن شهر رمضان هو شهر القرآن وهو الشهر الذي استشهد فيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان البحث تفسيراً للقرآن من جهة ، ودراسة متعمقة لمسألة الولاية والإمامة في دائرة المفاهيم القرآنية من جهة اخرى.

نأمل أن يشرق نور القرآن في قلوبنا أكثر وأكثر ببركة القرآن الكريم ومفسّره الأوّل أمير المؤمنين عليه‌السلام ويساهم في ترشيد مسارنا في خطّ الرسالة والإيمان وهداية الامّة الإسلامية في حركتها الحضارية الصاعدة.

__________________

(١) لأن السنة القمرية أقل من السنة الشمسية في عدد أيّامها.


الكتاب الحاضر

وهكذا تمّ بحمد الله تدوين تلك البحوث الجذّابة والشيّقة والعميقة المحتوى. وبعد إخراج المنابع والمصادر وإجراء بعض الاصلاح والتهذيب المتعلّق بتحويل الخطاب الكلامي إلى خطاب كتابي تمّ طبع الكتاب وإخراجه بالشكل المطلوب.

ملاحظات

١ ـ لعلّ البعض يتصور أنه مع وجود الجزء التاسع من نفحات القرآن الذي يتحدّث عن مفهوم الولاية والإمامة في القرآن الكريم ، وكذلك ما ورد في التفسير الأمثل ذيل الآيات المتعلّقة بمسألة الإمامة فما الداعي لتأليف كتاب آخر يتناول هذه المسألة بالذات؟

ولكن الحقيقة أن الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب أوسع وأشمل ممّا ورد في ذينك الكتابين ، والأهم من ذلك البعد العملي والتطبيقي للآيات الكريمة الواردة في هذا الكتاب ممّا يمنحه قدرة على معالجة مساحات واسعة من اهتمامات المجتمع الإسلامي المعاصر ، مضافاً إلى المواضيع الجديدة التي تناولها هذا الكتاب لم تذكر في الكتابين السابقين ، ولهذا وجدنا أن من الضروري نشر هذه البحوث القيّمة للقرّاء الأعزاء.

٢ ـ إن القرآن الكريم يتميّز بطراوة وحيوية على مدى الدهور والأعصار حيث يفيض على قارئيه في كلّ عصر وزمان مطالب جديدة ، وعليه لا ينبغي القناعة والاكتفاء بما أورده المفسّرون من مفاهيم سامية في تفسير آياته الكريمة ، بل علينا مواصلة البحث والتنقيب في معادنه الثمينة مع الاسترفاد من تفاسير الأعاظم وما تركه لنا العلماء من جهود فكرية في هذا السبيل وكذلك الاستفادة من العلوم والمعارف الجديدة في عملية استخراج المفاهيم القرآنية الكامنة واستجلاء مضمونها الحضاري.

٣ ـ تمّ تقسيم آيات الولاية والإمامة في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام وبحثها في ثلاثة فصول :

الفصل الأوّل : آيات الخلافة والولاية على المسلمين.

الفصل الثاني : آيات فضائل أهل البيت عليهم‌السلام.


الفصل الثالث : آيات الفضائل الخاصّة بأمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأخيراً أتقدم بالشكر الجزيل إلى جميع الاخوة الذين أعانوني على انجاز هذه المهمة ولا سيّما أبنائي الأعزاء الذين تكفّلوا مهمة مطابقة الكتاب ، وأرجو أن نتحرك جميعاً في خطّ الرسالة والصراط المستقيم بالاستنارة من الأنوار الإلهية للقرآن الكريم من أجل تحويل ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى واقع حيّ يشمل كلّ تطلعات الإنسان ويعيش أجواء العناية الربانية في آفاقها الواسعة.

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

قم ـ الحوزة العلمية

أبو القاسم عليان نژادي

ربيع الثاني ١٤٢٢



الفصل الأول

آيات الخلافة والولاية

على المسلمين

آية التبليغ

آية إكمال الدين

آية الولاية

آية اولي الأمر

آية الصادقين



آية التبليغ ١

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))

«سورة المائدة / الآية ٦٧»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة المشهورة التي تُعرف بآية التبليغ تتحدث عن أهم مسألة وقضية في العالم الإسلامي بعد مسألة النبوّة ، وتخاطب النبي الأكرم في أواخر عمره الشريف بإصرار بالغ أن يتحدث للناس بصراحة تامة عن مسألة الخلافة والخليفة الذي يليه ، ويبيّن للناس تكليفهم الشرعي ، وقد ذكر علماء السنة والشيعة مطالب مختلفة في تفسير هذه الآية كما سيأتي.

الشرح والتفسير :

انتخاب الخليفة مرحلة نهائية للرسالة

إنّ القرآن الكريم يخاطب النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في آياته الشريفة بعناوين مختلفة منها : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(١)

__________________

(١) سورة المزمل : الآية ١.


(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(١).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ)(٢).

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ)(٣).

فالخطاب الأول والثاني يشيران إلى حالة خاصة من حالات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الظاهرية ، ولكن الخطاب الثالث والرابع يشيران إلى الشأن المعنوي والمقام الإلهي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ورد هذا النحو من الخطاب : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) مرات عديدة في القرآن الكريم.

ولكن خطاب : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) لم يرد في القرآن سوى في آيتين أحدهما الآية محل البحث ، والاخرى الآية ٤١ من سورة المائدة والتي تنسجم في مضمونها مع هذه الآية الشريفة وهذا يدلّ على أهمّية الموضوع الذي يتضمنه هذا الخطاب الإلهي للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول بعده :

(بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) وهذه المهمّة التي امر النّبي بإبلاغها لم تكن سوى تعيين الخليفة من بعده.

(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...) إنّ هذه المهمّة إلى درجة من الأهمّية بحيث إنّه لو لم يؤدّها للناس فكأنّه لم يؤدّ الرسالة الإلهية بشكل عام حيث تبقى أتعاب ثلاثة وعشرين سنة من تبليغ الرسالة ناقصة.

ومن الواضح أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبلّغ جميع ما نزل عليه من الوحي للناس ويبيّن تعاليم الشريعة المقدسة ولكن هذا التعبير الذي يُفهم من سياق الآية يوحي للمسلمين بأهمية الموضوع الذي تضمنته الآية الشريفة.

(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) فبما أنّ هذه المهمّة حساسة جدّاً وفي غاية الأهمّية فمن الطبيعي أن تحوطها الأخطار ومن المتوقع أن تكون هناك ردود فعل شديدة من قبل المنافقين ومن في قلوبهم مرض سواءً كان بصورة علنية أم بصورة سرّية ،

__________________

(١) سورة المدثر : الآية ١.

(٢) كرر هذا الخطاب في أكثر من ١٠ آيات قرآنية.

(٣) ورد هذا الخطاب مرتين في القرآن الكريم.


ولذلك فانّ الله سبحانه وتعالى قد وعد نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يحفظه من هذه الأخطار المحتملة.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فعلى الرغم من أنّ الله تعالى يمنّ على جميع الناس بالهداية إلى الحق إلّا أنّ الأشخاص الذين يصرّون العناد والإصرار على عقائدهم الزائفة وأفكارهم الباطلة لا يستحقون الهداية وسوف لا ينالون نعمة الهداية من الله تعالى.

ومع قليل من التدبر في مضمون وأجواء الآية محل البحث تتجلى هذه الحقيقة المهمة ، وهي أنّ الآية الشريفة تتحرك نحو الإخبار عن موضوع مهم جدّاً ، لأنّها تتضمّن في سياقها تأكيدات كثيرة لم يسبق لها مثيل :

١ ـ تبدأ الآية الشريفة بخطاب (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وكما تقدم أنّ هذا الخطاب يدل على الأهمّية الفائقة لمضمون هذا النص الشريف بحيث استلزم أن يقع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مورداً للخطاب الإلهي مباشرة.

٢ ـ كلمة «بَلّغْ» إشارة اخرى إلى خصوصية المضمون الذي تحمله الآية الشريفة لأنه :

أوّلاً : أنّ هذه الكلمة لم ترد في القرآن الكريم سوى في هذه الآية الشريفة.

ثانياً : كما يقول الراغب في كتابه «مفردات القرآن» إنّ هذه الكلمة في الواقع فيها تأكيد أشدّ من كلمة «أَبْلِغْ» لأنّه بالرغم من أنّ هذه الكلمة أيضاً لم ترد إلّا مرّة واحدة في القرآن الكريم (١) ، إلّا أنّ كلمة «بَلّغْ» مضافاً إلى مفهوم التوكيد فيها تتضمّن التكرار أيضاً ، أي أنّ هذا الموضوع إلى درجة من الأهمّية بحيث يجب إبلاغه إلى الناس دفعات وبصورة مكررة (٢).

ثالثاً : جملة (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) شاهد ثالث على الخصوصية المهمّة في هذه الآية ، فانّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يُؤمر في هذه الآية بإبلاغ رسالة خاصة تمثّل أساس ومحور الرسالة والنبوّة ، لأنّه لو لم يبلّغ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الرسالة الخاصة فكأنّما لم يبلّغ الرسالة كلّها.

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٦.

(٢) وهكذا عمل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث ذكر موضوع خلافة علي عليه‌السلام على الناس مراراً من الأيّام الاولى لظهور الإسلام وحتى وفاته.


رابعاً : ومن العلامات الاخرى على عظمة وأهمية مضمون هذه الآية الكريمة هو ما ورد فيها من ضمانات إلهية لحفظ الرسول الأكرم من الأخطار المحدقة به.

إنّ مضمون المأمورية التي كلّف بها النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية الشريفة إلى درجة من الأهمّية بحيث يخشى على النّبي من الخطر على حياته من جراء ردود الفعل المختلفة التي ستثيرها هذه المهمّة الرسالية ، ولكن الله تعالى يعِد نبيّه الكريم بحفظه من جميع الأخطار وردود الفعل المحتملة.

فما هو الموضوع المهم الذي تضمنته هذه الآية الشريفة؟

ما هي المأمورية المهمّة للنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تستلزم ضمانات إلهية صريحة بحفظ النّبي من الخطر؟

ما هو المطلب المهم الذي يجب أن يبلّغه النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس بحيث يساوي جميع الرسالة الإلهية؟

ما ذا أراد الله سبحانه وتعالى من النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث هدده من جهة ووعده بحفظ حياته من جهة اخرى؟

والخلاصة ما هو موضوع هذه الآية الشريفة الذي ورد بكل هذه التأكيدات الشديدة؟

ومن أجل استجلاء الجواب الصحيح على هذه الأسئلة هناك طريقان :

الأوّل : هو التفكر والتأمل والتدبر في مضمون الآية نفسها بقطع النظر عن ما ورد من طرق الفريقين من السنة والشيعة من الروايات الشريفة في تفسير هذه الآية ومع قطع النظر عن كلمات المفسّرين والمؤرّخين.

والآخر : هو أن نقوم بتفسير هذه الآية الشريفة مع ما ورد حولها من روايات وأحاديث في شأن نزولها.

الطريق الأوّل : تفسير الآية بغض النظر عن الشواهد الأخرى

إنّ التدبّر والتعمق والدقة في الآية الشريفة نفسها وبدون الاستعانة بامور أخرى بإمكانه أن يجيب على جميع الأسئلة الواردة أعلاه بشرط الابتعاد عن التعصّب في تحكيم عقولنا لاستجلاء الحقيقة ، لأنّه :


أوّلاً : أنّ الآية مورد البحث هي الآية (٦٧) من سورة المائدة وكما نعلم فإنّ سورة المائدة هي آخر سورة (١) نزلت على النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من أواخر السور التي جاء بها الوحي إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي أنّ هذه الآية نزلت في السنة العاشرة من البعثة وهي آخر سنة من عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ثلاثة وعشرين سنة من تبليغ الرسالة الإلهية.

والسؤال هو : ما هو الموضوع المهم الذي لم يبلّغه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس بعد ثلاثة وعشرين سنة من عمر النبوّة والرسالة؟

هل أنّ هذا الموضوع المهم يتعلق بالصلاة ، في حين أنّ المسلمين كانوا يصلّون قبل ذلك بعشرين سنة؟

هل يتعلق بالصيام في حين أنّ حكم الصوم قد وجب بعد الهجرة وقد مضى على تشريعه ثلاثة عشر سنة؟

هل يتعلق بأمر تشريع الجهاد ونحن نعلم أنّ الجهاد قد شُرّع في السنة الثانية للهجرة؟

هل يتعلق بالحج؟

الجواب : كلّا ، إنّ الانصاف يدعونا إلى إنكار أن يكون هذا الموضوع يتعلق بواحدة من هذه الامور فلا بدّ من التأمل في هذه الحقيقة ، ونتساءل : ما هي المسألة المهمّة التي بقيت بعد ثلاثة وعشرين سنة من أتعاب الرسالة بدون تبليغ؟

ثانياً : ويستفاد من أجواء الآية الشريفة أنّ هذه المأمورية للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى درجة من الأهمّية والخطورة بحيث تعادل الرسالة والنبوّة نفسها ، وأمّا الاحتمالات التي ذكرها العلماء في تفسير واكتشاف مضمون هذه المأمورية كما تقدم آنفاً فانّها رغم أهمّيتها ولكنّها لا تعادل بثقلها الرسالة نفسها ، فيجب أن نتفكّر في ماهيّة هذا الأمر المهم الذي يعادل الرسالة والنبوّة الذي لم يؤدّه النبي لحد الآن.

ثالثاً : الخصوصية الأخرى لهذه المأمورية الإلهية هي أنّ بعض الناس سيتحركون من

__________________

(١) حسب الروايات ، نزلت هذه السورة بصورة كاملة في حجة الوداع (الحجة الاخيرة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله) بين مكة والمدينة (المنار : ج ٦ ، ص ١١٦).


موقع الرفض والاعتراض ويكون اعتراضهم إلى درجة من الشدّة والجدّية بحيث أنّهم مستعدون لقتل النبي والقضاء عليه ونحن نعلم أنّ المسلمين لم يعترضوا على تشريعات سابقة من قبيل الصلاة والصوم والحج والجهاد وأمثال ذلك.

إذن هذه المأمورية تتضمن مسألة سياسية بحيث تدفع بالبعض إلى الاعتراض والاستنكار والتحرك نحو القضاء على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لمنعه من امتثال هذا التكليف الإلهي.

وعند ما نأخذ بنظر الاعتبار جميع هذه الأبعاد المذكورة في أجواء الآية الشريفة ونتدبّر في هذا الموضوع من موقع الانصاف والحياد التام ونسعى لفهم الحقيقة بعيداً عن التعصّب والعناد لا نصل إلّا إلى مسألة الولاية والخلافة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي قام النبي بتبليغ هذه الرسالة في غدير خم بصورة رسمية.

أجل! إنّ الموضوع الذي لم يبلّغه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للمسلمين إلى آخر عمره الشريف بصورة رسمية والذي يعادل الرسالة والنبوّة والذي تمادى الكثير من الناس لمنع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله من أداء هذه المهمّة والذي وعد الله عزوجل نبيّه الكريم بأن يحفظه من الأخطار التي تكتنف أداء هذه الرسالة هي المسألة المصيرية والمهمّة في دائرة الخلافة ، لأنّه بالرغم من أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذكر للناس مسألة ولاية الإمام علي في السابق إلّا أنّه لم يبلّغها لجميع المسلمين بصورة رسمية لحد الآن ، ولهذا السبب فانّه عند ما كان عائداً من حجة الوداع قام بتبليغ هذه المأمورية الإلهية الكبيرة في صحراء غدير خم بأفضل صورة حيث أعلن لجميع المسلمين عن نصبه للإمام علي عليه‌السلام خليفة على المسلمين ، وبتبليغ هذه المأمورية كمُلت رسالته.

تطبيق العلامات الثلاث على مسألة الولاية

إنّ مسألة خلافة أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله تنطبق عليها العلائم الثلاث الواردة في آية التبليغ تماماً لأنّها :


أوّلاً : إنّ الرسول الأكرم كما مرّ آنفاً لم يعلن عن مسألة الخلافة بعده طيلة عمره المبارك بشكل صريح ورسمي وبتلك الأبعاد الواسعة ، وهذه هي المسألة المهمة التي بقيت على عاتقه في الأيّام الأخيرة من عمره الشريف.

ثانياً : إنه ليس من بين القضايا والامور الإسلامية مسألة تعادل في أهميتها وشأنها مسألة النبوة سوى مسألة الخلافة والولاية التي تعتبر استمراراً لمسار النبوة ، ومقام الإمامة يرادف مقام النبوة حيث يتكفل الإمام بأداء الوظائف والمسئوليات التي كانت على عاتق النبي.

ثالثاً : منذ زمان طرح مسألة الإمامة لأمير المؤمنين بدأت ردود الفعل والمخالفات المتعددة تبرز على السطح بل قد ظهرت في غدير خم أيضاً حيث جاء شخص إلى النبي الأكرم معترضاً عليه وقال : «اللهم إن كان هذا من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء» فنزلت عليه حجارة فأهلكته.

وهكذا هلك هذا الشخص كما سيأتي تفصيل القصة لاحقاً.

وإذا ضممنا الآية ٤١ من سورة المائدة إلى هذه الآية يتضح المطلب بصورة جيدة.

والنتيجة هي أنّ الآية الشريفة محل البحث مع غض النظر عن الروايات والأقوال وآراء المفسّرين وما أورده المؤرخون في كتبهم تدلّ على خلافة وولاية الإمام علي عليه‌السلام.

سؤال : قد يقال المراد بالمسألة المهمة في هذه الآية هو إشارة إلى الخطر الكامن في عدوّين كبيرين للإسلام والمسلمين وهما : اليهود والنصارى الّذين كانوا يتحركون دوماً من موقع العداء للإسلام ومنع تقدّم المسلمين ومع هذا كيف تكون هذه الآية مرتبطة بشأن الولاية والخلافة؟

الجواب : إنّ من كانت له أدنى مطالعة ومعرفة بتاريخ الإسلام يعلم جيداً أنّ مشكلة اليهود والنصارى تم حلّها في السنة العاشرة للهجرة حيث تم إخراج قبائل اليهود من بني قريظة وبني النظير وبني قينقاع ويهود خيبر وسائر قبائل اليهود والنصارى من الجزيرة العربية حيث أسلم الكثير منهم واجبر الباقي على الهجرة إلى مناطق اخرى ، وعلى هذا


الأساس فطبقاً لما ورد في الآية ٤١ من سورة المائدة أن خوف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن من خارج دائرة المسلمين بل كان خوفه يتمثل في الأفراد الذين دخلوا الإسلام.

وعلى هذا الأساس فإنّ تفسير الآية باليهود والنصارى لا يكون منسجماً مع أجواء الآية ، وكذلك سائر التفاسير الاخرى التي أوردها البعض سوى القول بأن المقصود هو خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعليه فإنّ الآية الشريفة محل البحث تمثّل جواباً قاطعاً ومستدلّاً ومتيناً على جميع الأشخاص الذين أنكروا إمامة وخلافة الإمام علي بن أبي طالب بعد رسول الله.

الطريق الثاني : تفسير آية التبليغ في دائرة الروايات

الطريق الثاني لتفسير الآية الشريفة يتم بالاستعانة بالأحاديث والروايات الشريفة الواردة في شأن نزول هذه الآية وكذلك نظريات وآراء المفسّرين وعلماء الإسلام والمؤرخين الذين دوّنوا هذه الحادثة ...

هناك العديد من المحدّثين في صدر الإسلام ذهبوا إلى أن الآية أعلاه نزلت في شأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن هؤلاء :

١ ـ «ابن عباس» الراوي والمفسّر المعروف كاتب الوحي الذي هو مورد قبول الشيعة وأهل السنّة.

٢ ـ «جابر بن عبد الله الأنصاري» وهو الشخصية المعروفة والمقبولة لدى جميع الطوائف الإسلامية.

٣ ـ «أبو سعيد الخدري» الذي يعدّ من كبار صحابة النبي ويتمتع باحترام بالغ.

٤ ـ «عبد الله بن مسعود» وهو أحد كتّاب الوحي وأحد المفسّرين المعروفين.

٥ ـ «أبو هريرة» الراوي المعروف والمقبول لدى أهل السنّة.

٦ و ٧ ـ «حذيفة» و «البراء ابن عازب» صحابيان من مشاهير صحابة النبي ، وهناك جمع آخر من الصحابة والعلماء الذين يذعنون بهذه الحقيقة وهي أنّ الآية الشريفة محل البحث نزلت في ولاية الإمام علي.


والجدير بالذكر أنّ الروايات الواردة في هذه الاسناد والتي أشرنا إلى بعض رواتها آنفاً وردت من طرق مختلفة ، فمثلاً الرواية أعلاه وردت بأحد عشر طريقاً عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله الأنصاري.

ومن بين المفسّرين من أهل السنّة جماعة ذكروا الرواية المتعلّقة بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن بينهم «السيوطى» في «الدرّ المنثور» / الجزء الثاني / الصفحة : ٢٩٨ ، و «أبو الحسن الواحدي النيشابوري» في «أسباب النزول» / الصفحة : ١٥٠ ، و «الشيخ محمّد عبده» في «تفسير المنار» / الجزء السادس / الصفحة : ١٢٠ ، و «الفخر الرازي» في «التفسير الكبير» ، وغيرها من التفاسير الاخرى.

وهنا نورد مقطعاً من كلام الفخر الرازي الذي أورده في تفسيره كنموذج منها :

يعتبر الفخر الرازي من أساطين المفسّرين وعلماء الإسلام بين أهل السنّة ويعتبر تفسيره متين ومفصّل ويحكي عن كثرة علمه واطّلاعه على الامور «بالرغم من تعصبه الشديد الذي اسدل على فكره حجاباً في بعض الأحيان» فإنّه بعد استعراض تسعة احتمالات في تفسير الآية أعلاه يذكر ولاية أمير المؤمنين في الاحتمال العاشر ويقول :

نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ، فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ... (١)

وطبقاً لما ورد في كتاب شواهد التنزيل يقول زياد بن منذر :

كنت عند أبي جعفر محمّد بن علي (الباقر) عليه‌السلام وهو يحدّث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له : عثمان الأعشى ـ كان يروي عن الحسن البصري ـ فقال له : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك إن الحسن يخبرنا أنّ هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل. فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف (من حكومة بني امية مضافاً إلى أنه

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ١١ ، ص ٤٩.


لم تكن له علاقة جيدة مع الإمام علي عليه‌السلام) ... إلى أن قال : فلما ضمن الله [له] بالعصمة وخوّفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثمّ قال : يا أيّها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ... (١).

والملاحظة الملفتة هنا هي أنّ الحاكم الحسكاني مؤلف كتاب شواهد التنزيل الذي أورد الرواية أعلاه هو من أهل السنّة ، كما ذكر هذه الرواية جمع آخر من أهل السنّة.

والنتيجة هي أن الأحاديث والروايات وأقوال الصحابة والروايات وآراء المفسّرين والعلماء كلّها تحكي أنّ آية التبليغ نزلت في موضوع ولاية أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام.

توصيتان في آية التبليغ

وبإمكاننا أن نستوحي ملاحظتان أو توصيتان من أجواء الآية الشريفة :

١ ـ أنّه بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو رسول الله بشخصه إلّا أنّ وظيفة تبليغ مسألة الولاية والإمامة والإجابة على علامات الاستفهام والشبهات التي تثار حولها لا تختص بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا شك ، بل هي وظيفة جميع العلماء وأهل النظر على طول التاريخ.

٢ ـ الاخرى في هذه الآية الشريفة هي أنّ المؤمنين الواقعيين هم الأشخاص الذين يتحركون في خط الطاعة لله تعالى من موقع التسليم والاذعان للحقّ لا من موقع التعصّب والعناد والميول الفئوية والطائفية والحزبية بحيث يسلّمون أحياناً ويخالفون أحياناً اخرى.

وأساساً فإنّ السرّ في وصول نبي الإسلام لتلك المقامات العالية والمنازل المعنوية الرفيعة تكمن في عبوديته وتسليمه المحض لله تعالى وهو ما نشهد به في كلّ صلاة قبل الشهادة برسالته ونقول : «اشهد أن محمّداً عبده ورسوله».

ونحن إذا أردنا نيل تلك المرتبة السامية من القرب الإلهي وأردنا أن نعيش الإيمان

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٥٣ ، ح ٢٤٨.


الحقيقي والواقعي وتطبيق ادعائنا في الاستنان بسنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجب أن نسلّم لأمره على كلّ حال حتّى لو كان على خلاف رغباتنا ومزاجنا وميولنا العاطفية.

ولغرض تكميل هذا البحث نستعرض خلاصة لقصّة الغدير كما وردت في تفسير «نفحات القرآن» ....

واقعة الغدير

أدركنا من البحث الآنف بشكل إجمالي أن هذه الآية وعلى ضوء الشواهد التي لا تحصى قد نزلت بحقّ علي عليه‌السلام ، وانّ الروايات التي نُقلت في الكتب المعروفة لأهل السنّة ـ فضلاً عن كتب الشيعة ـ أكثر من أن يستطيع أحدٌ انكارها.

وبالاضافة إلى الروايات أعلاه ، فلدينا روايات اخرى تفيد بصريح القول : إنّ هذه الآية وردت أثناء واقعة الغدير وخطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التعريف بعلي عليه‌السلام على أنه الوصي والولي ، وعددها يربو على الروايات السابقة ، حتّى أنّ المحقّق الكبير العلّامة «الأميني» ينقل في كتاب الغدير ، حديث الغدير عن ١١٠ من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاسناد والوثائق الحية ، وكذلك عن ٨٤ من التابعين و ٣٦٠ من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.

إنّ كلّ من يلقي نظرةً على مجموعة هذه الأسانيد والوثائق يدرك بأنّ حديث الغدير من أكثر الروايات الإسلامية جزماً ، ومصداقاً واضحاً للحديث المتواتر ومن يشك في تواتره ، فعليه أن لا يؤمن بأيّ حديث متواتر.

وحيث إنّ الولوج في هذا البحث بنحوٍ واسعٍ يخرجنا عن اسلوب كتابة تفسير موضوعي ، فنكتفي بهذا القدر بشأن اسناد الرواية وشأن نزول هذه الآية ، ونتطرق إلى مضمون الرواية ، ونحيل الذين يريدون المزيد من المطالعة حول اسناد الرواية إلى الكتب التالية:

١ ـ كتاب الغدير ، ج ١.

٢ ـ إحقاق الحقّ ، تأليف العلّامة الكبير القاضي «نور الله الشوشتري» مع شرح مفصلٍ لآية الله النجفي ، ج ٢ و ٣ و ١٤ و ٢٠.


٣ ـ المراجعات للمرحوم السيّد «شرف الدين العاملي».

٤ ـ عبقات الأنوار للعالم الكبير «مير حامد الحسيني الهندي» (من الأفضل مراجعة خلاصة العبقات ، ج ٧ و ٨ و ٩).

٥ ـ دلائل الصدق ، تأليف العالم الكبير المرحوم «المظفر» ، ج ٢.

مضمون روايات الغدير

وهنا نأتي بقصّة الغدير بشكل مختصر كما يستفاد من مجموع الروايات أعلاه ، (وطبقاً فإن هذه الواقعة قد وردت في بعض الرويات بشكل مفصّل ومطوّل ، وفي بعضها بشكل مختصرٍ وقصير ، وفي بعضها اشير إلى جانبٍ من هذه القصة وفي البعض إلى جانب آخر ، ومنها جميعاً يستفاد ما يلي) :

في السنّة الأخيرة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقيمت مراسم حجة الوداع بكلّ جلال بمشاركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت الأفئدة تمتلئ بالمعنويات ولم تزل اللذة المعنوية لهذه العبادة العظيمة ينعكس إشعاعها في النفوس.

وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كان عددهم كثيراً للغاية لا تسعهم أنفسهم نتيجة لادراكهم هذا الفيض والسعادة العظيمة (١).

ولم يكن أهل المدينة وحدهم الذين يرافقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا السفر ، بل كان المسلمون من مختلف بقاع الجزيرة العربية برفقته صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل هذا الفخر التاريخي العظيم.

وكانت شمس الحجاز تضفي على الجبال والأودية حرارة لا تطاق ، إلّا أن حلاوة هذا السفر المعنوي النادر كانت تيسّر كلّ شيء ، وقد اقترب الظهر ، وأخذت منطقة الجحفة ، وصحراء «غدير خم» الجافة الرمضاء تبدو للعيان.

وهذا المكان يعدّ مفرق طرق لأهل الحجاز حيث يتشعب إلى أربعة طرق ، فطريق يتجه إلى الشمال نحو المدينة ، وطريق إلى الشرق نحو العراق ، وطريق إلى الغرب نحو مصر ، وطريق

__________________

(١) ذكر البعض ان عدد الذين كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ٩٠ ألفاً ، والبعض ١١٢ ألفاً ، وبعضٌ ١٢٠ ألفاً ، وبعضٌ ١٢٤ ألفاً.


إلى الجنوب نحو اليمن ، وهنا يجب أن تُطرح آخر المستجدات في هذا السفر ، ويتفرق المسلمون بعد استلامهم لآخر حكم ، وهو في واقع الأمر كان خط النهاية في الواجبات الناجحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كان ذلك في يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة ، وقد مضت عشرة أيّام على عيد الأضحى ، وفجأة صدر الأمر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الذين معه بالتوقف ، ونادى المسلمون بأعلى أصواتهم أصحابَهم الذين تقدّموا الركب بالتوقف والعودة ، وأمهلوا المتأخرين حتّى يصلوا ، وزالت الشمس وصدح صوت مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأذان : الله أكبر ، داعياً الناس إلى صلاة الظهر ، وسرعان ما استعد الناس للصلاة ، إلّا أن حرارة الجو كانت إلى الحدّ الذي اجبر البعض على أن يغطي أرجله بقسم من ازاره ويستر رأسه بالقسم الآخر ، وإلّا فإن حصى الصحراء وأشعة الشمس ستحرق أرجلهم ورءوسهم.

فلا خيمة في الصحراء ، ولا خضرة ، ولا نبات ، ولا شجرة ، سوى بعض الأشجار البرية الجرداء التي تقاوم حرارة الصحراء ، والتي لاذ بها البعض ، ووضعوا قطعة من القماش على إحداها وجعلوها ظلًّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أن الرياح اللاهبة تهب تحتها وتلفها بحرارة الشمس المحرقة.

وانتهت صلاة الظهر ، وعزم المسلمون على اللجوء إلى خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم ، بيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوعز لهم بالاستعداد لسماع بلاغ إلهي جديد يُوضَّح ضمن خطبة مفصلة ، ولم يكن بمقدور البعيدين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رؤية وجهه الملكوتي وسط زحام الناس ، لذا فقد صنعوا له منبراً من أربعة من أحداج الإبل ، فارتقاهُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي البداية حمد الله وأثنى عليه واستعاذ به ، ثمّ خاطب الناس قائلاً :

أيّها الناس : يوشك أن ادعى فأُجيب.

أنا مسئول ، وأنتم مسئولون.

فكيف تشهدون بحقّي؟

فصاح الناس : نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً ، ثمّ قال :

ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله إليكم ، وأن البعث حقّ ، وأن الله


يبعث من في القبور؟! فقالوا : نشهد بذلك ، قال : اللهمّ اشهد ، ثمّ قال :

أيّها الناس أتسمعوني؟ قالوا : نعم ، ثمّ عمّ السكوت الصحراء فلم يُسمع إلّا صوت الريح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانظروا ما ذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟

فقال رجل من بين القوم : ما هذا الثقلان يا رسول الله؟!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما الثقل الأكبر فهو كتاب الله حبل ممدود من الله إليكم ، طرفه بيد الله والطرف الآخر بأيديكم ، فلا تدعوه ، وأما الثقل الأصغر فهم عترتي وقد أخبرني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا.

ونظر الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يلتفت حوله ، وكأنه يبحث عن أحد ، ولما وقعت عيناه على علي عليه‌السلام التفت إليه وأخذ بيده ورفعها حتّى بان بياض إبطيهما ، وشاهدهما جميع القوم ، وعرفوا أنه ذلك الفارس المقدام ، وهنا ارتفع صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : أيُّهَا النّاسُ مَنْ أَوْلَى النّاسِ بِالمُؤمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟

قالوا : الله ورسوله أعلم ،

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين وأولى منهم بأنفسهم ، ثمّ قال : فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ ، وكرر هذا الكلام ثلاث مرّات ، وكما قال أرباب الحديث : انه كرره أربعاً ، ثمّ رفع رأسه نحو السماء ، وقال :

اللهمّ والِ مَنْ والاه وَعادِ مَنْ عاداهُ ، وَأَحِبّ مَنْ أَحَبَّهُ وَابْغِضْ مَنْ أبْغَضَهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَه وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَأَدِرِ الْحَقّ مَعَهُ حَيْثُ دارَ.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَلا فَلْيُبلّغ الشّاهِدُ الْغائِبَ.

هنا انتهت خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان العرق يتصبب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والجميع ، وما زال الناس لم يتفرقوا من ذلك المكان حتّى نزل عليه الوحي وقرأ هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

اللهُ أَكْبَرْ ، اللهُ أَكْبَرْ عَلَى اكْمالِ الدِّيْنِ وَاتْمامِ النِّعْمَة وَرِضَى الرَّبُّ بِرِسَالَتِي وَالْوِلايَةِ لِعَليٍّ مِنْ بَعْدي.


في هذه الأثناء عم الناس النشاط والحركة ، وأخذوا يهنئون عليّاً عليه‌السلام بهذا المقام ، وكان من الذين هنئوه ، أبو بكر وعمر حيث نطقا بهذه العبارة أمام أعين الحاضرين :

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ أَبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلايَ وَمَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ.

أثناء ذلك قال ابن عبّاس : «والله إنه عهد سيبقى في أعناقهم» ، واستاذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الشاعر المعروف «حسان بن ثابت» لينشد شعراً بهذه المناسبة ، ثمّ استهل قصيدته المعروفة :

يُنادِيْهِمْ يَوْمَ الْغَديرِ نَبيُّهُمْ

بِخُمٍّ وَاسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا

فَقالَ فَمَنْ مَوْلاكُمْ وَنَبيِّكُمْ؟

فَقالُوا وَلَمْ يَبْدُوا هُناكَ التَّعامِيا

الهُكَ مَوْلانا وَانْتَ نَبِيُّنا

وَلَمْ تَلْقِ مِنّا فِي الْوَلايَةِ عاصِيا

فَقالَ لَهُ قُمْ يا عَليّ فَإِنَّني

رَضيتُكَ مِنْ بَعْدي اماماً وَهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا وَلِيُّهُ

فَكُونُوا لَهُ اتْباعَ صِدْقٍ مُوالِيا

هُناكَ دَعا اللهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ

وَكُنْ لِلَّذي عادا عَلِيّاً مُعادِيا(١)

توضيحات

١ ـ معنى الولاية والمولى في حديث الغدير

لقد اطّلعنا بشكل إجمالي على حديث الغدير المتواتر ، والعبارة المشهورة التي جاءت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الكتب وهي : «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ» توضح الكثير من الحقائق وإن أصرّ كثيرٌ من كتّاب أهل السنّة على تفسير كلمة «المولى» هنا بمعنى «الصديق والمحبّ والناصر» ، لأنّ هذا أحد المعاني المعروفة ل «المولى».

ونحن نسلّم بأنّ إحدى معاني «المولى» الصديق والمحب والناصر ، إلّا أنّ ثمة قرائن عديدة تثبّت أنّ المولى في الحديث أعلاه تعني «الولي والمشرف والقائد» وهي كما يلي بإيجاز :

__________________

(١) روى هذا الشعر جماعة من كبار علماء السنّة منهم : الحافظ «أبو نعيم الاصفهاني» ، والحافظ «أبو سعيد السجستاني» ، و «الخوارزمي المالكي» ، والحافظ «أبو عبد الله المرزباني» ، و «الكنجي الشافعي» ، و «جلال الدين السيوطي» ، و «سبط بن الجوزي» ، و «صدر الدين الحموي».


١ ـ إن قضية محبة علي عليه‌السلام مع جميع المؤمنين لم تكن أمراً خفياً وسريّاً ومعقّداً ، بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والإيضاح ، وبحاجة إلى إيقاف ذلك الركب العظيم وسط الصحراء القاحلة الساخنة وإلقاء خطبة عليهم لأخذ الاقرار بالولاية له من ذلك الجمع.

فالقرآن يقول بصراحة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(١)

وفي موضع آخر يقول : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(٢)

والخلاصة : إنّ الاخوة الإسلامية ومودة المسلمين مع بعضهم من أكثر المسائل الإسلامية بداهة ، حيث كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام ، وطالما أكد عليها النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً ، بالاضافة إلى عدم كونها مسألة تحتاج إلى بيان بهذا الاسلوب الحاد في الآية ، وأن يشعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخطر من البوح بها (تأملوا جيداً).

٢ ـ إن عبارة «ألَستُ أوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» الواردة في الكثير من الروايات لا تتناسب أبداً مع بيان مودّة عادية ، بل انه يريد القول بأن تلك الأولوية والتصرف الذي لي تجاهكم وأنني إمامكم وقائدكم ، فإنه ثابت لعلي عليه‌السلام وأي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل فهو بعيد عن الإنصاف والواقعية ، لا سيّما مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «أنَا أوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ».

٣ ـ التهاني التي قدمها الناس لعلي عليه‌السلام في هذه الواقعة التاريخية ، لا سيّما التهاني التي قدمها أبو بكر وعمر ، إذ إنها تبرهن على أن القضية لم تكن سوى تعيين الخلافة التي يستحق التبريك والتهاني ، فالاعلان عن المودة الثابتة لجميع المسلمين بشكل عام لا يحتاج إلى تهنئة.

وجاء في مسند الإمام أحمد أن عمراً ، قال لعلي بعد خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة (٣).

ونقرأ في العبارة التي ذكرها الفخر الرازي في ذيل الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

__________________

(١) الحجرات : الآية ١٠.

(٢) التوبة : الآية ٧١.

(٣) مسند أحمد : ج ٤ ، ص ٢٨١ (على ضوء نقل الفضائل الخمسة : ج ١ ، ص ٤٣٢).


أن عمراً قال : «هَنيئاً لَكَ يَا بْنَ أبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ».

وبهذا فإن عمراً يعدُ علياً مولاه ومولى المؤمنين جميعاً.

وفي تاريخ بغداد جاءت الرواية بهذا الشكل :

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا ابْنَ أبي طالِبٍ! أَصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلى كُلِّ مُسْلِمٍ (١).

وجاء في «فيض القدير» ، و «الصواعق» ، أن أبا بكرٍ وعمراً باركا لعلي بالقول : «أَمْسَيْتَ يَا بْنَ أبي طالِبٍ مَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ» (٢).

ومن نافلة القول إن المودة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم ، وهذا لا ينسجم إلّا مع الولاية التي تعني الخلافة.

٤ ـ إن الشعر الذي نقلناه آنفاً عن «حسان بن ثابت» بذلك المضمون والمحتوى الرفيع ، وتلك العبارات الصريحة والجلية شاهد آخر على هذا الادعاء ، وتشير إلى هذه القضية بما فيه الكفاية (راجعوا تلك الأبيات مرّة اخرى).

٢ ـ سورة المعارج تؤيد حديث الغدير

روى كثيرٌ من المفسّرين ورواة الحديث في ذيل الآيات الاولى من سورة المعارج : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أنّ شأن النزول في هذه الآيات هو ما يلي :

إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عيّن علياً خليفة يوم غدير خم وقال بحقّة : «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاه» ، فما لبث أن انتشر الخبر ، فجاء «النعمان بن الحارث الفهري» ـ (وكان من المنافقين) (٣) ـ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لقد أمرتنا أن نشهد ان لا إله إلّا الله وأنك محمّد رسول الله ، فشهدنا ، ثمّ

__________________

(١) تاريخ بغداد : ج ٧ ، ص ٢٩٠.

(٢) فيض القدير : ج ٦ ، ص ٢١٧ ، الصواعق : ص ١٠٧.

(٣) جاء في بعض الروايات انه «الحارث بن النعمان» وفي بعضها «النضر بن الحارث».


أمرتنا بالجهاد والحجّ والصلاة والزكاة فقبلنا ، فلم ترض بكلّ ذلك ، حتّى أقمت هذا الفتى «مشيراً إلى عليّ عليه‌السلام خليفة لك ، وقلت : مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه فهل هذا منك أم من الله»؟ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «والله الذي لا معبود سواه انه من الله» ، فالتفت إليه «النعمان بن الحارث» ، وقال : «إلهي إن كان هذا حقّاً منك فأنزل علينا حجارة من السماء»!

وفجأةً نزلت حجارة من السماء على رأسه وقتلته ، فنزلت آية «سأل سائل بعذاب واقع».

ما ورد أعلاه هو ما ذكره صاحب «مجمع البيان» عن أبي القاسم الحسكاني (١) وقد نقل هذا المضمون الكثير من مفسّري أهل السنّة ورواة الأحاديث مع شيء من الاختلاف ، مثل : القرطبي في تفسيرهِ المعروف (٢) ، والآلوسي في تفسير روح المعاني (٣) ، وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره (٤).

وينقل العلّامة الأميني هذه الرواية في كتاب الغدير عن ثلاثين من علماء السنّة (مع ذكر المصدر ونص العبارة) ، منها : «السيرة الحلبية» ، «فرائد السمطين» للحمويني ، «درر السمطين» للشيخ محمّد الزرندي ، و «السراج المنير» لشمس الدين الشافعي ، «شرح الجامع الصغير» للسيوطي ، و «تفسير غريب القرآن» للحافظ أبو عبيد الهروي ، و «تفسير شفاء الصدور» لأبي بكر النقاش الموصلي ، وكتب اخرى.

وقد أورد بعض المفسّرين أو المحدّثين الذين يُقرّون بفضائل علي عليه‌السلام على مضض اشكالات مختلفة على شأن النزول هذا ، أهمها الإشكالات الأربعة التالية التي أوردها صاحب تفسير المنار وآخرون بعد ذكرهم للرواية أعلاه.

الإشكال الأوّل : إن سورة المعارج مكية ، ولا تتناسب مع واقعة غدير خم.

والجواب : إن كون السورة مكية لا يعتبر دليلاً على أن جميع آياتها نزلت في مكّة ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ و ١٠ ، ص ٣٥٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ، ص ٦٧٥٧.

(٣) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ٥٢.

(٤) وفقاً لنقل نور الأبصار للشبلنجي : ص ٧١.


فلدينا العديد من سور القرآن الكريم التي تدعى بالمكية وكتبت في جميع المصاحف على أنها مكية ، بيد أن عدداً من آياتها نزلت في المدينة ، وكذا العكس ، فعلى سبيل المثال : إن سورة العنكبوت من السور المكية ، والحال أن آياتها العشر الاولى نزلت في المدينة ، على ضوء قول الطبري في تفسيره المعروف ، والقرطبي في تفسيره وآخرين من العلماء (١).

أو سورة الكهف المعروفة بأنها مكية بينما نزلت آياتها السبع الاولى في المدينة استناداً لتفسير «القرطبي» ، و «الاتقان» للسيوطي ، وتفاسير عديدة (٢).

وهكذا فهنالك سورٌ عُدت بأنها مدنية بينما نزلت آيات منها في مكة ، مثل سورة «المجادلة» فهي مدنية كما هو معروف ، إلّا أن الآيات العشر الاولى منها نزلت في مكّة ، طبقاً لتصريح بعض المفسّرين (٣).

وموجز الكلام أنه توجد حالات كثيرة بأن تذكر سورة على أنها مكية أو مدنية ، ويكتب عليها في التفاسير والمصاحف هذا الاسم إلّا أن جانباً من آياتها قد نزل في موضع آخر.

وعليه فلا مانع أبداً من أن تكون سورة المعارج هكذا أيضاً.

الإشكال الثاني : جاء في الحديث أن الحارث بن النعمان جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأبطح ، ومعلوم أن الأبطح اسم لوادي في مكّة ، وهذا لا يتلائم مع نزول الآية بعد واقعة الغدير بين مكّة والمدينة.

الجواب : أوّلاً إن عبارة الأبطح وردت في بعض الروايات فقط لا في جميعها.

وثانياً : إن «الأبطح والبطحاء» تعني الأرض الرملية التي يجري فيها السيل ، وهنالك مناطق في المدينة وغيرها يطلق عليها اسم الأبطح أو البطحاء أيضاً ، واللطيف انه قد اشير إليها مراراً في الشعر العربي.

__________________

(١) تفسير الطبري : ج ٢٠ ، ص ٨٦ ، القرطبي : ج ١٣ ، ص ٣٢٣.

(٢) للمزيد من الاطلاع على الموضوع : راجعوا الجزء الأوّل من كتاب الغدير : ص ٣٥٦ و ٢٥٧.

(٣) تفسير أبي السعود الذي كتب على هامش تفسير الرازي : ج ٨ ، ص ١٤٨ ، والسراج المنير : ج ٤ ، ص ٣١٠.


منها الشعر المعروف الذي انشده «شهاب الدين» المشهور ب «حيص بيص» (١) في رثائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، عن لسانهم في مخاطبة قاتليهم :

مَلَكْنا فَكانَ الْعَفْوُ مِنّا سَجِيَّةً

فَلَمّا مَلَكْتُمْ سالَ بِالدَّمِ أَبْطَحُ

وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الاسارى وَطالَما

غَدَوْنا عَنِ الاسْرى نَعْفُوا وَنصْفَحُ (٢)

ومن الواضح أن مقاتل أهل البيت عليهم‌السلام كانت على الأغلب في العراق وكربلاء والكوفة والمدينة ، وما اريق دمٌ في ابطح مكّة أبداً ، نعم إن بعض أهل البيت عليهم‌السلام استشهدوا في واقعة «فخ» التي تبعد عن مكّة ما يقرب من فرسخين ، والحال أنّ الابطح يجاور مكّة.

وشاعرٌ آخر يرثي الإمام الحسين عليه‌السلام سيّد الشهداء قائلاً :

وَتَانُّ نَفْسي لَلرُّبُوعِ وَقَدْ غَدا

بَيْتَ النَّبِيِّ مُقَطَّعُ الاطْنابِ

بَيْتٌ لِآلِ المُصْطَفى فِي كَرْبَلا

ضَرَبُوهُ بَيْنَ أَباطِحٍ وَرَوابي(٣)

وثمة أشعار اخرى كثيرة ورد فيها تعبير «الابطح» أو «الاباطح» لا تعني منطقة خاصة في مكّة.

وملخّص الكلام ، صحيح أن أحد معاني الابطح هو بقعة في مكّة ، إلّا أنّ معنى ومفهوم ومصداق الابطح لا ينحصر بتلك البقعة.

٣ ـ كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها

إن بعض المفسّرين ومن أجل مجانبة الحقيقة الكامنة في هذه الآية توسّل بمبرر آخر

__________________

(١) اسمه «سعد بن محمّد بن سعد بن صيفي التميمي» ويلقّب ب «شهاب الدين» ومشهور بلقب «حيص بيص» ، وكان من فقهاء الشافعية وله معرفة واسعة بالعلوم ولكنه كان أعلم بالشعر والبلاغة ، أما السبب في شهرته بلقب «حيص بيص» فقد ذكروا أن الناس كانوا في عسر وضيق فقال : ما للناس في حيص وبيص؟ فعرف بهذه الكلمة ، توفي عام ٥٥٤ أو ٥٧٤ أو ٥٧٧ ه‍. ق ، ودفن في مقابر قريش. (ريحانة الأدب : ج ٢ ، ص ٩٧).

(٢). الغدير : ج ١ ، ص ٢٥٥.


وهو : إن سياق الآيات السابقة واللاحقة بشأن أهل الكتاب لا تنسجم مع قضية الولاية والخلافة والإمامة ، ولا تتناسب هذه الاثنينية في الخطاب مع بلاغة وفصاحة القرآن (١).

الجواب : إن كافة المطّلعين على كيفية جمع آيات القرآن يعرفون أن آيات القرآن نزلت تدريجياً وبمناسباتٍ مختلفة ، من هنا فكثيراً ما تتحدث سورةٌ ما حول قضايا مختلفة ، فجانبٌ منها يتحدث عن الغزوة الفلانية ، والجانب الآخر حول الحكم والتشريع الإسلامي الفلاني ، وجانبٌ يخاطب المنافقين ، وآخر يخاطب المؤمنين ، فمثلاً لو طالعنا سورة النور لوجدناها تحتوي على جوانب متعددة ، كلٌّ منها ناظرٌ إلى موضوعٍ ، بدءاً من التوحيد والمعاد ومروراً بتنفيذ حدّ الزنا وقصة «الافك» ، والقضايا المتعلّقة بالمنافقين ، والحجاب وغيرها ، (وكذلك سائر السور الطوال إلى حدٍّ ما) بالرغم من وجود ارتباط عام بين مجموعة أجزاء السورة.

والسرّ وراء هذا التنوع في المحتوى ما قيل من أن القرآن نزل تدريجياً وحسب المتطلبات والضرورات وفي مختلف الأحداث ، وليس على هيئة كتاب كلاسيكي أبداً بحيث يتابع موضوعاً معداً سلفاً ، على هذا الأساس لا مانع على الاطلاق من أن تنزل مقاطع من سورة المائدة بشأن أهل الكتاب ، ومقاطع منها في واقعة الغدير ، بالطبع فمن وجهة النظر العامة انهما يرتبطان معاً إذ انّ تعيين خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يترك أثره على قضايا أهل الكتاب أيضاً ، لأنه سيؤدي إلى يأسهم من انهيار الإسلام برحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

(١) تفسير المنار : ج ٦ ، ص ٤٦٦.

(٢) نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ١٧٥.



آية إكمال الدين ٢

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) «سورة المائدة / الآية ٣»

أبعاد البحث

تتحدّث هذه الآية الشريفة عن يوم عظيم جداً لدى المسلمين حيث يمثل نقطة عطف في تاريخ الإسلام ، وهو اليوم الذي عاش فيه أعداء الدين اليأس الكامل ، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية ورضى الله تعالى ، فأي يوم هو هذا اليوم المبارك؟

فيما يلي نجيب على هذا السؤال :

الشرح والتفسير :

يوم إكمال الدين والنعمة

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) فبالرغم من أنّ أعداء الإسلام والكفّار المعاندين لم يتوانوا في التصدي للدعوة السماوية منذ بدايتها وإلى آخر أيّام حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبوسائل مختلفة ، وفي كلّ مرّة كانوا يهزمون ويولّون الأدبار ولكنهم مع ذلك لم يفقدوا الأمل في الانتصار على الإسلام والمسلمين ، ولكن عند نزول هذه الآية الشريفة ندرك جيداً وقوع حادثة مهمة بحيث إنّ هؤلاء الأعداء لم ينهزموا فقط بل فقدوا أملهم بالنصر نهائياً.


وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الكفّار والمشركين قد تملّكتهم حالة من اليأس المطبق في تحقيق النصر على هذه الدعوة الجديدة.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) فمع هذا النصر الكبير الذي حصل لكم في هذا اليوم فلا ينبغي لكم بعد ذلك أن تعيشوا حالة الخوف والخشية من الأعداء لأنهم سوف لا يشكلون خطراً عليكم إطلاقاً بل عليكم أن تتحركوا في امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى من موقع الخشية لله والتقوى لأنّ الخطر الأساس في هذه المرحلة يتمثل في الأهواء والشهوات والابتعاد عن خط الطاعة والتقوى والمسئولية.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ففي هذا اليوم العظيم والمهم أكمل الله لكم دينكم وأتم نعمته عليكم.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) إنّ عظمة هذا اليوم وأهمية هذه الحادثة إلى درجة بحيث إنّ الله عزوجل رضى لكم الدين الإسلامي إلى الأبد.

أيّ يوم هو ذلك اليوم؟

إن اليوم الذي تتحدث عنه الآية الشريفة له خصائص مهمة أربع :

١ ـ إن هذا اليوم هو اليوم الذي شعر فيه الكفّار والمشركون باليأس الكامل.

٢ ـ اليوم الذي أكمل الله لكم الدين.

٣ ـ اليوم الذي أتم الله تعالى نعمته على جميع المسلمين.

٤ ـ اليوم الذي رضى به الله تعالى أن يكون الإسلام ديناً خالداً لجميع الناس فأيّ يوم هذا اليوم المبارك الذي يتمتع بهذه الخصوصيات الأربعة؟

وللإجابة على هذا السؤال يمكننا اختيار طريقين :

الطريق الأوّل : التأمل والتدبّر في مضمون الآية الشريفة نفسها ومطالعة ما يمكن استيحاؤه من أجوائها بغض النظر عن الروايات والأحاديث الشريفة الواردة في تفسير هذه الآية وبغضّ النظر كذلك عن آراء المفسّرين وعلماء الإسلام وسائر العلائم والقرائن الاخرى التي تحيط بهذه الآية الشريفة.


الطريق الثاني : تفسير الآية الشريفة بالاستعانة بالروايات الواردة بشأن النزول وكذلك آراء ونظريات المفسّرين وعلماء الإسلام.

الطريق الأوّل : تفسير الآية بدون الاستعانة بالقرائن الخارجية

نتساءل مع أيّ حادثة من الحوادث التاريخية في زمن النزول يمكن تطبيق هذه الآية الشريفة؟

وفي مقام هذا الجواب على هذا السؤال فالفخر الرازي له رأيان والمرحوم الطبرسي ذكر رأياً ثالثاً ، ونحن بالتوكل على الله تعالى وبالاستعانة بالعقل والمنطق والابتعاد عن التعصّب ولغة الاحساسات والابتعاد عن كلّ ما يخلّ بوحدة المسلمين نبحث هذه الآراء والنظريات الثلاث بدقّة :

النظرية الاولى : وهي إحدى النظريات التي ذكرها الفخر الرازي في تفسيره للآية الشريفة ، وهي أنّ كلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية لم ترد بمعناها الحقيقي بل وردت بالمعنى المجازي ، أي أنّ كلمة «اليوم» هنا تعني «المرحلة» أو البرهة من الزمان لا مقطع خاص منه بما يحكي عن ليلة ونهار واحد.

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ اليوم هنا لا يقصد به يوم معين أو حادثة خاصّة بل يشير إلى بداية مرحلة تحكي عن عظمة الإسلام ويأس الأعداء والكفّار من تحقيق النصر على هذه الدعوة السماوية ، لا سيّما وأن هذا الاستعمال المجازي لكلمة «اليوم» هو استعمال متداول بين الناس كما يقال مثلاً «كنت بالأمس شاباً واليوم أصبحت شيخاً» أي أنني كنت في مرحلة سابقة من عمري شاباً وفي هذا الزمان أصبحت شيخاً ، فلا تعني كلمة اليوم أو الأمس يوماً معيناً من الأيّام الزمانية.

ولكن الجواب على هذه النظرية واضح لأنّ المعنى المجازي يحتاج إلى قرينة لصرف الاستعمال عن المعنى الحقيقي ، فما هي هذه القرينة الواضحة التي استند عليها الفخر الرازي للقول بالمعنى المجازي؟

النظرية الثانية : أن المراد بكلمة اليوم في الآية الشريفة هو المعنى الحقيقي ، أي هو يوم


خاصّ ومعين وهو «يوم عرفة» الثامن من شهر ذي القعدة ، في حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة.

ولكن هذه النظرية بدورها لا تتضمن إقناعاً كافياً لأنّ يوم عرفة في السنة العاشرة للهجرة لا يختلف عن أيّام عرفة الاخرى في السنة التاسعة والثامنة للهجرة ، ولو لم تحدث في هذا اليوم حادثة خاصة فكيف ذكرته الآية الشريفة بلغة التعظيم والتبجيل؟

والخلاصة هي أنّ هذه النظرية غير مقبولة وغير منطقية وبالتالي فإنّ كلا النظريتين للفخر الرازي لا تعيننا في استجلاء مضمون الآية الشريفة واكتشاف السر المستودع فيها.

النظرية الثالثة : وهي التي ذكرها الطبرسي الذي يعد من أساطين المفسّرين لدى الشيعة ، فإنّه بعد أن نقل القولين السابقين للفخر الرازي وردّهما ذكر تفسير أهل البيت في مورد هذه الآية الشريفة الذي هو تفسير جميع مفسّري الشيعة وعلمائهم.

يرى أصحاب هذه النظرية أن المراد ب «اليوم» في هذه الآية الكريمة الذي تحقق فيه يأس الكفّار واستوجب رضى الله تعالى وكمل فيه الدين وتمت فيه النعمة هو اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة أي يوم عيد الغدير ، وهو اليوم الذي نصّب فيه رسول الله الإمام عليّ خليفة له على المسلمين وأعلن فيه خلافته وولايته بصورة رسمية.

سؤال : هل هذه النظرية تتطابق مع مضمون الآية الشريفة؟

الجواب : إذا نظرنا بعين الإنصاف إلى هذه الآية الشريفة وابتعدنا عن المسبوقات الفكرية والرواسب التراثية لرأينا الآية الشريفة تنطبق تماماً على واقعة الغدير لأنها :

أوّلاً : لأنّ أعداء الإسلام بعد أن فشلوا في جميع مؤامراتهم وانهزموا في حروبهم ضد الإسلام والمسلمين وفشلت خططهم في بثّ التفرقة والاختلاف في صفوف المسلمين فإنّهم لم يبق لهم سوى شيء واحد يحيي أملهم في الانتصار والتغلب على هذا الدين الجديد ، وهو أن النبي الأكرم بعد رحيله من هذه الدنيا وخاصّة مع أخذ بالنظر الاعتبار أنّه لم يكن له ولد يخلفه في أمر الدعوة واستمرارية الرسالة ولم يعيّن لحد الآن خليفة له من بعده فيمكنهم والحال هذه أن يسددوا ضربة قاصمة للإسلام والدعوة السماوية بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ،


ولكنّهم عند ما شاهدوا أنّ النبي الأكرم قد جمع المسلمين في صحراء غدير خم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة في السنة العاشرة للهجرة واختار خليفة له على المسلمين وهو أعلمهم وأقدرهم في تدبير امور المجتمع الإسلامي فإنّ أملهم هذا قد تبدّل إلى يأس كامل ، وتبخرت حينذاك طموحاتهم وتمنياتهم وأغلقت فيه النافذة الوحيدة للأمل لديهم فيئسوا من هزيمة الإسلام إلى الأبد.

ثانياً : مع انتخاب الإمام علي عليه‌السلام خليفة ووصياً للرسول فإنّ النبوة لن تنقطع بل استمرت في سيرها التكاملي لأن الإمامة هي تكميل للنبوة وبالتالي فالإمامة هي السبب في كمال الدين ، وعلى هذا الأساس فإن الله تعالى قد أكمل دينه بنصبه الإمام علي خليفة على المسلمين وهو الشخصية المتميزة من بين المسلمين بالعلم والقدرة والتقوى والفضيلة بما لا يدانيه أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثالثاً : إن النعم الإلهية قد تمت على المسلمين بنصب الإمام علي خليفة وإماماً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

رابعاً : إنّ الإسلام بلا شك سوف لا يكون ديناً عالمياً وشمولياً وخاتم الأديان بدون عنصر الإمامة ، لأن الدين الذي يعتبر نفسه خاتم الأديان يجب أن يتضمن إجابات كافية على حاجات الناس المتكثرة والمتوالية في جميع الأزمان ، وهذا المعنى لا يتسنى من دون إمام معصوم في كلّ زمان من الأزمنة.

والنتيجة هي أن تفسير الآية الشريفة بواقعة الغدير هو التفسير الوحيد والمقبول من جميع الجهات.

المراد من إكمال الدين

وقد ذكر المفسّرون في تفسير هذا المقطع من الآية الشريفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) ثلاث نظريات :

١ ـ إن المراد من «الدين» هو القوانين ، أي أن ذلك اليوم كملت فيه قوانين الإسلام فلا يوجد في الإسلام خلأ قانوني وفراغ تشريعي بعد الآن.


ولكنّ الجواب على هذه النظرية يمكن أن يثير سؤال وهو :

ما هذا القانون المهم أو الحادثة المهمة التي وقعت في ذلك اليوم وأدّت إلى تكميل القوانين الإلهية والتشريعات السماوية؟

وفي الجواب على هذا السؤال يكمن مضمون الآية الشريفة ومدلولها.

٢ ـ ذهب البعض إلى أن المقصود من كلمة «الدين» في الآية أعلاه هو «الحجّ» أي أنّ الله تعالى قد أكمل حجّ المسلمين في ذلك اليوم العظيم.

ولكن هل أنّ الدين يستعمل بمعنى الحجّ واقعاً ، أو أنّ الدين هو مجموعة العقائد والأعمال والعبادات التي يشكل الحجّ أحدها؟

من الواضح أن احتمال الثاني هو الصحيح ، وعليه فإن تفسير الدين بمعنى الحجّ هو تفسير غير مقبول ولا يقوم على دليل متين.

٣ ـ إنّ تحقق مضمون الآية الشريفة في إكمال الدين وإتمام النعمة في هذا اليوم بأنّ الله تعالى نصر فيه المسلمين على أعدائهم وخلّصهم من شرّ هؤلاء الأعداء.

ولكن هل يصحّ هذا الكلام؟ فمن هم الأعداء الذين غلبوا وشعروا باليأس؟ فبالنسبة إلى المشركين فقد استسلموا ودخلوا في الإسلام في السنة الثامنة للهجرة عند فتح مكة ، وبالنسبة إلى يهود المدينة وخيبر وقبائل بني النظير وبني قينقاع وبني قريظة فإنّهم قد هزموا في سنوات سابقة في معركة خيبر والأحزاب فتركوا الجزيرة العربية وخرجوا إلى خارج الحكومة الإسلامية ، وأمّا بالنسبة إلى النصارى فقد أمضوا معاهدة الصلح مع المسلمين ، وعليه فإن جميع أعداء الإسلام قد استسلموا قبل السنة العاشرة للهجرة.

نعم ، بقي خطر المنافقين الذين يمثّلون أخطر أعداء الإسلام حيث لا زال خطرهم ماثلاً أمام المسلمين ، ولكن كيف يمكن القول بأنهم قد انهزموا وأصابهم اليأس؟

هنا نجد أن هذا السؤال بقي بلا جواب مقنع كما هو حال السؤال المطروح في النظرية الاولى والذي لم يتقدم أصحاب هذه النظرية بالجواب على هذا السؤال.

أما تفسير علماء الشيعة فكما تقدّم آنفاً فإنّه يجيب على جميع الأسئلة ويلقي ضوءاً خاصّاً على مفهوم الآية وأجواءها.


أجل! فإنّ واقعة غدير خم ومسألة الولاية وخلافة أمير المؤمنين تعتبر أفضل تفسير بل هي التفسير الصحيح لهذه الآية الشريفة ، لأنّ مع وقوع هذه الحادثة المهمة فإنّ آمال المنافقين وأعداء الإسلام قد تبددت وتبدلت إلى يأس.

اعتراف جذّاب من الفخر الرازي

يقول الفخر الرازي المفسّر السنّي المعروف :

«قال أصحاب الآثار انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعمر بعد نزولها إلّا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ (١) ولا تبديل البتّة (٢)».

وعلى وفق مقولة الفخر الرازي هذه فإنّ الآية الشريفة قد نزلت قبل رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بواحد وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ، وعلى هذا الأساس فيمكن حدس وقت نزول الآية الشريفة ، ولإيضاح هذا المطلب يلزمنا التعرف على زمن رحلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ

__________________

(١) وفي هذه الأيّام نرى بعض الجهال والمغرضين يطرحون شبهات مختلفة ، وأحدها أن الإسلام لا يتحدد بما وصل إلينا من النصوص الدينية في تراثنا الديني بل لا بدّ من الاستعانة بالعقل والفكر لانتاج المزيد من القوانين الشرعية في دائرة الدين وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان قد عاش أكثر ممّا عاش فإن الوحي سيرفده بقوانين وأحكام جديدة أكثر ممّا هو موجود الآن ، وبالتالي فإن الإسلام ليس ديناً كاملاً بل يجب العمل على إكماله.

الجواب : ويتّضح الجواب عن هذه الشبهة والمغالطة بالرجوع إلى ما ذكره الفخر الرازي في هذا المجال لأن النبي حسب الرواية المذكورة عاش بعد نزول آية إكمال الدين ثمانين يوماً ونيفاً ، ولو كانت هناك قوانين شرعية لم تصل إليه بعد لنزل الوحي بها عليه في هذه المدّة ، وهذا يعني عدم وجود قوانين إلهية وآيات قرآنية لم تنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن مهمات المسائل والتعاليم السماوية قد بُيّنت بحيث لو فرض أن النبي كان يعيش أكثر من المدّة المقرّرة ما كان سيزداد شيئاً على قوانين الإسلام.

وهنا لا بدّ من إظهار التأسف على أن بعض الأشخاص غير المطلعين على المصادر الدينية يبدون برأيهم من دون تحقيق ، فلما ذا يكون المرجع في كلّ علم وفن هم أهل الخبرة والمتخصصين في ذلك العلم والفن ويكون الحقّ معهم فيما يقولون وليس كذلك في المسائل الدينية حيث نرى أن كل من هبّ ودبّ يدلي بدلوه ويصرّح برأيه في هذا الميدان؟!

(٢) التفسير الكبير : ج ١١ ، ص ١٣٩.


أهل السنّة يرون أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ولد في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل واتفق أنّ وفاته كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل أيضاً.

وبالطبع فإنّ بعض الشيعة أيّد هذا الرأي ومنهم الكليني الذي يرى أن تاريخ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل بالرغم من أنّه يرى أن ولادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في اليوم السابع عشر من ربيع الأوّل طبقاً لما هو المشهور من علماء الشيعة ، وعلى هذا الأساس لا بدّ من الرجوع واحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً من الثاني عشر من ربيع الأوّل ، ومع الالتفات إلى أن الأشهر القمرية لا تكون ثلاثين يوماً على التوالي في ثلاثة أشهر وكذلك لا تكون تسعة وعشرين يوماً على ثلاثة أشهر متوالية ينبغي أن يكون هناك شهران كاملان وبينهما شهر واحد منه تسعة وعشرين يوماً ، أو بالعكس بأن يكون هناك شهران لتسعة وعشرين يوماً وشهر واحد لثلاثين يوماً.

فلو أخذنا بنظر الاعتبار شهر محرم وصفر وفرضنا أنّ كلّ واحد منهما تسعة وعشرين يوماً ، فالمجموع يكون ثمانية وخمسين يوماً ، ومع إضافة أثنى عشر يوماً من شهر ربيع الأوّل يكون المجموع سبعين يوماً ، وبالالتفات إلى أن شهر ذي الحجّة لا بدّ وأن يكون ثلاثين يوماً فلو توغلنا فيه اثنى عشر يوماً ليكون المجموع اثنين وثمانين يوماً يصادف هذا اليوم هو يوم عيد الغدير الثامن عشر من ذي الحجّة ، وعلى هذا الأساس وطبقاً لنظرية علماء السنّة فإنّ الآية الشريفة أعلاه تتعلّق بيوم الغدير لا بيوم عرفة.

وإذا كان المعيار هو واحداً وثمانين يوماً فإنّه يتفق مع اليوم الذي يتلو يوم الغدير لا يوم عرفة حيث تفصله مع يوم عرفة فاصلة كبيرة.

وإذا أخذنا شهر محرم وصفر لكلّ واحد منهما ثلاثون يوماً وشهر ذي الحجّة تسعة وعشرين يوماً فطبقاً لعدد اثنين وثمانين يوماً يكون اليوم التاسع عشر من ذي الحجّة هو المراد وطبقاً لواحد وثمانين يوماً فإنّ يوم عشرين ذي الحجّة يكون هو زمان الآية الشريفة ، أي أن الآية الشريفة نزلت بعد يوم واحد أو يومين بعد واقعة الغدير ونصب الإمام علي عليه‌السلام خليفة على المسلمين وناظرة إلى هذه الحادثة التاريخية المهمة ولا ترتبط إطلاقاً بيوم عرفة.

والنتيجة هي أنّ القرائن المختلفة التي تحف بهذه الآية الشريفة تشير إلى أن هذه الآية


تتعلّق بواقعة الغدير وأنها نزلت في شأن خلافة أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام.

سؤال : إنّ بداية الآية الثالثة من سورة المائدة تتحدّث عن اللحوم المحرمة (١) ، وفي آخرها تتحدّث عن الاضطرار والضرورة وأحكامها (٢) ، وفيما بينهما تتحدّث الآية عن ولاية وإمامة أمير المؤمنين ، فأيّ تناسب وانسجام بين مسألة الولاية والإمامة وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع مسألة اللحوم المحرمة وحكم الاضطرار والضرورة؟ ألا يكون هذا شاهداً على أن العبارة مورد البحث في هذه الآية لا يرتبط بمسألة الولاية بل يشير إلى مطلب آخر؟

الجواب : إنّ آيات القرآن الكريم لم ترد بصورة كتاب منظم كما هو الحال في الكتب المتعارفة الكلاسيكية بل نزلت متفرقة وعلى فترات مختلفة وقد تكون آيات سورة واحدة قد نزلت في أوقات متباينة وكان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي بكتابة كلّ آية في سورة معيّنة ، وعلى هذا الأساس فيمكن أن يكون صدر الآية مورد البحث الذي يتحدّث عن الأسئلة التي كان المسلمون يسألون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها وعن اللحوم المحرمة قد نزل قبل واقعة الغدير ، وبعد مدّة حدثت واقعة الغدير ونزلت الآية محل البحث وذكرها كتّاب الوحي بعد آية تحريم اللحوم ، ثمّ حدثت مسألة الاضطرار أو حدث مصداق من مصاديقها وحكم هذا الاضطرار ، لذلك نجد أن ذيل الآية الشريفة يتضمن هذا الحكم الشرعي وقد كتبه كتّاب الوحي بعد الحديث عن واقعة الغدير المذكور في وسط الآية ، وبملاحظة النكتة أعلاه فليس بالضرورة أن يكون هناك انسجاماً معيناً في سياق الآية الشريفة.

ومع الالتفات إلى هذه الملاحظة سوف تنحل كثير من الشبهات والإشكالات المتعلّقة بآيات القرآن الكريم.

سؤال آخر : رأينا فيما سبق أن الآية الثالثة من سورة المائدة هي آخر الآيات التي نزلت على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع نزول هذه الآية يكون الدين قد كمل وتكون الشريعة

__________________

(١) والآية المذكورة هي : «حرّمت عليكم الميتة والدَّم ولحم الخنزير وما اهلَّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردِّية والنَّطيحة وما أكل السَّبع إلّا ما ذكَّيتم وما ذبح على النُّصب وأن تستقسموا بالأزلَام ذلكم فسق».

(٢) يتحدث في نهاية الآية محل البحث من قوله تعالى : «فمن اضطرَّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإنّ الله غفور رحيم».


الإسلامية بمجموع مقرراتها وقوانينها قد نزلت بصورة كاملة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا كان كذلك إذن فلما ذا ورد بعد هذه الآية مورد البحث وفي ذيلها حكم الاضطرار والضرورة؟ أي إذا كانت آية إكمال الدين هي آخر آية وتخبرنا عن إكمال الدين والشريعة ، إذن فما ذا يعني هذا القانون الجديد الذي نزل بعدها؟

الجواب : يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بصورتين :

الجواب الأوّل : إنّ مسألة الاضطرار في زمان القحط والذي ورد في هذه الآية الشريفة لا يورد حكماً جديداً بل هو حكم تأكيدي لما سبق من الأحكام الشرعية ، لأنّ هذا الحكم قد ورد قبل ذلك في ثلاث آيات من القرآن الكريم :

الف) نقرأ في آية ١٤٥ من سورة الأنعام وهي سورة مكية قوله تعالى :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

فكما تلاحظون أنّ هذه الآية الشريفة قد نزلت في مكّة قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة وتبين حكم الاضطرار أيضاً.

ب) نقرأ في الآية ١١٥ من سورة النحل التي نزل قسم منها في مكّة المكرّمة وقسم منها في المدينة قوله تعالى :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ففي هذه الآية الشريفة التي نزلت قبل الآية مورد البحث قد ذكر فيها حكم الاضطرار.

ج) ونقرأ في الآية ١٧٣ من سورة البقرة والتي نزلت في أوائل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة الحكم الشرعي للاضطرار أيضاً وهي تشبه إلى حدّ كبير الآية التي ذكرناها آنفاً مع تفاوت يسير ولذلك فلا نكررها.

النتيجة : هي أن الحكم الشرعي للاضطرار قد ورد في القرآن الكريم قبل هذه الآية


مورد البحث في ثلاث موارد اخرى (١) ، وعليه فإنّ الحكم الشرعي في الآية المذكورة لا يعدّ حكماً جديداً ولا يتنافى مع آية إكمال الدين حيث لم ينزل أيّ قانون جديد بعد هذه الآية على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الجواب الثاني : إن آيات القرآن الكريم لم تجمع على حسب ترتيب نزولها بل طبقاً للأمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى سبيل المثال فالآية ٦٧ من سورة المائدة تقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت قبل الآية مورد البحث «الآية الثالثة من سورة المائدة».

ولكنّها عند تدوينها قد كتبت بعد تلك الآية ، وعليه فلا مانع أن يكون حكم الاضطرار قد نزل قبل آية إكمال الدين ولكن في حال تدوينها قد كتبت بعد الآية الشريفة.

الطريق الثاني : تفسير الآية في ضوء الروايات الشريفة

إن الأحاديث والروايات الشريفة الواردة في شأن نزول هذه الآية الشريفة كثيرة ، وقد ذكر العلّامة الأميني في كتابه القيّم «الغدير» (٢) هذه الروايات مع الأبحاث المتعلّقة بها بصورة واسعة ، فقد أورد حديث الغدير في هذا الكتاب من مائة وعشرة راوٍ من أصحاب النبي مضافاً إلى ذلك فقد نقله من ثمانين شخصاً من التابعين (٣) ، وقد ذكر العلّامة الخبير الأحاديث

__________________

(١) إن مضمون الآيات الكريمة الأربع في بيان حكم الاضطرار هو أن الإنسان يمكنه أن يتناول من هذه اللحوم المحرّمة عند الضرورة بمقدار رفع الحاجة والاضطرار ، وطبعاً فهذا الحكم قليل المصاديق في العصر الحاضر ، ولكن بالنسبة إلى السفر إلى البلاد الأجنبية حيث لا يوجد هناك لحم مذبوح بالطريقة الشرعية ، يواجه بعض الأشخاص حرجاً فيما لو انقطعوا عن تناول اللحوم وتكون صحتهم البدنية مهددة. فهنا يجوز لهم تناول مقدار من هذه اللحوم من باب الاضطرار ، ولكن بمقدار رفع هذا الاضطرار فقط لا أكثر.

(٢) بالرغم من وجود كتب ومصادر غير الغدير تذكر هذه الواقعة مثل : عبقات الأنوار ، المراجعات ، إحقاق الحقّ وغيرها ، إلّا أنها لا تصل إلى مستوى كتاب الغدير لأن العلّامة الأميني أكثر دقّة وأجود تنظيماً.

(٣) الفرق بين «الصحابة» و «التابعين» أن الصحابة رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا يعيشون في زمانه ، وأما التابعين فانهم لم يشاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يعيشوا في زمانه بل عاشوا في زمن الصحابة.


المتعلّقة بهذه الحادثة التاريخية من ثلاث مائة وستين من المصادر الروائية والتاريخية لدى المسلمين وبعضها من مصادر أهل السنّة والبعض الآخر من مصادر الشيعة ، ولكنّ الملاحظة المهمة هنا هي أنّ جميع هذه الروايات التي تتحدّث عن واقعة الغدير العظيمة لا ترتبط ببحثنا هذا بل الروايات التي تتحدّث عن نزول هذه الآية الشريفة هي التي ترتبط ببحثنا ، ولحسن الحظّ أنّ عدد هذه الروايات ليس بالقليل فقد ذكر المحقّق العلّامة الأميني في كتابه المذكور ستة عشر رواية في هذا المجال (١) ، ونحن نشير إلى بعضها فيما يلي :

١ ـ ما أورده السيوطي وهو من علماء أهل السنّة وكان يعيش في مصر ويعدّ من كبار علماء أهل السنّة ، فقد ذكر هذه الرواية في كتابه :

«يقول أبو سعيد الخدري :

لَمَّا نَصَبَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله عَلِيّاً عليه‌السلام يَوْمَ غَديرِ خُمٍّ فَنادَى لَهُ بِالولايَةِ ، هَبَطَ جَبْرَئيلُ بِهذِهِ الآيَةِ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...)(٢)».

وطبقاً لهذه الرواية الواردة في كتب أهل السنّة يكون المراد من كلمة «اليوم» في الآية الشريفة هو يوم الغدير ، والآية مورد البحث تتحدّث عن ولاية وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ وقد أورد هذا العالم السنّي رواية اخرى عن أبي هريرة الراوي المقبول لدى أهل السنّة. «يقول أبو هريرة :

لَمّا كان يَوْمَ غَديرِ خُمٍّ وَهُوَ يَوْمُ ثَماني عَشَرَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ ، قَالَ النَّبِيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ...)(٣)».

وهذه الرواية أيضاً تدلّ بوضوح على المطلوب.

٣ ـ وروى الخطيب البغدادي وهو أحد علماء أهل السنّة في القرن الخامس (٤) الهجري في

__________________

(١) الغدير في الكتاب والسنّة : ج ١ ، ص ٢٣٠.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٢ ص ٢٥٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) بُذلت عناية خاصة بأحاديث الغدير في القرن الخامس الهجري ، ولهذا تمّ تأليف كتب متعددة في هذا القرن تختص بهذه الواقعة.


كتابه المعروف «تاريخ بغداد» نقلاً عن أبي هريرة حيث قال :

قَالَ رَسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «مَنْ صامَ يَوْمَ ثَمانَ عَشَرَةَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ كُتِبَ لَهُ صِيامُ سِتّينَ شَهْراً» (١) وَهُوَ يَوْمُ غَديرِ خُمٍّ لَمّا أَخَذَ النَّبِيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أبي طالِب فَقَالَ : «أَلَسْتُ وَلِيَ الْمُؤْمِنِينَ» قَالُوا : بَلى يا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ كُنْتُ مَولاهُ ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ خَطّاب (٢) : بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ أَبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلاى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ، فَأنْزَلَ اللهُ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...)(٣)

٤ ـ وذكر الحاكم الحسكاني وهو من علماء القرن الخامس ومن علماء أهل السنّة روايات صريحة في هذا المجال في كتابه ، ولكننا نصرف النظر عن ذكرها هنا طلباً للاختصار (٤).

٥ ـ وذكر أبو حافظ النعيم الاصفهاني في كتابه «ما نزل من القرآن في عليّ» عن الصحابي المعروف أبي سعيد الخدري أنّ النبي الأكرم نصب في يوم غدير خم علي بن أبي طالب وصياً وخليفة له وقبل أن يتفرّق الناس في غدير خم نزلت الآية الشريفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ...) وهنا قال :

اللهُ أَكْبَرُ عَلى اكْمالِ الدّينِ واتْمامِ النّعْمَةِ وَرِضَى الرَّبِّ بِرِسالَتي وَبِالْوِلايَةِ لِعَلِيٍّ عليه‌السلام مِنْ بَعْدي ، ثُمَّ قال : مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعِليٌّ مَوْلاهُ ، اللهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عادَاهُ وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ (٥).

__________________

(١) من الواضح أن السبب في فضيلة الصيام في هذا اليوم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة إنما هو من أجل الشكر على هذه النعمة العظيمة ، وهذا يعني وقوع حادثة عظيمة في هذا اليوم ، وإلّا فمن البعيد أن يترتب كلّ هذا الثواب العظيم على صوم هذا اليوم.

(٢) من العجيب جدّاً أن عمر بن الخطاب الذي أسس الانحراف عن خط الولاية فهم من كلمة الولي في خطبة الغدير معنى الرئاسة والزعامة لأنه قال : «أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ...» فالصداقة والمحبة لم تكن بالشيء الجديد بين علي وعمر وباقي المسلمين ، ولكن اتباع عمر الذين هم أعلم من عمر قطعاً تأوّلوا هذه الكلمة بمعنى آخر تعصباً وعناداً.

(٣) تاريخ بغداد : ج ٨ ، ص ٢٩٠.

(٤) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ١٥٧.

(٥) التفسير الأمثل : ذيل الآية الشريفة.


والنتيجة هي أن الروايات التي وردت في هذا المجال توحي بصورة جليّة أنّ آية إكمال الدين نزلت في واقعة الغدير وتدلّ بوضوح على إمامة وخلافة الإمام عليّ عليه‌السلام.

كلام الآلوسي العجيب

وعلى رغم القرائن والشواهد البيّنة في هذه الآية الشريفة «والتي سبق ذكرها» والروايات المتعددة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة فإنّ بعض المحدّثين وبسبب التعصّب والعناد قد فسّروا الآية الشريفة وفقاً لميولهم النفسانية وخرجوا عن منهج البحث المنطقي ، ومن هؤلاء «الآلوسي» المفسّر السنّي المعروف وكاتب تفسير «روح المعاني» الكبير فقد ذكر في تفسير الآية ٦٧ من سورة المائدة عن واقعة الغدير وقال :

«فقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه وصاغ الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة الكثير من المحدّثين ، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين الصحيح والضعيف ، وكذلك الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة (ولكننا نقبل من الأحاديث التي ذكرها إلّا ما كان لا يتحدث عن خلافة علي)» (١).

وهذا الكلام يثير العجب والحيرة لدى كلّ إنسان منصف.

فهل يمكننا الإعراض عن كتاب بأجمعه بسبب وجود بعض الأحاديث الضعيفة وغير معتبرة فيه؟

ألا توجد روايات ضعيفة وأحاديث غير معتبرة في المصادر الحديثية لأهل السنّة؟

هل يصحّ أن ترفض جميع هذه المصادر بهذه الذريعة الواهية؟

الإنصاف أن هذا الكلام هو كلام مضحك ولكن ما هو أسوأ منه هو كلامه عن روايات ابن عساكر الذي يحكي عن منتهى العناد والتعصّب والعداوة مع الحقّ والحقيقة وأهل البيت عليهم‌السلام ، ففي أيّ مكان من العالم يقول أحد الأشخاص : إنني أقبل فقط كلّ ما يتفق مع ميولي وهوى نفسي ولا أقبل ما يخالف ذلك؟

__________________

(١) روح المعاني : ج ٦ ، ص ١٩٥.


هل يقبل هذا الكلام من الإنسان العادي فكيف يقبل من عالم كبير مثل الآلوسي؟

ولعلّ القارئ العزيز يتعجب كثيراً ويتساءل أن شخصاً كالآلوسي كيف يتحدّث بمثل هذا الحديث الضعيف والكلام الواهي؟ ولكن في مقام الجواب نقول إن كلّ إنسان يقف في مقام القضاء ولا يتجنب المسبوقات الفكرية والرسوبات الذهنية فإنّه قد يقع بمثل هذا المصير.

توصية الآية الشريفة

١ ـ الولاية تبعث على يأس الأعداء

إذا أردنا أن يعيش الأعداء اليأس فعلينا بالتمسّك بالولاية وإحياءها لأنّ الولاية كما أدّت في ذلك اليوم إلى بث اليأس في صفوف الأعداء فإنّها في هذا اليوم أيضاً ومن خلال التمسّك بها وإحياءها ستبعث على نفوذ اليأس في قلوب المنافقين وأعداء الإسلام.

ينبغي علينا في هذا اليوم أن نقصر أنظارنا على الإمام الغائب عن الأنظار والحاضر في القلوب ، وهو الإمام الحجّة بن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وندور حول هذا المحور الإلهي لأن ولاية هذا الإمام العظيم تعد أفضل حلقة وصل لجميع الشيعة في العالم على اختلاف أذواقهم وسلائقهم ، وعلى هذا الأساس فإنّ إحياء هذه الولاية سوف يشرق الأمل بوحدة واتحاد المؤمنين ويكون ذلك أساساً لسعادتهم وباعثاً على غرس الأمل في قلوبهم ، كما أنّ اختلافهم وتفرقهم يؤدي إلى تعاستهم وانحطاطهم.

إذا تمسّك المسلمون في بلدان العالم الإسلامي بهذا الأصل الأساسي وعملوا به والتفوا حوله فإنّ حادثة مثل حادثة فلسطين المؤسفة سوف لا تتكرر بعد ذلك ولا يقع المسلمون في دائرة المظلومية أمام أنظار العالم ، وعليه فإن يأس الكفّار لا يتحقّق إلّا من خلال التمسّك بالولاية.

٢ ـ إتمام الدين وإكمال النعمة في ظلّ الولاية

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ إكمال النعمة وإتمام الدين في ذلك اليوم قد تحقق في ظلّ


الولاية ، وفي هذا اليوم أيضاً فإنّ إتمام النعمة سواءً النعمة المادية أو المعنوية وكذلك إكمال الدين في جميع أبعاده وفروعاته يتحقّق بظلّ الولاية أيضاً وبدونها حتّى لو عمل الإنسان بأوامر الشريعة وتعاليم الدين ظاهراً إلّا أنها بلا شك سوف لا تكون مقبولة لدى الحقّ جلّ وعلا ، وعلى هذا الأساس فإن إتمام النعمة وإكمال الدين يتحقّق في كلّ عصر وزمان في ظلّ التمسّك العملي بالولاية.

مباحث تكميلية

١ ـ الولاية مسألة أساسية في الإسلام

بالنسبة إلى أهمية الولاية فقد وردت روايات كثيرة تتحدّث عن هذا الموضوع وكمثال ونموذج لهذه الروايات نذكر الرواية الواردة عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام حيث يقول زرارة نقلاً عن الإمام الباقر أنّه قال :

بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسَةِ أَشْياءَ ؛ عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ والصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْولايةِ. قَالَ زُرارَةُ : فَقُلْتُ : وَأيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ عليه‌السلام : الْوِلايَةُ افْضَلُ لِانَّها مِفْتاحُهُنَّ وَالْوَالي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ ... (١)

وهنا بالإمكان استيحاء نقطتين من هذه الرواية :

ألف) إنّ هذه القضايا الخمسة التي وردت فيها هذه الرواية ترتبط فيما بينها برابطة معيّنة ، فالصلاة تمثّل رابطة الإنسان مع الله بل إنّ أفضل وقت لتحقيق الارتباط مع الله تعالى هو وقت الصلاة.

«الزكاة» بدورها تمثل العلاقة بين الإنسان والآخرين من الأفراد والمجتمع من المحتاجين والمساكين حيث يحققون لهم حياة معقولة وطبيعية بإجراء قانون الزكاة وبذلك يتمكنون من التغلب على مشكلاتهم الاقتصادية التي يفرضها الواقع الصعب.

«الصوم» يمثّل علاقة الإنسان مع نفسه ، ومع تقوية هذه العلاقة بالصوم فإنّ الإنسان

__________________

(١) اصول الكافي : ج ٣ ، ص ٣٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب دعائم الإسلام ، حديث ٥.


سيوفق في مجال مجاهدة النفس والانتصار على نوازعه الماديّة والدنيوية بل إنّ الصوم هو رمز لمجاهدة النفس وقوّة الإرادة.

«الحجّ» يمثّل الرابطة التي تربط جميع المسلمين فيما بينهم حيث يجتمعون في كلّ عام لمبادلة الأفكار والرؤى وتبادل وجهات النظر واستعراض المشاكل والتحديات المصيرية التي يواجهها العالم الإسلامي والتفكير الجاد في حلّها.

«الولاية» هي الضامن الحقيقي والصحيح لتنفيذ وتبيين أحكام هذه المسائل.

وعلى هذا الأساس فإنّ الاصول الخمسة المذكورة أعلاه لم تجتمع في هذا الحديث الشريف اعتباطاً بل تربطها رابطة منطقية ومعقولة.

ب : لما ذا كانت الولاية أفضل من الاصول الأربعة الاخرى؟

إن الرواية الشريفة نفسها تصرّح بأن عنصر الولاية هو الذي يحقّق محتوى الصلاة والصوم والحجّ والزكاة ، أي أنه بدون أمر الولاية والحكومة الإسلامية ستكون هذه الدستورات والتعليمات بمثابة الكتابة على الماء وليس لها رصيد على مستوى الممارسة والعمل كما هو الحال في نسخة الطبيب التي لا تشافي من المرض بدون العمل بها.

الولاية تعني تنفيذ قوانين الإسلام بتوسط الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وخلفائهم ، وعلى هذا الأساس فإنّ الولاية هي أفضل وأسمى من الصلاة والصوم والحجّ والزكاة ، الولاية هنا تعني الحكومة الإسلامية والولاية التي انبثقت من غدير خم في عملية نصب الإمام علي عليه‌السلام والياً على المسلمين.

٢ ـ الولاية ذات جهتين

وطبقاً للتفسير المذكور آنفاً فإنّ الولاية لها جهتان :

فمن جهة يتكفّل الولي والإمام والقائد للُامّة الإسلامية هداية المسلمين ويجيب على أسئلتهم الدينية ويقوم بتحصين الامّة من الأخطار والمؤامرات التي يحيكها الأعداء ويتحرّك على مستوى إقرار النظم والانضباط في المجتمع الإسلامي ويعيد حقوق المستضعفين والمظلومين ويجري الحدود الإلهية ويقيم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


ومن جهة اخرى فإنّ الواجب على الناس هو السعي على مستوى الممارسة والنشاطات الفردية والاجتماعية لتجسيد أقوال وسلوكيات وأفكار ذلك الإمام والقائد ويتحركون في خطاهم بموازاة خطوات الإمام وإلّا فلا يمكن ادعاء الولاية للأئمّة المعصومين بمجرد الكلام في حين أن الإنسان يرتكب أنواع الذنوب والخطايا.

والملفت للنظر أن رئيس جهاز الساواك في حكومة الشاه قال لي يوماً حين التحقيق معي : «انني أعشق الإمام علي عليه‌السلام وأصرّح بحبّه وولايته ولكن إذا رأيت بعض الأشخاص الذين يخالفون الشاه فإني مستعد أن أقتل مليون شخص من هؤلاء». فهل أنّ مثل هذه السلوكيات والأفكار تتناغم وتنسجم مع ولاية أمير المؤمنين أو أنّها ولاية كاذبة وزائفة؟

أجل! فإنّ الولاية الحقيقية هي التي تعني انطباق جميع الأعمال والأقوال والأفكار على أعمال وأقوال وأفكار المعصومين عليهم‌السلام.


آية الولاية ٣

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)) «سورة المائدة / الآية ٥٥»

أبعاد البحث

إنّ سورة المائدة تشتمل على قسم مهم من آيات الولاية لأنّ هذه السورة كما رأينا نزلت في أواخر عمر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن جهة اخرى فإنّ مسألة الوصي والخليفة تطرح بشكل طبيعي في أواخر عمر القائد ، ولهذا فإنّ هذه السورة تتضمن آيات متعددة من آيات الولاية ، وعلى أية حال فإنّ الآية الشريفة أعلاه نموذج آخر من الآيات التي تدلّ بوضوح على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

الشرح والتفسير :

علائم الولي

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

نحن نعلم أنّ كلمة «إنّما» تدلّ على الحصر ، وعليه فإنّ وليكم أيّها المؤمنون هم الثلاثة المذكورون في هذه الآية الشريفة لا غير ، وهؤلاء الثلاثة عبارة عن :

١ ـ الله عزوجل.


٢ ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ الذين آمنوا.

وبالطبع ليس المراد جميع المؤمنين بل بعضهم الذي يتمتع بالشروط المذكورة في نفس الآية.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)

فالطائفة الثالثة من أولياء الله المؤمنين ليس هم جميع المؤمنين بل المؤمنين الذين يقيمون الصلاة أوّلاً ، ويؤتون الزكاة ثانياً ، وأن يكون إيتاء الزكاة في حال الركوع ثالثاً.

والنتيجة ، هي أنّ ولي المؤمنين هم هؤلاء الثلاثة فقط :

١ ـ الله عزوجل ٢ ـ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣ ـ المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

سؤال : ما هو المراد من «الذين آمنوا» في هذه الآية؟ وما معنى الولي هنا؟

إن الآية الشريفة أعلاه تتضمن نقطتين مبهمتين : الاولى : ما هو المراد من كلمة «الولي» في هذه الآية؟ حيث نعلم لكلمة الولي معانٍ مختلفة ولهذا يجب السعي لتشخيص المعنى المراد من هذه الكلمة في هذه الآية.

والآخر هو : ما المراد بعبارة (الَّذِينَ آمَنُوا) والذين تتوفر فيهم الشروط الثلاثة المذكورة آنفاً؟ هل المراد بهؤلاء شخص معين ، أو أيّ شخص تتوفر فيه هذه الصفات الثلاث؟

الجواب : هنا بالإمكان أن نسلك طريقين للجواب عن هذا السؤال كما تقدّم فيما سبق ، ثمّ نجيب على بعض الأسئلة الاخرى الذي يطرحها بعض الأشخاص المتعصبين الذين أسدل حجاب التعصّب ستاراً على عقولهم ومنعهم من فهم العقائد الجلية.

الطريق الأوّل : تفسير الآية مع غض النظر عن الروايات الشريفة

في البداية نأتي لكلمة «ولي» ونبين المراد منها لأنه لو اتضح معنى هذه الكلمة فإن الكثير من المسائل والتعقيدات في هذه المسألة سوف تجد لها طريقاً إلى الحلّ ، فبعض


المفسّرين من أهل السنّة وبهدف إبعاد أذهان مخاطبيهم عن المعنى الواضح للآية الشريفة فإنّهم ذكروا معانٍ كثيرةٍ لهذه الكلمة وصلت إلى سبعة وعشرين معنى (١) لكي يقول أن هذه الكلمة هي لفظ مشترك بين معان مختلفة ولا نعلم مراد الله عزوجل منها وأن أيّ معنى من هذه المعاني هو المقصود في الآية الشريفة ، إذن فإنّ هذه الآية مبهمة ولا تدلّ على شيء ، ولكن عند ما نراجع كتب اللغة وكلمات ونظريات اللغويين نرى أنهم لم يذكروا لمعنى الولي سوى اثنين أو ثلاث معان ، وعليه فإن سائر المعاني المذكورة لهذه الكلمة تعود إلى هذه المعاني الثلاثة وهي :

١ ـ «ولي» بمعنى ناصر والولاية بمعنى النصرة.

٢ ـ «الولي» بمعنى القيّم وصاحب الاختيار.

٣ ـ أنها تأتي بمعنى الصديق والرفيق حتّى لو لم يؤد هذا الإنسان حقّ النصرة لرفيقه ولكن بما أنّ الصديق في دائرة الرفاقة والصداقة ينهض لنصرة صديقه غالباً فإن المعنى الثالث يعود للمعنى الأوّل أيضاً ، وعليه فإنّ كلمة «ولي» في نظر أرباب اللغة تطلق على معنيين ، وسائر المعاني المذكورة لها تعود إلى هذين المعنيين.

«ولي» في استعمالات القرآن

والآن نعود إلى القرآن الكريم لنرى موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب الكريم.

إنّ كلمة «ولي» و «أولياء» جاءت في سبعين مورداً في القرآن الكريم وبمعان مختلفة :

١ ـ نقرأ في بعض الآيات الشريفة أن كلمة «ولي» جاءت بمعنى الناصر والمعين كما في الآية ١٠٧ من سورة البقرة حيث يقول تعالى :

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

٢ ـ وجاءت هذه الكلمة في آيات اخرى بمعنى المعبود كما في الآية ٢٥٧ من سورة البقرة :

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)

__________________

(١) وقد ذكر العلّامة الأميني في كتابه القيّم «الغدير» : ج ١ ، ص ٣٦٢ جميع هذه المعاني السبعة والعشرين.


فكلمة الولي في هذه الآية جاءت بمعنى المعبود ، فالمعبود للمؤمنين هو الله عزوجل ، ومعبود الكفّار هم الطواغيت والشياطين والأهواء النفسانية.

٣ ـ وجاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى الهادي والمرشد أيضاً كما نقرأ في آية ١٧ من سورة الكهف :

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)

فنرى في هذه الآية الشريفة أنّ كلمة «ولي» جاءت بمعنى الهادي والمرشد.

٤ ـ وقد وردت هذه الكلمة في كثير من الآيات الشريفة بمعنى القيّم وصاحب الاختيار كما في الآيات التالية :

ألف) نقرأ في الآية الشريفة ٢٨ من سورة الشورى قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)

ب) ونقرأ الآية ٣٣ من سورة الإسراء في حديثها عن الولاية التشريعية :

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً)

فالولي في هذه الآية جاء بمعنى القيّم وصاحب الاختيار لأن حقّ القصاص لم يرد في الشريعة لصديق المقتول بل لوارثه ووليه.

ج) ونقرأ في أطول آية من آيات القرآن الكريم وهي الآية ٢٨٢ من سورة البقرة وهي تتحدث عن كتابة وثيقة الدين والقرض (١) وتقول :

(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)

أي أن من كان الحقّ في ذمته ولا يستطيع أن يملل على الكاتب فيجب أن يملل وليه نيابة عنه مع رعاية العدالة ، ففي هذه الآية الشريفة وردت هذه الكلمة بمعنى القيّم وصاحب الاختيار.

د) ونقرأ في الآية ٣٤ من سورة الأنفال قوله تعالى :

__________________

(١) بالرغم من أن أطول آية في القرآن تتحدّث عن كتابة وثيقة الدين والقرض ولكن المؤسف أن هذا الحكم الإسلامي قد أصبح مهجوراً بين المسلمين وكانت النتيجة هي تورطهم بمشكلات كثيرة وبلايا جمّة بسبب تركهم لهذا الحكم الشرعي.


(وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)

فالولي هنا بمعنى القيّم والمسئول وصاحب الاختيار وإلّا فمن الواضح أنّ الكفّار والمشركين ليست لديهم أدنى علاقة وصداقة مع هذا المكان المقدّس.

ه : ونقرأ في الآية ٦ و ٥ من سورة مريم :

(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)

ومن الواضح أنّ الورثة يرثون المال بعد موت الولي فلا تأتي هنا بمعنى الصديق والناصر.

والنتيجة هي أن كلمة «الولي» استعملت في الآيات الشريفة بمعان مختلفة ولكنّها وردت في أكثر هذه الموارد بمعنى القيّم وصاحب الاختيار.

المراد من الولي في الآية محل البحث

ونظراً لما تقدّم آنفاً فما هو المراد من كلمة «ولي» في آية الولاية؟ هل أنّ المراد منها هو الصديق والناصر؟

إنّ هذا المعنى يخالف أكثر موارد استعمال هذه الكلمة في جميع الآيات القرآنية. إذن فالإنصاف يدعونا إلى فهم الولي في هذه الآية بمعنى القيّم وصاحب اختيار لا بمعنى الصديق والناصر لأنّه :

أوّلاً : كلمة «إنّما» الواردة في صدر الآية تدلّ على الحصر ، أي حصر الولي للمؤمنين بهؤلاء الثلاثة لا غير ، في حين أنّه لو كان المراد من كلمة الولي بمعنى الصديق فلا معنى للحصر حينئذٍ ، لأنّ من الواضح وجود طوائف اخرى غير هذه الطوائف الثلاثة المذكورة في الآية يمكن أن يكونوا من أصدقاء وأنصار المؤمنين ، مضافاً إلى أنه لو كان كلمة «الولي» بمعنى الصديق أو الناصر فلا معنى لورود كل هذه القيود لكلمة «الّذين آمنوا» بأن يشترط فيهم دفع الزكاة في حال الركوع لأن جميع المؤمنين بل وغير المؤمنين من الذين لا يصلّون يمكنهم أن يكونوا من أصدقاء المسلمين ، وعلى هذا الأساس فيستفاد من كلمة «إنّما» التي تدلّ على الحصر وكذلك القيود العديدة لكلمة «الذين آمنوا» أنّ الولاية في الآية الشريفة لم تستعمل بمعنى الصديق والناصر بل بمعنى القيّم والقائد وصاحب الاختيار ، لذلك يكون


مراد الآية أن الله تعالى والنبي والمؤمنين الذين تتوفر فيهم الشروط المذكورة في الآية هم أوليائكم والقيمين على اموركم.

ثانياً : أن الآية ٥٦ من سورة المائدة التي وردت بعد الآية محل البحث أفضل قرينة وشاهد على المدّعى فإنّ الله تعالى ذكر في هذه الآية الشريفة :

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)

الحزب هنا بمعنى جمع من الناس ، ونصرة الحزب بمعنى تفوّقه ونجاحه في حركته السياسية والاجتماعية ، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية الشريفة ترتبط بالآية التي قبلها وهي الآية محل البحث ، والظاهر أنّهما نزلتا سوية فيستفاد منها أنّ الولاية المذكورة فيها هي الولاية السياسية فيكون معنى الآية هو :

إنّ الأشخاص الذين يقبلون بحكومة الله والنبيّ وحكومة الذين آمنوا فإنّ هؤلاء الأشخاص والطوائف هم الغالبون.

والنتيجة هي أننا لو تدبرنا وتعمقنا في كلّ كلمة من كلمات هذه الآية الشريفة مع غض النظر عن الروايات الكثيرة الواردة في تفسيرها يتّضح جيداً أنّ الولي في هذه الآية جاء بمعنى الإمام والقائد والقيّم ، وكلّ من يقبل حكومة الله والرسول والذين آمنوا ، الذين تتوفر فيهم الشرائط المذكورة في الآية الشريفة هم الغالبون والمنتصرون.

مصداق «الّذين آمنوا» في الآية الشريفة

لقد اتّضح فيما سبق معنى كلمة «إنّما» و «ولي» ولكن ما زال الإبهام يحيط بمعنى وتفسير الآية الشريفة لأنه لم يتضح لحد الآن المراد من عبارة «والذين آمنوا» في هذه الآية.

وللإجابة على هذا السؤال يجب القول بأنه ليس بين الرواة والمفسّرين وعلماء الإسلام من الشيعة وأهل السنّة إلا ويرى «الإمام عليّ» هو المصداق لهذه الآية الشريفة ، وعلى هذا الأساس فهذه الآية تدلّ بالإجماع واتفاق جميع علماء الإسلام على أنّ الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق لهذه الآية الشريفة ، ومن جهة اخرى فإنّ جملة «والذين آمنوا» لا تتحمّل سوى مصداق واحد وليس هذا المصداق سوى عليّ بن أبي طالب.


والنتيجة ممّا تقدّم آنفاً هو أنه يستفاد من الآية الشريفة ثلاثة امور «بغضّ النظر عن الآيات وروايات المفسّرين».

١ ـ إن كلمة «إنّما» تدلّ على الحصر والولاية هنا منحصرة في ثلاث طوائف.

٢ ـ إن هذه الولاية في الآيات الشريفة وردت بمعنى القائد والقيّم وصاحب الاختيار كما في أكثر موارد استعمالها في القرآن الكريم.

٣ ـ إن مصداق «الّذين آمنوا» في هذه الآية هو الإمام عليّ عليه‌السلام بلا شك.

الطريق الثاني : تفسير الآية بلحاظ الروايات الشريفة

ينقل المحدّث البحراني في «غاية المرام» أربع وعشرين حديثاً من منابع أهل السنّة ، وتسعة عشر حديثاً من منابع الشيعة فتشكل بمجموعها ثلاثة وأربعين حديثاً ، وعليه فإنّ الروايات الواردة في شأن هذه الآية متواترة (١) ، ومضافاً إلى ذلك فإنّ العلّامة الأميني أورد في كتابه القيّم «الغدير» روايات من عشرين مصدراً من المصادر الروائية المعروفة لدى أهل السنّة تتحدّث في شأن الآية الشريفة محل البحث من قبيل تفسير الطبري ، تفسير أسباب النزول ، تفسير الفخر الرازي ، التذكرة لسبط ابن الجوزي ، الصواعق لابن حجر ، نور الأبصار للشبلنجي ، وكذلك تفسير ابن كثير وغيرها من المصادر المعتبرة لدى أهل السنّة ، وأما رواة هذه الأحاديث فهم عشرة أشخاص من الصحابة المعروفين.

١ ـ ابن عباس ، ٢ ـ عمّار بن ياسر ، ٣ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري ، ٤ ـ أبو ذرّ الغفاري «الذي نقل أدقّ وأطول رواية في هذا المجال» ، ٥ ـ أنس بن مالك ، ٦ ـ عبد الله ابن سلام ، ٧ ـ سلمة بن كهيل ، ٨ ـ عبد الله بن غالب ، ٩ ـ عقبة بن حكيم ، ١٠ ـ عبد الله ابن أُبي.

ومضافاً إلى ذلك فإنّه قد وردت روايات من الإمام علي عليه‌السلام أيضاً في شأن نزول هذه الآية الشريفة وقد استدلّ بها الإمام عليّ كراراً.

__________________

(١) عند ما تكون الروايات في مورد معيّن من الكثرة بحيث يحصل للشخص اليقين بمضمونها فمثل هذه الروايات تسمى «متواترة» ولا حاجة حينئذٍ للتحقيق في سندها.


وأما مضمون الروايات أعلاه فهو أنه : كان الإمام علي عليه‌السلام يوماً يصلي في مسجد النبي ، فدخل سائل إلى المسجد وطلب حاجته من المسلمين فلم يعطه أحد شيئاً (١) ، وكان الإمام في حال الركوع فأشار للسائل إلى خاتمه فجاء وانتزع الخاتم من إصبع الإمام وخرج من المسجد ، فنزلت حينئذٍ الآية الشريفة.

وهذا المضمون للروايات الشريفة ورد في أكثر من أربعين رواية من الروايات التي وردت في شأن نزول الآية محل البحث ، ونحن نقتصر هنا على استعراض ثلاث روايات منها ، وهي ما أورده الفخر الرازي في تفسيره :

١ ـ رَوى عَطاء عن ابْنِ عَبّاس أَنها نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بْنِ أَبي طالِب (٢).

٢ ـ روي أن عبد الله بن سلام قال : لَمّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ ، قُلْتُ : يا رَسُولَ اللهِ أَنَا رَأَيْتُ عَلِيّاً تَصَدَّقَ بِخاتَمِهِ عَلى مُحْتاجٍ وَهُوَ راكِعٌ فَنَحْنُ نَتَوَلّاهُ (٣).

٣ ـ وهي الرواية الأهم من بين الروايات في هذا الباب وهي نقلاً عن أبي ذرّ الغفاري وهذه الرواية أوردها الفخر الرازي عن أبي ذرّ أنه قال :

قالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَوْماً صَلاةَ الظُّهْرِ ، فَسَأَلَ سائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ فَرَفَعَ السّائِلُ يَدَهُ إلَى السَّماءِ وَقَالَ : «اللهُمَّ اشْهَدْ انِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ فَما أَعْطانِي أَحَدٌ شَيْئاً!» وَعَلِيٌّ كَانَ راكِعاً ، فَأَوْمَأ إلَيْهِ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنى وَكَانَ فِيها خَاتَمٌ فَأَقْبَلَ السّائِلُ حَتّى أَخَذَ الْخاتَمَ بِمَرْأى النَّبِيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فَقالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهُمَّ انَّ أَخِي مُوسى سأَلَكَ فَقالَ : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(٤) فَأَنْزَلْتَ قُرْآناً ناطِقاً : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً)(٥) اللهُمَّ وَأَنَا مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَصَفِيُّكَ فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، عَلِيّاً ، اشْدُدْ

__________________

(١) حيث كان الوضع المادي والاقتصادي للمسلمين في ذلك الوقت عسيراً وكانوا يعيشون في ضائقة شديدة حتّى في ضروريات الحياة.

(٢) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٦.

(٣) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٦.

(٤) سورة طه : الآيات ٢٥ ـ ٣٢

(٥) سورة القصص : الآية ٣٥.


بِهِ ظَهْرِي. قَالَ أَبُو ذَر : فَوَ اللهِ مَا أَتَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذِه الْكَلِمَةِ حَتَّى نَزَلَ جَبْرَئيلُ ، فَقالَ : يا مُحَمَّدُ : اقْرَأ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ...)(١)

وبعد أن ينقل الفخر الرازي هذه الروايات الثلاثة يقول : إنّ جميع الروايات الواردة في هذه المسألة هي هذه الروايات الثلاثة فقط.

ملاحظتان

١ ـ إن رواية أبي ذرّ تشير إلى أنّ صدقة الإمام علي عليه‌السلام في حال الصلاة لم تكن صدقة عاديّة لمسكين من الناس بل أدّت إلى حفظ وجاهة وقدسيّة مسجد النبيّ الذي يعد مركز الإسلام والصحابة والمسلمين لأنّ المسكين عند ما خرج من مسجد النبي لم يجد من يمدّ له يد العون ، ولهذا اشتكى إلى الله من ذلك ، فعليه فإنّ صدقة الإمام في حالة الركوع مضافاً إلى أنها رفعت حاجة السائل فإنّها أدّت إلى حفظ اعتبار مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقداسته وحرمة أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً.

٢ ـ إنّ ادعاء الفخر الرازي المبني على أنّ مجموع الروايات الواردة في هذا الباب ليس بأكثر من ثلاث روايات هو كلام بلا أساس لأنّه كما تقدّم آنفاً أن الوارد من الروايات في هذا الباب أكثر من أربعين رواية ، والملفت للنظر أنّ أكثر هذه الروايات وردت في كتب ومصادر أهل السنّة ولكنّ التعصّب والعناد إذا أخذ بناصية الإنسان أدّى إلى أن ينطق بكلمات غير مسئولة وغير متوقعة رغم كونه علّامة كبير مثل الفخر الرازي ، مضافاً إلى أنه يمكننا أن ندّعي أنّه إذا قد وصلت لنا أكثر من أربعين رواية في شأن نزول الآية محل البحث فإنّ هناك عدد أكثر من هذا قد اختفى في طيّات التاريخ ولم يصل إلينا وخاصّة في فترة الحكم الاموي الذي كان بنو أُمية يتحركون بصراحة وشدّة في حذف فضائل ومناقب أهل البيت عليهم‌السلام وطمس معالمها فلم يتجرأ أحد على بيان هذه الفضائل ونشرها.

وكم من الأشخاص الذين لم يكونوا يمتلكون الجرأة على بيان فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام وذهبت تلك الفضائل معهم إلى القبر!! إنّ أجواء الإرهاب كانت إلى

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٦.


درجة من الشدّة بحيث إن من يذكر فضيلة واحدة لأهل البيت كان يتعرض للعقاب الشديد بل لو أنّ أحداً سمّى ابنه عليّاً كان يتعرض للعقاب أيضاً.

ومع هذه الظروف الصعبة فعند ما تصل إلينا أربعين رواية فيمكن أن نحدس أنّ أضعاف هذا المقدار قد تلف في طيّات التاريخ.

والنتيجة هي أنه مع الأخذ بنظر الاعتبار كثرة الروايات التي تصل إلى حدّ التواتر وقد أوردنا بعضها بالتفصيل فلا يبقى شكّ أن الآية الشريفة (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) نزلت في شأن أمير المؤمنين وأنه عليه‌السلام هو الولي بعد الله ورسوله.

شبهات واشكالات

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية الشريفة على ولاية أمير المؤمنين فإنّ بعض العلماء قد ذكر بعض الشبهات والإشكالات حول دلالة هذه الآية ، وفي الواقع فإنّ الكثير من هذه الإشكالات ليست سوى ذرائع وحجج واهية (١).

وعلى سبيل المثال :

الإشكال الأوّل : كلمة إنّما لا تدلّ على الحصر

رأينا في عملية الاستدلال بالآية أعلاه أنها تقوم على ثلاث دعائم : أحدها أن كلمة «إنّما» في الآية الشريفة تدلّ على الحصر وأنّها تحصر الولاية بثلاث موارد ، وعليه فإنّ الولاية مورد البحث لا تثبت لغيرهم.

__________________

(١) طبعاً لا شك في أن السؤال نافذة للعلم ومفتاح حلّ المشكلات والمجهولات ، ولذا ورد الحث عليه في القرآن الكريم بصورة مطلقة ، حيث يقول تعالى في الآية ٤٣ من سورة النحل ، وكذلك في الآية ٧ من سورة الأنبياء : «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»

هذه الآية الشريفة مطلقة من كلّ جهة ، فكلّ من لديه سؤال يمكنه أن يسأل أهل العلم والخبرة ، وقد ورد في هذا المورد روايات عديدة ، ولكن المهم هو أن يكون السؤال بقصد التوصل إلى الحقيقة لا بدافع من العناد والتعصّب كما في الكثير من أسئلة علماء أهل السنّة حول آية الولاية.


ولكنّ بعض المفسّرين من أهل السنّة قالوا بأنّ «إنّما» في الآية لا تدلّ على الحصر لأن في القرآن آية اخرى أيضاً وردت فيها كلمة «إنّما» وليس لها دلالة على الحصر. وهي الآية الشريفة ٢٠ من سورة الحديد حيث يقول الله تعالى :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ...)

فهنا نرى أنّ كلمة «أنّما» في الآية أعلاه لا تدلّ على الحصر لأننا نعلم أن الحياة الدنيا لا تنحصر في هذه الموارد المذكورة في الآية الشريفة بل تشمل لذاّت اخرى وعبادات ونشاطات وتحصيل علم وغير ذلك من الامور ، وعليه فكما أنّ كلمة «أنّما» في هذه الآية لا تدلّ على الحصر فكذلك في آية الولاية لا تدلّ على الحصر ، فالاستدلال بهذه الآية على المطلوب ناقص.

الجواب : هذا الإشكال من جملة الإشكالات الواهية التي لا تقوم على أساسٍ متين لأننا نعتقد بأنه :

أوّلاً : إنّ كلمة «إنّما» في هذه الآية أيضاً وردت بمعنى الحصر ، فالدنيا في نظر الإنسان المؤمن والعارف ليست في حقيقتها سوى اللهو واللعب وأمثال ذلك ، وقد يتصور الإنسان المتورط في حبائل الدنيا اموراً اخرى في هذه الدنيا ولكن لو نظر بعين الحقيقة لرأى أنّ جميع أشكال الحكومات والمقامات الدنيوية والقصور الفخمة وأمثالها من مظاهر الدنيا ليست سوى لهو ولعب حيث يلهو بها أبناء الدنيا.

ثانياً : وعلى فرض أنّ كلمة «إنما» هنا لم ترد في معناها الحقيقي فهذا لا يدلّ على أنّ الموارد الاخرى في استعمال هذه الكلمة تحمل على غير معناها الحقيقي.

والنتيجة هي أنّ كلمة «إنّما» الواردة في الآية الشريفة تدلّ على الحصر بلا شكّ والاستدلال بهذه الآية كامل.

الإشكال الثاني : إعطاء الخاتم فعل كثير مبطل للصلاة

أمّا الإشكال الثاني الذي ذكره بعض المفسّرين من أهل السنّة فهو أننا سلّمنا أن الآية


الشريفة نزلت في شأن الإمام عليّ عليه‌السلام ولكن القيام بهذا الفعل من قبل عليّ بن أبي طالب في الصلاة «إنّما هو فعل كثير» والفعل الكثير يؤدي إلى بطلان الصلاة فهل يعقل أن الإمام علي عليه‌السلام يتصرف في صلاته بما يؤدي إلى بطلان الصلاة.

الجواب : أوّلاً : إن فعل الكثير كما هو الظاهر من هذه الكلمة يطلق على أداء أعمال كثيرة لا ربط لها بالصلاة بحيث تهدم هيئة الصلاة للمصلّي كأن يقوم شخص في أثناء الصلاة وبسبب سماعه لخبر مفرح بالتصفيق والقفز ويمتلكه الهياج وأمثال ذلك ، وأما أن يشير إلى السائل والمسكين ليأخذ خاتمه من يده بحيث إنّ الإمام نفسه لم يخرج الخاتم من يده ، فهل يقع ذلك في دائرة «الفعل الكثير» (١)؟

كيف يكون مثل هذا العمل فعلاً كثيراً في حين أنّ الروايات الشريفة تبيح للمصلّي بأن يغسل أنفه فيما لو خرج الدم منه بالماء في أثناء الصلاة ويستمر في صلاته؟ ولو أنه واجه حيواناً خطراً على مقربة منه جاز له قتله والاستمرار في الصلاة.

هل هذه الأفعال ليست بأفعال كثيرة ولكن الإشارة هي فعل كثير؟

ثانياً : إنّ أمثال هذه الحجج والمعاذير ترد على الله أيضاً لأن الله تعالى مدح الإمام عليّ عليه‌السلام في هذه الآية على عمله ، فلو كان ذلك العمل باعثاً على بطلان الصلاة فهل أن الله تعالى يمدحه ويثني عليه وينزل في حقّه آية من القرآن؟!

النتيجة هي أن هذا الإشكال بمثابة ذريعة وتبرير نابع من التعصّب واللجاجة لا أكثر.

الإشكال الثالث : الخاتم الثمين

طبقاً لبعض الروايات أن ذلك الخاتم كان ثميناً جداً حتّى أنه ورد أن ثمنه يعادل خراج منطقة بكاملها مثل الشام ، ألا يعتبر تملك مثل هذا الخاتم الثمين من قبل عليّ بن أبي طالب من الإسراف المحرّم؟

أمّا جواب هذه الشبهة فواضح لأنه :

__________________

(١) وقد اعترف الزمخشري في تفسيره «الكشاف» : ج ١ ، ص ٦٤٩ أن هذا العمل ليس من الفعل الكثير.


أوّلاً : لم يرد هذا المطلب في أيّة رواية معتبرة بل الظاهر أن الخاتم المذكور لم يكن سوى خاتماً عادياً لأنه لم يتم للمسلمين في ذلك الزمان فتح ايران والشام وأمثال ذلك ولم تصل مثل هذه الثروات الكبيرة إلى أيدي المسلمين بل الفتوحات المذكورة حدثت بعد رحلة الرسول وفي عصر الخلفاء ، مضافاً إلى أن الإمام علي عليه‌السلام الذي كان طعامه في أيّام حكومته وخلافته بسيطاً إلى درجة أنه لا يأكل سوى من ادام واحد والغالب انه كان يكتفي بقرص الشعير ويلبس الثياب البسيطة من الكرباس والليف فكيف يعقل أن يمتلك مثل هذا الخاتم الثمين؟!

وعلى هذا الأساس فلا شكّ في ضعف الرواية التي لا تنسجم مع روايات الباب ولا مع سيرة الإمام علي عليه‌السلام ولا تتناغم مع أجواء تاريخ النزول ، ولذلك فانها قد وضعت تحت ظروف خاصّة.

ثانياً : كيف يعقل أن يمتلك الإمام علي مثل هذا الخاتم الثمين بحيث يدخل في باب الإسراف المحرم ثمّ يتصدّق به في سبيل الله وينال الثناء الإلهي؟ وعليه فإنّ المستفاد مما ورد من المدح والثناء في هذه الآية الشريفة على هذا العمل كذب هذه الرواية وزيفها وأنها وضعت لتحقيق أغراض معيّنة.

الإشكال الرابع : إنّ هذا العمل لا ينسجم مع حضور القلب

بما أن الإمام علي عليه‌السلام كان عند ما يصلّي خاصّة يتوجه إلى الله تعالى بكلّ قلبه ويغرق في صفات جلاله وجماله ولا يكون له التفاتٌ إلى غيره أبداً بحيث إنهم كانوا يخرجون السهام من بدنه الشريف في حال الصلاة (١) ولم يكن يتسنى لهم ذلك في الحالات العادية لصعوبته وشدّة ألمه ، فمثل هذا الإنسان العارف والمتعلق بالله تعالى إلى هذه الدرجة كيف يلتفت أثناء الصلاة إلى كلام السائل ويتصدّق عليه في حال الركوع بالخاتم؟ والخلاصة أن هذه المسألة تتنافى مع حضور القلب في الصلاة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) ذكرنا تفاصيل هذه الحادثة مع وثائقها المعتبرة في كتاب «١١٠ قصة من سيرة الإمام علي عليه‌السلام).


الجواب : أوّلاً : إن السائل بعد أن تملكه اليأس من الحصول على مساعدة الأصحاب توجه إلى الله تعالى بالشكاية وشرع بالقول «اللهُمَّ أشهد ....» وعليه فإنّ هذا الكلام وذكر اسم الله ألفت نظر الإمام عليّ إلى وجود السائل ، وهذا لا يتقاطع مع حضور قلبه واستغراقه في عالم العبودية في الصلاة.

مضافاً إلى ذلك ألا يعقل أن يسمع المأموم في صلاة الجماعة صوت المكبّر أو صوت الإمام ليتابعه في أعمال الصلاة؟ إذا لم يكن يسمع ذلك فكيف يمكنه الاقتداء به في الصلاة؟ وإذا كان يسمع فهل يعني هذا أن حضور القلب غير ممكن في كلّ صلاة جماعة؟

ثانياً : هل أن سماع صوت السائل الذي ورد التعبير عنه في الرواية الشريفة بأنه رسول من الله فيه إشكال؟ إن سماع صوت الرسول الإلهي كيف يتقاطع مع حضور القلب في الصلاة؟ (١)

ثالثاً : ألا يكون سماع صوت المظلوم وحل مشكلته حتّى في أثناء الصلاة من العبادة؟ (٢) فلو كان هذا العمل عبادة فالإمام عليّ عليه‌السلام قد يستغرق في هذه العبادة ويأتي بها من دون أن يكون هناك إشكال في البين بل هي عبادة ضمن عبادة.

أمّا ما يمكن أن يكون محل إشكال هو التوجّه إلى النفس والذات الفردية أثناء العبادة والصلاة ، وأمّا التوجّه إلى المظلوم وقضاء حاجته الذي يعد في نفسه عبادة فلا إشكال فيه.

والنتيجة هي أن هذا الإشكال مردود أيضاً ، وفي الحقيقة أن هدف المغرضين من طرح هذا الإشكال والإشكالات الاخرى هو تهميش هذا العمل وتضعيف دلالة الآية الشريفة على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إن المسكين رسول الله إليكم فمن منعه فقد منع الله ، ومن أعطاه فقد أعطى الله» (وسائل الشيعة : ج ٦ ، أبواب الصدقة ، باب ٢٢ ، ح ١١).

(٢) هناك روايات كثيرة في فضيلة الصدقة وآثارها ، منها ما ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «لأن أحج حجّة أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة ورقبة حتّى انتهى إلى عشر ومثلها حتّى انتهى إلى سبعين ، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين اشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة حتّى انتهى إلى عشر ومثلها حتّى انتهى إلى سبعين. (وسائل الشيعة : ج ٦ ، أبواب الصدقة ، الباب ٢ ، ح ٣).


الإشكال الخامس : لما ذا تعود الضمائر في الآية إلى الجمع؟

وكما تقدّم في الآية الشريفة أنها تقرر الولاية لثلاث طوائف ، وفي الثالثة تعود الضمائر في الأفعال واسم الموصول إلى الجمع كما في قوله :

١ ـ الَّذين ٢ ـ آمنوا ٣ ـ الّذين ٤ ـ يقيمون ٥ ـ يؤتون ٦ ـ هم ٧ ـ راكعون.

فالكلمات السبعة المذكورة في الآية تتناسب مع الجمع ، ومعنى هذه الكلمات هي أن هناك أشخاصاً متعددين قد تصدّقوا على الفقير في حال الركوع في حين أن جميع الروايات تذكر الإمام عليّ عليه‌السلام فقط كمصداق للآية الشريفة حيث تصدّق بخاتمه على الفقير في حال الركوع وبالالتفات إلى هذا المطلب فهل هناك روايات اخرى وردت في شأن نزول الآية الشريفة تتناغم مع أجواء الآية؟ ومن الواضح أنه لو كان هناك اختلاف وتباين بين الآية الشريفة والروايات التي تتحدّث في شأن نزولها فلا بدّ من الإعراض عن الرواية أو الروايات والعمل بمضمون الآية الشريفة. إذن فالتعارض المذكور بين الآية الشريفة والروايات المذكورة يتسبب في عدم اعتبار هذه الروايات.

الجواب : إنّ العلماء والمفسّرين من أهل السنّة قد أجابوا على هذا الإشكال فالفخر الرازي يقول في الجواب على هذا السؤال :

«إنّ الجمع يطلق أحياناً على المفرد للاحترام وعلى سبيل التعظيم والآية مورد البحث من هذا القبيل» (١).

ويذكر الآلوسي في روح المعاني جواباً آخر ويقول :

«قد يستعمل الجمع في المفرد لبيان عظمة الشخص تارة ، ولبيان عظمة العمل اخرى ، وهذا مشهور في لغة العرب ولكن بما أن هذا الاستعمال على سبيل المجاز فيحتاج إلى قرينة» (٢).

وأمّا جوابنا على هذا السؤال فهو :

أوّلاً : أنه كما رأينا أن استعمال صيغة الجمع بدل المفرد قد يكون متداولاً لبيان احترام

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٨.

(٢) روح المعاني : ج ٦ ، ص ١٦٧.


المخاطب وبيان عظمته ، وفي الآية مورد البحث قد ورد مثل هذا الاستعمال في سياقها والقرينة على مجازية هذا الاستعمال الوارد في الآية هو أن أيّ واحد من العلماء حتّى المتعصبين من أهل السنّة لا يرون غير الإمام علي عليه‌السلام مصداقاً لها والذي تصدّق بخاتمه في حال الركوع ، وهذا هو أفضل قرينة على استعمال لفظ الجمع في مورد المفرد.

ثانياً : هناك موارد كثيرة وردت في القرآن الكريم واستعملت فيها صيغة الجمع للمفرد ، وكمثال على ذلك نكتفي بذكر سبعة موارد منها :

١ ـ نقرأ في الآية ٢١٥ من سورة البقرة قوله تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

ففي هذه الآية الشريفة وردت جملة «يسألونك ، ينفقون ، انفقتم وما تفعلوا» بصورة الجمع ، وفي البداية يظهر من الآية أن جماعة من المسلمين طرحوا السؤال المذكور ولكن طبقاً لشأن نزول الآية فلم يكن السائل سوى شخص واحد واسمه «عمرو بن جموح» (١) الذي كان رجلاً ثرياً ، وعليه ففي هذه الآية الشريفة ورد لفظ الجمع واستعمل في المفرد إما على أساس بيان عظمة هذا العمل وهو الانفاق أو بيان الاحترام للسائل وهو عمرو بن جموح.

ملاحظة : إنّ الموضوع الملفت للنظر في هذه الآية الشريفة هو أن الله تعالى في مقام جوابه على سؤال عمرو بن جموح ذكر مطلباً آخر لأن عمرو سأل عن نوع المال الذي يجب انفاقه ، والله تعالى تحدّث عن الأشخاص الذين يجب الإنفاق عليهم ، فعليه فمثل هذا الجواب يبين أهمية مصرف الإنفاق وأن الإنسان يجب أن يهتم بالدرجة الاولى بأبيه وامّه وأقربائه ثمّ يتوجّه إلى الآخرين في عملية الإنفاق.

٢ ـ يقول سبحان وتعالى في الآية ٢٧٤ من سورة البقرة :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٢٥٧.


ففي هذه الآية الشريفة نقرأ عبارات من قبيل «الّذين ، ينفقون ، أموالهم ، فلهم ، أجرهم ، ربّهم ، عليهم ، هم ، يحزنون» فكلّها جاءت بصيغة الجمع ولكنّ الكثير من المفسّرين قالوا بأن المراد منها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي كان ينفق بالليل والنهار وسرّاً وعلانيةً ، وطبقاً لرواية واردة في هذا المجال أن الإمام كان يمتلك أربعة دراهم فتصدّق بأحدها ليلاً وبالآخر نهاراً وبالثالث علانية وبالرابع سرّاً فنزلت الآية أعلاها لتشير إلى شأن هذا الإنفاق (١).

سؤال : هل يعقل أن تنزل آية قرآنية على بعض الأعمال الجزئية من قبيل إنفاق أربعة دراهم؟

الجواب : إنّ المهم في نظر الإسلام هو كيفية العمل لا مقداره ، وعليه فإذا كان العمل قد أتى به المكلّف بإخلاص بالغ فيمكن أن تنزل آية قرآنية حتّى على إنفاق أقل من أربعة دراهم ولو أن شخصاً أنفق جبلاً من ذهب ولكن لم يكن يتزامن مع الإخلاص والتوجّه القلبي إلى الله تعالى فليس له أية قيمة ولا تنزل في حقّه آية شريفة.

٣ ـ ونقرأ في الآية ١٧٣ من سورة آل عمران :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)

هذه الآية الشريفة نزلت في حرب احد عند ما تخلّف بعض المسلمين عن امتثال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركوا مواقعهم واشتغلوا بجمع الغنائم الحربية فاستفاد الأعداء من هذه الفرصة ومن غفلة المسلمين وداروا حول جبل احد وهجموا على المسلمين من ورائهم وحققوا نصراً كبيراً على المسلمين وقتلوا سبعين مسلماً في تلك الواقعة.

إن الكفّار والمشركين لم يقنعوا بهذا النصر على المسلمين فعند ما كانوا يعودون إلى مكّة قال أحدهم : نحن الذين حقّقنا هذا النصر فلما ذا لم نقتل محمّداً لنختم على هذه الدعوة الجديدة ونقلعها من جذورها؟ فإذا لم نفعل ذلك في هذا اليوم فالإسلام والمسلمين سوف

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٣١٩.


يزدادون قوّة ويتفوّقون علينا في المستقبل.

وقد أثر كلامه هذا في أفراد جيش المشركين وعزموا على العودة إلى المسلمين وقتالهم ، ولكن كان بينهم شخص يدعى «نعيم بن مسعود» أو «معبد الخزاعي» الذي لم يقبل باستمرار القتال وقبل أن يصل الكفّار إلى المسلمين أخبر هذا الشخص المسلمين بعزم الكفّار وتصميمهم على القتال فخاف من ذلك بعض المسلمين واصابهم الرعب وقالوا : إننا قد خسرنا المعركة وكنّا أقوياء وسالمين ولكن الآن وبعد الهزيمة وكثرة القتلى والمجروحين كيف يمكننا الوقوف أمام جيش الكفّار ، ولكن بعضاً آخر من المسلمين قالوا : «نحن لسنا على استعداد فقط لقتالهم بل سوف نذهب إليهم ونتحرك لقتالهم مع المجروحين من جيش الإسلام ، فعند ما فهم الأعداء ذلك وأن المسلمين توجّهوا إليهم مع المجروحين منهم دبّ في قلوبهم الخوف والرعب وقنعوا بذلك المقدار من النصر وانصرفوا عن قتال المسلمين مرّة اخرى.

الآية الشريفة أعلاها تتحدّث عن هذه الواقعة وتعبّر عن «نعيم ابن مسعود» أو «معبد الخزاعي» الذي أبلغ المسلمين بعزم الكفّار بكلمة «الناس» في حين انه لم يكن سوى نفر واحد ولكن بما أن عمله هذا كان عظيماً للغاية ، فلأجل بيان أهمية هذا العمل ذكرت الآية الشريفة كلمة الجمع بدل المفرد.

٤ ـ يقول تعالى في الآية ٦١ من سورة آل عمران :

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)

هذه الآية الشريفة نزلت في واقعة المباهلة ، ففي هذه الواقعة كما هو معروف لدى الجميع أن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء مع عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام لميدان المباهلة ، والمراد من «أبْنائنا» في الآية الشريفة هم الحسن والحسين عليهما‌السلام والمراد من «نِسائنا» فاطمة الزهراء عليها‌السلام والمراد من «أَنْفُسَنا» عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وهكذا ترى أنها كلمات وردت بصيغة الجمع واريد بها المفرد (١).

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٣٦٨.


٥ ـ ونقرأ في أول آية من سورة الممتحنة قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...)

ذكر الكثير من المفسّرين أن هذه الآية الشريفة نزلت في «حاطب ابن أبي بلتعة» وكان رجلاً واحداً واستعملت في حقّه صيغة الجمع «الّذين ، آمنوا ، لا تتّخذوا ، عدوّكم» وهذا يدلّ على العمل العظيم الذي أراد القيام به ، وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما عزم على فتح مكّة قام بسد المنافذ والطرق المؤدية إلى مكّة لكي لا يصل خبر تجهيز جيش المسلمين إلى الكفّار والمشركين في مكّة ليتم الفتح بسهولة ويسر ومن دون إراقة دماء ولكن (حاطب) الذي كان يمتلك بعض المال والثروة في مكّة قال في نفسه : إنني لو أخبرت أهل مكّة عن استعداد جيش المسلمين لقتالهم فأضمن سلامة أموالي وأتمكن من إخراجها من أيدي المشركين وكما يقول السياسيون في عصرنا الحاضر : «أربح امتيازاً».

ولهذا كتب رسالته بهذا الغرض إلى رؤساء مكّة وسلّمها لامرأة تدعى «سارة» لتوصلها إلى مكّة فاخفت الرسالة في طيات شعرها وتوجهت إلى مكّة.

فنزل جبرئيل وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمؤامرة المذكورة فارسل الإمام عليّ عليه‌السلام وبعض الأشخاص لكشف هذه المؤامرة ، فتوجّهوا نحو المرأة المذكورة وأخيراً استطاعوا أن يكتشفوا الرسالة ويعودوا إلى المدينة ، وهنا نزلت الآية الشريفة في توبيخ حاطب وقال بعض الأصحاب : دعنا نقتل حاطب ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي رأى حالة الندم على حاطب وكان من المجاهدين سابقاً واشترك في حرب بدر عفى عنه وأطلقه (١).

ففي هذه الآية نرى أيضاً أن «حاطب» رجل واحد ولكنّ الآية وردت بصيغة الجمع.

٦ ـ نقرأ في الآية ٥٢ من سورة المائدة :

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ...)

حيث أمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بقطع علاقاتهم وروابطهم مع الكفّار والمشركين

__________________

(١) الكشّاف : ج ٤ ، ص ٥١١.


ولكن أحد المنافقين وهو «عبد الله بن ابي» قال : إذا قطعنا العلاقة معهم فإنّ حياتنا ومعيشتنا ستتعرض للاهتزاز والارتباك ونصاب بمشكلات عديدة ، فنزلت الآية المذكورة في شأن هذا المنافق (١).

وهكذا نرى أن الشخص الذي كان يتحدّث عن ضرورة إبقاء الرابطة مع الكفّار والمشركين شخص واحد ، ولكن الآية الشريفة وردت بصيغة الجمع «الّذين ، قلوبهم ، يسارعون ، يقولون ، نخشى وتصيبنا» وهذا يعني أن استخدام صيغة الجمع في حقّ المفرد لا بأس به.

٧ ـ ويقول تبارك وتعالى في الآية ٨ من سورة المنافقين :

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)

الآية أعلاها نزلت بعد غزوة بني المصطلق في السنة السادسة للهجرة في منطقة «قديد» وكان هناك اختلاف بين أحد المهاجرين وأحد الأنصار فما كان زعيم المنافقين «عبد الله بن ابي» إلّا أن قال : أوقد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل (٢).

وهكذا نرى أن القائل لم يكن سوى رجلاً واحداً ولكن الآية تحدّثت عنه بصيغة الجمع «يقولون ، رجعنا».

والنتيجة هي أن القرآن الكريم أورد في هذه الآيات السبعة المذكورة آنفاً وفي آيات اخرى أيضاً صيغة الجمع بدل المفرد ، وهذا يدلّ على أن مثل هذا الاستعمال شائع في أجواء الآيات القرآنية.

وعلى هذا الأساس فإنّ آية الولاية إذا ذكرت صيغة الجمع في حقّ المفرد وهو «عليّ بن أبي طالب» الذي تصدّق في ركوعه فلا يوجد محذور في مثل هذا الاستعمال بل يدلُّ على عظمة هذا العمل الذي قام به الإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٦٤٣.

(٢) انظر تفاصيل هذه القصة في التفسير الأمثل : ج ١٨ ، سورة المنافقين ، الآية ٥ ، ص ٣٥٦.


الإشكال السادس : ما ذا تعني ولاية الإمام عليّ عليه‌السلام في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

الإشكال الآخر الذي أورده الفخر الرازي وآخرون هو : «أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورون في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية ، لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول ، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال. أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال ، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف» (١).

الجواب : وجواب هذا الإشكال واضح لأن ولاية الولي والوصي والخليفة تكون بالقوّة لا بالفعل ، وأساساً فإنّ هذا المطلب موجود ضمن سياق الآية الشريفة حيث إنّ زكريّا الذي طلب من الله تعالى الولي والوارث واستجاب الله تعالى لطلبه وأعطاه يحيى (٢) فهل أنّ يحيى كان وارثاً ووليّاً لأبيه في حياة زكريا أو أن ذلك تحقّق له بعد وفاة الأب؟

من الواضح أن هذه الامور تحققت له بعد وفاة أبيه.

وهذه المسألة سائدة في العرف وسيرة العقلاء ، فمن يكتب وصية ويعين وصياً له فهل أن هذا الوصي له ولاية واختيار قبل وفاة صاحب الوصية أو أن هذه الوصية تتعلق بما بعد الوفاة؟ الفخر الرازي كان قد كتب وصيته حتماً وقد عيّن وصياً له ، فهل أن ذلك الوصي وهذه الوصية كانت فعلية في زمن حياته أو بعد مماته؟ وأكثر من ذلك فإنّ جميع القادة والزعماء والملوك في العالم يتحركون في أواخر حياتهم لتعيين خليفة لهم ، ولكنّ هؤلاء الخلفاء لهم لم يكونوا أصحاب قدرة فعلية في حياة هؤلاء الملوك والزعماء بل كانت قدرتهم ومسئولياتهم تتحقق لهم بعد وفاة القائد الفعلي.

وعلى هذا الأساس فإن الولاية في الآية الشريفة جاءت بمعنى القيّم وصاحب الاختيار وإمام الامّة ولكن جميع هذه المعاني لا تكون فعلية للإمام عليّ عليه‌السلام إلّا بعد رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ١٢ ، ص ٢٨.

(٢) سورة مريم : الآية ٥ و ٦.


مضافاً إلى ذلك فإنّ مسألة تعيين الخليفة لا تختص بهذه الآية الشريفة بل إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وطيلة زمن نبوته ٢٣ سنة كان يذكر مسألة الوصية بالخلافة للإمام علي عليه‌السلام دائماً ، وأوّل مورد لذلك هو ما ورد في حديث يوم الدار ، وذلك عند ما تحرك النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ثلاثة سنوات من الدعوة السرية إلى الإعلان والإجهار بإبلاغ الرسالة وفي أوّل خطوة لذلك جمع قادة قريش ودعاهم إلى ضيافته وبعد أن انتهوا من تناول الطعام طرح مسألة النبوّة والرسالة وقال لهم في آخر المطاف :

أَيُّكُمْ يُوازِرُنِي عَلى هذَا الْامْرِ.

فلم يكن يجيب بالإيجاب على هذا الطلب سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فما كان من رسول الله إلّا أن قال له في ذلك المجلس :

«انْتَ وَصِيّي».

في حين أن النبي الأكرم كان على قيد الحياة ، وما ذا يصنع بالوصي والخلافة في ذلك الوقت؟

النتيجة أن الجواب على مثل هذه الإشكالات والشبهات واضح ، وفي الحقيقة أنها لا تعدو سوى حجج وتبريرات غير منطقية وبعيدة عن خط الحقّ والإنصاف.

الإشكال السابع : ما هو المراد من الزكاة؟

رأينا أنّ البعض أورد حجج وشبهات مختلفة حول دلالة آية الولاية بحيث أنهم ذكروا شبهات لكلِّ كلمة من كلمات الآية محل البحث من قبيل «إنّما» ، «وليّ» ، «راكعون» ، «الزكاة» فكلّها وردت في حقها إشكالات وشبهات.

ويتساءل الفخر الرازي وآخرون : ما المراد من الزكاة في هذه الآية الشريفة؟ هل المقصود الزكاة المستحبة أو الواجبة. ومعلوم أنه ليست لدينا زكاة مستحبة ، وعليه فإنّ المراد من الزكاة هنا هو الزكاة الواجبة ، وإذا كان كذلك وقلنا بأن الآية الشريفة نزلت في عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام سنقع في تناقض لأنّ الإمام علي لم يكن من حيث التمكّن المادي والاقتصادي بحيث تجب عليه الزكاة وتتعلق الزكاة الواجبة في أمواله لأنه طبقاً لما ورد في


شأن نزول سورة الإنسان (سورة الدهر) بأن الإمام علي وأهله كانوا قد صاموا في ذلك اليوم وجاء سائل على الباب وطلب منهم طعاماً فأعطوه طعامهم الذي كانوا قد أعدّوه للافطار وأفطروا ذلك اليوم بالماء القراح ، والخلاصة أن الإمام علي لم يكن يمتلك طعاماً ليوم آخر ، فكيف تتعلق في ماله الزكاة الواجبة حتّى يؤديها في حال الركوع؟

الجواب : في مقام الجواب على هذا الإشكال وبالأحرى هذه الشبهة نقول :

أوّلاً : إنّ الأحكام الشرعية في الإسلام تتضمن الزكاة الواجبة والمستحبة لأن جمع الزكاة تم بعد هجرة النبي إلى المدينة في حين أن السور المكيّة تتحدّث عن الزكاة أيضاً وكانت تحث المسلمين على أداء الزكاة في مكّة ، والمراد منها حتماً الزكاة المستحبة أو الزكاة الواجبة التي لم تكن تجمع قبل زمن تشكيل الحكومة الإسلامية.

ونلفت النظر إلى ثلاث نماذج من الآيات الشريفة النازلة في مكّة :

ألف) نقرأ في الآية الرابعة من سورة المؤمنون التي هي سورة مكيّة :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ)

في هذه الآية الشريفة ذكرت صفة من صفات المؤمنين وهي أداء الزكاة ، وبما أن هذه السورة مكيّة والآية نزلت قبل تشريع حكم الزكاة فنعلم أن المراد من الزكاة هنا هي الزكاة المستحبة.

ب) ونقرأ في الآية الثالثة من سورة النمل في وصف المؤمنين :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

ومعلوم أن سورة النمل من السور المكيّة ، وعليه يكون المراد من الزكاة هنا هي الزكاة المستحبة.

ج) ونقرأ في الآية ٣٩ من سورة الروم :

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)

فهذه السورة من السور المكيّة أيضاً والمراد من الزكاة هنا الزكاة المستحبة.

وعليه فطبقاً لما ورد في القرآن الكريم أن الزكاة تشمل الواجبة والمستحبة كما ورد في فقه الشيعة أن بعض الأجناس تتعلق بها الزكاة الواجبة وبعضها تتعلق بها الزكاة المستحبة.
ثانياً : أنه ليس من الصحيح قياس الحالة الاقتصادية للإمام علي عليه‌السلام عند نزول آية الولاية التي نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع زمان نزول آيات سورة الدهر لأن وضع المسلمين في بداية ظهور الإسلام في مكّة لم يكن وضعاً مناسباً بصورة عامة وكان أغلب المسلمون يعيشون في ضائقة مالية وخاصة أنهم كانوا في مكّة يعيشون الحصار الاقتصادي ، ولكنهم عند ما هاجروا إلى المدينة وتخلّصوا من الحصار الاقتصادي الذي فرضه عليهم المشركون في مكّة واشتغلوا بالزراعة والتجارة تحركت حالتهم الاقتصادية وانفتحت عليهم أبواب الرزق وتحسنت حالتهم المعيشية بحيث إن وضع أغلب المسلمين في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جيداً من الناحية الاقتصادية ، ونظراً إلى أن آيات سورة المائدة نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه لم يكن من البعيد أن تتعلق الزكاة الواجبة بأموال الإمام علي عليه‌السلام ولا ينبغي قياس حالة الإمام عليّ عليه‌السلام الاقتصادية في هذا الزمان الذي كان المسلمون يعيشون في حالة الانفتاح الاقتصادي والتمكّن المالي مع زمان نزول آيات سورة الإنسان (التي نزلت في أوائل الهجرة كما يقول الشيعة أو قبل الهجرة كما يقول بعض أهل السنّة). حيث كان المسلمون يعيشون أزمة اقتصادية ومالية لأن ذلك يعني أن التناقض المزعوم يفتقد بعض شروط الوحدة وهي الوحدة في المكان والآخر الوحدة في الزمان لكي يصح دعوة التناقض ، وهنا لا يوجد مثل هذا التوحّد في الزمان والمكان.

مضافاً إلى كلّ ذلك فقد ورد في الروايات الواردة في شأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه «اعْتَقَ الْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدِّ يَدِه» (١).

فمن الواضح أن الإمام عليّ عليه‌السلام لم يتسنى له العمل والكسب في زمان خلافته لكي يمكن القول بأنه أعتق هذا المقدار من العبيد من كدّ يده ، إذن فهذا العمل كان قد صدر منه قبل تصديه للحكومة والخلافة قطعاً.

والنتيجة هي أن دفع الخاتم من قبل الإمام علي عليه‌السلام حتّى لو قلنا بأنه من قبيل الزكاة الواجبة لم يكن ذلك بمستبعد وعجيب.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ، ص ٤٣.


والحقيقة أن هؤلاء المخالفين وقعوا في تناقضٍ بيّن ، فإنهم من جهة يذكرون أن الإمام علي قد دفع خاتماً ثميناً جداً إلى الفقير بحيث يدخل في دائرة الإسراف والتبذير ، ومن جهة اخرى يشكّون في أصل هذا العمل بسبب عدم التمكّن المالي للإمام علي عليه‌السلام.

والنتيجة هي أنه على رغم الإشكالات والشبهات الكثيرة التي احتفت بدلالة آية الولاية والتي ذكرنا أهمها آنفاً وأجبنا عنها فإن دلالة الآية الشريفة على الولاية لا تخفى على أحد حيث تقرر الآية الشريفة الولاية والقيادة والإمامة لثلاث أولياء : ١ ـ الله تعالى ٢ ـ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣ ـ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ملاحظة مهمة جداً!

إذا كان من المقرر أن تطرح مثل هذه الشبهات والإشكالات التي مرت آنفاً حول كلّ آية من آيات القرآن الكريم فإنّ أوضح الآيات وأحكمها كآيات التوحيد لا تتخلص من الإشكال ، فلا يبق شيء يصلح للاستدلال ، في حين أننا نرى أن مثل هذه الإشكالات والشبهات لا تطرح حول سائر الآيات القرآنية ، والظاهر أن هذا الاسلوب من طرح الشبهات يختص بالآيات المتعلقة بفضائل أهل البيت عليهم‌السلام وولايتهم فقط.

وإذا أردنا استكشاف السبب في مثل هذه المواجهة المتباينة مع الآيات القرآنية فلا بدّ من القول أن مثل هؤلاء الأشخاص لم يذعنوا للقرآن الكريم ولم يتعاملوا معه بأدبٍ ونزاهة كما هو المتوقع ، والمفروض على المسلم أن يجلس أمام القرآن كالتلميذ أمام استاذه بل يريد هؤلاء أن يكونوا أساتذة للقرآن ويستخرجوا منه ما يؤيد مسبوقاتهم الفكرية ، وهذا هو التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه بشدّة في الروايات الإسلامية (١).

أيها القارئ الكريم! إذا أردنا أن نستفيد من القرآن والوحي أو روايات المعصومين عليهم‌السلام استفادة صحيحة ونتوصل من خلالها إلى كشف الحقيقة فيجب علينا أن نتتلمذ على يد

__________________

(١) انظر تفاصيل هذا الموضوع في كتاب (التفسير بالرأي) لمؤلفه آية الله العظمى مكارم الشيرازي «مدّ ظلّه».


القرآن والأحاديث الشريفة ونستوحي مفاهيمنا الدينية من هذين المنبعين الغنيين بتعاليم الوحي والدين حتّى لو كانت على خلاف رغباتنا وميولنا وإلّا فإنّ التفسير بالرأي وبذر الإشكالات والشبهات حول مدلول الآيات الشريفة سينتهي إلى عواقب وخيمة وإنكار المسلّمات الدينية.

وورد في رواية شيّقة تتحدّث عن عاقبة نوعين من أنواع التعامل مع القرآن الكريم حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«... مَنْ جَعَلَهُ امامَهُ قادَهُ الى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ ساقَهُ إلَى النّارِ». (١)

والحقيقة أن هذه الرواية الشريفة يجب أن تهز كيان الأشخاص الذين يتعاملون مع القرآن من موقع التفسير بالرأي وإسقاط مفاهيمهم وأحكامهم المسبقة على الآيات الشريفة.

توصية آية الولاية

إنّ الآية الشريفة محل البحث مضافاً إلى أنها تثبت ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنها تتضمن توصية مهمة لشيعة وأتباع هذا الإمام بل لجميع المسلمين في العالم وهي :

إن الإمام علي عليه‌السلام لم يكن ولياً وإماماً للمسلمين وخليفة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة اعتباطية بل وصل إلى هذا المقام بسبب عوامل مهمة قد ذكرت في الآية نفسها ، فالإيمان الراسخ وإقامة الصلاة والمحافظة على الارتباط الوثيق بين العبد وخالقه ودفع الزكاة وتوثيق العلاقة بين الإنسان وأفراد المجتمع كلّها من الأسباب التي رشّحت الإمام عليّ عليه‌السلام ليكون أميراً للمؤمنين (٢).

وعليه فإن الآية الشريفة أعلاه توصي شيعة أمير المؤمنين بأنه إذا أردتم أن تكونوا من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٤ ، ص ١٣٤.

(٢) كما في اصطلاح الفقهاء «أن التعليق على الحكم مشعر بالعليّة» أي إذا ورد حكم لوصف ، فمفهومه أن هذا الوصف علّة لهذا الحكم ، مثلاً لو قيل : احترم العلماء. فمعنى ذلك أن العلم في هؤلاء الأشخاص هو السبب في لزوم الاحترام.


شيعة هذا الإمام وتصلوا إلى المراتب العليا من الكمالات المعنوية والإلهية ، فيجب عليكم أن تتحلوا بالإيمان الراسخ والقوي ، وتسعوا إلى تقوية هذا الإيمان وتعميق الرابطة مع الله تعالى وعدم الغفلة عن الصلاة والعبادة ، وكذلك عدم الغفلة عن دفع حقوق الآخرين من قبيل الزكاة حتّى في أثناء الصلاة وخاصّة في شهر رمضان المبارك شهر العبادة واليقظة وتهذيب النفس ، فيجب مضاعفة السعي في هذا المجال والتدبّر في مضامين الأدعية الواردة في هذا الشهر الكريم ليتسنّى للإنسان أن يخطو عملاً نحو رفع الفقر والمحرومية عن المساكين والمحتاجين والمرضى والذين لا يستطيعون أداء ديونهم وأن نتحرك في دعاءنا ومناجاتنا مع الله تعالى في طلب المغفرة للمرحومين والذين انتقلوا إلى الدار الاخرى ونسعى في التقليل من مصاب البائسين ونواسيهم في آلامهم وهمومهم.



آية اولي الأمر ٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

«سورة النساء / الآية ٥٩»

أبعاد البحث

الآية أعلاه تسمّى «آية الإطاعة» وهي آية اخرى تدلّ على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومحور البحث في هذه الآية هي جملة «اولي الأمر» حيث تتضمن نظريات وآراء مختلفة سيأتي شرحها وبيانها وما ذكر حولها من إشكالات.

الشرح والتفسير : من هم اولي الأمر؟

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

يخاطب الله تعالى في هذا المقطع من الآية الشريفة جميع المؤمنين في أقطار العالم وفي جميع الأزمنة والأعصار إلى يوم القيامة بتقديم الطاعة المطلقة لثلاثة من الأولياء :

الأوّل : إطاعة الله تعالى ، ثمّ إطاعة النبي ، والثالث إطاعة اولي الأمر.

والقسم الثاني من الآية الشريفة يبيّن المرجع للمسلمين في حال نشوب الاختلاف


والنزاع وكأن الغرض هو تأسيس جهاز قضائي مستقل للمسلمين ويقول :

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا ينبغي التوجّه في حلّ الاختلافات التي تحدث بين المسلمين إلى الأجانب ومرجعيات غير إسلامية.

وبالالتفات إلى قيد الإيمان بالله واليوم الآخر (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يتضح جيّداً أن المسلمين الذين يتوجّهون في اختلافاتهم إلى غير المنابع والمحاكم الإسلامية فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.

والملاحظة الاخرى الملفتة للنظر هي أن الآية الشريفة أوردت في صدرها وجوب إطاعة اولي الأمر من جملة الأولياء الثلاثة ولكنها عند ذكرها لمرجع الاختلاف في المقطع الثاني لم تذكر اولي الأمر ، وهذا المطلب هو الذي أثار علامات استفهام مهمة في تفسير الآية الشريفة أعلاه وسوف يأتي تفصيل ذلك في المباحث القادمة.

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) هذه الجملة في الحقيقة هي تعليل للجملتين السابقتين ، فلما ذا يجب على المؤمنين إطاعة الله ورسوله واولي الأمر؟

ولما ذا يحرم على المسلمين اختيار مرجعية اخرى في حلّ اختلافاتهم غير الله ورسوله؟

لأنّ الآية توضح ذلك وتقول إن هذا الحكم هو خير للمؤمنين وهو أفضل عاقبة لهم.

حدود إطاعة اولي الأمر

النقطة المبهمة في الجملة المذكورة أعلاه تكمن في المراد من اولي الأمر وعندها يتّضح تفسير الآية بصورة جيّدة ، ولذلك نجد أن المفسّرين قد اهتموا ببيان مصداق اولي الأمر وطرحوا لذلك سبع نظريات.

سؤال : قبل الدخول في تفاصيل نظريات المفسّرين حول معنى اولي الأمر لا بدّ من توضيح حقيقة مهمة لها دورٌ في فهم معنى اولي الأمر ، وهي : هل أن إطاعة اولي الأمر مقيّدة ومشروطة ، أو أنها مطلقة كما في إطاعة الله ورسوله؟ وبعبارة اخرى هل أنّ إطاعة اولي الأمر مقيّدة بقيود زمانية ومكانية وغير ذلك ، أو أنها واجبة على الإنسان في كلّ زمان ومكان وفي مختلف الظروف؟


الجواب : الظاهر أن الآية الشريفة أطلقت وجوب إطاعة اولي الأمر ولم تقيّدها بقيد وشرط معيّن ، وببيان آخر أن إطاعة اولي الأمر في الآية الشريفة لم يقيد بعدم الاشتباه والخطأ الحاصل لدى اولي الأمر ، وببيان ثالث كما أن إطاعة الله ورسوله واجبة مطلقاً فكذلك إطاعة اولي الأمر أيضاً قد وردت في الآية بصورة مطلقة ، وعليه فلا بدّ أن يكون اولو الأمر من المعصومين لأن إطلاق وجوب الإطاعة لا يصحّ إلّا إذا كان المطاع معصوماً ، لأنه لا يصحّ فرض طاعة الشخص الذي يرتكب الخطأ والاشتباه في أحكامه ، ولذلك نحن نعتقد بأن القاضي إذا أخطأ في إصدار حكمه وعلم أحد طرفي الدعوة بخطإ القاضي في صدور الحكم له على صاحبه ، فلا يمكنه بمجرد إصدار القاضي لحكمه أن يتملك ما حكم له أو يلقي بالذنب على صاحبه.

وحتّى مراجع التقليد الذين يجب على المكلّفين تقليدهم لو أنهم أخطئوا في مسألة من المسائل فإنه لا يجب اتباعهم وطاعتهم في هذه المسألة كما في رؤية الهلال إذا لم يثبت لمرجع التقليد رؤية الهلال في الليلة الثلاثين من شهر رمضان المبارك وحكم بصوم اليوم الثلاثين ولكنّ بعض المقلِّدين يرى بعينه هلال شوّال في الليلة الثلاثين ، فهنا لا يمكنه التمسّك بفتوى مرجعه واتباعه في صوم اليوم الثلاثين بل يجب عليه أن يفطر في ذلك اليوم لأنه يعلم بخطإ المرجع في هذه الفتوى.

وعلى هذا الأساس فإنّ الإطاعة المطلقة لا تصحّ إلّا من المعصومين ، وبما أن الآية الشريفة ذكرت إطاعة اولي الأمر بصورة مطلقة فلذلك نعلم بأن اولي الأمر يجب أن يكونوا من المعصومين.

اختلاف النظريات حول معنى اولو الأمر

أما بالنسبة إلى تفسير ومعنى كلمة اولي الأمر ، فكما تقدّم هناك نظريات مختلفة في هذا المجال ونشير إلى بعضها :

الأوّل ـ المراد من اولي الأمر قادة الامّة : فإن كلُّ من استلم زمام الحكم في المجتمع الإسلامي يطلق عليه «اولي الأمر» ويجب إطاعته بصورة مطلقة حتّى لو أنه تسلّم هذا


المقام بالقوّة والقهر ومن دون رضى الناس وحتّى لو كان من أفسق الناس فتجب إطاعته ، وعليه فإن إطاعة الحكام حتّى لو كانوا من أمثال المغول والتتر فيما لو تسلطوا على المجتمع الإسلامي تكون واجبة.

وقد ذهب إلى هذه النظرية جمع من علماء أهل السنّة.

ولكن هل يصحّ الالتزام بهذه النظرية عقلاً؟

أليس مراد الله ورسوله إقامة العدل والقسط في المجتمع الإسلامي (١)؟ إذن فكيف يمكن للظالم والحاكم بالجور أن يصبح خليفة لرسول الله ويقلع اسس العدالة من المجتمع الإسلامي ويقيم حكمه على الظلم والجور؟

إنّ هذا التفسير لمعنى اولي الأمر لا ينسجم مع أيّ برنامج إصلاحي في الإسلام فهل أن القائلين بهذا الكلام يرون أنه لو تسلط الحاكم الظالم بقوّة السيف على المجتمع الإسلامي وسحق جميع القيم الإسلامية تحت قدمه وأشاع الفحشاء والمنكر وقضى على المعروف والقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية واستهان بالواجبات الإلهية ، فمع ذلك يجب على المسلمين أن يعترفوا بأنه من اولي الأمر وأنه خليفة رسول الله وعليهم أن يطيعوا هذا الإنسان الظالم والمنحرف؟

مع الأسف إنّ هؤلاء يرون وجوب إطاعة مثل هذا الشخص الفاسد والظالم كما هو الحال في معاوية وابنه يزيد حيث يرون أنهم من اولي الأمر.

ليت أن هؤلاء العلماء لم يذكروا مثل هذا التفسير للآية الشريفة.

الثاني ـ وذهب بعض المفسّرين إلى عصمة اولي الأمر ورفضوا النظرية السابقة وبما أن الناس بصورة عامة غير معصومين فلذلك يكون المراد باولي الأمر مجموع الامّة الإسلامية ، وبديهي أن الامّة الإسلامية معصومة من الخطأ فلا يمكن أن يقع جميع المسلمين في وادي الضلالة والخطأ رغم أن كلُّ فرد غير معصوم ، وعلى هذا الأساس فكما أن إطاعة الله ورسوله واجبة فكذلك يجب اتباع الامّة الإسلامية أيضاً.

__________________

(١) ورد هذا المعنى في الآية ٢٥ من سورة الحديد.


ولكن نقول في مقام الجواب على هذه النظرية : كيف يمكن تحصيل رأي جميع أفراد الامّة الإسلامية؟ ألا يجب تحصيل جميع آراء ونظريات المسلمين؟ وإذا لم يجب تحصيل رأي كلّ فرد من المسلمين وانتخب المسلمون وكلاء ونوّاب عنهم وقلنا بكفاية اتفاق وإجماع هؤلاء الوكلاء والنوّاب للُامّة الإسلامية فإنه يقال : هل يمكن أن يحصل اتفاق في آراء هؤلاء الوكلاء للُامّة الإسلامية؟

إنّ الغالب هو عدم إمكانية تحصيل الاتفاق في الآراء حتّى لوكلاء ونوّاب الامّة الإسلامية ، فلو قيل إنّ اتفاق الآراء غير لازم بل المعيار هو الأكثرية ، فكلما رأت أكثرية النوّاب للُامّة الإسلامية في مسألة معيّنة الحلّ بصورة معيّنة فيجب اتباعهم بعنوانهم اولي الأمر ، فهل أن معنى اولي الأمر يصدق حقيقةً على أكثرية النوّاب والوكلاء للُامّة الإسلامية؟

الثالث ـ وذهب البعض إلى أكثر من ذلك وبسبب ضعفهم عن مواجهة الثقافة الغربية فإنّهم رأوا أن الديمقراطية الغربية هي مصداق اولي الأمر ألا تكون مثل هذه النظريات من التفسير بالرأي؟ ألا تكون هذه الآراء من قبيل تحميل المسبوقات الفكرية على القرآن؟ ألا تعتبر مثل هذه النتائج ظالمة بحقّ القرآن؟

مضافاً إلى ذلك فإنّ الديمقراطية الغربية ليست سوى فكرة برّاقة وأنيقة في الظاهر فحسب والغربيون أنفسهم لا يرون أن ديمقراطيتهم منهج مثالي للحكومة بل وجدوا أنفسهم مضطرين لقبولها لأنهم رأوا أنهم لو لم يتمسّكوا بالديمقراطية لعاشوا في ظروف أسوأ منها ، فهي من قبيل قبول «أقل ضرراً» وإلّا فأيُّ إنسان عاقل يقبل أنّ ٥٠% من أفراد الشعب يشتركون بالانتخابات فيفوز مرشح ٢٦% ثمّ يكون هذا المرشح هو الحاكم على جميع أفراد الشعب!! فهل هذا من العدالة والإنصاف؟!

إنّ الأشخاص الذين يعيشون الاستيلاء وضعف الشخصية في مقابل الديمقراطية الغربية يرون في حكومة أمريكا النموذج الكامل للديمقراطية ، ولحسن الحظّ ففي الآونة الأخيرة تجلت فضيحة كبيرة لهذه المزاعم في عملية الانتخابات الأمريكية لرئاسة الجمهورية وتجلّت الماهية الحقيقية لهذا النوع من الديمقراطية لجميع الشعوب بالعالم حيث إن الحكومة


الأمريكية التي تقوم بإدارة جميع المصانع والإدارات بأحدث الأجهزة الالكترونية والكامبيوترية وصل بهم الحال أن يختلفوا في عشرة إلى خمسة عشر ألف رأي وأنه هل يحسبونها بجهاز الحاسوب أو باليد؟ فما ذا يعني هذا الاختلاف؟ ولما ذا كلّ هذه المناقشات والمنازعات على هذا الأمر بحيث أقاموا الدنيا وأحدثوا ضجة في العالم؟

إنّ هذه الامور تعدّ علامة على زيف المدّعين للديمقراطية بحيث إنهم لا يعتمدون حتّى على أجهزتهم الفنية!! يجب على العالم أن يضحك على هذه الانتخابات الزائفة والديمقراطية الكاذبة ويجب على المحقّقين أن يدرسوا هذه الحادثة بدقّة حتّى يكشفوا حقيقة هؤلاء المدّعين للديمقراطية وخاصّة لمن يرى أن الغرب هو كعبة آماله وطموحاته ، والإنصاف أن تفسير اولي الأمر بالديمقراطية هو خلاف ظاهر الآية الشريفة بل ظلم كبير للقرآن الكريم.

الرابع : نظرية جميع علماء الشيعة ، وهي أن المراد باولي الأمر هم المعصومون عليهم‌السلام ولا يمكن أن يكون في كلّ زمان إلّا شخص واحد معصوم ، وهذا الشخص كان في زمن نزول القرآن وبعد رحيل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وبعده أحد عشر من ذرّيته من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

التوضيح : ألف) كما تقدّم في أن اولي الأمر (وبمقتضى الآية الشريفة أن إطاعة الله ورسوله واولي الأمر واجب بصورة مطلقة) يجب أن يكونوا معصومين ليتسنّى للمكلّفين إطاعتهم بدون سؤال وترديد ، أي أن وليّ الأمر يجب أن يكون مصوناً من الخطأ والذنب والاشتباه ، وبعبارة اخرى أن العصمة هي قدرة معنوية ومرتبة سامية من التقوى بحيث إن الشخص المعصوم لا يصدر منه أي ذنب أو خطأ أو اشتباه بالرغم من أنه مختار في سلوكه العملي وغير مجبر ويمكنه ارتكاب الذنب والخطأ ، ولكنه ببركة هذه المرتبة السامية من التقوى فإنه لا يقدم على ذلك.

وبعبارة ثالثة أن التقوى لها مراتب مختلفة ، أحدها هو التقوى من الذنوب الكبيرة وعدم ارتكابها بحيث أنه لو اتفق وأن أذنب في بعض الأحيان فإنه يتوب فوراً من ذلك ، وفي المرحلة الثانية مضافاً إلى عدم ارتكابه للذنوب الكبيرة فإنه يجتنب الذنوب الصغيرة أيضاً ، فلو صدر منه أحياناً ذنب صغير فإنه يتوب كذلك ، والمرحلة الثالثة هي أعلى ممّا تقدّم بأن


يكون مضافاً إلى اجتنابه الذنوب الكبيرة والصغيرة فإنّه يجتنب المكروهات أيضاً ، وهكذا يتدرج الإنسان المؤمن في مراتب التقوى إلى أن يبلغ الذروة وهي مرتبة العصمة المطلقة من الذنوب والخطأ والاشتباه ، وعليه فإنّ العصمة لا تعني الجبر كما يتوهم البعض بل هي أعلى مرتبة من مراتب التقوى.

ب) إنّ اولي الأمر المعصومين كما تقدّم آنفاً لا يمكن أن يكونوا جميع الامّة الإسلامية أو العلماء والمفكرين من وكلاء ونوّاب الامّة أو أكثريتهم بل يجب أن يكون المعصوم شخصاً خاصاً وفرداً معيناً منهم.

ج) بما أن العصمة مرتبة معنوية عالية ودرجة كاملة من التقوى فإنّه لا يمكن للناس تشخيص المصداق لهذا المعيار ، ولذلك فإنّ اولي الأمر يجب أن يعيّنوا من قبل الله تعالى أو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا يقوم كلّ معصوم بتعيين المعصوم الذي يليه للناس.

والنتيجة هي أوّلاً : يجب أن يكون اولو الأمر معصومين.

ثانياً : يجب أن يكون المعصوم فرداً خاصاً ومعيّناً.

ثالثاً : إنّ تعيين المعصوم من اولي الأمر يجب أن يكون من قبل الله تعالى.

وهنا يجب التوجه إلى القسم الثاني من هذا البحث ، أي الروايات الواردة في شأن نزول الآية الشريفة لنرى هل أن هذه الروايات عيّنت مصداق اولو الأمر للمسلمين؟ وهل أن الله تعالى أو نبيّه الكريم قد نصب هذا القائد المعصوم للناس؟

تفسير الآية في ظلال الروايات

هناك روايات متعددة في دائرة تعيين المعصوم المراد من الآية (أَطِيعُوا اللهَ ...) وأهمها «حديث الثقلين».

وطبقاً لما ورد في هذا الحديث فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله صرّح للمسلمين في أواخر عمره الشريف وقال :

«إنّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ ما إنّ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي ... كِتابَ اللهِ ... وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي». (١)

__________________

(١) ميزان الحكمة : الباب ١٦١ ، حديث ٩١٧.


ومعنى هذا الحديث أن القرآن الكريم مصون من الخطأ والاشتباه ، ولذلك فإنّ الشخص الذي يتحرك في خط القرآن فإنّه مصون من الوقوع في الخطأ أيضاً ، إذن فلا بد أن يكون أهل البيت معصومين أيضاً من الخطأ والاشتباه كيما يصحّ التمسّك بهم ويكون التحرّك في خطّهم مصوناً من الوقوع في أشكال الزلل والزيغ وإلّا فلا معنى أن يكون أهل البيت غير معصومين والشخص الذي يسير في خطّهم ويتبعهم يكون مصوناً من الوقوع في الخطأ.

إذن فطبقاً لهذه الرواية فإنّ أهل البيت معصومون ، وكما تقدّم في شرح الآية الشريفة (أَطِيعُوا اللهَ ...) يجب أن يكون هذا الفرد المعصوم معيّن من قبل الله تعالى ، وهذا يعني أن الأئمّة المعصومين معيّنون ومنتخبون بأفرادهم من قبل الله تعالى.

أهمية حديث الثقلين

إن حديث الثقلين يعتبر من الأحاديث المهمّة جدّاً في دائرة موضوع الولاية والإمامة بحيث لا نجد نظيراً له بين الروايات والأحاديث الواردة في هذا الشأن ، فهذا الحديث من جهة الدلالة قويٌّ جدّاً وصريح ، ومن جهة السند فإنّ الرواية متواترة ومذكورة في جميع مصادر الفريقين (السنّة والشيعة) بشكل واسع ، ويستفاد من مجموع الروايات الواردة في هذه المصادر أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتحدّث بهذا الحديث مرّة واحدة بل تكرر منه ذلك مرّات عديدة ، والرواية أعلاه وردت في المصادر الأصلية والمعتبرة للشيعة (تهذيب الأخبار ، الاستبصار ، الكافي ، من لا يحضره الفقيه) (١) وفي مصادر أهل السنّة (الصحاح الستّة) أيضاً. وهذه الصحاح الستّة عبارة عن :

١ ـ «صحيح البخاري» الذي يعدُّ أهم كتاب من بين هذه الصحاح الستّة وكاتبه هو «البخاري» الذي توفي سنة ٢٥٦ هجرية.

__________________

(١) «التهذيب» و «الاستبصار» من تأليف الشيخ الطوسي ، و «من لا يحضره الفقيه» من تأليف الشيخ الصدوق ، و «الكافي» للشيخ الكليني ، وهؤلاء الثلاثة من أساطين علماء الشيعة ، والجدير بالذكر أن ما يقال من أن هذه الكتب الأربعة من المصادر المعتبرة لدى الشيعة لا يعني أن جميع رواياتها صحيحة ومعتبرة ولا حاجة إلى التحقيق في سندها ، بل المراد أن أغلب روايات هذه الكتب معتبرة ، ويتبيّن ذلك بعد التحقيق في اسنادها.


٢ ـ «صحيح مسلم» الذي يأتي بعد صحيح البخاري في الأهمّية ، ومؤلفه هو «مسلم ابن حجار» الذي توفي سنة ٢٦١ هجري ويسمى هذين الكتابين بالصحيحين ، ويطلق على مؤلفيهما لقب «الشيخين».

٣ ـ «سنن ابن داود» وقد توفي ابن داود سنة ٢٧٥ هجري.

٤ ـ «سنن الترمذي» الذي توفي سنة ٢٧٩ هجري.

٥ ـ «سنن النسائي» الذي توفي سنة ٣٠٣ هجري.

٦ ـ «سنن ابن ماجة» الذي توفي سنة ٢٧٣ هجري.

إنّ جميع الروايات المذكورة في هذه الكتب الستّة هي من الصحاح ومن الروايات المعتبرة لدى أهل السنّة ، ولكن جميع الروايات المعتبرة لديهم لا تنحصر في هذه الكتب الستّة ، ولذلك كتب «الحاكم» كتاباً باسم «مستدرك الصحيحين» وذكر فيه روايات معتبرة اخرى لم تذكر في صحيح البخاري ومسلم (١).

ويذكر مؤلف هذا الكتاب : إنّ جميع الروايات المذكورة في مستدرك الصحيحين متطابقة مع المعايير المذكورة في البخاري وصحيح مسلم.

وقد ذكرت رواية الثقلين في ثلاث من هذه الكتب السبعة أي صحيح مسلم وسنن الترمذي (٢) ومستدرك الصحيحين (٣) وكمثال على ذلك نذكر ما ورد في صحيح مسلم :

«يقول يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن مسيرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلمّا جلسنا إليه قال حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه ، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا ابن أخي كبر سنّي وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما

__________________

(١) يقول ابن أبي الحديد : سألت استاذي عبد الوهاب : هل أن جميع الأحاديث الصحيحة واردة في الصحاح الستّة ، أو هناك روايات صحيحة اخرى في غيرها من الكتب؟ فقال : هناك روايات صحيحة كثيرة لم تذكر في الصحاح ، فقلت : هل أن حديث (لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي) صحيح؟ فقال : نعم هو صحيح ومعتبر.

(٢) سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٦٦٢ ، الحديث ٣٧٨٦ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩).

(٣) مستدرك الصحيحين : ج ١ ، ص ٩٣ وج ٣ ، ص ١٠٩.


حدثتكم فانقلوه وما لا فلا تكفلونيه ثمّ قال رضى الله عنه : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكّة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثمّ قال :

«أَيّهَا النّاسُ! فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشَكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ أَوَّلُهُما كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتابِ اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِه «فَحَثَّ عَلى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ» ثُمَّ قَالَ : «وَأَهْلُ بَيْتي اذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ....» (١).

مضافاً إلى هذه الكتب الثلاثة فإنّ الرواية محل البحث وردت أيضاً في خصائص النسائي (٢) ، والملفت للنظر أن ابن حجر وهو رجل متعصب جدّاً وقد كتب كتاباً ضد الشيعة باسم «الصواعق المحرقة» قد أورد الرواية أعلاه أيضاً (٣).

والأهم من ذلك أن ابن تيميّة مؤسس فرقة الوهابية المنحرفة أورد رواية الثقلين أيضاً في كتابه «منهاج السنّة» (٤).

والخلاصة أن هذا الحديث الشريف والعميق المغزى «حديث الثقلين» هو رواية متواترة في كتب الشيعة وأهل السنّة (٥).

وهذا المطلب يدلّ على أن الرواية المذكورة تتمتع بأهمية خاصّة ، ولهذا نجد الإمام الراحل بدأ في وصيته التاريخية بهذا الحديث الشريف لأنه محدّث خبير ويعلم أن هذا الحديث هو رواية محكمة لا يدخل فيها الشكّ والريب.

ومن خلال حديث الثقلين يثبت أن المراد من اولي الأمر هم الأئمّة الأطهار الذين يجب إطاعة كلّ واحد منهم في زمانه ولا يشترط في إطاعتهم واتباعهم أي شرط.

ومضافاً إلى حديث الثقلين هناك روايات اخرى واردة في شأن هذه الآية الشريفة ولكننا نذكر هنا اثنين منها :

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨٧٣.

(٢) خصائص النسائي : ص ٢٠ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٦٦).

(٣) الصواعق المحرقة : ص ٢٢٦ ، طبع عبد اللّطيف مصر (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٦٧).

(٤) منهاج السنّة : ج ٤ ، ص ١٠٤ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٦٩).

(٥) ومضافاً إلى ما ذكر أعلاه من الكتب والمصادر ، فإن هناك كتب مهمة اخرى لدى أهل السنّة تذكر حديث الثقلين ، ولمعرفة المزيد من التفاصيل يراجع «نفحات القرآن : ج ٩» ، و «احقاق الحقّ : ج ٤ ، ص ٤٣٨).


١ ـ يقول الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في «ينابيع المودّة» الصفحة ١١٦ :

«سمعت عليّاً صلوات الله عليه يقول : وأتاه رجل فقال : أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمناً وأدنى ما يكون به العبد كافراً وأدنى ما يكون به العبد ضالاً ، فقال له : قد سألت فافهم الجواب : أما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ويعرفه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقر له بالطاعة ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة .... قلت يا أمير المؤمنين : صفهم لي ، قال : الذين قرنهم الله تعالى بنفسه وبنبيه ، فقال : يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم ، فقلت له جعلني الله فداك أوضح لي. فقال : الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه الله عزوجل إليه :

إنّي تَرَكتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلّوا بَعْدِي إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما كِتابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتي.

فنرى في هذه الرواية الرابطة الوثيقة بين حديث الثقلين واولي الأمر.

٢ ـ ينقل أبو بكر المؤمن الشيرازي عن ابن عبّاس قوله :

«إن هذه الآية [آية الإطاعة] نزلت في علي عليه‌السلام حيث خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة (في غزوة تبوك) فقال يا رسول الله : أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أَما تَرْضى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزَلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى ، حِينَ قالَ : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ، فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ وَاولُوا الْامْرِ مِنْكُمْ». (١)

يعني أن الآية الشريفة ناظرة إلى عملك وسعيك وأنت مصداق اولي الأمر.

والنتيجة هي أن الآية الشريفة مع قطع النظر عن الروايات تدلُّ على أن اولي الأمر يجب أن يتحدد بمصداق معيّن ومعصوم ومنصوب من قبل الله تعالى ، وكذلك يفهم من خلال الروايات الشريفة أن المراد هو فرد معيّن ومنصوب بالنصب الإلهي ، وهم الأئمّة الاثنا عشر ، أي الإمام عليّ وأحد عشر من ذرّيته وأبنائه الطاهرين.

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٤٢٥.


أسئلة وأجوبة

هناك أسئلة وعلامات استفهام عديدة قد تثار حول مدلول هذه الآية الشريفة وأهمها ثلاثة أسئلة :

السؤال الأوّل : إذا كان الإمام عليّ عليه‌السلام هو مصداق اولي الأمر كما يقول الشيعة إذن فلما ذا لم تكن إطاعته واجبة في زمان حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حين أن الآية الشريفة تقرر وجوب إطاعة اولو الأمر كما هو الحال في وجوب إطاعة الله ورسوله؟

وبعبارة اخرى أن الإمام عليّ عليه‌السلام كان في عصر النبي مأموراً أيضاً ولم يكن آمراً وقائداً تجب إطاعته على المسلمين ، وعليه فإنّ التفسير المذكور للآية لا ينسجم مع وجوب الإطاعة الفعلي لُاولي الأمر.

الجواب : ويمكن الجواب عن هذا السؤال بنحوين :

ألف) لا بدّ في البداية من معرفة المراد من «الرسول» و «اولو الأمر» ، فلو فهمنا الفرق بين هاتين الكلمتين سيتضح لنا الجواب على السؤال أعلاه ، «الرسول» هو الشخص المرسل من قبل الله تعالى لبيان أحكامه وإبلاغ دينه وإنذار الناس ، أي أنه مضافاً إلى «النبوّة» وتبليغ الأحكام فإنه مرسل لإنذار الناس من العذاب الإلهي وببيان أوضح أن الرسول هو الشخص المأمور لبيان الأحكام وتبليغ الرسالة.

وأمّا «اولو الأمر» فلا يتحملون مسئولية التقرير والتشريع بل مسئولية حراسة هذا القانون وتجسيده على مستوى الواقع الاجتماعي ، وبعبارة أوضح يمكن القول أن «النبي» يمكن تشبيهه بالمشرّع والمقنن ، بينما «اولو الأمر» هم القائمون على تنفيذ وإجراء هذه القوانين.

ومع الالتفات إلى هذا البيان فإنّ المقنن في زمن الرسول هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك كان النبي الأكرم مسئولاً عن تنفيذ القانون وإجرائه في الوسط الاجتماعي ، وعلى هذا الأساس ففي زمن حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولاً وفي نفس الوقت «ولي الأمر» أيضاً كما في مورد النبي إبراهيم عليه‌السلام أيضاً حيث يقرر القرآن الكريم هذه الحقيقة وهو أنه قد نال مقام الإمامة مضافاً إلى مقام النبوّة ، أي أنه مضافاً إلى مرتبة التشريع والتقنين نال مرتبة


مسئولية إجراء القانون ، إذن فمقام الرسالة هو مقام التقنين ، ومقام الإمامة واولوا الأمر هو مقام إجراء القانون ، وفي زمن حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان النبي «رسولاً» و «ولي الأمر» ولكن بعد رحلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الشخص المعصوم المنصوب من قبل الله تعالى ورسوله هو المعني ب «اولي الأمر» ولم يكن ذلك إلّا الإمام علي عليه‌السلام ومن بعده سائر الأئمّة المعصومين واحداً بعد الآخر ، لأنه لم يرد ادعاء النصب الإلهي لهذا المقام إلّا للإمام علي وذريته الطاهرين.

والنتيجة هو أن ادّعاء فعلية الإطاعة لا يضر بتطبيق كلمة «اولو الأمر» على الإمام علي عليه‌السلام بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أبنائه الطاهرين بعد رحلة الإمام علي عليه‌السلام كما هو المستفاد من الأحاديث الشريفة.

ب) أما الجواب الآخر فهو أن الإمام علي عليه‌السلام كان في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً من اولي الأمر ، وعلى الأقل في فترة معيّنة من حياته الشريفة ، وذلك عند ما توجه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة تبوك وأبقى الإمام علي عليه‌السلام على المدينة بعنوان خليفته. ولتوضيح المطلب أكثر لا بدّ من إلقاء بعض الضوء على واقعة تبوك :

غزوة تبوك

إن هذه الغزوة هي آخر غزوة من غزوات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة فترة رسالته حيث وقعت أحداثها في السنة الأخيرة من سنوات عمره الشريف ، ومكانها يقع في أعلى نقطة من منطقة الحجاز وفي الحدود المشتركة بين الجزيرة العربية والروم الشرقية.

عند ما اتسعت رقعة الإسلام واستحكمت دعائمه في المدينة وانتشر خبره في أرجاء المعمورة أحست الدول المجاورة لدولة الإسلام ومنها الروم الشرقية «سورية وفلسطين» بالخطر من هذه الدعوة الجديدة وفكروا في الهجوم على المسلمين لصد هذا الخطر الذي يهدد عروشهم وتيجانهم (١) ولذلك أقدم الروم على تشكيل جيش مقداره أربعين ألف

__________________

(١) لم تكن بلاد الحجاز مطمعاً للدول الكبيرة في ذلك الزمان ، لأنها لم تكن تشكل خطراً مهماً من جهة سكّانها ولا يوجد فيها موارد اقتصادية مهمة ولا حضارة متفوقة ، بل كان أهل الحجاز نصف متوحشين حيث يعيشون


جندي بكامل العدّة والعدد وتحركوا باتجاه الحجاز.

وعند ما وصل هذا الخبر إلى المسلمين وإلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بأن يستعدوا لمواجهة هذا العدو وبالتحرك باتجاهه ولا يجلسوا في المدينة بانتظار قدومه ، وكانت هذه الاستراتيجية العسكرية مناسبة جدّاً لهذه الواقعة لأنه ليس من المناسب التقعقع في حالة دفاعية وانفعالية اتجاه هذا الخطر بل ينبغي أن يقابل هذا الهجوم بهجوم آخر.

واتفق في زمن وقوع هذه الحرب أنها كانت في أجواءٍ صعبة وغير مناسبة لأنها من جهة كانت حرارة الصيف على أشدها في الحجاز ، ومن جهة اخرى فإن المحصولات الزراعية لهذه السنة على وشك النضج وقد فرغت المخازن الغذائية للسنة الماضية لدى المسلمين ، ومن جهة ثالثة فإنّ الفاصل بين المدينة ومنطقة تبوك فاصلة كبيرة جداً حيث ينبغي على المسلمين طي هذا المسير مشياً على الأقدام غالباً لأنه لم يكن لكلّ عشرة أشخاص سوى مركب واحد ، وعلى هذا الأساس عليهم أن يتناوبوا في الركوب ، وعلى أية حال فقد صدر الأمر بالتوجه إلى منطقة تبوك فجمعوا ما تبقى لديهم من الأغذية من قبيل بعض التمر اليابس وقد يكون فاسداً أيضاً وتوجه المسلمون بجيش بلغ مقداره ثلاثين ألف شخص بقيادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك. وكان العطش والجوع يلم بجيش الإسلام وقد تورمت أقدام الكثير منهم بسبب المشي في الصحراء المحرقة ولكنهم وبالرغم من هذه الصعاب والمشاكل استمروا في طريقهم وقد تحمل جنود الإسلام في ذهابهم وإيابهم الكثير من الصعاب وواجهوا تحديات الواقع المفروض عليهم ولهذا سمّي هذا الجيش ب «جيش العسرة» (١).

__________________

الحروب الدائمة بينهم ، فلم تكن والحال هذه تشكل خطراً على البلدان المجاورة ، فحتّى لو اعطيت الحجاز مجاناً إلى البلدان الاخرى لم تقبل بها ، ولهذا كانت بعيدة عن أهداف الحكومات الاستعمارية ، ولكن مع ظهور الإسلام واتحاد القبائل العربية فيما بينها تحت لواء الإسلام وظهور حضارة جديدة ، أحسّ الأعداء بالخطر.

(١) بدون شك لو لا تلك الاستقامة والصبر من المسلمين في تلك الواقعة لم يكن الإسلام يصل إلينا بالتأكيد. ولهذا لا ينبغي التساهل في أمر حفظ هذا الدين لأنه لم يصل إلينا بيسر.


وعند ما وصل الخبر إلى جيش الروم بأن جيش المسلمين الذي يبلغ ثلاثين ألف نفر قادم إليهم من المدينة وبأقل مقدار من الإمكانات العسكرية ومشياً على الأقدام وبقلوب مليئة بالعشق إلى الجهاد ضد أعداء الله عزموا على العودة والتراجع. حيث أصدر «أي القيصر» ملك الشام الأمر بذلك ، وعند ما وصل المسلمون إلى تبوك علموا بفرار العدو وتراجعه وشكروا الله على هذا التوفيق العظيم.

ثمّ إن النبي الأكرم استشار أصحابه بالنسبة إلى الرجوع إلى المدينة أو مواصلة الطريق والهجوم على العدو في الشام ، وكانت نتيجة الشورى هي التصميم على العودة إلى المدينة لأن الإسلام لم يزل في بداياته ولم تكن للمسلمين القدرة الكافية والتجربة الوافية لفتح البلدان والمناطق الاخرى ، وعلى هذا الأساس كان هذا الاقدام العسكري في غاية الخطورة بالنسبة إلى الدولة الإسلامية الفتية.

وبملاحظة ما تقدّم فإن غزوة تبوك كانت تختلف تماماً عن غزوات الإسلام الاخرى «وخاصّة لطول مدّة عدم حضور النبيّ والمسلمين في المدينة وبُعد المسافة بين المدينة وتبوك» فكان من المحتمل جداً أن يتآمر المنافقون في المدينة بالتوافق مع الأعداء خارج المدينة ، ولهذا كان من المفروض أن يخلف النبي الأكرم أقوى وأشجع المسلمين ليحفظ دار الإسلام وعاصمة البلد الإسلامي من شر الأعداء ومؤامرات المنافقين المحتملة ، ولم يكن هذا الشخص سوى الإمام علي عليه‌السلام ولهذا فإن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عينه على المدينة كما تقدّم في رواية أبي بكر المؤمن الشيرازي المتقدّمة بعنوان أنه اولو الأمر.

وعلى هذا الأساس فإن الإمام علي عليه‌السلام كان يتصف بصفة «اولو الأمر» حتّى في زمان النبي الأكرم رغم أن ذلك كان بشكل مؤقت فكانت طاعته مترادفة مع إطاعة الله ورسوله وواجبة على المسلمين في المدينة ، وعليه فإن هذا الإشكال أي إشكال فعلية الإطاعة في الآية الشريفة يتضح جوابه ممّا تقدّم بيانه.

السؤال الثاني : إن كلمة «اولو الأمر» تدلّ على الجمع والإمام عليّ شخص واحد ، فهل المراد من «اولو الأمر» هو الإمام علي لوحده؟

الجواب : صحيح أن كلمة «اولو الأمر» صيغة للجمع ولكن المراد ليس هو الإمام عليّ


فقط بل تشمل جميع الأئمّة الاثنا عشر للشيعة الذين يقول بهم الشيعة كما ورد ذلك في حديث الثقلين بعنوان «عترتي أهل بيتي» حيث لا تختص بالإمام علي بل تشمل جميع الأئمّة المعصومين.

والشاهد على هذا الكلام الرواية التي وردت آنفاً في «ينابيع المودّة» حيث ذكر فيها أن اولو الأمر هم المقصودين من حديث الثقلين وقلنا أن المراد من «عترتي أهل بيتي» في حديث الثقلين هم جميع الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

والنتيجة هي أن المراد من اولي الأمر جميع الأئمّة الاثنا عشر كلّ واحد في زمانه الخاصّ حيث يجب إطاعته بدون قيد أو شرط على جميع المسلمين.

السؤال الثالث : لما ذا لم تتكرر كلمة «اولو الأمر» في ذيل الآية بحيث يرجع إليهم المسلمون في حلّ اختلافهم ومشاكلهم؟

الجواب : أوّلاً : إن هذا الإشكال لا يرد على الشيعة بالخصوص بل على أهل السنّة أيضاً لأنهم بأي معنى فسّروا كلمة «اولو الأمر» فهذا الإشكال وارد عليهم.

ثانياً : إنّ علّت عدم تكرار «اولو الأمر» في المقطع النهائي من الآية الشريفة هو ما تقدّم من الفرق بين «الرسول» و «اولو الأمر» فالرسول هو المسئول عن تقنين الشريعة و «اولو الأمر» هم المسئولون عن تنفيذ هذه القوانين ، ومن الواضح أنه إذا حصل شك لدى أحد الأشخاص في الحكم الإلهي لزم أن يراجع المقنن لا المنفذ للحكم.

وعليه فإن عدم تكرار هذه الكلمة لا يعدُّ نقصاً في مفهوم الآية الشريفة بل يؤكد بلاغة القرآن الكريم وفصاحته المدهشة.

والجدير بالذكر أن الأئمّة المعصومين بأجمعهم هم القائمون على تنفيذ قوانين الإسلام ، ولو تحركوا من موقع بيان أحكام الإسلام وتشريعاته فإن ذلك مقتبس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطعاً.

وهناك روايات وردت في «جامع أحاديث الشيعة» المجلد الأوّل ، الصفحة ١٨٣ تقرر أن أئمّة الهدى عليهم‌السلام قد أخذوا جميع علومهم في مجال الأحكام الشرعية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والنتيجة هي أن «اولي الأمر» لا تعني الأشخاص الذين يتولون تقنين الأحكام


وتشريعها بل بمعنى القيام على تنفيذها والعمل على إجراء القانون الإلهي ، ولهذا لا داعي لذكره مرّة اخرى في الآية الشريفة.

توصيات الآية

١ ـ إنّ أهم توصية في الآية الشريفة هي أن المسلمين يجب أن يذعنوا تماماً في مقابل الأحكام الإسلامية ويعملوا بالتكاليف الإلهية ويطيعوا الله ورسوله بدون سؤال وترديد ، ولا ينبغي لهم أن يختاروا ما هو الملائم لمزاجهم والمتناغم مع أهوائهم من هذه الأحكام ليعملوا به ويتركوا الباقي بل عليهم أن يتحركوا في خط الطاعة والرسالة ولو كان على خلاف ميولهم ورغباتهم فإنّ مثل هذا الشخص هو المؤمن الحقيقي والمسلم الواقعي.

ويحدّثنا القرآن الكريم بعبارة شيقة في الآية ٦٥ من سورة النساء في هذا الصدد :

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

هذه الآية الشريفة بإمكانها أن تكون معياراً جيداً ودقيقاً لتشخيص مقدار حالة التسليم والإذعان في واقع الإنسان ، وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإن المسلم الواقعي هو الذي يتحرك من موقع التسليم لحكم النبي حتّى وإن كان على خلاف مصلحته ورغبته فلا يكتفي فقط بعدم إظهار الانزعاج والتبرم بل ينبغي أن يشعر بالرضا والتسليم في قلبه وأعماق نفسه ، أي أنه يسلم نفسه لله تعالى في العمل والقول والعواطف القلبية وإلّا فإنه لو أحسّ بالتبرم في نفسه من أحكام الإسلام فإن ذلك يدلّ على أنه لن يحقق الإسلام الواقعي في وجوده ، لأن المسلم الواقعي يجب أن يرضى بما رضي به الله ورسوله لا بما ترضى به نفسه وأهواءه.

الإمام علي عليه‌السلام يقول في حديثٍ جميل :

لَأنْسُبَنَّ الْاسْلامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْها أَحَدٌ قَبْلي : الْاسْلامُ هُوَ التَّسْلِيمُ ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقينُ ، وَالْيقينُ هُوَ التَّصْدِيقُ ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْإقرارُ ، والْإقرارُ هُوَ الأَداءُ ، وَالأَداءُ هُوَ الْعَمَلُ. (١)

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار ، الكلمة ١٢٥.


فطبقاً لهذا الحديث الشريف فإنّ الإسلام يبدأ من واقع الإنسان وقلبه ثمّ يطوي المراحل المختلفة ليصل إلى مرحلة العمل والممارسة ، أي أن الإسلام بدون الاعتقاد القلبي وبمجرد أداء بعض التكاليف والعبادات لا يكفي في تحقق الغرض كما أن الاعتقادات لوحدها لا تكفي من دون أداء العبادات والتكاليف العملية وعليه فإنّ الإسلام هو مجموعة من الاعتقادات والأعمال الأخلاقية والدينية.

٢ ـ كلمة «أمر» تدلّ على مفهوم إيجابي واسع ، ففي هذه الكلمة تكمن القدرة والقوّة ، وهذا يعني أن «اولو الأمر» يجب أن يتحركوا مع الناس من موقع القدرة والقوّة والحكومة لا أنهم يطلبون هذا المقام ويمارسون نشاطاتهم بالتوسل وحالة الاستعطاف من الناس ، وهذا المعنى وارد أيضاً في كلمة «الأمر بالمعروف» فإنّ الأمر هنا يجب أن يكون من موقع القدرة ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن موقع القدرة لا يتنافى مع استخدام اسلوب المرونة والمداراة مع الناس لتحقيق المعروف وكما ورد في القصة المعروفة عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام حيث تقول الرواية : «ومن حلمه ما روي عن الكامل للمبرّد وغيره أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه وضحك فقال : أيها الشيخ أظنك غريباً ولعلّك تشبّهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا أحملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وان كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً. فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ، ثمّ قال : أشهد انّك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم» (١).

القارئ المحترم يدرك جيداً أن الفاصلة بين أفضل الناس على الأرض وأشر الناس كم هي كبيرة ، ولكن الإمام الحسن عليه‌السلام باتخاذه هذا الاسلوب السليم والأخلاقي في عملية

__________________

(١) منتهى الآمال : ج ١ ، ص ٤١٧.


الأمر بالمعروف قد قطع كلّ هذه المسافة الشاسعة.

ونحن أيضاً يجب علينا الاستفادة من هذا الدرس الكبير والالتفات إلى أن المخالفين على قسمين :

١ ـ الأشخاص الذين وقعوا تحت تأثير الإعلام المسموم والدعايات المغرضة فصدرت منهم ممارسات شائنة وكلمات لا مسئولة ، فهؤلاء يجب التعامل معهم بالاسلوب اللين لهدايتهم كما هو الحال في هذا الرجل الشامي الذي وقع تحت تأثير دعايات بني امية المضللة وأصبح من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، وكما رأينا أن الإمام الحسن قد جذبه إلى الحقّ وهداه إلى الدين بأخلاقه الحميدة.

٢ ـ الأشرار المعاندون الذين يعاندون طريق الحقّ ويبغضون أهل الحقّ عن علم ودراية ، فهؤلاء لا معنى للتساهل والتسامح في التعامل معهم بل ينبغي التعامل معهم من موقع القدرة والشدّة.

إن معرفة الأشخاص وتشخيص هذين القسمين ثمّ التعامل مع كلّ طائفة بما ينبغي التعامل معها عمل دقيق ويستلزم الكثير من الدقّة والتدبّر.

ربنا! وفقنا إلى نيل التسليم الكامل في مقابل أحكامك وأوامرك ووفقنا لأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقدّسة كما يريد منّا الإسلام.



آية الصادقين ٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

«سورة التوبة / الآية ١١٩»

أبعاد البحث

إنّ الآية أعلاه تسمّى ب «آية الصادقين» ، وهي إحدى الآيات المتعلقة بمسألة الولاية والإمامة الواردة في شأن الإمام عليّ والأئمّة الأحد عشر من أولاده المعصومين عليهم‌السلام ، ففي هذه الآية الشريفة يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين باتباع «الصادقين» فمن هم هؤلاء الصادقون؟ وما هي خصوصياتهم وعلاماتهم؟

معرفة إجمالية لسورة التوبة

من الضروري أن نتعرف على سورة التوبة بصورة إجمالية لتتضح جيداً أجواء نزول آية الصادقين الواردة ضمن هذه السورة ، ولأجل ذلك لا بدّ من بيان عدّة امور :

ألف) أسماء السورة وعلة تسميتها

هذه السورة لها اسمان متباينان «التوبة» و «براءة» والسبب في تسميتها «براءة» أن هذه السورة تبدأ بهذه الكلمة «براءة» مضافاً إلى أن هذه السورة تتضمن إعلان البراءة من المشركين وأعداء الإسلام.


ولهذا السبب فهذه السورة لم تبدأ ب «بسم الله الرحمن الرحيم» التي تتضمن الرحمة والرحمانية والحنان واللطف.

وأمّا سبب تسمية هذه السورة ب «التوبة» فهو أن الكثير من آيات هذه السورة تدعو الناس للتوبة والعودة إلى الله تعالى ، أي أنها على الرغم من إعلانها الحرب على الكافرين والبراءة من المشركين وشرارات الحرب تملأ أجواء هذه الآية فإنّ آيات هذه السورة تتضمن كذلك مفهوم التوبة بصورة واسعة بحيث إنها بعد إعلان البراءة من المشركين تقول قبل نهاية الآية الخامسة (١) من هذه السورة :

(... فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

أي بالرغم من أن الكفّار والمشركين قد تآمروا كثيراً على الإسلام والمسلمين وارتكبوا جرائم كثيرة ولكنهم لو تابوا وتمسّكوا بتعاليم الإسلام فإنّ توبتهم ستكون مقبولة.

والسبب في أن لهذه السورة اسمين متضادين هو كثرة الآيات التي تشير إلى التوبة ضمن الآيات التي تعلن الحرب والبراءة من الأعداء والمشركين ولعلّ ذلك لغرض بيان هذه الحقيقة ، وهي أن الإسلام لم يغلق باب العودة وخط الرجعة على المذنبين والمجرمين حتّى في حال الحرب والقتال مع المسلمين فإنّ الإسلام لا يقصد الانتقام منهم بل يهدف من تعاليمه حتّى من إقامة الحرب إصلاح الناس ، ولهذا فلو أن الأعداء رغبوا في التوبة في أثناء الحرب وأظهروا عملاً التزامهم بالتوبة فإنّ الإسلام سوف يرفع عنهم حكم القتل بل سيتحرك نحو حمايتهم وتأييدهم.

وبعبارة اخرى إنّ تركيب الآيات لهذه السورة واختيار اسمين لها ، يشير إلى حقيقة مهمة على المستوى التربوي للناس وهي :

إنّ الإنسان يحتاج في عملية التعليم والتربية إلى عنصر الخشونة والمداراة سويةً ، فلو اتخذت الحكومة في تعاملها مع الناس اسلوب الخشونة لأدى ذلك إلى نفور الناس وتفرقهم ، ولو تحدّثت الحكومة معهم من موقع المداراة واللطف فقط لأساء المجرمون والذين في قلوبهم

__________________

(١) بل إن مسألة التوبة وردت قبل هذه الآية أي في الآية الثانية.


مرض الاستفادة من هذا اللطف والمداراة وأمعنوا في توغلهم في أعمال الشر والجريمة ، ولكنّ استخدام اسلوب يجمع بين الخشونة والمداراة كلٌّ في موقعه المناسب بإمكانه أن يحلُّ الكثير من المشكلات ، ولذلك كان من اللازم استخدام «الشدّة» و «اللطافة» وأيضاً «العقوبة» و «التوبة».

ب) زمان نزول آيات سورة التوبة

إنّ الآيات الاولى من سورة التوبة نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة يعني سنة واحدة قبل وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطبقاً لما ذكره المفسّرون فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه السنة وعلى أساس التعليمات الواردة في هذه الآيات أمر الإمام علي عليه‌السلام (١) بالتوجه إلى مكّة في مراسم الحجّ والإعلان عن أربعة امور :

١ ـ أنه لا يحقّ بعد هذا العام وهو العام التاسع للهجرة أن يطوف بعض الناس وهم عراة.

سؤال : وهل أن البعض يطوف حول البيت عارياً إلى ذلك الزمان ولما ذا؟

الجواب : نعم فإن بعض الرجال وحتّى بعض النساء كانوا يطوفون حول البيت وهم عراة تماماً لأنّ أحد عقائد الوثنيين الخرافية هي أنه إذا طاف الشخص بثيابه يجب عليه أن يتصدّق بهذه الثياب على الفقير ، ولهذا السبب فإنّ الأشخاص الذين لم يكن لديهم سوى ثوب واحد كانوا يقومون باقتراض ثوب لهم من شخص آخر حين الطواف ويطوفون به لكي لا يشملهم الحكم المذكور. وأما الأشخاص الذين لم يتهيأ لهم اقتراض ثوب من شخص آخر ولا يرغبون في التصدّق بثوبهم كانوا يطوفون وهم عراة تماماً.

٢ ـ انه لا يحقّ للمشركين وعبّاد الأوثان الطواف بالكعبة بعد هذا العام.

سؤال : أليس الإسلام يرى الحرية في العقيدة ، إذن لما ذا منع أتباع سائر الأديان بالطواف حول الكعبة؟

__________________

(١) يتفق جميع المفسّرين والمؤرّخين تقريباً على أنه لما نزلت الآيات الاولى من سورة براءة وفيها الغاء للعهود مع المشركين ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في البداية أبا بكر بابلاغها إلى الناس في وقت الحجّ في مكّة ، ثمّ أخذها منه وسلّمها إلى علي عليه‌السلام وأمره بابلاغها في مراسم الحجّ (وتفصيل الواقعة التاريخية التي أراد البعض إخفاءها ، مذكورة في التفسير الأمثل : ج ٥ ، بداية سورة التوبة).


الجواب : إنّ الإسلام يرى حرية المذاهب والأديان ولكن الشرك وعبادة الأوثان لا يحسب ديناً ومذهباً بل هو مجموعة من العقائد التي تقوم على أساس خرافي.

٣ ـ إنّ المسلمين يلتزمون بعهودهم ومواثيقهم مع المشركين إلى آخر المهلة المقررة في الميثاق ولكنهم بعد ذلك لا يقومون بتجديد هذا العهد والميثاق مع المشركين.

٤ ـ إنّ المشركين الذين لا تربطهم مع المسلمين رابطة عهد وميثاق سوف يُمهلون لمدّة أربعة أشهر لإصلاح عقائدهم ونبذ الشرك وعبادة الأوثان وإلّا فإنهم سيتعرضون لقتال المسلمين.

وعلى أيّة حال فانّ الآيات الاولى من سورة التوبة والتي وردت الإشارة إلى مضمونها نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة ، ويحتمل قوياً أن بقية سورة البراءة ومنها هذه الآية محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة ، أي في السنة الأخيرة من عمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى هذا الأساس فإنّ «آية الصادقين» نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك عملت على تهيئة الأرضيّة اللازمة لولاية وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

الشرح والتفسير

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) نرى في هذه الآية الشريفة أن الله تعالى يخاطب المؤمنين والمسلمين ويأمرهم بأمرين :

الأوّل : أن يلتزموا بتقوى الله تعالى والتي تعدُّ أهم رأس مال المؤمن وميزان القرب من الله تعالى ، وكلّما ازدادت حالة التقوى في السالك إلى الله فإنه سيكون أقرب إلى الله تعالى ، وكلّما قلّ منسوب التقوى في الإنسان كان ذلك علامة على ابتعاده من الله تعالى حيث نقرأ في الآية ١٣ من سورة الحجرات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

ونقرأ في الآية ٦٣ من سورة مريم أن التقوى هي بمثابة جواز عبور الإنسان على الصراط ودخوله الجنّة :


(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)

فالتقوى في نظر الإسلام مهمة في عملية الصعود بالإنسان إلى مدارج الكمال وتعني أن يعيش الإنسان الخوف والخشية من الله تعالى بحيث يدفعه ذلك إلى اجتناب الذنوب ولا يحتاج معها إلى ضوابط خارجية.

الثاني : هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين في هذه الآية الشريفة أن يكونوا مع الصادقين.

من هم الصادقين؟

سؤال : هل أن المراد من «الصادقين» في هذه الآية الشريفة ، والذين أمر الله تعالى المسلمين باتباعهم هم أشخاص معيّنون ، أو أن المراد هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة ، أي أن يتبع الإنسان كلُّ شخص صادق؟

الجواب : نحن نرى أن المراد من «الصادقين» في هذه الآية الشريفة ليس كلُّ إنسان صادق بل أفرادٌ مخصوصون ، والشاهد على ذلك وجود قرينتين في هذه الآية :

١ ـ أنه لو كان المراد من كلمة «الصادقين» هو المعنى العام لا الخاصّ فيجب أن يقول «كونوا من الصادقين» لا «مع الصادقين» لأن الواجب على جميع المسلمين أن يكونوا صادقين لا مجرد أن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا الأساس يتّضح من وجوب اتباع الصادقين والكون معهم أن المراد بهم هم أشخاص معيّنون بحيث يجب على المسلمين إتباع هؤلاء الأشخاص.

٢ ـ والشاهد الآخر على هذا المعنى أن ظاهر الآية يدلّ على أن إتباع هؤلاء غير مقيّد بقيود أو شروط ، وعليه فإنّ إطلاق وجوب اتباعهم يدلُّ على ضرورة أن يكون هؤلاء الصادقون معصومين ومصونين من الخطأ والاشتباه والزلل لأنه لو لم يكونوا كذلك فلا يصحّ للمسلمين اتباعهم مطلقاً بل عليهم الابتعاد عنهم في حالات الزيغ والخطأ والمعصية.

وعلى هذا الأساس فبما أن وجوب اتباع «الصادقين» ورد بصورة مطلقة لزم أن يكون هؤلاء الصادقين أشخاصاً معينين ومعصومين من الخطأ والذنب ليتسنّى للآخرين اتباعهم بصورة مطلقة.


والنتيجة هي أنه إما أن يكون اتباع هؤلاء الصادقين ورد بصورة مطلقة فيكون «الصادقون» يراد بهم أشخاص معينون ، أو أن ترد كلمة «الصادقين» بصورة مطلقة وتشمل جميع من كان صادقاً فيلزم التقيد في اتباعهم ، ونظراً لما تقدّم من القرينتين في هذه الآية الشريفة فإنّ الاحتمال الأول هو الصحيح ، فعليه فإنّ كلمة «الصادقين» مقيّدة والاتّباع مطلق ، والمراد منه أشخاص معيّنين الذين يمكن للمسلمين اتّباعهم بصورة مطلقة.

نظرية علماء أهل السنّة

أما المفسّرون من أهل السنّة فقد انقسموا في تفسيرهم لهذه الآية إلى قسمين ، فبعضٌ لم يبحث هذه المسألة بصورة جيدة ولم يهتم لتفسير كلمة «الصادقين» فيها ومرّ عليها مرور الكرام.

وبعض آخر ذكر مطالب متنوعة في تفسيرها حتّى أنهم ذهبوا إلى أن «الصادقين» يجب أن يكونوا معصومين أيضاً لأنّ الاطاعة والإتباع ورد بصورة مطلقة ولا يصحّ ذلك إلّا باتّباع المعصوم ولكن مع ذلك فإنّ المسبوقات الفكرية والأحكام الذهنية لم تسمح لهؤلاء أن يصلوا إلى الحقيقة في تفسيرهم لهذه الآية.

الفخر الرازي من جملة المفسّرين من الطائفة الثانية فمضافاً إلى أنه يرى أن «الصادقين» يجب أن يكونوا معصومين يعتقد كذلك أن هذه الآية لا تختص بعصر نزول النصّ وزمان حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل في كلّ زمان يكون هناك شخص صادق معصوم في الامّة الإسلامية يجب على المسلمين إطاعته شرعاً.

ولكنه عند ما أراد تشخيص مصداق «الصادقين» تورط في مسبوقاته الذهنية وابتلى بالتفسير بالرأي وقال : «نحن نعترف بأنه لا بدّ من معصوم في كلّ زمان ، إلّا أنا نقول : ذلك المعصوم هو مجموع الامّة».

أي أن الامة الإسلامية لو اتفقت على رأي واحد في مسألة معيّنة فيجب على الجميع إتباع هذا الرأي ، والنتيجة هي أن قوله تعالى «كونوا مع الصادقين» هو أن يكون المسلمون في كلّ عصر وزمان يسيرون جنباً إلى جنب مع مجموع الامّة الإسلامية.


ولكننا نسأل من الفخر الرازي : هل أن هذا التفسير كان يتبادر إلى ذهن المسلمين في عصر نزول الوحي وفي أذهان الصحابة في وقت نزول الآية؟ وأساساً فإنّ مسألة «الإجماع» طرحت بعد قرون من عصر النزول فكيف يستنبط الفخر الرازي من هذه الآية «إجماع الامّة»؟

ولا شكّ أن هذا التفسير مجانب للصواب وأن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفهموا من كلمة «الصادقين» سوى عدّة من الأشخاص المعينين الذين يتمتعون بمقام العصمة.

وعلى هذا الأساس ، فلا شكّ في أن «الصادقين» يتمتعون بمقام العصمة من الذنوب والأخطاء ، هذا أوّلاً ...

وثانياً : أنهم موجودون في كلّ عصر وزمان ولا يختص وجودهم في زمان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثالثاً : أن عددهم معيّن ومحدد.

فالامور الثلاثة أعلاه تستفاد من نفس هذه الآية الشريفة كما مرّ تفصيل الكلام عنه آنفاً (١) ولكنّ مصداق «الصادقين» لا يتضح ويتبين من الآية نفسها بل لا بدّ من الاستفادة من الروايات الشريفة.

تفسير آية الصادقين بضميمة الآيات الاخرى

لو جلسنا في مقابل القرآن جلسة التلميذ وأبعدنا أذهاننا عن المسبوقات الذهنية والمذهبية وتدبرنا في آيات هذا الكتاب العظيم بإخلاص ورغبة صادقة فإنّ القرآن الكريم يعرّف لنا الصادقين في آيات اخرى حيث يقول تعالى في الآية ١٥ من سورة الحجرات :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ

__________________

(١) لو تخلّى الإنسان من قيود التعصّب والمسبوقات الذهنية وتدبّر في مفهوم الآية الشريفة والآيات المشابهة لها لحصل على نتائج جيدة ، ومن هؤلاء الأشخاص الدكتور التيجاني الذي كان من علماء أهل السنّة وقد اهتدى إلى الحقّ بعد التدبّر في الآية الشريفة وأمثالها وفي جوابه لمن سأله : لما ذا اخترت مذهب التشيع؟ كتب كتاباً باسم «لأكون مع الصادقين» حيث يدور البحث فيه حول الآية الشريفة المذكورة أعلاه.


وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإن «الصادقين» مضافاً إلى إيمانهم بالله ورسوله أو إيمانهم بالمبدإ والنبوّة التي يشترك في هذه العقيدة جميع المسلمين فإنّهم يختصون بخصوصيات اخرى لا يشترك معهم سائر المسلمون :

١ ـ إنهم بعد الإيمان بالله ورسوله لم يعيشوا الريب والشك ولا للحظة واحدة بل كانوا يعيشون الإيمان واليقين الراسخ في جميع مراحل حياتهم.

٢ ـ والآخر أن هذا الإيمان المذكور لم ينحصر في عالم القلب واللسان فحسب ، بل إنّ آثاره تجلت بوضوح على مستوى الممارسة والعمل ، ولهذا فإنّهم يتحركون في جهادهم في سبيل الله من موقع القرب من الله وبدافع من طلب رضاه فقط لا بدوافع اخرى فيبذلون المال والأنفس في هذا السبيل.

ومع الالتفات إلى هاتين الخصوصيتين النادرتين يجب علينا التفتيش والفحص بين أصحاب الرسول الأكرم لنعثر على الشخص الذي يتمتّع بهذه الصفات والخصوصيات ويكون من الصادقين.

ولدى رجوعنا لتاريخ صدر الإسلام نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أن الشخص الوحيد الذي يتمتع بهذه الصفات هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لأن جميع حياته كانت مليئة بالجهاد بالمال والنفس ولم يشك أو يتردد طرفة عين في إيمانه وعقيدته.

ومن أجل إثبات هذه الحقيقة نذكر ثلاث وقائع مختلفة مما يذكره التاريخ الإسلامي عن حياة هذا الإمام وجهاده بالمال والنفس وإيمانه الراسخ بالله ورسوله :

١ ـ عند ما تحرك المشركون في مكّة للقضاء على الإسلام وتآمروا في كيفية الطريق إلى تحقيق هذه الغاية وصمّموا على تنفيذ مؤامرة قتل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن أجل أن لا تقوم عشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالانتقام من القاتل أو الاقتصاص منه قرّروا أن يقوم بهذه العملية عدّة أشخاص من جميع القبائل فاختاروا لذلك أربعين شخصاً من الأقوياء والشجعان في القبائل العربية ليهجموا على بيت النبوّة ليلاً وينفّذوا هذه العملية.

ولكنّ الله تعالى أخبر نبيّه الكريم بواسطة الوحي بهذه المؤامرة الخطيرة ، فقام النبي


لأجل التخلص من هذه المؤامرة بالهجرة إلى المدينة ولكن من أجل أن لا يلتفت الأعداء إلى غيبته لزم أن يختار شخصاً شجاعاً مستعداً للموت لينام على فراش النبي في الليلة المقررة فكان أن اختار النبي الإمام علي عليه‌السلام لهذه المهمة.

وطبقاً للروايات (١) الواردة في هذه الحادثة فإن رسول الله قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام عندها : إنني قد امرت أن اهاجر إلى المدينة ولكنّ هناك أربعين رجلاً مسلّحاً من أربعين قبيلة يحاصرون هذا البيت وينتظرون طلوع الفجر ليهجموا على هذا البيت ويقتلونني فهل أنت يا عليّ مستعد لتنام في فراشي لأتمكن من التحرك نحو المدينة؟

فأجاب علي عليه‌السلام الذي ملأ قلبه العشق للنبيّ وللرسالة ولم يتردد أو يشك لحظة في إيمانه وعقيدته : «يا رسول الله إذا أنا نمت في فراشك فهل تصل سالماً إلى المدينة؟»

كان هذا السؤال مهماً جداً بالنسبة إلى الإمام علي عليه‌السلام فلم يسأل عن مصيره هو والخطر المحدق به في هذه الليلة بل كان فكره مشغولاً فقط بسلامة معشوقه وحبيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم سأصل سالماً إن شاء الله.

فوقع الإمام علي عليه‌السلام من فوره على الأرض ساجداً لله تعالى سجدة الشكر على سلامة الرسول ولعلّ هذه كانت أوّل سجدة شكر في الإسلام.

فهل نجد شخصاً غير علي ابن أبي طالب يعيش العشق والحبّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذه الدرجة؟

نحن بدورنا نعشق هذا الإمام ونتّبع في عقيدتنا وسلوكنا هذا الإنسان الكامل.

وهكذا نام الإمام علي عليه‌السلام في فراش النبي ووصل النبي سالماً إلى المدينة فلما أصبح الصباح هجم الأعداء على بيت النبي فنهض الإمام علي عليه‌السلام عند ما سمع الضجة من فراشه ، فوجد الأعداء أن هذا النائم ليس هو مرادهم ومقصودهم فسألوا عليّاً : أين محمّد؟

وبدون أن تتخلل ذرة من الخوف في قلب الإمام علي عليه‌السلام قال : وهل أودعتموه عندي حتّى تسألوا هذا السؤال؟

__________________

(١) وقد أورد المحدّث القمّي رحمه‌الله في منتهى الآمال : ج ١ ، ص ١١٠ هذه الواقعة بالتفصيل.


فبهت الأعداء من هذا الجواب القاطع لهذا الشاب الشجاع وقالوا فيما بينهم : إنّ هذا شاب ساذج وقد خدعه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا سمع الإمام علي عليه‌السلام ذلك منهم وأنهم يتحدّثون عن حبيبه بلغة الإهانة قال لهم كلاماً جميلاً جداً وعميق المغزى :

إنّ اللهُ قَدْ أَعْطانِي مِنَ الْعَقْلِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَمِيع حُمَقاءِ الدُّنيا وَمَجانِينها لصارُوا بِهِ عُقَلاء وَمِنَ القُوَّةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنْيا لَصارُوا بِهِ أَقْوياءَ ، وَمِنَ الشُّجاعَةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ جُبَناءِ الدُّنْيا لَصارُوا بِهِ شَجْعاناً. (١)

عند ما سمع الأعداء هذا الجواب تملكهم اليأس وأطرقوا برءوسهم خارجين من المنزل.

فلو كان لدى الإمام علي عليه‌السلام ذرة من الشك والتردد بالنسبة إلى إيمانه بالله والرسول فهل يعقل أن يخاطر بحياته مثل هذه المخاطرة؟

٢ ـ في واقعة احد تمكن الأعداء من تحقيق نصر عسكري على المسلمين بسبب غفلة المسلمين وطمعهم في حطام الدنيا ومضافاً إلى ذلك فقد استفاد الأعداء من هذه الغفلة وتحركوا من موقع الحرب النفسية ضد المسلمين حيث صاح أميرهم لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جريحاً في ميدان القتال «لقد قُتل محمّد!» ولما سمع المسلمون هذا النداء هرب الكثير منهم من ميدان القتال كما تقول الرواية ، ولكنّ الإمام علي عليه‌السلام الذي كان مؤمناً بانتصار الإسلام وبوعد الله تعالى ولم يتردد لحظة في هذه العقيدة الراسخة لم يلتفت إلى هذا النداء وبقي مستمراً في قتال الأعداء حتّى أصاب جسده الشريف جراح كثيرة ولكنه استمر في القتال والدفاع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث أدّت شجاعته وإيمانه وسعيه البالغ في دفع الخطر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إجهاض كيد العدو وأدرك المسلمون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقتل لحد الآن ، ولذلك عاد الكثير منهم إلى ميدان القتال ، وعلى أيّة حال انتهت الحرب بكلِّ ما تضمنته من صعوبات وتحديات واندحر الأعداء وهم مصابون باليأس من الغلبة على الإسلام وتوجهوا إلى مكّة ، وهكذا اصيب الإمام علي عليه‌السلام في هذه المعركة بما يقارب من ٩٠ جرحاً فأرسل له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طبيبين ليعالجاه ويضمدا جراحه ولكنهم سرعان ما عادوا إلى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨٣.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهما يقولان : يا رسول الله إنّ جراح علي ابن أبي طالب إلى درجة من الكثرة والتقارب بحيث أننا كلّما سعينا لمعالجة جرح انفتح علينا جرح آخر.

يقول الشبلنجي العالم المعروف لدى أهل السنّة في كتاب «نور الأبصار» : إنّ عليّ بن أبي طالب بعد واقعة احد قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد أصابتني في هذه المعركة الشديدة مع المشركين ستة عشر ضربة عميقة بحيث إنني وقعت على الأرض أربع مرّات وفي كلّ مرّة كنت أرى شخصاً نورانياً يساعدني على النهوض من الأرض ويقول : انهض ودافع عن رسول الله ، فمن هو يا رسول الله؟ (١)

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتقر عينك يا عليّ هذا جبرئيل أمين الوحي.

نعم إنّ هذه الواقعة يصدقها القرآن الكريم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(٢)

والخلاصة هي أن هذه الحادثة تدلُّ على المرتبة العليا لجهاد الإمام علي عليه‌السلام بماله ونفسه من جهة وكذلك على إيمانه الراسخ ويقينه القوي بالله ورسوله وما وعده الله تعالى من نصر الإسلام على المشركين من جهة اخرى. إذن فهو مصداق كلمة «الصادقين» في هذه الآية الشريفة.

٣ ـ وفي حرب الأحزاب عند ما تقدّم عمرو بن عبد ود العامري بطل العرب وعبر الخندق وأخذ ينادي المسلمين ويطلب البراز فلم يستجب له إلّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتكرر هذا العمل ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة ينهض الإمام علي عليه‌السلام من مكانه وهو مستعد لمبارزته.

وهكذا توجه علي بن أبي طالب نحو هذا العدو الغاشم بإيمان راسخ وشجاعة عظيمة فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر ، ثمّ إن المعركة بين علي وعمرو بن عبد ود انتهت بغلبة الإسلام على الكفر ، وانتصر الإمام علي عليه‌السلام على عدوه في هذه المواجهة والمبارزة.

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٩٧.

(٢) سورة فصّلت : الآية ٣٠.


وبينما كان الإمام علي عليه‌السلام جالساً على صدر عمرو بن عبد ود لحزّ رأسه ، بصق عمرو في وجه الإمام علي عليه‌السلام وشتمه (١) فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن نهض وأخذ يتمشّى في ميدان المعركة ، وكان المسلمون ينظرون إلى مجريات الحادثة بدقة وتعجب ، وبعد دقائق عاد بطل حرب الأحزاب إلى مكانه وقطع رأس عدو الله.

وبعد هذه الحادثة سُئل الإمام علي عليه‌السلام عن سبب قيامه وانتظاره لحظات قبل أن يقدم على قتل عمرو فقال :

قَدْ كانَ شَتَمَ امِّي وَتَفَلَ في وَجْهي فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفسي فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ ما بي ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللهِ. (٢)

وفي هذا يقول الشاعر الشيخ الازري رحمه‌الله وهو يحكي هذه الواقعة المهمّة :

ظهرت منه في الورى سطوات

ما أتى القوم كلّهم ما أتاها

يوم غصّت بجيش عمرو بن ودّ

لهوات الفلا وضاق فضاها

فدعاهم وهم الوف ولكن

ينظرون الذي يشبّ لظاها

فابتدى المصطفى يحدث عما

يوجر الصابرون في اخراها

فالتووا عن جوابه كسوامٍ

لا تراها مجيبة من دعاها

فإذا هم بفارس قرشي

ترجف الأرض خيفة أن يطأها

قائلاً ما لها سواي كفيل

هذه ذمة عليّ وفاها

فانتضى مشرفيه فتلقى

ساق عمرو بضربة فبراها

يا لها من ضربة حوت مكرمات

لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

هذه من علاه احدى المعالي

وعلى هذه فقس ما سواها

وعلى هذا الأساس فإنّ علائم الإيمان الراسخ مشهودة في حياة الإمام علي عليه‌السلام كلّها ، وحينئذٍ نفهم جيّداً بالاستفادة من القرائن وبمعونة الآيات القرآنية الاخرى أن المراد من «الصادقين» هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ، ص ٢٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤١ ، ص ٥١ (نقلاً من مظهر الولاية : ص ٣٦٥).


الصادقين في الروايات

لو اقتصرنا على رواية الثقلين المهمة وضممناها إلى الآية الشريفة لرأينا أنها تلقي ضوءاً قوياً على مفهوم الآية وتوضح مصداق «الصادقين» وهم الأشخاص الذين ذكرتهم رواية الثقلين بأنهم أهل البيت الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام الذين ينبغي التمسّك بهم دائماً ، فيكون التمسّك بهم مانعاً من الضلال ، ومضافاً إلى الرواية المذكورة هناك روايات متعددة ناظرة إلى هذه الآية الشريفة ، وكمثال على ذلك نورد ما يلي :

١ ـ نقل خمس أشخاص من مشاهير وكبار علماء أهل السنّة وهم : السيوطي (١) ، الخوارزمي (٢) ، العلّامة الثعلبي (٣) ، العلّامة الكنجي (٤) ، والحاكم الحسكاني (٥) ، وهؤلاء كلّهم يروون عن الصحابي المعروف ابن عبّاس أو جابر بن عبد الله الأنصاري حيث يقول :

«كُونُوا مَعَ الصَ ادِقِينَ ، أيْ كُونُوا مَعَ عَلِيِّ بْنَ أَبي طالِبٍ».

ووردت بعض العبارات في هذه الروايات «هو عليّ بن أبي طالب» أو «نزلت في عليّ ابن أبي طالب» (٦) وهي كلّها تؤدي معنى واحداً.

٢ ـ نقل الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» مضافاً إلى الرواية المذكورة آنفاً رواية اخرى عن «عبد الله بن عمر» حيث قال :

«مَعَ الصَّادِقِينَ أَيْ مَعَ مُحَمّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِه». (٧)

والملفت للنظر أن هذه الرواية تذكر سائر أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام في عداد الصادقين.

٣ ـ ويروي سليم بن قيس الذي يقول عنه العلّامة المجلسي في بحار الأنوار أنه شخص ثقة حيث يقول في تفسير كلمة «الصادقين» :

__________________

(١) الدرّ المنثور : ج ٣ ص ٢٩٠.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٢٩٨.

(٣) تفسير الثعلبي نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٢٩٧.

(٤) كفاية الطالب : ص ١١١ ، ونقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٩٧.

(٥) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٦٠.

(٦) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٦٠.

(٧) شواهد التنزيل : ج ١ ص ٢٦٢.


«فقال سلمان : يا رسول الله ، أعامة هي أم خاصّة؟ فقال : أما المؤمنون فعامة لأن جماعة المؤمنين امروا بذلك ، وأما الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة» (١).

وطبقاً لهذه الرواية فإن «الصادقين» هم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

٤ ـ ويقول العلّامة الكنجي في كتاب «كفاية الطالب» و «ابن الجوزي» في كتابه «التذكرة» : قال علماء السِير : معناه كونوا مع عليّ وأهل بيته (٢) وهكذا يروي المؤرّخون في معنى «كونوا مع الصادقين» أن المراد بهم هم عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام.

وطبقاً لهذا الحديث فإنّ «الصادقين» هم الأئمّة الاثنا عشر عليهم‌السلام للشيعة.

توصية آية الصادقين

ومما تقدّم من صفات وخصائص المعصومين عليهم‌السلام وأنهم المجاهدون ، العابدون ، الراكعون ، الساجدون ، القائمون ، الصائمون ، الزاهدون ، العالمون ، المتقون ، الذاكرون ، الخاشعون ، وأمثال ذلك فإنّ هذه الصفات تجتمع في مصداق كلمة «الصادقين» ، وهذا يعني أن حالة «الصدق» لها دور مهم جداً في مصير الإنسان «وليس المسلم فحسب» ، ولهذا السبب فإنّ الآية الشريفة وصفت أئمّة الهدى بهذه الصفات.

ومع الالتفات إلى أهمية هذا الموضوع نذكر بعض ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام في هذا الصدد :

١ ـ «الصِّدْقُ عِمادُ الإسْلامِ وَدَعامَةُ الإيمانِ». (٣)

فلو سقط عمود البناء لانهار البناء تماماً ، فلو أن المسلم لم يتّصف ويتحلّى بصفة الصدق فلا معنى لإسلامه وإيمانه.

__________________

(١) أسرار آل محمّد : ص ٢٩٧.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٢٩٧.

(٣) ميزان الحكمة : باب ٢١٩٠ ، ح ١٠١٨٥.


٢ ـ «الصِّدقُ أَقْوى دَعائِمِ الْإيمانِ» (١)

وهذا يعني أن الصدق يقترن مع مفهوم عمود الخيمة بحيث لو زال العمود لحظة لانهدمت الخيمة.

٣ ـ «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَيءٍ وَالْكِذْبُ فَسادُ كُلِّ شَيءٍ» (٢).

وفي الحقيقة فإنّ الصدق لو ساد في المجتمع وكان جميع أفراد المجتمع يتحلّون بهذه الصفة وكان الرجل وزوجته يعيشان حالة الصدق في البيت ، وكذلك الموظفون في الإدارات والشركاء في محيط التجارة والحكّام في دائرة الحكومة والسياسة والطلاب والتلاميذ في أجواء المدرسة والجامعة ، والخلاصة لو كان جميع أفراد المجتمع يتحركون في تعاملهم وتفاعلهم مع الآخرين من موقع الصدق فإن ذلك بلا شكّ سوف يحلّ الكثير من المشاكل والتحدّيات التي يواجهها المجتمع البشري.

إنّ جميع المشاكل والمصاعب تنبع من عدم الصدق في التعامل وفي الكلام.

وهذا المعنى يصدق أيضاً في البعد العالمي للمجتمع البشري ، وعلى سبيل المثال إذا كانت الدول والحكومات التي تدّعي حقوق الإنسان صادقة في الاستفادة من هذا العنوان الجميل لكانت البشرية في عالمنا المعاصر تعيش حالة أفضل بكثير ممّا هي عليه الآن. ولكننا نرى أن هذا الادعاء قد انحرف عن مسيره فلا نجد معالم الصدق في التعامل بين الدول التي لا تفكر إلّا بمصالحها الذاتية وعلى حساب الظلم والجور والفساد الفاحش ، وعلى هذا الأساس فلو أن جاسوساً اسرائيلياً يقدم للمحاكمة في نقطة من العالم فإن صراخ هؤلاء المدّعون لحقوق الإنسان سيعلو ويطغى على كلّ شيء ، ولكن إذا تم سحق الشعب الفلسطيني وقتل آلاف الأشخاص من أفراد هذا الشعب المظلوم فلا نجد أي اعتراض من هؤلاء بل مع كثير التعجب والتأسف نجدهم يقدّمون معالم التأييد السياسي والاقتصادي والعسكري إلى الظالم على حساب المظلوم.

__________________

(١) ميزان الحكمة : باب ٢١٩٠ ، ح ١٠١٨٤.

(٢) ميزان الحكمة : باب ٢١٨٩ ، ح ١٠١٦٦.


وهكذا ندرك جيداً عمق ما تحدّث به أمير المؤمنين : «إنّ الكذب فساد كلّ شيء».

والنتيجة هي أن آية «الصادقين» توحي لجميع المسلمين بل جميع البشرية بأن يكونوا مع الصادقين.


الفصل الثاني :

آيات فضائل أهل البيت عليهم‌السلام

آية التطهير

آية المودة

آية المباهلة

آية سورة الدهر

آية التوبة لآدم



آية التطهير ٦

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))

«سورة الأحزاب / الآية ٣٣»

أبعاد البحث

إن آية التطهير هي آية اخرى من الآيات التي تتعلّق بولاية أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام. هذه الآية الشريفة والتي ينبغي التدبّر في كلّ كلمة من كلماتها تدلُّ أيضاً على عصمة الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

مقدّمة

إنّ الآيات ٢٨ ـ ٣٤ من سورة الأحزاب كلّها وردت في خطاب نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بين هذه الآيات الشريفة السبعة وردت آية التطهير بلسان متفاوت ومضمون مختلف ، ومن ذلك تغيير الضمائر في هذه الآية ، فإننا نرى في الآيات الشريفة قبلها ورد خمس وعشرين ضمير أو فعل يدلُّ على المؤنث ، وبعد آية التطهير أيضاً نجد ضميرين وفعل كذلك يدلُّ على التأنيث ولكنّ جميع الضمائر والأفعال في آية التطهير التي تقع وسط ٢٧ ضميراً وفعلاً مؤنثاً قد وردت بلسان المذكر ، أو أن الضمير فيها يعود على المذكر والمؤنث كليهما ، والخلاصة أن الضمائر فيها لا تختصّ بالمؤنث.


فهل أن هذا التفاوت هو من باب الاتفاق والصدفة ، أو أن له حكمة خاصّة؟

بلا شكّ أنه لم يقع صدفةً بل له علّة خاصّة لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار.

فإذا كان المراد من آية التطهير هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما ذا تبدّل الخطاب في هذه الآية ولم يرد فيها الضمائر الخاصّة بالمؤنث؟

لا شكّ أن مضمون الآية ومحتواها وتغيير الضمائر والأفعال يدلُّ على أن المراد منها ليس هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي توضيح أكثر لهذا الموضوع في البحوث القادمة.

الشرح والتفسير :

آية التطهير ، برهان واضح للعصمة

تقدّم أنه ينبغي التدبر في كلّ كلمة من كلمات هذه الآية الشريفة مورد البحث لاستجلاء المراد الحقيقي منها :

١ ـ كلمة «إنّما» تستعمل للحصر في اللغة العربية ويتّضح من هذه الكلمة أن المضمون الوارد في هذه الآية الشريفة لا يتعلق بجميع المسلمين وإلّا لا معنى لاستخدام هذه الكلمة.

«الرجس» الذي تحدّثت عنه هذه الآية لم يرفع من الجميع بل أراد الله رفعه من بعض الأفراد بخصوصهم ، مضافاً إلى أن «الرجس» يراد به رجس خاصّ ، وقد أراد الله إزالته عن أفراد معينين وتطهيرهم منه.

وبما أن التقوى العادية تستوعب جميع المسلمين والواجب على جميع المسلمين تطهير أنفسهم من الرذائل والذنوب ، فإنّ المراد من هذه الآية وما يختصّ بهؤلاء الأفراد المعينين يجب أن يكون أعلى ممّا يراد من الأشخاص العاديين في تقواهم وحركتهم في خط الطاعة والإيمان.

٢ ـ (يُرِيدُ اللهُ)

فما هو المراد من إرادة الله؟ هل هي الإرادة التشريعية أو الإرادة التكوينية؟

الجواب : للإجابة على هذا السؤال يلزمنا بعض التوضيح حول مفهوم الإرادة التكوينية والتشريعية :


الإرادة التشريعية : هي الإرادة التي تعني أوامر الله تعالى ودستوراته من الواجبات والمحرمات الواردة في الشريعة المقدّسة ، والآية ١٨٥ من سورة البقرة هي أحد الآيات التي وردت فيها الإرادة الإلهية بمعناها التشريعي حيث ذكر الله تعالى في هذه الآية الشريفة بعد بيان وجوب صوم شهر رمضان المبارك واستثناء هذا الحكم بالنسبة إلى المسافر والمريض يقول :

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)

فالمقصود من الإرادة الإلهية هنا هي الإرادة التشريعية ، أي أن أحكام الله تعالى في شهر رمضان سهلة ويسيرة للإنسان المؤمن بل إن جميع أحكام الإسلام هي كذلك ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ». (١)

«الإرادة التكوينية» هي الإرادة التي تستخدم في مقام الخلق والتكوين فقد أراد الله تعالى خلق العالم وخلق سائر الكائنات والمخلوقات.

وكمثال على هذه الإرادة الإلهية ما ورد في الآية ٨٢ من سورة يس حيث يقول تبارك وتعالى في هذه الآية :

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

فالمقصود من هذه الإرادة في الآية الشريفة هي الإرادة التكوينية ، وفي الحقيقة أن قدرة الله تعالى على هذا الكون وسلطته على الكائنات إلى درجة من الشدّة والاستحكام بحيث إنه إذا أراد أن يخلق مثل هذا العالم الذي نعيش فيه فيكفي أن يصدر أمره بذلك ، وطبقاً للأقوال العلماء أن الشمس أكبر من الأرض بمليون ومائتين ألف مرّة ويحتوي على مائة ميليارد نجم في المنظومة الشمسية في مجرتنا لوحدها وحجم كلُّ واحد منهما بحجم الشمس بالمقدار المتوسط ، فلو أراد الله أن يخلق مثل هذا العالم لكفى أن يأمر ويقول : كن فيكون «الْعَظَمَةُ للهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٥ ، ص ٣٤٦.


وبعد أن تعرّفنا على هذين المعنيين للإرادة الإلهية نتساءل : هل أن المراد بالإرادة الإلهية في آية التطهير هي الإرادة التشريعية أو التكوينية؟ أي أن الله تعالى هل أراد من أهل البيت أن يعيشوا الطهارة والابتعاد عن الرجس والرذائل ، أو أن الله تعالى هو الذي سيقوم بتطهير هؤلاء الأشخاص من الرجس والرذيلة؟

الجواب : بلا شكّ أن المراد هنا الإرادة التكوينية ، لأن الأمر بالطهارة والتقوى لا يختص بأهل البيت بل هو دستور عام وتشريع شامل لجميع المسلمين ، في حين أننا قرأنا سابقاً أن مقتضى كلمة «إنّما» هو الحصر بدائرة معيّنة ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام ولا يشمل جميع المسلمين.

والنتيجة هي أن الله تعالى بإرادته التكوينية أراد أن يسجّل فضيلة وموهبة اخرى لأهل البيت عليهم‌السلام ويمنحهم «العصمة» في واقعهم الروحي وملكاتهم الأخلاقية بحيث يبتعدون عن كلّ رجس ورذيلة ويعيشون الطهارة من الذنوب والخطايا.

سؤال : هل أن العصمة في هؤلاء المعصومين تتمتع بحالة من الجبر؟

وبعبارة اخرى : هل أن هؤلاء العظماء يجتنبون المعاصي والذنوب من دون اختيار منهم؟ فلو كان كذلك فإنّ العصمة لا تعني شيئاً في دائرة الامتياز الأخلاقي والإيماني.

الجواب : إنّ الشيء إذا كان محالاً في دائرة أعمال الإنسان فهو على قسمين : ١ ـ المحال العقلي ، ٢ ـ المحال العادي.

«المحال العقلي» هو أن يكون وقوع الشيء محالاً كأن تكون هذه اللحظة من الزمان ليلاً ونهاراً في آن واحد ، فهذا عقلاً محال ، أو تقرأ كتاباً عدد صفحاته ٤٠٠ و ٥٠٠ صفحة في نفس الوقت ، فهذا من المحال عقلاً لأنه جمع بين النقيضين والجمع بين النقيضين محال عقلاً (١).

ولكن تارة يكون وقوع العمل ممكن عقلاً ولكنه عادة ممتنع ، ومثاله أن كلُّ إنسان عاقل لا يظهر في الشارع وأمام الناس عارياً ، فهذه المسألة ممكنة عقلاً ولكنها محالٌ عادةً ، وعليه

__________________

(١) للتعرف أكثر على هذا الاصطلاح المنطقي يراجع كتاب «التعرف على العلوم الإسلامية ، المنطق والفلسفة» للشهيد العلّامة المطهري : ص ٦٥ فما بعد.


فالناس بالنسبة إلى هذه الحالة معصومين لأن عقلهم لا يبيح لهم ارتكاب مثل هذا العمل الذي قبحه واضح وجلي ، إذن فجميع أفراد البشر يمكن أن تكون لهم عصمة جزئية بالنسبة إلى بعض الذنوب والأفعال.

ولو تقدّمنا خطوة إلى الامام رأينا أن بعض الناس قد تكون لهم عصمة جزئية بالنسبة إلى بعض الأفعال التي هي محال عادةً ، من قبيل أن من المحال أن يقوم رجل دين معروف في اليوم الواحد والعشرين من شهر رمضان المبارك وفي محراب المسجد وهو جالس على سجادة الصلاة بشرب الخمر أمام الناس ، فهذا من المحال ، ولكنه ليس من المحال العقلي بل إن صدوره من مثل هذا الشخص محال عادةً لأن عقله لا يسمح له بارتكاب مثل هذا العمل في هذا المكان وهذه الموقعيّة.

وأمّا المعصومون عليهم‌السلام فيتمتعون بمقام العصمة في مقابل جميع الذنوب والخطايا ، أي أنه رغم كونهم من الناحية العقلية يمكن صدور الذنب والمعصية منهم ، ولكنّه غير ممكن عادةً لأن عقلهم وتقواهم ومعرفتهم بالنسبة إلى جميع الذنوب والمعاصي كعلم الشخص العادي بالنسبة إلى الخروج عارياً إلى الشارع ، فكما أن الإنسان العادي معصوم من مثل هذا الذنب ، فالأئمّة المعصومون عليهم‌السلام أيضاً يتمتعون بمقام العصمة في مقابل جميع الذنوب ، فمن المحال عادةً أن يقوموا بارتكاب المعصية حتّى لو كان صدورها منهم ممكن عقلاً.

إذن فالعصمة هنا ليست أمراً جبرياً وليست بحيث تكون خارجة عن اختيار المعصومين عليهم‌السلام وإلّا فلا قيمة لمثل هذه الأعمال.

والنتيجة هي أن الإرادة الإلهية في هذه الآية الشريفة هي إرادة تكوينية ، والعصمة هنا لا تسلب الاختيار والإرادة من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ولا تجبرهم على ترك المعصية والذنوب بل إنّ هؤلاء الرجال لا يتوجهون نحو الذنوب بكمال حريتهم واختيارهم.

٣ ـ المراد من «الرِّجس»

الرجس بمعنى القبيح ، فتارةً يطلق على الامور المادية القبيحة ، واخرى على الامور المعنوية القبيحة ، وثالثة قد يطلق ويستعمل على كلا الأمرين كما ذكر ذلك الراغب في مفرداته.


ولكلِّ مورد من هذه الموارد الثلاثة في استعمال كلمة «الرجس» هناك شاهد من القرآن الكريم :

ألف ـ الرجس المعنوي : وهو ما ورد في الآية ١٢٥ من سورة التوبة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ)

فإنّ عبارة «في قلوبهم مرض» تطلق غالباً على المنافقين ومن كانوا يعيشون المرض القلبي حقيقةً في نفاقهم ، وإلّا فإنّ الإنسان السليم إمّا أن يقبل الأوامر الإلهية ويكون مسلماً أو يردّها ويكون كافراً ، ولكن أن يقبلها في الظاهر وفي عالم العمل والممارسة ولكنه لا يعتقد بها في قلبه ، فهذا هو النفاق وهو نوع من المرض القلبي.

وعلى أيّة حال فإنّ كلمة «الرجس» في هذه الآية الشريفة وردت بمعنى القبح المعنوي فإنّ النفاق نوع من القبح المعنوي لا القبح المادي الظاهري.

ب ـ الرجس الظاهري والمادي : وهو ما ورد في الآية ١٤٥ من سورة الأنعام :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ...)

ومن الواضح أن الرجس استخدم في هذه الآية الشريفة بمعنى القبح المادي والظاهري.

ج ـ الرجس المعنوي والمادي : ونقرأ في الآية ٩٠ من سورة المائدة أن «الرجس» استخدم بكلا المعنيين :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

وهنا نجد أن «الرجس» في هذه الآية الشريفة استخدم في كلا المعنيين المادي والمعنوي لأن الخمر له حكم النجاسة المادية ، ولكن القمار والأزلام ليست كذلك بل هي من الرجس المعنوي.

والنتيجة هي أن كلمة «الرجس» في الآيات الشريفة لها معنى عام وتشمل جميع القبائح الظاهرية والمعنوية والأخلاقية والعقائدية والجسمية والروحية ، وعليه فإنّ الله تعالى في آية التطهير وبإرادته التكوينية قد طهّر أهل البيت عليهم‌السلام من جميع أنواع الرجس بمعناه الواسع.


والدليل على أن الرجس استخدم في هذه الآية الشريفة في جميع أنواع الرجس المادي والمعنوي هو إطلاق هذه الكلمة ، أي أن هذه الكلمة لم ترد بالآية الشريفة مقيّدة بقيد أو مشروطة بشرط بل وردت بصورة مطلقة وبدون قيد أو شرط ، فلذلك تستوعب في مضمونها جميع أنواع الرجس.

(وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) هذه الجملة في الواقع تأكيد وتفسير للجملة السابقة (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فطبقاً لهذه الآية فإن «أهل البيت» طاهرون من الرجس وكلُّ عمل قبيح بالإرادة الإلهية التكوينية ، فهم يتمتعون بمقام العصمة المطلقة.

من هم أهل البيت؟

يستفاد من الآية الشريفة محل البحث أن «أهل البيت» يتمتعون بخصوصية تميّزهم عن سائر المسلمين وهي مقام الطهارة والعصمة المطلقة ، ولكن هنا يثار هذا السؤال وهو : من هم أهل البيت؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال هناك نظريات مختلفة في تفسير كلمة «أهل البيت» حيث نكتفي هنا بذكر أربعة منها :

١ ـ ما ذكره بعض المفسّرين من أهل السنّة من أن المراد من أهل البيت هنا زوجات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وطبقاً لهذا التفسير لا يكون الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام من أهل البيت ، وبعبارة اخرى أن أهل البيت هم الذين يرتبطون بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله برابطة سببية لا نسبية.

ودليلهم على هذه النظرية هي أن آية التطهير وردت ضمن آيات قرآنية تتعلق بنساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهناك آيات قبلها وبعدها تتحدّث عن نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسياق الآية يقتضي أن هذه الآية الشريفة أيضاً متعلّقة بنساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكن هذه النظرية باطلة لِدليلين :

الأوّل : أنه كما تقدّم سابقاً من أن الآيات الخمسة قبل آية التطهير وكذلك صدر الآية

__________________

(١) القرطبي ـ تفسير الفرقان : ج ٦ ، ص ٥٢٦٤ ، وقد نقل هذه النظرية عن «الزجاج».


٣٢ من سورة الأحزاب التي وقعت آية التطهير في ذيلها تتضمن ٢٥ ضمير وفعل وردت بصياغة المؤنث وفي الآية التي تليها «الآية ٣٣» هناك فعل وضمير يختص بالمؤنث أيضاً ، ولكن ضمائر وأفعال آية التطهير كلّها تعود إلى المذكر أو تشمل المذكر والمؤنث وعليه لا تكون شاملة لبعض نساء النبي لوحدهنّ قطعاً.

وعلى هذا الأساس ونظراً إلى أن القرآن هو كلام الله تعالى وقد ورد بأبلغ بيان وأفصح عبارة ، ولذلك لا بدّ أن يكون هناك سبب في تغيير الضمائر والأفعال حيث يكون المراد من أهل البيت هم أفراد غير نساء النبي بحيث إن الله تعالى غيّر من سياق الآية وجعلها متميّزة عن بقية الآيات الشريفة.

فطبقاً لهذا البيان يكون المراد من أهل البيت ليس نساء النبي قطعاً بل المقصود أشخاص آخرون لا بدّ من البحث عنهم من خلال الأدلّة والبراهين.

الثاني : هو أنه بالالتفات إلى ما تقدّم من شرح وتفسير آية التطهير فإنّ أهل البيت يتمتعون بمقام العصمة المطلقة ، ولا نجد من العلماء والمفسّرين من الشيعة والسنّة يقولون بعصمة نساء النبي ، فإن نساء النبي رغم أنهنَّ نساء مؤمنات ولكن لا يمكن ادعاء العصمة لهنّ بل يمكن ادعاء أن البعض قد ارتكبن ذنوب كبيرة ثبتت بالأدلة القاطعة وكنموذج على ذلك :

كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الخليفة الوحيد الذي كان يتمتع من جهة بالتنصيب من قبل الله تعالى ، ومن جهة اخرى تمت خلافته بانتخاب المسلمين وكان هذا الانتخاب يختلف عن الانتخابات السابقة للخلفاء ، لأن الخليفة الأوّل لم ينتخبه سوى عدّة قليلة في سقيفة بني ساعدة ثمّ أجبروا الناس على بيعته لاحقاً ، وأما الخليفة الثاني فتم نصبه من قبل الخليفة الأوّل ، والخليفة الثالث تولّى سدة الخلافة بثلاث آراء من الشورى الذين نصبهم الخليفة السابق ، ولكن الإمام علي عليه‌السلام واجه في مسألة بيعته للخلافة رغبة جميع الناس وازدحامهم وإصرارهم على البيعة رغم أن ذلك كان على خلاف ميله ورغبته حتّى أنه قال :

«حتّى لقد وُطئ الحسنان». (١)

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٣ (الخطبة الشقشقية).


ولكن بالرغم من ذلك فإننا نرى أن إحدى نساء النبيّ رفعت لواء المعارضة والمخالفة لهذا الخليفة ووصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ ونقضت بيعته وتحركت على خلاف وصية النبي لنساءه بأن لا يخرجن من بيوتهن ، فتحركت وخرجت من المدينة وركبت الجمل متوجهة إلى البصرة ، وعند ما وصلت إلى منطقة الحوأب وسمعت صوت الكلاب تذكرت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها وقالت : «إنا لله وإنا إليه راجعون! ردّوني ردّوني ، هذا الماء الذي قال لي رسول الله : لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب». (١)

عند ما سمعت باسم هذه المنطقة وقيل لها أنها تدعى «الحوأب» عزمت على الرجوع ولكن الأشخاص المتصدين لتثوير الناس للحرب منعوها من ذلك بشتّى الحيل واستمرت في مسيرها.

فهل أن مثل هذه المرأة التي خالفت كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفعت لواء المعارضة والحرب على خليفته بالحقّ وسببت في سفك دماء أكثر من ١٧ ألف نفر من المسلمين هل أنها معصومة وطاهرة من الرجس والمعصية؟

والملفت للنظر أن هذه المرأة هي قد اعترفت بخطئها بنفسها ، وفي مقام الجواب على من سألها عن سبب إقامتها هذه الحرب الضروس وأنه من المسئول عن كلّ هذه الدماء؟ أظهرت الأسف وقالت انه من التقدير الإلهي وتمنت أن هذه الواقعة لم تكن قد وقعت.

وعلى الرغم من أنها اعترفت بخطئها بحيث لا يمكن قبول أيّ توجيه وتبرير لذلك فإنّ بعض العلماء المتعصبين من أهل السنّة ذهبوا إلى أن ذلك نوع من الاجتهاد وأن عائشة لم تكن على خطأ في ذلك.

فهل يصحّ هذا الكلام والادعاء؟ هل أن الاجتهاد في مقابل خليفة النبيّ بالحقّ والذي تقول عنه عائشة «انه أفضل الناس وكلُّ من أبغضه كافر» اجتهاد صحيح؟ فإذا فتحنا هذه الذريعة وقبلنا بهذا التبرير في هذا المورد فلا يبقى أيُّ مذنب على وجه الأرض ، لأن كلّ خطأ له تبرير واجتهاد ويمكن للإنسان أن يحمل معصيته على سبيل الاجتهاد والاستنباط.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ١٨١.


والنتيجة هي أن حرب الجمل لم يكن لها أيُّ تبرير منطقي ، ولا شكّ في أنّ الأشخاص الذين تولّوا إشعال هذه الحرب من المذنبين والخاطئين ولا يمكن القول أنهم مطهرون من الرجس والذنب.

٢ ـ النظرية الثانية أن المراد من أهل البيت هنا الرسول الأكرم والإمام عليّ والحسن والحسين وفاطمة عليهم‌السلام ونساء النبي (١).

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ أحد الإشكالات الثلاثة المتقدمة على النظرية الاولى (الإشكال الأوّل) سينتهي ، وبما أن مجموعة النساء والرجال في مقام الخطاب فانه يستعمل في حقّهم ضمير المذكّر وصحّ مجيء هذه الآية بضمير المذكر ، ولكن يبقى الإشكالين الآخرين (حيث تقدّم بيانهما في الردّ على النظرية الاولى) وعليه فإنّ هذه النظرية غير قابلة للقبول.

٣ ـ وذهب بعض آخر من المفسّرين إلى أن المراد من «أهل البيت» هم القاطنون في مكّة المكرّمة ، وقالوا إنّ المراد من «أهل البيت» هنا هو بيت الله الحرام والكعبة المعظمة ، وعليه فإنّ «أهل البيت» في هذه الآية هم أهالي مكّة.

وبطلان هذه النظرية واضح أيضاً حيث يرد عليها الإشكالين السابقين في النظرية الاولى ، مضافاً إلى أن أهالي مكّة لا يمتازون عن أهالي المدينة حتّى يقال بأن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهّرهم من الذنب.

٤ ـ وهي نظرية جميع علماء الشيعة والتي لا يرد عليها أي من واحد من الإشكالات السابقة وهي أن المراد من «أهل البيت» في هذه الآية هم أشخاص معينون من أهل البيت ، أي الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والشاهد على صحّة هذه النظرية انه لا يرد أيّ من الإشكالات الثلاثة المذكورة في النظرية الاولى ، مضافاً إلى الروايات الكثيرة الدالّة على صحّة هذه النظرية الرابعة حيث يقول العلّامة الطباطبائي في «الميزان» بأن عدد هذه الروايات يبلغ أكثر من سبعين رواية (٢) ،

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ٢٥ ، ص ٢٠٩.

(٢) الميزان مترجم : ج ٣٢ ، ص ١٧٨.


والملفت للنظر أن أكثر هذه الروايات مذكورة في مصادر أهل السنّة المعتبرة ومنها :

١ ـ صحيح مسلم (١) الذي هو من أهم الكتب الحديثية المعتبرة لديهم.

٢ ـ صحيح الترمذي (٢) وهو أحد الصحاح الستة لدى أهل السنّة.

٣ ـ المستدرك على الصحيحين (٣).

٤ ـ السنن الكبرى للبيهقي (٤) هذا الكتاب رغم أنه يحوي غالباً الروايات الفقهية إلّا أنه يتضمن روايات غير فقهية.

٥ ـ الدرّ المنثور للسيوطي. (٥)

٦ ـ شواهد التنزيل (٦) للحاكم الحسكاني النيشابوري.

٧ ـ مسند أحمد (٧).

وعلى هذا الأساس فإن الروايات التي تفسر «أهل البيت» بالخمسة من آل الكساء هي من جهة أكثر عدداً ، ومن جهة اخرى مذكورة في الكتب المعتبرة جداً لدى أهل السنّة.

الفخر الرازي يتحدّث عن هذه الروايات ومقدارها وميزان اعتبارها ويعترف بهذه الحقيقة ويقول في ذيل تفسير آية المباهلة «الآية ٦١ من آل عمران» :

واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث (٨).

والنتيجة هي أن الروايات التي تفسر «أهل البيت» بهؤلاء الخمسة لا تقبل النقاش من حيث المقدار والاعتبار ، ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة من مجموع هذه الروايات ، وهي رواية الكساء.

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨٨٣ ، ح ٢٤٢٤ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ١٤٣).

(٢) احقاق الحقّ : ج ٢ ، ص ٥٠٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين : ج ٢ ، ص ٤١٦ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٢ ص ٥٠٤).

(٤) السنن الكبرى : ج ٢ ص ١٤٩.

(٥) الدرّ المنثور : ج ٥ ، ص ١٩٨.

(٦) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ١٠ ـ ٩٢.

(٧) مسند أحمد : ج ١ ، ص ٣٣٠ ، وج ٤ ، ص ١٠٧ وج ٦ ، ص ٢٩٢ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ١٤٤).

(٨) تفسير الفخر الرازي : ج ٨ ، ص ٨٠.


هذه الرواية ذكرت في المصادر الحديثية على نحوين :

١ ـ بالتفصيل ٢ ـ باختصار.

أما حديث الكساء المفصّل والذي يُقرأ عادةً لشفاء المرضى وحل المشكلات فليس بحديث متواتر ، ولكن حديث الكساء المختصر متواتر في مضمونه حيث تقول الرواية :

«عن امّ سلمة (زوجة النبي) أن النبي كان في بيتها وجاءته فاطمة بالطعام ، فقال لها : ادع لي بعلك وابنيك. فجاءوا فتناولوا الطعام ثمّ نشر صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم الكساء وقال :

اللهُمَّ إنَّ هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وَخاصَّتي اذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ ، فَنَزَلَ جَبْرَئيلُ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

فقلت : يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال : إنَّكِ على خير» (١).

وفي حديث آخر نقلت هذه الواقعة عن عائشة أيضاً (٢).

والنتيجة أن أهل البيت طبقاً لهذه الروايات هم الخمسة من أهل الكساء.

سؤال : ما هي الحكمة من هذا العمل؟ ولما ذا أقدم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على ضمّ أهل بيته تحت الكساء وأن يقول هذه العبارة الجميلة؟ ولما ذا لم يأذن لُامّ سلمة وعائشة أن يدخلا تحت الكساء؟

الجواب : إنّ هدف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ هذه التشريفات والدقائق المحفوفة بهذه الواقعة هو أنه أراد أن يميّز أهل البيت ويعرّفهم للناس بحيث لا يبقى معه أيُّ غموض أو إبهام وحتّى لا يقول الأشخاص الذين يأتون بعد ذلك الزمان أن المراد من «أهل البيت» هم أشخاص آخرين.

ولهذا السبب فإنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتفِ بهذه التشريفات أيضاً بل طبقاً للرواية المذكورة في مصادر مختلفة منها «شواهد التنزيل» نقلاً عن أنس بن مالك الخادم الخاص لرسول الله تقول : أن رسول الله بعد هذه الحادثة كان يأتي كلّ يوم قبل أذان الصبح وقبل إقامة صلاة الجماعة إلى بيت عليّ وفاطمة ويقف أمام البيت ويكرر هذه العبارة :

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٤ و ٣١.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٣٧ و ٣٨.


«الصَّلاةَ يا أَهْلَ الْبَيْتِ. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

وهذا العمل استمر إلى ستة أشهر بلا انقطاع (١).

هذه الرواية أعلاه نقلت أيضاً عن أبي سعيد الخدري حيث يقول أيضاً :

«إنّ النبي الأكرم كان يعمل هذا العمل لمدّة ثمانية أشهر» (٢).

ولعلّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استمر على هذا العمل أكثر من هذه المدّة ولكن أنس ابن مالك اقتصر على ستة أشهر وأبو سعيد الخدري اقتصر على ثمانية أشهر (٣).

وعليه فإنّ هدف النبي في فصل أهل البيت عن نسائه وتعيين المصداق الكامل والواضح لكلمة «أهل البيت» هو بيان هذه الحقيقة للمسلمين بشكل واضح وجلي بحيث لا نجد مورداً آخر قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتكرار عمل معيّن إلى هذه الدرجة ، فهل أن كلّ هذه التأكيدات والتوصيات والتوضيحات لا تكفي للقول بأن أهل البيت هم هؤلاء الخمسة؟ وهل من الصحيح أن نفسّر هذه الآية بتفسيرات بعيدة عن أجوائها؟

لما ذا يذهب البعض في مثل هذه القضية الواضحة كالشمس في رابعة النهار إلى مذاهب متفرقة ويوقعوا أنفسهم والآخرين في مزالق الضلالة والانحراف؟

الجواب على هذا السؤال واضح أيضاً ، وهو أن التفسير بالرأي والمسبوقات الفكرية لهؤلاء تشكل حجاباً سميكاً على بصيرتهم فلا يدركوا معه ما يخالف نظراتهم المسبقة حتّى وإن كانت كوضح الصبح أو لا يريدون أن يقبلوا بالحقيقة.

ربّنا! نسألك أن تأخذ بأيدينا في طريق الهداية والحقّ دائماً ولا تحرمنا من أنوار هدايتك لحظة واحدة.

إلهنا! جنبنا من الوقوع في التفسير بالرأي وخاصة بالنسبة إلى القرآن الكريم والمعارف الدينية وأعنّا بالبرهان القاطع على الوصول إلى الحقّ والحقيقة.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ١١ و ١٢ و ١٣ و ١٤ و ١٥.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٨.

(٣) وقد نقل عن أبي سعيد الخدري أن المدّة كانت ٩ أشهر (انظر : شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٩).


الجواب على الأسئلة

قد تثار بعض الأسئلة وعلامات الاستفهام حول آية التطهير ، حيث نستعرض هنا نماذج من هذه الأسئلة ونجيب عليها :

السؤال الأوّل : إنّ أكثر ما تدلُّ عليه آية التطهير هو عصمة أهل البيت ، أي الإمام علي ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الآية محل البحث لا ترتبط بمسألة الإمامة والولاية.

وبعبارة اخرى : إننا نبحث هنا عن الآيات الشريفة التي تدلُّ على ولاية وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والآية المذكورة لا تدلُّ على هذا الأمر بل غاية ما تدلُّ عليه هو عصمة أهل البيت ، فلما ذا نستدلّ بهذه الآية الشريفة على الإمامة؟

الجواب : لو ثبت مقام العصمة لأهل البيت عليهم‌السلام فإنّ الإمامة سوف تثبت لهم أيضاً ، لأنه كما تقدّم أن الطاعة للإمام هي مطلقة وغير مقيّدة بقيد أو شرط ، ولا يمكن تحقق هذا المعنى من الطاعة إلّا لمن كان يتحلّى بمقام العصمة ، أي أن الإمام يجب أن يكون معصوماً ، ومن جهة اخرى فلو تقرر أن يكون الإمام منتخباً من الناس أو منصوباً من قبل غيره فإنّه مع وجود المعصوم لا ينبغي التمسّك بإطاعة غير المعصوم.

يقول تبارك وتعالى في الآية ١٢٤ من سورة البقرة في حديثه عن النبي إبراهيم عليه‌السلام عند ما نصبه الله تعالى إماماً للناس بعد أن نجح في الابتلاءات والامتحانات الصعبة وبعد أن كان يتحلّى بمقام النبوّة وكان من اولي العزم وخليلاً للرحمن ، فإنّ إبراهيم بعد أن نال مقام الإمامة طلب من الله تعالى استمرار الإمامة في ذرّيته (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فأجابه الله تعالى :

(لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

ومن هنا نعلم أن العصمة جزءٌ لا يتجزأ من الإمامة ، والأشخاص الذين تلوثوا بالظلم لا يصلحون لهذا المقام الشريف حتّى لو كانوا قد انحرفوا وتلوثوا بالمعصية في أزمنة سابقة.

السؤال الثاني : سلمنا أن الإمام يجب أن يكون معصوماً ، ولكن هل يعني هذا أن كلّ معصوم إمام؟ ألم تكن فاطمة الزهراء عليها‌السلام معصومة ، إذن فلما ذا لم تكن إماماً؟

الجواب : إنّ العصمة بالنسبة إلى النساء لا تستلزم مقام الإمامة ، ولكنها بالنسبة إلى


الرجال هناك ملازمة بينهما ، ولهذا لا نجد معصوماً بين رجال العالم غير النبيّ والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

السؤال الثالث : تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ اختلاف الضمائر في آية التطهير مع الضمائر قبلها وبعدها والتي تتحدّث فيها الآية الشريفة عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو السبب في أن يكون المخاطب في آية التطهير غير نساء النبي ، في حين أننا نجد مثيلاً لهذا الاختلاف في الضمائر في قصة البشارة لإبراهيم عليه‌السلام بالولد في شيخوخته ، لأنّ المخاطب في الآية الشريفة هو زوجة النبيّ إبراهيم عليه‌السلام في قوله تعالى :

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(١) فطبقاً لهذه الآية أنّ المخاطب بضمير «عليكم» هو زوجة النبيّ إبراهيم.

الجواب : إنّ المخاطب في جملة «أتعجبين» هو زوجة إبراهيم فقط ، ولهذا ورد الفعل بصورة المفرد للمخاطب المؤنث ، ولكنّ المخاطب بكلمة «عليكم» هو جميع أفراد اسرة النبيّ إبراهيم من الزوج والزوجة ، في حين أن المخاطب في آية التطهير وطبقاً للأدلّة السابقة لا يمكن أن يكون نساء النبي لا بالاستقلال ولا بالانضمام إلى الخمسة أصحاب الكساء.

السؤال الرابع : إذا كان المخاطب في آية التطهير هو الخمسة من أصحاب الكساء فقط ، إذن فلما ذا وردت آية التطهير ضمن الآية التي تتحدّث عن نساء النبي؟

الجواب : إنّ آيات القرآن الكريم كما ذكر العلّامة الطباطبائي (٢) وآخرون لم تنزل في وقت واحد ، بل كانت الجمل المذكورة تنزل أحياناً في آية واحدة على فترات متباعدة ، حيث إنّ آيات القرآن نزلت بحسب الحاجة والحوادث الواقعة ، وعلى هذا الأساس فمن الممكن أن تكون الآية التي تتحدّث عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزلت في فترة معيّنة ثمّ نزلت بعد ذلك آية التطهير وبعد طلب النبيّ الكريم المبني على طهارة أهل البيت ، وبعد ذلك نزلت آيات اخرى تتعلق بظروف خاصّة وحوادث معيّنة اخرى ، وعليه فلا يلزم من ذلك أن يكون هناك ارتباط وثيق بين آيات القرآن الكريم أجمع.

__________________

(١) سورة هود : الآية ٧٣.

(٢) الميزان ، ذيل الآية أعلاه.


النتيجة : إن آية التطهير تدلُّ من جهة على عصمة الخمسة من أصحاب الكساء عليهم‌السلام ، وتدلُّ أيضاً على ولاية وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من جهة اخرى.


آية المودة ٧

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

«سورة الشورى / الآية ٢٣»

أبعاد البحث

عند ما نستعرض آراء ونظرات علماء أهل السنّة ومفسّريهم حول هذه الآية نجد أنهم قد تورطوا في ظاهرة التفسير بالرأي نتيجة المسبوقات الفكرية والذهنية لديهم ، ولهذا نرى أن تفسيرهم لهذه الآية الشريفة عجيب وغريب جدّاً حيث سنتطرق إليه لاحقاً ، وأما علماء الشيعة فنجد لديهم تفسيراً واضحاً وجليّاً لهذه الآية الشريفة من خلال الاستيحاء من تعاليم أهل البيت عليهم‌السلام.

نظرة إلى الآيات السابقة

ونرى من اللازم لأجل توضيح المطلب في تفسير آية المودّة أن يكون لدينا بحث إجمالي حول الآية السابقة ، أي الآية ٢٢ من سورة الشورى ، وكذلك صدر آية المودّة الذي لم نذكره آنفاً.

تقول الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة عاقبة الظالمين تتطرق هذه الآية لذكر مستقبل


المسلمين الذين يتحركون من موقع الإيمان والعمل الصالح ولا يقنعون بمجرد الشهادة بالتوحيد ونبوّة النبي الأكرم بل يتحركون على مستوى الممارسة والعمل للإتيان بالخيرات والأعمال الصالحة ، وفي هذه الآية الشريفة وضمن بيان العاقبة الحسنة للمؤمنين هؤلاء تقرر ثلاثة أنواع مهمة من الثواب الاخروي المعدّ لهم :

١ ـ «فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ» فأوّل ثواب يحصل عليه هؤلاء المؤمنين في الآخرة هو دخولهم إلى الجنّة.

سؤال : أين تقع «روضات الجنّات»؟

الجواب : عند ما نستقري الآيات القرآنية فإننا لا نجد هذه العبارة سوى في آية ٢٢ من سورة الشورى ، والعرب يطلقون على الحدائق الطرية والبساتين النضرة كلمة «روضة» وجمعها «روضات».

وبالطبع أحياناً تطلق هذه الكلمة على محل اجتماع الماء ، ولكن المراد بكلمة «روضة» في هذه الآية هو المعنى الأوّل ، إذن فروضات الجنّات تعني بساتين الجنّة اليانعة.

سؤال : نظراً إلى أن جميع أماكن الجنّة ومناطقها على شكل بساتين وحدائق نضرة ويانعة ، فما معنى عبارة «في روضات الجنّات»؟

الجواب : يستفاد من العبارة أعلاه أنه مضافاً إلى دخولهم الجنّة فإنّ بساتين خاصّة تكون من نصيب هؤلاء المؤمنين.

والنتيجة هي أن أوّل ثواب وامتياز للمؤمنين الذين يعملون الصالحات هو «روضات الجنّات».

٢ ـ «لَهُمْ ما يَشاءُونَ» فإنّ المؤمنين الذين يعملون الصالحات مضافاً إلى الامتياز الأوّل وسكنهم في روضات الجنّات فإنّهم ينالون هناك كلّ ما يشاءون ، وفي الحقيقة أننا لا نجد مسألة يمكن أن تتصور أعلى من هذا المعنى بالنسبة إلى النعم المادية ، بحيث إن الإنسان ينال كلّ ما يريده ويطلبه.

٣ ـ «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ويشمل هذا النِّعم المادية والمعنوية في الجنّة ، فمن حيث النِّعم المادية فقد تقدّم أن المؤمنين الذين عملوا الصالحات يعيشون في أحسن الأحوال ، ومن الجهة المعنوية


كذلك أيضاً لأنهم يعيشون مقام القرب الإلهي «عند ربّهم» وهو المقام الذي ذكر للشهداء في سورة آل عمران الآية ١٦٩ ، وأما المراد بعبارة «عند ربّهم» ، وما هي البركات المترتبة على هذا المقام؟ فغير معلوم لنا.

«ذلِكَ هُوَ الْفَضلُ الْكَبيرُ» فبما أن هؤلاء المؤمنين يعيشون في أفضل الحالات المادية والمعنوية في روضات الجنّات فلذلك عبّر الله تعالى عن هذا المقام بأنه «فضل كبير» ، وعند ما يطلق الله تعالى هذه الكلمة على نعمة وموهبة من المواهب الإلهية يتبيّن من ذلك عظمة هذه النعمة والموهبة بحيث تفوق حدّ التصور.

والنتيجة : أن معيار العبودية لله تعالى أمران : الإيمان والعمل الصالح ، وعليه فإنّ الامور الاخرى من قبيل العلم والثروة والقدرة والاعتبار الاجتماعي وأمثال ذلك لا تكون ذات قيمة إلّا إذا قيست بهذا المعيار وتحرّك الإنسان معها في خطّ الإيمان والعمل الصالح.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ففي هذه الآية الشريفة تكرر القول بأن الامور المذكورة سابقاً «روضات الجنّات» ، «لهم ما يشاءُون» و «عند ربّهم» هي مواهب يبشّر الله تعالى بها المؤمنين من ذوي الأعمال الصالحة لكي تساهم هذه البشارة في رفع ثقل الطاعة وتحمل المسئولية وتمنح الإنسان قوّة في خط التصدي للأهواء والشهوات.

ومع الالتفات إلى ما ذكرنا أعلاه حول الآية الشريفة ، نبدأ بشرح وتفسير آية المودّة :

الشرح والتفسير :

مودّة أهل البيت ، أجر الرسالة

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لا شكّ أن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله تحمّل في طريق إبلاغ الرسالة ونشر الدعوة السماوية ، أتعاباً كثيرة ومشقّات باهظة ولكنه بالرغم من ذلك لم يطلب أجراً مقابل هذه الأتعاب والمشقّات ، وعند ما جاءه بعض المسلمين وقالوا له : إذا كنت تشكو من فاقة ونقص مالي فإننا نضع بين يديك أموالنا بدون قيد أو شرط ، فنزلت الآية أعلاه (١)

__________________

(١) التفسير الأمثل : سورة الشورى ، الآية مورد البحث.


وأكدت على أن النبي لا يريد أجراً في مقابل أداء الرسالة وتبليغ الدعوة.

(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهنا يستثني القرآن الكريم من الأجر شيئاً واحداً ، وهو أن نبي الإسلام لا يطلب من المسلمين شيئاً بعنوان أجر الرسالة إلّا «المودّة» لأقربائه وأرحامه.

والنتيجة هي أن نبي الإسلام لم يطلب شيئاً بعنوان أجر في مقابل أتعابه وزحماته للإسلام والمسلمين سوى أمراً واحداً وهو «مودّة أقربائه وأرحامه».

من هم القربى؟

إنّ جميع الأبحاث التي تدور حول هذه الآية الشريفة تتركز على كلمة «القربى» وتفسيرها ، فمن هم القربى في هذه الآية والذين طلب رسول الله من المسلمين مودّتهم ومحبّتهم بعنوان أجر الرسالة؟

بعض العلماء والمفسّرين مرّوا على هذه الآية مرور الكرام ولم يتعبوا أنفسهم في تدبّرها والتأمل فيها ، ولعلّ ذلك لأنهم لم يجدوا فيها انسجاماً مع تصوراتهم القبلية ومسبوقاتهم الفكرية ، في حين أن الآية الشريفة عميقة المغزى ، ولأجل أن ندرك عظمة هذه الآية بما فيها من معانٍ عميقة علينا أن نستوحي ونستعين لهذا الغرض من الآيات القرآنية الاخرى التي تتحدّث في هذه المسألة على لسان سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

لو أمعنّا النظر في سورة الشعراء لرأينا أن مسألة أجر الرسالة قد طرحت قبل نبي الإسلام على لسان خمسة من الأنبياء العظام وهم : نوح ، هود ، صالح ، لوط ، وشعيب عليهم‌السلام ، ولكن هؤلاء الأنبياء لم يذكروا في استغنائهم عن الأجر مسألة المودّة في القربى ، حيث ذكروا جميعاً هذه المسألة بقولهم :

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)(١)

وهنا يثار هذا التساؤل : كيف لم يطلب هؤلاء الأنبياء أجراً في مقابل أداء الرسالة ولكن

__________________

(١) سورة الشعراء : الآيات ١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠. وقد ورد هذا المضمون في آيات اخرى من القرآن الكريم على لسان الأنبياء الكرام.


رسول الإسلام طلب الأجر عليها بعنوان «المودّة في القربى»؟

هل أنّ مقام هؤلاء الأنبياء أعلى من مقام نبي الإسلام؟

بلا شكّ أن محمّد المصطفى أفضل من جميع الأنبياء ، ولهذا ورد في القرآن الكريم أن كلُّ نبيٍّ من الأنبياء يأتي يوم القيامة شاهداً على امّته ولكنّ نبي الإسلام يأتي شاهداً على جميع هؤلاء الشهداء (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(١)

والحقيقة أن هذه المسألة تزداد غموضاً وعمقاً ، فكيف يطلب نبي الإسلام الذي هو أفضل الأنبياء الإلهيين أجراً على عمله في حين أن جميع الأنبياء لم يطلبوا أجراً من أقوامهم؟

الحقيقة أن الآية الشريفة تحتاج إلى مزيد من البحث والدقّة والتدبّر ، رغم أن البعض قد تهاون في ذلك ومرّ عليها مرور الكرام ليمنع من يقظة الضمير ولئلّا يبتلى بعذاب الوجدان.

سؤال : ما هو غرض النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من طلب هذا الأجر؟ هل أنه يهدف من طلبه هذا إرضاء مصالحه الشخصية ، أو أنه يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق غايات مقدسة اخرى يعود نفعها على المسلمين أنفسهم؟

الجواب : وفي مقام الجواب على هذا السؤال نرى من الضروري أن نضع آيتين من القرآن الكريم إلى جانب آية المودّة لكي تفسّر الآيات بعضها بعضاً :

١ ـ نقرأ في الآية الشريفة ٤٧ من سورة سبأ :

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

هذه الآية الشريفة توضح بعض الإبهام في آية المودّة حيث يتّضح أن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطلب أجراً من قومه كما هو حال سائر الأنبياء ، إلّا أن مسألة «المودّة في القربى» في الحقيقة تعود للناس أنفسهم.

٢ ـ ونقرأ في الآية ٥٧ من سورة الفرقان والتي هي في الحقيقة مفسّرة للآية ٤٧ من سورة سبأ حيث تبيّن الفائدة والنفع من «المودّة في القربى» :

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٤١.


فالآية السابقة بيّنت على أن أجر الرسالة لم يكن بدافع المصلحة الشخصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يعود النفع فيها للناس ، وهذه الآية الشريفة تبيّن أن مسألة أجر الرسالة يستوحي مقوّماته من استمرار الأهداف الإلهية من الرسالة ، وفي الحقيقة أن النفع يعود إلى أصل الدين.

النتيجة هي أن مسألة «أجر الرسالة» لم يكن يقوم على أساس النفع الشخصي لنبي الإسلام بل كان النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر الأنبياء في عدم طلبه الأجر الشخصي من الناس ، ولكنّ أجر الرسالة المذكور في آية المودّة هو في الحقيقة باعث على استمرار الرسالة ودوام الدين ، ومع الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أن «مودّة القربى» لها هذا الاعتبار الكبير بحيث تمثّل عاملاً مهماً لاستمرار الرسالة ، فهل يصحّ التعامل مع هذه الآية الشريفة من موقع عدم الاهتمام بالتدبّر فيها حذراً من انقلاب الآراء والأفكار المسبقة؟

تفسير «القربى» في نظر الشيعة

يتفق علماء الشيعة على أن المراد من «القربى» في هذه الآية الشريفة هم أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ، ولا شكّ أن «الولاية» هي استمرار للرسالة وعدل النبوّة ، ولهذا فإنّ هذا الأجر «مودّة القربى» ينسجم مع الرسالة ، مضافاً إلى أن الولاية تقود الناس في خطّ الإيمان والتقوى والانفتاح على الله تعالى.

إذا فسّرنا آية المودّة وفقاً لما ذكره علماء الشيعة ومفسّروهم فسوف يتّضح جيداً المعنى الكامل في آية المودّة مضافاً إلى الآيات الاخرى المتعلقة بها ، وسوف يتبين أن الارتباط فيما بينها هو ارتباط منطقي وصحيح ، والملفت للنظر أن دعاء الندبة الذي هو في الحقيقة دورة كاملة من المعارف الإلهية المشحونة بالولاية يذكر في مضامينه الآيات الثلاث المذكورة آنفاً ، ويستنتج منها نتيجة مهمة ويتّضح أن الأئمّة هم الطرق والوسائل إلى الله تعالى والذين يقودون الناس إلى رحمة الله ورضوانه.


نظرات أهل السنّة في معنى «القربى»

وقد ذكر أهل السنّة تفاسير مختلفة لهذه المفردة القرآنية لا تنسجم كلّها مع الآية الشريفة ، وإليك بعض النماذج منها :

١ ـ قيل إن المراد من «القربى» هو محبة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومودتهم ولكن من دون الولاية والإمامة والخلافة ، أي الاكتفاء بالارتباط العاطفي والعلاقة الظاهرية فقط بأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكن هل يمثل هذا المعنى والمفهوم من المودّة عدلاً للرسالة؟

هل أن المحبة العاطفية فقط وبدون الولاية والإمامة يمكنها أن تكون أجراً للرسالة وبمثابة العدل لها؟

مضافاً إلى ذلك كيف يطلب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أجر الرسالة بالمعنى الذي ذكروه لها ، في حين أن جميع الأنبياء السابقين لم يطلبوا من أقوامهم مثل هذا الأجر بل كانوا يطلبون أجرهم من الله تعالى؟ وعليه فإنّ مثل هذا التفسير لا يمكن قبوله.

٢ ـ وذهب آخرون إلى أن المراد من «القربى» هو الأعمال الصالحة التي تقرب الإنسان من الله تعالى ، وعليه فإنّ «المودّة في القربى» تعني العشق والشغف بالأعمال الحسنة والرغبة في الصلاة ، الصوم ، الحجّ ، الجهاد ، صلة الرحم ، احترام الكبار وأمثال ذلك ، فهذه الأعمال الصالحة والسلوكيات الحسنة هي التي تمثل أجر الرسالة.

٣ ـ وذهب البعض إلى أن كلمة «في» الواردة في هذه العبارة بمعنى «اللام» ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية هو «أن أجر رسالتي وما عملته في تبليغ الرسالة الإلهية لكم هو أن تحبونني لأنني من أرحامكم وأقرباءكم» ثمّ ذكروا شجرة النسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفاصيل ارتباطه النسبي مع قريش لبيان مقصودهم بحيث تبيّن أن جميع القبائل العربية يرتبطون بشكل أو بآخر مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في النسب.

ولكن هذا التفسير واضح البطلان لأنه :

أوّلاً : إن استعمال «في» بمعنى «اللام» قليل جداً ونادر في لغة العرب وليس هناك دليل وشاهد على أن المراد من العبارة المذكورة هو هذا المعنى.


ثانياً : إن محبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لوحدها لا تمثل عدل النبوّة والرسالة ويجب أن يكون أجر الرسالة متناسبة مع الرسالة نفسها.

فهل أن قوله «عليكم أن تحبونني ولا تؤذونني لأنني من أقربائكم» يمثل عدل الرسالة؟

ألا يكون مثل هذا التفسير باعثاً على هبوط المعنى السامي للآية الشريفة؟

٤ ـ والتفسير الآخر الذي هو أوهن من التفسير السابق هو أن يقال : إنّ المراد من الآية الشريفة هو «المودّة في قرباكم وأن أجر رسالة النبي هو أن تحبّوا أقرباءكم وأرحامكم».

الإنسان يجد في نفسه رغبة شديدة في عدم تصديق وجود مثل هذا التفسير لدى هؤلاء العلماء ، ولكنّ مع الأسف نجد البعض يصرّحون بذلك.

إنّ بطلان هذا الرأي هو أوضح من أن يحتاج إلى كلام ، فهل أنّ مودّة الأقرباء للإنسان المسلم تمثل عدل للرسالة؟ وهل أن مودّة الأقرباء تعتبر استمراراً للنبوّة؟

أجل ، عند ما نتعامل مع الآيات الشريفة بسذاجة وسطحية ونحكّم المسبوقات الفكرية عليها فسوف نبتلي بمثل هذه الأخطاء والتفاسير التعسفية.

فهل أن هذا التفسير والتفسير السابق يتناسب وينسجم مع الآية الشريفة ، أو أن كلّ إنسان له اطلاع قليل على لغة العرب وبلاغتهم سوف يلتفت إلى عدم انسجام مثل هذه التفاسير مع الآية الشريفة؟ ولهذا السبب فإنّ هؤلاء العلماء أنفسهم اعترفوا أن هذه التفاسير مجازية وغير حقيقية ، أو أنها من قبيل الاستثناء المنقطع وهو أيضاً بدوره نوع من المجاز.

لما ذا نفسّر الآية القرآنية بشكل يوقعنا في هوة المعاني المجازية وغير الحقيقية؟

لما ذا لا نفسر المودّة في القربى بمعنى الولاية والإمامة والذي ينسجم تماماً مع الآية محل البحث وسائر الآيات المتعلّقة بها؟

اعتراف مفروض

ومن عجائب الأيّام أن الكثير من مفسّري أهل السنّة رووا حديثاً مفصّلاً عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذيل هذه الآية الشريفة حول محبّة أهل البيت ومودتهم ، بحيث إنّ الإنسان


عند ما يقرأ هذا الحديث الطويل والجذّاب ويتفكر قليلاً في مضامينه السامية ومعانيه الراقية يمتلكه العجب والحيرة من تلكم التفاسير الجوفاء والبعيدة عن روح الآية الشريفة وأجواءها.

وهنا ننقل ما أورده الفخر الرازي في تفسيره من الحديث النبوي حيث يقول :

«نَقَلَ صاحِبُ الكَشّافِ (١) عَنِ النَّبِيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله (ثمّ يورد اثني عشر فقرة جذّابة وعميقة المضامين في هذا الحديث الشريف).

١ ـ مَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ شَهيداً.

فهل أن مثل هذه المحبّة هي محبّة عادية وطبيعية وفارغة من الولاية والإمامة؟

إذا كانت كذلك فهل يعقل أن يكون هذا المحبّ في صفوف الشهداء؟

أو أن المراد من هذه المحبّة هي الحالة التي تدفع الإنسان في مدارج الكمال والمعنويات إلى أن يصل إلى مرتبة الشهداء ، وهي المحبّة المشروطة بالولاية والإمامة؟

٢ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ مَغْفُوراً لَهُ.

ما هي هذه المحبّة التي تعمل على تطهير الإنسان من الذنوب والآثام بحيث أنه عند ما يحين أجله فإنه سيموت طاهراً من كلِّ ذنب وستغفر له جميع الذنوب والمعاصي؟ هل أن مثل هذه المحبّة والمودّة هي محبّة اعتيادية؟

٣ ـ ومَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ ماتَ تائِباً.

أي أن هذه المحبّة تقع بديلاً للتوبة ، فلو أن الإنسان لم يوفق للتوبة من الذنوب في هذه الدنيا وكان محبّاً لأهل البيت فإنه يموت كما يموت التائب من الذنوب ، فما هي حقيقة هذه المحبّة؟

٤ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ مُؤْمِناً مُسْتَكْمِلَ الْإيمانِ

فهل يعقل أن يرتبط الإنسان بأهل البيت عليهم‌السلام برابطة اعتيادية وطبيعية ثمّ يفضي ذلك إلى كمال الإيمان؟

من المسلّم وجود مضمون عميق في هذه الكلمات بحيث يؤدي بالإنسان إلى الترقّي

__________________

(١) جاءت هذه الرواية في تفسير الكشّاف : ج ٤ ، ص ٢٢٠ و ٢٢١.


والسير في خطّ الإيمان والتقوى ليصل بالتالي إلى أعلى مرتبة منه.

٥ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ بَشَّرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ مُنْكِرٌ وَنَكيرٌ

ونتساءل : ما هذه المحبّة والمودّة التي تسبب في أن ينال الإنسان البشارة بالجنّة عند موته؟

٦ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ يُزفُّ إلَى الْجَنَّةِ كَما تُزفُّ الْعَرُوسُ إلى بَيْتِ زَوْجِها

أي سوف يقاد إلى الجنّة باحترام فائق وتقدير كبير ، أجل فإنّ إكسير محبّة آل محمّد عليهم‌السلام له مثل هذه الآثار والمعطيات العجيبة.

٧ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ فُتِحَ لَهُ فِي قَبْرِهِ بابانِ إلَى الْجَنَّةِ

سؤال : لما ذا يفتح له بابان إلى الجنّة؟

الجواب : لعلّ إحداهما ببركة النبوّة والاخرى ببركة الولاية والإمامة.

٨ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ جَعَلَ اللهُ قَبْرَهُ مَزارَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ

هل يعقل أن تكون المحبّة العادية سبباً في تحويل قبر المؤمن إلى مزار للملائكة؟

٩ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ مات عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَماعَةِ

في هذه العبارات المذكورة أعلاه ، نرى بوضوح آثار المحبّة والمودّة لأهل البيت ، ثمّ إن الحديث الشريف يذكر ثلاث عبارات اخرى تتحدّث عن العاقبة السيئة لبغض وعداوة أهل البيت عليهم‌السلام.

١٠ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ جاءَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ

إنّ من يعيش البغض لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من شأنه أن يهوي إلى أسفل درجات الشقاء بحيث يكون آيس من رحمة الله.

١١ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ كافِراً

هذا الأثر السيئ لبغض آل محمّد هو أسوأ مما قبله.

١٢ ـ وَمَنْ ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ


والجدير بالذكر أن رائحة الجنّة كما ورد في بعض الروايات تصل إلى مسافة ألف عام (١).

وطبقاً لهذه الرواية الشريفة فإنّ معنى العبارة أعلاه أن الشخص الذي يعيش حالة البغض لآل محمّد ليس فقط أنه يكون محروماً من دخول الجنّة ، بل سوف يبتعد عنها بمسافة ٥٠٠ عام بحيث لا يتمكن من شم رائحتها ، والخلاصة أن مثل هذا الشخص بعيد عن الجنّة جداً.

كيف يستطيع الإنسان أن يصدّق بأن عالماً كبيراً مثل الفخر الرازي يروي هذه الرواية الجميلة والعميقة المضمون والمحتوى وبكلّ هذه المعطيات المهمة والآثار الجليلة ثمّ يفسّر المحبّة والمودّة ومن دون التدبّر في هذه المضامين بالمحبّة الظاهرية والعاطفة الطبيعية؟ والأعجب من ذلك أنه بعد أن نقل الرواية المذكورة آنفاً شرع بتوضيح المراد من آل محمّد عليهم‌السلام الذين هم محور هذه الرواية فقال :

«هذا هو الذي رواه صاحب الكشاف وأنا أقول : آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشدّ التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر» (٢).

من الملفت للنظر هو أن هذه العبارات ذكرها عالم سنّي متعصب ، والمفهوم من هذه الكلمات هو أقرب ما يكون إلى ما يقوله الشيعة بحيث إنني عند ما كنت أقرأ هذه الكلمات شككت في لحظة أن هذا الكتاب الذي أقرأه هل هو من تفاسير السنّة أو الشيعة؟ فلعلني أقرأ تفسيراً لأحد علماء الشيعة ، ولكن عند ما نظرت إلى الغلاف انتبهت إلى أنني أقرأ تفسير الفخر الرازي.

سؤال : نظراً لما ورد في متن آية المودّة وكذلك ما ورد في الآيات الاخرى المرتبطة بها

__________________

(١) ميزان الحكمة : الباب ٥٥٣ ، ح ٢٥٨٥. يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا لرواية : «أخبرني جبرئيل أن ريح الجنّة توجد من مسيرة ألف عام ، ما يجدها عاق ، ولا قاطع رحم ، ولا شيخ زانٍ ...».

(٢) تفسير الفخر الرازي : ج ٢٧ ، ص ١٦٥ و ١٦٦. وأصل الرواية في تفسير القرطبي : ج ٨ ، ص ٥٨٤٣ وكذلك نقلت في تفسير الثعلبي ، ذيل الآية محل البحث.


وبالتأمل والدقّة في الرواية الشريفة المذكورة آنفاً ، هل يعقل أن تكون المحبّة والمودّة التي هي محور البحث في الآية الكريمة والرواية الشريفة يراد منها المحبّة العادية بدون الولاية والإمامة؟

ألا يمكن أن نقطع ونتيقن بأن المراد من المودّة هنا هو الولاية والإمامة التي هي استمرار للرسالة وعدل النبوّة؟

لو لم يكن كذلك فما هو التفسير المناسب الذي يمكن بواسطته تفسير الآيات والروايات المذكورة في محل البحث؟

علينا أن نشكر الله تعالى على ما وفقنا لمحبّة وولاية أهل البيت عليهم‌السلام وكذلك نشكر والدينا اللذين غرسا في قلوبنا ولاية آل محمّد عليهم‌السلام.

تفسير المودّة في كلمات الإمام الصادق عليه‌السلام

ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله :

«ما أَحَبَّ اللهَ مَنْ عَصَاهُ» (١).

وعلى هذا الأساس فإنّ الإنسان الذي يتحرّك في سلوكه الفردي والاجتماعي من موقع المخالفة للإمام علي عليه‌السلام فإنه لا يحبّه قطعاً ، ولهذا فإنّ المحبّة الحقيقية هي التي تقود الإنسان في خط الطاعة والعبودية لله تعالى ، ولهذا السبب نقول أن المحبّة والمودّة بدون الإتباع العملي والطاعة والعبودية هي أساساً ليست بمحبّة حقيقية ومودّة واقعية.

وهنا نلفت النظر إلى هذه القصة :

كان «حاجب» أحد الشعراء الماهرين ويتمتع بقريحة جيدة وصفاء قلب ، وأحياناً كان يقوم بنظم بعض الأبيات الشعرية على مذاق العوام ، وفي أحد الأيّام أنشد قصيدة في وصف التعلّق بأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقال :

__________________

(١) روضة المتّقين : ج ١٣ ، ص ١٥٦.


ياحاجب إذا كانتالمعاملة في الحشرمع علي

فأذنب ما شئت فإني ضامن

أي أن حبّ عليّ عليه‌السلام كافل للنجاة يوم القيامة حتّى لو غرق الإنسان في بحر الذنوب ، وبهذا تكون المحبّة للإمام عليّ عليه‌السلام كما وردت في الشعر أعلاه بمثابة ضوء أخضر للمذنبين ليرتكبوا ما يشاءون من الذنوب والمعاصي.

وفي نفس الليلة رأى هذا الشاعر الإمام علي عليه‌السلام في عالم الرؤيا فقال له الإمام عليه‌السلام :

ـ يا حاجب ما هذا الشعر الذي قلته؟

فقال حاجب : وكيف أقول؟

فأصلح له الإمام هذا البيت من الشعر وقال :

ياحاجب إذا كانتالمعاملة في المحشر مع عليّ

فأخجل من علي وقلل من الذنب

وعليه فإنّ المحبّة والمودّة هنا بمعنى التحرّك في خطّ الطاعة والرسالة والتقوى والابتعاد عن الذنوب.

تفسير آية المودّة من خلال الروايات

لقد وردت في شرح وتفسير هذه الآية الشريفة روايات مختلفة من طرق الشيعة والسنّة ، وفيما يلي نماذج من هذه الروايات :

١ ـ نقل «أحمد» من كبار علماء أهل السنّة في كتابه «فضائل الصحابة» عن سعيد ابن جبير عن عامر هذه الرواية :

لَمَّا نَزَلَتْ (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالُوا : يا رَسُولَ اللهِ؟ مَنْ قَرابَتُكَ؟ مَنْ هَؤُلاءُ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنا مَوَدَّتُهُمْ؟ قالَ : عَلِيٌّ وَفاطِمَةُ وَابْناهُما ، وقالَهَا ثَلاثاً. (١)

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢. وذكرت هذه الرواية أيضاً في الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ٧.


ونستوحي من هذه الرواية الشريفة عدّة امور :

الأوّل : إنّ الرواية أعلاه تصرّح بأن المراد من القربى في هذه الآية هم أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا النبي نفسه ولا أقرباء المسلمين ولا مطلق الأعمال الصالحة والخيّرة.

مضافاً إلى أن كلمة القربى هنا لا تستوعب جميع أقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل تتحدّد بأشخاص معدودين ذكرت أسماءهم في هذه الرواية.

الثاني : ونستوحي أيضاً أن هذا السؤال والاستفهام عن القربى كان يدور في أذهان الصحابة أيضاً ولذلك لم يتوجّهوا صوب الاحتمالات الواهية التي ذكرها بعض علماء أهل السنّة بل فهموا بصورة مباشرة من المودّة هنا هي مودّة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك أدركوا أن الآية لا تقصد بالقربى جميع أقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك طلبوا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحدّد لهم هؤلاء الذين وجبت مودّتهم.

الثالث : أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهموا من هذه الآية وجوب المودّة والمحبّة للقربى كما ذهب إليه جميع علماء الشيعة وكذلك أهل السنّة أيضاً ، ومع غض النظر عن التفاسير الواردة في كلمة «القربى» فإنّهم يرون وجوب مودّة أهل البيت عليهم‌السلام ومحبتهم ، ولكن نكرر السؤال هنا وهو : لما ذا وجبت محبّة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

هل أن هذه المسألة حال بعض الأحكام الشرعية التي لا ندرك مغزها وفلسفتها ، أي من قبيل الامور التعبدية؟ أو ليست كذلك بل الغرض منها واضح وهو أن هذه المحبّة تقع مقدمة لسلوك الإنسان في خط الإطاعة لهؤلاء العظماء واتباعهم؟

إذا أردنا أن يكون لدينا تفسير صحيح لآية المودّة وسائر الآيات المرتبطة بها بالاستعانة بالرواية المطوّلة التي ذكرها الفخر الرازي والرواية المذكورة آنفاً والروايات التي ستأتي لاحقاً ، لوجد القوم بأن الحكمة في هذه المحبّة والمودّة هي ما يقود الإنسان نحو الولاية والحكومة والخلافة ، الولاية التي تقع رديفاً للرسالة وعدلاً للنبوّة ، فكما أن الرسالة هي عماد الإسلام فكذلك الولاية هي أساس قوامها واستمرارها.

ولا سيّما إذا التفتنا إلى هذه الحقيقة ، وهي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرغم من وجود أقرباء وأرحام مثل العبّاس وأولاده وكذلك أولاد أبي طالب وسائر أبناء عبد المطلب وأحفاده


فإنه أشار بالتحديد إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهذا يمكنه أن يكون قرينة قويّة على أن المراد بالمودّة هنا هي الولاية والإمامة ، حيث إنّ المحبّة العادية تشمل جميع أقوام النبي ويجب على الإنسان مودّتهم أجمع.

٢ ـ أورد المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» نقلاً عن أبي امامة الباهلي الرواية التالية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقرأها أيضاً في مضمونه في دعاء الندبة حيث يقول :

«إنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ الانْبياءَ مِنْ أَشْجارٍ شَتّى وَخَلَقَ أَنَا وَعَلِيّاً مِنْ شَجَرَةٍ واحِدَةٍ فَأَنَا أَصْلُها وَعَلِيٌّ فَرْعُها وَفاطِمَةُ لِقاحُها وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ثِمارُها وَأَشْياعُنا أَوْراقُها ، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصانِها نَجا وَمَنْ زاغَ عَنها هَوى وَلَوْ أَنَّ عبداً عَبَدَ اللهَ بَيْنَ الصَّفا وَالْمَرْوَةِ الْفَ عامٍ ثُمَّ الْفَ عامٍ ثُمَّ الْفَ عامٍ حَتَّى يَصيرَ كَالشَّنِّ الْبالي (١) ثُمَّ لَمْ يُدْرِكَ مَحَبَّتَنا كَبَّهُ اللهُ عَلى مِنْخَرَيْهِ فِي النّارِ ثُمَّ تَلا : «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى». (٢)

في هذه الرواية الشريفة نلاحظ عدّة نقاط :

الأوّل : إنّ هذه الرواية أيضاً تصرّح بأن «المودّة بالقربى» هي مودّة أهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام ، وتدلُّ بصورة جليّة وبتعبيرات مثيرة جدّاً على أن هذه المحبّة والمودّة ليست اعتيادية بل هي المحبّة التي تفضي إلى الولاية والخلافة.

الثاني : إنّ الرواية المذكورة آنفاً ترسم في الحقيقة معالم «الشجرة الطيبة» (٣) الواردة في القرآن الكريم ، وأحد تفاسير الشجرة الطيبة يماثل في مضمونه ما ورد في هذه الرواية.

الثالث : إنّ أوراق الأشجار تقوم بحفظ وحراسة الثمار ، فلو لم تكن للشجرة أوراق فإنّ الثمار ستتعرض للذبول في مقابل أشعة الشمس وسائر الآفات المحتملة.

__________________

(١) «شنّ» تعني القربة البالية ، والعرب يطلقون على جميع الآنية والظروف المصنوعة من الجلد (شن) ، ولكن تطلق هذه الكلمة على (القِربة العتيقة) خاصة ، والبالي يعني العتيق ، وعليه فالمراد من هذه العبارة أن الشخص قد يصير بسبب كثرة العبادة وطول العمر والعجز الشديد كالقِربة البالية الفارغة من الماء.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٨.

(٣) سورة إبراهيم : الآية ٢٤.


إنّ وظيفة الشيعة وفقاً لهذه الرواية الذين يمثّلون أوراق هذه الشجرة الطيبة هي حفظ وحراسة الثمار الطيبة لهذه الشجرة ، أي الإمامة والولاية والزعامة.

الرابع : ويستفاد من هذه الرواية أيضاً أن العبادة بين الصفا والمروة لها شأن خاص لا يوجد في سائر أماكن المسجد الحرام ، ولكن حتّى هذه العبادة في هذا المكان المقدّس لا تساوي شيئاً بدون الولاية.

الخامس : نكرر أيضاً أنه لو كان المراد من المحبّة في هذه الرواية وسائر الروايات المشابهة هي المحبّة العادية فإنّ هالة من الإبهام والغموض ستحيط بجميع هذه الأحاديث والروايات ، ولكن إذا فسّرنا المودّة هنا بالولاية والإمامة فسيرتفع ذلك الغموض ويتّضح المعنى بصورة جليّة.

٣ ـ يروي السيوطي في «الدرّ المنثور» رواية معروفة عن الإمام زين العابدين حيث يقول : «عند ما أنزلوا اسارى كربلاء في مكان من المسجد الجامع جاء شيخ ودنا من نساء الحسين وعياله فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين (يزيد) منكم. فقال له علي بن الحسين عليهما‌السلام :

ـ يا شيخ هل قرأت القرآن؟

قال : نعم.

قال : فهل عرفت هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)

قال : نعم.

قال علي : فنحن أهل القربى يا شيخ.

قال : فبكى الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به وقال : بالله إنكم هم؟ فقال عليّ ابن الحسين : تالله إنا لنحن من غير شك وحقّ جدّنا رسول الله ...» (١).

إنّ مجموع هذه القرائن والشواهد تدلُّ على أن المودّة المذكورة في الآية الشريفة والروايات المتعلّقة بها لا يمكن أن تكون مودّة عادية ومحبّة بمعنى التعلّق العاطفي فقط.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ٧ ؛ اللهوف : ص ١٧٦.


ملاحظات مهمة

١ ـ وفقاً لبعض آيات القرآن الكريم فإنّ المحبّة يجب أن تقود الإنسان للطاعة والعبودية ، حيث يقول تبارك وتعالى في الآية ٣١ من سورة آل عمران :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وعلى هذا الأساس فإنّ الإنسان إذا أحبّ شخصاً وجب عليه إطاعته ، ونحن عند ما ندّعي محبّة أهل البيت عليهم‌السلام يجب علينا اتباعهم واطاعتهم وإلّا فإنّ ادّعاءنا المحبّة والمودّة لا يكون صادقاً ، وسنتطرق لاحقاً إلى شرح أكثر حول معطيات هذه الآية الشريفة.

٢ ـ تقدّم أن آية المودّة تدلُّ مع قطع النظر عن جميع الروايات والآيات الاخرى على ولاية وإمامة أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ومع الأخذ بنظر الاعتبار الروايات الواردة في شأن نزولها فإنّ دلالتها ستكون أوضح بكثير ، وإذا وضعنا هذه الآية إلى جانب الآيات الاخرى المتعلّقة بالولاية مثل آية إكمال الدين ، آية التبليغ ، آية الصادقين وآيات مماثلة اخرى فإنّ دلالتها ستكون واضحة جدّاً.

٣ ـ أما الآلوسي المفسّر المعروف من أهل السنّة فقد ذكر إشكالين في تفسيره «روح المعاني» وقد اتّضح جوابهما من خلال الأبحاث السابقة ، ولذلك سنكتفي هنا بذكر هذين الإشكالين فحسب :

الف : كيف طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين محبّة ومودّة ذوي القربى بعنوانها أجر الرسالة في حين لم يطلب سائر الأنبياء مثل هذا الأجر من أقوامهم؟

والجواب على هذا السؤال كما تقدّم هو أن هذا الأجر يعود بالفائدة على جميع أفراد المجتمع الإسلامي لا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

ب : لو سلّمنا بأن المراد من القربى هنا هم أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمفروض محبّتهم ومودّتهم ، ولكن ما العلاقة بين هذه المودّة من جهة وبين الإمامة والخلافة من جهة اخرى كما يدّعي الشيعة؟

والجواب على هذا السؤال أيضاً واضح ، حيث إنّ أجر الشيء لا بدّ وأن يماثله في القيمة


ويتطابق معه في الاعتبار ، والمحبّة التي تفضي إلى الولاية والإمامة هي التي تنسجم وتتناسب مع الرسالة ، وأما المحبّة العادية والفارغة من الولاية فلا شكّ أنها بعيدة عن مضمون الرسالة ، وبما أننا نعتقد بأن الله تعالى حكيم ويجازي الأعمال بمثلها وبما يناسبها من الجزاء ، وكذلك النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حكيم أيضاً ولا يطلب إلّا الأجر المناسب أيضاً ، يكون المراد بلا شكّ من المحبّة مورد البحث هو الإمامة والولاية.

معطيات آية المودّة

ما ذا تعني المودّة المذكورة في الآية الشريفة بعنوان أجر الرسالة؟

وما ذا يفهم من حبُّ علي عليه‌السلام وذريته الطاهرين عليهم‌السلام؟

وفي مقام الجواب ينبغي القول أن المحبّة والمودّة على نحوين :

١ ـ المحبّة الكاذبة والزائفة.

٢ ـ المحبّة الحقيقية والواقعية.

ومن أجل توضيح المطلب بصورة جليّة ينبغي التوغل إلى أعماق النفس ونرى الدافع لمثل هذه المحبّة والمودّة.

فلما ذا نحبّ الإمام علي؟ هل لأجل أمواله ، أو لأجل كمالاته الإنسانية والمعنوية ، أو لأجل علمه ، أو لشجاعته ، أو لكرمه وتقواه ، أو لإيثاره وتضحيته ، أو لجهاده وحمايته النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو لأجل امور اخرى؟

إذا كنّا نحبّ الإمام علي لأجل القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية التي كان يعتقد بها ، فهل نشعر في أنفسنا باشعاعة من تلك القيم الرفيعة؟ فإن لم نشعر بذلك فمثل هذه المحبّة والمودّة كاذبة وزائفة ، وإن كانت فينا بارقة من هذه القيم والمُثل الإنسانية فإنّ المودّة هنا تكون حقيقية وواقعية.

ينبغي أن نمتحن أنفسنا بهذا المعيار والملاك ونتحرك نحو تشخيص نوع المحبّة والمودّة فينا نحو الإمام علي بهذا المقياس لكي لا نعيش التوهم الزائف وندّعي كذباً حبُّ علي بن أبي طالب ، ولو كنّا نعيش مثل هذه المحبّة الزائفة فعلينا تغييرها والسعي نحو التحلّي بالمحبّة من


النوع الثاني ونتحرك في سبيل تقويتها وترشيدها.

إنّ أحد القيم التي كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ملتزماً بها بشدّة هي تقديم الضابطة على الرابطة ، والمثال على ذلك هو قصّة الحديدة المحماة التي سمعتموها مراراً ، ولكن لا بأس باستعراضها مرّة اخرى :

عند ما وصلت الخلافة إلى الإمام علي عليه‌السلام بعد سنوات من السكوت والمظلومية والجلوس في البيت جاء إليه أخوه عقيل ، وكان فقيراً ومعيلاً ، من المدينة إلى الكوفة لعلّه يحصل على نصيب أوفر من بيت المال ، وكان الإمام حينذاك يتناول عشاءه على سطح البيت لشدّة حرارة الجوّ في مدينة الكوفة ولكنّ عشاءه لم يكن شبيهاً بعشاء السلاطين والامراء ولذلك لم يشاركه عقيل في تناول العشاء وقال لأخيه :

أعطني ما أقضي ديني وعجّل سراحي حتّى أرحل عنك ، قال : فكم دينك يا أبا يزيد؟ قال : مائة ألف درهم ، قال : لا والله ما هي عندي ولا أملكها ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فأواسيكه ولو لا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه ، فقال عقيل : بيت المال في يدك وأنت تسوّفني إلى عطائك؟ وكم عطاؤك؟ وما عساه يكون ولو أعطيتنيه كلّه؟ فقال : ما أنا وأنت فيه إلّا بمنزلة رجل من المسلمين. وكانا يتكلمان فوق قصر الأمارة مشرفين على صناديق أهل السوق فقال له علي : إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فأنزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه ، فقال : وما في هذه الصناديق؟ قال : فيها أموال التجار ، قال أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكّلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكّلوا على الله وأقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة فإنّ بها تجاراً مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله ، فقال : أوسارقاً جئت؟ قال : تسرق من واحدٍ خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً (١).

ثمّ إنّ الإمام علي عليه‌السلام أحمى حديدة وقرّبها من يد أخيه عقيل فلمّا رأى عقيل أن أخاه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ، ص ١١٣.


غير مستعد لخروج عن خطّ العدالة ولو للحظة واحدة نهض قائماً وغادر المكان.

أين نجد في تاريخ البشرية أن سلطاناً مقتدراً وبيده اختيار الخزانة يتصرف مثل هذا التصرف مع أخيه من أجل حفظ العدالة؟

إلهنا ، وفّق المسئولين في حكوماتنا الإسلامية ليكونوا مثل أمير الأحرار ويتحركوا في أداء مسئولياتهم من موقع تقديم «الضوابط» على «الروابط».

مراتب المحبّة

إنّ للمحبّة كما في سائر الامور مراتب متعدّدة ومراحل مختلفة ، ومحبّة الناس لأمير المؤمنين عليه‌السلام ليست بمرتبة واحدة ، فبعضهم يعيش المحبّة الكاذبة فهي مجرد لقلقة لسان ولا تمتد بجذورها إلى القلب ، والبعض الآخر تمتد محبّتهم إلى قلوبهم ولكنّها ليست عميقة الجذور بل سطحية ، والطائفة الثالثة تمتد محبّتهم إلى أعماق قلوبهم بحيث تستوعب جميع وجودهم ونفوسهم وترسم معالم شخصيتهم بلون المحبوب ، فسلوك مثل هؤلاء الأشخاص هو سلوك علوي ، وكلامهم كلام علوي ، وأخلاقهم أخلاق علوية ، والخلاصة أن كلَّ وجودهم وأفعالهم وسلوكياتهم تفوح برائحة الإمام علي ، وهذه أعلى مراتب المحبّة ، المرحلة التي يجد الإنسان نفسه غير مستعد لأن يبادل هذه المحبّة بأيِّ شيء آخر بل يجد نفسه مستعداً للتضحية بنفسه من أجل هذه المحبّة والمودّة.

وكمثال على هذه المحبّة الخالصة نذكر هذا النموذج :

ميثم التمّار ، العاشق الخالص

في أحد الأيّام قال الإمام علي عليه‌السلام لأحد عشاقه الذي كان يعيش الولاء المطلق له :

ـ سوف تُصلب في المستقبل القريب بسبب دفاعك عني وحبّك لي فكيف يكون حالك حينئذٍ؟

ولكنّ هذا العاشق لم يتردد لحظة ولم يشعر بشيءٍ من الخوف ولم يتهرب من المسئولية والولاية بل أظهر السرور البالغ وقال : سيّدي أين المكان الذي سوف اصلبُ فيه؟


فأشار الإمام علي عليه‌السلام إلى نخلة من نخيل الكوفة وقال : سوف تُصلب على جذع هذه النخلة.

هذا العاشق الخالص لم يبتعد عن الإمام ولم يهرب من تلك المدينة ويترك أهله ودياره بل أزداد حبّاً وعشقاً للإمام علي.

كان في كلّ يوم يتوجّه إلى تلك النخلة ويهتم بعنايتها وسقيها ويصلّي ركعتين عندها ويتحدّث معها حديث العاشق لمعشوقه :

ـ أيتها النخلة لقد خُلقت لي وخلقت لك وسوف يصلب بدني على جذعك بسبب حبّي للإمام علي عليه‌السلام ... (١) أين نحصل على مثل هذا الإنسان العاشق في تاريخ البشرية؟

وحان اليوم الموعود وتمّ صلب هذا العاشق على ذلك الجذع ولكنّ عشقه لمحبوبه لم يخفّ لحظة بل أزداد توهجاً واشتعالاً وشرع بذكر فضائل ومناقب الإمام علي عليه‌السلام حتّى أن الأعداء لم يتحملوا منه ذلك وأمروا بقطع لسانه وهكذا ضحّى بنفسه في سبيل مراده.

سؤال : أليست التقية واجبة في نظر الإسلام؟ إذن فلما ذا لم يستخدم هؤلاء الأشخاص عنصر التقية للمحافظة على أنفسهم واجتناب إلقاء أنفسهم في التهلكة؟

الجواب : إنّ التقية كما هي واجبة في بعض الموارد فكذلك تكون حراماً في موارد اخرى ، فعند ما يتعرض أساس الدين والمذهب للخطر وتسود الظلمة والانحراف جميع أرجاء المجتمع الإسلامي ويتعرض الأحرار للسجن والقتل فحين ذاك يجب على من يتمكن من إيصال صوته إلى الناس أن يفضح قوى الانحراف هذه ويتصدى بكلّ وسيلة لجهاز الحكم ، وفي هذه الصورة فإنّ التقية ليست فقط غير واجبة بل إذا تستر الإنسان المسلم بالتقية فإنه يكون قد ارتكب معصية كبيرة.

__________________

(١) تختلف طريقة الاعدام في السابق عن هذا الزمان ، ففي هذا الزمان يتم اعدام الشخص بأن يوضع حبل حول عنقه ويعلق على خشبة الاعدام أو يُسحب الكرسي من تحت قدميه فيموت في أقرب مدّة ، ولكن الاعدام في السابق كان على شكل صلب بأن يشدّ الحبل على يديه وعلى قدميه ويربط على خشبة أو جذع ويبقى هكذا تحت الشمس لعدّة أيّام إلى أن يموت من الحر أو البرد ومن الجوع والعطش وحتّى أنه تبقى جثته مدّة بعد موته ليكون عبرة للآخرين إلى أن يتحول إلى عظام فحسب.



آية المباهلة ٨

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

«سورة آل عمران / الآية ٦١»

أبعاد البحث

إنّ آية المباهلة هي إحدى الآيات الاخرى المتعلّقة بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام ، في هذه الآية الشريفة التي تتحدّث عن موضوع المباهلة بين المسلمين ونصارى نجران تثبت من جهة حقّانيّة الإسلام ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جهة اخرى تبين سمو مقام أهل بيت النبي عليهم‌السلام وعلو درجتهم ، ومن جهة ثالثة بالإمكان إثبات ولاية وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام بواسطتها.

مقدّمة

قبل الشروع بتفسير آية المباهلة الشريفة نرى من اللازم التنبيه على نقطتين :

١ ـ المباهلة آخر الدواء

إنّ الآيات ٣٥ إلى ٦٠ من سورة آل عمران تتحدّث عن النبي عيسى عليه‌السلام وتذكر في


طياتها قصة ولادة هذا النبي الكريم ومقاماته المعنوية وشخصية امّه وفضائلها الكريمة وحديثه مع الملائكة والمائدة السماوية ومسائل اخرى ، وبعد كلّ هذه الأبحاث المطوّلة عن النبي عيسى عليه‌السلام يوصي الله تبارك وتعالى نبي الإسلام ويقول بأن النصارى بعد بيان كلّ هذه الامور بشكل منطقي ومستدل لو لم يقبلوا الإسلام واختاروا طريقاً آخر وأصرّوا على عنادهم فعليك بمباهلتهم ليتّضح الحقّ.

٢ ـ ما ذا تعني المباهلة؟

«المباهلة» من مادة «بَهْل» ويعني في لغة العرب ترك الشيء ، والعرب عند ما تلد الناقة يشدون على ثدييها لئلّا يشرب طفلها جميع اللبن في ضرعها ولكن أحياناً يفتحون الضرع ليشرب طفل الناقة ما يشاء من اللبن ، فيقال حينئذٍ لهذه الناقة التي انفتح ضرعها «ابل باهل».

وأما في الاصطلاح فلها معنى آخر فهو : عند ما يتقدم شخصان للحوار فيما بينهما بأدلة عقلية ومنطقية ولا يستطيع أحدهما إقناع الآخر برأيه وعقيدته فهنا يحقّ لكلِّ واحد منهما أن يباهل الآخر ويقول : «إذا كنت أنا على الحقّ وأنت على الباطل فعليك غضب الله» ، ويكرر الآخر هذه العبارة ، فيقال لهذا العمل مع توفر شرائطه «مباهلة».

ومن الواضح أن هذا المعنى الاصطلاحي يرتبط بالمعنى اللغوي لأن الشخص الذي يدّعي أنه على حقّ يقول : إنني أترك الطرف الآخر لقضاء الله واحيله إلى قدرة الله.

الشرح والتفسير :

الدعوة إلى المباهلة

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : أيّها النبي بعد البحث والمناقشة مع هؤلاء النصارى عن عيسى ابن مريم عليهما‌السلام وبعد تقديم الأدلّة المتقنة والبراهين الساطعة حول تفاصيل حياة عيسى ابن مريم فإنهم إذا أصرّوا مع ذلك على عنادهم ولجاجتهم ولم يبصروا الحقّ والحقيقة فهناك طريق آخر لاستمرار الدعوة الإلهية وهو اختيار المباهلة معهم.


(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ)

في هذا المقطع من الآية الشريفة يعيّن القرآن الأشخاص الذين سيشتركون في مراسم المباهلة ، وعليه يوجّه الخطاب إلى النبي الأكرم ويقول : أيّها النبي قل لهؤلاء تعالوا لنتباهل وليأتي كلُّ طرف منا بأربع فئات من جماعته وأهل ملّته ليشتركوا في هذه المراسم :

١ ـ رئيس المسلمين ، أي النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ورئيس نصارى نجران من جهة اخرى.

٢ ـ أبناءنا وأبناءكم.

٣ ـ نساءنا ونساءكم.

٤ ـ أنفسنا وأنفسكم.

وسيأتي في الأبحاث اللاحقة الكلام عن المراد من «أبنائنا» و «نسائنا» و «أنفسنا» بشكل مفصل.

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) فبعد أن ذكرت الآية الشريفة الطوائف الأربع المفروض اشتراكهم في مراسم المباهلة ، ذكرت كيفية إجراء هذه المراسم بأن تتم بهذه الصورة : إن كلُّ شخص كاذب ويدّعي أنه على الحقّ كذباً وزوراً فإن عليه لعنة الله وعذابه ، ليتّضح الحقّ للناس وتتجلّى معالم الحقيقة للجميع.

هل تحققت المباهلة؟

وهنا يثار سؤال : هل تحققت مراسم المباهلة وفقاً للشروط التي ذكرها القرآن الكريم؟

وفي صورة تحقّقها فما ذا كانت النتيجة؟

الجواب : إنّ القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن وقوع المباهلة في الواقع الخارجي ولا يمكننا استيحاء وقوعها من سياق الآيات الكريمة ، ولكنّ هذه الواقعة معروفة ومشهورة في تاريخ الإسلام.

فطبقاً لما ذكرته كتب المؤرخين أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله طرح موضوع المباهلة وكيفيتها مع نصارى نجران وعيّن اليوم الخاصّ لإجراء المباهلة ، ولكنّ الاسقف الأعظم للنصارى الذي يعدّ أعلى مقام ديني لدى النصارى قال لهم :


«انظروا محمّداً في غدٍ ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته. وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شيء».

وعلى أيّة حال فقد حل اليوم الموعود وشاهد النصارى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قادماً ومعه طفلين هما الحسن والحسين عليهما‌السلام وكذلك علي وفاطمة عليهم‌السلام ، فقال الأسقف الأعظم عند ما رأى هذا المنظر :

«إني أرى وجوهاً لو دعوا الله لاستجاب لهم وفي ذلك هلاككم» (١).

وهكذا امتنع من المباهلة ووافق النبي الأكرم على انسحابهم وتراجعهم.

لقد ذكرت كتب التواريخ قصة المباهلة بشكل مختصر كما مرّ آنفاً ، يقول أبو بكر الجصّاص من علماء القرن الرابع الهجري في كتابيه «أحكام القرآن» و «معرفة علوم الحديث» عبارتين جميلتين في هذا الصدد :

١ ـ قال في كتاب «أحكام القرآن» :

إنّ رواة السّير ونقلة الأثر لم يختلفوا في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ودعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة (٢).

٢ ـ ويقول أيضاً في كتاب «معرفة علوم الحديث» :

قد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عبّاس وغيره أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ يوم المباهلة بيد علي والحسن والحسين وجعلوا فاطمة ورائهم ثمّ قال : هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا (٣).

وعلى هذا الأساس هناك روايات وأحاديث كثيرة جدّاً في شأن نزول وتفسير آية المباهلة حيث نكتفي هنا بذكر رواية واحدة منها :

__________________

(١) لا بدّ من توفّر شرطين لمن يريد الاشتراك في المباهلة :

الأوّل : أن يكون مؤمناً بما يدعي ، لأن الشخص الانتهازي والكذاب لا يجرأ على المباهلة.

الثاني : أن تكون له رابطة قوية مع الله تعالى بحيث إنه إذا رفع يديه للدعاء ودعا على أحد الأشخاص فإن الله يستجيب دعاءه ، وقد لاحظ علماء نجران (٣ أو ١٠ أشخاص) توفّر هذين الشرطين في سيماء النبي ومرافقيه فأحجموا عن المباهلة.

(٢) أحكام القرآن : ج ٢ ، ص ١٦ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٤٨).

(٣) معرفة علوم الحديث : ص ٥٠ طبع مصر. (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٤٨).


جاء في كتاب صحيح مسلم في باب «فضائل الصحابة» رواية مثيرة وجذّابة رواها سعد بن أبي وقاص : أن معاوية قال لسعد : «ما منعك أن تسبّ أبا تراب (١)؟ قال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله فلن أسبّه لئن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، ثمّ ذكر قصة تبوك عند ما استخلف النبي علياً على المدينة ، فلما قال الإمام علي : أتخلّفني على النساء والأطفال؟ قال له رسول الله : «ألا ترضى أن تكون مني كهارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي ، والثانية في معركة خيبر عند ما أرسل رسول الله الأوّل والثاني لفتح خيبر فرجعا آيسين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لأعطينّ الراية غداً لرجل لا يملّ من الحرب ولا يدير ظهره للعدو». فتطاولت الأعناق لذلك ، فنظر رسول الله فيهم فلم ير علياً ، فسأل عنه فقيل : هو أرمد ، فقال : عليّ به ، فجاء الإمام علي فتفل رسول الله في عينه فشفي من ساعته فدفع إليه الراية وكان الفتح على يده. وأما «الثالثة» فهي لما نزلت هذه الآية «قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ...» حيث دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي ...

وقال سعد بعد ذلك لمعاوية : هل يحقّ لي بعد هذا أن أسبّ علياً؟ فسكت معاوية وندم على مقولته» (٢).

من هم أبناءنا ، نساءنا ، أنفسنا؟

لا خلاف ظاهراً بيننا وبين إخوتنا من أهل السنّة في أن المراد من «نساءنا» هو فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليها‌السلام وكذلك اتّفق علماء الشيعة وأهل السنّة أن المراد من «أبناءنا» الحسن والحسين عليهما‌السلام.

وعلى هذا الأساس فإن المحور الأصلي في هذا البحث يدور حول تفسير كلمة «أنفسنا»

__________________

(١) هذا الكلام يعكس غاية ما فيه الإمام علي من المظلومية وذروة الحقد الدفين في قلوب بني امية عليه بحيث اشاعوا سبّه ولعنه بين المسلمين بحيث لو امتنع أحد من سبّه لتعرض للعقاب الشديد ، والعجيب من بعض أهل السنّة الذين يدافعون عن بني امية ومعاوية مع كلّ هذه الجرائم الفضيعة ويعبّرون عن «مصدر الخبائث» ب «سيّدنا معاوية»!!

(٢) صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨٧ ، ح ٣٢.


ولذلك نرى من الضروري تفصيل البحث حول هذه العبارة.

يقول القاضي نور الله الشوشتري في كتابه القيّم «احقاق الحقّ» :

أجمع المفسّرون على أن «أبناءنا» إشارة إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام و «نساءنا» إشارة إلى فاطمة عليها‌السلام و «أنفسنا» اشارة إلى علي عليه‌السلام.

وذكر آية الله العظمى المرعشي في حاشيته على هذا الكتاب نقلاً عن ستين كتاباً «من كتب أهل السنّة» ما يؤيد هذا المطلب (١) ، والمفهوم من هذا الكلام واضح جدّاً بحيث ذكره أهل السنّة قاطبة في كتبهم.

ولكن مع الأسف نجد أن بعض مفسّري أهل السنّة وعلى الرغم جميع هذه الروايات تورطوا بشراك التعصّب والتفسير بالرأي فذكروا تفسيرات مدهشة لهذه الآية الشريفة ، ونكتفي هنا بذكر نموذجين منها :

١ ـ يقول الآلوسي في «روح المعاني» بعد اعترافه بعدم وجود شخص آخر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ومع تأكيده بأنه لا ينبغي لكلّ إنسان مؤمن الشك في هذه المسألة يستعرض دليل علماء الشيعة ويدّعي أن المراد من «أنفسنا» هو النبي نفسه ، وأما الإمام علي فيندرج في كلمة «أبناءنا» لأن العرب تطلق على الصهر كلمة الابن أيضاً (٢).

وجواب هذا الكلام واضح جدّاً ، لأنه طبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعى : أبناءنا وأنفسنا ونساءنا ، فلو كان المراد من «أنفسنا» هو النبي نفسه فما ذا يعني أن يدعو الإنسان نفسه إلى المباهلة؟

ونظراً إلى أن القرآن الكريم هو أفصح بيان في اللغة العربية فمن المسلّم أنه لا يذكر كلاماً غير فصيح مثل هذا الكلام ولا يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يدعو نفسه ، إذن فالمراد من «أنفسنا» لا يمكن أن يكون هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه قطعاً ، مضافاً إلى أننا لم نقرأ في كلام العرب أنهم يطلقون

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٤٦.

(٢) روح المعاني : ج ٣ ، ص ١٨٩.


كلمة الابن على الصهر ، ومثل هذا الاستعمال غريب جدّاً ويحمل على المجاز البعيد.

ولا نستغرب من هذه التأويلات والآراء التي هي من إفرازات التعصّب الأعمى بحيث إن مثل هذا التعصّب قد يدفع الإنسان أحياناً ومن أجل حفظ عقائده والدفاع عنها أن يفرض آراءه وعقائده هذه على القرآن الكريم.

٢ ـ والأعجب من ذلك من نراه من نظرية «محمّد عبده» في تفسير المنار ، فعند ما يصل إلى هذه الآية يقول في تفسيرها :

الروايات متّفقة على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على عليٍّ فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف (١).

والواقع أن كلام محمّد عبده هذا عجيب جدّاً ومتناقض مع صدر الآية وذيلها ، لأنه ادّعى في بداية كلامه اتفاق الروايات على هذا المطلب ولكنه في ذيلها ينسب هذا الرأي إلى الشيعة.

ومضافاً إلى ذلك «كما تقدّم سابقاً» أنّ هذا الكلام مجانبٌ للصواب لأن أكثر الروايات المذكورة وخلافاً لمدّعاه مذكورة في مصادر أهل السنّة.

ونحن لا نملك في مقابل هذا الكلام الواهي سوى إظهار التأسف.

وعلى أيّة حال فإنّ آية المباهلة كما تقدّم بيانه من الآيات المحكمة والصريحة التي تدلُّ دلالة واضحة على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبنائه الطاهرين عليهم‌السلام.

سؤال : صحيح أن آية المباهلة تعد فضيلة كبيرة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولكن ما هو ارتباطها بمسألة الولاية والإمامة لأمير المؤمنين حيث إن البحث هنا يتعلق بالآيات التي تتحدّث عن الولاية والإمامة؟

الجواب : رأينا فيما سبق أن المراد «أنفسنا» في آية المباهلة هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعند ما يخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن عمه الإمام علي عليه‌السلام بأنه «نفسه» فهل أن

__________________

(١) المنار : ج ٣ ، ص ٣٢٢.


مقصوده من ذلك هو المعنى الحقيقي للنفس أو المعنى التنزيلي والاعتباري؟

لا شكّ أن المعنى الحقيقي غير مقصود هنا ، أي أن علي ليس هو النبيّ نفسه ، إذن فالمراد من ذلك أن الإمام عليّ عليه‌السلام يتمتع بالفضائل والكمالات والمقامات المعنوية التي يتمتع بها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو كالنبي في الشجاعة والرشادة والشهامة والتقوى والإيثار وسائر الكمالات والمقامات المعنوية الاخرى ، والنتيجة هي أن الإمام علي عليه‌السلام نازل منزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المقامات والكمالات وتالي تلوه.

ومع الالتفات إلى هذا المطلب يتّضح أن الخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي لا بدّ وأن يكون منصوباً من الله تعالى أو الامّة الإسلامية هو الشخص الذي يحوز هذه المقامات ويكون مثل النبي في سماته وكمالاته أو في مرحلة دانية منه.

ألا ينبغي أن يكون الشخص الذي ينتخبه الناس لهذا المقام أو يكون منصوباً بالنصب الإلهي لهذا المقام كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضائله وكمالاته وخاصة في مسألة التقوى والعصمة؟

ومع فرض وجود مثل هذا الشخص ألا يكون قبيحاً لدى العقل انتخاب أشخاص آخرين لهذا المقام؟

وعلى هذا الأساس فإنّ انطباق كلمة «أنفسنا» على الإمام علي عليه‌السلام يؤدي إلى تجسير العلاقة بين هذا المعنى وبين مفهوم الولاية والإمامة ، وبذلك يتم إثبات الولاية لأمير المؤمنين.

ربّنا : وفقنا لمعرفة قدر هذه النعمة العظيمة وهي ولاية أهل البيت عليهم‌السلام وارزقنا عنايتهم في الدنيا وشفاعتهم في العقبى.


آية سورة الدهر ٩

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠))

«سورة الدهر / الآيات ٥ ـ ١٠»

أبعاد البحث

إن أحد الفضائل والمناقب المهمة للإمام علي عليه‌السلام بل فضائل أهل البيت ومناقبهم هو ما ورد في آيات سورة الإنسان حيث تحدّث القرآن الكريم في ثمانية عشر آية من ٣١ آية من هذه السورة حول هذه الفضيلة العظيمة ، وبعض الآيات الشريفة هذه تحدّثت عن أصل القضية ، وهناك أربعة عشر آية اخرى تحدّثت عن جزاء وثواب هذا العمل العظيم الذي قامت به هذه الاسرة الطاهرة ، وسوف يأتي تفاصيل هذه الواقعة وتفسير هذه الآيات الكريمة لاحقاً.

شأن النزول

لقد ذكرت كتب التفسير شأن نزول هذه الآيات محل البحث ، وقد أورد العلّامة الأميني


في كتابه «الغدير» شأن نزولها من أربعة وثلاثين كتباً من كتب أهل السنّة (١) ، ونقل القاضي نور الله الشوشتري هذا المطلب من ٣٦ كتاباً من كتبهم (٢) ، وعلى هذا الأساس فإنّ شأن النزول لهذه الآيات متواتر تقريباً ، وخلاصة ما ورد في شأن نزولها والمتّفق عليه في جميع المصادر الروائية والتفسيرية هو ما يلي :

إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ناس معه فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض عليّ ثلاثة أصوع شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا اهْلَ بَيْتِ محمّد مسكينٌ من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء (٣) ، فأصبحوا صياماً فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم سائل يتيم فآثروه ووقف عليهم أسير (٤)

__________________

(١) الغدير : ج ٣ ، ص ١٠٧ ، ونذكر هنا عشرة مصادر ممّا ذكره الغدير في شأن نزول هذه الآيات : ١ ـ نوادر الاصول : ص ٦٤ ، ٢ ـ العقد الفريد : ج ٣ ، ص ٤٢ ، ٣ ـ الكشف والبيان : ص ٣٠٧ ـ ٤٢٧ ، ٤ ـ المناقب للخوارزمي : ص ١٨٠ ، ٥ ـ مطالب السئول : ص ٣١ ، ٦ ـ نور الأبصار : ص ١٢ ـ ١٤ ، ٧ ـ فتح القدير : ج ٥ ، ص ٣٣٨ ، ٨ ـ روح البيان : ج ١٠ ، ص ٢٦٨ ، ٩ ـ الاصابة : ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ١٠ ـ الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ٢٩٩.

(٢) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٧ ، ونذكر هنا عشرة مصادر أيضاً من الكتب التي ذكرها صاحب احقاق الحقّ في شأن نزول الآيات المذكورة ١ ـ الكشاف : ج ٤ ، ص ١٦٩ ، ٢ ـ أسباب النزول : ص ٣٣١ ، ٣ ـ معالم التنزيل : ج ٧ ، ص ١٥٩ ، ٤ ـ التفسير الكبير : ج ٣ ، ص ٢٤٣ ، ٥ ـ التذكرة لابن الجوزي : ص ٣٢٢ ، ٦ ـ كفاية الطالب : ص ٧٠١ ، ٧ ـ تفسير القرطبي : ج ١٩ ، ص ١٢٩ ، ٨ ـ ذخائر العقبى : ص ١٠٢ ، ٩ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١ ، ص ٧ ، ١٠ ـ تفسير العلّامة النيشابوري : ج ٢٩ ، ص ٥١١٢.

(٣) وفي هذا الزمان نرى التنوع في الأطعمة على مائدة الافطار وقد تنتهي مع الأسف بكفران النعمة وعدم الشكر بحيث لو لم يكن في المائدة سوى نوعان من الطعام فإن البعض يظهر التذمّر والامتعاض ، وهذه الحالة تنذر بالخطر ، ولكن وضع المسلمين في ذلك الزمان لم يكن جيداً ، وكان أكثر الناس يشبعون بالخبز والماء فقط.

(٤) كان المسلمون في صدر الإسلام عند ما يقع في أيديهم أسرى الكفّار يسترقونهم ويستخدموهم لإنجاز بعض الأعمال الحياتية ، ولكن بعض المسلمين لم يكن قادراً على توفير ما يحتاجه من ضروريات الحياة ، فكانوا يعتقون هؤلاء الأسرى ، وبما أن هؤلاء الأسرى لم يكن لديهم من يعيلهم في مكّة والمدينة فكانوا يسألون الناس لتحصيل قوتهم وطعامهم.


في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما أبصرهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال : ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل إليه جبرئيل وقال : خذها يا محمّد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

الشرح والتفسير :

الخصائص الخمسة لأهل البيت عليهم‌السلام

إنّ أربعة آيات من الآيات الثمانية عشر في هذه السورة تتحدّث عن أصل العمل الذي قام به هؤلاء الأشخاص ، وأربعة عشر آية منها تتحدّث عن الأجر والثواب الإلهي الذي ينتظر هؤلاء ، وفي البداية نستعرض تفسير الآيات الأربع منها حيث يشير القرآن فيها إلى خمس خصال من فضائل ومناقب أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ الوفاء بالعهد

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) فأوّل عمل أخلاقي لهؤلاء هو الوفاء بالنذر بحيث ينبغي أن يكون هذا العمل اسوة لسائر أتباعهم وشيعتهم ، حيث نرى بعض أفراد الشيعة ينذرون في حالة مواجهتهم للمصائب والبلايا والمشاكل ولكنهم عند زوال هذه البلايا والمشاكل ويحين وقت العمل بالنذر فإنهم يتحركون من موقع التغافل وعدم الاهتمام ، فتارةً يشككون في صيغة النذر ، واخرى يترددون في التنفيذ العملي للنذر ، والخلاصة يمتنعون من الوفاء بالنذر بكلِّ ذريعة ، كما هو الحال عند ما يواجه الشخص خطراً محدقاً بحيث يكون احتمال بقائه على قيد الحياة قليلاً جدّاً ، فحينئذٍ يتوجه إلى الله تعالى بالنذر الثقيل ويعاهده على العمل به ثمّ يتفق أن ينجو من هذا الخطر ، وعندها يتوجه هذا الشخص إلى مرقد الإمام الذي نذر له ذلك النذر ويقول مخاطباً له : أيّها الإمام ، لقد نذرت في تلك اللحظات الخطيرة نذراً ثقيلاً ، فلما ذا صدّقت بكلامي وطلبت من الله أن ينقذني؟

أجل ، إن بعض المسلمين هم مصداق الآية الشريفة :


(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ)(١)

ولكن أهل البيت عليهم‌السلام لم يكونوا كذلك ، فهم لا يكتفون بالوفاء بالنذر فقط بل يوفون بجميع تعهّداتهم والتزاماتهم الأخلاقية ومسئولياتهم الاجتماعية ، لأن ذلك من علامات الإيمان (٢) والمسلم الحقيقي يجب أن يتصف بهذه الصفة الأخلاقية وهي الوفاء بالعهد والنذر حتّى لو كان ذلك بضرره.

٢ ـ الخوف من القيامة

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) والخصلة الثانية من خصائص هؤلاء الأشراف والأولياء هو أنهم يخافون من يوم القيامة ، وطبعاً ليس ذلك بسبب خوفهم من احتمال أن يتوجه إليهم ظلم بحقّهم بل يخافون من محكمة العدل الإلهية لأن جميع أعمال الإنسان الصغيرة والكبيرة ستعرض في ذلك اليوم ويُحاسب عليها الإنسان كما ورد في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وهذا هو الذي يخيفهم ويثير في أنفسهم الفزع والخشية لأن ذلك اليوم يُحاسب الإنسان على ما قدّم وأخر ، وفي تلك المحكمة الإلهية سيحاسب الصغير والكبير ، المرأة والرجل ، الغني والفقير ، العالم والجاهل ، والخلاصة جميع أفراد البشرية ، فالاعتقاد بتحقّق ذلك اليوم المهيب يثير في الإنسان الخوف والرهبة.

٣ ـ معونة الفقراء والمساكين

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) الخصلة الثالثة التي ذكرتها هذه الآيات الشريفة لأهل البيت عليهم‌السلام والتي تعتبر محور هذا البحث هو مواساتهم للمساكين وتقديمهم يد العون للمحرومين في المجتمع الإسلامي ، فهؤلاء الأولياء بالرغم من احتياجهم إلى الطعام نراهم يؤثرون الفقراء والمساكين على أنفسهم ويقدمون ما لديهم من الطعام إلى المسكين واليتيم والأسير ، وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى ثلاث طوائف من المحرومين والمحتاجين في المجتمع :

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ٦٥.

(٢) انظر الروايات الواردة في هذا المجال في كتاب ميزان الحكمة : ج ١ ، ص ٣٤٦ ، الباب ٣٠٢.


الف ـ «المسكين» وهذه الكلمة مشتقة من مادّة «سكون» أي الفقر والحاجة الشديدة بحيث تدع الإنسان ساكناً وقابعاً إلى الأرض من شدّة الحاجة والفاقة ، فيجب على المسلمين والمؤمنين أن يأخذوا بيد هؤلاء المحرومين والفقراء والمساكين الذين لا يستطيعون أن يوفروا لأنفسهم وأهلهم ما يحتاجونه من أوّليّات الحياة والمعيشة ، وأن يمدوا يد العون لهؤلاء المحرومين ويشاركوهم في النعم التي يعيشون فيها ويواسونهم بها.

ب ـ «اليتيم» وهو الطفل الذي فقد وليه وأباه ، فرغم أنّ اليتيم قد لا يكون محتاجاً من الناحية المادية ولكنه يعيش أزمة عاطفية وهو في أشد الحاجة إلى المحبّة والحنان من الآخرين ، وقد ذكروا أنه في إحدى الزلازل التي وقعت أخيراً وكثرت فيها الضحايا من أهالي المدينة أو القرية عثروا على صبي فقد خمسين شخصاً من عائلته وأرحامه كالأب والامّ والأخوات والاخوة والأعمام والعمات والخالات وذرياتهم ، والخلاصة أنه فقد جميع أرحامه وأقربائه ، فمثل هذا الشخص يعيش الحاجة الشديدة إلى المحبّة والعاطفة وسوف ينهار حتماً إن لم يجد من يعوّضه عن هذه الخسارة المعنوية والروحية.

ج ـ «الأسير» ومعناه واضح حيث يقال للشخص الذي ابتعد عن بيته ووطنه ومدينته وعاش في بلد آخر غريباً ووحيداً ، فيمكن للأسير أن يكون ثرياً في وطنه ولكنه بعد وقوعه في الأسر فانه يستحق المساعدة والمحبّة.

وعلى أيّة حال فإنّ الإنسان المؤمن والمسلم يجب أن يمد يد العون في دائرة استطاعته وامكانيته إلى جميع الأفراد المحرومين والمتضررين في المجتمع ، وفي هذا الزمان قد لا يوجد مصداق لأحد هذه الطوائف الثلاث المذكورة في الآية الشريفة ، ولكن هناك طوائف اخرى تعيش الفاقة والحاجة الشديدة إلى المساعدة والمعونة ، المرضى بالسرطان ، والجذام والأمراض المزمنة الاخرى ، السجناء ، البنات اللواتي في سن الزواج ولكنهنّ محرومات من الذهاب إلى بيت العرس لفقدانهن الجهيزية ووسائل المعيشة ، وهناك طوائف اخرى محتاجة أيضاً.

فهل نحن نتحرك من موقع الإيثار والشفقة على هؤلاء المحرومين كما رأينا في سلوك أهل البيت عليهم‌السلام؟


هل نعلم بحالة الجيران وما هم عليه من الفاقة والحاجة؟

هل نعلم بكيفية معيشتهم وإفطارهم وسحورهم؟

هل نحن مطلعون على أحوال وأوضاع أرحامنا وأقربائنا؟

إذا كان جواب هذه الأسئلة بالنفي (والعياذ بالله) هل يمكننا مع ذلك أن ندّعي بأننا من شيعة أهل البيت؟

٤ ـ الإخلاص

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) الفضيلة الرابعة للإمام علي وزوجته وطفليه هي مسألة «الإخلاص» لله تعالى في عملهم هذا ، وهي فضيلة عظيمة جدّاً ، حيث قالوا :

إننا نتقدم إليكم بهذه المساعدة والمعونة تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لرضاه ومن دون أي دافع آخر من الدوافع الدنيوية ولذلك لا نطلب منكم شيئاً دنيوياً ولا نتوقع منكم حتّى الشكر.

عند ما نقرأ هذه الكلمات ونكررها في أذهاننا هل يمكننا أن نتصور أن إنساناً من أفراد المجتمع يمكنه أن يدّعي هذا الادعاء غير الأولياء؟

والأكثر من ذلك لو أن الطرف المقابل تحرك نحوهم من موقع الإهانة وتجاسر عليهم بدل أن يتقدّم إليهم بالشكر فإن حالهم لا يتفاوت أبداً عن السابق.

إنّ الإخلاص هو جوهر العمل الصالح ، ولذلك أكد عليه الإسلام كثيراً وتقدّم إلى المسلمين بتعليماته وتوصياته أن يهتموا بكيفية العمل لا بكميته وعدده ، أي أن ركعة واحدة يصليها المسلم بإخلاص أفضل عند الله من ألف ركعة يصليها بدون إخلاص.

٥ ـ الخوف من الله

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) الخامس من خصائص هؤلاء هو : الخوف من الله تعالى.

ولعلك تسأل : تقدّم في الخصلة الثانية أنهم يخافون من المعاد والقيامة وهنا نجد الخوف من الله تعالى فما هو الفرق بينهما؟


الجواب : لا يلزم أن يكون الخوف من الله تعالى متلازماً ومتزامناً مع الخوف من جهنم والقيامة والعذاب الاخروي بل يمكن أن يعيش الإنسان الخشية والهيبة من عظمة الله ، فعند ما يفكر الإنسان المؤمن بعظمة الله تعالى فإنّ الخوف والخشية والمهابة تسري في جميع أركان وجوده ومفاصل بدنه ، ويكون حاله كما لو توجه لملاقاة شخصية مهمة وأراد أن يقول له شيئاً ، فمن المحتمل أن تستولي عظمة ذلك الشخص عليه فلا يستطيع النطق والكلام حينها رغم أن ذلك الشخص هو إنسان عطوف وحسن الأخلاق جدّاً ، وعليه فإنّ هذه الخصلة الخامسة تتفاوت مع الخصلة الثانية والخوف من الله تعالى يراد به هنا الخوف من عظمة الله وكبريائه.

آيات الأجر والثواب

تقدّم أنّ في هذه السورة أربعة عشر آية من آياتها تتحدّث عن الأجر العظيم الذي ينتظر هؤلاء الأولياء جزاءً لإيثارهم وتضحيتهم اتجاه المحرومين ، ولا نجد في القرآن الكريم مثل هذا الثواب العظيم بأي عمل من الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمنين ، بمعنى أننا نرى أن خمسة عشر نوعاً من الثواب ورد بصورة متوالية في هذه السورة ، ولو أمعنا النظر أكثر في هذه الآيات الأربعة عشر لوجدنا عشرين نوعاً من الثواب على ذلك العمل ، وسوف نستعرض هذه المثوبات في ١٢ فقرة لاحقاً ، ولكن قبل بيان هذه المثوبات نرى من الضروري تقديم مقدّمة :

المقارنة بين الثواب الدنيوي والاخروي

بلا شكّ أنّ نعم ومواهب الآخرة تختلف عن نعم ومواهب الدنيا ، لأنه بالرغم من استخدام الألفاظ البشرية والقوالب الدنيوية في شرح وتوضيح تلكم المواهب الاخروية ولكن يبقى مفهومها ومحتواها له ماهية غيبية واخروية ، وعلى هذا الأساس فما نسمعه ونتصوره من النعم والمواهب الاخروية ليس سوى شبح من حقائق ذلك العالم ، ولا ينبغي أن نتوقع إدراك حقائق تلك النعم في هذه الدنيا كما هو الحال في الجنين في بطن امّه حيث لا


يمكنه إدراك حقائق هذا العالم الدنيوي مهما بالغت امّه في إفهامه حسب الفرض ومهما كان ذكياً كابن سينا ، فإنه لا يستطيع تصور ما يجري في هذا العالم سوى اشباح وأوهام ، ولذلك ورد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله :

«إنَّ اللهَ يَقُولُ : اعْدَدْتُ لِعِبادِيَ الصّالِحينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ، وَلا اذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» (١).

وعلى هذا الأساس فمن الممكن أن يكون لكلمة معنىً خاص في عالمنا الدنيوي هذا ولكنه يحمل معنىً آخر عند استعماله في مورد النعم والمواهب الاخروية في الجنّة ، وسيأتي توضيح أكثر في البحوث اللاحقة حول هذا الموضوع.

وبعد بيان هذه المقدّمة نستعرض النعم الاثني عشر في الجنّة لهؤلاء الأولياء :

النعم الاثنا عشر في الجنّة

١ ـ السكينة والهدوء النفسي

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) فأوّل نعمة ينالها هؤلاء الأولياء في الجنّة هي نعمة الاستقرار والهدوء النفسي حيث يدفع عنهم الله تعالى شرور ذلك اليوم ومشكلاته ومصاعبه ويغرقهم في أجواء الفرح والسرور ، ويتّضح من ذكر الآيات الشريفة نعمة الهدوء النفسي والسكينة الروحية باعتبارها أوّل نعمة من النعم الإلهية في الجنّة كونها نعمة مهمة وثمينة جدّاً ، والحقيقة هي أنها كذلك حيث إنّ الاطمئنان الروحي للإنسان يمثل أغلى شيء يناله الشخص في الدنيا والآخرة ، ويتبين هذا المعنى في الأشخاص الذين يمتلكون مختلف المواهب والنعم في الدنيا ولكنهم لا يعيشون الاستقرار والهدوء النفسي فإنّ هذه النعم والإمكانات المادية والدنيوية تتحول إلى أدوات لتثوير حالة القلق والاضطراب والعذاب النفسي لهؤلاء ، ولهذا نرى أن الكثير من الأثرياء وأبناء الامراء قد يتوجهون نحو الانتحار للتخلص من عناصر القلق والاضطراب النفسي ، ويقال

__________________

(١) نفحات القرآن : ج ٦ ، ص ٣٠٢.


أن إحدى الغابات في أمريكا الواقعة إلى جانب إحدى المدن الامريكية تسمّى غابة الانتحار حيث يتوجه إليها الأشخاص الأثرياء الذين يمتلكون كلّ شيء في الدنيا سوى الاستقرار والهدوء النفسي وينتحرون هناك ويقضون على حياتهم البائسة.

وفي المقابل نرى أن بعض الأشخاص بالرغم من كونهم يعيشون الفقر المدقع ولا يمتلكون من وسائل الحياة إلّا القليل جدّاً ومع ذلك يعيشون الاستقرار الروحي في درجات عالية في حياتهم الفردية والاجتماعية.

فلو أنك تسأل : كيف يمكن تحصيل هذه النعمة المهمة في حركة الحياة؟

نقول : إنّ الله تبارك وتعالى ذكر في الآية ٨٢ من سورة الأنعام أن هذه النعمة العظيمة تكون من نصيب المؤمنين الذين يتحركون في خط الطاعة والتقوى :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

وفي الآية ٢٨ من سورة الرعد يقرر أن ذكر الله وعدم الغفلة عنه بمثابة المنبع الدائم للخير والبركة والأمن والاستقرار النفسي.

٢ ـ بساتين الجنّة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)

وإحدى المواهب الاخروية للأفراد هي أنهم يسكنون في بساتين الجنّة التي تختلف في جميع امورها عن بساتين الدنيا ، تلك البساتين التي يجري من تحتها الأنهار ، والأشجار الخضراء اليانعة طوال السنة وتؤتي ثمارها في جميع الفصول ، الأشجار التي لا تحتاج لقطف ثمارها أن يتحمل الإنسان بعض التعب في ذلك بل تحضر بنفسها بمجرد إرادة الإنسان المؤمن وتضع نفسها بين يديه.

٣ ـ الراحة والرفاهية (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ)

«أرائك» جمع «أريكة» والأصل فيها التخت الذي تجلس عليه العروس ثمّ اطلقت على جميع الكراسي الجميلة ، فأهل الجنّة يجلسون في بساتينها على أرائك جميلة ويتكئون عليها ويتنعمون بنعيم الجنّة ، وعبارة «متكئين» تعبير ظريف وجميل لأن الإنسان لا يعيش هذه الحالة من الجلوس متكئاً على الأريكة إلّا وهو ناعم البال مرتاح الضمير آمن الخاطر ، فلو كان قلقاً ومضطرباً فإنه لا يمكنه الجلوس في مثل هذه الحالة والاتكاء على الأريكة بل تراه يقوم ويقعد ويتحرك من هنا ومن هناك.


٤ ـ الأجواء المعتدلة والنسيم العليل (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)

هواء الجنّة معتدل جدّاً فليس هناك شمس الصحراء المحرقة ولا يحتاج الإنسان إلى أجهزة التبريد ، وليس الجو بارداً جدّاً ليحتاج الإنسان أجهزة للتدفئة بل يعيش الإنسان هناك الربيع الدائم والنسيم العليل ، ولا شكّ أن في الجلوس والاتكاء على الأرائك الجميلة في مثل هذا الجو الناعم وتحت ظلال الأشجار المثمرة واليانعة ، لذّة لا توصف وسعادة لا تتصور.

سؤال : هذه الآيات الشريفة تنفي وجود الشمس في الجنّة ، ولكن الآيات اللاحقة تتحدّث عن وجود ظلال لأشجار الجنّة ، فلو لم تكن هناك شمس فكيف يُعقل أن تكون هناك ظلال للأشجار ، أليس هذا من التناقض؟

الجواب : أوّلاً : إنّ القرآن لا يقول أن في الجنّة لا يوجد شمس ، بل يقول أن أهل الجنّة لا يرون الشمس ، أي أن أشجار الجنّة متراكمة الأغصان وكثيفة الأوراق إلى درجة أن أهل الجنّة لا يرون الشمس بسبب كثافة هذه الأشجار وارتفاعها.

ثانياً : إنّ المراد بقوله (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً) أنهم لا يحسون بحرارة الشمس الشديدة ، فالآية لا تنفي وجود شمس معتدلة ، وعليه فلا يوجد هناك تناقض في البين.

٥ ـ الظلال والفواكه (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)

إنّ أشجار الجنّة تظلل على هؤلاء المؤمنين بأغصانها وتدني إليهم ثمارها حتّى ينالون منها ما يشاءون دون أن يتعبوا أنفسهم في الصعود عليها وقطف ثمارها.

٦ ـ الخدم من الغلمان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ)

وكلّما أرادوا شيئاً أمروا الخدم والغلمان من الولدان المخلدون الذين هم في جمالهم كاللؤلؤ المنثور ليحققوا لهم ما يريدون ، بل لا يحتاج هؤلاء الغلمان إلى الأمر والنهي لأنهم يتحركون من موقع الخدمة لصاحبهم وسيّدهم دائماً.

٧ ـ الثياب الجميلة جدّاً (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ)

حيث يلبس أهل الجنّة أنواع الملابس الجميلة والبرّاقة والمصنوعة من الحرير الناعم ومن السندس والإستبرق ، فحتّى الملابس التي كانت حرام عليهم في الدنيا فإنه يباح لهم لبسها وارتداؤها في الآخرة.


٨ ـ الزينة (١)(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ)

فيباح لهم في الجنّة التزيّن بأنواع الزينة ولبس الأسورة من الذهب والفضة.

٩ ـ أدوات الضيافة الراقية (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا)

إنّ الأدوات التي يستخدمها الإنسان في تناول غذائه والآنية التي يستخدمها في طعامه لها أهمية خاصّة ، فلو أن أفضل الأغذية وأطيب الأطعمة والأشربة وضعت في آنية وأقداح غير مناسبة ووسخة فإنّ ذلك بإمكانه أن يسلب الشهية من الإنسان حتّى لو كان جائعاً ، ولكن على العكس من ذلك إذا كان الغذاء عادياً ولكن تمّ تقديمه بآنية جميلة ومناسبة ونظيفة فإنّ ذلك من شأنه أن يثير في الإنسان الشهيّة للأكل ، ولذلك نجد أن آنية الجنّة وأكوابها التي يستخدمها أهالي الجنّة مصنوعة من الفضة والذهب والبلور وعلى هيئة جميلة وجذّابة جدّاً ، وطبعاً الفضة في ذلك العالم تختلف عن الفضة في هذه الدنيا حيث إن تلك الآنية من الفضة شفافة كالزجاج.

١٠ ـ أنواع النِّعم والمواهب (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً)

فعند ما يرد المؤمن الجنّة ويرى المواهب العظيمة والنعم الكثيرة التي توضع تحت اختياره فإنه يرى ما لا يمكن وصفه من النعيم.

١١ ـ الملك العظيم (وَمُلْكاً كَبِيراً) إنّ أهل الجنّة بالنسبة إلى الإمكانات والخدم والحشم والمنزلة العظيمة التي لديهم يعيشون الملك والسلطنة العظمى وكأن كلّ واحد منهم يعيش السلطنة والملك على دولة مستقلة ومملكة عظيمة.

١٢ ـ أنواع المشروبات : إنّ إحدى النعم والمواهب المقررة لأهل الجنّة والتي ذكرها القرآن في موارد متعدّدة هي أنواع الخمور والمشروبات الخاصة بأهل الجنّة ، الخمر الذي لا يزيل عقل الإنسان بل يثير فيه روح النشاط والوجد والسرور ، ونقرأ في هذه الآيات من سورة الدهر أن هناك ثلاث أنواع من الأشربة في الجنّة :

__________________

(١) الإسلام لا يمانع من التزيّن ، إلّا أنه منع من الإسراف في استخدام الزينة ، بل إن القرآن الكريم دعا إلى استخدام الزينة عند التوجّه إلى المساجد وحثّ على لبس الثياب النظيفة وورد استحباب العطر وأمثال ذلك.


ألف ـ شراب الكافور (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً)

وهنا تتحدّث الآية عن شرابٍ ممزوج بعطر الكافور وهو المادة التي تضاف إلى الماء في تغسيل الميت ولها خاصية مضادّة للتعفن ، ولكنها تستخدم في لغة العرب بمعنى أوسع ، فتطلق على كلّ شيء معطر ذي رائحة طيبة ، وعليه فالمراد من شراب الكافور هو الشراب المعطّر الذي يثير لدى أهل الجنّة لذّة كبيرة عند تناوله.

ب ـ شراب الزنجبيل (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً)

الزنجبيل أيضاً يستعمل في معناه المتداول والمعروف وكذلك بمعنى عطور خاصّة ، ولكن هنا ورد بالمعنى الثاني حيث يتناول أهل الجنّة شراباً ممزوجاً بعطر الزنجبيل.

ج ـ الشراب الطهور (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)

النوع الثالث من أنواع الأشربة التي يتناولها أهل الجنّة هو الشراب الطهور حيث يسقيهم الله تعالى هذا الشراب في الجنّة.

هذه التعبيرات المتنوعة في مفردة الشراب تستحق الدقّة والتأمل ، فعند ما يتحدّث عن شراب الكافور يعبر عنه بجملة «يشربون» أي أن أهل الجنّة يتناولون هذا الشراب بأيديهم ، أما في مورد شراب الزنجبيل وردت العبارة بجملة «يسقون» أي أن خدم الجنّة يقدّمون هذا الشراب لهؤلاء المؤمنين ، وبالنسبة إلى الشراب الطهور ورد التعبير ب «سقاهم ربّهم» أي أن الله تعالى هو الذي يسقيهم هذا الشراب الطاهر في الجنّة.

ما ذا يعني الشراب الطهور؟

ورد في رواية أن أهل الجنّة عند ما يشربون هذا الشراب فإنه :

«يُطَهِّرُهُمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سوى اللهِ» (١).

ويقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث آخر عن آثار هذا الشراب الطهور في نفوس أهل الجنّة أنه :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ، ص ١١٣.


«فَيُطَهِّرُ اللهُ بِهَا قُلُوبَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ». (١)

إنّ الحسد يُعد أحد الرذائل الأخلاقية التي يبتلى بها البشر في حركة الحياة الدنيا ، فأحياناً يمتلك الإنسان جميع النعم الدنيوية والإمكانات المعيشية في هذه الحياة ولكنه مع ذلك لا يتحمل أن يرى الآخرين يمتلكون أيضاً مثل هذه الإمكانات والنعم ويعيشون براحة وسعادة ، فالحسد بمثابة السجن الذي يسلب من الحاسد طعم الراحة والاستقرار ويورده في وادي الضلالة والشقاء ، وعلى أيّة حال فإنّ أحد المعطيات المهمّة للشراب الطهور هي إزالة هذه الرذيلة من واقع الإنسان وتطهير قلبه من هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

سؤال : إنّ الآيات الشريفة محل البحث قد ذكرت نِعم ومواهب مختلفة وتطرّقت إلى ذكر التفاصيل والجزئيات لبعض هذه النِّعم بصورة دقيقة ولكنّها لم تذكر أحد النِّعم المهمّة التي طالما ذكرها القرآن الكريم لأهل الجنّة ، وهي النعمة التي تخطر على بال كلّ إنسان ، أي نعمة «حور العين» فلا نجد كلاماً حول هذه النعمة المهمة في هذه الآيات الشريفة ، فما هو السبب في ذلك؟

الجواب : يرى بعض المفسّرين (٢) أنّ الآيات الشريفة أعلاه نزلت لتتحدث عن فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ولم يذكر الله تعالى نعمة «حور العين» فيها احتراماً لفاطمة الزهراء ، وهذا شاهد آخر في شأن نزول هذه الآيات وأنها نزلت في الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيته ، وإلّا فلا مبرر لعدم ذكر الحور العين في عداد النعم والمواهب الإلهية في الجنّة.

والخلاصة أنّ هذه النِّعم الاثني عشر الواردة ضمن أربعة عشر آية من هذه السورة خاصة ب «الأبرار» الذين يقف على رأسهم الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

شبهات وردود

ومع الأسف فإنّ البعض طرح في ذيل هذه الآيات المتعلّقة بفضائل أهل البيت عليهم‌السلام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ، ص ١٥٧.

(٢) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ١٥٨.


وكذلك آيات الولاية والإمامة شبهات وعلامات استفهام لا نشاهد مثيلها لدى تفسيرهم لسائر آيات القرآن الكريم ، وطبعاً فإنّ الغرض من طرح هذه الشبهات معلوم مسبقاً ، لأنهم إذا قبلوا بأن هذه الآيات واردة في فضائل الإمام علي وسائر الأئمّة عليهم‌السلام فلا بدّ أن يقولوا بإمامتهم وخلافتهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه كما تقدّم سابقاً أن الإمامة لو كانت انتصابية من الله تعالى فإنه عزوجل لا يختار أيّ شخص لهذا المقام سوى الأفضل والأعلم والأشجع ، ولا يمكن أن يترك الأفضل ويختار المفضول فإنّ ذلك على خلاف مقتضى الحكمة الإلهية ، وإذا كانت الإمامة انتخابية فإنّ العقلاء ينبغي أن يختاروا لهذا المقام الأفضل من بين الأفراد ، ومع وجود الأفضل لا يصحّ أن يختاروا المفضول ، ولكن هذه الحقيقة تتقاطع مع أهواء البعض ومسبوقاتهم الفكرية ، ولذلك يتحركون في تفسيرهم لهذه الآيات من موقع التشكيك بهذه الفضائل أو السعي لتهميش هذه المناقب الواردة في هذه الآيات لئلّا يتورّطوا بعذاب الوجدان وتأنيب الضمير ، ومن هنا نستعرض بعض هذه الشبهات والذرائع التي تمسّكوا بها :

١ ـ سورة الإنسان مكّية

قالوا : إنّ سورة الدهر لم تنزل بالمدينة بل في مكّة ، ومن المعلوم أن الإمام الحسن والحسين عليهما‌السلام قد ولدوا بعد الهجرة في السنة الثانية والثالثة من هجرة النبي إلى المدينة ، وعليه فإنّ زمان نزول هذه السورة كان قد سبق ولادة هذين السيّدين بعدّة سنين ، فما ذكر في شأن نزولها لا يتناسب مع كونها مكّية ، ولذلك ذهب البعض إلى أن شأن نزول هذه الآيات كالتالي :

«جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله : سل واستفهم ، فقال : يا رسول الله : فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوّة ، أفلا رأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنّة؟ قال : نعم والذي نفسي بيده انه ليُرى


بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام» (١) ثمّ نزلت عليه السورة «هل أتى» (٢).

والخلاصة أن ما ذكر في سبب النزول السابق لا يتناسب مع كون السورة مكّية.

الجواب : أوّلاً : إنّ الكثير من المفسّرين والمحدّثين والمؤرّخين يرون أن سورة الدهر نزلت في المدينة ، وقد صرّح البعض بهذا المعنى ولكن البعض الآخر لم يصرّحوا بذلك بل ذكروا أن شأن نزولها كان في علي وأهل بيته عليهم‌السلام وهذا يدلّ بالملازمة أن سورة الدهر مدنيّة.

وقد ذكر القاضي نور الله الشوشتري في المجلد الثالث من كتابه «احقاق الحقّ» الصفحة ١٥٧ فصاعداً أسماء هؤلاء العلماء الذين نشير إلى طائفة منهم :

١ ـ «الزمخشري» وهو من المفسّرين المعروفين لدى أهل السنّة ومن مشاهيرهم فقد صرّح في كتابه المعروف «الكشّاف» بأن سورة الإنسان مدنية (٣).

٢ ـ «الواحدي» وهو عالم آخر من مشاهير أهل السنّة حيث اختار هذا الرأي في «أسباب النزول» (٤).

٣ ـ «ابن الجوزي» هو الآخر من علماء أهل السنّة حيث يرى مدنية سورة الدهر (٥).

٤ ـ «الگنجي» حيث اختار هذه النظرية في كتابه «كفاية الطّالب» (٦).

٥ ـ «الطبري» حيث اختار هذه الرأي في «ذخائر العقبى» (٧).

٦ ـ «الآلوسي» يرى أيضاً بأن هذه السورة مدنية (٨).

٧ ـ «الفخر الرازي» الذي هو أشهر مفسّري أهل السنّة حيث اختار هذه النظرية أيضاً (٩).

__________________

(١) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ١٦٥.

(٢) تفسير نمونة : ج ٢٥ ، ص ٣٣٠.

(٣) الكشّاف : ج ٤ ، ص ١٦٩.

(٤) أسباب النزول : ص ٣٣١.

(٥) التذكرة : ص ٣٣٢.

(٦) كفاية الطّالب : ص ٢٠١.

(٧) ذخائر العقبى : ص ١٠٢.

(٨) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ١٥٧.

(٩) التفسير الكبير : ج ٣٠ ، ص ٢٤٤.


٨ ـ «القرطبي» المفسّر المعروف حيث ذكر في تفسيره هذه العبارة :

ذكر الثّعلبي في تفسيره : وقال أهل التفسير انّها نزلت في علي وفاطمة وجارية لهما اسمها فضّة (١).

وقال أهل التفسير أنها نزلت في عليّ وفاطمة وجارية لهما اسمها فضة.

والخلاصة انه طبقاً لشهادة علماء الإسلام هؤلاء فإنّ سورة الدهر مدنية بلا شكّ.

ثانياً : ويستفاد من الآية الشريفة (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أن هذه السورة مدنية ، لأن الأسير لم يكن له وجود في مكّة حينذاك بل وجد بعد هجرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين إلى المدينة وتشريع حكم الجهاد وبعد ما حدثت معارك وغزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فإنّ وجود كلمة «أسير» في هذه الآيات يدلُّ على أن هذه السورة مدنية.

وأمّا ما ذكر في شأن النزول من الغلام الحبشي فإنه لا يتناسب إطلاقاً مع آيات سورة الدهر ، لأنّ شأن النزول هذا ليس له ارتباط بإطعام المسكين واليتيم والأسير ، وعليه فإنه لا ينسجم مع آيات هذه السورة ولا ينبغي الاعتناء بما يخالف القرآن الكريم من شأن النزول.

٢ ـ التعارض بين الوجوب والاستحباب

وهنا يثار سؤال : هل يليق بالإمام علي عليه‌السلام أن يدفع طعامه وطعام أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه إلى السائل؟ في حين أن الله تعالى يقول في الآية ٢١٩ من سورة البقرة ضمن الإجابة على السؤال الذي تقدّم به بعض المسلمين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا يصحّ لهم إنفاقه ، فقال :

(قُلِ الْعَفْوَ) أي ما زاد على الضروري واللازم في حياة الإنسان.

فإذا كانت آيات سورة الدهر نزلت في حقّ عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام إذن فلما ذا تبرع الإمام بالطعام الذي يحتاجونه إلى السائل؟

__________________

(١) تفسير القرطبي : ج ١٩ ، ص ١٩.


الجواب : إنّ هذا الكلام يثير العجب واقعاً وخاصّةً فيما لو صدر من شخص يدّعي المعرفة والعلم ، لأنّ مثل هذه المعاذير والحجج تشير إلى معالم الجهل وعدم الاطلاع ، وتوضيح ذلك أن «الإنفاق» شيء و «الإيثار» شيء آخر ، ومع الأسف أن من يطرح هذا الإشكال لا يدرك التفاوت بين الإنفاق والإيثار.

ونقرأ في الآية التاسعة من سورة الحشر في وصف الأنصار :

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)

إنّ بعض الأشخاص قد يصلون في مرتبة الكمال المعنوي إلى درجة ومقام «الإيثار» ، فعلى رغم حاجتهم الشديدة ينفقون ما يحتاجونه على الآخرين.

وقد ورد في شأن نزول هذه الآية : «أن شخصاً أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكى إليه الجوع ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى منزله ، فقالت له زوجته : ما عندنا إلّا الماء ، فقال رسول الله : من لهذا الرجل الليلة؟ فتعهده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته ولم يكن لديه إلّا القليل من الطعام لأطفاله ، وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج ، ثمّ قال لزوجته : نوّمي الصبية ، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئاً في أفواههم ، وظنّ الضيف أنهم يأكلون معه ، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة ، فلما أصبحوا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلم) ، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم» (١).

وعلى هذا الأساس فإن من يطرح مثل هذه الشبهة فإنه لم يقرأ جميع آيات القرآن الكريم ، وإلّا فلا ينبغي الشكّ بأن مقام الإيثار أعلى مرتبة من مقام الإنفاق بحيث لا يناله إلّا من اوتي حظاً عظيماً من الإيمان والخلوص ، ولذلك يعد الإيثار من الصفات الخاصّة بالمؤمنين الحقيقيين.

مضافاً إلى أن الإمام علي عليه‌السلام كما ورد في قصة سورة الدهر لم يقدم إلى السائل سوى طعامه فقط لا طعام جميع أفراد الاسرة ، ثمّ إنّ فاطمة الزهراء عليها‌السلام قدّمت طعامها إلى السائل

__________________

(١) التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.


بكلّ اختيار ورغبة وهكذا صنع الحسن والحسين عليهما‌السلام وهذا يدلُّ على غاية الإيثار الذي يذكره القرآن الكريم من موقع الثناء والمدح.

وأمّا في مورد قوله تعالى (قُلِ الْعَفْوَ) فهناك نظريتان في المراد منها ، إحداهما أن المراد من «العفو» هو الشيء الزائد عن حاجة الإنسان (١) ، ولكن الاحتمال الثاني هو أن يكون «الْعَفْوُ هُوَ الطَّيِّبُ مِنَ الْمالِ» ولذلك لا بدّ من التصدّق على الفقير والمسكين من هذا النوع من الأموال (٢) لا كلّ ما زاد عن حاجة الإنسان واستغنى عنه في حياته فإنّه يقوم بالتصدّق به إلى الفقراء ، لأنه في هذه الصورة سوف لا يصل إلى حقيقة البر والإحسان في قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(٣)

وعليه فإنّ قوله (قُلِ الْعَفْوَ) يحتمل قوياً أن يراد به التوصية ببذل أفضل ما بأيدي الإنسان من أموال ووسائل إلى الفقراء لا أنه يتصدّق بما لا يحتاج إليه ، وهذا هو معنى الإيثار الذي أشارت إليه آيات سورة الدهر.

وبالالتفات إلى ما تقدّم آنفاً فإننا لا نجد تنافياً بين آية «قُلِ الْعَفْوَ» وبين شأن نزول آيات سورة الدهر ، بل وأكثر من ذلك فإنها منسجمة معها ومؤيدة لها.

٣ ـ آيات سورة الدهر عامة أو خاصّة؟

سؤال : هل أن آيات سورة الدهر التي وردت في وصف «الأبرار» وما ذكر من أنواع المثوبات والجزاء في الجنّة لهؤلاء تختص بالإمام علي عليه‌السلام وزوجه وابنيه ، أو هي عامة وشاملة لجميع الأشخاص الذين يتصفون بصفة «الأبرار»؟ وإذا كان الاحتمال الثاني هو المتعيّن (٤) إذن فلما ذا نحصر الآيات الشريفة بأهل بيت النبوّة؟

__________________

(١) الكشّاف : ج ١ ، ص ٢٦٢.

(٢) ورد الاحتمال الأوّل والثاني واحتمالات اخرى أيضاً في التفسير الامثل : ج ٢ ، ذيل الآية ٢١٩ من سورة البقرة.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٩٢.

(٤) وهو مختار الفخر الرازي في التفسير الكبير : ج ٣٠ ، ص ٢٤٤.


الجواب : أوّلاً : إنّ الشواهد والقرائن الموجودة في الآيات الشريفة لا يمكن تطبيقها على جميع الأبرار ، بل تنطبق على أبرار معينين ، مثلاً يستفاد من هذه الآيات أن الأبرار المقصودين فيها هم الذين نذروا لله تعالى وعملوا بذلك النذر وتحركوا من موقع الإيثار العظيم في إنفاقهم على المسكين واليتيم والأسير ، وعليه فإنّ الآيات محل البحث لا تستوعب الأبرار الذين لم يتصفوا بهذه الصفات كالنذر وأشباهه.

ثانياً : على فرض أن الآيات المذكورة عامّة وشاملة لجميع الأبرار ولكن بدون شك أنها شاملة لشأن نزولها أيضاً بل إنّ الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام من أبرز مصاديق الأبرار قطعاً.

والخلاصة إنّ آيات سورة الدهر تعد من مناقب أهل البيت عليهم‌السلام وفضائلهم ومن معالم أحقيتهم لمقام الإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

توصيات الآية

١ ـ أهميّة إسداء المعونة إلى المحتاجين

إنّ المحور الأساس الذي تدور حوله الآيات الثمانية عشر في هذه السورة والذي استوجب كلّ هذه المثوبات العظيمة هو مسألة إسداء يد العون إلى المحتاجين والمحرومين ، وهذا يدلُّ بوضوح على أهميّة هذه المسألة في دائرة المفاهيم القرآنية وأن الله تعالى يولي أهمية خاصّة إلى هذا الموضوع ، فكلُّ من أراد الدخول تحت مظلّة عناية الله ورحمته الواسعة يجب أن يهتم بقضاء حوائج المحتاجين وإشباع جوعة الجائعين ورفع حرمان المحرومين ، ولو انه ارتفع في مدارج الكمال أكثر من ذلك وتحرّك من موقع الإيثار إلى المحتاجين فلا شكّ أنّ عناية الله ولطفه ورحمته ستشمل هذا الإنسان ، ومن أجل توضيح هذا الموضوع وبيان أهمية مساعدة المحرومين والمحتاجين نذكر روايتين في هذا المجال :

١ ـ يقول الإمام علي عليه‌السلام في كتابه ووصيته إلى ابنه الإمام الحسن عليه‌السلام :

وَاعْلَمْ أَنَّ امَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً ، الْمُخِفُّ فِيهَا احْسَنُ حَالاً مِنَ الْمُثْقِلِ ، وَالْمُبْطِئ عَلَيْهَا اقْبَحُ حَالاً مِنَ الْمُسْرِعِ ، وَانَّ مَهْبِطَكَ بِهَا لَا مَحَالَةَ امَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ ، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ


قَبْل نُزُولِكَ ، وَوَطِّىءِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ ، وَلَا إلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ (١).

وهكذا نرى أن أفضل وسيلة لعبور هذا المضيق الخطر والعقبة الكئود وأفضل زاد لسفر القيامة والورود في صحراء المحشر هو مساعدة الفقراء والمحتاجين والإحسان إليهم ، فهذا العمل في الحقيقة يشبه ما إذا دفعنا ما نحتاجه في صحراء المحشر إلى هؤلاء الفقراء والمساكين في الدنيا ليحملوه عنا ثمّ يعيدونه إلينا في ذلك اليوم العسير ، فهل هناك أفضل من هذه المعاملة المربحة؟

٢ ـ وينقل المحدّث الكليني وهو من كبار علماء الشيعة حديثاً في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال :

ثَلَاثٌ مَنْ اتَى اللهَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةِ ؛ الْانْفاقُ مِنْ اقْتَارٍ (٢) ، وَالْبِشْرُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ (٣) ، وَالْانْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ. (٤)

وهكذا ندرك أهمية أن يرى الإنسان حقّه وحقوق الآخرين بعين واحدة وينصف الناس من نفسه ، ولهذا ورد في رواية اخرى قوله عليه‌السلام :

انَّ اللهَ يُحِبُّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ الَّذِي يُحِبُّ لأِخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيُكِرْهُ لَهُ مَا يُكْرِهُ لِنَفْسِهِ. (٥)

٢ ـ المعيار في العمل ليس كميّته

والشيء الآخر الذي يمكن أن نستوحيه من آيات سورة الدهر هي أن الإسلام يرى أن

__________________

(١) نهج البلاغة : الرسالة ٣١.

(٢) ورد في بعض الروايات أنه «إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة» (وسائل الشيعة : ج ٦ ، ص ٢٥٩).

(٣) وفي رواية : «صنائع المعروف وحسن البشر يكسبان المحبّة ويدخلان الجنّة» (الكافي : ج ٢ ، باب حسن البشر ، ح ٥.

(٤) الكافي : ج ٢ ، ص ١٠٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب حسن البشر ، ح ٢.

(٥) بحار الأنوار : ج ٢٧ ، ص ٨٩.


المعيار الصحيح للأعمال يكمن في كيفية العمل لا كميته ومقداره ، لأن جميع ما أنفقه هؤلاء الأولياء في هذه الاسرة الطاهرة لا يتجاوز عدّة كيلوغرامات من الشعير ، ولكن بما أن هذا العمل كان متوائماً مع الاخلاص وكان بدافع رضا الله تعالى فقط فإنّ هذا الدافع هو الذي رفع قدر ذلك العمل وترتبت عليه تلك المثوبات العظيمة التي وردت في هذه السورة ، فعنصر «الإخلاص» يحقّق معجزة في تغيير ماهيّة العمل ، فأحياناً يوصل قيمة العمل إلى ألف ضعف وأحياناً اخرى إلى مليون ضعف وثالثة إلى مليارد ضعف ، وقد يصل بالعمل أحياناً إلى ما يستوعب في قيمته جميع عبادات الجن والانس إلى يوم القيامة (١) ، وعلامة مثل هذا الاخلاص هي أن الإنسان الذي يتحرك في عمله من موقع الإخلاص لا يرى سوى الله تعالى في عمله هذا ولا يتوقع أجراً من أحد غيره بل لا يتوقع الشكر عليه ، وقد يصل الإنسان بدرجة من الإخلاص أن يتساوى عنده الشكر مع الإهانة فلا يفرح بالشكر ولا يتألم من السبّ والإهانة في مقابل هذا العمل ، فهنيئاً لمن يعيش هذا المقام وهذه الروحية المخلصة.

٣ ـ انعكاس آيات سورة الدهر في الأشعار

إنّ شأن نزول آيات سورة الدهر في الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام كان إلى درجة من الوضوح والبداهة حتّى أننا نجدها في أشعار الشعراء أيضاً ، حيث نقرأ في أشعار محمّد بن إدريس المطلبي الشافعي الذي هو من أئمّة أهل السنّة (٢) أنه قال هذه الأشعار في الإمام علي عليه‌السلام :

__________________

(١) مثلاً ورد في ضربة علي يوم الخندق عند ما قتل عمرو بن ود العامري أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» ، وجاء في رواية اخرى :

«لضربة علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عمل امتي إلى يوم القيامة». (بحار الأنوار : ج ٣٩ ، ص ٢).

(٢) وكان يحبّ أهل البيت عليهم‌السلام حبّاً جماً ، وقد سرت هذه المحبّة منه إلى أتباعه إلى درجة أن المذهب الشافعي يعدّ من أقرب المذاهب إلى مذهبنا نحن الشيعة ، بخلاف المذاهب السنّية الاخرى ، كالوهابية ، بل إن هؤلاء لا يلتقون مع أيّ من المذاهب السنّية الاخرى ويتهمون الجميع بالشرك والبدعة ويتحركون معهم من موقع العداوة والنزاع الدائم.


إلام إلام وَحَتّى مَتى

اعاتَبُ فِي حُبِّ هذَا الْفَتى

وَهَلْ زُوِّجَتْ فاطِمُ غَيْرَهُ

وفِي غَيْرِهِ هَلْ أَتى «هَلْ أَتى»؟(١)

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٨.


آية التوبة لآدم ١٠

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

«سورة البقرة / الآية ٣٧»

أبعاد البحث

الآية الشريفة أعلاه تبين من جهة بعض زوايا قصة آدم عليه‌السلام ومن جهة اخرى تعتبر دليلاً مهماً على مشروعية التوسل وطلب الشفاعة ، ومن جهة ثالثة تتحدّث عن عنصر التوبة والإنابة إلى الله تعالى ، وتعدّ من آيات الفضائل للخمسة الطاهرين ومضافاً إلى الامور المذكورة آنفاً في هذه الآية الشريفة فهناك روايات واردة في كتب العامّة والخاصّة تشير إلى ارتباط هذه الآية الشريفة بأهل البيت عليهم‌السلام كما سيتّضح ذلك في طيّات البحث.

الشرح والتفسير :

التوبة والإنابة إلى الله تعالى

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) فبعد أن جرى ما جرى من وسوسة إبليس وإخراج آدم وحواء من الجنّة التفت آدم إلى أنه ظلم نفسه ، وبسبب وساوس الشيطان تمّ إخراجه من تلكم الأجواء المرفّهة وذلك النعيم العظيم حيث خرج بعدها إلى أجواء المشقّة والبلاء في الحياة الدنيا ، ثمّ إنّ آدم فكّر هنا وصمم على جبران الخطأ الذي صدر منه وتوجه


بكلِّ وجوده إلى الله تعالى في حالة من الندم الشديد والحسرة العظيمة ، فشمله لطف الله تعالى في هذا الحال كما تقول الآية الشريفة :

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

وأما ما هي هذه الكلمات وما هو المراد منها؟ فسيتّضح ذلك في المباحث اللاحقة.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة في الأصل بمعنى «الرجوع» ووردت في الآيات القرآنية بمعنى الرجوع من الذنب ، هذا فيما لو نسبت هذه الكلمة إلى الشخص المذنب ، ولكن أحياناً تنسب هذه الكلمة إلى الله تعالى وتعني حينئذٍ الرجوع بالرحمة على العبد ، أي الرحمة التي سلبت من العبد بسبب معصيته وارتكابه للذنب تعود إليه عند ما يتحرك هذا الإنسان في خطّ الطاعة والإنابة إلى الله تعالى.

وعلى أيّة حال فإنّ الجملة أعلاه «انَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ» هي السبب في قبول توبة آدم.

دروس من قصة آدم وحواء

ونستوحي دروساً مهمة من قصة آدم وحواء الواردة في العديد من الآيات القرآنية الكريمة (١) وتتضمن مفاهيم بنّاءة ومؤثرة في حياة الإنسان المعنوية والأخلاقية ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ الله تعالى يقرّر جعل آدم بعنوانه خليفة الله في الأرض (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٢)

فما هي الشروط التي لا بدّ أن تتوفر في هذا الخليفة؟ وهل أن جميع أفراد البشر هم خلفاء الله ، أو أن هذا المقام السامي وهذا اللباس الفاخر لا يناله ولا يرتديه إلّا من اوتي حظاً عظيماً منهم؟

لا بدّ من التدبّر في الآيات الشريفة لمعرفة هذه الامور والمعارف المهمة.

__________________

(١) وردت قصة آدم وحواء بشكل مفصّل في سورة البقرة الآية ٣٠ فصاعداً ، وفي سورة الأعراف ، الآية ١١ فصاعداً ، وفي سورة طه ، الآية ١١٥ فصاعداً.

(٢) سورة البقرة : الآية ٣٠.


٢ ـ إنّ الملائكة سألوا الله تعالى من موقع الاستفهام لا من موقع الاعتراض : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)(١)

فمن أين علمت الملائكة بسوابق الإنسان وأنه سيرتكب الجرائم في الأرض؟

٣ ـ إنّ الله تعالى خاطب الملائكة بقوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) ثمّ إنه تعالى علّم الأسماء لآدم ثمّ سأل الملائكة عن هذه الأسماء فأظهروا جهلهم بها وعدم اطلاعهم عليها ، وهنا أمر الله تعالى آدم أن يعلمهم بالأسماء فعند ما علّمهم وعرّفهم بها أدرك الملائكة خطأهم واعترفوا بجهلهم وقصورهم ، فهنا قد يتساءل : ما هو علم الأسماء؟ ما ذا كان يتضمن العلم بأسرار الخلقة والكائنات بحيث رفع مقام آدم إلى تلك الدرجة السامية؟

٤ ـ ثمّ إنّ الله تعالى أمر جميع الملائكة بالسجود لآدم (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا)(٣) فكيف نال آدم ذلك المقام الرفيع بحيث أصبح مسجوداً لجميع الملائكة؟ ومن هنا ندرك التفاوت والفرق بين المذهب الذي يرفع من قدر الإنسان إلى ذلك المستوى الرفيع وبين المذاهب الأرضية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى القردة والحيوانات.

٥ ـ في بداية الخلقة سكن آدم وحواء الجنّة ، فأين كانت هذه الجنّة؟ هل كانت بستان من بساتين الدنيا ، أو أنها جنّة الآخرة؟ وفي هذه الصورة كيف تمّ إخراج آدم وحواء منها؟

٦ ـ كيف استطاع الشيطان خداع آدم؟ وبأي شكل تمكّن الشيطان من دفع آدم باتجاه التلوّث بالخطيئة وترك الأولى «أي العمل الذي تركه أولى من فعله»؟

٧ ـ عند ما أكل آدم من الشجرة الممنوعة فإنه وجد نفسه عرياناً وسقطت جميع ملابسه عنه ولهذا اضطر إلى التستر بأوراق الشجر فما ذا كانت الشجرة الممنوعة؟ ومن أين صنعت تلك الملابس وما هو جنسها ونوعيتها؟

٨ ـ عند ما وجد آدم نفسه عرياناً التفت إلى خدعة الشيطان وندم على فعله.

٩ ـ ولأجل جبران خطئه وجب عليه التوبة والإنابة إلى الله تعالى ، وينبغي عليه

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٣٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٣١.

(٣) سورة الأعراف : الآية ١١.


لتحقيق هذا الغرض أن يتقرب إلى الله تعالى بشخص معيّن فمن هو هذا الشخص؟

١٠ ـ ورغم أن توبة آدم قد قُبلت ولكنه اخرج من الجنّة وسكن في الأرض ، فهل أنه سكن الجنّة هو وزوجته بشكل مؤقت من البداية ، أو أن المقرر أن يخلّد فيها ولكنه بسبب ارتكابه لترك الأولى اخرج منها؟

إنّ النقاط العشرة المتقدّمة تحتاج جميعها إلى دراسة دقيقة وبحث وافر ومفصّل ، ولكننا هنا سنشير فقط إلى النقطة التاسعة منها بما يتناسب مع الآية مورد البحث ، أي مسألة توسل آدم في هذه الآية.

توسل النبي آدم

عند ما تم إسكان آدم وحواء في الجنّة أباح لهما الله تعالى الاستفادة من جميع النعم والمواهب فيها إلّا شجرة واحدة أمره بالابتعاد عنها وعدم تناول شيء منها ، وهكذا استمر آدم وحواء في حياتهما السعيدة في الجنّة ولم يقتربا من الشجرة الممنوعة ، ولكنّ الشيطان الذي تلقّى ضربة قاصمة عند خلق آدم وتمّ إخراجه من الجنّة وأصبح مورد اللعنة الأبدية كان يتحين الفرصة للانتقام من آدم ، ولهذا شرع بالوسوسة لآدم وحواء ليدفعهما نحو الشجرة الممنوعة والتلوّث بالخطيئة.

ونعلم أن الشيطان عند ما يوسوس للإنسان بالخطيئة فإنه لا يتقدم بالإنسان باقتراح ممارسة الذنب بصورة مباشرة بل يغطّي الذنب بأقنعة زائفة وبرّاقة وجذّابة بحيث إنّ الإنسان عند ما يتحرّك نحو الذنب يتصور أنه يقدم على عبادة ويؤدي وظيفته الشرعية كما يحدّثنا القرآن الكريم عن ملكة سبأ وقومها المشركين الذين كانوا يعبدون الشمس :

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)(١)

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٢٤.


وعلى هذا الأساس تقدّم الشيطان في خداعه ووسوسته لآدم بالقول :

(هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ)(١)

إنّ الإنسان يطلب البقاء والخلود بفطرته ويفزع من الفناء والعدم ، والأشخاص الذين يعيشون الخوف من الموت فإنهم يتصورون أن الموت يعني الفناء والعدم ، ولكنّ المؤمنين وأتباع أهل البيت لا يرون الموت سوى قنطرة ينتقلون منها إلى عالم أكبر وأوسع ، ولذلك فلا يشعرون بالخوف من الموت.

وعلى أيّة حال فإنّ الشيطان وبهذه الحيلة والخدعة من أن الشجرة الممنوعة تورث البقاء والخلود في الجنّة استطاع إغفال آدم عن النهي الإلهي وجرّه إلى التناول من الشجرة ، ثمّ إنّ آدم أدرك خدعة الشيطان وندم بشدّة على ما صدر منه وأراد التوبة إلى الله والإنابة إليه ولكنه لم يكن يعرف طريق التوبة هذا ، فعلّمه الله تعالى كيفية التوبة والتوسل بأن ألقى إليه كلمات استخدمها آدم في عملية التوبة ، فكانت النتيجة أن قبل الله تعالى توبته وأعاده إلى مقامه الكريم لدى الله تعالى ، واستطاع آدم بهذه التوبة أن يوجّه ضربة قاصمة اخرى للشيطان الرجيم والعدو الرئيسي للإنسان.

ما ذا كانت الكلمات؟

أما المراد من «الكلمات» التي تلقّاها آدم من الله تعالى وتوسل بها إلى الله ليقبل توبته فهناك آراء مختلفة في تفسيرها ، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاث نظريات منها :

١ ـ إنّ المراد من الكلمات هو ما ورد في الآية ٢٣ من سورة الاعراف في قوله تعالى:

(رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

فعند ما نطق آدم وحواء بهذه الكلمات قبل الله تعالى توبتهما (٢).

٢ ـ إنّ المراد من الكلمات كما يرى «مجاهد» هي هذا الدعاء :

__________________

(١) سورة طه : الآية ١٢٠.

(٢) نقل هذا القول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : ج ١ ، ص ٨٩ عن علماء ومفسّرين مثل «الحسن» و «قتادة» و «عكرمة» و «سعيد بن جبير».


اللهُمَّ لا الهَ إلّا أنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي انَّكَ خَيْرُ الْغافِرينَ. اللهُمَّ لا الهَ إلّا أنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي ، انَّكَ انْتَ ارْحَمُ الرّاحِمِينَ. اللهُمَّ لا الهَ الّا انْتَ ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَتُبْ عَلَيَّ انَّكَ انْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ. (١)

٣ ـ إنّ المراد من الكلمات هو : النبي محمّد ، الإمام عليّ ، فاطمة ، الحسن والحسين عليهم‌السلام أي أن آدم توسل إلى الله تعالى بهؤلاء الخمسة الطاهرين واستشفع إلى الله بهم فقبل الله تعالى توبته ببركتهم (٢).

وهناك أحاديث كثيرة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤيد النظرية الثالثة هذه ، رغم إمكانية الجمع بين النظريات الثلاث المذكورة آنفاً ولا منافاة فيما بينها ، أي أن آدم توسل بهؤلاء الخمسة الأطهار ، ولكنّ صيغة التوبة وردت على لسانه كما رأينا في النظرية الاولى والثانية.

وكما رأينا أن بعض علماء أهل السنّة رجّحوا النظرية الثالثة التي هي مورد اتفاق علماء الشيعة وأوردوا روايات تدلُّ على هذا المطلب ، نشير هنا إلى ثمانية منهم :

١ ـ العلّامة البيهقي في كتاب دلائل النبوّة (٣).

٢ ـ العلّامة ابن عساكر في المسند (٤).

٣ ـ العلّامة السيوطي في تفسير الدرّ المنثور (٥).

٤ ـ العلّامة السيوطي في جمع الجوامع (٦).

٥ ـ العلّامة الكاشفي في معارج النبوّة (٧).

__________________

(١) التبيان : ج ١ ، ص ١٦٩.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٨٩.

(٣) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٧٦.

(٤) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٧.

(٥) الدرّ المنثور : ج ١ ، ص ٦٠ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨).

(٦) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨.

(٧) معارج النبوّة : الركن ٢ ، ص ٩ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨).


٦ ـ العلّامة القندوزي في ينابيع المودّة (١).

٧ ـ العلّامة ابن المغازلي في المناقب (٢).

٨ ـ العلّامة النطنزي في الخصائص العلويّة (٣).

ونكتفي هنا بذكر عدّة نماذج من هذه الروايات الشريفة :

الف) ينقل ابن المغازلي عن ابن عبّاس قوله :

سُئِلَ رَسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عَنِ الْكَلِماتِ التي تَلَقّاهَا آدَمَ ، قال : سَألَهُ آدَمُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ الّا ما تُبْتَ عَليّ فَتابَ عَلَيْهِ. (٤)

ب) وينقل ابن عساكر في مسنده عن الخليفة الثاني قوله :

قالَ آدَمُ : أَسألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الّا غَفَرْتَ لِي ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ وَلَوْ لا هُوَ ما خَلَقْتُكَ. (٥)

ورغم أن عمر بن الخطاب لم ينسب هذه الرواية إلى النبي الأكرم ولكنّ مثل هذه المفاهيم والمطالب لا يطلّع عليها غير النبي أو الإمام المعصوم عليهم‌السلام ولذلك فمن المسلّم أنه سمعها من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ج) وينقل العلّامة النطنزي هذه الرواية في «الخصائص العلوية» :

إنَّ الْكَلِماتِ الَّتي تَلَقّاها آدَمُ مِنْ ربّه : اللهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ الّا تُبْتَ عَلَيْهِ فَتابَ اللهُ عَلَيْهِ. (٦)

وفي ذيل هذه الرواية ورد أنه عند ما قُبلت توبة آدم صنع آدم لنفسه خاتماً وكتب على فصه اسم نبي الإسلام بعنوان «رسول الله» واسم علي بن أبي طالب بعنوان «أمير المؤمنين».

__________________

(١) ينابيع المودّة : ص ٩٧ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٩).

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ٧٧.

(٣) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨.

(٤) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٦.

(٥) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٧.

(٦) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٧٨.


الخلاصة أنه طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في كتب الفريقين «وما ذكر آنفاً كانت نماذج من روايات كثيرة في هذا الباب» أن المراد من الكلمات التي توسل بها آدم إلى الله تعالى وقبلت توبته ببركة هذه الكلمات هم «الخمسة الأطهار» فهل أن هذا المقام السامي في عالم الوجود تحقّق لشخص آخر غير أهل البيت عليهم‌السلام؟

ألا تدلُّ هذه الفضيلة العظيمة على أن هؤلاء الأشخاص هم أفضل البشر على الإطلاق؟

إذا كان كذلك (وهو كذلك حتماً) وأراد الله تعالى أن يختار خليفة لنبيّه الكريم فهل يعقل أن تسمح حكمة الله تعالى بأن يكون أشخاص آخرون خلفاء لرسول الله مع وجود الشخص الأفضل؟

وإذا أراد الناس أن يختاروا لأنفسهم شخصاً بعنوانه إماماً وخليفة عليهم فهل يجيز العقل أن يختار العقلاء أشخاصاً آخرين مع وجود الأفضل منهم؟ والحكم إليكم.

هل أن التوسل مشروع؟

مع الأسف أن مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة ومقدّرات هاتين المدينتين المباركتين قد وقع بيد الوهابيين الذين يعيشون الاعتقادات الجافّة والخشنة ويرتدون ثياب القداسة الزائفة في مخالفتهم الشديدة لمسألة التوسل هذه ويمنعون المسلمين من زيارة قبر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والتوسل بمقامه وكرامته عند الله تعالى وكذلك زيارة قبور أئمّة البقيع الطاهرين عليهم‌السلام وسائر عظماء الإسلام المدفونين في البقيع ، فمن أين لهم الحقّ في تحميل عقائدهم الخشنة على سائر المسلمين حتّى على الكثير من أهل السنّة أيضاً؟

لو كان لهم مثل هذا الحقّ فلما ذا لا يتحركون لفرض كيفية الصلاة التي يعتقدون بها في وجوب التكتف على سائر المسلمين؟

هذه بعض الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تراود كلّ مسلم يزور مكّة والمدينة ولا يجد جواباً لها ... أجل إن الوهابيين يخالفون بشدّة مسألة التوسل ويرون أنها تتنافى مع التوحيد وأنها من قبيل الشرك بالله تعالى! وقد حان الكلام لبحث مسألة التوسل ومشروعيته من خلال الآيات القرآنية وروايات المعصومين عليهم‌السلام.


أقسام التوسل

للتوسل أقسام مختلفة :

١ ـ تارةً يكون المخاطَب لنا هو النبي أو الإمام نفسه ، من قبيل ما ورد في دعاء التوسل حيث يخاطب الداعي كلُّ واحد من المعصومين فرداً فرداً ويطلب من هؤلاء الطاهرين أن يشفعوا له عند الله بما لديهم من الجاه والمقام والكرامة عنده ، ففي هذا النوع من التوسل نحن نطلب حاجتنا في الحقيقة من الله تعالى ونجعل هؤلاء المعصومين وسائط في هذا الطلب.

٢ ـ وتارةً اخرى يكون المخاطَب هو الله تعالى ، ولكنّ الداعي يخاطب الله تعالى بحقِّ الشخص الذي يعتبره وجيهاً عند الله ليضمن استجابة حاجته وطلبه كما توسل آدم إلى الله تعالى بالخمسة الطاهرين :

«اللهُمَّ يا حَميدُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَيا عالِيُ بِحَقِّ عَلِيٍّ وَيا فاطِرُ بِحَقِّ فاطِمَةَ وَيا مُحْسِنُ بِحَقِّ الْحَسَنِ وَيا قَديمَ الْاحْسانِ بِحَقِّ الْحُسَيْنِ».

وفي هذا النحو من التوسل يطلب المتوسل حاجته من الله أيضاً ويجعل كرامة هؤلاء الأولياء واسطة لضمان الاستجابة.

٣ ـ وفي قسم ثالث يكون الله تعالى هو المخاطَب أيضاً ولكننا نقسم عليه بحقِّ الشخص الذي له وجاهة عند الله ليستجيب لنا دعاءنا ويقضي حاجتنا ، من قبيل أن يقال : إلهنا نقسم عليك بنبي الإسلام أو بالقرآن الكريم أو بغير ذلك من المقدّسات ، إلّا ما قضيت حاجتنا.

ولكنّ الوهابيين يحرّمون جميع أقسام وأنواع التوسل هذه ويعتبرونها نوعاً من الشرك ، وهنا نلفت النظر إلى بعض مقولات رموزهم وعلمائهم :

١ ـ يقول محمّد بن عبد الوهاب في كتابه «التوحيد» الذي ينبغي أن يسمّى بكتاب «الشرك» :

إنّ هذا الشّرك الأكبر (١) (أي التوسل).

__________________

(١) نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣٠١.


٢ ـ يقول الصنعاني أحد علماء الوهابية أيضاً :

من توسّل بمخلوق فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحلّ اعتقاده. (١)

٣ ـ ويقول ابن تيمية المؤسس الحقيقي للفكر الوهابي :

من توسّل بعظيم عند الله ... فهذا من أفعال الكفّار والمشركين. (٢)

والخلاصة هي أن من يعتقد بمذهب الوهابية يرى أن أي نوع من التوسل هو شرك بالله تعالى وأن المتوسل منحرف عن الإسلام الحقيقي ، ولذلك يتحركون في مكّة والمدينة بذريعة «الشرك» و «البدعة» من موقع إلحاق الأذى وإيجاد المشاكل لحجاج بيت الله الحرام وزوار المدينة المنوّرة.

مقام التوحيد ومكانته السامية

ولأجل بيان هذه الحقيقة وهي أن التوسل لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد نرى من اللازم في البداية توضيح معنى التوحيد وبيان مقامه السامي في دائرة المعتقدات الإسلامية ، وباعتقادنا أن التوحيد هو أصل وأساس الدين ويلعب دوراً أساسياً في جميع الامور المتعلّقة بالدين والسلوك الديني ، إنّ الله تعالى واحد ، وجميع الأنبياء دعوا أقوامهم إلى شيء واحد ، وأن جميع الناس سوف يبعثون بعد الموت ، وأن الكعبة هي قبلة المسلمين ، والقرآن لدى جميع المسلمين واحد ، والخلاصة أن التوحيد يمثل الأصل والأساس لجميع اصول الدين وفروعه ، ولهذا فإنّ التوحيد ليس أصلاً من اصول الدين فقط بل يستوعب جميع اصول الدين وفروعه ، والتوحيد بمثابة خيط المسبحة الذي يربط جميع حباتها بحيث لو لا التوحيد لا يبقى للدين من معنى كما أنه لو لا خيط المسبحة لا يبقى معنى لوجود المسبحة ، وبالالتفات إلى هذا المعنى للتوحيد ومكانته العليا بين العقائد والمفاهيم الإسلامية فإننا نعتقد بأن كلّ أمر يتنافى مع التوحيد فهو مرفوض ومردود.

__________________

(١) تطهير الاعتقاد نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣٠١.

(٢) كشف الارتياب : ص ٣٠٢.


أقسام التوحيد

للتوحيد أقسام ومراتب متعدّدة ، ونشير هنا إلى أربعة مراتب مهمّة للتوحيد :

١ ـ توحيد الذات : يعني الاعتقاد بأن الله تعالى واحد في ذاته ، وليس المراد بأنه واحد في العدد أي موجود واحد لا اثنين لأنه على أساس المعنى الأوّل للتوحيد أن الله واحد ، بمعنى أن الإنسان لا يتصور له شبيه ومثيل ، ولكن على المعنى الثاني يمكن تصور الشبيه والمثيل رغم انعدام الوجود الخارجي لهذا الشبيه.

وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الاولى من سورة التوحيد (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تفسر بمعنى قوله تعالى في هذه السورة أيضاً (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فلا نظير له ولا شبيه ولا يمكن تصور النظير والشبيه له.

٢ ـ توحيد الصفات : فجميع صفات الله تعالى تعود إلى حقيقة واحدة ، فليست صفة العلم شيءٌ آخر غير القدرة ، والقدرة الإلهية أيضاً ليست شيئاً آخر غير الأزلية ، وهكذا سائر الصفات الاخرى تعود في الحقيقة على الذات ، ولكن بالنسبة إلى الإنسان فيمكن القول أن علمه في روحه ، وشجاعته وقدرته في عضلاته ، ورحمته في قلبه ، ولا يصحّ هذا القول بالنسبة إلى الله تعالى فإنّ ذاته المقدسة هي علم وقدرة وحياة وغير ذلك.

٣ ـ توحيد الأفعال : إنّ كلُّ فعل أو حركة أو ظاهرة في هذا العالم هي في الواقع من تجليّات الذات المقدسة ولا شيء بإمكانه أن يؤثر في عالم الوجود بدون إذنه ومشيئته «لا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ الَّا اللهُ» فعند ما تحرق النار شيئاً فإنّ ذلك بإذن الله ، ولذلك رأينا أن نار نمرود لم تستطع إحراق إبراهيم لأن الله تعالى لم يأذن لها بذلك ، وعند ما يطفئ الماء النار فذلك أيضاً بمشيئة الله ، وكلُّ ما نعمل من عمل فإن ذلك بإذن الله لأنه تعالى هو الذي أقدرنا على ذلك ومنحنا الاختيار والحرية والقدرة والعقل لنتصرف كيف ما نريد ، فكلُّ ذلك حصلنا عليه من الله تعالى ، وكلُّ حركة من حركاتنا تعود إلى ذاته المقدسة ، والخلاصة أن المؤثر للاستقلال هو الله تعالى وما بقي من الأسباب فليس لها قدرة على التأثير إلّا بمشيئة الله وإرادته.

٤ ـ توحيد العبادة : إنّ العبادة لا ينبغي أن تكون إلّا لله تعالى ولا يوجد موجود يليق


بالعبادة غير الله تعالى ، كما يشاهد من بعض الشيعة عند ما يدخلون المشاهد المشرّفة لأحد الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام فإنّهم يقبلون الأرض أو عتبة الباب ، فهو في الحقيقة من قبيل سجدة الشكر لله تعالى أنه وفقهم لزيارة أوليائه لا أنها سجود للإمام (والعياذ بالله) لأن الشيعة لا يعتقدون بأي موجود يستحق العبادة والسجود غير الله تعالى ولا يسجدون لغير الله ، ولذلك نوصي الشيعة أن يتركوا هذا العمل أيضاً أي سجدة الشكر أمام الضريح المقدّس دفعاً لهذا التوهم وألا يكون ذلك ذريعة بيد البعض ليتحركوا ضد الشيعة من موقع التهويل والاتهام ، وعلى أيّة حال فإنّ العبادة لا تكون إلّا لله تعالى.

هذه المراتب الأربع للتوحيد تعتبر المراتب الأصلية للتوحيد رغم وجود مراتب اخرى متفرعة عليها نظير : توحيد الحاكمية (١) ، توحيد الشارعية (٢) ، توحيد المالكية (٣) ، وأمثال ذلك (٤).

ومن هنا يتضح أن الإنسان المسلم إذا اعتقد بما ذكر أعلاه من حقيقة التوحيد فإنه كامل الإيمان وموحد في نظر الإسلام ، ولكن الوهابيين الذين يدّعون التوحيد ويرفضون الشرك لم يدركوا عمق هذه المراتب للتوحيد الواردة في تعاليم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ولذلك فهم يتهمون الآخرين بالشرك دائماً.

الأشاعرة والتفسير الخاطئ للتوحيد الأفعالي

الأشاعرة وهم أحد مذاهب أهل السنّة عند ما لم يستوعبوا الفهم الصحيح للتوحيد

__________________

(١) المراد من توحيد الحاكمية هو أن تكون مشروعية الحكومات البشرية مستمدة من الله تعالى لا من الناس ، وحتّى عند ما يشترك الناس في الانتخابات ويختاروا لهم حاكماً ورئيساً فإن ذلك يقتبس مشروعيته من أمر الله تعالى.

(٢) «توحيد الشارعية» يعني أن المقنّن والمشرّع للقوانين هو الله تعالى ، فكلّ قانون ينتهي إلى القوانين الإلهية فهو مشروع.

(٣) «توحيد المالكية» يعني أن المالك في الحقيقة هو الله تعالى ، وأما ما يملكه الناس فهو في الحقيقة أمانة بأيديهم ، فكلّ ما لدينا في الحياة هو أمانة موقتة جعلها الله في اختيارنا لأيام معدودة.

(٤) للمزيد من التفاصيل حول أقسام التوحيد ، انظر : نفحات القرآن : ج ٤ ، للمؤلف.


الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وأن الإنسان مجبور على أفعاله ، لأنهم تصوروا إنّ الإنسان إذا كان مختاراً في أفعاله فإنّ ذلك يعني الشرك في دائرة التوحيد الأفعالي ، في حين أن هذه العقيدة (وهو الجبر) تثير علامات الاستفهام في كافة اصول العقيدة من النبوّة والقيامة والإمامة والعبادات التي أمر بها الإسلام.

والحقيقة أن الإنسان لو كان مخيّراً ومجبوراً في أفعاله وكان يعيش فقدان الإرادة والاختيار في حركته في الحياة فما معنى مؤاخذته ومساءلته يوم القيامة؟

كيف يمكننا توجيه عقاب المذنبين وثواب المطيعين في الحياة الآخرة؟ لأن كلاً من المطيع والعاصي كانا يتحركان في سلوكهما من دون اختيار وإرادة ، فلا المذنب اختار أن يكون مذنباً ولا المطيع اختار أن يكون مطيعاً ، فلما ذا إذن يستحق الأوّل العقوبة والثاني المثوبة؟

إذا قلنا بالجبر فلا ينبغي لأي محكمة أن تعاقب المجرم على جريمته لأنه مجبور حسب الفرض على ذلك.

هل يصحّ أن نعاقب النار على إحراقها لإنسان بريء؟

هل يعقل أن نحاكم البحر ونقضي عليه بالعقاب الصارم لأن إنساناً بريئاً غرق في مياهه؟

هل يمكننا محاكمة الكهرباء فيما لو أدّت إلى قتل شخص بريء؟

بديهي أن جواب هذه الأسئلة بالنفي وستكون مثل هذه المحاكمة مضحكة ومدعاة للسخرية ، وهكذا حال الإنسان المجبور على أفعاله فإنه يكون حاله حال الماء والنار والكهرباء فيما لو أقدم على ارتكاب جريمة.

والملفت للنظر أن أصحاب هذه النظرية يخالفون نظريتهم في مقام العمل والممارسة ، فلو أن أحداً صفعهم لرأيناهم يعترضون عليه ، ولو أنّ لصّاً دخل إلى بيوتهم وسرق منها شيئاً لقاموا بتقديمه إلى المحكمة ، في حين أن الإنسان إذا كان مجبوراً وفاقداً للإرادة فلا معنى للاعتراض والشكاية ، ولكننا نرى هذا التناقض بوضوح بين قول أصحاب عقيدة الجبر وبين أفعالهم وممارساتهم.

لعلّ القارئ العزيز يتصور أن هذه المطالب ما هي إلّا أفكار وتوهمات تجول في مدارات الذهن فقط من دون أن يكون لها رصيد واقعي من الأشخاص المؤيدين لها ، ولكن مع


الأسف فهناك الكثير من الأشخاص المغفلين الذين يتحركون في دائرة العقيدة والمذهب من موقع الدفاع الشديد عن هذه النظرية الباطلة وقد كتبوا في ذلك كتباً متنوعة.

أجل ، فإنّ هؤلاء الأشخاص عند ما لم يستطيعوا إدراك مغزى التوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وغفلوا عن أن الله تعالى هو الذي وهب للإنسان الاختيار والإرادة ، وعند ما نقول أن الإنسان حرٌّ ومختار في أفعاله فإنما ذلك على أساس أنّ كلّ هذه الامور متصلة بالله تعالى وبمشيئته ، وبذلك لا يكون هناك تقاطعاً بين اختيار الإنسان والتوحيد الأفعالي.

وقد ذهب الأشاعرة والجبرية إلى أكثر من ذلك ، فقد أنكروا عالم الأسباب والمسببات وقالوا : إنّ النار لا تحرق أبداً بل الله تعالى هو الذي يحرق ، وكذلك ذهبوا إلى أن الحجر لا يكسر الزجاج بل بمجرد أن يقترب منه ويمسه فإنّ الله تعالى يقوم بكسر الزجاج.

أجل ، فإنهم أنكروا مثل هذه الامور البديهية بسبب تفسيرهم الخاطئ للتوحيد الأفعالي ، ورأينا أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى إطلاقاً مع اختيار الإنسان وإرادته ، وكذلك لا يتنافى مع عالم الأسباب لأن الإرادة السببية في عالم المخلوقات كلّها تعود في الأصل إلى الله تعالى ، فإنه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوّة والعقل والاختيار والإرادة ، وبما أن هذه الامور جميعاً من الله تعالى إذن يصحّ نسبتها جميعاً إليه رغم أن الإنسان لا يتجرد من المسئولية وحرية الانتخاب في دائرة الفكر والعقيدة والممارسة.

ولأجل توضيح المطلب أكثر نضرب لذلك مثالاً :

عند ما يدفع الأب بعض المال لولده لينفقه في مصارفه ومعيشته فالأب من جهة يمكنه في أي لحظة أن يأخذ هذا المال باعتباره ماله وملكه رغم أن الابن إذا اشترى بهذا المال شيئاً فإن المسئولية تقع عليه لا على الأب.

والنتيجة هي أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى مع اختيار الإنسان وإرادته ولا ينبغي أن نتصور أن ذلك يدخلنا في دائرة الشرك.

هل ينسجم التوسل مع التوحيد؟

سؤال : لما ذا يتصور الوهابيون أن التوسل هو نوع من الشرك؟ وكيف يتقاطع التوسل


مع أحد مراتب التوحيد المتقدّمة؟ وهل أن التوسل يتنافى مع توحيد الذات ، أو مع توحيد الصفات؟

بلا شكّ أن التوسل لا يتنافى إطلاقاً مع توحيد الذات والصفات ، ولكن هل يثير التوسل مشكلة في دائرة العبادات والتوحيد الأفعالي؟ إذا كان الجواب بالإيجاب من قبل الوهابيين فينبغي القول بأنهم وقعوا في اشتباه كبير لأن الشيعة عند ما يتوسلون بالنبي أو الأئمّة المعصومين أو القرآن الكريم لا يرون أن ذلك من العبادة لهؤلاء إطلاقاً كما هو الحال في عبادة المشركين للأصنام والأوثان وتصورهم أنها شفعاء لهم عند الله ، بل نحن نطلب من هؤلاء الأولياء أن يتوسطوا لنا بما لديهم من جاه ومقام عند الله تعالى لحلِّ مشاكلنا واستجابة دعائنا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الفرق بين التوسل وبين عبادة المشركين واضح جدّاً ، والشخص الذي يتصور أن توسل الشيعة إنما هو مثل عبادة المشركين للأوثان في الحقيقة هو إنسان بعيد عن الإنصاف وجادة الصواب.

مضافاً إلى ذلك أن التوسل بالخشب والحجر لا يعود على الإنسان إطلاقاً بالنفع والضرر ، وهذا المعنى لا يقبل القياس بالتوسل بالإمام والنبي والقرآن والتقرّب بهم إلى الله تعالى ، والنتيجة هي أن التوسل لا يتنافى مع توحيد الذات ولا توحيد الصفات ولا التوحيد في العبادة. إذن فما هو مقصود الوهابيين من قولهم بأن التوسل شرك؟ وما هي المرتبة من مراتب التوحيد التي يرون أنها تتنافى مع التوسل؟

الجواب : الظاهر أن مقصود الوهابيين من أن التوسل شرك هو أنه يتنافى مع التوحيد الأفعالي ، لأن الشخص الذي يتوسل بالنبي أو الإمام ويطلب منه حلّ مشكلته فإنه يرى أن غير الله تعالى له تأثير في عالم الخلق ، ونعلم أن التأثير منحصر بالله تعالى ولو أن الإنسان اعتقد بأن غير الله يمكنه أن يؤثر في عالم الوجود فهو نحو من أنحاء الشرك.

والجواب على هذا الكلام هو أن الشيعة لا يرون للنبي والإمام والقرآن تأثيراً في عالم الخلقة في عرض الله تعالى ، بل في طول القدرة الإلهية ، ولا تكون قدرتهم مؤثرة إلّا بإذن الله ومشيئته ، وهذا المعنى لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي ، نعم إذا قلنا إنّ النبي أو الإمام يؤثر في عالم الخلقة بالاستقلال «نعوذ بالله» فهذا هو الشرك ، ولكن لا أحد يقول بهذا المعنى ،


فعند ما نقول أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع لنا عند الله ويتوسط في حلِّ مشكلاتنا ليكون الله تعالى هو الذي يحلّ هذه المشكلة أو يشافي المريض أو يرزق الفقير فإنّ ذلك ليس من الشرك بل هو عين التوحيد.

وبما أن هذا المعنى انعكس في دائرة المفاهيم القرآنية بوضوح فينبغي القول بأن هؤلاء الوهابيين لا يقبلون بالقرآن أيضاً ، لأن الآية ٤٩ من سورة آل عمران تردّهم ردّاً قاطعاً وتبطل ادعاءاتهم الفارغة واتهاماتهم الباطلة وذلك في قوله تعالى :

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

فنرى أن عيسى عليه‌السلام يخاطب بني إسرائيل ويقول بانني بعثت رسولاً إليكم من قبل الله تعالى ومعي معجزة ، ثمّ يذكر ثلاث معجزات :

١ ـ (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ)

وهكذا نرى أن المسيح عليه‌السلام يقول بأنني أصنع لكم طيراً من طين ثمّ أنفخ فيه الحياة والروح فيتحول هذا التمثال الطيني إلى طائر حي بإذن الله ، أي إنني لا أستطيع التأثير في هذه الأشياء في عرض قدرة الله ومشيئته بل إن قدرتي وتأثيري إنّما هي بإذن الله وليست مهمتي سوى أن أنفخ في هذا التمثال ليتحول إلى طائر فيه حياة وشعور بإذن الله.

٢ ـ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ)

المعجزة الاخرى لعيسى بن مريم عليه‌السلام هي شفاء المرضى المزمنين والأعمى والأبرص وإحياء الموتى ، وطبعاً كلّ هذه الأعمال إنّما أقوم بها بمشيئة الله وإذنه ولا تتصوروا أنني إله أو ابن إله فلست سوى وسيلة لتحقيق هذه الأغراض ، والمصدر الحقيقي هو الله تعالى ، فإحياء الموتى وشفاء المرضى كلّها صادرة من ساحته المقدسة.

٣ ـ (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)

العلامة الثالثة لنبوّة عيسى ابن مريم انه كان يخبرهم بما لديهم من أطعمة وأغذية في بيوتهم ويخبرهم بما يأكلون من طعام وشراب كلُّ ذلك بتعليم الله تعالى.

وهذه الآية الشريفة تمثل ردّاً حاسماً على من ينكر الولاية التكوينية أو ينكر مشروعية التوسل ويتصور بأن ذلك يتنافى مع التوحيد الأفعالي ، وعليه فإذا نسبنا هذه الأفعال إلى غير الله تعالى واعتقدنا بأن الإنسان يمكنه أن يؤثّر في عالم الأسباب والمسببات بإذن الله ومشيئته فإن هذا المعنى لا يتنافى مع التوحيد إطلاقاً.


التوسل في القرآن

ومضافاً إلى ما تقدّم فهناك آيات قرآنية عديدة تذكر مسألة التوسل بصراحة وإليك بعض النماذج والأمثلة على ذلك :

١ ـ نقرأ في الآية ٩٧ من سورة يوسف قوله تعالى :

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ)

عند ما وصل خبر يوسف وأنه في كامل الصحّة والعافية إلى أبيه واخوته تحرّك الأخوة لجبران خطئهم واشتباههم من موقع التوبة والاستغفار وجاءوا إلى أبيهم وتوسطوا إليه ليستغفر لهم الله تعالى وجعلوه واسطتهم إلى الله تعالى ليغفر لهم شنيع فعلتهم ، فأجابهم يعقوب بقوله :

(سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١)

وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب المذنبين توسلوا إلى أبيهم النبي وطلبوا منه أن يتوسط لهم إلى الله تعالى ليغفر لهم ويعفو عنهم ، وعليه فلا إشكال في أن نتوسل بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أو القرآن الكريم أو المقدسات الاخرى ونجعلها واسطتنا إلى الله تعالى لطلب الفرج واستجابة الدعاء وأمثال ذلك.

٢ ـ ونقرأ في الآية ٦٤ من سورة النساء :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)

إنّ الله تعالى في هذه الآية الشريفة يعلّم الناس طريق التوسل ، وفي مقابل هاتين الآيتين من القرآن الكريم نرى أن الوهابيين يحرّمون ويمنعون التوسل ، فما هو المسوغ لهم لهذا المنع؟

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ٩٨ ، والسبب في أن يعقوب لم ينفذ طلبهم في ذلك الوقت هو أن لكلّ شيء زمان خاص ، والدعاء قد يستجاب في بعض الأوقات أسرع من غيرها ، ولهذا أوكل يعقوب الدعاء لأبنائه إلى المستقبل ، وقد ورد في بعض الروايات أنه كان يريد أن يدعو الله لهم في ليلة الجمعة وهو الوقت المناسب جدّاً لاستجابة الدعاء ، والملفت للنظر أنه ورد في تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٤٩١ ، أن يعقوب كان يقصد الدعاء في ليلة الجمعة التي تصادف ليلة عاشوراء.


التوسل بالعظماء والأولياء بعد وفاتهم

إنّ الوهابيين يفتقدون إلى الجواب المنطقي في مقابل هذه الآيات القرآنية والبراهين العقلية ولذلك اضطروا إلى تعديل مواقفهم من مسألة التوسل وأجازوا التوسل بالنبي في حياته ومنعوه بعد وفاته.

إنّ هؤلاء لم يلتفتوا إلى لوازم هذا الرأي ، لأن ذلك يعني أن الشرك وفقاً لهذه العقيدة مباح في حياة النبي ولكنه حرام بعد وفاته ، وبعبارة اخرى أن لازم ذلك أن يكون الشرك على نحوين : ١ ـ الشرك المباح ، ٢ ـ الشرك المحرّم والممنوع.

فهل سمعتم عالماً ينطق بمثل هذا الكلام؟

هل سمعتم أحد المسلمين يقول بأن الشرك مباح في بعض الأحيان؟

إنّ بطلان الشرك بمثابة قانون عقلي كلّي لا يقبل الاستثناء ، ولكنّ الوهابيين هم طائفة متخلّفة فكرياً وعلمياً دون سائر المذاهب الإسلامية حيث لا يمكن قياسهم بعلماء دمشق ولا بعلماء الأزهر ولا بعلماء الشيعة وفضلاء الحوزات العلمية.

مضافاً إلى ذلك نقول : كيف اختلف الحال بين وجود النبي على قيد الحياة وبعد الوفاة؟

فرغم أن بدن النبي قد مات ودفن في التراب ولكن بدون شكّ أن روحه بعد خروجها من البدن الشريف ستكون أقوى على مستوى التأثير والإدراك.

والقرآن الكريم يقرر الحياة البرزخية للشهداء ويقول في الآية ١٦٩ من سورة آل عمران :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)

فعند ما يكون الشهداء أحياء بعد موتهم ويتناولون الطعام عند ربّهم كما تقول الآية التي بعدها أنهم يشهدون أعمال أحبتهم ورفقاءهم في هذه الحياة الدنيا ، فهل أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يتمتع بمقام أسمى بكثير من مقام الشهداء لا تكون له حياة برزخية؟

بلا شكّ أن النبي يعيش الحياة البرزخية في أعلى المستويات ، ولذلك نرى أن المسلمين في ختام كلِّ صلاة يسلمون عليه ويقولون :

«السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ».


فلو لم يكن النبي حيّاً فلما ذا هذا السلام ، وعلى من يكون ، وما ذا يعني؟

النتيجة هي أن التوسل بالأولياء جائز في حال حياتهم وبعد موتهم ، ولا فرق هناك بين موت هؤلاء وحياتهم في هذه المسألة.

التوسل في الروايات

لقد ورد التوسل في روايات الفريقين الشيعة والسنّة بشكل واسع ، ونشير هنا إلى بعض هذه الروايات الواردة في مصادر أهل السنّة :

١ ـ ينقل البيهقي أحد علماء أهل السنّة عن أنس «الخادم الخاصّ للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله :

جاء رجل من الأعراب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنشد يقول :

اتَيْناكَ وَالْعُذْراءُ يُدْمِي لِبانَها

وَقَدْ شَغَلَتْ امُّ الصَّبِيَّ عَنِ الطِّفْلِ

وَلَيْسَ لَنا الّا الَيْكَ فِرَارُنَا

وَايْنَ فِرَارُ الْخَلْقِ الّا الى الرُّسُلِ

فعند ما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحال هذا الرجل المؤلمة تأثّر كثيراً وتوجّه إلى المسجد وهو يجرّ بردائه من شدّة الهمّ والحزن ، فصعد المنبر ورفع يديه للدعاء ، وما زال يدعو حتّى نزل المطر ونجى الناس من القحط (١).

فطبقاً لهذه الرواية فإنّ ذلك الأعرابي توسل في زمان حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، ولم يمنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك أو ينهاه.

٢ ـ ويورد البخاري في كتابه رواية في هذا المجال ، وهي أن الناس أصيبوا بالقحط في أيّام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاءوا إليه يشكون إليه حالهم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزل المطر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لَوْ كانَ أَبُو طالِبٍ حَيّاً لَقَرَّتْ عَيْناهُ» (١).

__________________

(١) كشف الارتياب : ص ٣١٠ ، وللاطلاع على البحوث المتعلقة بصلاة الاستسقاء راجع كتابنا «تحقيق حول صلاة الاستسقاء».


وهذه الجملة من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إشارة إلى ما كان من النبي قبل البعثة من دعاء أبي طالب لنزول المطر وكان النبي يومذاك رضيعاً ، فأخذه أبو طالب وأقسم على الله تعالى بحقّ هذا الطفل إلّا ما أنزلت علينا المطر. فاستجيب دعاؤه ونجا الناس من الهلاك والقحط ، ثمّ إن أبا طالب أنشد أبياتاً من الشعر مطلعها :

وَابْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمامُ بِوَجْهِهِ

ثَمالُ الْيَتامى عِصْمَةٌ لِلْأَرامِلِ (٢)

والخلاصة أن الناس طبقاً لهذه الرواية كانوا قبل البعثة وبعدها يتوسلون إلى الله تعالى بالنبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولن يتحرك النبي الأكرم لمنعهم من هذا العمل بل إنه أثنى عليه بحيث إنه طلب من البعض أن يقرءوا أشعار أبي طالب التي قالها بمناسبة واقعة الاستسقاء فتكفل الإمام علي عليه‌السلام بهذه المهمة.

٣ ـ قال السمهودي أحد كبار علماء أهل السنّة في كتابه «وفاء الوفاء» عن مالك أحد أئمّة المذاهب الأربعة لأهل السنّة : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٣) ، ومدح قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(٤) ، وذمّ قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٥)

فقال منصور : هذا كان في حياته لا بعد مماته.

فقال مالك : «حُرْمَتُهُ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّاً». (٦)

__________________

(١) كشف الارتياب : ص ٣١٠.

(٢) كشف الارتياب : ص ٣١١.

(٣) سورة الحجرات : الآية ٢.

(٤) سورة الحجرات : الآية ٣.

(٥) سورة الحجرات : الآية ٤.

(٦) وفاء الوفاء : ج ١ ، ص ٤٢٢ نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣١٧.


وطبقاً لهذا الكلام فإن احترام النبي واجب في حال حياته وبعد مماته والتوسل به جائز أيضاً على أيّة حال.

٤ ـ وقد ذكر «ابن حجر» من علماء أهل السنّة المعروفين والإنسان المتعصب جدّاً في كتابه «الصواعق المحرقة» اعترافات مهمة لصالح الشيعة ، ومن تلك الاعترافات ما أورده من شعر الإمام الشافعي حيث يقول :

آلُ النَّبيِّ ذَريعَتي

وَهُمْ الَيْهِ وَسيِلَتِي

ارْجُو بِهِمْ اعْطى غَداً

بِيَدِ الْيُمْنى صَحيفَتِي (١)

النتيجة : أن التوسل بأولياء الدين والمقدّسات كالقرآن الكريم لا تتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي ، وقد ورد التمجيد والترغيب في القرآن والروايات الشريفة للمسلمين لمثل هذا العمل.

لا تجوز العبادة لغير الله

سؤال : لقد قلتم أن العبادة خاصّة بالله تعالى ولا ينبغي عبادة غير الله لأن ذلك يحسب من الشرك في حين أننا نجد في بعض الآيات القرآنية أنها تتحدّث عن السجود لغير الله تعالى من قبيل :

١ ـ ما ورد في قصة آدم وحواء عند ما خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٢)

فلو كانت العبادة لغير الله تعالى شرك فلما ذا ورد الأمر في هذه الآية الشريفة بالسجود لآدم؟

٢ ـ وفي سورة يوسف عند ما تحرك الاخوة مع الوالدين من الصحراء متوجهين إلى مصر بعد أن علموا بحياة يوسف ، حيث يحدّثنا القرآن الكريم عن اللحظة التي التقى فيها هؤلاء بالنبي يوسف وقال :

__________________

(١) الصواعق المحرقة نقلاً من كشف الارتياب : ص ٣١٩.

(٢) سورة الحجر : الآية ٣٠ وسورة ص : الآية ٧٣.


(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)(١)

فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب سجدوا ليوسف ، فلو كان السجود لغير الله شركاً ، فكيف نفسر ما ورد في هذه الآية الشريفة؟

٣ ـ عند ما ورد بنو إسرائيل بيت المقدّس فإنّ الآية تذكر هذه الواقعة وأن بني إسرائيل سجدوا عند ورودهم المعبد في بيت المقدّس كما نقرأ ذلك في الآية ٥٨ من سورة البقرة :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)

والخلاصة أن هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن السجود لغير الله فكيف يتناغم ذلك مع التوحيد في العبادة؟

الجواب : تقدم أن حرمة الشرك وعدم جواز السجود لغير الله واختصاص العبادة بالله تعالى إنّما هو قانون كلّي لا يقبل الاستثناء ، فالشرك لا يمكن أن يتواءم مع التوحيد في أي مرتبة من مراتبه ، وعليه فإنّ السجود الوارد في الآيات المذكورة لا يعني العبادة بل هو سجود الشكر والتعظيم لله تعالى على نعمه ومواهبه العظيمة.

عند ما سجد الملائكة لآدم ففي الحقيقة أنهم سجدوا لله تعالى الذي خلق مثل هذا المخلوق العظيم ، إذن فالسجود في الواقع كان لله تعالى ولكن بسبب خلق آدم.

وهكذا في اخوة يوسف فإنهم سجدوا شكراً لله تعالى لأجل النعمة العظيمة التي أولاها الله تعالى لأخيهم يوسف ، ولأجل نجاتهم من الحياة الصعبة والشاقّة في صحراء كنعان ورؤيتهم أخيهم بعد سنوات من الفراق وبالتالي انتقالهم إلى مصر ليعيشوا حياة طيبة ومرفهة وكريمة ، فلأجل ذلك سجدوا شكراً لله تعالى ، كما هو الحال في بني إسرائيل الذين سجدوا لله تعالى لا لمسجد بيت المقدّس.

عند ما يقوم المسلمون والحجاج بأداء صلاة الجماعة حول الكعبة ويسجدون لله تعالى في صلاتهم هذه أمام بيت الله الحرام ، فهل معنى هذا أنهم سجدوا للكعبة ، أو أن أحداً من المسلمين لا يسجد للكعبة بل يسجد لله تعالى ويعبده وحده ولكن في مقابل الكعبة؟

__________________

(١) سورة يوسف : الآية ١٠٠.


وعلى هذا الأساس فإنّ السجود في جميع الموارد هو لله تعالى ، وفي الحقيقة هو مصداق بارز لعبادة الله رغم أن الدوافع قد تكون متفاوتة ومختلفة ، والنتيجة هي أن الآيات الثلاثة المذكورة آنفاً لا تعدُّ استثناءً من القاعدة الكليّة في توحيد العبادة.



الفصل الثالث

آيات الفضائل الخاصّة

بالإمام عليّ عليه‌السلام

آية ليلة المبيت

آية سقاية الحاج

آية النصرة

آية علم الكتاب

آية المؤذّن وآية الأذان

آية المحسنين

آية السابقون الأولون

آية المحبّة

آية السابقون

آية اذُن واعية

آية صالح المؤمنين

آية الإنذار والهداية

آية خير البريّة

آية الحكمة



آية ليلة المبيت ١

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

«سورة البقرة / الآية ٢٠٧»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة المعروفة بآية «ليلة المبيت» تعتبر إحدى أهم الآيات الواردة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي الفضيلة العظيمة التي لم تتحقق لأحد من المسلمين غير الإمام علي عليه‌السلام حيث تشير الآية الشريفة أعلاه إلى ما قام به الإمام علي في ليلة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ومنامه في فراشه كما سيأتي توضيحه لاحقاً.

شأن النزول

يرى كثير من علماء الشيعة وأهل السنّة أن الآية مورد البحث نزلت في حقِّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، حيث ذكروا هذا الموضوع في كتبهم إلى درجة أن هذه الواقعة قد وصلت إلى حدّ التواتر ، أي أنها من الكثرة بحيث لا يمكن إنكارها.

وخلاصة قصة ليلة المبيت كما يلي :

عند ما أحسّ أعداء الإسلام ومشركو مكّة المعاندون بخطر الإسلام والدعوة السماوية بدءوا يتحركون على مستوى التآمر والتخطيط لقمع هذا الدين الجديد في المهد وطرحوا


ثلاث خطط خطرة لمواجهة دعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : «إما أن نقتل هذا النبي ، أو نلقيه في السجن بحيث لا يتمكن أيُّ شخص من رؤيته والحديث معه ، أو نقوم بإبعاده عن أرض الحجاز» (١).

إنّ الشواهد التاريخية تشير إلى أنهم اختاروا الرأي الأوّل الذي هو أخطر الثلاثة ، واختاروا من أجل تجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع الخارجي أربعين شخصاً من مختلف قبائل العرب يتصفون بالشجاعة والمهارة ليقوموا بمحاصرة بيت النبوّة ليلاً ثمّ يتمكنوا من قتل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا صنع هؤلاء الأشخاص وجاءوا ليلاً وأحاطوا ببيت النبوّة ثمّ تسلّقوا الجدار أو نفذوا من كوة فيه وانتظروا حتّى تحين الفرصة المناسبة لقتل النبي.

ولكنّ الله تعالى أخبر نبيَّه الكريم بواسطة الوحي بمؤامرة المشركين فعزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الخروج من مكّة ، ولكنه لتحقيق هذا الهدف والتخلّص من هذه المؤامرة الشيطانية ينبغي أن يقوم بأمرين :

الأوّل : أن يقوم بالتوجّه إلى خارج مكّة وفي الطريق المعاكس لطريق المدينة ، أي أنه بدلاً من أن يتوجّه شمالاً نحو المدينة فإنّه تحرك إلى الجنوب منها لكي لا يلتفت الأعداء إلى خروجه من مكّة وهجرته إلى المدينة وليمنعهم من ملاحقته.

الثاني : لا بدّ وأن يجد الشخص المناسب لينام في مكانه لإيهام الأعداء بعدم خروج النبي من البيت فيؤخرهم عن ملاحقته والقبض عليه.

ولهذا الغرض قال لعلي ابن أبي طالب عليه‌السلام : «اتشح ببردي الأخضر ونم على فراشي».

فقال الإمام علي عليه‌السلام : إذا نمت على فراشك فهل ستنجو من الخطر وتصل إلى المدينة بسلام؟ (٢)

فقال النبيّ : نعم يا عليّ ، فسجد الإمام علي عليه‌السلام شكراً لله تعالى ، ويقال أنها أول سجدة شكر كانت في الإسلام.

__________________

(١) وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الواقعة في الآية ٣٠ من سورة الأنفال في قوله تعالى «وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».

(٢) هنا ينبغي الالتفات إلى أن الإمام علي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسأل عن الخطر الذي يهدد حياته هو ، بل كان همّه هو سلامة النبي ونجاته ، وعند ما اطمأن لسلامته رضي بالمبيت على فراش النبي بكل طيب خاطر.


وبعد أن وضع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً في فراشه خرج من مكّة متستّراً وتحرّك إلى جهة الجنوب على عكس مسير المدينة حتّى وصل إلى غار ثور ، وبعد أن يأس الأعداء من العثور عليه تحرّك إلى المدينة ووصل إليها بسلام.

لا شكّ أن ليلة المبيت كانت ليلة حسّاسة ومهمة جدّاً ومصيرية بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين وكان بطل هذه الليلة هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وعند ما كان النبي متوجّهاً إلى المدينة أوحى الله تعالى إليه بهذه الآية محل البحث حيث تحدّثت هذه الآية عن إيثار وتضحية الإمام علي عليه‌السلام العظيمة.

اعترافات علماء أهل السنّة

رأينا آنفاً ما ورد في شأن نزول هذه الآية الشريفة ولا يختص ذلك بعلماء الشيعة بل نقله الكثير من علماء أهل السنّة ، ومنهم : «الطبري» (١) ، «ابن هشام» (٢) ، «الحلبي» (٣) ، «اليعقوبي» (٤) (وكلّهم من مشاهير مؤرّخي أهل السنّة) و «أحمد» (٥) من فقهاء أهل السنّة و «ابن الجوزي» (٦) ، و «ابن الصبّاغ المالكي» (٧).

والملفت للنظر ما أورده «أبو جعفر الإسكافي» الشارح المشهور لنهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ، حيث قال في هذا الصدد :

قد ثبت بالتّواتر حديث الفراش ... ولا يجحده إلّا مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة ... وقد روى المفسّرون كلّهم : إنّ قول الله تعالى : ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله انزلت في عليّ عليه‌السلام ليلة المبيت على الفراش (٨).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٩٩ ـ ١٠١ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٢) سيرة ابن هشام : ج ٢ ، ص ٢٩١ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٣) السيرة الحلبيّة : ج ٢ ، ص ٢٩ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٩).

(٤) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢٩ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٥) مسند أحمد : ج ١ ، ص ٣٤٨ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٦) تذكرة ابن الجوزي : ص ٢١ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٧) فصول ابن الصبّاغ المالكي : ص ٣٣ (نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨).

(٨) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٦١.


والنتيجة هي أن جميع علماء الإسلام من الشيعة والسنّة متّفقون على أن آية ليلة المبيت نزلت في شأن أمير المؤمنين عليه‌السلام وما قام به من تضحية وإيثار عظيم.

الشرح والتفسير :

التجارة الرابحة

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) فبعض الناس يضحّون بأنفسهم في سبيل مرضات الله والتقرّب إليه ، وكما تقدّم أن عليّ بن أبي طالب قام بهذا العمل العظيم وباع نفسه في تلك الليلة ابتغاء مرضات الله وكان المشتري هو الله تعالى ، وقيمة هذه البضاعة هو رضا الله تعالى.

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فهل يمكن أن يتصور مفهوم اللطف والرأفة أعلى من كون الله تعالى هو الذي يشتري روح الإنسان بأغلى ثمن؟

المعاملة مع الله

هناك ثلاث آيات في القرآن الكريم تتحدّث عن المعاملة مع الله تعالى ولا بأس بالإشارة إليها وإجراء مقارنة بين مضامينها :

الآية الاولى : ما ورد في سورة التوبة الآية ١١١ :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

في هذه المعاملة والتجارة العظيمة نرى أن الله تعالى من جهة هو المشتري ، والمؤمنون والمجاهدون هم البائع ، والبضاعة الموضوعة للتجارة هي نفوس المؤمنين وأرواحهم ، والثمن هو الجنّة ، واللطيف في الأمر أن سند أو وثيقة هذه المعاملة مكتوبة في ثلاث كتب سماوية معتبرة (القرآن والإنجيل والتوراة) ، وهذه المعاملة المباركة تحدّثت عنها هذه الآية الشريفة بأنها «فوز عظيم» وباركت للبائعين على هذه الصفقة ، والحقيقة أن هذه المعاملة والتجارة


عظيمة جدّاً ، لأن المشتري فيها يشتري ما يتعلّق به وما هو ملكه بأغلى الأثمان من البائع ، ألا تعتبر هذه المعاملة من قبيل «الفوز العظيم» ، ألا تستحق التبريك والتهنئة؟

الآية الثانية : ما ورد في الآيات ١٠ ـ ١٣ من سورة الصف من موضوع تجارة اخرى بين الله وعباده حيث نقرأ في هذه الآيات الأربع :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

في هذه المعاملة المربحة نجد أيضاً أن البائع هو المؤمنين ، والمشتري هو الله تعالى ، والبضاعة أو المبيع هو نفس روح الإنسان المؤمن ، وقيمتها غفران الذنوب ودخول الجنّة ، المساكن الطيبة فيها ، النصر القريب (فتح مكّة) ، وهكذا نرى أن الله تعالى يعبّر عن هذه المعاملة والتجارة الكبيرة بعبارة «الفوز العظيم» ويبارك ويهنئ هؤلاء المتاجرون.

الآية الثالثة : ما ورد في سورة البقرة الآية ١٠٧ (الآية محل البحث) ، وكما رأينا أن البائع هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والمشتري هو الله تعالى ، والبضاعة في هذه المعاملة هو روح عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والثمن هو رضا الله تعالى.

المقارنة بين المعاملات الثلاث

رأينا أن الآيات الكريمة تتحدّث عن ثلاث معاملات وردت في سورة التوبة ، الصف ، البقرة ، وقد تقدّم شرحاً لما ورد فيها ونجد أوجه للتشابه فيما بينها من قبيل أن الله تعالى في كلّ هذه المعاملات الثلاث هو المشتري ، والبائع هم المؤمنون ، والبضاعة مورد المعاملة هي أرواح المؤمنين وأنفسهم ، ولكن هنا تفاوت في قيمة هذه الأجناس في كلِّ واحدة منها ، فتارة يشتري الله تعالى نفوس المؤمنين في مقابل الجنّة ، واخرى يشتريها بثمن أعلى ، فمضافاً إلى الجنّة هناك المساكن الطيبة وغفران الذنوب والنصر الدنيوي ، ولكن في المعاملة الثالثة وهي الآية محل البحث (آية ليلة المبيت) نرى أعلى الأثمان والقيم ألا وهو رضا الله تعالى ،


وبديهي أن رضا الله تعالى لا يمكن قياسه مع الجنّة وأمثالها من المواهب الاخروية ، واللطيف أن هذا الثمن متناسب جدّاً مع روحية الإمام علي عليه‌السلام حيث نقرأ في كلماته الجذّابة يخاطب الله تعالى ويقول :

«إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك». (١)

مقارنة اخرى

بالرغم من أن الإمام علي عليه‌السلام كان يواجه خطراً كبيراً في ليلة المبيت ولكنه نام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مسرور ولم يسمح للخوف أن يتسرب إلى نفسه ، وفي الصباح الباكر عند ما هجم الأعداء على بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورأوا بكامل الدهشة أن خطتهم قد أجهضت وأن النائم في الفراش هو عليّ بن أبي طالب ، فما كان منهم إلّا أن خاطبوا الإمام علي بكلمات موهنة ، فأجابهم من موقع الدفاع عن الدين والنبي بكلمات جميلة جدّاً تعكس شجاعة أمير المؤمنين وعقله الكبير وبأسه الشديد وسوف يأتي لاحقاً ما ورد في هذا الصدد إن شاء الله.

وأما أبو بكر فقد خرج مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخلص من الخطر ولجأ إلى غار ثور ، وعند ما سمع صوت أقدام الأعداء الذين خرجوا من مكّة في أثر النبي ، اصفر لونه وملأ الخوف والرعب قلبه ووجوده بحيث يمكن إدراك ذلك بنظرة بسيطة إلى وجهه ، ولهذا بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسليته ليزيل بعض الوحشة والخوف الذي سيطر عليه ، وعليك أن تدرك مضمون هذه الحادثة من هذا المختصر.

جمال التعبير في آية ليلة المبيت

نقرأ في آيات سورة التوبة وسورة الصف قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) و (هَلْ أَدُلُّكُمْ

_________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٧ ، ص ١٨٦.


عَلى تِجارَةٍ) ففي هذه العبارات نفهم أن الله تعالى هو المشتري ، وهو الذي يرغّب البائعين إلى بيع متاعهم وبضاعتهم ، ولكننا نقرأ في آية ليلة المبيت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) ومعنى هذه العبارة أن البائع هنا يتقدّم بعرض بضاعته ويبتدأ بالمعاملة. ومن الواضح أن التعبير الأدبي في هذه الآية الشريفة أروع وألطف ، لأن الشخص الذي يقدم نفسه على طبق الإخلاص ويعرضها للبيع لا يجد في نفسه رغبة إلّا بعد ترغيب المشتري رغم أن عمله هذا لا يخلو من التقدير بلا شك.

مضافاً إلى ذلك فإنّ الآية محل البحث تبدأ بكلمة «مِنْ» التبعيضية في قوله «وَمِنَ النّاسِ» أي أن هذا العمل العظيم لا يتمكن من أداءه إلّا بعض الناس في حين أن الآيتين السابقتين تطرح مسألة المعاملة مع الله والمعاوضة بالجنّة والنجاة من النار في إطار عام وشامل «اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ».

ارتباط آية ليلة المبيت مع الآيات التي قبلها

إذا دققنا النظر في الآيات الثلاث قبل آية ليلة المبيت أدركنا عظمة عمل الإمام علي عليه‌السلام ومقامه الرفيع عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي ذلك يقول تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

أي أن بعض المنافقين الذين يتمتّعون بظاهر جميل وخادع عند ما يرونك يظهرون المحبّة والتملق ويتحدّثون بشكل تشعر فيه بالإعجاب في حين أن باطنهم شيء آخر.

(وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)

فإن الله تعالى عالم بما يخفي هؤلاء المنافقين المخادعين رغم أنهم يشهدون الله على ما في قلوبهم ، هؤلاء الأشخاص ذوو الظاهر الأنيق والكلام الجميل هم ألدّ (١) أعداء الإسلام وهم منافقون ، وتشير هذه الآيات إلى «الاخنس بن شريق» المنافق المعروف الذي يظهر من كلامه غير ما يبطن بحيث إنّ ظاهره وكلامه يجذب كلَّ مخاطب إليه لحسن بيانه وجمال

__________________

(١) كلمة «لدود» بمعنى شديد العداء ، و «ألدّ الخصام» تعني أشدّ الأعداء.


مظهره حيث كان يتظاهر بالقداسة والإيمان والتقوى ولكنه في الواقع شخصية منحطّة وسافلة ولا يعتقد بالله ولا برسوله إطلاقاً (١).

وفي الآية التي تليها يشير الله تعالى إلى واقع هذا الشخص «الأخنس» ونفاقه في حركة الحياة والواقع الاجتماعي :

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)

فمن علامات نفاق الأخنس وسائر المنافقين هو أنهم عند ما يخرجون من مجلسك يتحركون في حياتهم الفردية والاجتماعية من موقع الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل رغم علمهم بأن الله تعالى لا يحبُّ هذه الأعمال القبيحة (٢) ، وطبعاً هناك احتمال أن كلمة «تولّى» تعني الولاية والحكومة ، أي أن هؤلاء الأشخاص إذا استلموا زمام الامور وتولّوا أمر الحكومة والسلطة أفسدوا في الأرض وزرعوا بذور النزاعات والفساد والانحطاط وعملوا على تخريب المزارع وإهلاك الأنعام.

وقد ورد أنّ «الأخنس» جاء إلى منطقة في بلاد الإسلام وشرع في الإفساد وتخريب مزارع المسلمين في تلك المنطقة وقتل أغنامهم وحيواناتهم (٣) ، ولكنه عند ما جاء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله شرع بالتملّق والتحدّث بكلمات معسولة خادعة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)

وعند ما يسعى المؤمن في نصيحة هؤلاء الأشخاص وتحذيرهم من مغبّة هذه الأعمال ويحثّهم على تقوى الله تعالى واجتناب الأعمال الإجرامية ، والخلاصة عند ما يتحرّك على مستوى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فإن هؤلاء المنافقين ليس فقط لا يستمعون إلى

__________________

(١) التفسير الأمثل ، الآية مورد البحث.

(٢) هذه الآية الشريفة تقرر أن الإسلام قبل ١٤٠٠ عام كان يهتم بشكل خاصّ بالمحافظة على البيئة والطبيعة حيث يعبّر عن تخريب البيئة ب «الإفساد في الأرض» وجعل ذلك من علامات النفاق والعداوة للإسلام ، وتوجد في سائر الآيات القرآنية شواهد كثيرة على اهتمام الإسلام بحفظ الطبيعة.

(٣) التفسير الأمثل : ذيل الآية مورد البحث.


النصيحة بل يزدادون عناداً وغروراً وتعصّباً ويصرّون على أعمالهم الدنيئة من موقع العناد والتكبّر ، ومن الواضح أن مصير هؤلاء الأشخاص لا يكون سوى جهنم.

والخلاصة أن القرآن الكريم يصوّر لنا في هذه الآيات الثلاث عناد أعداء الإسلام وسلوكياتهم المنحرفة ، وعند ما نضع هذه الآيات إلى جانب آية ليلة المبيت فلا بدّ أن يتحول الكلام إلى استعراض أحبّ الأشخاص إلى الله وأكثرهم إيماناً وانشداداً للإسلام والمسلمين ، وعليه فإنّ الإمام علي الذي نزلت في حقّة آية ليلة المبيت وقدّم نفسه على طبق الإخلاص فداءً للنبي هو أحبّ الأشخاص إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبلا شكّ إنّ علاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأشخاص لا تكون إلّا على أساس إيمانهم وحبّهم لله تعالى لا على أساس العواطف الساذجة والميول الدنيوية.

ارتباط آية ليلة المبيت بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام

سؤال : ما هي علاقة الآية الشريفة «ليلة المبيت» مع إمامة وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعنوانه أوّل خليفة بعد رسول الله وإمام المسلمين؟ وبعبارة اخرى إنه على فرض قبول أهل السنّة بأن الآية أعلاه نزلت في شأن علي بن أبي طالب ، ولكن كيف يمكن إثبات أن هذه الآية تدلُّ على خلافة وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة؟

الجواب : رأينا في الأبحاث المتقدّمة أن الإمام علي عليه‌السلام يعتبر أشجع المسلمين وأكثرهم تضحية وإيثاراً وأخلصهم لله تعالى ، ومن جهة اخرى نعلم أن إمام المسلمين وخليفة رسول الله يجب أن يكون أعلم الناس وأشجعهم وأكثرهم إيماناً وإيثاراً ، وعلى هذا الأساس فإنه إذا كانت مسألة الإمامة والخلافة انتصابية ، أي أن الله تعالى هو الذي ينصب الخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه مع وجود الإمام علي عليه‌السلام الذي يحوز على الشرائط المذكورة للإمامة ، فلا معنى لأن يختار الله شخصاً آخر غيره ويعمل على خلاف مقتضيات الحكمة الإلهية ، وإذا كانت هذه المسألة انتخابية (كما يعتقد الاخوة من أهل السنّة) فإنّ مقتضى العقل هو أن لا يختار المسلمون شخصاً آخر غير من تتوفر فيه هذه الصفات ، وعليه فإنّ انتخاب غير الإمام علي عليه‌السلام يكون على خلاف مقتضيات العقل والشرع.


الجواب عن بعض الشبهات

وقد نرى من البعض أنهم يسعون في تفسير الآية الشريفة بعيداً عن المفهوم منها والمدلول الحقيقي لها وذلك لما تحمل هذه الآية الشريفة من مضامين تتعلق بمسألة الخلافة والإمامة ، حتّى لا يتمكن أحد من الاستدلال بها على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهنا نستعرض بعض الشبهات وعلامات الاستفهام ونجيب عنها :

١ ـ آية ليلة المبيت تتعلق بالآمرين بالمعروف

العلّامة الطبرسي وهو المفسّر الشيعي المعروف نقل رواية مرسلة عن أهل السنّة تتحدّث عن هذه الآية الشريفة وأنها نزلت في شأن من قتل في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١) وعليه فإنّ الآية محل البحث لا ترتبط بشكل أو بآخر بخلافة أمير المؤمنين وإمامته.

الجواب : إن سياق آية ليلة المبيت يدلُّ على أن الآية المذكورة ليست واردة في شأن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، لأنه طبقاً لما تقدّم من الشرح والتفسير أن هناك خطر كبير يهدد الشخص مورد نظر الآية ، وهو الخطر الذي يصل إلى حدّ الموت والقتل ، ومثل هذا الخطر قلّما يتفق للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وعليه فإن سياق الآية الشريفة يوحي إلى أنها لا ترتبط بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مضافاً إلى أن الرواية المذكورة مرسلة وليست بحجّة.

٢ ـ إنّ الآية مورد البحث واردة في شأن أبي ذرّ

ويرى البعض أن الآية الشريفة واردة في شأن أبي ذرّ الغفاري (٢) الصحابي المعروف للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ترتبط بمسألة إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلافته.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠١.

(٢) اسم أبي ذر «جندب» واسم أبيه «جنادة» وقيل «السكن» ، وكان من كبار صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجلاً عظيماً وجليلاً ، ويعدّ من الأشخاص الذين لم يبايعوا أبا بكر. (مستدركات علم الرجال : ج ٢ ، ص ٢٤٠).


الجواب : إنّ هذا الرأي بعيد عن الصواب ومجانب للواقع ، لأن الشواهد التاريخية تدلُّ على أن أبا ذرّ الغفاري لم يتعرض لحادثة مهمة تهدد حياته بالخطر في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه لا يمكن التصديق بأن هذه الآية الشريفة نازلة في حقّه رغم أن شخصية أبي ذرّ وخدماته العظيمة وخاصّة بعد رحلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عصر السكوت والإرهاب لا غبار عليها ولا يمكن إنكارها.

٣ ـ إنّ الآية الشريفة تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار

وذهب البعض إلى أن آية ليلة المبيت تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار (١) ، أي أن جميع المسلمين في زمان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحين نزول هذه الآية كانوا مشمولين لمضمونها ، وعليه فإنّ الآية محل البحث لا تختص بالإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

الجواب : إنّ بطلان هذا الكلام من أوضح الواضحات لأن الآية الشريفة تصرّح بأن هذا الافتخار والكرامة يختصّ ببعض المسلمين وغير شاملة لجميع أفراد المجتمع الإسلامي ، وعليه لا يمكن ادعاء أن جميع المهاجرين والأنصار مشمولين لآية ليلة المبيت.

٤ ـ هل يعلم الإمام علي عليه‌السلام بموته أو حياته؟

سؤال : هل إنّ الإمام علي عليه‌السلام كان عالماً بعاقبة هذا العمل؟ وهل إنه كان يعلم بأنه سوف ينجو من هذا الخطر الكبير ويبقى حيّاً بعد هذه الواقعة أم لا؟

إذا كان يعلم أن المشركين لا يتمكنون من قتله وانه سيبقى على قيد الحياة فإن مبيته في فراش النبي لا يمثّل قيمة وافتخار كبير ، وإن لم يكن يعلم فسيكون لهذا العمل قيمة كبيرة ولكنّ الإشكال يردُ من جهة اخرى ، وهو أن الأئمّة يعلمون الغيب فكيف لم يعلم الإمام علي عليه‌السلام بعاقبة هذا العمل؟

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠١.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٣٠١.


الجواب : طبقاً لتحقيقات العلماء وتصريح بعض الروايات أن علوم الأئمّة بالنسبة إلى الغيب والمستقبل هي من العلوم الإرادية ، أي أنهم لو أرادوا أن يعلموا لعلموا ، وإن لم يريدوا ذلك لا يعلمونه (١) ، فمن الممكن في هذه الواقعة إنّ الإمام علي عليه‌السلام لم تتعلق إرادته بمعرفة عاقبة هذا العمل ونهايته ، ولذلك كان احتمال الخطر مرتسماً في ذهنه ، ومع ذلك كان مستعداً للتضحية والإيثار العظيم ، وعلى هذا الأساس فإن الواقعة المذكورة تعدّ افتخاراً كبيراً لأمير المؤمنين عليه‌السلام ولا تتنافى مع علم الغيب للأئمّة ، والالتفات إلى هذه النكتة بإمكانه أن يزيل الكثير من الشبهات والإشكالات حول علم الأئمّة للغيب.

سؤال : لقد قلت «إنّ الإمام علي عليه‌السلام لم تتعلق إرادته بأن يعلم مصيره ولذلك فإنّ احتمال الخطر موجود ومع ذلك بات الإمام علي عليه‌السلام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ذلك فضيلة كبيرة ومنقبة عظيمة له» في حين أنه قد ورد في بعض الروايات إنّ الإمام كان مطّلعاً على أنه سوف لا تصيبه مصيبة وسوف لا يواجه مشكلة في هذه العمل وقد ضمن له النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله السلامة والنجاة من الخطر (٢) ، وعليه فكيف تعدّ آية ليلة المبيت فضيلة ومنقبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام؟

الجواب : يمكننا الجواب على هذا الإشكال بصورتين :

الف : إنّ هذه الرواية مرسلة ولا سند لها وقد أوردها العلّامة الأميني بصورة مرسلة عن تفسير الثعلبي (٣) ، وبما إنها تفتقد إلى السند فلا يمكن الاعتماد عليها (٤).

ب : هناك ثلاث شروط لقبول الرواية : الأوّل هي أن يكون سند الرواية معتبر ، الثاني : أن لا تكون الرواية مخالفة لآيات القرآن الكريم ، الثالث : أن تكون مقبولة لدى علماء الدين ،

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يرجى مراجعة نفحات القرآن : ج ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٦٢.

(٣) الغدير : ج ٢ ، ص ٤٨.

(٤) يقول أبو جعفر الإسكافي استاذ ابن أبي الحديد في جوابه على هذا الإشكال بأن هذا الكلام كذب صريح ولم ويرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه تكلم بهذا الكلام ، والرواية المذكورة إنما هي من المجعولات لرجل يدعى (أبو بكر الاصم) الذي أخذ عنه الجاحظ هذه الرواية (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٦٣).


والرواية المذكورة مضافاً إلى ضعف سندها فهي غير مقبولة ومخالفة للقرآن الكريم ، لأن الله تعالى ذكر هذا العمل لأمير المؤمنين في آية ليلة المبيت من موقع المدح والثناء والتمجيد وعبّر عنه بأنه معاملة مع الله تعالى في حين أن الرواية المذكورة على فرض اعتبار سندها فإنّ عمل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفقاً لهذه الرواية ليست له قيمة وأهميّة خاصّة بل هو بمثابة أمر عادي ، وعليه لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية المخالفة لآية من آيات القرآن الكريم بحيث يمكن من خلالها تهميش هذا العمل العظيم الذي قام به أمير المؤمنين عليه‌السلام (فتدبّر).

٥ ـ من هو المخاطب للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

سؤال : ويرى البعض أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما أراد أن يضع شخصاً مكانه في الفراش في تلك الليلة قال للمسلمين : أيكم مستعد لأن يبيت في فراشي في هذه الليلة؟ ولم يتقدّم أحد سوى علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث أظهر موافقته على استقبال هذا الخطر.

فهل هذا المطلب صحيح ، أو أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدّث في هذا المورد إلى الإمام علي عليه‌السلام خاصّة؟

الجواب : نحن لم نر في الكتب المعتبرة أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله طرح هذا الموضوع بين أصحابه ، مضافاً إلى أن هذا المطلب لا ينسجم مع العقل ، لأن هذا الموضوع لو سمعه جميع الأصحاب فسوف يفتضح الأمر ويصل الخبر إلى أعداء الإسلام الذين كانوا يتآمرون على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالتالي سيتحركون للتصدي لهذا العمل وإجهاضه ، ولهذا نعتقد بأن هذه الخطّة والفكرة تمّت بسريّة كاملة ، ولم يعلم بها سوى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام وبعض الأشخاص الآخرين ، وأما سائر المسلمين فكانوا لا يعلمون بها.

بقي هنا امور

١ ـ أشعار حسّان ابن ثابت في وصف الواقعة

كان حسّان ابن ثابت (١) من الشعراء المعاصرين للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وله علاقة خاصّة في

__________________

(١) ولد حسان بن ثابت قبل ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بثمان سنوات وبقي بعده مدّة طويلة فكان من الشعراء المعمّرين


الخليفة الحقيقي للنبي فقد أنشد قصائد رائعة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وخاصّة في واقعة غدير خم التاريخية وبعض أبياتها يتعلق بحادثة ليلة المبيت كما وردت في كتب المؤرّخين :

مَنْ ذا بِخاتَمِهِ تَصَدَّقَ راكِعاً

وَاسَرَّها فِي نَفْسِهِ إسْراراً

مَنْ كانَ باتَ عَلى فِرَاشِ مُحَمَّدٍ

وَمُحَمَّدٌ اسْرى يَؤُمُّ الْغارا

مَنْ كانَ فِي الْقُرْآنِ سُمّىَ مُؤْمِناً

فِي تِسْعِ آياتٍ (١) تُلينَ غَزاراً (٢)

والخلاصة إنّ حادثة ليلة المبيت كانت معروفة ومشهورة إلى درجة أنها انعكست في قصائد شعراء العرب.

٢ ـ مصير الإمام علي عليه‌السلام في تلك الليلة

بعد أن عقد أعداء الإسلام العزم على مؤامرتهم في القضاء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرروا أن يهجموا على بيته ليلاً وينفذون مؤامرتهم ، ولكن أحد قادة المشركين «أبو جهل أو أبو لهب» منعهم من هذا العمل وقال : لا تهجموا عليه ليلاً لأن من المحتمل أن تكون في البيت زوجته وأطفاله وسيصيبهم الخوف والرعب وهم أبرياء (٣).

__________________

حيث ناهز عمره على المائة وعشرين سنة ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوضع منبر خاص لحسّان في مسجده وأحياناً كان يأمره بأن يرتقي هذا المنبر وينشد الشعر ، وقد أخذ البعض عليه بأن المسجد ليس محلاً لإنشاد الشعر ، ولكن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم بأن أشعار حسّان أثرها «أشدّ من النبال» ، وبعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعرض حسّان إلى نوع من عدم الاهتمام به من قبل الخليفة الأوّل والثاني حيث منعاه من إنشاد الشعر في مسجد النبي ، ولا يخفى على القارئ الكريم السبب في هذا المنع ، نعم إن جريمته هي الدفاع عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام بطل واقعة الغدير ، وقد ترك هذا الشاعر المخضرم ديواناً موجوداً لحدّ الآن أودع فيه قصائده وأشعاره في وصف الخليفة الحقيقي للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(١) وقد ذكر العلّامة الأميني هذه الآيات التسع وأضاف إليها واحدة ، وهي كالتالي : ١ ـ الآية ١٨ من سورة الكهف ، ٢ ـ الآية ٦٢ من سورة الأنفال ، ٣ ـ الآية ٦٤ من سورة الأنفال ، ٤ ـ الآية ٢٣ من سورة الأحزاب ، ٥ ـ الآية ٥٥ من سورة المائدة ، ٦ ـ الآية ١٩ من سورة التوبة ، ٧ ـ الآية ٩٦ من سورة مريم ، ٨ ـ الآية ٢١ من سورة الجاثية ، ٩ ـ الآية ٧ من سورة البيّنة ، ١٠ ـ سورة والعصر. (الغدير : ج ٢ ، ص ٤٩ ـ ٥٨).

(٢) الغدير : ج ٢ ، ص ٤٧.

(٣) قارن بين هذا العمل وبين مدّعيات القوى التي تدعي حقوق الإنسان ليتضح جيداً أنهم أكثر توحشاً


ولهذا السبب أخّروا هجومهم إلى بواكر الصباح ، وعند ما حانت اللحظة المناسبة وهجموا على بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يقصدون قتله ، قام الإمام علي عليه‌السلام من الفراش قبل أن يصلوا إليه وصاح بهم : ما ذا تريدون؟

وعند ما تفاجأ المشركون بهذا الأمر ورأوا علي ابن أبي طالب في فراش النبي أخذتهم الدهشة وقالوا : يا عليّ نحن نريد محمّداً فأين هو؟

فأجابهم : هل أودعتموه عندي حتّى تطلبوه مني؟

فتحيّروا في جوابه وما ذا يصنعون به ، هل يقتلونه أو يتركونه؟ فقال أبو جهل : لنترك هذا الشاب المغامر فقد خدعه محمّد وأنامه في فراشه لينجو بنفسه.

فلمّا سمع الإمام علي عليه‌السلام بهذه الكلمات الموهنة له ولرسول الله قال بمنتهى الشجاعة والجرأة :

أَلي تَقُولُ هذا يا ابا جَهْل! إن الله قَدْ اعْطانِي مِنَ الْعَقْلِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاءِ الدُّنْيا وَمَجانينِها لَصاروُا بِهِ عُقلاءَ ، وَمِنَ الْقُوَّةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ ضُعَفاءِ الدُّنْيا لَصاروُا بِهِ اقْويَاءَ ، وَمِنَ الشُّجاعَةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَميعِ جُبَناءِ الدُّنْيا لَصاروُا بِهِ شَجْعاناً. (١)

فأنا قد عرفت نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنت بالإسلام عن معرفة ولذلك تقدّمت إلى هذا العمل بكلِّ إخلاص وإيمان ، وبعد أن حدثت بينهما مشادّة خرج أعداء الإسلام من بيت النبوّة خجلين وآيسين وخرج الإمام علي عليه‌السلام من هذه الواقعة مرفوع الرأس ومسروراً لأدائه المهمة الرسالية.

٣ ـ الله تعالى يباهي بإيثار أمير المؤمنين عليه‌السلام

لقد أورد «الثعلبي» وهو أحد مفسّري أهل السنّة المعروفين للآية مورد البحث ، رواية

__________________

وهمجية من العرب الجاهليين ، لأننا نرى في هذا العصر هجوم أمريكا وبريطانيا على افغانستان بصورة وحشية حيث لم يرحموا النساء والأطفال والشيوخ ، وحتّى المرضى في المستشفيات لم يسلموا من تعرضهم وأذاهم.

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨٣.


جميلة وجذّابة حول حادثة ليلة المبيت نذكرها هنا كما رواها هو :

«لما عزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الهجرة إلى المدينة ، ترك علي بن أبي طالب في مكّة ليؤدي الديون التي عليه والأمانات إلى أهلها ، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه ، وقال له : اتشح ببردي الأخضر ونم على فراشي فإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله ، ففعل ذلك علي عليه‌السلام فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي؟ آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، أهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي :

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ ابِي طالِبٍ ، مَنْ مِثلُكَ؟ وَقَدْ باهَى اللهُ بِكَ مَلائِكَةَ السَّمَاوَاتِ وَفَاخَرَ بِكَ(١)».

فهل يتصور مقام أعلى من هذا المقام؟!

ومن هنا ندرك أن الشيعة عند ما يعظّمون أهل هذا البيت ويتبعون أمير المؤمنين عليه‌السلام فإن ذلك لا يعني التعصّب الأعمى على مستوى الحساسيّة المذهبية بل بسبب مقاماته المعنوية السامية وفضائله الكثيرة.

توصية الآية

كلّ شيء في سبيل نيل رضا الله

بالرغم من أن الآية الشريفة كما أشرنا سابقاً ، نزلت في ليلة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي شأن الإمام علي عليه‌السلام ، ولكنها كسائر الآيات القرآنية تتضمن حكماً كلياً وعاماً ، فمن حيث إن هذه الآية تقع في مقابل الآية السابقة «وَمِنَ النّاس مَنْ يُعْجِبُكَ ...» فيتضح جيداً أن هذه الطائفة من الناس التي تشير إليها هذه الآية محل البحث تقع في مقابل الطائفة السابقة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٨٥.


ويتمتع أفرادها بصفات وخصائص تقع في النقطة المقابلة لصفات اولئك وخصائصهم ، فاولئك أفراد يتسمون بالأنانية والغرور والعناد والتكبّر ويتعاملون مع الناس بلغة النفاق والرياء ويتظاهرون أنهم إنما يريدون الإصلاح ويتحركون في خطّ الإيمان ظاهراً ولكنّ سلوكهم وأفعالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وهلاك الحرث والنسل ، ولكن هذه الطائفة في آية ليلة المبيت لا يتعاملون مع أحدٍ سوى الله تعالى ولا يبخلون بشيءٍ في سبيله ولا يطلبون سوى رضاه ولا يرون العزّة والكرامة إلّا تحت ظلّه وعنايته ، ولذلك فإنّ أمر الدين والدنيا يتقوّم بتضحية هؤلاء وحركتهم الإصلاحية في خطّ الرسالة والمسئولية والحقّ والحقيقة (١).

إنّ توصية هذه الآية الشريفة لجميع المسلمين هو أن يخرجوا من أجواء الطائفة الاولى ويدخلوا في أجواء الطائفة الثانية ...

وطبعاً ليس هذا بالأمر الهيّن.

__________________

(١) التفسير الأمثل : ذيل الآية مورد البحث.



آية سقاية الحاج ٢

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

«سورة التوبة / الآيات ١٩ ـ ٢٢»

أبعاد البحث

في هذه الآية الشريفة التي تعرف بين المفسّرين بآية «سقاية الحاج» نواجه فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه‌السلام حيث تفضي إلى إثبات إمامته وخلافته بعد رسول الله ، وتبيّن أن الأشخاص الذين يرون أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام تساوي الإيمان بالله والهجرة والجهاد في سبيله ، بعيدون عن طريق الصواب ، وسيأتي تفصيل ذلك في طيّات البحث.

شأن النزول

إنّ آية «سقاية الحاج» تخبرنا عن حادثة وقعت في عصر الرسالة ولا تهدف إلى بيان


قانون كلّي في ذلك ، أي أن هذه الحادثة والمقارنة المذكورة في الآية الشريفة وقعت عملاً في الواقع الخارجي ، فللآية الشريفة شأن نزول خاصّ ولهذا ذكر لها موارد عديدة في شأن نزولها وخلاصة ما ورد في شأن النزول المعروف لها هو :

إنّ العبّاس ابن عبد المطلب وشيبة قعدا يفتخران في المسجد الحرام فقال العبّاس لشيبة : أنا أشرف منك ، أنا عمّ رسول الله ووصي أبيه وساقي الحجيج (١).

فقال شيبة : أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته وخازنه (٢) ، أفلا ائتمنك كما ائتمنني؟

فاطلع عليهما عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام فأخبراه بما قالا فقال علي : أنا أشرف منكما ، أنا أوّل من آمن وهاجر «وعليه فإنه لا افتخار في سقاية الحاج أو عمارة المسجد الحرام» بل الفخر بالإيمان بالله والهجرة في خطِّ الإيمان به والجهاد في سبيله.

فلما سمع العبّاس ذلك انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر له ما جرى بينه وبين الإمام علي عليه‌السلام وشكاه عنده على أساس أن الإمام علي عليه‌السلام قد ادحض حجّته وأهمل مقامه ومنزلته.

فأرسل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله شخصاً في طلب الإمام علي فعند ما حضر بين يديه سأله النبي عن الواقعة وقال له : ما ذا قلت لعمّك العبّاس حتّى أغضبته؟

فقال عليّ عليه‌السلام : لم أقل سوى الحقّ ولكن عمّي غضب من كلام الحقّ ، ثمّ بيّن لرسول

__________________

(١) المراد من «سقاية الحاج» هو إيصال الماء إلى الحجاج في منى وعرفات والمشعر الحرام حيث لا يوجد في هذه الأمكنة الثلاثة ماء إطلاقاً ، وحتّى في هذا الزمان يتم إيصال الماء إلى هذه المناطق بواسطة أنابيب من مناطق اخرى ، وكان الحجاج في قديم الزمان مضطرين لحمل الماء معهم في أيّام الحجّ إلى هذه الأماكن ، ولهذا قيل عن اليوم الثامن من ذي الحجّة «يوم التروية» ، وعلى أيّة حال فقد كان العبّاس في ذلك الزمان مسئولاً عن إيصال الماء إلى الحجيج ، وبديهي أن هذه المسئولية كانت مهمة جدّاً في ذلك الوقت لأن أهم حاجة للحجاج في تلك الأماكن هو الماء.

(٢) نظراً إلى أهمية «المسجد الحرام» والذي يعبّر عنه القرآن الكريم أنه أوّل بيت وضع للناس ويعدّ أقدس مكان على ظهر الأرض بحيث ورد في الروايات أن ركعة واحدة عنده تعادل مليون ركعة في مناطق اخرى ، فإنّ استلام مفاتيح هذا البيت المقدّس و «عمارة المسجد الحرام» لها أهمية خاصّة ومكانة مميزة حيث تكون لصاحب هذه المكانة مسئولية حفظ وحراسة الكعبة المشرّفة وترميم المسجد الحرام ورعايته.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المحادثة التي جرت بينهم وأضاف إنني لم أكن في مقام التظاهر بالفخر والتعريف بنفسي بل أردت أن أقول أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا تعتبر أرقى افتخار يناله الإنسان بل هناك مقامات أعلى وافتخارات أكبر من ذلك ، وهنا نزلت الآية الشريفة محل البحث وأيّدت كلام الإمام علي عليه‌السلام (١).

وقد ورد شأن النزول هذا في اثني عشر كتاباً على الأقل معروفاً لدى أهل السنّة تتحدّث عن تفسير القرآن ، أو التاريخ الإسلامي ، أو الروايات الشريفة فمن ذلك :

١ ـ أسباب النزول لمؤلفه العلّامة الواحدي (٢).

٢ ـ تفسير العلّامة خازن البغدادي (٣).

٣ ـ تفسير العلّامة القرطبي (٤).

٤ ـ تفسير الفخر الرازي (٥).

٥ ـ الدرّ المنثور للعلّامة السيوطي (٦).

٦ ـ تفسير أبو البركات النّسفي (٧).

٧ ـ الفصول المهمّة للصبّاغ المالكي (٨).

٨ ـ كفاية الطالب للگنجي الشافعي (٩).

٩ ـ تاريخ الخطيب البغدادي (١٠).

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٤٩ ببعد.

(٢) أسباب النزول : ص ١٨٢ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٣).

(٣) تفسير الخازن : ج ٣ ، ص ٥٧ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٢٣).

(٤) تفسير القرطبي : ج ٨ ، ص ٩١ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٥).

(٥) تفسير الفخر الرازي : ج ١٦ ، ص ١٠ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٥).

(٦) الدرّ المنثور : ج ٣ ، ص ٢١٨ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٦).

(٧) تفسير النّسفي : ج ٢ ، ص ٢٢١ (نقلاً من الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤).

(٨) الفصول المهمّة : ص ١٠٦ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٦).

(٩) كفاية الطالب : ص ١١٣ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٢٥).

(١٠) تاريخ الخطيب البغدادي : نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.


١٠ ـ مناقب ابن المغازلي (١).

١١ ـ تاريخ ابن العساكر (٢).

١٢ ـ ربيع الأبرار للزمخشري (٣).

وعلى هذا الأساس فإن شأن النزول المذكور لا يدانيه شك ولا ريب.

ملاحظة مهمّة!

بلا شكّ كان العبّاس ابن عبد المطلب عند نزول آية سقاية الحاج مؤمناً مجاهداً وهكذا الحال مع «شيبة» فقد كان مؤمناً وله سوابق جهادية ، إذن فكيف افتخر الإمام علي عليه‌السلام بإيمانه وجهاده عليهما والحال أنهما يتصفان بصفة الإيمان والجهاد أيضاً؟

وجواب هذا السؤال هو أن الإمام علي عليه‌السلام أراد أن يقول لهما أنا أوّل شخص آمنت بالله وبرسوله من الرجال وأوّل شخص هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل مجاهد في سبيل الله ورسوله ، وبهذا فقد سبقهما في الإسلام والهجرة والجهاد ، وهذه الفضيلة منحصرة في عليّ بن أبي طالب.

الشرح والتفسير : الإيمان بالله ، أفضل الامور!

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ)

من هذا السياق للآية الشريفة يتّضح جيّداً وقوع مثل هذه المقارنة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة ، وبين الإيمان بالله والجهاد في سبيله من جهة اخرى ، ولكن الله تعالى قرّر أنّ هذه المقارنة غير صحيحة وغير سليمة فإنّ الإيمان بالله واليوم الآخر

__________________

(١) مناقب ابن المغازلي : نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.

(٢) تاريخ ابن العساكر نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.

(٣) ربيع الأبرار نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٤ و ٥٥.


والجهاد في سبيل الله لا يقارن مع سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لأن الإيمان والجهاد بلا شكّ أعلى وأفضل من السقاية والعمارة.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ولعلّ هذا التعبير يشير إلى أن المقارنة المذكورة ليست فقط غير صحيحة بل هي نوع من الظلم للشخص الذي سبق الناس في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) فهؤلاء الذين تحركوا بهدف حفظ إيمانهم ونشر الدين والرسالة السماوية من موقع الهجرة وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وإعلاء كلمته هم أفضل عند الله وأعظم درجة.

وبعد أن يردّ الله تعالى في الآية الاولى أصل المقارنة المذكورة يعبّر عنها بأنها نوع من الظلم ويصرّح في هذه الآية بأن الإيمان والهجرة والجهاد أهم وأعظم من السقاية والعمارة.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) فبعد أن يردّ على المقارنة المذكورة ويصرح بأن الإيمان والجهاد والهجرة أفضل وأعظم يشير في الآيتين التاليتين إلى عاقبة أهل الإيمان والجهاد والهجرة ويبشّرهم بما يلي :

١ ـ إنّ الله تعالى يبشّر هؤلاء بأنهم مشمولين برحمته ومرتبة القرب منه.

٢ ـ البشارة الاخرى هي أن الله تعالى قد رضي عنهم ، وما أعظم النعمة في أن يعلم الإنسان بأن محبوبه ومعبوده راضٍ عنه!

٣ ـ (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وليست البشارة بجنّة واحدة بل ورد التعبير بجنّات ونِعم ومواهب خالدة في ذلك العالم ، ومعلوم أن أحد معايب النِّعم الدنيوية هي أنها معرّضة للزوال والفناء ولكنّ النِّعم والمواهب الاخروية خالدة وباقية أبداً.

(أَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فهل أن هذه الجملة بشارة إلى نعمة اخرى قد أعدّها الله تعالى لأهل الإيمان والجهاد والهجرة مضافاً إلى رحمة الله ورضوانه والجنّات الخالدة ، وهي النعمة التي لا يمكن للإنسان أن يتصورها ولا يقدر على وصفها ولذلك أجملت الآية بيانها ، أو أنها إشارة إلى النِّعم والمواهب المذكورة آنفاً وهي تأكيد لها.

كلا الاحتمالين واردان في مفهوم الآية الشريفة.


ارتباط آية سقاية الحاج مع الإمامة

بما أن الإمام علي عليه‌السلام يتمتع بفضيلة السبقة إلى الإيمان والجهاد وليس أحد من المسلمين غيره يتمتع بهذه الفضيلة ، فعليه يكون الإمام علي عليه‌السلام أفضل المسلمين ، ومن الواضح أن الله تعالى إذا أراد نصب خليفة لرسوله فإنه لا يتجاوز الأفضل فيختار المفضول بل وحتّى الفاضل ، لأن الله تعالى حكيم وتقديم المفضول على الفاضل والفاضل على الأفضل يخالف مقتضى الحكمة الإلهية ، ولو كانت مسألة الخلافة انتخابية فإنّ عقلاء الناس لا يتوجهون ويختارون الفاضل أو المفضول مع وجود الأفضل ، وعليه فإنّ هذه الآية الشريفة يمكنها أن تكون دليلاً لإثبات إمامة أمير المؤمنين.

اعتراف أحد علماء السنّة

وقد ذكر أحد علماء السنّة أنه :

«أنتم الشيعة يمكنكم إثبات جميع اصول الدين التي تعتقدون بها بواسطة الروايات الموجودة في كتبنا ، لأن كتبنا ومصادرنا الروائية مليئة بالروايات التي تؤيد عقائدكم وآراءكم».

ثمّ أضاف يقول : «إنّ قدماءنا كانوا سطحيين وساذجين حيث كانوا ينقلون أيّة رواية تصل إليهم في كتبهم» (١).

ونحن نتعجب من هذا التناقض ، لأنهم يذكرون بالنسبة إلى كتبهم ومصادرهم وخاصّة «الصحاح الستة» على مستوى التعريف والثناء والمدح :

«إنّ روايات هذه الكتب منتخبة بدقّة كبيرة وجميع الروايات المذكورة فيها معتبرة لأنه أحياناً يتمُّ انتخاب عدد قليل من الروايات من بين ألف رواية» (٢).

__________________

(١) ما هو المراد من هذا الكلام؟ هل أن مرادهم هو أن هذه الروايات معتبرة إلّا أنه لا ينبغي ذكرها لأنها تخالف ذوق هؤلاء الأشخاص؟ أو أن هذه الروايات غير معتبرة أساساً؟ وفي هذه الصورة فما هي الضمانة لاعتبار سائر الأحاديث والروايات الواردة في كتب الصحاح؟!

(٢) يقول الإمام البخاري أحد أصحاب الصحاح الستة : «إنّ أحاديث هذا الكتاب (والتي تبلغ أكثر من سبعة


ألا يتناقض هذا الكلام مع كلام ذلك العالم السنّي المذكور آنفاً؟ إنّ هذه الأشكال من التناقض هي نتيجة نوعية التفكير لدى الإنسان الذي يؤمن أوّلاً ثمّ يتوجه نحو الآيات والروايات الشريفة ويحاول إسقاط عقائده عليها ، ولو أن الإنسان حضر مقابل الآيات والروايات وجلس متتلمذاً عندها ومستوحياً من مضامينها ومرتوياً من منهلها فإنه سوف لا يواجه مثل هذا التناقض العجيب.

توصية الآية

الاتّباع العملي لأولياء الدين

إنّ بيان فضائل ومناقب الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وخصوصيّاتهم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية أمر جيّد وضروري ولكنه لا يكفي في مقام الاعتقاد والإيمان بل ينبغي على الإنسان أن يجعلهم اسوة وقدوة له في ممارساته وسلوكياته في حركة الحياة والواقع الاجتماعي ، وفي الآيات مورد البحث نقرأ ثلاثة امور بعنوان أنها أركان الدين ، وأن الإمام علي عليه‌السلام قد بلغ ما بلغ من المرتبة السامية بسبب حركته في خطّ هذه الأركان الثلاثة وهي : الإيمان ، الهجرة ، الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس. فإذا أردنا الاقتداء بالإمام علي عليه‌السلام وبأولياء الدين فلا بدّ من تجسيد هذه الاصول الثلاثة في حياتنا العملية وإحيائها في أعماق وجودنا وقلوبنا.

ومن أجل تقوية الإيمان في وجودنا هناك طريقان : الأوّل : مطالعة ودراسة الشيء الذي نؤمن به ، مثلاً لأجل تقوية إيماننا بالله وتعميقه في قلوبنا لا بدّ من النظر والتفكّر في أسرار عالم الخلقة والسعي إلى زيادة الآفاق العلمية في أسرار الكون وآيات الكتاب السماوي كما يحثّنا القرآن دائماً على ذلك ، والخلاصة هي أن تعميق الإيمان بأي شيء يحتاج إلى دراسة ذلك الشيء والانفتاح الفكري على تفاصيله.

__________________

آلاف حديثاً صحيحاً) قد استخلصها من بين ستمائة ألف رواية وفي مدّة ١٦ سنة» ـ انظر صحيح البخاري : ج ١ ، ترجمة الإمام البخاري ـ.


الثاني : هو طريق بناء الذات وتهذيب النفس وتطهير القلب من شوائب التعلّقات الدنيوية ، لأن الإيمان نور يشرق على قلب الإنسان ، وكلّما كانت مرآة القلب صافية وشفافة انعكس النور عليها بصورة أفضل ، فلو كان القلب ملوثاً بالخطايا والذنوب فإنّ مرآة القلب لا تعكس نور الإيمان حينئذٍ بصورة جيّدة.

وأما بالنسبة إلى الهجرة فقد يتصور البعض أن هذا الأصل المهم في أجواء الدين السماوي خاصٌّ بالمسلمين في صدر الإسلام ، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة انتهى عهد الهجرة في حين أن روايات أهل البيت عليهم‌السلام تقرر خلاف هذا المطلب ، حيث نقرأ في الرواية الواردة عن الإمام علي عليه‌السلام قوله :

«الْهِجْرَةُ قائِمَةٌ عَلى حَدِّها الْاوَّل». (١)

وتأسيساً على هذا فإنّ الهجرة مستمرّة كالإيمان والجهاد إلى يوم القيامة ، والواجب على المسلمين أن يهاجروا في مختلف الظروف والأحوال ، وطبعاً ففي الكثير من الحالات يختلف شكل الهجرة ، ولذلك نقرأ قول الإمام علي عليه‌السلام :

«يَقُولُ الرَّجُلُ هاجَرْتُ وَلَمْ يُهاجِرْ ، انَّمَا الْمُهاجِرُ مَنْ هاجَرَ السَّيِّئاتِ وَلَمْ يَأْتِ بِها» (٢).

أجل ، فالمهاجر الحقيقي هو الشخص الذي ترك القبائح والرذائل والذنوب وتحرّك في خطّ الطاعة والعبودية والتقوى وهاجر من السيئات إلى الحسنات والأعمال الصالحة ، والمهاجر الواقعي هو الشخص الذي يهجر أصدقاء السوء ورفاق مجالس البطالين والملوثين بالذنوب ويبتعد عنهم ، الهجرة من المال الحرام ، من المقام الحرام ، من الذنوب ، واجبة ولازمة ، وبديهي أن هذا النمط من الهجرة لا يختصّ بالمسلمين في أوائل البعثة بل هو وظيفة جميع المسلمين إلى يوم القيامة.

وأمّا الأصل الثالث وهو الجهاد بالنفس والمال فذلك أيضاً مورد الابتلاء في كلّ عصر وزمان ، فالجهاد بالنفس والمال لا يقبل التعطيل والنسخ وخاصّة مع وجود الأعداء الحاقدين الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)(٣) ، الأعداء

__________________

(١) ميزان الحكمة : ج ١٠ ، ص ٣٠٢ ، باب ٣٩٨٩ ، ح ٢٠٧٥٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٧ ، ص ٩٩.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١١٨.


الذين لا يلتزمون بأي مبدأ إنساني وأصل أخلاقي ومستعدون لارتكاب كلّ جناية وجريمة في سبيل المحافظة على منافعهم اللامشروعة ، ففي مقابل مثل هذا العدو الخطر ينبغي على المسلمين أن يكونوا مستعدين دائماً للتصدي له والجهاد ضده وأن يكونوا دائماً في حيوية ونشاط وحماسة ، ولهذا السبب فنحن نعتقد بأن الأشخاص الذين يتحركون على مستوى تضعيف أو إماتة روحية الشجاعة والجهاد والتصدي للظالمين في نفوس المسلمين بذريعة الألعاب الملوّثة أو حتّى التسليات الدنيوية الرخيصة فإنّ هؤلاء يقومون بخيانة كبيرة لبلدهم ولأنفسهم ولدينهم.

ربّنا ، زد في حرارة نور الإيمان في قلوبنا حتّى نتمكن بنور الإيمان أن نهاجر من أجواء الذنوب الظلمانية وننقذ أنفسنا والآخرين بسلاح الجهاد في سبيل الله.

بحثان

١ ـ لما ذا لم يرد اسم الإمام علي عليه‌السلام في القرآن؟

سؤال : إذا كان الإمام علي عليه‌السلام هو المنصوب من الله لأمر الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ـ كما تعتقدون بذلك وتسعون لإثبات هذا المطلب من خلال الآيات القرآنية ـ إذن فلما ذا لم يرد اسم الإمام علي بصراحة في القرآن الكريم حتّى ننتهي من كلِّ هذه الأبحاث والاختلافات؟

الجواب : نظراً إلى أن اسم «علي» لم يكن منحصراً بالإمام علي عليه‌السلام كما هو الحال في «أبو طالب» حيث لم تكن هذه الكنية منحصرة بوالده ، بل هناك العديد من الأشخاص بين العرب يسمون باسم «علي» و «أبو طالب» وعلى هذا الأساس لو ورد اسم «علي» بصراحة في القرآن الكريم فإن هؤلاء الأشخاص الذين لم يروق لهم قبول هذه الحقيقة سيتحركون بذرائع مختلفة إلى تطبيق هذا الاسم على شخص آخر ، ولهذا كان من الأفضل ذكر الصفات والخصائص المنحصرة بالإمام علي عليه‌السلام في القرآن الكريم وتعريفه للناس من هذا الطريق لكيلا يتم تطبيق هذه الصفات والخصائص على غيره من الأشخاص ، ولهذا اختار الله تعالى في القرآن الكريم هذا المنهج والسبيل لإرشاد الناس إلى الإمام علي عليه‌السلام بعنوانه وليّ المؤمنين


وخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل ، رغم أن الأشخاص الذين في قلوبهم مرض ويتحركون في خطّ الانحراف والزيغ يفسّرون هذه الآيات الكريمة بشكل آخر.

سؤال آخر : ورد في الحديث الشريف عن يونس بن عبد الرحمن قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : إن قوماً طالبوني باسم أمير المؤمنين في كتاب الله عزوجل ، فقلت لهم : من قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(١)

فقال : «صَدَقْتَ هُوَ هكَذا» (٢).

فهل أن هذه الرواية تتفق مع ما ذكرتم من عدم ذكر اسم الإمام علي عليه‌السلام صريحاً في القرآن الكريم؟

الجواب : بلا شكّ إنّ مفردة «عليّا» الواردة في الآية الشريفة هذه ليست اسم شخص معيّن (أي ليست اسم علم) بل هي وصف لكلمة «لسان» ، وأما الرواية المذكورة فغير معتبرة من حيث السند ، لأن أحد رواتها «أحمد بن محمّد السياري» وهو ضعيف جدّاً ، وهو الشخص الذي نقل الكثير من روايات تحريف القرآن ، ولهذا فالروايات التي يقع في سندها هذا الرجل غير مقبولة وغير معتبرة ، ويقول العلّامة الاردبيلي في شرح حاله : «هو رجل ضعيف وفاسد المذهب ورواياته فارغة وغير قابلة للاعتماد» (٣) وعلى هذا الأساس فالرواية أعلاه غير معتبرة.

٢ ـ لما ذا لم يقضِ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنافقين؟

سؤال : إنّ المنافقين وجّهوا بلا شكّ في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد رحلته ضربات قاسية للدعوة الإسلامية وللمجتمع الإسلامي وهم الذين تبنوا الانحراف الذي حصل في مسألة الخلافة والإمامة ، ولا شكّ أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف هؤلاء الأشخاص ويعلم بنفاقهم ، ومع الالتفات إلى هذا المعنى فلما ذا لم يتحرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال حياته للقضاء

__________________

(١) سورة مريم : الآية ٥٠.

(٢) البرهان في تفسير القرآن : ج ٣ ، ص ١٤.

(٣) جامع الرواة : ج ١ ، ص ٦٧.


عليهم ليضمن بذلك سلامة الدعوة الجديدة والامّة الإسلامية؟

الجواب : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أجاب على هذا السؤال في حديث شريف حيث قال :

«لو لا إنّي أكره أن يقال : إن محمّداً استعان بقوم حتّى إذا ظفر بعدوّه قتلهم ، لضربت أعناق قوم كثير» (١).

ولكن مع الالتفات إلى هذا الاتّهام الذي يفضي في الواقع إلى اهتزاز عقيدة الناس بالنبوّة والدين الجديد ، فمن أجل أن لا يثور هذا التوهم والتصور في أذهان الناس فإنّ النبي لم يحرك ساكناً ضد المنافقين بل كان يتحمل آذاهم ويصبر على مشاكساتهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ، باب ٥ من أبواب حدّ المرتد ، ح ٣.



آية النصرة ٣

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢))

«سورة الأنفال / الآية ٦٢»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة التي تسمّى بآية النصرة هي آية اخرى من آيات فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

سؤال : إنّ موضوع البحث هو الآيات المتعلقة بمسألة الإمامة والخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام فما هو ارتباط هذه الآية مع مسألة الإمامة؟

الجواب : إنّ الآيات المستخدمة لإثبات إمامة وخلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قسمين :

القسم الأوّل : الآيات التي تدلُّ بصراحة ووضوح على إمامة أمير المؤمنين مثل آية «إكمال الدين» و «آية الولاية» وأمثال ذلك التي تقدّم الكلام عنها في الفصل الأوّل.

القسم الثاني : الآيات التي لا تدلُّ على مسألة الإمامة والخلافة بصورة مباشرة بل تتضمن فضائل أمير المؤمنين الخاصّة ، وبالإمكان مع الاستعانة بمقدمة عقلية إثبات الإمامة أيضاً بهذه الآيات الكريمة ، كما تقدّم نظير ذلك في الآيات السابقة وسيأتي أيضاً في شرح وتفسير آية النصرة وسائر الآيات من هذا القبيل.


الشرح والتفسير :

التعبئة الكاملة والاستعداد التام

لأجل توضيح مضمون آية النصرة نرى من اللازم الحديث عن آيات ٦٠ ـ ٦٣ من سورة الأنفال ، وهي قوله تعالى :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)

هذه الآية الشريفة مطلقة وتستوعب جميع الأمكنة والأزمنة والأدوار التاريخية في المجتمعات الإسلامية ، لأنها لا تتحدّث عن أسلحة معيّنة وخاصّة ينتهي مفعولها بانتهاء زمانها وتخرج من حيّز الاستعمال ، بل ورد التعبير بكلمة «قوّة» أي أن المسلمين يجب عليهم التهيؤ دائماً للأعداء والتسلّح بأنواع الأسلحة التي تثير فيهم القوّة والقدرة على التصدي لأعداء الإسلام فيجب عليهم أن يتسلحوا بالأسلحة المتطورة ويجهّزوا جيوشهم بالأنظمة العسكرية المتقدمة ، وكلمة «قوّة» تشمل مضافاً إلى الأسلحة الأشياء الاخرى التي تستخدم في الحرب ضد الأعداء من قبيل : أجهزة الإعلام التي تعتبر في العصر الحاضر سلاحاً فعّالاً يستخدم في القضاء على روحية العدو ، كما أن هذه الكلمة تشمل أيضاً الامور الاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية كذلك ، والخلاصة إنّها تطلق على كلِّ ما ينفع المسلمين في جهادهم ضد العدو ويمكّن المسلمين من إجهاض محاولاته الرامية إلى الاستيلاء على البلاد الإسلامية والقضاء على الإسلام.

(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)

في هذا المقطع من الآية الشريفة يتحدّث القرآن عن الهدف والغاية من تهيئة وسائل القوّة والسلاح للمسلمين ، فالهدف من هذا التهيؤ والاستعداد ليس هو قتل الناس وتخريب العالم والإغارة على المساكين والمحرومين بل الهدف هو الدفاع المشروع فيجب تعبئة جميع القوى والطاقات وتهيئة جميع أنواع الأسلحة لكيلا يتجرأ العدو على الهجوم على البلد الإسلامي بل لا يدور في ذهنه أن يهجم يوماً عليكم ، لأن الظالمين والجبّارين متى ما وجدوا فرصة للهجوم والغارة على الضعفاء والدول الفقيرة والضعيفة فإنهم لا يجدون رادعاً أمامهم من العدوان والحرب ، والقوّة العسكرية هي العامل الأساس لمنع هؤلاء من عدوانهم ،


ولذلك فإنّ رفع المستوى العسكري بإمكانه أن يخيف الأعداء ، أي أعداء الله وأعداءكم ، والعدو الظاهر والعدوّ الخفي والمستور ، فالهدف من زيادة القوّة الدفاعية والقدرة العسكرية يجب أن يكون من منطلق الدفاع المنطقي والمشروع أمام تعدّي الآخرين.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)

بلا شك فإنّ تقوية البنية الدفاعيّة للبلد الإسلامي ورفع مستوى القوّة العسكرية لجيش الإسلام واستخدام مختلف الأسلحة المتطورة ورفع المستوى الفني ، الاقتصادي ، الإعلامي ، الأخلاقي ، الاجتماعي وأمثال ذلك رغم أنه يحتاج إلى رصيد مالي ضخم وكبير ولكن يجب على المسلمين تأمين هذه النفقات فكلّما ينفق في هذا السبيل وفي خطّ تقوية الإسلام والبلد الإسلامي فإنّ الله تعالى سيعيده إليكم وسوف لا تتضررون من ذلك حتماً.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

فرغم أن المسلمين ينبغي عليهم تعبئة جميع طاقاتهم ورفع مستواهم العسكري والنظامي ولكن إذا أراد العدو يوماً أن يمدّ إليكم يد الصلح فعلى المسلمين أن يقبلوا بذلك ولا ينبغي عليهم الإصرار على الحرب ، فهذه الآية الشريفة تعتبر جواباً قاطعاً لبعض الأبواق الاستعمارية التي تصر على أن الإسلام دين السيف ويدعو إلى الحرب دائماً ، فإنّ الإسلام إذا كان دين الحرب فلا معنى لأن يدعو إلى الصلح ويفرض على المسلمين أن يصافحوا اليد التي تمتد إليهم بالصلح والسلم.

ثمّ إنّ الله تعالى يحذّر المسلمين :

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)

فرغم أن الإسلام يدعو إلى الصلح ويأمر المسلمين كذلك أن يستجيبوا لدعوات الصلح التي تصدر من العدو ولكنه يحذّر المسلمين أن يأخذوا جانب الحيطة والحذر من مكر الأعداء وخدعهم ، فحتّى في حال الصلح يجب على المسلمين أن يحتفظوا بقوّتهم العسكرية وقدرتهم الدفاعية بأعلى المستويات لكيلا يطمع فيهم العدو ويستغل هذه الفرصة في أجواء الصلح ويهاجم المسلمين على حين غرّة ، فقد يكون طلبه للصلح بسبب أنه وجد نفسه ضعيفاً ويريد أن يجدد قواه ويزيد من قدراته العسكرية فيقترح على المسلمين الصلح


الكاذب ويشغلهم مدّة لمحادثات الصلح حتّى يتهيأ من جديد لإنزال ضربة قاصمة بالمسلمين ، ولكنّ المسلمين إذا تحركوا في أجواء الصلح من موقع الحذر والاحتياط واحتفظوا بقواهم العسكرية فإنهم سيأمنون من كيد العدو ، الإمام علي عليه‌السلام يوصي قائده الشجاع مالك الأشتر في عهده له بأن يستغل أية فرصة للصلح مع العدو ولكنه يحذّره من مكر الأعداء ويقول :

«ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى ... ولكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه ، فإنّ العدوّ ربّما قارب ليتغفّل فخذ بالحزم ، واتّهم في ذلك حسن الظّن». (١)

ثمّ إنّ الله تعالى في ختام الآية الشريفة يقول للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الله تعالى سيكفيك مكرهم في هذه الصورة فهو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين :

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

فليس بإمكانك أن تؤلف بين قلوب العرب والقبائل العربية المتنازعة والمتعادية بأدوات المال والقوّة وأمثالها فلو أنك أنفقت عليهم جميع ثروات الأرض لم تتمكن من تأليف قلوبهم ولكنّ الله تعالى هو الذي ألّف بينهم ، وهذه نعمة عظيمة عليك وعلى المسلمين.

إنّ الآيات الأربع المذكورة آنفاً تحتاج إلى أبحاث معمّقة ودراسات كثيرة لاستكشاف مضامينها واستجلاء معانيها ولكننا نكتفي بهذا المقدار ونصرف النظر إلى مباحث اخرى.

من هم المؤمنون؟

سؤال : في حقّ من نزلت آية النصرة هذه ، ومن هو المقصود بالمؤمنين؟

الجواب : وردت روايات كثيرة في هذا المجال ذكرها العلّامة الأميني في «الغدير» (٢)

__________________

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٥٣.

(٢) الغدير : ج ٢ ، ص ٤٩ فصاعداً.


وكذلك ذكرها صاحب «احقاق الحقّ» (١) وهذه الروايات على قسمين :

الأوّل : الروايات التي تقول : بأن أوّل ناصر ومعين للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الإمام علي عليه‌السلام وهذه الآية الشريفة تشير إلى الإمام علي.

الثاني : الروايات التي تتحدّث عن نصرة الإمام علي عليه‌السلام للنبي ولكنّها لا تذكر شيئاً عن تطبيق آية النصرة عليه ، ونكتفي بذكر رواية واحدة من كلٍّ من هذين القسمين :

١ ـ ما أورده ابن عساكر صاحب كتاب «تاريخ دمشق» عن أبي هريرة (٢) أنه قال :

«مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ لا الهَ إلّا أنَا وَحْدِي ، لا شَريكَ لي ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدي (٣) وَرَسُولي ، ايَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ وَذلِكَ قَوْلُهُ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)». (٤)

وهنا لا بدّ من التلميح بثلاث نقاط :

أوّلاً : بالرغم من أن أبا هريرة لم يصرّح بنسبة هذه الرواية إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ» يتّضح جيّداً أن أبا هريرة سمعها من النبي لأنه لا يمكنه أن يدّعي هذا بنفسه.

ثانياً : إنّ شأن نزول آيات القرآن على نحوين : الأوّل : شأن النزول المنحصر بفرد معيّن مثل آية «إكمال الدين» و «آية الولاية» وأمثالهما من الآيات التي نزلت في شأن عليّ ابن أبي طالب بالخصوص ولا تستوعب في أجوائها غيره من المسلمين.

الثاني : شأن النزول العامّ والذي لا ينحصر بفرد معيّن ولكن هناك مصداق أكمل لمضمون هذه الآيات الشريفة حيث يرد ذكر هذا المصداق عادةً في الروايات من قبيل «آية النصرة» الواردة في حقّ المسلمين بشكل عامّ ولكنّ الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق البارز والكامل لها.

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٩٤ فصاعداً.

(٢) لقد وردت هذه الرواية بطرق اخرى أيضاً غير طريق أبي هريرة ، ومنها عن ابن عبّاس ، وجابر ، وأنس.

(٣) مسألة العبودية إلى درجة من الأهمّية أنها ذكرت قبل الرسالة والنبوة كما أن المصلّي في التشهد يذكر الشهادة بالعبودية قبل الشهادة بالرسالة لرسول الله.

(٤) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٩٤.


ثالثاً : مضافاً إلى ابن عساكر هناك مؤرّخين وعلماء نقلوا في كتبهم هذه الرواية أيضاً ومنهم :

الف) محبّ الدين الطبري في «الرياض» (١).

ب) السيوطي في «الدرّ المنثور» (٢).

ج) القندوزي في «ينابيع المودّة» (٣).

د) العلّامة الگنجي في «كفاية الطالب». (٤)

٢ ـ وقد ذكر العلّامة الأميني روايات كثيرة بأسناد اخرى أن الإمام علي عليه‌السلام هو أوّل ناصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّها لا تصرّح بأن المراد من الآية الشريفة هو عليّ بن أبي طالب ، ومن جملة هذه الروايات ما ورد عن «أنس بن مالك» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال :

«لَمَّا عُرِجَ بِي : رَأَيْتُ عَلى ساقِ العَرْشِ مَكْتُوباً : لا الهَ إلَّا اللهُ ، محمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، ايَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ ، نَصَرْتُهُ بِعَلِيٍّ» (٥).

الحديث الشريف هذا مذكور في مختلف كتب أهل السنّة ومنها :

١ ـ ذخائر العقبى (٦).

٢ ـ مناقب الخوارزمي (٧).

٣ ـ فرائد الحمويي (٨).

٤ ـ الخصائص الكبرى للسيوطي (٩) وكتب اخرى (١٠).

__________________

(١) الرياض : ج ٢ ، ص ١٧٢ نقلاً من الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٣ ، ص ١٩٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٩٤.

(٣) ينابيع المودّة : ص ٩٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٩٤.

(٤) كفاية الطالب : ص ١١٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٩٤.

(٥) تاريخ بغداد : ج ١١ ، ص ١٧٣ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٦) ذخائر العقبى : ص ٦٩ نقلاً من الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٧) مناقب الخوارزمي : ص ٢٥٤ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٨) فرائد الحمويي : باب ٤٦ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠.

(٩) الخصائص الكبرى : ج ١ ، ص ٧ نقلاً عن الغدير : ج ٢ ، ص ٥١.

(١٠) راجع الغدير : ج ٢ ، ص ٥٠ و ٥١.


امّا ما ذكر في هذا الحديث «على ساق العرش مكتوباً» فيدلُّ على أهمية هذه المسألة بحيث أنها كتبت على ساق العرش الإلهي وذكرت إلى جانب اسم الله تعالى واسم رسوله اسم علي ابن أبي طالب أيضاً ، وهذا يدلُّ على أن الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق البارز والفرد الكامل لعنوان الناصر ، وبديهي أن الله تعالى إذا أراد أن يختار خليفة لرسوله الكريم فإنه يختار من بين المسلمين الأفضل والأكمل منهم لهذا المقام ، وإذا أراد المسلمون أن يختاروا شخصاً لهذا المقام فإنّ العقل يحكم بضرورة اختيار مثل هذا الشخص.

توصية الآية

الدفاع عن الإسلام بكلّ القوى

رأينا في الآيات الشريفة المذكورة آنفاً دور الإمام علي عليه‌السلام وأهميته الكبيرة في نصرة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحماية الرسالة السماوية ، إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد حصل على هذا المقام في ظلّ تحركه الدائب وسعيه المستمر في الدفاع عن قائد المسلمين في أحلك الظروف وأشد الأزمات ، وعند ما كان الإسلام على شرف الانهيار والسقوط فإنّ الإمام علي عليه‌السلام كان يبذل كلّ ما اوتي من قوّة للدفاع عن هذا الدين الإلهي ، مثلاً في حرب احد حيث انهزم جميع المسلمين وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده في ميدان القتال نجد أن الإمام علي عليه‌السلام استمر في قتال الأعداء ومناجزتهم ولم يكن له علم بحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنه كان يعلم أن النبي ما زال في الميدان وأنه ليس بالإنسان الذي يفر من قتال العدو ، ولهذا ففي حين أنه كان مشغولاً في قتال الأعداء كان يبحث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الميدان فرآه في أحد الجوانب وقد كسرت ثنيته المباركة وسال الدم من فمه وجبهته ، فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن أخذ يدور حوله ويذبّ الأعداء عنه حتّى تحمّل جراحاً بليغة في سبيل الدفاع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وعلى الشيعة أيضاً أن يبذلوا كلّ شيء من نفس ومال وأخلاق وحُسن معاشرة ومحبّة وعلم وجميع القابليات والإمكانات التي لديهم في سبيل الدفاع عن الإسلام لكي يردوا يوم القيامة مرفوعي الرأس ولا يردون عرصات المحشر في حالة الخجل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٩٦ ـ ٩٧.



آية علم الكتاب ٤

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

«سورة الرعد / الآية ٤٣»

أبعاد البحث

الآية الاخرى من آيات فضائل الإمام علي عليه‌السلام التي يمكن اعتبارها دليلاً على إمامته هي آية «علم الكتاب» حيث تقرر هذه الآية أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله استشهد بشاهدين على صدق ادعائه : أحدهما الله تعالى ، والآخر «من عنده علم الكتاب» فكيف تقرر شهادة هذين على صدق دعوى النبي ، ومن هو المراد ب «من عنده علم الكتاب»؟ فذلك ما سيأتي تفصيله لاحقاً ، ولكن قبل استعراض تفسير الآية نرى أن من الضروري الإشارة إلى مقدمة :

لا تقبلوا أمراً بدون دليل

إنّ أحد تعليمات القرآن الكريم الأساسية هو أنه يوصي جميع المسلمين بل جميع الناس أن لا يقبلوا شيئاً وفكرة وعقيدة بدون دليل ، أجل فإنّ الإسلام يؤكد على قبول العقيدة إذا كانت مقترنة مع الدليل والبرهان.

ونقرأ في القرآن الكريم أربع آيات تشير إلى هذا الموضوع حيث تقول :


(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ)(١)

المخاطَب في هذه الآيات تارةً هم اليهود والنصارى حيث يأمر الله تعالى نبيّه الكريم بأن يقول لهم أن يأتوا بدليل وبرهان على صدق مدّعياتهم (من قبيل أنه لا يرد أحد غيرهم الجنّة).

وتارةً اخرى يكون المخاطب هم المشركون الذين يدّعون ادعاءات زائفة في شأن الأصنام ، فهؤلاء يجب عليهم أن يقدّموا الدليل العقلي على دعواهم وإلّا فلا يقبل منهم ما يقولون.

بل إنّ أحد الآيات هذه تشير إلى يوم القيامة أيضاً ، فهناك لو أن أحداً ادعى شيئاً يجب أن يكون ادعاؤه مقروناً بالدليل والبرهان.

وعلى هذا الأساس يستفاد من الآيات أعلاه أنه لا بدّ لكلّ قوم وأتباع كلّ مذهب أن يأتوا بالدليل على أفكارهم وعقائدهم (٢) ، وهذه الثقافة القرآنية الراقية إذا تمّ تجسيدها على مستوى الممارسة والعمل فإنّ من شأنها أن تقف حائلاً أمام الخرافات والأفكار الزائفة

__________________

(١) جاءت هذه الجملة في الآيات ١١١ من سورة البقرة ، و ٢٤ من سورة الأنبياء ، و ٦٤ من سورة النمل ، و ٧٥ من سورة القصص.

(٢) سؤال : كيف يرجع الناس إلى العلماء والمراجع في مسائلهم الدينية من دون المطالبة بالدليل بل يجب عليهم اتّباعهم في الفتوى حتّى لو لم يقيموا لهم دليلاً على فتواهم؟

الجواب : إن الدليل يكون على نحوين : (أ) الدليل التفصيلي ، (ب) الدليل الإجمالي ، وبالنسبة إلى اصول الدين والاعتقادات فلا بدّ من الدليل التفصيلي بما يناسب حال المسلم ووضعه العلمي ، وعليه أن يعتقد بالاصول من قبيل التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد عن دليل وبرهان ، ولكن في فروع الدين لا حاجة إلى الدليل التفصيلي بل لا يمكنه ذلك لأنه يستغرق من كلّ شخص عشرات السنين من البحث والدرس في الحوزات العلمية وترك الأعمال الاخرى ممّا يستلزم انهدام النظم في المجتمع ، وعليه فكما أن المريض يجب أن يراجع الطبيب الملتزم والمتخصص ليصف له الدواء من دون حاجة إلى الدليل ، فكذلك في المسائل الدينية على المكلّف مراجعة الفقيه الذي قضى عمره في البحث والدرس والتحصيل في الحوزات العلمية وله تجربة كافية في استنباط الأحكام الشرعية ، ويتّصف بالعدالة والأمانة ولا يحتاج حينئذٍ إلى دليل لاثبات صحة الفتوى لكلّ حكم من الأحكام الشرعية ، والنتيجة أن الناس في تقليدهم للفقهاء لا يرجعون إليهم بدون دليل ، بل يوجد دليل اجمالي وهو لزوم رجوع الجاهل إلى العالم.


والعقائد الواهية وحتّى أمام الشائعات وأنواع التهم والتخرّصات ، وفي مثل هذا المجتمع القرآني لا يمكن لأي فئة مغرضة إيجاد حالة من التشويش والاضطراب في الذهنية المسلمة ليصطادوا السمك في الماء العكر ويركبوا أمواج الضلالة والأزمات الاجتماعية وبالتالي يذبحوا الإسلام عند عتبة أغراضهم ومنافعهم الشخصية ، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله استشهد لصدق دعواه بدليلين وشاهدين معتبرين بحيث يقبل شهادتهم كلُّ إنسان.

ومع الالتفات إلى هذه المقدمة نشرع في تفسير الآية الشريفة :

الشرح والتفسير :

الشهود على النبوّة

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) وعليه فإنه ينبغي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لإثبات صدق دعواه ورسالته أن يأتي بالدليل والبرهان وفقاً لما قرّره القرآن الكريم من قاعدة وقانون في دائرة الفكر والمعتقدات ، ولهذا فإنّ الله تعالى يقول في سياق الآية الشريفة :

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)

فهنا ذكر النبي شاهدين : الأوّل هو الله تعالى ، والثاني هو الشخص الذي عنده «علم الكتاب» أي الشخص الذي يعلم بجميع ما في الكتاب لا بجزء منه ، وهذان الشاهدان كافيان لمن كان يتحرك في طلب الحقّ والحقيقة.

كيفية شهادة الله

سؤال : إنّ الله تعالى غائب عن الأنظار ولا يستطيع أحد من الناس أن يراه فكيف يشهد بصدق رسالة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق دعواه؟

الجواب : إنّ الله تعالى من خلال المعجزات التي يضعها تحت اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمثّل شاهد صدق على رسالة نبي الإسلام لأنه من المحال على الله الحكيم أن يضع أكثر من معجزة بل مئات المعاجز بيد مدّعي النبوّة الكاذب ليضل عباده ، فالله تعالى لا يمكن أن يضل عباده بهذه الصورة ، وعليه فعند ما يضع الله تعالى العديد من المعجزات بيد النبي فإنه يشهد بذلك على صدقه.


من هو الذي «عنده علم الكتاب»؟

يذكر العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ثلاث نظريات في هذا المجال :

١ ـ أن المراد بقوله (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو الله تعالى ، وفي الحقيقة فهذه الجملة بمثابة عطف تفسيري على «بالله» الذي ورد في صدر الآية ، فكليهما بمعنى واحد ، وعليه ففي هذه الآية الشريفة لا يوجد أكثر من شاهد واحد يشهد على صدق ادعاء نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الله تعالى (١).

ولكنّ هذه النظرية مردودة ، لأن الأصل الأولي في العطف هو التعدد والجملة المعطوفة تقرر مطلباً جديداً غير المعطوف عليه ، والعطف التفسيري خلاف الأصل ، وهذه الحقيقة يذعن لها علماء اللغة والأدب العربي ، وعليه فما لم يتوفر لنا دليل معتبر على أن الجملة أعلاه هي عطف تفسيري ، فلا بدّ من حملها على معنىً آخر غير المعطوف عليه لئلّا نقع في إشكالية التكرار ، ولذلك فالنظرية الاولى غير مقبولة.

٢ ـ ومنهم من ذهب إلى أن المراد من جملة (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هم اولئك الأشخاص من أهل الذمّة الذين اعتنقوا الإسلام ومنهم «عبد الله ابن سلام» (٢) العالم اليهودي ، ولكنه كان منصفاً وقد قرأ علامات نبوّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة وعند ما رآها منطبقة على محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم أنه مرسل من الله تعالى آمن به في حين أنه لو بقي على دين اليهودية كان يحظى بمنزلة كبيرة بينهم وقد يحصل من ذلك الكثير من الأموال والثروات ، ولكنه عند ما علم بحقيقة الأمر سحق أهواءه النفسية واعتنق الإسلام ، ولهذا فإن هذا الشخص هو الذي عنده «علم الكتاب» أي كان يعلم بعلائم النبي في التوراة ويشهد بذلك ، إذن فإن هذه الآية تقرر شاهدين على صدق ادعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعبارة اخرى إنّ الله تعالى والكتب السماوية السابقة تشهد بصدق نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكنّ هذه النظرية أيضاً غير مقبولة ، لأن سورة الرعد من السور المكية في حين أن

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣٠١.

(٢) نفس المصدر السابق.


عبد الله ابن سلام اعتنق الإسلام في المدينة ، وعلى هذا الأساس فإنّ زمان نزول الآية محل البحث قبل إيمان عبد الله بن سلام بعدّة سنوات فلا يمكن أن تشير الآية إلى إيمان هذا الشخص وشهادته.

٣ ـ وهي النظرية التي وردت في الكثير من كتب التفسير والتاريخ والحديث حيث تقرر أن المراد بجملة «من عنده علم الكتاب» هو الإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام (١).

يقول أبو سعيد الخدري من علماء الإسلام وصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمقبول لدى أهل السنّة والشيعة :

«سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية : الذي عنده علم من الكتاب (٢) قال : ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه‌السلام ، وسألته عن قول الله عزوجل : قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، قال ذاك أخي علي بن أبي طالب» (٣).

ويروي هذه الرواية مضافاً إلى أبي سعيد الخدري : عبد الله ابن عبّاس ، سلمان ، سعيد ابن جبير ، محمّد ابن الحنفية ، زيد بن علي وآخرون أيضاً ، ومن جملة من ذكر هذه الرواية في كتابه : القرطبي (٤) ، السيوطي (٥) ، العلّامة الدشتكي الشيرازي (٦) ، الترمذي (٧) وآخرون ، وعليه فإن أفضل تفسير لجملة «من عنده علم الكتاب» هو أن المراد منها الإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

كيف يشهد الإمام علي عليه‌السلام بالنبوّة؟

سؤال : مع الالتفات إلى الروايات الكثيرة الواردة في شأن نزول هذه الآية الشريفة التي

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣٠١.

(٢) سورة النمل : الآية ٤٠.

(٣) ينابيع المودّة : ص ١٠٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ، ص ٣٣٦ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٥) الإتقان : ج ١ ، ص ١٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٦) روضة الأحباب : ج ١ ، وقائع السنة التاسعة نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.

(٧) مناقب المرتضوي : ص ٤٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٠.


تؤيد أنها واردة في شأن الإمام علي عليه‌السلام ، يثار هنا سؤال آخر وهو : كيف يمكن أن يشهد الإمام علي عليه‌السلام على نبوّة ورسالة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال نذكر مثالين على ذلك :

ألف) إذا دخل أحد الأشخاص مدينة معيّنة ولم يكن له فيها أيُّ شخص يعرفه ، وحينما يحين وقت يتوجه إلى المسجد ليدرك فضيلة صلاة الجماعة وفضيلة الصلاة أوّل الوقت ، فمع العلم بأنه لا يعرف أحداً من هذه المدينة كيف يمكنه أن يتثبت من عدالة إمام الجماعة ويقتدي به؟

يقول الفقهاء : إنّ مجرد حضور مجموعة من الأشخاص من أهل الاطلاع والفضل واقتداءهم به يمكنه أن يكون بمثابة الشهادة على عدالة إمام الجماعة ، من قبيل أن مئات من رجال الدين والشيوخ يقتدون به في صلاتهم ، فمن هنا يتبيّن لنا عدالة إمام الجماعة من خلال اقتداء المأمومين هؤلاء.

ب) إذا رأينا شخصاً من أهل الخبرة والفضل ومورد احترام الناس يأتي إلى استاذ من الأساتذة ويجلس بين يديه ليتعلم ويتتلمذ على يد هذا الاستاذ الذي لا نعرفه إطلاقاً ، فمن خلال معرفتنا بعلم وفضل التلميذ ندرك عظمة الاستاذ وعلمه الواسع ، وعلى سبيل المثال إذا رأينا الشيخ الأنصاري أو العلّامة الحلّي يدرسان ويتعلمان عند استاذ غير معروف ، فمن خلال التلميذ ندرك عظمة الاستاذ.

وبالنظر إلى هذين المثالين نجيب على السؤال المذكور :

عند ما نطالع شخصية الإمام علي عليه‌السلام ونراه متفوقاً في جميع الصفات الأخلاقية والإنسانية نرى أنّ مثل هذا الإنسان مع عظيم علمه ومعرفته بحيث إنّ الإنسان الذي يقرأ «نهج البلاغة» ويتدبر فيه وفيما يتضمنه من معارف عميقة وعلوم غزيرة لا يصدّق أن هذا الكتاب هو حصيلة ترشحات من فكر إنسان ، ولهذا قيل عن نهج البلاغة : «دون كلام الخالق وأعلى من كلام المخلوق».

الإمام علي مع ذلك القضاء العجيب والمحيّر في أدق المشكلات والمحاكمات والذي نجح بأفضل وجه في ردّ حقوق المظلومين ...


الإمام علي مع شديد عبادته وتقواه والتزامه الديني بحيث إنه في حال الصلاة لا يلتفت إلى شيء آخر سوى الله تعالى ولذلك كانوا في الموارد التي لا يستطيعون معالجته في غير الصلاة ينتظرونه ليصلّي حتّى يخرجوا السهام من بدنه الشريف وهو غافل عنها ...

الإمام علي مع شهامته وشجاعته المحيّرة والتي تضرب بها الأمثال بحيث لم يغلب في أيِّ حرب وقتال ولم يفر ولا مرّة واحدة من الأعداء ...

الإمام علي مع التزامه الشديد بالعدالة بحيث لا يمكن لأحد من الناس أن يخرجه عن حدّ العدالة وأخيراً استشهد بسبب هذا الالتزام والانضباط الأخلاقي بالعدالة.

أجل ، فإنّ الإمام علي عليه‌السلام بهذه الصفات والخصائص الاخرى يمثل رمز الإنسان الكامل ، وهذا الشخص قد آمن بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل حياته وقفاً لتبليغ هذا الدين واعتبر نفسه عبداً من عبيد محمّد ، ألا يتبين لنا من خلال إيمان الإمام علي عليه‌السلام حقانية إدّعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة السماوية؟ وبهذا يكون الإمام علي شاهداً آخر على نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونعتقد أن هذا الشاهد على نبوّة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى درجة من الأهمّية بحيث إنه لو فرضنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأتِ بأي دليل آخر سوى شهادة علي ابن أبي طالب لكفى.

المقارنة بين آصف بن برخيا وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام

كان آصف بن برخيا وزير النبي سليمان عليه‌السلام وقد وردت قصته في سورة النمل وهي:

«عند ما تحركت ملكة سبأ من اليمن باتجاه النبي سليمان لتسلم على يده خاطب سليمان وزراءه ومشاوريه من الجن والإنس وقال :

أيكم يقدر على أن يأتيني بعرش الملكة من اليمن قبل أن تصل إلينا؟

فقال أحد العفاريت من الجنّ : أنا آتيك به ولكنّ ذلك يحتاج إلى مدّة من الزمان قد تصل إلى بضع ساعات وسوف أحضره عندك قبل إتمام هذه الجلسة.

والظاهر أن النبي سليمان لم يقبل هذا الاقتراح وأراد حضور العرش بأسرع من هذا الوقت ولهذا قال شخص آخر وكان لديه علم من الكتاب وهو «آصف بن برخيا» : إنني


قادر على إحضاره عندك قبل أن تطرف عينك ، فما أن فتح سليمان عينه وإذا به يرى عرش الملكة حاضراً عنده ، وحينذاك توجه سليمان بالشكر إلى الله تعالى على هذه النعم والمواهب العظيمة (١).

إن آصف بن برخيا وبسبب اطلاعه على بعض علم الكتاب والاسم الأعظم استطاع أن يقوم بهذا العمل الخارق للعادة ، في حين أنّ الإمام علي عليه‌السلام لديه علم الكتاب أجمع وكذلك الاسم الأعظم فهل يمكن قياس قدرة آصف ابن برخيا بقدرة الإمام علي عليه‌السلام؟

من هذا البحث يمكننا التطرق إلى الولاية التكوينية للأئمّة الأطهار ، لأن معنى العلم التكويني ليس هو أننا نعتقد بأن الإمام علي عليه‌السلام خالق السماوات والأرض «ونعوذ بالله» بل يعني أنّ هؤلاء الأولياء يتصرفون بعالم الوجود بإذن الله تعالى ومشيئته ويشبه تصرفهم عمل آصف ابن برخيا.

__________________

(١) ما ورد أعلاه كان شرحاً مختصراً عن آصف بن برخيا الوارد في الآيات ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ من سورة النمل.


آية المؤذّن وآية الأذان ٥ ـ ٦

ومن جملة الآيات التي تتعلق بفضائل الإمام علي عليه‌السلام هي الآيات ٤٤ من سورة الأعراف ، والآية ٣ من سورة التوبة حيث يقول تعالى في الآية ٤٤ من سورة الأعراف :

ويقول في الآية ٣ من سورة التوبة :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))

أبعاد البحث

إنّ كلمة «مؤذّن» وردت في القرآن الكريم مرّتين حيث تتحدّث عن عالم الآخرة ، وقد وردت في الآية ٤٤ من سورة الأعراف ، وفي الآية ٧٠ من سورة يوسف وهكذا كلمة «أذان» وردت مرّة واحدة في الآية ٣ من سورة التوبة ، وكلُّ واحدة من هاتين الآيتين ترتبط بشأن الإمام علي عليه‌السلام.


«أذان» في الاصطلاح يراد به مجموعة الأذكار الخاصّة التي تقال حينما يحين وقت الصلاة لدعوة الناس إلى الصلاة والمسجد ولكن في اللغة يراد بها مطلق الإعلان ، فتارةً يكون الإعلان مقارناً للتهديد ، واخرى لإعلان الحرب ، وثالثة لإعلان وقت الصلاة ، وبتعبير آخر أن «الأذان» تعني إخبار الناس بالخبر بصورة علانية ، إذن فالأذان لا يختصُّ بالإعلان عن وقت الصلاة بل يستوعب معنىً واسعاً.

تفسير الآية ٤٢ من سورة الأعراف

حوار أهل الجنّة وأهل النار

ولأجل توضيح معاني ومفاهيم آية المؤذّن نرى من اللازم أن نبدأ بالآيات التي قبلها :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

جملة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جاءت كجملة معترضة في الآية أعلاه وتشير إلى نكتة مهمة ، وهي أن جميع الأشخاص لا يستوون في الإيمان والعمل الصالح ولا يصحّ أن يتوقع الإنسان من جميع الناس التساوي في الإيمان والعمل الصالح ، بل كلُّ شخص يُكلّف بمقدار قدرته وإدراكه ولياقته ، وبدون شك أن إيمان الإمام علي عليه‌السلام وسلمان وأبي ذرّ ليس بمستوى إيمان سائر الناس ، ولذلك فالمتوقع من هؤلاء الأشخاص الأولياء غير ما يتوقع من الأشخاص العاديين ، والخلاصة هي أن كلُّ إنسان مؤمن يدخل الجنّة بحسب قابليته وإيمانه وعمله الصالح.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)

فهنا تتحرّك الآية الشريفة لبيان صفات المستحقين للجنّة بعد ورودهم إليها فأوّل ما يواجه المؤمن لدى دخوله الجنّة هي أن الله تعالى يطهر قلبه من أدران الحسد والحقد تماماً ويعود إليها الصفاء والطهر والخلوص ، وكلمة «غلّ» تقال لحركة الماء الخفية تحت النباتات ، وبما أن عنصر الحسد والحقد يتحرك في قلب الإنسان بصورة خفية ومستورة فلذا قيل عنه بأنه «غلّ».


سؤال : هل يعقل أنّ أهل الجنّة يعيشون الحسد والحقد ومع ذلك يدخلهم الله الجنّة؟

الجواب : يستفاد من بعض الروايات أن بعض الدرجات الخفيفة للحسد والحقد يمكنها أن تكون لدى المؤمن وما لم يظهرها الإنسان لا تحسب ذنباً ومعصية ولا تتنافى مع الإيمان (١) ، وبهذا فإنّ الله تعالى يطهّر قلوب هؤلاء المؤمنين من أهل الجنّة من هذه الدرجة الضعيفة من الحسد والحقد ليعيشوا في الجنّة بكامل السعادة والطمأنينة والراحة النفسية.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) إنّ أهل الجنّة يسكنون في قصور وبيوت تجري من تحتها الأنهار ، أي أن الله تعالى قد بنى لهم هذه القصور والبيوت على الأنهار الجارية ، وهذا من جملة النعم الاخروية على أصحاب الجنّة والتي وردت في الكثير من الآيات الشريفة.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فعند ما يشاهد أهل الجنّة كلُّ هذه النعم العظيمة والألطاف الإلهيّة الجليّة يتوجهون إلى ربّهم من موقع الشكر والثناء ويقولون : الحمد الذي هدانا لهذه النعم والمواهب الكثيرة ولو لا عناية الله ورعايته ما كنّا لنهتدي إليها ولا نسلك الطريق إلى الجنّة ، وأنّ رسل الله وأنبياءه كانوا يقولون الحقّ ، أجل ، فإنّ أهل الجنّة يعترفون بأن الهداية التشريعية للأنبياء والأولياء والكتب السماوية وكذلك الهداية التكوينية المنبعثة من الجوانب النفسانية والفطرية المودعة في وجود الإنسان هي التي أدّت بهم إلى اختيار طريق الجنّة وكسب رضا الله تعالى ونيل ألطافه وعناياته.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فبعد أن يشكر أهل الجنّة الله تعالى على عظيم نِعمه التي لا تحصى يقال لهم أن أدخلوا الجنّة فهي التي ورثتموها بأعمالكم.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) فعند ما يستقر أهل الجنّة في مساكنهم وقصورهم وينظرون إلى ما حولهم بحثاً عن أصدقائهم ومعارفهم لا يجدون أفراداً منهم ويدركون أنهم صاروا من أهل النار وحرموا الورود إلى الجنّة وبذلك يخاطبون أهل النار :

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ص ٤٢١ نقلاً عن التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.


«إننا قد وجدنا ما وعد ربُّنا حقّاً وقد تبيّن لنا صحّة الطريق الذي سلكناه في الدنيا وأوصلنا هذا الطريق من خلال الإيمان والعمل الصالح إلى الجنّة وحظينا بجميع ما وعد الله تعالى للمؤمنين فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقّاً؟ هل تحققت وعود الله في حقّكم من العقاب على ما ارتكبتم من الذنوب والجرائم؟

«قالُوا نَعَمْ» وهكذا يجيب أهل النار على هذا السؤال بالإيجاب وأن الله قد أنجز ما وعدهم من العذاب والعقاب الاخروي.

سؤال : لما ذا يسأل أهل الجنّة هذه الامور من أهل النار؟

الجواب : يحتمل أن سؤالهم كان لغرض تحصيل اطمئنان أكثر وإيمان أعلى بما وعد الله رغم أن أهل الجنّة يؤمنون بجميع ما وعدهم الأنبياء من امور الغيب ويعتقدون به ولكنهم عند ما يرون ذلك بامّ أعينهم أو يسمعون من أهل النار تحقّق الوعيد الإلهي بحقّهم فإنّ إيمانهم سيزداد ويتعمق أكثر.

الاحتمال الآخر هو أنهم يسألون أهل النار من أجل التهكم والذم والتقريع لهم كما كان أهل النار يلومون المؤمنين في الدنيا ويذمّونهم ويسخرون منهم على اعتقاداتهم وإيمانهم بالغيب فهذه المساءلة نوع من المقابلة بالمثل.

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) كختام للمحاورة المذكورة بين أهل الجنّة وأهل النار لا بدّ وأن يكون هناك من يختم هذا الحوار ولذلك ورد النداء الإلهي «أن لعنة الله على الظالمين» وتنتهي بذلك المساءلة ويسدل الستار على هذه المحاورة.

من هو المؤذّن؟

سؤال : من هو المؤذّن في الآية ٤٤ من سورة الأعراف؟ ومن هو هذا الشخص الذي يختم الحوار المذكور بالنداء الإلهي والذي توحي الآية أن له سلطة على الجنّة والنار والقيامة؟ ومن هو هذا الشخص الذي يسمعه جميع الناس في ذلك اليوم ويختم بكلامه عملية المحاورة بين أهل الجنّة وأهل النار؟

الجواب : هناك روايات متعددة مذكورة في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤكد على أن


المؤذّن هو الإمام علي عليه‌السلام ، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج منها :

١ ـ أورد الحاكم الحسكاني الحنفي من أهل السنّة في «شواهد التنزيل» عن محمّد ابن الحنفية عن الإمام علي عليه‌السلام أنه قال :

«أَنا ذلِكَ الْمُؤذِّنُ».

وروى الحاكم بسنده عن أبي صالح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : قال علي رضى الله عنه : في كتاب الله أسماء لي لا يعرفها الناس منها المؤذن (١).

٢ ـ وكذلك نقل الحافظ أبو بكر ابن مردويه في كتاب «المناقب» أن المؤذّن هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

٣ ـ ونقل الآلوسي أحد المفسّرين المعروفين من أهل السنّة في تفسير «روح المعاني» عن ابن عبّاس أنه قال :

«الْمُؤَذِّنُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ» (٣).

٤ ـ وذكر الشيخ سليمان القندوزي مؤلف كتاب «ينابيع المودّة» في كتابه هذا أن المراد بالمؤذّن هو عليّ بن أبي طالب (٤).

٥ ـ ونقل هذا المعنى مير محمّد صالح الكشفي الترمذي في «المناقب» (٥).

هل أنّ مقام المؤذّن يعدّ فضيلة؟

سؤال : لقد ذهب بعض المثقفين والكتّاب الإسلاميين الذين تورطوا في شراك التعصّب المذهبي عند ما يصل إلى هذه الآية الشريفة والروايات المذكورة فيها ينكر كون مقام المؤذّن فضيلة للإمام علي عليه‌السلام ويقول : «على فرض أن يكون المؤذن هو الإمام علي عليه‌السلام ، ولكن هذا

__________________

(١) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٤.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣.

(٣) روح المعاني : ج ٨ ، ص ١٠٧ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣).

(٤) ينابيع المودّة : ص ١٠١ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣).

(٥) مناقب المرتضوي : ص ٦٠ (نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣٩٣).


المعنى لا يعدّ افتخاراً له ، لأنه لا بدّ أن يكون هناك مؤذن يوصل النداء الإلهي للناس في المحشر ، ولا يختلف الحال فيمن يكون هو المؤذن».

الجواب : والجواب على هذا الكلام واضح لأن هذا المؤذّن إنما يعلن شيئاً بأمر الله تعالى فهو رسول من الله لإلقاء هذا الكلام على أهل المحشر أي الناطق الرسمي عن الله وهي وظيفة خطيرة وثقيلة ، وعليه فإنّ هذا المقام يدلُّ على أهمية ومكانة هذا الشخص بحيث يبين للناس الرسالة الإلهية بصورة جيّدة في يوم القيامة ، ومع الالتفات إلى محتوى هذه الرسالة وأنها تشمل لعنة الله على الظالمين فلا بدّ أن لا يكون هذا المؤذّن من الأفراد الملوثين بالظلم في الدنيا ، وإلّا فلا يوجد أحد يلعن نفسه ، ولهذا فإنّ مقام المؤذّن في ذلك اليوم لا يعدُّ مقاماً عادياً يستطيع أيُّ شخص أن يقوم به ، وعليه فإنّ هذا المقام يعدّ فضيلة كبيرة لمن يناله.

لما ذا يغمض بعض مفسّري أهل السنّة أبصارهم عن إدراك الحقائق ويمرون على المضامين القرآنية مرور الكرام بهدف الاحتفاظ على عقائدهم الموروثة وأحياناً ينكرون مضامين الوحي من أجل ذلك؟!

تفسير الآية ٣ من سورة التوبة

أما تفسير «آية الأذان» في سورة التوبة والتي تعد هي الاخرى من آيات فضائل الإمام علي عليه‌السلام ولها ارتباط وثيق بآية «المؤذّن» السابقة ، نرى من اللازم بعض التوضيح حول الآيات الاولى من سورة التوبة :

عند ما فتحت مكّة في السنة الثامنة للهجرة وتمّ القضاء على الشرك وعبادة الأوثان وإزالة الأصنام من أرض الوحي ودخل العرب في الإسلام ورأى مشركو مكّة تعامل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم من موقع المحبّة والعفو والصفح ، أدّى ذلك إلى دخول الناس في الإسلام زرافات ووحدانا ، وانتهت هذه السنة بجميع ما وقع بها من حوادث كبيرة ، وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة التاسعة للهجرة أن يحجّ حجّة الوداع ولكنه بسبب وجود بعض الامور لم يرَ من المناسب أن يحجّ في تلك السنة وذلك :

الف : إنّ بعض المشركين وعبدة الأوثان كانوا يأتون من البادية لزيارة بيت الله الحرام ، وعلى الرغم من أن الكعبة قد تمّ تطهيرها من الأصنام والأوثان إلّا أنّ هؤلاء الوثنيين كانوا


يأتون إلى البيت الحرام ويطوفون حوله وينشدون بعض الأشعار والشعارات الجاهلية حين الطواف تخليداً لذكر الأصنام.

ب : ما زال بعض الناس يطوفون بالبيت عراة كما كانوا في السابق لأنهم كانوا يعتقدون أن لباس الطائف الذي يطوف فيه حول البيت يجب عليه أن يتصدّق به إلى الفقير ، ولهذا فلو أن الشخص خلع لباسه وطاف عرياناً ثمّ بعد أن ينتهي من الطواف يرتدي لباسه فلا يجب عليه التصدّق به على الفقير ، ولذلك فمن لم يكن راغباً في التصدق بلباسه يقوم بخلع لباسه والطواف عارياً ، وأحياناً يكون الطائف بالبيت امرأة ، فنتصور كيف يكون حال الطواف مع وجود امرأة عريانة بين الطائفين وكيف تتبدل الأجواء المعنوية والروحية في ذلك المكان المقدّس إلى أجواء شهوانية وحيوانية؟

فنظراً إلى هذه الامور انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أداء الحجّ في السنة التاسعة حتّى نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة وأمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعلن في مراسم الحجّ في السنة العاشرة للهجرة لجميع المشركين أربعة امور :

١ ـ «لا يَحِجَّنَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ» فبعد السنة العاشرة للهجرة لا يحقُّ لأي مشرك أن يحجّ البيت ولا يحقُّ له دخول المسجد الحرام ، هذا البيت الذي بناه بطل التوحيد ومحطم الأصنام فلا يكون مكاناً للأصنام بعد الآن ، ولا ينبغي للمشركين والوثنيين أن يطوفوا حول بيت الله إلّا أن يتركوا عقائدهم الخرافية جانباً.

٢ ـ «وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيانٌ» فبعد الآن لا يحقُّ لأي شخص أن يطوف بالكعبة عرياناً ويلوّث تلك الأجواء المعنوية والروحية بهذا العمل الشنيع.

٣ ـ «وَلا يَدْخُلَ الْبَيْتَ الّا مُؤمِنٌ» ففي السابق كان الدخول إلى داخل الكعبة مباحاً للجميع (خلافاً لهذا الزمان حيث لا ينال هذه السعادة إلّا بعض الأشخاص القليلين) فكان المسلمون والمشركون يدخلون داخل الكعبة باستمرار وبدون أي مانع ولكن بعد إبلاغ هذا النداء لا يحقُّ لمشرك أن يدخل الكعبة.

٤ ـ «وَمَنْ كانَتْ لَهُ مُدَّةٌ فَهُوَ إلى مُدَّتِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدَّةٌ فَمُدَّتُهُ ارْبَعَةُ اشْهُرٍ» فالمشركون الذين كان لديهم عهد وميثاق مع رسول الله على ترك الحرب والقتال ولم


يذكروا مدّة محدودة لعهدهم هذا ، فلهم فرصة أربعة أشهر لينضموا إلى الإسلام ، وبعد انتهاء هذه المدّة لا يبقى عهد وميثاق بينهم وبين النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما من كان له عهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدّة معيّنة ولم تنتهِ هذه المدّة ولم يرتكب ما يخالف العهد ولم يتحرّك على مستوى معونة أعداء الإسلام فإن عهده محترم إلى نهاية المدّة (١).

وهكذا وجد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه مأموراً بإبلاغ هذه التعليمات والأوامر الإلهية في أيّام الحجّ من السنة العاشرة للهجرة وإخبار المشركين بها ، فاختار النبي لهذه المهمة أبا بكر ليقرأ الآيات الاولى من سورة التوبة على المشركين في أيّام الحجّ ، وتوجه أبو بكر نحو مكّة لأداء هذه المهمة ولكن لم يمض سوى القليل حتّى هبط جبرئيل الأمين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له :

«إنه لن يؤديها عنك إلّا أنت أو رجل منك» فدعا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام علي عليه‌السلام وقال له : «احقه فردّ عليَّ أبا بكر وبلّغها أنت» ففعل ذلك الإمام علي عليه‌السلام وأخذها من أبي بكر وأبلغها عامة المشركين في أيّام الحجّ (٢).

ويقول الطبرسي في هذا المجال :

اجمع المفسّرون ونقلة الأخبار انّه لمّا نزلت براءة رفعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر ، ثمّ أخذها منه ودفعها إلى عليّ بن أبي طالب (٣).

وقد أوضحنا بالتفصيل ما ذكره «صاحب مجمع البيان» والمقدار المشترك بين جميع الروايات هو ما ذكرنا وقد أورد صاحب كتاب «احقاق الحقّ» هذا المعنى من أربعين كتاب من كتب أهل السنّة. (٤)

__________________

(١) التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.

(٢) التفسير الامثل : ذيل الآية مورد البحث.

(٣) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣.

(٤) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٤٢٧ فصاعداً.


الاختلاف في الجزئيات

وطبعاً الروايات المذكورة تختلف بعض الشيء في جزئياتها وتفاصيلها ، ونشير إلى بعض منها :

لقد ورد في بعض الروايات أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أركب علياً على ناقته المعروفة ب «العضباء» فوصل علي إلى أبي بكر في مسجد الشجرة على مقربة من مكّة وأحد المواقيت المعروفة لحجّ التمتع والعمرة وأبلغه أمر رسول الله ، فتألم أبو بكر من ذلك وعاد إلى المدينة وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انْزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟».

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ، إلّا أنّي امِرْت أنْ ابَلِّغُهُ أنا أو رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتي» (١).

والخلاصة أنه يستفاد من هذه الروايات أن تغيير الشخص المأمور بإبلاغ هذه الآيات لم يكن من جهة النبي بل إنّ الله تعالى هو الذي أمره بذلك ، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المهمة والمسئولية قد القيت على عاتق أمير المؤمنين عليه‌السلام وبذلك تحرك الإمام نحو أداء هذه المأمورية وأراح النبي من القلق الذي كان يساوره في مورد الحجّ حيث أشرنا إليه سابقاً وبذلك تهيّأت مقدّمات سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة للإتيان بحجّة الوداع.

الشرح والتفسير :

الإنذار الهام للمشركين

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وبذلك تمّ إلغاء جميع العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين والتي لم يكن لها مدّة زمنية محددة.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ)

سؤال : لما ذا نقض رسول الله عهوده مع المشركين ، وهل يشمل هذا النقض جميع معاهدات النبي؟

__________________

(١) خصائص النسائي : ص ٢٨ نقلاً عن التفسير الامثل : الآية مورد البحث.


الجواب : يستفاد من الآيات التالية أن مسألة إلغاء العهود كانت في موارد العهود التي ليست لها مدّة أو انتهت مدّتها ، وكذلك العهود التي لم تنته مدّتها ولكنّ المشركين نقضوا العهد وتعاونوا مع أعداء الإسلام والمسلمين كما حصل في حرب الأحزاب وأمثالها ، وأما العهود التي لم تنته مدّتها ولم يتخلف أصحابها عن مضمون العهد ولم يساعدوا أعداء الإسلام بشيء فإنّ مثل هذه العهود باقية على قوّتها وفاعليتها إلى انتهاء المدّة المقررة كما ورد ذلك في الآية الرابعة من سورة التوبة لأن العهد محترم جدّاً في نظر الإسلام حتّى لو كان مع العدو ، فلو اقتضت المصلحة أن يكون للمسلمين عهد وميثاق مع الكفّار فيجب أن يحترم المسلمون هذا العهد ويلتزموا به.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)

بالنسبة إلى «الحجّ الأكبر» وردت تفاسير مختلفة وأفضلها هو أن المراد من الحجّ الأكبر هو «حجّ التمتع» الذي يتضمّن في مناسكه الوقوف في عرفات والمشعر الحرام ومنى والهدي ورمي الجمرات وأمثال ذلك ، والمراد من الحجّ الأصغر هو «عمرة التمتع» (١) ، وعلى أيّة حال فلا بدّ من دراسة هذا الإعلان الإلهي في حجّ التمتّع للسنة التاسعة للهجرة وما ذا كان مضمونه ومحتواه؟ وتستمر الآيات الشريفة بالقول :

(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ولهذا فإنّ جميع المعاهدات ملغيّة بعد إعلان براءة الله ورسوله من المشركين ، وعلى هذا الأساس فإنّ أمام المشركين والكفّار طريقان لا أكثر : الأوّل هو أن يتوبوا إلى الله ويتركوا الشرك ويدخلوا في الإسلام.

(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ ذلك يؤمن لهم الأمن في الدنيا والسعادة في الآخرة من خلال العمل بتعليمات الإسلام وأداء الواجبات وترك المحرمات.

الثاني : (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ولو أصرّوا على الشرك والحرب مع الحقّ فإنهم لا يستطيعون الخروج من دائرة القدرة الإلهية ومضافاً إلى أن العذاب الإلهي الأليم بانتظارهم.

__________________

(١) وقد ورد في معنى «الحجّ الأكبر» أنه «يوم عرفة» و «يوم الأضحى» ، وللمزيد من الاطلاع انظر : مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٥ ، وتفسير الكشاف : ج ٢ ، ص ٢٤٤.


هل تعدّ هذه المهمة فضيلة؟

سؤال : طبقاً لما تقدّم آنفاً إنّ الإمام علي عليه‌السلام أصبح مأموراً من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبلاغ الآيات الاولى من سورة التوبة إلى المشركين في أيّام الحجّ ، وقد كانت هذه المأمورية بعهدة أبي بكر في البداية إلّا أن رسول الله أخذها منه ودفعها إلى علي ابن أبي طالب عليه‌السلام فهل يعدُّ ذلك فضيلة للإمام علي عليه‌السلام؟

الجواب : إنّ بعض المتعصبين تحركوا على مستوى تهميش هذه الفضيلة والتقليل من أهميّتها فقالوا : إنّ علّة تبديل هذه المأمورية هو ما كان من التقاليد الرسمية والأعراف بين العرب ، لأن العرب كانوا عند ما يريدون إرسال رسالة إلى شخص معين يقوم صاحب الرسالة نفسه أو يختار واحداً من أهل بيته وأرحامه لأداء هذه الرسالة وايصالها إلى الطرف الآخر ، ولهذا عزل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر وأرسل علي عليه‌السلام مكانه ، وعليه فإنّ هذه المأمورية المذكورة لا تعدُّ فضيلة للإمام علي عليه‌السلام (١).

ولكنّ الإنصاف أن هذا الكلام بعيد جدّاً عن الحقيقة لأنه :

أوّلاً : من أين ثبت أن التقاليد العربية كانت كذلك؟ وأيُّ كتاب ذكر هذه القضية؟ وهل يمكن إلغاء فضيلة مهمة لمجرد احتمال غير ثابت؟

ثانياً : على فرض وجود مثل هذا العرف بين العرب في ذلك الوقت فإنّ تغيير المؤدي لهذه الرسالة المهمة لا يرتبط بتقاليد العرب وأعرافهم لأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ورد في الروايات المذكورة آنفاً قد تلقى الأمر بذلك من الله تعالى.

وعلى هذا الأساس فلا شكّ في أن هذه المهمة والمأمورية تعدّ فضيلة كبيرة للإمام علي عليه‌السلام ، ومع الالتفات إلى هذا المطلب فلو أن الله تعالى أراد أن ينصب خليفة على المسلمين بعد رسول الله فلا بدّ أن يكون هذا الإنسان هو الأفضل وله فضائل أكثر ، وإذا أراد الناس انتخاب شخص لهذا الغرض فلا بدّ أن يكون هو الأفضل بمقتضى العقل.

__________________

(١) الكشّاف : ج ٢ ، ص ٢٤٤.


ارتباط آية الأذان والمؤذّن

إنّ المثوبات والعقوبات في الآخرة هي في الحقيقة انعكاس للأعمال الإنسان في الدنيا ، ويتّضح هذا المطلب أكثر بالالتفات إلى كيفية ارتباط هذه المثوبات والعقوبات الاخروية بأعمال الإنسان في حركة الحياة الدنيوية.

عند ما يحشر الإنسان المرابي في عرصات المحشر في حالة من الاضطراب في السلوك وكأنه سكران لا يقدر على الحركة ويترنح ويسقط بين الحين والآخر إلى الأرض كلُّ ذلك يحكي عن سلوكه في الحياة الدنيا حيث كان بعمله القبيح يتحرك من موقع الإخلال الاقتصادي في المجتمع وإثارة الأزمات الاجتماعية بعمله وأكله الربا فيزلزل أساس المجتمع الإسلامي ويثير فيه الارتباك والخلل ، إذن فعدم تعادله في المشي يوم القيامة يحكي عن واقع دنيوي بهذا المعنى بسبب ارتكابه لهذا الذنب الكبير ، فهو في الحقيقة انعكاس لأعماله في الدنيا (١).

وإذا كان الظالم في الآخرة يواجه الظلمات ويسير كالأعمى في عرصات المحشر فذلك بسبب أنه كان يحوّل الدنيا في نظر المظلومين إلى ظلام بحيث لا يرون كلّ شيء في حياتهم الدنيوية يعبّر عن الخير والسعادة والهناء ، إذن فالظلمات التي تحيق بالظالم في الآخرة هي انعكاس ونتيجة للظلمات التي كان يقدمها للمظلوم في حياته الدنيوية.

وإذا قرأنا في النصوص الدينية أن المؤمن يحشر يوم القيامة ومعه نور بين يديه وفي أيمانه يقوده إلى رضوان الله ومغفرته فإنما ذلك بسبب أن الكثير من الأشخاص قد اهتدوا بنور إيمانه في الدنيا وسلكوا طرق الحقّ والحقيقة وابتعدوا عن خطّ الباطل والانحراف.

والخلاصة أن جميع المثوبات والعقوبات في عالم الآخرة هي انعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا.

ومع الالتفات إلى هذا المطلب فإذا كان الإمام علي عليه‌السلام هو المؤذّن للنبي في دار الدنيا والمبلغ رسالته إلى المشركين في مكّة وفقاً لما ورد في الآية الثالثة من سورة التوبة فإنه

__________________

(١) وتفصيل الكلام في هذا الموضوع المتعلق بالربا مذكور في كتابنا «الربا والبنك الإسلامي».


سيكون في الآخرة هو «المؤذّن» الذي يوصل النداء الإلهي إلى أهل النار ويخبرهم بأن اللعنة الإلهية قد شملتهم بسبب ظلمهم الذي ارتكبوه في الدنيا.

إذا كان الإمام علي عليه‌السلام في الآخرة هو المؤذن والشخص الذي يختم الحوار الدائر بين أهل الجنّة وأهل النار فانّ ذلك بسبب كون كلامه في الدنيا فصل الخطاب بين الحقّ والباطل وقد أبلغ المشركين الكلام الأخير والإنذار النهائي ، فهل هذه فضيلة قليلة؟

هل هناك شخص آخر غير الإمام علي من المسلمين أو من أتباع الأديان الإلهية الاخرى يتمتع بمثل هذه الفضيلة؟

الحكمة في تغيير المأمور بإبلاغ آيات سورة البراءة

سؤال : تقدّم أن جميع المفسّرين من الشيعة وأهل السنّة اتفقوا على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل في البداية أبا بكر لإبلاغ آيات سورة التوبة ثمّ عزله ونصب الإمام علي مكانه ، فهل ندم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عمله الأوّل بحيث تحرّك على مستوى تغييره وتبديله ، أو أن كلا الأمرين كان بتعليم الوحي وبأمر إلهي؟ والخلاصة أنه ما هي الحكمة في هذا التبديل والتغيير؟

الجواب : وجواب هذا السؤال واضح فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مدركاً لما يفعله في كلا الحالين وكان هدفه هو إعلام الناس وإخبارهم بالشخص الأفضل وإلفات نظرهم إلى هذه الحقيقة ليخرجوا تصورهم الساذج عن الأفضل الموهوم وليهديهم ويرشدهم إلى الأفضل الحقيقي والواقعي ، ولهذا الغرض قام في البداية بتسليم هذه المأمورية إلى أبي بكر ثمّ عزله ونصب عليّاً مكانه ليفهم الناس بأن الإمام علي عليه‌السلام أفضل من أبي بكر ومن جميع المسلمين.

ولم تكن هذه أوّل مرّة يقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا العمل بل سبق ذلك موارد اخرى من هذا القبيل كلُّها تصب في هذا الهدف المهم.

مثلاً نرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة خيبر قد أعطى الراية إلى أبي بكر ليقود جيش الإسلام ويفتح قلعة خيبر ولكنه استمر به الحال إلى العصر وهو يسعى جاهداً أن يتغلب على العدو ويفتح الحصن ولكنه لم يوفق بذلك ، وفي اليوم الثاني سلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الراية إلى عمر بن


الخطّاب ولكنه فشل في هذه المأمورية كصاحبه ، وفي الليلة الثالثة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لأعطين الراية غداً لرجل يحبّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه». قال له أصحابه : إذا كان مقصودك هو علي بن أبي طالب فإنه أرمد.

فدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه فلما رآه أرمداً يشكو من عينيه تفل في عينه فانفتحت وشفي من ذلك المرض فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الراية وكان الفتح على يديه.

فلما ذا أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الراية في البداية إلى اثنين من أصحابه ثمّ أعطاها للإمام علي عليه‌السلام؟

الجواب على هذا السؤال واضح فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أن يبيّن للناس عملاً أفضلية الإمام علي عليه‌السلام.

وهكذا في معركة الأحزاب عند ما جاء عمرو بن عبد ود بطل المشركين وعبر الخندق وطلب البراز فلم يبرز له أحد سوى الإمام علي عليه‌السلام ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله امتنع في البداية ، وفي المرّة الثانية طلب عمرو بن عبد ود البراز فلم يقم له إلّا علي عليه‌السلام ، ومرة اخرى طلب منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجلس.

وفي المرّة الثالثة طلب عمرو البراز أيضاً وأخذ يرتجز ويقول :

ولقد بححت من النداء في جمعكم هل من مبارز ...

إنكم تقولون بأن قتلاكم يذهبون إلى الجنّة أليس فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟

وفي هذه المرّة أيضاً لم يبرز له سوى علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

وهنا أذن له رسول الله بالبراز والتوجه إلى ميدان القتال وقد كتب الله النصر على يديه أيضاً واستطاع قتل عمرو بن عبد ود العامري (١) وهنا نرى أيضاً أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بهذه المناورة لاثبات أفضلية الإمام علي عليه‌السلام على مستوى العمل ليثبت للمسلمين مكانته ومنزلته الاجتماعية.

__________________

(١) فروغ أبدية : ج ٢ ، ص ١٣٥ فصاعداً.


آية المحسنين ٧

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤))

«سورة الزمر / الآيات ٣٢ ـ ٣٤»

أبعاد البحث

تحدّثت هذه الآيات من سورة الزمر عن طائفتين من الناس : الاولى أظلم الناس والثانية أصدق الناس ، ثمّ استعرضت عقوبات الظالمين ومثوبات الصادقين ، والموضوع المهم الذي يجب دراسته والتأمل فيه في هذه الآيات هو : من هو أصدق الناس والذي عبّرت عنه الآية الشريفة بالمحسن؟

الشرح والتفسير :

أظلم الناس!

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) فهنا نرى نحوين من الكذب : ١ ـ الكذب على الله. ٢ ـ الكذب على رسول الله ، ولا شكّ أن جميع أنواع الكذب يُعتبر رذيلة أخلاقية ومن الذنوب الكبيرة ولكن من الواضح أن الكذب على الله وعلى رسوله


أقبح وأخطر أنواع الكذب وقد تترتب عليه إفرازات رهيبة ومعطيات مشئومة.

سؤال : ما هو الكذب الذي كان المشركون ينسبونه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

الجواب : إنّ بعض أشكال الكذب للمشركين هو :

ألف) إنهم كانوا يرون أن الملائكة بنات الله.

ب) كان البعض منهم يعتقدون بأن الله تعالى راض عن عبادة الأوثان ويرون أن الأوثان واسطة بينهم وبين الله تعالى لتشفع لهم عنده.

ج) بعض المشركين كانوا يعتقدون بأن لله تعالى ولداً ويذهبون إلى أن المسيح ابن الله.

د) أحياناً يحرّمون بعض الأشياء ويحللون اخرى وينسبون ذلك إلى الله تعالى كذباً وزوراً.

هذه الامور وأمثالها من الأكاذيب كانوا ينسبونها إلى الله عزوجل ، وبما أنها تتزامن مع عدم التصديق بالرسالات الإلهية والأنبياء الإلهيين والتحرّك في حياتهم الدنيوية على مستوى التصدّي للدعوة السماوية ومحاربة أهل الحقّ الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر فإنّ عملهم هذا يفضي في النهاية إلى تكذيب الأنبياء وإنكار دعوتهم الإلهية ، ولذلك كان هؤلاء الأفراد هم أظلم الناس ليس لأنفسهم فحسب بل ظلم لجميع الناس ولجميع الرسالات السماوية والكتب الإلهية.

أمّا ظلمهم لأنفسهم لأنهم أوصدوا أبواب السعادة والفلاح على أنفسهم بتكذيبهم هذا وسلكوا بأقدامهم في خطّ الضلالة والانحراف والباطل متجهين إلى جهنم.

وأما ظلمهم للناس فذلك لأنهم عملوا على إضلالهم وقادوهم نحو وادي الشقاء والضلالة ، فحالهم حال أهل البدع الذين قد تستمر بدعتهم وآثار عملهم القبيح آلاف السنين وأحياناً إلى يوم القيامة بحيث إنهم لا يستطيعون جبران ما صدر منهم وإصلاح الخلل حتّى في صورة الندم.

أما ظلمهم للآيات الإلهية والرسالات السماوية فكما ورد في الآية الشريفة ١٠٣ من سورة الأعراف حيث يقول الله تعالى :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)


وطبقاً لصريح هذه الآية الشريفة فإنّ عدم قبول الآيات الإلهية وإنكار الكتب السماوية ومعجزات الأنبياء يعدّ نوعاً من الظلم لهذه الآيات الإلهية لأنّ الإنسان عند ما يتحرك لمنع الشيء القابل لهداية الناس من التأثير والفاعلية ، ففي الحقيقة إنه يرتكب ظلماً بحقّه ، مضافاً إلى أنه ظلم الناس حقّهم في الاستفادة منه ، وعليه فإنّ الأشخاص الذين يعملون على تشويه سمعة الإسلام أو يقومون بالإساءة إلى الإسلام من خلال أعمالهم القبيحة أو يتحركون على مستوى تفسير وتأويل قوانين الإسلام حسب رأيهم وأفكارهم فكلُّ ذلك من أشكال الظلم للإسلام.

والخلاصة هي أن أظلم الناس هو الشخص الذي يكذب على الله وعلى رسوله ، وعقوبة مثل هذا الشخص شديدة جدّاً كما وردت في الآية الشريفة :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) فإنّ مصير مثل هذا الإنسان الظالم الذي ظلم نفسه ومجتمعه والآيات الإلهية هو جهنم ، فهي مثوى للكافرين ، فهنا نرى أن الآية الشريفة لا تصرّح ببيان عاقبة أظلم الناس بل طرحت المسألة على شكل سؤال واستفهام ، وهذا بنفسه تعبير دقيق ويحتاج إلى التأمل حيث إنّ مثل هذا المصير ومثل هذه العقوبة لهؤلاء الأشخاص تكون متوقعة لدى جميع الناس.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

أما الطائفة الثانية فتقع في النقطة المقابلة للطائفة الاولى فهم الذين يصدّقون بمن جاء بالنبوّة الصادقة ويصدّقون كذلك برسالتهم فهؤلاء هم المتّقون ، فرغم أن الآية الشريفة لا تذكر مفردة «أتقى» ولكننا يمكننا أن نفهم بدليلين أن هاتين الفئتين هم أتقى الناس : أحدهما بقرينة المقابلة مع الطائفة السابقة وهم أظلم الناس ، أي أن الآية عند ما تجعلهم في مقابل المكذّبين لله ورسوله وفي مقابل أظلم الناس فإنّ هؤلاء المصدّقين بالله ورسوله هم أتقى الناس حتماً ، والآخر إنّ جملة «هم المتقون» تدلُّ على الحصر ، وتعني أن هؤلاء هم أهل التقوى فقط وهم المتقون الحقيقيون ، وعلى هذا الأساس فإنّ المثوبات المقررة لهؤلاء المتقين في القرآن الكريم تختص بهؤلاء الأشخاص الذين أشارت إليهم هذه الآية الشريفة مضافاً إلى ما يناله المتقون في الجنّة من النعم والمواهب العامّة التي ينالها جميع المؤمنين من أهل الجنّة


فإنّهم يختصون بمواهب خاصّة ورد ذكرها في الآية التي بعدها :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ)

وهكذا نرى أن درجات ومقامات هؤلاء المتقين في الآخرة إلى درجة من العظمة والسمو بحيث إنهم ينالون من المواهب ما لا يعدُّ ولا يحصى فكلُّ ما يريدون ويطلبون فإنهم سيحصلون عليه ، وهذه النعمة لا يمكن أن يتصور فوقها شيء.

من هو «الذي جاء بالصدق» ومن «صدّق به»؟

سؤال : ما هو المراد من جملة (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) وجملة «الَّذِي صَدَّقَ بِهِ»؟

الجواب : إنّ المراد من الجملة الاولى هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد من الجملة الثانية هو الإمام علي عليه‌السلام ، رغم أن الجملة الثانية تشمل جميع المؤمنين برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين آمنوا وصدّقوا برسالته ولكن بلا شكّ أن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هو المصداق الأكمل والأتم لهذه العبارة.

وقد ورد هذا المعنى في الكثير من كتب الشيعة وأهل السنّة ، ونكتفي بالإشارة إلى بعض منها :

١ ـ نقل «ابن المغازلي» وهو من أساطين علماء أهل السنّة في كتابه المعروف ب «المناقب» عن المفسّر المعروف «المجاهد» قوله :

«فِي قَوْلِهِ تَعالى : (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) ؛ رَسُولُ اللهِ و «الَّذِي صَدَّقَ به» عَلِيٌ (١).

٢ ـ ونقل «ابن عساكر» هذه الرواية أيضاً (٢).

٣ ـ وكذلك العلّامة «الگنجي» في «كفاية الطالب» نقل هذه الرواية من بعض العلماء (٣).

٤ ـ وصرّح «القرطبي» بهذا المطلب في تفسيره (٤).

__________________

(١) المناقب : نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٧.

(٢) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٧.

(٣) كفاية الطالب : ص ١٠٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٧٧.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ، ص ٢٥٦ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ص ١٧٨.


٥ ـ واختار «أبو حيّان الأندلسي» هذا التفسير أيضاً (١).

٦ ـ وذهب «السيوطي» في تفسيره «الدرّ المنثور» إلى هذا الرأي (٢).

٧ ـ وذهب «الترمذي» صاحب كتاب «المناقب المرتضوية» إلى هذا الرأي أيضاً (٣).

٨ ـ «الآلوسي» ذهب في تفسيره «روح المعاني» إلى اختيار هذا التفسير من بين جملة علماء أهل السنّة (٤).

الفخر الرازي المخالف الوحيد

فعلى رغم كلّ هؤلاء المفسّرين والرواة الذين فسّروا الآية الشريفة مورد البحث بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام فإنّ الفخر الرازي رفع لواء المعارضة والمخالفة وزعم : «أن المراد من الجملة الثانية هو أبو بكر لأنه هو الملقّب بالصدّيق».

وأجابه القاضي نور الله التستري بجواب قاطع وقال :

«لم يرد هذا المطلب الذي ذكره الفخر الرازي في أي كتاب قبله ، ونعلم أن الفخر الرازي لم يكن من أصحاب النبي ، إذن فكلامه في تفسير هذه الآية لا يقوم على أساس متين».

وعليه فإنّ بطلان هذا الرأي لا يحتاج إلى زيادة بيان وتوضيح (٥).

__________________

(١) البحر المحيط : ج ٧ ، ص ٤٢٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٥ ، ص ٣٢٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٣) المناقب المرتضوية : ص ٥١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٤) روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٧٨.

(٥) مضافاً إلى وجود العديد من الروايات في مصادر أهل السنّة والشيعة تخصّ الإمام علي بصفة «الصدّيق» و «الفاروق» كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله «لكلّ امّة صدّيق وفاروق ، وصدّيق هذه الامّة وفاروقها عليّ بن أبي طالب» وقد وردت هذه الروايات في بحار الأنوار : ج ٣٨ ، ص ١١٢ ـ ٢١٢ ـ ٢١٣ ـ ٢١٦ ـ وفي أجزاء اخرى منه ، وورد مضمون الرواية المذكورة آنفاً في العشرات من كتب أهل السنّة (انظر الغدير : ج ٢ ، ص ٣١٣ فصاعداً).



آية السابقون الأولون ٨

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

«سورة التوبة / الآية ١٠٠»

أبعاد البحث

بالرغم من أن الآية الشريفة أعلاه تتحدّث عن ثلاثة طوائف من المؤمنين وتبشّر السابقين من كلِّ طائفة منهم ببشارات عظيمة ولكن من بين السابقين هؤلاء يوجد سابق يقع في الصف الأوّل ، وهو أوّل شخص من السابقين ، وطبقاً للروايات الكثيرة التي ستأتي لاحقاً إنّ هذا الشخص الذي حمل راية الصدق ليس هو إلّا عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام.

الشرح والتفسير :

السابقون في الإسلام

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) في هذه الآية الشريفة يحدّثنا القرآن عن ثلاث طوائف :

الطائفة الاولى : «المهاجرون» وهم المسلمون الذين أسلموا في مكّة المكرمة وواجهوا ضغوطاً كبيرة من المشركين وأعداء الدين ، وعند ما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة هاجروا معه


لإنقاذ أنفسهم من تلكم الضغوط وأشكال الأذى والتعذيب ولغرض تقوية الدين الجديد ، فتركوا بيوتهم وأموالهم وأراضيهم وأقوامهم وقبيلتهم والخلاصة تركوا كلّ شيء وهاجروا إلى المدينة بأيدي خالية ، وهناك واجهتهم أخطار كثيرة ، فمن جهة خطر المشركين في مكّة الذين كانوا بصدد الانتقام منهم وقتلهم ، ومن جهة اخرى عدم وجود العمل المناسب وكذلك حالة الغربة وأجواء الوحدة والبعد عن القوم والوطن وأمثال ذلك من الأخطار والتبعات المترتبة على الهجرة ، ولكنّ هؤلاء المسلمين الحقيقيين استقبلوا هذه الأخطار وهاجروا إلى المدينة ، وقد كان البعض منهم يمر بحالة اقتصادية سيئة للغاية بحيث كانوا ينامون في «الصفّة» إلى جانب مسجد النبي وهم المعروفون بأصحاب الصفّة حيث كانوا يقضون ليلهم ونهارهم في ذلك المكان ولم يكن لديهم ممّا يقيم أودهم إلّا القليل جدّاً ومع ذلك كانوا على استعداد دائم لتقديم الخدمات للإسلام متى حلّت الحاجة إليهم.

الطائفة الثانية : «الأنصار» وهم المسلمون الذين دخلوا الإسلام في المدينة واستجابوا لدعوة الرسول إلى الإسلام ودعوه ليهاجر إليهم وأبدوا استعدادهم لبذل كلِّ إمكاناتهم في سبيل الإسلام ، هؤلاء استقبلوا المهاجرين الذين هاجروا إليهم من مكّة ووضعوا بيوتهم وكلُّ ما يملكون تحت اختيارهم وتعاملوا معهم كإخوة لهم ، وطبعاً هؤلاء بذلوا كلَّ جهدهم وآثروا المهاجرين على أنفسهم رغم أن الوضع المالي لبعضهم لم يكن على ما يرام.

الطائفة الثالثة : «التابعون» وهم المسلمون الذين جاءوا إلى الدنيا بعد المهاجرين والأنصار وسلكوا مسلكهم وتحركوا مثلهم في خطّ الإيمان والرسالة ، وهؤلاء هم الذين يسمّون ب «التابعين» (١) أي الذين اتبعوا الطائفتين السابقتين ، وعليه فطبقاً لهذا التفسير يكون التابعون هم النسل الثاني للمسلمين ويشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة في كلِّ عصر ومكان ، أي أن المسلمين في الزمان الحاضر الذين تحركوا في خطّ نصرة الإسلام والهجرة نحو رضا الله تعالى يصدق عليهم عنوان «التابعين» الذين ورد ذكرهم في هذه الآية

__________________

(١) مصطلح «التابعين» في لسان أهل الحديث يطلق على الأشخاص الذين لم يدركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنهم أخذوا علومهم ومعارفهم من الصحابة ، وهذا المعنى أضيق دائرة من المراد بالتابعين بصورة عامّة وهم كلّ من لم يدرك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زماننا هذا.


الشريفة ، لأنه كما تقدّم سابقاً أنّ الهجرة لا تختصّ بالمسلمين في أوائل البعثة بل هي ممكنة في كلِّ زمان ومكان ، وتعني الهجرة من أجواء الذنوب إلى أجواء الطاعة ، ومن دائرة الرذائل إلى دائرة الفضائل ، ومن الظلمات إلى النور.

سؤال : ما ذا تعني مفردة «بإحسان» التي وردت في الآية الشريفة لوصف «التابعين»؟

الجواب : هنا يوجد احتمالان في تفسير هذه المفردة :

الأوّل : أن لا يكون اتّباع المهاجرين والأنصار بالكلام فقط بل ينبغي أن يتجسّد في الواقع العملي في حركة الإنسان ، وبعبارة اخرى أن يتّبع المسلم المهاجرين والأنصار بشكل جيّد ودقيق.

الاحتمال الثاني : أن يتّبع الإنسان المهاجرين والأنصار في أعمالهم الحسنة لا في جميع الأفعال والسلوكيات الاخرى ، لأنه كان بين المسلمين الأوائل بعض الأشخاص الذين كانوا يتحركون في حياتهم الفردية والاجتماعية على خلاف تعليمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحكام الإسلام.

وخلافاً لما يراه أهل السنّة من عدالة وعصمة جميع صحابة النبي (١) فنحن نعتقد أن الصحابة ليسوا معصومين جميعاً ، والآية الشريفة أعلاه يمكنها أن تكون دليلاً جيّداً على

__________________

(١) في سفري الأخير إلى مكّة المكرمة (عام ١٤٢٢ ه‍. ق) اقترح عليّ بعض علماء أهل السنّة في مكّة المكرمة أن نعقد جلسة للحوار بيننا ، ومن جملة البحوث التي طرحت في تلك الجلسة بحث عدالة الصحابة حيث قلت لهم : إنكم تعتقدون بأن جميع الصحابة عدول ومنزّهون عن ارتكاب الذنوب في حين أنّ الصحابة هم الذين اشعلوا نار حرب الجمل والتي ذهب ضحيتها أكثر من ١٧ ألف من المسلمين ، فمن المسئول عن كلّ هذه الدماء؟ وإذا كان سفك دم مسلم واحد يوجب دخول النار فكيف بدماء ١٧ ألف إنسان؟

وقد أجاب بعض علماء أهل السنّة : إن طلحة والزبير وعائشة بالرغم من كونهم السبب الأساس في اشعال نار الحرب ، إلّا أنهم انسحبوا قبل بدء القتال ولم تتلوث أيديهم بدماء المسلمين!!

فقلت في جوابهم : على فرض صحة هذا الادعاء ، فهل يكفي لمن اشعل نار الحرب أن ينسحب من الميدان وينقذ نفسه ويترك الآخرين يحترقون بنارها؟ أو يجب عليه السعي لإطفاء نار الحرب والفتنة؟! ثمّ سألتهم : لقد قتل في حرب صفين حوالي مائة ألف نفر من المسلمين ، فمن هو المسئول عن ذلك؟

قالوا : إن معاوية اجتهد فأخطأ ولا مسئولية عليه. فقلت : إذا كانت دائرة الاجتهاد واسعة إلى هذه الدرجة ، إذن فلا ينبغي أن يطال العقاب أي مذنب أو مجرم لأنه أخطأ في اجتهاده ، فهل يقبل العقلاء هذا الكلام؟!


مقولة الشيعة ، وعليه فإنّ التابعين يجب أن يتبعوا المهاجرين والأنصار في الأعمال الحسنة والأفعال الصالحة لا في جميع الأفعال والأقوال حتّى لو كانت على خلاف مسير الحقّ.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وهكذا نرى أن الله تعالى بعد أن ذكر هذه الطوائف الثلاث من السابقين في الإسلام أثنى عليهم ومدحهم وبشّرهم بالثواب العظيم المادي والمعنوي.

أمّا الثواب المعنوي فهو عبارة عن رضا الله تعالى عنهم ورضوانهم عن الله تعالى أيضاً ، أما رضا الله عنهم فواضح لأنهم تحركوا في خطّ نصرة الإسلام والمسلمين وسلكوا طريق الهجرة والطاعة والعبودية لله تعالى ، وهذه الامور تستوجب رضا الله عنهم ، والمراد من رضاهم عن الله تعالى هو أن الله في عالم البرزخ ويوم القيامة يعطيهم كلَّ ما يريدون ويطلبون ويتحقّق بذلك رضاهم عنه.

وأمّا المثوبات المادية لهؤلاء فهي الجنّات التي تتصف بصفتين : أحدهما أن المياه تجري تحت أشجارها دائماً ، والاخرى أن أهل الجنّة يمكثون فيها أبداً فليس هناك خوف من انتهاء النعيم بل هم مخلدون فيها ، وبلا شك فإنّ رضا الله عنهم ورضاهم عن الله تعالى وتمتعهم بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار تعدّ ثلاث مواهب عظيمة لأهل الجنّة بحيث لا يتصور فوز فوق هذا الفوز.

أوّل رجل مسلم

سؤال : يستفاد من الآية ١٠٠ من سورة التوبة أن السابقين هم ثلاث طوائف ولكنّ السؤال الذي يثار هنا هو : من هو الأسبق من هؤلاء؟ ومن هو أوّل شخص من المسلمين استجاب لدعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإيمان وآمن به؟

الجواب : هناك روايات كثيرة وردت في ذيل هذه الآية الشريفة تقرر أن أوّل مسلم من الرجال اعتنق الإسلام هو عليّ بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل امرأة اعتنقت الإسلام هي السيّدة خديجة عليها‌السلام.

وهذا الرأي متفق عليه بين جميع علماء الإسلام من الشيعة وأهل السنّة ويعدّ من


الواضحات لديهم حتّى أن بعض علماء أهل السنّة ادّعوا الإجماع على هذا الرأي ومن ذلك :

١ ـ يقول ابن عبد البر العالم السنّي المعروف :

اتّفقوا على أن خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله وصدّقته فيما جاء به ، ثمّ عليٌّ بعدها (١).

٢ ـ ويقول أبو جعفر الإسكافي المعتزلي استاذ ابن أبي الحديد المعتزلي الذي توفي في سنة ٢٤٠ عن أوّل من أسلم واستجاب لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد روى النّاس كافة افتخار عليّ بن أبي طالب بالسّبق إلى الإسلام (٢).

٣ ـ ويقول الحاكم النيشابوري في «مستدرك الصحيحين» الذي يعدّ رديفاً لصحيح البخاري وصحيح مسلم :

لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أنّ عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه أوّلهم إسلاماً وإنّما اختلفوا في بلوغه (٣).

ومضافاً إلى ما تقدّم آنفاً من ادعاء الإجماع على أسبقية الإمام علي عليه‌السلام لاعتناق الإسلام يروي العلّامة الأميني ٢٥ رواية من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ويذكر ٦٦ قولاً من أكابر علماء الإسلام والشعراء المتقدمين في هذا المجال ، وقد ذكر بعض علماء الشيعة ١٠٠ حديثاً من منابع أهل السنّة في هذا المجال ، ويعتبر هذا العدد كثيراً جدّاً (٤).

__________________

(١) الاستيعاب : ج ٢ ، ص ٤٥٧ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٨.

(٢) الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٧.

(٣) المستدرك على الصحيحين : كتاب المعرفة ، ص ٢٢ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٨.

(٤) وينبغي الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن وصول كلّ هذه الروايات الكثيرة عن فضيلة واحدة من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتب ومصادر أهل السنّة أشبه بالمعجزة ، لأن بيان فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن ممنوعاً في عصر حكومة بني امية فحسب وكان يعدّ جرماً أيضاً ، بل إن عشرات الآلاف من المنابر في مختلف بقاع البلاد الإسلامية الواسعة كانت معدّة لسبّ أمير المؤمنين (العياذ بالله) وهتك حرمته بحيث إنّ الكثير من الناس انخدعوا بهذا الإعلام المسموم وكانوا يرون في اسم (علي) ظلماً وجريمة ، فقد جاء رجل إلى الحجاج بن يوسف الثقفي المجرم المعروف في تاريخ الإسلام وقال له : لقد ظلمتني امّي وأنا اشتكي إليك منها. فقال الحجاج : وبما ذا ظلمتك؟ قال : لقد سمتني علياً!! وعلى هذا الأساس فبقاء روايات المناقب


أجل ، إنّ هذه المسألة تعتبر في المستويات العُليا من الإتقان والاعتبار ولذلك فالشيعة يفتخرون بها ، ولا بدّ لنا نحن الشيعة أن نفتخر ونقدر هذه النعمة العظيمة نعمة التشيّع علينا والتي تعلّمناها من والدينا وأرشدنا إليها علماؤنا ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض الروايات في هذا الصدد :

١ ـ يروي أنس خادم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه :

نُبِّئ النّبي يوم الاثنين وأسلم عليٌّ يوم الثّلثاء. (وفي رواية اخرى) بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين وصلّى عليٌّ يوم الثّلثاء (١)».

سؤال : هل أن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لم يسجد لصنم قطّ ولم يعتقد بغير التوحيد؟

الجواب : إنّ عليّ ابن أبي طالب وبشهادة التاريخ لم يسجد حتّى لحظة واحدة أمام صنم ولم يختر ديناً غير دين التوحيد (٢) ، وعليه فإنّ معنى الرواية أعلاه هي أن الإمام علي عليه‌السلام أسلم بعد يوم واحد من البعثة المباركة ولا ينافي هذا أنه كان قد عانق الإسلام بقلبه قبل ذلك.

٢ ـ ويقول سلمان الفارسي الصحابي المعروف بالنسبة إلى أوّل الناس إسلاماً :

أوّل هذه الامّة وروداً على نبيّها الحوض أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالب (٣).

__________________

لأمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك العصر الذي يخاف المؤمن فيه من ذكر فضيلة واحدة من فضائل الإمام عليه‌السلام ويسعى العدو لطمس وتحريف الحقائق ، كان أقرب ما يكون إلى المعجزة ، وما أجمل مقولة الشاعر الذي يحكي عن الحالة في ذلك الزمان :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نُصبت لكم أعواده

وعند ما يفكر الإنسان في تلك الأجواء المظلمة من التاريخ الإسلامي ، ومن جهة اخرى يجد أكثر من مائة رواية تتحدث عن فضيلة من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتب أهل السنّة يخرج بهذه النتيجة ، وهي أن الله تعالى أراد لهذه الفضائل والمناقب أن تبقى إلى يوم القيامة وتنتشر في كلّ مكان ويكون الشيعة سعداء وأعزاء في كلّ مكان ويشكرون الله تعالى على هذه النعمة العظيمة جداً.

(١) فرائد السمطين : باب ٤٧ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٤.

(٢) يقول المقريزي في الإمتاع ص ١٦ : «وأما علي بن أبي طالب فلم يشرك بالله قط». (الغدير : ج ٣ ، ص ٢٣٨).

(٣) مجمع الزوائد : ج ٩ ، ص ١٠٢ نقلاً عن الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٧.


وكما سبق وأن ذكرنا أن المثوبات الاخروية هي انعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا ، وبما أن الإمام علي عليه‌السلام كان أوّل مسلم في الدنيا ، إذن فهو أوّل شخص يرد الحوض على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة.

٣ ـ ويعترف الخليفة الثاني عمر ابن الخطّاب بهذه الحقيقة كما يروي عبد الله بن عبّاس الصحابي المعروف وتلميذ أمير المؤمنين عليه‌السلام ويقول :

كنت أنا ونفر من المسلمين عند عمر بن الخطّاب وتحدّثنا عن أوّل من أسلم ، فنقل لنا عمر حديثاً وقال :

أمّا عليٌّ فسمعت رسول الله يقول : فيه ثلاث خصال لوددت أن تكون لي واحدة منهن ، وكانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس كنت أنا وأبو عبيدة وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على منكب عليٍّ فقال يا علي : «انْتَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنينَ إيماناً ، وَأَوَّلُ الْمُسْلِمينَ إسْلاماً ، وَانْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى». (١)

سؤال : هل أن جملة «أوّل المسلمين إسلاماً» عبارة اخرى عن «أوّل المؤمنين إيماناً» أو لها معنى آخر؟

الجواب : إنّ الإيمان يتعلق بالاعتقادات القلبية والباطنية لدى الإنسان ، بينما الإسلام هو إبراز هذه الاعتقادات وإظهارها على اللسان ، وعليه فإنّ الإمام علي عليه‌السلام كما أنه أوّل من آمن بقلبه برسول الله ، فكذلك هو أوّل شخص أبرز وأظهر ذلك الإيمان على لسانه.

قيمة الإيمان قبل البلوغ

سؤال : هل كان عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام بالغاً عند ما تشرّف بدين الإسلام؟ فلو لم يكن قد وصل سنّ البلوغ فهل يعتبر إيمانه في هذه السنّ فضيلة ليقال أنه أوّل المسلمين إسلاماً؟

الجواب : وفي الجواب على هذا السؤال ينبغي تقديم نقطتين :

الاولى : إذا لم يكن الإنسان قد وصل إلى سنّ البلوغ ولكنه مع ذلك يعتبر صبيّاً ذكيّاً وعاقلاً ومميّزاً بين الخير والشر والحسن والقبيح ، فبنظرنا أن إيمان مثل هذا الشخص مقبول ،

__________________

(١) الغدير : ج ٣ ، ص ٢٢٨.


وليس فقط أنه مقبول على مستوى الإيمان ، بل كما يقول الفقهاء أن عبادات هذا الصبي المميّز صحيحة وصلاته ، صومه ، حجّه وعمرته وسائر العبادات التي قد يأتي بها مراعياً لجميع الشروط والأركان صحيحة ومقبولة.

وبتعبير فقهاء الإسلام إنّ عبادات هذا الشخص شرعيّة لا تمرينية (١) ، وعليه فعند ما تكون عبادات الصبي غير البالغ صحيحة وشرعية فإيمانه مقبول بطريق أولى ، والنتيجة هي أن إيمان الصبي المميّز قبل البلوغ مقبول.

ومضافاً إلى ذلك فنحن نعتقد أن مثل هؤلاء الصبية المراهقين مسئولون في مقابل الذنوب والمعاصي ولا يمكن صرف هذه المسئولية عنهم لمجرد عدم بلوغهم سنّ التكليف وإعطاءهم الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، ولهذا فلو أنّ الصبي المميّز الذي لم يبلغ سنّ التكليف كان يعلم جيّداً أن قتل إنسان بريء هو عمل قبيح فارتكب هذا العمل وقتل بريئاً فإنه يضمن ديته وهو مسئول أمام الله تعالى.

النتيجة هي أن الشخص غير البالغ إذا كان عاقلاً ومميّزاً فإنّ إيمانه مقبول ، وعليه فإنّ البلوغ ليس شرطاً لقبول الإسلام والإيمان.

الثانية : لقد وصل بعض الأنبياء الإلهيين في سنّ الطفولة إلى مقام النبوّة ، فكيف لا يكون البلوغ شرطاً في مقام النبوّة الذي هو أعلى كثيراً من قبول مجرد الإيمان ، ولكنه يكون شرطاً في قبول الإسلام؟ ونكتفي بذكر مثالين لنيل مقام النبوّة في مرحلة الطفولة :

١ ـ النبي يحيى عليه‌السلام وصل إلى النبوّة في سنّ الطفولة ، وقد ذكر الله تعالى ذلك في الآية ١٢ من سورة مريم وقال :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)

٢ ـ النبي عيسى عليه‌السلام أيضاً وصل مرتبة النبوّة في سنّ الطفولة كما يحدّثنا القرآن الكريم في الآية ٣٠ من سورة مريم على لسان هذا النبي ويقول :

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)

__________________

(١) وقد أشار السيّد اليزدي إلى هذه المسألة في كتاب «العروة الوثقى» : ج ٢ ، ص ٢١٧.


وعند ما يؤكد هذا النبي الكريم على أنه عبد الله فمن أجل أن النصارى لا يتخذونه بعد ذلك ابناً لله تعالى ، وعند ما يقول «جعلني» ولم يقل «يجعلني» فإنّما ذلك لأنه نال هذه المرتبة السامية ، أي مرتبة النبوّة في مرحلة الطفولة.

وقد ورد عن بعض الأنبياء أنهم نالوا هذا المقام أيضاً في مرتبة الطفولة (١).

والخلاصة أنه عند ما لا يشترط في النبوّة سنّ خاصّ وهي ذلك المقام الرفيع فبطريق أولى لا يشترط في الإيمان وقبول الإسلام سنٌّ خاصّ كالبلوغ.

الثالثة : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأموراً في أوّل البعثة ولمدّة ثلاث سنوات أن يدعو عشيرته الأقربين ويعرض الإسلام عليهم ، أي بعد أن دعاهم إلى الإسلام في هذه السنوات الثلاث بصورة خفية وسريّة (٢) وآمن أفراد قلائل به ، امر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ الرسالة بصورة علنية ، ولذلك أمر النبي عليّاً عليه‌السلام أن يهيّئ مقدمات الضيافة لقومه وأمره أن يهيّئ طعاماً مناسباً بمعونة غيره من المسلمين ودعا رؤساء قومه وعشيرته إلى ذلك المجلس ، فحضر الضيوف وتناولوا الطعام وبعد الانتهاء من تناول الطعام قام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرض دينه الجديد عليهم وأخبرهم بأنه رسول من الله تعالى إليهم ثمّ قال : «أيّكم يؤازرني على هذا الأمر ويكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي» فأحجموا كلّهم ولم يستجب أحد لطلبه غير علي عليه‌السلام وكرر النبي دعوته لهم ثلاثاً وفي كلّ مرّة لم يستجب له غير علي عليه‌السلام فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم :

«انَّ هذَا اخِي وَوَصِيّي وَخَليفَتي عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَاطيعُوهُ». (٣)

__________________

(١) يقول العلّامة المجلسي نقلاً عن أهل السنّة : إن النبي سليمان ودانيال بعثا للنبوة في مرحلة الطفولة. (بحار الأنوار : ج ٣٨ ، ص ٢٣٦).

(٢) الأشخاص الذين يعترضون على الشيعة في مسألة التقيّة ما هو تفسيرهم للدعوة السرية للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمدّة ثلاث سنوات؟ ألا يعد سلوك النبي في تلك المدّة من التقية ليزداد قوّة وأنصاراً؟ وعلى هذا الأساس فالتقية تعني تغيير في الاسلوب لحفظ وتقوية رجال الدعوة ريثما تحين الفرصة المناسبة ، وهذا هو الذي تقوله الشيعة وقد ورد هذا المعنى في النصوص الدينية وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٢ ؛ تاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٤٠ ؛ مسند أحمد : ج ١ ، ص ١١١ نقلاً عن فروغ أبدية : ج ١ ، ص ٢٥٩.


وطبقاً لنظر ورأي من يعتقد بأن عليّ بن أبي طالب كان له من العمر عند ما أسلم عشر سنوات ولهذا فإنّ إيمانه غير معتبر وليس له قيمة ، فهذا يعني أن الإمام كان له من العمر في هذه الواقعة ثلاثة عشر سنة ، فلو لم تكن قيمة لإيمان عليّ بن أبي طالب في هذا السنّ إذن فلما ذا قال في حقّه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه العبارات الجذّابة واعتبره خليفة له؟!

إنّ من يشك في هذه الفضيلة فهو في الحقيقة يشك في اعتبار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله ، ولو قيل أن مثل هذا الكلام يكون له اعتبار فيما لو كان الإمام له من العمر ثلاثة عشر سنة ، فيجب أن نقبل هذه الحقيقة وهي أن إيمان علي حتّى لو كان في سنّ العاشرة من العمر فهو ذو قيمة واعتبار.

الرابعة : ومضافاً إلى ما تقدّم لا نرى أن مسألة عدم بلوغ الإمام علي عليه‌السلام في هذه الواقعة حقيقة مسلّمة وقطعية ، بل هناك اختلاف بين علماء الإسلام في هذه المسألة ، كما ذكر صاحب مستدرك الصحيحين مشيراً إلى هذا المطلب في الأبحاث السابقة ، ولا بأس باستعراض بعض نظرات وآراء علماء الإسلام في هذه المسألة :

الف : يقول ابن عبد البر في كتاب «الاستيعاب» المجلد ٢ ، الصفحة ٤٧١ :

أوّل من أسلم بعد خديجة عليّ بن أبي طالب وهو ابن خمس عشر سنة أو ستّ عشر سنة (١).

ب : ويذكر صاحب كتاب «اسد الغابة في معرفة الصحابة» في المجلد ٤ ، الصفحة ١٧ ثلاث نظريات في هذا المجال ، وطبقاً لإحدى هذه النظريات أن عمر الإمام في ذلك الوقت كان خمسة عشر سنة.

ج : ويتعرض العلّامة المجلسي أيضاً إلى هذه المسألة وينقل سبعة أقوال حولها (٢).

وعلى هذا الأساس فإنّ عدم بلوغ الإمام علي عليه‌السلام حين تشرّفه بالإسلام لا يعتبر مسألة قطعية ومسلّمة بل هناك اختلاف في وجهات النظر بين علماء الإسلام.

__________________

(١) وقد ذكر في الاستيعاب ثمانية أقوال في عمر الإمام علي عند ما تشرّف بالإسلام ، والكلام المذكور أعلاه يشير إلى قولين من هذه الأقوال.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٨ ، ص ٧ و ٢٣٦.


والخلاصة هي أن الروايات الكثيرة والمتواترة تشهد على أن الإمام علي عليه‌السلام أوّل رجل اعتنق الإسلام وآمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذل النصرة وعلى فرض قبول عدم بلوغه في ذلك الوقت فإن ذلك لا يقلل شيئاً من هذه الفضيلة.

أوّل المؤمنين ، امتياز كبير

ولعلّ البعض يتصور بأن «أوّل المؤمنين» لا يعدُّ امتيازاً وفضيلةً لأمير المؤمنين ولا يختلف الحال بين من سبق الناس إلى الإيمان وبين من التحق بالإسلام بعده ، ولكنّ الإنصاف هو وجود تفاوت كبير وبون شاسع بينهما ، ولأجل توضيح هذا المطلب نستعرض قصة «سحرة فرعون» :

يذكر القرآن الكريم أن فرعون أمر بأن يجمعوا له جميع السحرة من سائر بلاد مصر لمواجهة النبي موسى عليه‌السلام ، وفي اليوم الموعود أحضرهم جميعاً وبذل لهم الوعود الكثيرة ومنها أن يكونوا من المقرّبين إلى البلاط الفرعوني «قال نعم وإنكم إذن لمن المقرّبين» (١).

وقد هيّأ فرعون جميع مستلزمات النصر والغلبة في ذلك اليوم بحيث كان مطمئناً إلى انتصاره في مواجهة موسى وهارون وحلّ ذلك اليوم ، وألقى السحرة في البداية عِصيّهم وحبالهم وسحروا أعين الناس وانقلبت هذه العصي والحبال إلى أفاعي وثعابين مخيفة.

ثمّ إنّ موسى عليه‌السلام ألقى عصاه بأمر من الله تعالى نحو سحر السحرة فانقلبت العصى إلى ثعبان عظيم وبدأ يلتقم حبالهم وعِصيّهم وحطّم بذلك سحرهم ومكيدتهم ، فأدرك السحرة أن هذا الشخص ليس بساحر وأنه مؤيّد من قبل الله تعالى ولذلك سجدوا جميعاً وقالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٢)

وكان إيمان هؤلاء السحرة الذين جمعهم فرعون لغرض مواجهة موسى ، مؤثراً بشدّة في تقوية ودعم جبهة الحقّ ويعدّ ضربة قاصمة إلى فرعون والملأ ، لأن الناس عند ما شاهدوا

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١١٤.

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٢١.


أن السحرة أنفسهم آمنوا وصدّقوا بموسى وميّزوا بين «المعجزة» وبين «السحر» كان ذلك دافعاً ومحرّكاً لهم على الإيمان بموسى وبالرسالة السماوية ، وعند ما شاهد فرعون هذه الظاهرة العجيبة شرع بالحديث مع السحرة من موقع التهديد والإرعاب وقال لهم :

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(١)

ولكنّ نور الإيمان جعل من تعذيب فرعون لهؤلاء السحرة سهلاً ويسيراً ولذلك أعلنوا استعدادهم لتقبّل كلّ أشكال التعذيب والقتل على التخلّي عن اعتقادهم وإيمانهم :

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أن «أوّل المؤمنين» يعدّ امتيازاً كبيراً للإنسان بحيث إنه يعتبر كفّارة لجميع الذنوب السابقة ، والعلّة في ذلك واضحة ، لأنه ليس كلُّ شخص مستعداً لأن يكون أوّل المؤمنين ويتقبّل الأخطار والإضرار وجميع التبعات والتحدّيات التي يفرضها الواقع المخالف عليه ، ولذلك فإنّ ثواب «أوّل المؤمنين» يمتاز عن سائر أشكال المثوبات الاخرى.

الإمام علي عليه‌السلام كان أوّل المؤمنين بين المسلمين جميعاً ولذلك يعدُّ امتيازاً خاصّاً وفضيلة مهمّة له حيث يعبر ذلك عن شجاعته وشهامته عند ما لبّى نداء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وشخّص الحقّ من الباطل وأن هذه الدعوة هي دعوة إلهيّة ، ولذلك لم يتردد لحظة في الاستجابة لدعوة النبي وحظى بمنزلة «أوّل المؤمنين إيماناً».

الإنسان الشيعي ينبغي عليه أن يتحلّى بهذه الخصلة والفضيلة أيضاً وعند ما تشيع الفحشاء وتسود المفاسد في المجتمع عليه أن يكون أوّل من يتقدّم لكسر حاجز الصمت والتصدّي لهذه المفاسد والقبائح على المستوى الفكري والأخلاقي ويكون أوّل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وعلى الإخوان الأعزاء الذين يشتركون في مجالس الفرح والسرور فيما لو شاهدوا أن المجلس قد تلوّث بالذنوب والمعاصي ولا أحد من الحاضرين

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٢٤.

(٢) سورة الشعراء : الآية ٥١.


يتصدّى للنهي عنها فلا ينبغي أن يكون حاله كحال بقية الناس ، ففي ذلك تكمن الفضيحة والمشاركة في الإثم ، بل يجب عليه ترك هذا المجلس وأن يتقبّل جميع أشكال اللوم والذمّ من الحاضرين من طيب خاطر وفي سبيل الله.

إنّ الشيعي الصادق لأمير المؤمنين عليه‌السلام لا ينبغي له أن يخاف ويستوحش من الوحدة في مسير الحقّ وفي حركته في خطّ الإمام علي ، لأنه عليه‌السلام يقول :

«لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَريقِ الْهُدى لِقِلَّةِ اهْلِهِ» (١).

والخلاصة أن مقام «أوّل المؤمنين» يحتاج إلى شجاعة أكثر ومعرفة أوسع وقدرة نفسيّة على تحطيم القيود والتقاليد السائدة في المجتمع المتخلّف وهذه امور قد اجتمعت في الإمام علي عليه‌السلام.

إنّ سحرة فرعون بإيمانهم بالنبي موسى ونيلهم لمرتبة أوّل المؤمنين به فإنهم ليس فقط تخلّصوا من أجواء الظلم والكفر والشرك بل أصبحوا في صفّ الشهداء ، أجل فإنهم في صباح ذلك اليوم كانوا في صفّ الفراعنة وأنصار فرعون وفي تلك الليلة أمسوا في صفّ الشهداء (٢) لأن فرعون جسّد تهديده بقتلهم وصلبهم فكان أن استشهدوا جميعاً في تلك الليلة.

ومن الجدير بالذكر أن إيمان الأشخاص في المراحل البعدية يعدّ ثمرة لإيمان الأوائل ، ولهذا فإنّ القسم الأعظم من أصحاب وأتباع النبي موسى قد أمنوا به بسبب إيمان وشهادة هؤلاء السحرة ، وهذه إحدى الآثار الكثيرة لدماء الشهداء.

توصية الآية

معرفة الفضائل مقدّمة للعمل!

عند ما نتحدّث عن فضائل الإمام علي عليه‌السلام أو سائر أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام فلا ينبغي أن

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢٠١.

(٢) يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ج ٣ ، ص ٤٦٤ : «كانوا أوّل النهار كفّاراً سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة».


نكتفي بمجرد الكلام والاستماع ، بل يجب بعد معرفة هذه الفضائل أن نتحرّك على مستوى الممارسة والعمل لتجسيد هذه الفضائل والمناقب في حياتنا وأفعالنا وأقوالنا ، وتأسيساً على هذا فإذا رأينا أن الآيات الكريمة تتحدّث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من موقع المدح والثناء وأنه «صادق ومصدق» فلا بدّ أن يكون الشيعي كذلك أيضاً في تأييد كلام الحقّ والصدق وأن يبعد عن نفسه المؤثرات العاطفيّة والمزاجيّة ، واللطيف أن المؤمن إذا سمع كلام الحقّ حتّى من الشيطان نفسه فعليه أن يستمع له ويصدّق بكلام الحقّ كما أمر الله تعالى نبيه نوح بأن يستمع لكلام الشيطان عند ما نصحه حتّى لو كانت النصيحة من الشيطان نفسه (١).

وهنا نلفت نظر المؤمنين الصادقين والمصدّقين إلى حديثين شريفين في هذا المجال :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لا تَنْظُرُوا الى كَثْرَةِ صَلاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَكَثْرَةِ الْحَجِّ وَالْمَعْرُوفِ وَطَنْتَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ ، وَلكِنِ انْظُرُوا إلى صِدْقِ الْحَديثِ وَأداءِ الْامانَةِ. (٢)

والخلاصة هي أنه طبقاً لهذا الحديث النبوي الشريف أن الملاك والمعيار في تقييم الإنسان هو صدقه وأمانته.

٢ ـ قال الإمام علي عليه‌السلام :

الْايمَانُ انْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكِذْبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ. (٣)

فطبقاً لهذا الحديث الشريف فإنّ مقتضى الإيمان هو ملازمة الصدق والحقّ وأن المؤمن لا يمكن أن يكون كاذباً.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتحلّين بالإيمان والسائرين على خطى أمير المؤمنين عليه‌السلام وأن نقتبس من فضائله ومناقبه وخاصّة فضيلة الصدق والتصديق بالحقّ والحقيقة.

__________________

(١) نصائح الشيطان للنبي نوح مذكورة في كتاب «الشيطان عدو الإنسان» ص ٦٧ ، وكتاب «مواعظ الأنبياء» ص ٤٢ فصاعداً.

(٢) ميزان الحكمة : ج ٥ ، ص ٢٨٨ ، الباب ٢١٩٢ ، ح ١٠٩٥.

(٣) نهج البلاغة : الكلمات القصار ، الرقم ٤٥٨.


آية المحبّة ٩

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))

«سورة مريم / الآية ٩٦»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة وبشهادة كتب أهل السنّة ومصادرهم نزلت في شأن الإمام علي عليه‌السلام حيث تذكر الروايات الشريفة أن الإمام علي عليه‌السلام هو المصداق الأكمل والأتم لهذه الآية الشريفة ، وقد ذكرت لهذه الآية بحوث متنوّعة منها : ارتباط الإيمان والعمل الصالح بالمحبّة في القلوب ، وكذلك آراء ونظريات علماء أهل السنّة في شأن نزول هذه الآية ، ومباحث اخرى أيضاً من هذا القبيل سيأتي تفصيلها لاحقاً.

التوغّل والنفوذ في القلوب أهم رأس مال القادة

إنّ أهم رأس مال للقادة السياسيين والاجتماعيين في مختلف المجتمعات البشرية هو ما يتمتعون به من محبّة في قلوب الناس ، بحيث إنّ المشاريع والاطروحات الاجتماعية المهمّة لا تتحقق بدون وجود هذه العاطفة والانجذاب نحو القائد في عرصات المجتمع وعلى مستوى الجمهور.

ولهذا فإنّ مشاركة الناس في الامور الاجتماعية والسياسية والثقافية وحتّى العسكرية


يعدّ أمراً ضرورياً جدّاً في عملية الإصلاح الاجتماعي أو نجاح الحكومة ، ومن أجل تحصيل هذه الغاية فلا بدّ من النفوذ إلى قلوب الناس وجذب مودّتهم وكسب حبّهم ، وعند ما نرى أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نجح في مدّة قصيرة أن ينشر دعوته السماوية إلى شرق العالم وغربه ويوحّد قلوب المسلمين ويزيل عنهم الأحقاد والتعصّبات القديمة ويشكّل جيشاً موحّداً وقويّاً استطاع بواسطته أن يوصل دعوته الإلهية إلى شتّى بقاع المعمورة فإنّ ذلك كان بسبب أخلاقه السامية ونفوذه العجيب في قلوب الناس من المسلمين وغير المسلمين كما يحدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحقيقة ويقول :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(١)

وهكذا بالنسبة إلى النبي إبراهيم عليه‌السلام عند ما هاجر بأمر من الله تعالى إلى مكّة وأسكن زوجته وطفله الرضيع في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا غذاء ومن دون زاد ومتاع إلى جانب بيت الله الحرام ، رفع يديه للدعاء وقال :

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(٢)

فكان إبراهيم عليه‌السلام يعلم أن النفوذ إلى القلوب هو أعظم رأس مال للإنسان ولهذا طلب من الله تعالى أن يجعل محبّة أهل بيته في قلوب الناس.

الإمام الخميني رحمه‌الله بدوره لم يكن لديه منذ بداية الثورة ولآخر يوم من أيامها سلاحاً مهمّاً من الأسلحة المتعارفة ليواجه بها أعوان الشاه وجيشه المسلّح ، ولكنه كان يمتلك سلاحاً أقوى فاعليّة وأمضى قوّة من جميع الأسلحة المتطورة لطاغوت زمانه ، وهو المحبّة في قلوب الناس وتعاطف الجماهير مع دعوته الإلهية ، والخلاصة أن عنصر النفوذ في القلب يعدّ أهم رأس مال للقادة والمصلحين في سائر المجتمعات البشرية.

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٥٩.

(٢) سورة إبراهيم : الآية ٣٧.


الشرح والتفسير :

ارتباط الإيمان والعمل الصالح بمسألة النفوذ في القلوب

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)

في هذه الآية الشريفة نرى ارتباطاً بين الإيمان والعمل الصالح من جهة والنفوذ إلى قلوب الناس من جهة اخرى ، حيث يقرر الله تعالى في هذه الآية الشريفة المحبّة في قلوب الناس نتيجة الإيمان والعمل الصالح ، ومعنى هذه العبارة هي أنه من الممكن أن يتسلط الإنسان بقوّة السلاح والسيف على الناس بأجسادهم وأبدانهم ، ولكنه لا يستطيع إطلاقاً أن يتسلط على قلوبهم وأرواحهم ويفتح طريقاً إلى أعماق وجدانهم بالقوّة والقهر.

سؤال : إذن ما هي حقيقة العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح من جهة وبين النفوذ إلى قلوب الناس والمقبولية العامة في أوساط المجتمع من جهة اخرى؟ هل يمكننا أيضاً تحصيل هذه النعمة الكبيرة من خلال الإيمان والعمل الصالح؟

الجواب : بالإمكان تصوير هذه العلاقة الثنائية على نحوين :

الأوّل : أن يكون هذا الارتباط المعنوي والإلهي وفقاً لحكمة الله تعالى التكوينية كما هو الحال في المحبّة التي جعلها الله تعالى لموسى عليه‌السلام في قلب فرعون وزوجته في حال طفولة موسى ، حيث إن فرعون أمر بأن يقتل جميع الأطفال الذكور من بني إسرائيل في مصر بهدف القضاء على العدو المحتمل ، ولكن الله تعالى قد قذف في قلبه حبّ موسى وجعله يربّي موسى في بيته وقصره ، ومن هنا أراد الله تعالى أن يظهر قدرته الفائقة لفرعون والفراعنة بأنهم لا يمكنهم التصدّي لإرادة الله ومشيئته ولا يمكن لأي قدرة أن تقف مانعاً وحائلاً دون إرادة الله فيما لو تعلقت بشيء من الأشياء ، فمثل هذه العلاقة العاطفية والمحبّة القلبية لا تكون اكتسابية بل هي موهبة من الله تعالى.

الثاني : العلائق العاطفية العاديّة القابلة للتحليل المنطقي ، فإنّ العمل الحسن والصالح يتمتع بجاذبيّة وحتّى الأشخاص المنحرفين والفاسدين ينجذبون نحو حسن الأعمال وجمالها الأخلاقي.

مثلاً «الأمانة» تعتبر من الأعمال الصالحة ، والإنسان الأمين يعدّ إنساناً صالحاً ومورد


قبول الناس وحبّهم واحترامهم ، فحتّى اللصوص وقطّاع الطرق يحبّون من يتمتع بهذه الفضيلة ويعتمدون عليه على مستوى الارتباط الاجتماعي وقد يضعون أموالهم المسروقة أمانة ووديعة عنده ، وعليه فإنّ العمل الصالح وكذلك الإيمان لهما جاذبية لقلوب الناس ، والثمرة المترتبة على ذلك هي النفوذ إلى قلوب الناس ، والشخص الذي يرغب في أن تكون له مكانة ومحبّة في قلوب الناس يكفي أن يكون إنساناً مؤمناً صالحاً ، فإذا أدرك الناس ذلك منه فإنّ قلوبهم ستتجه نحوه ولا حاجة إلى عمل خاص في هذا السبيل.

الطهارة والعفّة هي الاخرى أحد الأعمال الصالحة ذات القيمة الأخلاقية العالية ، وهذه الفضيلة إلى درجة من الأهمّية بحيث إنّ الأشخاص الذين يعيشون التلوّث في الخطيئة يعشقونها فعند ما يريدون الزواج وتشكيل اسرة يتوجهون إلى العوائل الشريفة ويخطبون النساء العفيفات ويجتنبون الزواج من الملوّثات ، والملفت للنظر أن الإمام علي عليه‌السلام وهو مورد البحث في هذه الآية قد وصل في معراجه المعنوي وتكامله الإنساني إلى أعلى درجة من حيث الإيمان والعمل الصالح من جهة ونفوذه في قلوب الناس من جهة اخرى.

شأن نزول آية المحبّة

بالرغم من أن مفهوم الآية الشريفة مورد البحث عام وشامل لكلِّ مؤمن يعمل الأعمال الصالحة حيث ينتج هذا الإيمان والعمل الصالح المحبّة في قلوب الناس ، ولكن بلا شك أن المصداق الأكمل والأدق لهذه الآية الشريفة هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما ورد التصريح بذلك في كتب أهل السنّة المختلفة رغم سعي البعض لإنكار هذه الحقيقة الواضحة.

ويقول العلّامة الحلّي في كتاب «احقاق الحقّ» (١) في شأن نزول الآية المذكورة أنها نزلت

__________________

(١) يعتبر كتاب «إحقاق الحقّ» من الكتب القيّمة والمهمّة جدّاً لدى الشيعة ، ويحتوي على أربعة أقسام ، ومؤلفه العلّامة الحلّي ، وقد كتب القاضي روزبهان من علماء أهل السنّة ردّاً على هذا الكتاب ثمّ ادرجه ضمن الكتاب ، ثمّ إن القاضي نور الله التستري كتب ردّاً على ما ذكره القاضي روزبهان وأيّد العلّامة الحلّي وتم ادراج ردّه أيضاً ضمن الكتاب ، وأخيراً قام آية الله العظمى المرعشي النجفي وبمساعدة بعض الفضلاء من أصحابه بإضافة هوامش مفيدة على هذا الكتاب وتم طبعه ونشره بصورة نهائية.


في حقّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولكن القاضي روزبهان من علماء أهل السنّة يردّ على كلام العلّامة هذا ويقول :

ليس هذه الرواية في تفسير أهل السنّة ، وإن صحت دلّت على وجوب محبّته وهو واجب بالاتّفاق (١).

والملفت للنظر أن المحققين من الشيعة ذكروا في هامش الكتاب المذكور «احقاق الحقّ» نقلاً عن ١٧ كتاب من كتب أهل السنّة أن روايات تتعلق بالإمام علي عليه‌السلام في هذا المورد ، من بين هذه الكتب ستة منها من كتب التفسير ، فكيف يبرر مثل هذا التناقض في كلمات علماء أهل السنّة؟ هل أن القاضي روزبهان لم يقرأ هذه الكتب ، أو أنه قرأها ولكن حجاب التعصّب والعناد منعه من قبول هذه الروايات؟

وعلى أيّة حال فالكتب المذكورة هي ما يلي :

١ ـ تفسير الثعلبي (٢).

٢ ـ تفسير الكشّاف لمؤلفه الزمخشري المفسّر المعروف لدى أهل السنّة (٣).

٣ ـ تفسير العلّامة النيشابوري والذي ورد في هامش تفسير الطبري (٤).

٤ ـ السيوطي في الدرّ المنثور (٥).

٥ ـ العلّامة الشوكاني في تفسيره (٦).

٦ ـ الآلوسي في روح المعاني (٧).

ونكتفي في ذكر روايتين من هذه الكتب المذكورة :

الف : ما أورده «روح المعاني» أن البراء بن عازب الصحابي المعروف قال :

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٧.

(٢) تفسير الثعلبي : ص ١٥١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٢.

(٣) الكشّاف : ج ٢ ، ص ٤٢٥ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٣.

(٤) تفسير الطبري : ج ١٦ ، ص ٧٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٤.

(٥) الدرّ المنثور : ج ٤ ، ص ٤٨٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٥.

(٦) تفسير الشوكاني : ج ٣ ، ص ٣٤٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٦.

(٧) روح المعاني : ج ١٦ ، ص ١٣٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٦.


قالَ رَسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وَجْهَهُ : «قُلِ اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْداً وَاجْعَلْ لِي فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنينَ وُدّاً» فَأَنْزَلَ اللهُ سُبْحانَهُ هذِهِ الْآيَةَ.

وَكانَ مُحَمَّدُ بْنُ الحنفيّة رضى الله عنه يَقُولُ : لا تَجِدُ مُؤْمِناً الّا وَهُوَ يُحِبُّ عَلِيّاً كَرَّمَ اللهُ تَعالى وَجْهَهُ وَاهْلَ بَيْتِهِ (١).

سؤال : ما هو المراد من العهد المذكور في هذه الرواية؟

الجواب : يحتمل أن يكون هذا العهد هو ما ورد في آية سابقة قبل هذه الآية محل البحث ، أي الآية ٨٧ من سورة مريم حيث ورد فيها :

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)

وعليه فالمراد من العهد هو الشفاعة ، فالنبي الأكرم يقول للإمام علي عليه‌السلام : اطلب من الله تعالى أن تنال مقام الشفاعة وأن يجعل محبّتك في قلوب المؤمنين وهي المحبّة التي وردت في دعاء إبراهيم الخليل واستمرت إلى زمان نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وستبقى إلى يوم القيامة.

ب : ويذكر العلّامة الشوكاني نقلاً عن الطبراني عن ابن عبّاس إنه قال :

نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ ابي طَالِبٍ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) قالَ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنينَ (٢).

وعلى أيّة حال فقد رأينا أن هذه الآية الشريفة تقرر وجود رابطة وثيقة بين الإيمان والعمل الصالح من جهة والمحبّة في قلوب الناس من جهة اخرى ، وطبقاً للروايات الواردة فإنّ المصداق الأكمل لها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

التفاسير الاخرى للآية مورد البحث

ومضافاً إلى التفسير المتقدم فهناك تفاسير اخرى للآية المذكورة ومنها :

الف) إن المراد من الآية الشريفة ليس هو أن المحبّة توجد في قلوب المسلمين والمؤمنين

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٨٦.

(٢) نفس المصدر السابق.


جميعاً اتجاه فرد معيّن أو أفراد بالخصوص ، بل المراد أن الإيمان والعمل الصالح يورثان المحبّة في قلوب جميع المؤمنين بالنسبة إلى بعضهم البعض ، وبعبارة اخرى إنّ المحبّة في قلوب المؤمنين متوجهه لجميع المؤمنين لا إلى فرد بالخصوص.

ب) إنّ هذه الآية الشريفة تشير إلى يوم القيامة فإنّ الله تعالى في ذلك اليوم يجعل المحبّة في قلوب المؤمنين بحيث يحبُّ بعضهم بعضاً ، وعليه فهذه الآية لا تتعلق بما نحن فيه.

ج) إنّ المراد من الآية الشريفة هو الإمام علي عليه‌السلام فقط ولا تشمل أي مؤمن آخر ، وما ورد في العبارة من صيغة الجمع لا يثير مشكلة ، لأن صيغة الجمع تأتي أحياناً لغرض الاحترام (١).

ولكن الانصاف أن جميع التفاسير هذه غير متنافية فيما بينها وبالإمكان الجمع فيما بينها في المفهوم من الآية الشريفة والتي تستوعب جميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات رغم أن المصداق الأكمل والأتم هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما هو الحال في اختلاف الأنوار شدة وضعفاً من قبيل : نور الشمعة ، المصباح ، القمر ، الشمس ، ولكن بلا شكّ أن نور الشمس هو المصداق الأكمل والأتم لمفهوم النور.

توصية الآية الشريفة

الشيعة بمثابة السراج المنير

تقدّم أن قلنا أكثر من مرّة إنه ينبغي على الشيعة وأتباع أمير المؤمنين عليه‌السلام السعي لمعرفة فضائل ومناقب الإمام علي وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ولكن بلا شك لا ينبغي الاكتفاء بهذا المقدار بل يجب التحرّك بعد معرفة هذه الفضائل في خطّ العمل بها وتجسيدها على مستوى الواقع النفسي والاجتماعي والسعي في طريق النجاة والفلاح وإرشاد الناس إلى هذا الطريق أيضاً ، يجب على شيعة الإمام علي عليه‌السلام أن يكونوا قدوة واسوة في الإيمان والعمل الصالح لكي

__________________

(١) الاحتمالات الثلاثة واحتمالات اخرى مذكورة في مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٥٣٢ ـ ٥٣٣.


يهتدي الناس بنور إيمانهم إلى خطّ الصلاح والتقوى والانفتاح على الله ، وهذا المعنى هو الذي يبعث المحبّة لهم في قلوب الآخرين وبالتالي يستوجب رضا أهل البيت عليهم‌السلام عنهم وسرورهم بمثل هؤلاء الأتباع ، لا أن يتحرك الشيعة بشكل يبعث على خجل هؤلاء الأولياء من أعمالهم (١).

مباحث اخرى

١ ـ نفوذ المحبّة في قلوب الجميع

إنّ ظاهر الآية الشريفة هي أن الإيمان والعمل الصالح لا يستوجبان فقط نفوذ المحبّة في قلوب المؤمنين بالنسبة إلى ذلك الشخص بل إنّ شعلة هذه المحبّة تسري إلى قلوب غير المؤمنين وتعمل على تسخيرها ولهذا فإنّ أعداء الإمام علي عليه‌السلام أيضاً يشعرون بالمحبّة له رغم أن أهواءهم النفسانية لا تسمح لهم بإظهار هذا الحبّ ولكن قد يفلت من كلماتهم هذا الأمر.

وهذا ما ورد في كتب التاريخ مراراً من أن معاوية كان يسأل من بعض شيعة الإمام علي عليه‌السلام عند ملاقاتهم به عن حالات أمير المؤمنين وأفعاله ، وبعد أن يستمع لما يذكرونه من ثناء ومدح لأمير المؤمنين يؤيدهم في ذلك (٢).

وأما عمرو بن العاص وهو الرجل الثاني من قادة العصيان والتمرد والانحراف والذي يعدّ الشريك الأوّل لجرائم معاوية بل إنّ معاوية كان يأتي بالدرجة الثانية في المكر والحيلة والإفساد بعد عمرو بن العاص ، هذا الشخص يقول في قصيدته المعروفة باسم «الجلجليّة» (٣)

__________________

(١) وقد ورد هذا المعنى في الروايات الشريفة أيضاً ، ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً» (بحار الأنوار : ج ٦٨ ، ص ٢٨٦) ومثله ما ورد عن الإمام الرضا والإمام الحسن العسكري عليهما‌السلام. (بحار الأنوار : ج ٧٥ ، ص ٣٤٨ و ٣٧٢).

(٢) وقد أوردنا نماذج من هذه المحاورات في كتاب «١١٠ قصة من حياة الإمام علي» الفصل الخامس.

(٣) إن السبب الذي دفع عمرو بن العاص إلى إنشاد هذه القصيدة أن معاوية عند ما ولّاه على مصر كان المفروض أن يرسل بعض خراجها إلى الحكومة المركزية في الشام كما هو السائد في الإمارات في ذلك الزمان ،


يعترف فيها بالجرائم التي ارتكبت في زمن معاوية وكذلك في فضائل الإمام علي عليه‌السلام ويقول :

مُعاوِيَةُ الْحالَ لا تَجْهَل

وَعَنْ سُبُلِ الْحَق لا تَعْدِل

وَكِدْتُ لَهُمْ انْ اقامُوا الرّماحَ

عَلَيْهَا الْمَصاحِفَ فِي الْقَسْطَل

نَسيتَ مُحاوَرَةَ الْاشعَري

وَنَحْنُ عَلى دُومَةِ الْجَنْدَل؟

خَلَعْتُ الْخِلافَةَ مِنْ حَيْدَرٍ

كَخَلْعِ النَّعالِ مِنْ الْارْجُل

وألبستها فيك بعد الأياس

كلبس الخواتيم بالأنمل

وكم قد سمعنا من الْمُصْطَفى

وَصَايَا مُخَصَّصَةً فِي عَلِيٍّ؟

وَفِي يَوْمِ خُمٍّ رَقى مِنْبراً

يُبَلّغُ والرَّكْبُ لَمْ يَرْجُل

وَفِي كَفِّهِ كَفِّهِ مُعْلِناً

يُنادِي بِامْرِ الْعَزيزِ الْعَلِيّ

وَقالَ فَمَنْ كُنْتُ مَوْلىً لَهُ

فَهَذا لَهُ الْيَوْمَ نِعْمَ الْوَلِيّ

وَانّا وَما كَانَ مِنْ فِعْلِنا

لَفِي النّارِ فِي الدَّرْكِ الْاسْفَلِ (١)

٢ ـ مفهوم العمل الصالح في القرآن

إنّ العمل الصالح في نظر الإسلام في دائرة المفاهيم القرآنية أمر مهم جدّاً بحيث إنّ سبعين آية من آيات القرآن الكريم بحثت هذا المعنى والمفهوم ، والعمل الصالح له مفهوم واسع وشامل لكلِّ عمل يصبُّ في دائرة رضا الله تعالى ، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف ما يوضح سعة دائرة هذا المفهوم للعمل الصالح :

الايمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ (سِتُّونَ خ ل) شُعْبَةً أَعْلاها شَهادَةُ انْ لا الهَ الَّا اللهُ وادْناها اماطَةُ الْأذى عَنِ الطَّريقِ (٢).

__________________

إلّا أن عمرو بن العاص أبى ذلك ، فأرسل إليه معاوية كتاباً يوبّخه فيه فاضطر عمرو إلى إرسال بعض خراج مصر إلى معاوية ، ولكنه لما رأى أن معاوية قد نسى خدماته الجليلة له وإنقاذه لحكومة الشام في ظروف صعبة ومواقف حرجة ، كتب إلى معاوية هذه القصيدة ، وعند ما قرأها معاوية فكأنه ندم على ما صدر منه تجاه عمرو بن العاص وأمر بأن يترك لحاله ولا يؤخذ من خراج مصر شيئاً.

(١) الغدير : ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) عوالي اللئالي : ج ١ ، ص ٤٣١ والرواية المذكورة وردت في صحيح مسلم مع اختلاف يسير ، في كتاب


هذه الرواية الشريفة مضافاً إلى أنها تشير إلى سعة دائرة العمل الصالح فإنها تقرر هذه الحقيقة وهي أن الإسلام يهتم بأدنى وأصغر مسائل الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين ويوصي المسلمين بالاهتمام حتّى بالامور الجزئية.

__________________

الإيمان ، الباب ١٢ ، ح ٥٨ ، وهو : «الإيمان بضع وسبعون ، أو بضع وستّون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الاذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» وقد وردت الرواية هذه في مسند أحمد : ج ٢ ، ص ٣٧٩ أيضاً مع اختلاف يسير.


آية السابقون ١٠

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

«سورة الواقعة / الآيات ١٠ ـ ١٢»

أبعاد البحث

هذه الآيات الشريفة تستعرض فضيلة اخرى من فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً والتي اعترف بها علماء السنّة بصورة واسعة ، فنقرأ في هذه الآيات الشريفة التي تتحدّث عن طوائف ثلاث من الناس يوم القيامة ، تعليمات راقية ومطالب مهمة تتعلق بمسيرة الإنسان في حركة الحياة الدنيوية ، وسيأتي تفصيل البحث لاحقاً.

مضمون سورة الواقعة

إنّ سورة الواقعة كسائر سور القرآن الكريم تتضمن مفاهيم عميقة ومواضيع مثيرة للغاية ، والأصل والمحور في مواضيع آيات هذه السورة المباركة هو الحديث عن المعاد والحياة الاخروية ، فالآيات الاولى من هذه السورة تستعرض علائم وآثار يوم القيامة حيث يبدأ هذا اليوم بانقلاب كبير في عالم الوجود كما هو الحال في الانقلاب والانفجار الذي حدث في بداية ظهور الأرض والمجرّات والسماوات ، وعليه فإنّ الدنيا بدأت بانفجار مهيب وستنتهي أيضاً كذلك ، فعند ما تقوم القيامة تهتزّ الأرض بشدّة وتتحطم الجبال


العظيمة وتتلاشى في الفضاء نتيجة اصطدامها فيما بينها في الفضاء بحيث تتحول إلى غبار منثور ، وبعد ذلك يقوم الله تعالى بخلق عالم الآخرة على خرائب وأطلال عالم الدنيا ويخلق أرضاً وسماءً جديدة ، وفي ذلك اليوم تدبُّ الحياة في الأموات ويبعثون من قبورهم مرّة ثانية ويكونون على ثلاث طوائف :

١ ـ «أصحاب الميمنة» وهم السعداء والمفلحون في ذلك اليوم.

٢ ـ «أصحاب المشأمة» (١) وهم الأشخاص الذين يواجهون الشقاء والمصير السيئ وتقدّم إليهم صحيفة أعمالهم بيدهم الشمال.

٣ ـ (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) وهذه الطائفة من الناس هم أسعد حظاً من الطائفة الاولى وهم الذين ينالون وسام مقام القرب من الله تعالى بحيث لا يدانيهم في هذا المقام والمنزلة أحد من المؤمنين.

وبهذا التقسيم القرآني لطوائف الناس في ذلك اليوم تشرع الآيات الكريمة باستعراض أنواع المثوبات والعقوبات المقرّرة لأفراد هذه الطوائف الثلاث ، المثوبات التي تثير الوجد والفرح في قلوب المؤمنين ، والعقوبات الرهيبة التي تثير الفزع والخوف لدى كلّ إنسان.

وتتحدّث الآيات ١١ إلى ٢٦ عن المثوبات المقرّرة للسابقين والمقرّبين ، وهي المثوبات غير القابلة للتصور أحياناً ، وتتحدّث الآيات ٢٧ إلى ٤٠ عن مثوبات أصحاب اليمين ، ومن الآية ٤١ فما بعد يتحدّث القرآن الكريم عن عقوبات أصحاب الشمال بصورة مفصلة.

الشرح والتفسير :

من هم السابقون؟

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) وهم الذين ينبغي أن يكونوا اسوة

__________________

(١) «الميمنة» و «المشأمة» يمكن تفسيرهما بمعنيين :

أحدهما : أن يكون المراد منهما هو اليُمن والبركة في الاولى ، والشؤم والشر في الثانية ، والآخر أن يكون المراد هو اليد اليمنى واليسرى ، حيث استخرج منهما هاتان الكلمتان للدلالة على أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ولكن يمكن القول بأن المعنى الأوّل أقرب إلى أجواء الآيات من خلال التقابل الموجود بينهما في سياق الآيات ، وكذلك يمكن القول بالثاني بلحاظ ما يرد في هذه الآيات من إعطاء كتاب الأعمال للصالحين بأيديهم اليمنى ، وإعطاء كتاب الأعمال للمجرمين بأيديهم الشمال.


وقدوة لجميع أفراد البشر في حركتهم المعنوية وسيرهم التكاملي في خطّ الإيمان والرسالة.

سؤال : من هم هؤلاء السابقون الذين ينالون مقام القرب من الله تعالى؟

الجواب : لقد ذكرت تفاسير مختلفة للمقصود من هذه العبارة :

١ ـ السابقون في الإيمان.

٢ ـ السابقون في الجهاد.

٣ ـ السابقون في العبادة والصلاة اليومية.

٤ ـ السابقون في التوبة.

٥ ـ السابقون في طاعة الله.

٦ ـ السابقون في دخول الجنّة.

٧ ـ السابقون في الهجرة.

٨ ـ السابقون في أعمال الخير.

وهناك تفاسير اخرى أيضاً (١).

ولكننا نرى عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير المذكورة للآية الشريفة ، وعليه فلا ينبغي أن نقيّد الآية بأحد الموارد المذكورة بل نرى أن المفهوم منها يستوعب جميع ما ورد لها من هذه التفاسير ، وعلى أيّة حال فالسابقون يتّسمون بفضائل جمّة ويختصّون بخصائص مهمّة ترتفع بهم في عالم الملكوت ، وأسمى مقام لهم هو مقام القرب الإلهي ، وبلا شك أن اللذّة التي يعيشها هؤلاء السابقين في هذا المقام العظيم ترتفع عن كلِّ لذّة اخرى.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وهذا التعبير بصيغة الجمع يشمل كافة النِّعم المادية والمعنوية في الجنّة ، وقد يشير أيضاً إلى أن بساتين الجنّة هي محل النعيم الحقيقي لا غير خلافاً لبساتين الدنيا التي قد تكون سبباً للتعب والشقاء ، وهكذا بالنسبة إلى حال المقرّبين وتفاوت مقامهم

__________________

(١) هذه الاحتمالات وردت أيضاً في التفسير الامثل ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير التبيان : ج ٩ ، ص ٤٩٠ ، ومجمع البيان : ج ٥ ، ص ٢١٥.


في الآخرة بالنسبة إلى الدنيا لأنّ مقامهم الدنيوي كان مقترناً مع تحمل المسئوليات والأتعاب والمشاكل في حين أن مقامهم الاخروي هو التنعم الخالص بالمواهب الإلهية في الجنّة.

فهل تليق هذه المواهب والمثوبات الإلهية لغير السابقين؟

نسألك اللهمّ بلطفك وكرمك أن تحشرنا مع هذه الطائفة وتجعلنا من المقرّبين عندك.

الإمام علي عليه‌السلام المصداق الأتم والأكمل للسابقين

كما تقدّم آنفاً فإنّ مفهوم الآية الشريفة شامل وعام في دائرة السابقين ويستوعب في مضمونه جميع الأشخاص الذين سبقوا الآخرين في الإيمان والجهاد والصلاة والتوبة والمسير في خطّ الطاعة والعبودية والدخول إلى الجنّة وأمثال ذلك ، ولكن طبقاً لما ورد في الروايات الشريفة أن الإمام علي عليه‌السلام هو أسبق السابقين في هذه الموارد والمصداق الأتم والأكمل لهذه الآية الشريفة ، وهنا نلفت النظر إلى بعض ما ورد في هذه الروايات :

الف) ما ورد عن المفسّر والراوي المعروف ابن عبّاس المقبول لدى السنّة والشيعة أنه قال :

سابِقُ هذِهِ الْامَّةِ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ (١).

ب) وقال ابن عبّاس أيضاً في رواية اخرى :

يُوشَعُ بْنُ نُون سَبَقَ إلى مُوسى ، وَمُؤْمِنُ آلِ ياسين سَبَقَ الى عيسى ، وَعَلِيُّ بْنُ ابي طالِبٍ سَبَقَ إلى مُحَمَّدٍ (٢).

ج) عند ما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إجراء عقد الزواج بين الإمام علي عليه‌السلام وابنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام قال مخاطباً لابنته :

زَوَّجْتُكِ بأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِي وَعَرَفَنِي وَساعَدَنِي (٣).

أجل ، فطبقاً لهذه الروايات والروايات الاخرى التي لم نذكرها هنا رعاية للاختصار فإنّ

__________________

(١) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٤.

(٢) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٣) روضة الأحباب : ج ٣ ، ص ١٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٧.


الإمام علي عليه‌السلام هو أسبق السابقين من جميع المسلمين ، فهل من اللائق مع وجود مثل هذا الإمام اختيار شخص آخر لخلافة النبي؟

وما أجمل ما قاله الشاعر العربي :

ا لَيْسَ اوَّلُ مَنْ صَلّى بِقِبْلَتِهِمْ

وَاعْلَمُ النّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ (١)

إذن فلما ذا مع وجود عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام واعترافهم بأفضليته وأسبقيته يتم اختيار شخص آخر وترجيحه عليه؟

الروايات المذكورة آنفاً وردت في منابع متعددة لدى أهل السنّة ونكتفي هنا بذكر ١٠ مصادر ومنابع منها :

١ ـ ابن المغازلي في المسند (٢).

٢ ـ السبط ابن الجوزي في التذكرة (٣).

٣ ـ ابن كثير الدمشقي (٤).

٤ ـ محيي الدين الطبري في الرياض النضرة (٥).

٥ ـ السيوطي في الدرّ المنثور (٦).

٦ ـ ابن حجر في الصواعق المحرقة (٧).

٧ ـ العلّامة الشوكاني في فتح القدير (٨).

٨ ـ مير محمّد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية (٩).

__________________

(١) الشعر من خزيمة بن ثابت.

(٢) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٤.

(٣) التذكرة : ص ٢١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٤) تفسير ابن كثير : ج ٤ ، ص ٢٨٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٥) الرياض النضرة : ص ١٥٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٥.

(٦) الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ١٥٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٦.

(٧) الصواعق المحرقة : ص ١٢٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٦.

(٨) فتح القدير : ج ٥ ، ص ١٤٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٧.

(٩) المناقب المرتضوية : ص ٤٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٧.


٩ ـ الآلوسي في روح المعاني (١).

١٠ ـ القندوزي في ينابيع المودّة (٢).

ومع الالتفات إلى كثرة هذه الروايات الواردة في شأن الإمام علي عليه‌السلام في ذيل الآية الشريفة فهل يعقل أن الله تعالى يختار شخصاً آخر للخلافة مع وجود الإمام علي عليه‌السلام وفضائله الكثيرة؟

تفسير السابقين على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«السّابِقُونَ إلى ظِلِّ الْعَرْشِ طُوبى لَهُمْ».

قيلَ : يا رَسُولُ اللهِ وَمَنْ هُمْ؟ قال :

١ ـ «الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إذَا سَمِعُوهُ»

إنّ السابقين يتّصفون بأنهم يذعنون للحقّ أياً كان ومن أي شخص سمعوه حتّى لو كان من عدو أو صبي صغير فلا يجدون في أنفسهم حرجاً ولا تعصباً أو تكبّراً على الحقّ ، فعند ما يدرك الإنسان خطأه وتتضّح له آفاق الحقيقة فيجب عليه أن يتحرك من موقع الشجاعة والشهامة ويعترف بخطئه ويقبل بالحقّ وليعلم أن ضرر الاعتراف بالخطإ أقلُّ بكثير من ضرر العناد والإصرار على الخطأ وعدم الاعتراف به.

٢ ـ «وَيَبْذَلُونَهُ إذا سَألُوهُ»

فلا يحقُّ للسابقين كتمان الحقّ ، لأن كتمان الحقّ من الذنوب الكبيرة ، ولذلك لا يقولون أننا قد نتعرض للضرر من قول الحقّ أو قد يتألم والدنا أو والدتنا أو زوجتنا أو صديقنا وجارنا من قول الحقّ ، فهم يعلمون أن الواجب يحتم عليهم أن يشهدوا بما يعلمون أنه الحقّ والصواب كما ذكر الله تعالى ذلك في الآية الشريفة ٢٨٣ من سورة البقرة وقال :

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)

__________________

(١) روح المعاني : ج ٢٧ ، ص ١١٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٨.

(٢) ينابيع المودّة : ص ٦٠ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١١٨.


٣ ـ «وَيَحكُمُونَ لِلنّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» (١).

الخصوصيّة الاخرى للسابقين هي أنهم يحبّون لغيرهم ما يحبّون لأنفسهم ولا يحكمون لغيرهم إلّا بما يرونه صلاحاً لأنفسهم ، وبعبارة اخرى أنهم يرون منافعهم ومنافع الآخرين بعين واحدة ، وبلا شك إنّ هذه المرتبة الأخلاقية لا تتيسر لكلِّ شخص وليس من اليسير أن ينظر الإنسان لمصالح الآخرين كما يراها لنفسه ويذعن للحقّ من دون أن تتدخل في ذهنه عناصر الأنانية ، وبذلك ينال مرتبة السابقين.

إذا عمل الإنسان المعاصر بهذه التعليمات النبوية الثلاث فإنّ العالم سوف يتبدل إلى جنّة ، ولكن مع الأسف فإنّ تعامل دعاة حقوق الإنسان مع الشعوب الاخرى من موقع الانتهازية والرياء حوّل المجتمع البشري إلى كيانات مهزوزة وبدّل العالم إلى جهنم محرقة ولم يبق من حقوق الإنسان في أذهان البشر سوى أوهام خاوية وتوهيمات زائفة ، فعند ما يسمع أبناء البشر ادعاءات هؤلاء المدّعين والمنادين لحقوق الإنسان يتبادر إلى أذهانهم مفاهيم جديدة وهي «حفظ منافع السلطات الاستكبارية بأي قيمة وبأي شكل كان».

__________________

(١) نوادر الراوندي : ص ١٥ نقلاً عن بحار الأنوار : ج ٦٦ ، ص ٤٠٣.



آية اذُن واعية ١١

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

«سورة الحاقة / الآيات ١١ و ١٢»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة «آية اذن واعية» من الآيات الاخرى التي تتحدّث عن فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وطبقاً للروايات الواردة في ذيل هذه الآية الشريفة فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعا الله تعالى أن يكون علي ابن أبي طالب من جملة الأشخاص الذين يتمتعون بالاذن الواعية وقد استجاب الله تعالى له هذا الدعاء ، وسيأتي شرح وتفصيل هذه الروايات وتفسير الآية مورد البحث والمفهوم من عبارة «اذن واعية» في البحوث اللاحقة.

الشرح والتفسير :

قصة الأنبياء

لقد بحث القرآن الكريم قصص الأنبياء في هذه السورة «سورة الحاقة» بل في غيرها من السور القرآنية الكريمة من زوايا مختلفة ومتنوعة.

سؤال : لما ذا تطرّق القرآن الكريم لبيان تاريخ الامم والأقوام السالفة واستعرض قصص الأنبياء السابقين ، فهل أن القرآن كتاب تاريخ؟


الجواب : القرآن كتاب لتهذيب الإنسان ، والتاريخ البشري له دور مهم في تعليم وتربية الإنسان في حركة حياته الفردية والاجتماعية ، والخلاصة أن الإنسان يعيش التجربة والحوادث المتنوعة في هذه الحياة وما أحسن أن يستفيد الإنسان من تجارب الآخرين على مستوى العبرة والسلوك العملي لا أن يتمنّى كما يقول بعض الشعراء أن يعيش ويحيى مرتين ويجعل إحدى الحياتين لممارسة التجارب والثانية للاستفادة من تلكم التجارب الماضية.

يقول تبارك وتعالى في الآية ١١١ من سورة يوسف :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ)

ويشير أيضاً في بداية سورة الحاقة إلى قصص الأنبياء والسابقين مع أقوامهم حيث سنتعرض هنا إلى شرح وتفسير هذه الآيات المباركة :

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ)

إنّ فرعون والأقوام التي سبقته أي قوم شعيب ، عاد ، ثمود وأقوام اخرى وكذلك المدن المؤتفكة أي المنقلبة والمدمَّرة بسبب تلوّث أهلها بالخطيئة والذنوب الكبيرة ، «المؤتفكات» جمع «مؤتفكة» وتشير إلى قصة قوم لوط عند ما نزل عليهم العذاب الإلهي وأصابهم الزلزال المهيب ودمر بيوتهم ومنازلهم بحيث إنّ الرائي لها يحسبها قد انقلبت رأساً على عقب وبعد الزلزال نزل عليهم مطر من الشهب والأحجار الموسومة ودمّر ما تبقى من آثارهم ، والسبب في نزول هذا العذاب هو ممارستهم الخطيئة والإصرار على الذنوب حيث أشارت الآية إلى هذا المعنى «بالخاطئة».

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً)

إنّ الأقوام السالفة تحرّكوا في سلوكياتهم مقابل دعوة الأنبياء من موقع العناد والابتعاد عن الحقّ ولذلك أنزل عليهم الله تعالى العذاب الشديد ، والتعبير بقوله «ربّهم» إشارة إلى أنّ الله تعالى أراد تهذيبهم وصلاحهم بإرساله الأنبياء إليهم ولكنّ بعض الناس أصرّوا على معتقداتهم الزائفة ولم يستجيبوا لدعوات الأنبياء وتعاليمهم الإلهية والصادرة من ولي أمرهم ومربّيهم ولذلك استحقوا العذاب والعقاب الشديد.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ)


وتشير هذه الآية إلى قصة نوح عند ما أمطرت السماء بأمر الله تعالى بماء منهمر وتفجّرت الأرض بالعيون الفوّارة وجرى السيل المهيب بحيث لم يستغرق سوى مدّة قليلة حتّى عمّ الماء أرض المعمورة ولم تسلم من الطوفان حتّى الجبال ولذلك أمر الله تعالى نوح ومن معه من المؤمنين بركوب السفينة لينقذوا أنفسهم من الغرق ، ولكن الوثنيين والمشركين ومنهم ابن نوح الذين أصرّوا على سلوك خطّ الباطل والشرك والانحراف غرقوا جميعاً في هذا الطوفان ، هؤلاء كانوا يسخرون يوماً من النبي نوح عليه‌السلام لصنعه السفينة بعيداً عن البحر بل اتهموه بالجنون أيضاً وعند ما حدث الطوفان وأمطرت السماء ذلك المطر العجيب وجدوا أنفسهم في معرض العقاب الإلهي وهلكوا جميعاً بسوء أفعالهم.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)

فالقرآن الكريم يشير هنا إلى أن استعراض قصص الأقوام السالفة والأنبياء الإلهيين ليس بهدف بيان وقائع تاريخية محضة بل الهدف والغاية من ذلك هو كسب العبرة واستيحاء التجارب من أحداث التاريخ الغابر والاستفادة منها لممارسات الحاضر ولا يتدبّر في هذه الامور ويستفيد منها إلّا من كانت له اذن واعية ونفس متذكرة لتحفظ هذه الحوادث والقصص التاريخية ، «وعى» بمعنى حفظ الشيء في القلب وفي المصطلح الجديد تطلق هذه الكلمة «الوعي» على من يتعامل مع الأحداث بذهنية متحركة وفكر جيّد ، وعليه فعبارة «اذنٌ واعية» تعني الشخصية التي تستوعب الحدث وتحفظه لتستفيد منه على مستوى التطبيق والممارسة ولا تتركه في طيّات النسيان كما هو الحال في المثال المعروف «يسمع من هذه الاذن ويخرجه من اذنه الاخرى» فالإنسان الواعي لا يتعامل مع مستجدات الواقع بهذه الصورة بل يسمع بكلا اذنيه ويحفظ ما سمعه في قلبه ليكون صاحب الاذن الواعية ، والعين البصيرة ، والقلب السليم ، والعقل المتفكّر.

من هو صاحب الاذن الواعية؟

بالرغم من أن الآية الشريفة لها مفهوم واسع وشامل لجميع الأفراد الذين يتّسمون بهذه السمة «الاذن الواعية» ولكن طبقاً لما ورد في الروايات الكثيرة في تفسير هذه الآية فإنّ


المصداق الأتم والأكمل للُاذن الواعية هو الإمام علي عليه‌السلام.

وقد ورد في بعض الروايات أنه عند ما نزلت هذه الآية الشريفة قال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً للإمام علي عليه‌السلام :

«سَأَلْتُ اللهَ انْ يَجْعَلَها اذُنَكَ يا عَلِيٌّ».

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : بعد هذه الواقعة كنت إذا سمعت شيئاً من النبي أحفظه ولا أنساه.

وقد ورد في روايات اخرى أيضاً أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا بهذا الدعاء أوّلاً ثمّ نزلت الآية الشريفة.

أما الرواية المذكورة آنفاً فقد وردت في مصادر متعددة لأهل السنّة وكنموذج على ذلك نشير إلى بعضها :

١ ـ القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (١).

٢ ـ العلّامة المتقي الهندي في منتخب كنز العمّال (٢).

٣ ـ العلّامة الآلوسي في روح المعاني (٣).

٤ ـ العلّامة الواحدي النيشابوري في أسباب النزول (٤).

٥ ـ أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء (٥).

٦ ـ الطبري في تفسيره (٦).

٧ ـ الزمخشري في الكشّاف (٧).

٨ ـ الثعلبي في تفسيره (٨).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ج ١٨ ، ص ٢٦٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥١.

(٢) منتخب كنز العمّال : ج ٥ ، ص ١٤٨ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥١.

(٣) روح المعاني : ج ٢٩ ، ص ٤٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٣.

(٤) أسباب النزول : ص ٣٣٩ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٨.

(٥) حلية الأولياء : ج ١ ، ص ٦٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٨.

(٦) تفسير الطبري : ج ٢٩ ، ص ٣١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٧.

(٧) الكشّاف : ج ٤ ، ص ١٣٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٩.

(٨) نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٩.


٩ ـ العلّامة الاندلسي المغربي في البحر المحيط (١).

١٠ ـ الگنجي في كفاية الطالب (٢).

ورغم أن الفخر الرازي يتحرك في مباحث الإمامة والولاية من موقع التعصّب الكبير إلّا أنه نقل حديثاً طريفاً ذيل الآية الشريفة ، فبعد أن ذكر دعاء النبي للإمام علي عليه‌السلام حول نزول هذه الآية قال نقلاً عن أمير المؤمنين :

«فَما نَسيتُ بَعْدَ ذلِكَ وَما كَانَ لِي انْ انْساهُ» (٣).

أي أن قلب الإمام علي أصبح خزانة الوحي الإلهي ومركز الكلمات النبويّة بعد دعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله له.

التناقض في كلام الشيخ روزبهان

وقد ذكر الشيخ روزبهان في ردّه على العلّامة الحلّي عند ما وصل إلى هذه الآية الشريفة وقال :

لمّا نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام سألت الله تعالى أن يجعلها اذنك ، قال علي : «فَما نَسيتُ بَعْدَ هذَا شَيئاً». وهذا يدلُّ على علمه وحفظه وفضيلته.

وذكر الشيخ روزبهان بعد نقله لهذا الحديث الشريف : إنّ هذه الرواية تدلُّ على علم الإمام علي وحافظته القوية وفضيلته السامية.

ولكنه بعد أن ذكر الرواية الشريفة وما عقّب عليها من عبارات في ذيلها في مدح علي قال : ولكنّ هذه الامور لا تدلُّ على إمامته وخلافته بعد الرسول مباشرة (٤).

والجواب على هذا الكلام واضح ، لأن أحد دعائم الإمامة وأركانها هو العلم والمعرفة ، وبما أن الإمام هو خليفة الرسول فيجب أن يستوعب الشريعة وتعليمات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) البحر المحيط : ج ٨ ، ص ٣٢٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥١.

(٢) كفاية الطالب : ص ١١١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٠.

(٣) التفسير الكبير : ج ٣٠ ، ص ١٠٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٤٩.

(٤) احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ١٥٤.


كاملاً ويكون بالتالي حلّالاً لمشكلات الناس ومن البديهي أن اللازم للإمامة والخلافة هو أن يكون الخليفة بمستوى كبير ومرتبة عالية من العلم والمعرفة ليكون مستحقاً للخلافة وأهلاً لقيادة الامّة إلى ساحل النجاة ، ولذلك نقول إنّ عليّ ابن أبي طالب وباعترافكم أعلم وأفضل من جميع من يدعي الخلافة بعد رسول الله ، فأيُّ عاقل يبيح لنفسه أن يختار شخصاً آخر للخلافة مع وجود مثل هذه الشخصية العظيمة؟

وعلى هذا الأساس فكيف تدلُّ هذه الآية الشريفة على علم الإمام علي عليه‌السلام وتقواه العظيمة ولا تدلُّ على خلافته وإمامته؟ أليس هذا من التناقض؟

ملاحظة ظريفة من الفخر الرازي

الفخر الرازي في تفسيره لكلمة «اذنٌ واعية» يطرح هذا السؤال :

لما ذا وردت «اذنٌ واعية» بصورة المفرد والنكرة ولم ترد بصيغة الجمع والمعرفة؟

ثمّ يجيب على هذا السؤال بثلاث امور :

١ ـ «للايذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة» فإنّ الله تعالى يريد بهذا التعبير إفهام المخاطبين بأن أصحاب الاذن الواعية قليلون وغير معروفين بين الناس.

٢ ـ «لتوبيخه الناس بقلّة من يعي منهم» فأراد الله تعالى بهذه العبارة توبيخ الناس وذمّهم على قلّة من يأخذ الامور من موقع الوعي والفهم السليم.

٣ ـ «للدّلالة على أنّ الاذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السّواد الأعظم عند الله وأنّ ما سواه لا يلتفت إليهم» (١) فصاحب الاذن الواعية يعادل جمع غفير من الناس في واقع الأمر.

ومع الالتفات إلى هذا البيان وكذلك ما ورد في الروايات من أن المراد بالاذن الواعية هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، تكون النتيجة أنّ مصداق هذه الآية الشريفة هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وهذا المطلب يؤيد ما ورد في شأن النزول ومن دعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي عليه‌السلام.

__________________

(١) التفسير الكبير : ج ٣٠ ، ص ١٠٧.


علي مع الحقّ والحقّ مع علي

ومن أجل توضيح الأبعاد المختلفة من شخصية الإمام علي عليه‌السلام وامتيازات وخصائص خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نلفت نظر القارئ الكريم إلى ثلاث روايات وردت في مصادر أهل السنّة :

١ ـ ينقل الطبراني عن امّ سلمة زوجة الرسول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال :

عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنِ وَالْقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ لا يَفْتَرِقانِ حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الْحَوْضَ (١).

سؤال : عند ما يقول النبي «علي مع القرآن والقرآن مع علي» فما ذا يقصد بذلك؟ هل يقصد أن الإمام علي كان يحمل معه القرآن دائماً ، أو أن مراده هو أنه عليه‌السلام حافظ للقرآن ، أو مراده شيء آخر؟

الجواب : إنّ مراده من هذه الجملة هو أن تفسير القرآن والعلم بآياته ومعارفه موجود لدى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولا يفترق عنه وكذلك العمل بمضامينه ودستوراته فإنها تتجسد في سلوكيات أمير المؤمنين فهو العالم والعامل بالقرآن الكريم ، فالعلم في القرآن والعمل به لا ينفكّان عن الإمام علي عليه‌السلام ، وهذا في الحقيقة امتياز كبير وفضيلة عظيمة لم ترد في حقّ أي واحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي عليه‌السلام

٢ ـ وقد أورد الحاكم النيشابوري في كتاب «مستدرك الصحيحين» بسند صحيح ومعتبر عن الإمام علي عليه‌السلام أنه قال :

قالَ : بَعَثَني رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلَى الْيَمَنِ فقُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ بَعَثْتَنِي وَانَا شابٌّ اقْضِي بَيْنَهُم وَانَا لا ادْرِي ما الْقَضاءُ ، فَضَرَبَ صَدْرِي ثُمَّ قالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسانَهُ» فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ (٢) ما شَكَكْتُ فِي قَضاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدُ (٣).

__________________

(١) نور الأبصار : ص ٨٩.

(٢) يعدّ هذا القَسَم مهماً جدّاً ، ولذا ورد ذكره بكثرة في روايات المعصومين ، فعند ما تنفتح الحبّة عن نبتة زاهرة


فطبقاً لهذه الرواية الشريفة فإن الإمام علي عليه‌السلام كان يقضي بالحقّ دائماً ببركة دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له ولم يتفق له أن يشك أو يتردد في مورد من الموارد.

علي عليه‌السلام أفضل القضاة!

٣ ـ جاء شخص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام : إنّ ثوراً قتل حماراً على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرفع ذلك إليه وهو في أناس من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر ، فقال : يا أبا بكر اقضِ بينهم ، فقال : يا رسول الله بهيمة قتلت بهيمة ما عليهما شيء. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمر اقض بينهم. فقال مثل قول صاحبه. فقال : يا علي اقض بينهم. فقال : نعم يا رسول الله ، إن كان الثور دخل على الحمار في مستراحه ضمن أصحاب الثور ، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان عليهم. فرفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يده إلى السماء فقال : الحمد لله الذي جعل مني من يقضي بقضاء النبيين (٤).

فقال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تأييداً لقضاء الإمام علي عليه‌السلام في هذا المورد :

«اقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» (٥).

إن قضاء الإمام علي عليه‌السلام في هذه الواقعة هو المصداق لما ورد في فقه الشيعة كقاعدة كلية وهي «عند ما يكون السبب أقوى من المباشر فالسبب ضامن» وفي القصة المذكورة آنفاً كانت البقرة هي المباشرة للقتل وصاحب البقرة الذي تركها حرة ولم يربطها هو المسبب للقتل ، وبما أن السبب أقوى لمكان العقل والشعور وليس للحيوان ذلك العقل والشعور ولهذا فالسبب هو الضامن (٦).

__________________

من بطن الأرض يكون حالها حال الجنين الذي يخرج من بطن امّه ، فجميع القوانين الحاكمة على ظاهرة ولادة الجنين ، حاكمة كذلك على خروج النبتة من الحبّة.

(٣) مستدرك الصحيحين (نقلاً عن نور الأبصار : ص ٨٨) حيث نقل الرواية المذكورة عن مستدرك الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٣٥ ، ولكن مع تفاوت يسير.

(٤) قضاء أمير المؤمنين : ص ١٩٣.

(٥) نور الأبصار : ص ٨٨.

(٦) كما هو الحال فيما لو دعى صاحب البيت شخصاً لضيافته ، وكان في البيت كلب هارٍ يهجم على الغرباء ولم


وطبقاً لما تقدّم فصاحب «الاذن الواعية» هو الإمام علي عليه‌السلام الذي لا يفترق عن القرآن الكريم وأعلم المسلمين بأمر القضاء وأفضل الصحابة وأعرفهم بكتاب الله ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم فإن الله تعالى إذا أراد أن ينصب شخصاً للخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فهل يعقل أن ينصب شخصاً آخر لهذا المقام غير الإمام علي عليه‌السلام؟ ولو قلنا بأن هذا المقام يتم باختيار الناس فهل يقرر العقلاء وأصحاب الفكر مع وجود الإمام علي عليه‌السلام بكلّ هذه الفضائل والصفات السامية ، انتخاب غيره لهذه المهمة؟

نرى أن من اللازم أن نتوجه مرّة اخرى إلى الله تعالى ونرفع أيدينا بالشكر والثناء من صميم القلب على هذه النعمة العظيمة وهي أن وفقنا لاتباع مثل هذا الإنسان الكامل والعظيم وجعلنا من شيعة الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ونشكر كذلك آباءنا وامهاتنا الذين عرّفونا بالإمام علي عليه‌السلام وعملوا على تربيتنا بحبّ هذا الإنسان العظيم وولايته ونشكر أيضاً جميع المعلمين والأساتذة والعلماء على طول التاريخ على ما تحمّلوا من أتعاب ومشقّات لكي يرفعوا لواء الولاية في هذا البلد الإسلامي العريق «ايران» ونطلب من الله تعالى أيضاً :

إلهنا ، ارزقنا العشق والمودّة الدائمة لهذا الإمام العزيز واحيى قلوبنا وأرواحنا بهذه الولاية والمحبّة واجعل نسلنا وذريتنا إلى يوم القيامة من شيعة الإمام علي عليه‌السلام الحقيقيين.

ربّنا ، اغثنا في اللحظات الحرجة وساعات الاحتضار ومواقف المحشر والقيامة بالإمام علي وأهل بيته الطاهرين.

إلهنا وفّقنا إلى أن نكون في أعمالنا وأقوالنا من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام بحيث ننال بذلك رضاك والمنزلة عندك.

__________________

يخبر صاحب البيت ضيفه بأمر هذا الكلب ولم يهتم لدفع الخطر عن الضيف ، فلمّا دخل الضيف إلى البيت هجم عليه الكلب وجرحه ، فهنا يضمن صاحب البيت ، لأن الكلب وإن كان هو المباشر ، وصاحب البيت هو السبب ، إلّا أن السبب هنا أقوى من المباشر ، فيكون الضمان عليه.



آية صالح المؤمنين ١٢

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

«سورة التحريم / الآية ٤»

أبعاد البحث

الآية الشريفة المذكورة آنفاً هي الآية المعروفة بآية «صالح المؤمنين» وهي من جملة الآيات التي تدلُّ باعتراف الشيعة وأهل السنّة على فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه‌السلام الكثيرة ، والحديث عن دلالة هذه الآية على فضيلة أمير المؤمنين عليه‌السلام وارتباطها بمسألة الولاية والإمامة سيأتي في الأبحاث اللاحقة بالتفصيل.

شأن النزول

هذه الآية هي الآية الرابعة من آيات سورة التحريم ، وقد وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث والتفسير والتاريخ عن الشيعة والسنّة انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي :

كان رسول الله يذهب أحياناً إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى «أزواج الرسول» على أن يسألا الرسول بمجرّد أن


يقترب من أي منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» (١) وفعلاً سألت حفصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا السؤال يوماً وردّ الرسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنه تناول عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، (خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير») وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد (لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون بالرسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك).

لكنها أفشت السرّ فتبيّن أخيراً أنّ القصة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك كثيراً فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرة اخرى في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وجاء في بعض الروايات أنّ الرسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث (٣) ، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرسول عازم على طلاق زوجاته ، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ (٤) وندمن بعدها على فعلتهن.

الشرح والتفسير :

أصحاب وأنصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

نرى من اللازم في تفسير الآية مورد البحث إلقاء نظرة إجمالية على الآيات السابقة لها لتوضيح المراد منها.

بلا شك أن شخصية كبيرة مثل شخصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تتعلق بذاته وشخصه

__________________

(١) «مغافير» صمغ يؤخذ من أشجار الحجاز باسم «عرفط» له رائحة كريهة.

(٢) أصل هذا الحديث مذكور في صحيح البخاري : ج ٦ ، ص ١٩٤ ، والتوضيحات المذكورة بين الأقواس مقتبسة من مصادر اخرى (انظر التفسير الامثل : ج ١٨ ، ص ٤٤٠).

(٣) تفسير القرطبي : ذيل الآيات مورد البحث.

(٤) تفسير (في ظلال القرآن) : ج ٨ ، ص ١٦٣.


كواحد من الناس بل تتعلق بجميع أفراد المجتمع الإسلامي والمجتمع البشري أيضاً ، وعليه فلو واجه مؤامرة في بيته ومن أقرب الناس إليه فإنّ هذه المؤامرة رغم كونها خاصّة ومحدودة بدائرة صغيرة إلّا أن ذلك لا يعني أن نمرُّ عليها مرور الكرام ومن موقع عدم الاهتمام فإنّ حيثية النبوّة وهذا المقام العظيم لا ينبغي أن يكون «والعياذ بالله» العوبة بيد هذا وذاك ، فلو فُرض أن واجه النبي مثل هذه الحال فلا بدّ أن يتعامل مع هذا الموقف بجديّة وقاطعيّة لئلّا يسري الأمر إلى موارد اخرى.

الآيات الاولى من سورة التحريم في الحقيقة تتضمن أمراً قاطعاً من الله تعالى لنبيّه الكريم أن يتّخذ موقفاً صارماً من هذه الحادثة ، ومن أجل حفظ كرامة النبي وحيثيته تقول الآية :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)

ومعلوم أن هذا التحريم لم يكن تحريماً شرعياً بل كما سيأتي توضيحه في الآيات اللاحقة أنه كان بمثابة قَسَم من النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونعلم أن القسم على ترك بعض المباحات لا يعدُّ من الذنوب ، وعليه فإنّ جملة «لِمَ تحرّم» لم ترد بعنوان عتاب وتوبيخ بل هو نوع من الشفقة واللطف ، كما يقال لمن يتعب نفسه كثيراً في خدمة الآخرين ومن دون أن يعود عليه إلّا بالنفع القليل : لما ذا تتعب نفسك كثيراً وتعمل كلّ هذه الأعمال ولا تنتفع منها إلّا القليل؟

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ثمّ إنّ الله تعالى يختم الآية الشريفة بالغفران والرحمة للزوجات اللواتي سبّبن وقوع هذه الحادثة فيما لو صدقن في التوبة إلى الله تعالى ، أو هي إشارة إلى أنّ الأفضل للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يقسم مثل هذا القسم بحيث يحتمل أن يتسبب في إقدام بعض زوجاته على مستوى الجرأة والجسارة.

وتضيف الآية التالية (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وبهذا جعل الله تعالى كفّارة القسم ليتحرر الإنسان من قَسَمه ولا يتورط في الذنب في الموارد التي يكون ترك العمل مرجوحاً «من قبيل الآية مورد البحث» في هذه الصورة يجوز حنث اليمين ولكن لأجل حفظ حرمة اليمين فالأفضل دفع كفّارة.

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وهو الذي بيّن لكم طريق النجاة والتخلّص من


هذه الأيمان وفتح لكم أبواب حلّ المشكل بحكمته ، ويستفاد من الروايات الشريفة أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول هذه الآية أعتق رقبة وتحرر من القسم الذي حرّم بواسطته ما كان حلالاً له.

وتتحرّك الآية التي بعدها على مستوى شرح وبيان الواقعة بتفصيل أكثر وتقول :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)

فهنا تتحدّث الآية الشريفة عن حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض أزواجه في سرّ معيّن ولكنّ هذه الزوجة لم تحفظ السرّ بل أفشته وأعلنت عنه ، ولكن ما ذا كان هذا السرّ ومن هي الزوجة التي تحدّث النبي معها وأطلعها على هذا السرّ فسوف يأتي في بحث شأن النزول لاحقاً.

ويتّضح من مجموع هذه الآيات القرآنية أنّ بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مضافاً إلى توجيه الإساءة إليه بكلامهنّ فإنّهنّ لم يحفظنّ السرّ معه والذي يعتبر أهم العناصر في العلاقات الزوجية بأن تكون الزوجة وفيّة لزوجها وتحفظ أسراره ، ولكننا نرى خلاف ذلك في بيت النبوّة ، ومع ذلك فنلاحظ أن سلوك النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كلّ هذه التعقيدات والمواقف السلبية من بعض زوجاته إلّا أنه لم يكن مستعداً للكشف عن جميع السرّ الذي أفشته زوجته ويوبخها على ذلك بل اكتفى بالإشارة إلى بعضه فقط «عرّف بعضه وأعرض عن بعض» ولذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال :

ما اسْتَقْصى كَريمٌ قَطُّ لَانَّ اللهَ يَقُولُ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَاعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ (١).

ثمّ تتوجه الآية بالخطاب إلى الزوجتين مورد البحث وتقول :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فلو انتهيتما من إساءة النبي عليه‌السلام وتبتما إلى الله فإنّ ذلك يعود عليكما بالنفع لأنّ قلوبكما قد انحرفت بهذا العمل عن خطّ الحقّ وتلوثت بالذنب.

والمراد بهاتين الزوجتين كما صرّح به المفسّرين من الشيعة والسنّة : «حفصة» بنت عمر

__________________

(١) الميزان : ج ١٩ ، ص ٣٣٨.


بن الخطّاب و «عائشة» بنت أبي بكر (١) ، وبما أن مثل هذه الحالات السلبية تعتبر ظاهرة خطيرة في بيت النبوّة فيما لو تكررت في المستقبل فإنّ الله تعالى يحذّرهما في هذه الآية من الاستمرار في سلوك هذا الطريق الشائن ويقول :

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)

وهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي أن هذه الواقعة قد أضرّت بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيراً وآلمت قلبه الطاهر إلى درجة أن الله تعالى يهبُّ للدفاع عنه ، ورغم أن القدرة الإلهية كافية في عملية الدفاع عن النبي إلّا أن القرآن الكريم أضاف إليها حماية جبرئيل والمؤمنين الصالحين والملائكة في دفاعهم عن رسول الله.

من هو صالح المؤمنين؟

إنّ ما يلفت النظر في الآية المذكورة ويقع في البحث هو أنه : ما المراد من عبارة «صالح المؤمنين»؟ هل يقصد بها شخص معيّن ، أو أن هذا التعبير شامل لجميع المؤمنين الصالحين؟ بلا شك أن «صالح المؤمنين» له معنى شامل وعام بحسب الظاهر حيث يستوعب جميع المؤمنين الصالحين والمتقين رغم أن كلمة «صالح» قد وردت في هذه الجملة بصيغة المفرد لا الجمع ، ولكن بما أنها استعملت بمعنى الجنس فيستفاد منها المفهوم العام ، ولكن لا شكّ أن مفهوم «صالح المؤمنين» له مصداق أتمّ وأكمل ، ويستفاد من خلال الروايات المتعددة أن هذا المصداق الأكمل والفرد الأتم هو «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام» وهذا المعنى ذكره الكثير من علماء أهل السنّة في كتبهم ومن ذلك :

١ ـ العلّامة الثعلبي (٢).

__________________

(١) يقول ابن عبّاس : «سألت عمر : من اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قال : فقلت والله إن كنت لُاريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك ، قال : فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم أخبرتك به ، قال : ثمّ قال عمر : والله إن كنا في الجاهلية ما نعدّ النساء أمراً حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقَسَم لهنّ ما قَسَم. (صحيح البخاري : ج ٦ ، ص ١٩٥ ، سورة التحريم).

(٢) العمدة لابن بطريق : ص ١٥٢ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١١.


٢ ـ العلّامة الگنجي في كفاية الطالب (١).

٣ ـ أبو حيان الأندلسي (٢).

٤ ـ السبط ابن الجوزي (٣).

٥ ـ السيوطي في الدرّ المنثور (٤).

٦ ـ الآلوسي في روح المعاني (٥).

٧ ـ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (٦).

٨ ـ العلّامة البرسويي في روح البيان (٧).

٩ ـ ابن حجر في الصواعق (٨).

١٠ ـ علاء الدين المتقي في كنز العمّال (٩).

وقد ذكر الحاكم الحسكاني الحنفي في ذيل هذه الآية الشريفة «ثمانية عشر رواية» من طرق مختلفة تؤكد على أن المراد بكلمة «صالح المؤمنين» هو علي بن أبي طالب ، ونكتفي هنا بذكر ثلاث روايات منها :

١ ـ تقول اسماء بنت عميس إنّني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

صالِحُ الْمُؤْمِنينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ (١٠).

٢ ـ وينقل ابن عبّاس عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

__________________

(١) كفاية الطالب : ص ٥٣ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١١.

(٢) البحر المحيط : ج ٨ ، ص ٢٩١ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٢.

(٣) التذكرة : ص ٢٦٧ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٢.

(٤) الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ٢٤٤ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٣.

(٥) روح المعاني : ج ٢٨ ، ص ١٣٥ نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٣١٤.

(٦) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٤ ببعد.

(٧) روح البيان : ج ١٠ ، ص ٥٣.

(٨) نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٩٩.

(٩) نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٩٩.

(١٠) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٦ ، ح ٩٨٢.


هُوَ صالِحُ الْمُؤْمِنينَ (١).

٣ ـ ويقول عمّار ابن ياسر إنني سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

أَلا ابَشِّرُكَ؟ قُلْتُ : بَلى يا رَسُولَ اللهِ وَما زِلْتَ مُبَشِّراً بِالْخَيْرِ! قالَ : قَدْ انْزَلَ اللهُ فيكَ قُرْآناً. قُلْتُ : وَما هُوَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ : قُرِنْتَ بِجَبْرَئيل ثُمَّ قَرَأَ : وَجِبرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ ... (٢)

وخلاصة الكلام أن الروايات الواردة في هذا المورد كثيرة وقد ذكر المفسّر المعروف «البحراني» في تفسيره «البرهان» بعد أن ذكر رواية في هذا المجال عن محمّد بن عبّاس أنه نقل ٥٢ حديثاً وروايةً حول هذا الموضوع من طرق الشيعة وأهل السنّة ثمّ نقل بعض هذه الأحاديث.

والنتيجة هي أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يعتبر أفضل ناصر ومعين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الله تعالى وجبرئيل الأمين ، وعليه فمن يكون مؤهلاً لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيره؟ ألا تعتبر هذه الروايات دليلاً على أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أفضل أفراد الامّة وأعلاهم شأناً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وإذا كان هكذا وأراد الله تعالى أن ينصب شخصاً لمقام الخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم فهل تسمح الحكمة الإلهية بأن يختار الله تعالى شخصاً آخر غيره لهذا المقام؟ وإذا أراد الناس والعقلاء أن يختاروا لهم شخصاً لحيازة هذا المقام المهم فهل يسمح العقل السليم أن يختاروا شخصاً غير من كان أفضل ناصر ومعين لنبي الإسلام بعد الله وجبرئيل؟

أجل ، فإنّ الإمام علي عليه‌السلام كان يعيش النصرة الدائمة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع المواقف والأحداث والميادين وأنه الأولى بحيازة مقام الخلافة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٨ ، ح ٩٨٧.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٢٥٩ ، ح ٩٨٩.


توصية الآية

نستوحي من عبارة «صالح المؤمنين» أن الآية الشريفة توصي الجميع بالإيمان والصلاح والخير ، وتوصي جميع أتباع أمير المؤمنين أن لا يتوقفوا على عتبة «قبول الإسلام» بل يتحركوا من موقع تعميق الإيمان بالله وباليوم الآخر وأن يمتد هذا الإيمان إلى أعماق وجدانهم وقلوبهم ويتجسد على مستوى الجوارح وممارسة الأعمال الصالحة ليكونوا من صالح المؤمنين.


آية الإنذار والهداية ١٣

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)

«سورة الرعد / الآية ٧»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة أيضاً من الآيات المتعلّقة بولاية وإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث بحث فيها العلماء والمفسّرون أبحاثاً متنوعة ، ويستفاد من الروايات أنها تدلُّ مضافاً إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ولاية وإمامة جميع الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كما سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث القادمة.

الشرح والتفسير : ذرائع مختلفة

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) والظاهر من هذه الآية الشريفة أن الكفّار طلبوا هذه المرّة أمراً منطقياً لأنّ كلّ نبي لا بدّ له لإثبات حقانيّته وأنه مرسل من الله تعالى من معجزة يثبت فيها هذا الادعاء ، وهنا طلب الكفّار معجزة من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويجيبهم الله تعالى على طلبهم المعقول هذا بقوله :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)


تناسب صدر الآية وذيلها

سؤال : هل هناك تناسب وانسجام بين صدر الآية الشريفة وذيلها؟ وهل أن الجواب على طلب المشركين من النبي بأن يأتيهم بآية ومعجزة هو «إنّما أنت منذر ...»؟

الجواب : لأجل العثور على الترابط بين صدر الآية وذيلها لا بدّ من مراجعة الآيات الاخرى التي تتحدّث عن طلب الكفّار للمعجزة من النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويحدّثنا القرآن الكريم في الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء على لسان المشركين :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) هنا يقول الكفّار بأنّنا لن نؤمن لما تقول حتّى تأتينا بمعجزة ، ثمّ طلبوا منه سبع معاجز كما نريد ونشتهي ، أي أن المعجزات التي تأتي بها من دون أن تكون مطابقة لميلنا ورغبتنا فلا فائدة فيها ، بل لا بدّ أن تكون المعجزة حسب رغبتنا وميلنا (١).

ويستفاد من ظاهر الآية أنهم ذكروا سبع معاجز في دائرة طلبهم وتوقعهم من النبي ، والظاهر أن هذا الطلب صدر من أشخاص متعددين كلُّ واحد منهم طلب معجزة معيّنة :

١ ـ (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) فأوّل معجزة طلبوها من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يفجر لهم في أرض الحجاز وصحراءها المحرقة عيناً تفيض بالماء الزلال وتفور بالمياه العذبة ليشرب منها الناس ودوابهم ويسقون مزارعهم.

٢ ـ (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) وهذه المعجزة أيضاً لها بعد في إحياء الأراضي الميّتة وعمران المنطقة من خلال إيجاد بساتين مليئة بأشجار العنب والنخيل وتجري من خلالها المياه.

٣ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) وهنا نرى طلباً غير معقول وهو أنهم أرادوا من النبي أن يدعو الله تعالى لإنزال العذاب عليهم على شكل مطر من الأحجار السماوية لهلاكهم ، وهذا الطلب إذا تحقّق فإنهم سيؤمنون ويذعنون لدعوة النبي.

٤ ـ (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) وهكذا نرى إنّ الإنسان عند ما يصل به العناد واللجاجة إلى أعلى المراتب لا يلتفت إلى ما يقول ، فهؤلاء لم يقولوا : اذهب بنا إلى الله

__________________

(١) انظر تفصيل شأن النزول لهذه الآيات في التفسير الامثل : ج ٧ ذيل الآية.


والملائكة بل طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتي إليهم بالله والملائكة ويحضرهم عندهم.

٥ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) والطلب الخامس لإثبات النبوّة أنهم أرادوا أن يبني النبي لنفسه قصراً مجللاً بالذهب والزخارف والنقوش ، لأن سكّان مكّة كانوا فقراء غالباً فلو أنك كنت تملك مثل هذا القصر العظيم والجذّاب فهذا يدلُّ على أنك مرسل من الله تعالى.

٦ ـ (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) والذريعة السادسة هي أنهم طلبوا من النبي لإثبات صدق دعواه أن يطير في السماء أمام أعينهم ليذعنوا للحقّ ويؤمنوا بدعوته.

٧ ـ (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) وتمادى بعض الكفّار في عنادهم ولجاجتهم وطلبوا من النبي مضافاً إلى طيرانه في السماء أمام أعينهم عليه أن يأتيهم بكتاب من الله إليهم ليقرءوه.

وكما ترون أن هذه المعاجز السبعة المذكورة في الآية الشريفة تتعلّق بعضها بعمران وإحياء الأرض ، وبعض آخر تتضمن الهلاك والموت لهؤلاء المعاندين والمغرورين ، والقسم الثالث يتضمن أعمال غير معقولة وغير منطقية ، والقسم الرابع لا يتعدّى أن يكون مجرد ذريعة واهية وليس طلباً حقيقياً.

لو كان الأنبياء يتحرّكون في تعاملهم مع أقوامهم من موقع القبول لكلِّ مقترحاتهم والإتيان بالمعجزات كما يرغبون فإنّ بعض الجهلاء والمعاندين والمتذرّعين سيطلبون كلّ يوم معجزة من نبيّهم وسيكون الدين الإلهي ملعبة بأيديهم ، ولهذا فإن الله تعالى كان يعطي لكلِّ نبي من الأنبياء معجزة أو معجزات عديدة لبيان حقّانيته وإثبات رسالته ولا يهتم لمطالبات مثل هؤلاء الأشخاص اللجوجين.

ومع الالتفات إلى هذا المقدمة المطوّلة نعود إلى الآية الشريفة حيث تقول الآية (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)

وفي الجواب على هذا الطلب المعقول حسب الظاهر يمكن القول : إنّ نبي الإسلام قد أتى بالمعجزة من الله تعالى بحيث عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثلها كما تصرّح الآية ٨٨ من هذه السورة :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)


فعند ما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بمعجزة من الله تعالى لن يتمكنوا من الإتيان بمثلها مضافاً إلى معجزات اخرى ، فلا معنى لطلبهم معجزة اخرى من النبي الكريم ، ولذلك أمر الله تعالى أن يقول في جوابهم : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فمسئوليتك هي الإنذار والتحذير وليست الإتيان بالآية والمعجزة فإننا نحن الذين نقرر شكل المعجزة وكيفيتها ، ولكلِّ قومٍ شخص يهديهم إلى الحقّ.

وعلى هذا الأساس يتّضح التناسب والانسجام بين صدر الآية وذيلها.

من هو المنذر والهادي؟

ولغرض توضيح معنى هاتين المفردتين يمكننا البحث في هذا الموضوع من طريقين :

الأوّل : تفسير الآية بدون ملاحظة الروايات

فهل تعني هذه الآية الشريفة أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو «المنذر» وهو «الهادي»؟ أو أنه منذر فقط والهادي شخص آخر؟

وهنا توجد ثلاث نظريات في تفسير هاتين الكلمتين :

١ ـ يرى البعض أن هاتين الكلمتين تعودان كلاهما إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو المنذر وهو الهادي في نفس الوقت.

ولكن الإنصاف إن هذا القول مجانب للصواب ولا ينسجم مع ظاهر الآية ولا يتناسب مع أجواء الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية ، لأنّ هاتين الكلمتين لو كانتا تعودان على شخص واحد فمقتضى الفصاحة والبلاغة أن تقول الآية :

(أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) لا أن تكون كلمة «هادٍ» في جملة مستقلة ومنفصلة عن الجملة الاولى ، وعليه فإنّ الظاهر من الآية أن تكون كلمة «هادٍ» متعلّقة بشخص آخر غير نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ينبغي استكشافه من خلال القرائن والشواهد الاخرى.

٢ ـ وذهب آخرون إلى أن «المنذر» يعود إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما «الهادي» يعود إلى الله تعالى ، فالنبي هو المنذر للناس ، والله تعالى هو الهادي لكلِّ قوم إلى الصراط المستقيم وطريق الحقّ.


ولكن يمكن أن يقال في مقام الجواب أن هذه النظرية أيضاً لا تنسجم مع ظاهر الآية الشريفة لأن كلمة «هادٍ» وردت في هذه الآية «نكرة» في حين أن الله تعالى هو أعرف المعارف وأجلى ما يكون عن الخفاء والتنكير ، مضافاً إلى أن ظاهر الآية يدلُّ على وجود «هادٍ» لكلِّ قوم من الأقوام السالفة لا أن الهادي لجميع الأقوام هو شخص واحد ، وعليه فإنّ هذا التفسير لا يتناسب مع أجواء الآية الشريفة.

٣ ـ هو أن يقال بأن الهادي شخص آخر غير الله تعالى وغير نبيّه الكريم ، فهل يمكن أن يكون المقصود بهذه الكلمة هم العلماء من كلِّ قوم وطائفة؟ كلا ، لا يمكن أن يكون المقصود هو العالم من كلِّ قوم ، لأن كلمة «هادٍ» وردت نكرة كما تقدّم ، والنكرة تدلُّ على الوحدة ، أي أن لكلِّ قوم وطائفة هادٍ واحد من الناس ، فمن هو هذا الشخص الهادي للُامّة الإسلامية؟

ومع الأخذ بنظر الاعتبار مجموع ما تقدّم من أبحاث في تفسير هذه الآية يمكن القول في شرح معناها والمراد منها كما يلي :

«أيُّها النبي : أنت المنذر والمؤسس للرسالة الإسلامية والدين الإسلامي ولكلِّ دين هناك شخص بمثابة الحافظ والحارس لهذا الدين والذي يأخذ بعهدته هداية الناس إلى الله تعالى وسوقهم إلى الحقّ».

ومن جهة اخرى فإنّ اتحاد السياق يقتضي أن يكون تعيين هذا الهادي ونصبه من قبل الله تعالى ، كما أن المنذر وهو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله معيّن ومنصوب من الله تعالى.

وعلى هذا الأساس فإنّ الهادي لا يقصد به الله تعالى أو النبي أو علماء الامّة بل يجب أن يكون شخصاً آخر معيّناً ومنصوباً من قبل الله تعالى.

ومن جهة ثالثة فإنّ الشخص الوحيد الذي ورد في حقّه نصٌّ صريح من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولايته وإمامته هو الإمام علي عليه‌السلام ولا يوجد نصٌّ في هذا الشأن لغيره من الصحابة ، وحتّى أن علماء أهل السنّة لم يدّعوا مثل هذا الادعاء ، وعليه فلو قلنا أنّ «المنذر» هو رسول الله و «الهادي والإمام» هو الإمام علي عليه‌السلام المنصوب لهذا المقام من قبل الله تعالى وبواسطة نبيّه الكريم فإنّ هذا المعنى يتناسب مع أجواء الآية الشريفة.


الطريق الثاني : تفسير الآية بملاحظة الروايات الشريفة

وهناك روايات عديدة ناظرة إلى بيان المراد من هذه الآية الشريفة حيث نشير هنا إلى خمسة نماذج منها ، ثلاثة منها من مصادر وكتب أهل السنّة ورواية واحدة من مصادر الشيعة ، أما الرواية الخامسة فمذكورة في كتب الفريقين.

١ ـ يقول ابن عبّاس الراوي والمفسّر المعروف :

لَمّا نَزَلَتْ (أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ، فَقالَ : أَنَا الْمُنْذِرُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِ عَلِيٍّ ، فَقالَ : أَنْتَ الْهادِي يا عَلِيّ ، بِكَ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ مِنْ بَعْدِي (١).

هذه الرواية الشريفة مذكورة في مصادر أهل السنّة وهي صريحة على أن المقصود ب «الهادي» هو علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

٢ ـ وجاء في كتاب «شواهد التنزيل» (٢) و «الدرّ المنثور» عن أبي برزة الأسلمي أنه قال :

سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَقُولُ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدْرِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ وَضَعَها عَلى صَدْرِ عَلِيٍّ وَيَقُولُ (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٣)

وهذه الرواية أيضاً مذكورة في كتابين من الكتب المعتبرة لدى أهل السنّة ، وقد رواها شخص آخر غير ابن عبّاس ونجد أنها تصرّح بأن «الهادي» هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٣ ـ وجاء في كتاب «مستدرك الصحيحين» المعروف لدى علماء أهل السنّة ، رواية في تفسير الآية المذكورة عن الإمام علي عليه‌السلام نفسه :

عَنْ عَلِيٍّ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قالَ عَلِيُّ : رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله الْمُنْذِر وَأَنَا الْهادِي (٤).

وطبقاً لهذه الرواية المذكورة في كتاب آخر من كتب ومصادر أهل السنّة المعروفة أن الإمام علي عليه‌السلام هو الهادي.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ج ٤ ، ص ٤٥.

(٢) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٩٨.

(٣) الدرّ المنثور : ج ٤ ، ص ٤٥.

(٤) مستدرك الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٢٩.


سؤال : من المعلوم في علم الدراية والحديث أن الراوي لو روى حديثاً يتضمن مدحه والثناء عليه فإنّ هذه الرواية لا تكون مقبولة ، فكيف يمكن الاستدلال بالرواية المذكورة آنفاً على المطلوب والحال أن الراوي هو الإمام علي عليه‌السلام نفسه؟

الجواب : إنّ هذا الكلام صحيح بالنسبة إلى غير المعصومين ، ولكن بالنسبة إلى المعصومين الذين لا يتصور في حقّهم الخطأ والذنب فغير صادق ، والإمام علي عليه‌السلام باعتقاد جميع الشيعة معصوم ، وكذلك يرى أهل السنّة أن الأحاديث والروايات الواردة عن جميع الصحابة وأحدهما الإمام علي عليه‌السلام ، حجّة ودليلاً شرعياً ، وعليه فالإشكال المذكور مردود وغير وارد لدى كلا الفريقين.

٤ ـ ما ورد في مصادر الفريقين العامّة والخاصّة من حديث الإسراء حيث رواه أهل السنّة عن ابن عبّاس (١) ورواه علماء الشيعة عن ابن مسعود ، ويروي هذان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الرواية ، حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لَمّا اسْرِيَ بي الى السَّمَاءِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وبَيْنَ رَبّي مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيُّ مُرْسَلٌ وَلا حاجَةٌ سَأَلْتُ إلّا أَعْطانِي خَيْراً مِنْها فَوَقَعَ فِي مَسامِعي (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَلْتُ : إِلهي أَنَا الْمُنْذِرُ ، فَمَنِ الْهادِي؟ فَقالَ : يا مُحَمَّد ذاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِب غايَةُ الْمُهْتَدِينِ ، إمامُ الْمُتَّقِينَ ، قائِدُ الغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ (٢) ؛ وَمَن يَهْدِي مِنْ امَّتِكَ بِرَحْمَتِي إلَى الْجَنَّةِ (٣).

هذه الرواية الجذّابة والشيقة تبيّن بجلاء تطبيق الآية محل البحث على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام في السماء.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٢٩٦.

(٢) جملة «قائد الغرّ المحجلين» ورد في روايات عديدة. و «الغرّ» جمع «أغرّ» وهو الأبيض النوراني ، ويقال للشخص ذي الوجه النوراني «أغرّ» ، وأما «محجّل» فمن «حَجَل» وهو نوع من الطير الأبيض ، ثمّ اطلق على الفرس الأبيض ، ثمّ على كلّ شخص ذي سمعة طيبة ومكانة مرموقة في المجتمع ، وعليه فيكون معنى الجملة «قائد الوجهاء والشخصيات الراقية في المجتمع».

(٣) تفسير فرات الكوفي : ص ٧٨.


توصيات آية الولاية والإنذار

هذه الآية الشريفة لا تقتصر على بيان بعض البحوث الاعتقادية والتاريخية ، بل تتضمن توصيتان لجميع المسلمين والشيعة في عصرنا الحاضر وتفتح لهم أبواب الحياة الكريمة والعقيدة السليمة في هذا الزمان وجميع الأزمنة وبإمكانها فيما لو جسّدها الإنسان على مستوى الممارسة والعمل أن تحلّ كثيراً من مشكلاته في حركة الحياة :

١ ـ التعصّب هو الحجاب والمانع!

يستفاد من المقطع الأوّل لهذه الآية الشريفة أن الإنسان لا يمكنه أن يصل بأدوات التعصّب واللجاجة إلى أي مرتبة من مراتب المعرفة والكمال الإنساني ، فلو أراد الإنسان أن يدرك الحقّ والحقيقة فينبغي عليه أن يتحرّك في خطّ الحقّ من موقع التسليم والإذعان لا من موقع التفسير بالرأي وتحكيم الآراء المسبقة واتّباع الأهواء النفسية ، ولهذا نرى أن الآيات القرآنية والروايات الشريفة قد نهت بشدّة عن «الجدال بالباطل» وحذّرت من عاقبة اتّباع هذا الطريق المنحرف للوصول إلى الحقّ ، حيث يقول القرآن الكريم في الآية الثالثة من سورة الحجّ :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ)

فالمجادلة بالباطل في هذه الآية الشريفة قد جعلت رديفاً لاتّباع الشيطان المريد ، وهذا يعني أن الإنسان إذا صار في خطّ الجدل والمراء وتعامل في حواره مع الآخرين بلغة التعصّب والابتعاد عن المنطق فإنه يكون قرين «الشيطان المريد».

ونقرأ في الروايات الإسلامية ما يؤكد هذا المضمون من أن أحد الحجب والموانع المهمة للإيمان والوصول إلى مرتبة اليقين هو الجدال بالباطل والمناقشة مع الطرف المخالف بلغة الاتهام وعدم التمسك بالبرهان المنطقي والعقلاني ، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله :

«ما ضَلَّ قَوْمٌ إلّا أَوْثَقُوا الْجِدالَ» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ ، ص ١٣٨.


فطبقاً لهذه الرواية الشريفة أن العامل الوحيد للضلالة والابتعاد عن الحقّ هو البحث غير المنطقي والجدال من موقع الخصومة والتعصّب المذهبي.

سؤال : لما ذا كانت جميع أسباب وعوامل الضلالة والزيغ تمتد بجذورها إلى الجدال بالباطل؟

الجواب : لأن الإنسان لو وجد في نفسه إذعاناً وتسليماً للحقّ فإنّ الدعاة إلى الحقّ كثيرون في هذه الدنيا وبإمكان الإنسان أن يجد طريق الهداية والإيمان الصحيح بيسر وسهولة ، وقد ورد أن الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام في جوابه لهارون الرشيد عند ما طلب منه الموعظة والنصيحة قال :

«ما مِنْ شَيءٍ تَراهُ عَيْناكَ إلّا وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ» (١).

أي أن جميع ما في الأرض من كائنات ومخلوقات وظواهر طبيعية هي في الحقيقة موعظة لمن فتح قلبه على الله والحقّ ، فالسماء بكلِّ ما تحوي مجرّات عظيمة وشموس منيرة ما هي إلّا موعظة ، ظاهرة الزمان والمكان موعظة ، الحوادث المفرحة والمرّة موعظة ، أجل فكلّ هذه الامور تكون موعظة بشرط أن يتمتع الإنسان باذنٌ واعية وعينٌ بصيرة وفؤاد حيّ.

وتأسيساً على هذا فإنّ الحقّ لا يخفى على طلّاب الحقّ وعشّاق الحقيقة ، ومن وقع في وادي الضلالة والانحراف فإنه يعاني من مشكلة في واقعه النفساني قبل كلِّ شيء وبالتالي يعيش مرض الجدال بالباطل.

وقد اتّضح ممّا تقدّم أنه لا تفاوت بين المباحث والمواضيع الدينية والأخلاقية والسياسية وأمثال ذلك ، فمثلاً ما نقرأه في الصحف والإعلام حول المسائل السياسية يتدخل فيه هذا العنصر بالذات ، أي أن كلُّ طرف من الأطراف المتنازعة لا يريد أن يذعن ويسلّم للحقّ بل يريد أن يحكّم رأيه ويفرض نظره على الآخرين بعيداً عن معايير الحقِّ والإنصاف ، وإلّا فإنّ تشخيص الحقّ في المسائل السياسية لا يكون مشكلاً وعسيراً أيضاً ، ولكن عند ما تتدخل المسألة في إطار التعصّب المذهبي والمنافع الشخصية والحزبية فإنّ

__________________

(١) ميزان الحكمة : باب ٤١٢٠ ، ح ٢١٧١١.


الإنسان يبتعد عن أجواء الحقّ وسيختفي نور الحقّ بغشاوة سميكة من ظلمات الأهواء النفسانية.

ونقرأ في رواية اخرى عن أمير المؤمنين ومولى المتقين أنه قال :

«الْجَدَلُ فِي الدِّينِ يُفْسِدُ الْيَقِينَ» (١).

لأن الإنسان عند ما يعيش حالة الجدل الدائم مع الآخرين فتدريجياً يطرح رغباته وميوله وأفكاره الشخصية المستوحاة من الأهواء النفسية في لباس الدين والمذهب ويتصور أن هذا الرأي ما هو إلّا قراءة سليمة للدين وللمفاهيم القرآنية.

والخلاصة أنه ورد النهي الشديد والأكيد في الآيات والروايات الشريفة عن الجدل بالباطل ، وأما الجدل بالحقّ والحوار المنطقي والهادف والذي يقوم على أساس الأدلّة والبراهين العقليّة ويكون الهدف منه هو إيضاح الحقيقة واستجلاء كوامن الحقّ من دون أن تكون رغبة لدى الطرفين في الاستعلاء والغلبة والتفوق على الخصم فإنّ مثل هذا الجدال والحوار ليس فقط لا إشكال فيه بل هو مأمور به من قبل الله تعالى ، حيث نقرأ في الآية ١٢٥ من سورة النحل قوله :

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

٢ ـ الاقتداء بالهادي

والتوصية الثانية للآية الشريفة والتي تستفاد من المقطع الثاني لها هي أن المسلمين لو أرادوا الهداية إلى الله تعالى والسير في خطّ التقوى والإيمان فلا بدّ أن يتّخذوا الإمام علي عليه‌السلام قدوة وعلى أساس من كونه «هادياً» للمسلمين.

الإمام علي عليه‌السلام في أخلاقه وسلوكياته وأقواله وكتبه المشحونة بالمعارف العالية والمفاهيم السامية وكلماته القصار المليئة بالموعظة والحكمة ، وتاريخ حياته المليء بالدروس والعبر ، وآداب معاشرته وأخلاقه الجذّابة مع الآخرين ، ومديريته القوية والرصينة ،

__________________

(١) ميزان الحكمة : باب ٤٩٢ ، ح ٢٢٨٥.


واسلوب تعامله وتفاعله مع الأحداث والأشخاص والأقوام من الداخل والخارج ، وأخيراً إرشاداته وتعليماته الإنسانية كلُّها يمكن أن تكون اسوة وقدوة لجميع المسلمين في حركتهم الدنيوية وسلوكهم المعنوي في خطّ التكامل الأخلاقي والإلهي.

ونحن الذين ندّعي الولاية لهذا الإمام العظيم وندّعي أننا من أتباعه فما هو مقدار الفاصلة بين حياتنا وتعاملنا وأفكارنا مع حياة ذلك الإمام وأفكاره وأخلاقه؟ لنرى طعام الإمام علي عليه‌السلام كم كان زهيداً وبسيطاً ، ولباسه في أوج اقتداره وحكومته كم كان رخيصاً وساذجاً ، فهل أن زخارف الدنيا وتجملاتها استطاعت أن تقيّد الإمام علي عليه‌السلام وهو في أعلى مواقع القدرة بحبائلها وأن تؤسره بأسلاكها ، بل نقرأ في التواريخ أن تشييع الإمام ومراسم تكفينه ودفنه كانت بسيطة للغاية ، ولكن مع الأسف أنّ بعض من يدّعي أنه شيعة علي عليه‌السلام يعيش في عالم الزخارف الدنيوية البرّاقة وقد أصبح أسيراً لاحابيلها الموهومة ، بل إنّ المراسم التي تجرى لهم بعد وفاتهم من بذل الطعام ومجالس الفاتحة والعزاء مليئة بالمظاهر البرّاقة ومشحونة بعناصر الهوى والفخفخة بحيث لا نجد شبهاً بينها وبين مجالس العزاء الحقيقية بل قد تنفق في هذه المجالس ملايين الدنانير من دون أن تكون الدوافع سليمة والغايات إلهية.

وقد سمعت قبل مدّة خبراً قد يكون مفرحاً من جهة ومثيراً للقلق من جهة اخرى ، وهو :

«مات أحد الأشخاص فقرر أولياء الميت وأبناؤه أن ينفقوا مصارف مجلس العزاء ومراسم الفاتحة على الامور الخيرية ، فجلسوا لمحاسبة نفقات مجلس العزاء هذا فتبيّن أنه قد يصل إلى خمسة ملايين تومان ، فقرّر هؤلاء الأبناء أن ينفقوا هذا المبلغ على البنات من العوائل الفقيرة لكي يؤمّنوا لهم جهاز العرس وأثاث البيت الزوجي بدلاً من صرفه على مجلس العزاء والفاتحة ، فكان هذا المبلغ يكفي لتجهيز عشرة بنات ، أي يكفي لتكوين عشر عوائل جديدة ومحتاجة».

هذا الخبر هو مقلق ومثير للتشويش من جهة المبالغ الطائلة التي تصرف على مجالس العزاء هذه ، ومن جهة اخرى مفرح ومثير للارتياح والانبساط بأن يقوم أولياء الميت وورثته بخطوة مهمة مستوحاة من العقل والوجدان ويقرّروا إنفاق ذلك المبلغ الكبير على امور خيرية وإنسانية.


ما المانع من أن يقوم المسلم بإنفاق مثل هذه المبالغ الكبيرة على امور إنسانية وموارد خيرية بدلاً من بذلها لمظاهر خاوية وتشريفات زائفة؟

عزيزي القارئ : إنّ توفير مقدّمات الزواج للشباب المحتاجين ليست وظيفة وتكليف الوالدين فقط بل هو تكليف عام لجميع المسلمين كما تقول الآية الشريفة :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ)(١)

فهذه الوظيفة في الحقيقة تتعلق بجميع أفراد المجتمع ، ولا يقتصر الحال على مسألة الزواج بل سائر المشكلات والمعضلات التي تواجه الشباب والفتيات في مجتمعاتنا الإسلامية حيث ينبغي أن نمدّ لهم يد العون ونسعى في حلّ مشاكلهم والتخفيف من آلامهم وهمومهم في حركة الحياة من قبيل مشكلة «العطالة» التي تمثل العامل المهم لكثير من المفاسد الاجتماعية ، وكذلك مشكلة «المسكن» ومشكلة «التحصيل الدراسي» وأمثال ذلك.

ينبغي علينا وبالإلهام من سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام أن نتحرر من قيود وأسر التشريفات والظواهر البرّاقة والابتعاد عن منزلقات الزخارف الدنيوية ونعيش البساطة والطهارة والنقاء في الحياة الفردية والاجتماعية بل يجب على الحكومة الإسلامية مضافاً إلى توفير المناخ المناسب لمثل هذه السلوكيات والقيم الأخلاقية والثقافية لجميع أفراد المجتمع أن يقوم المسئولون أنفسهم بالعمل بهذا المبدأ المقدّس لكي يمكنهم في حال إصلاح هذه الأزمة الاجتماعية والإدارية ، إصلاح قسم مهم من الفساد الاقتصادي والتخلف الاجتماعي الذي تعاني منه البلدان الإسلامية وبالتالي يتسنّى للمسلمين التخلص من التبعية للأجنبي والاستعمار الذي لا يفكر إلّا في مصالحه الشخصية ومنافعه المادية ، ونستطيع إن شاء الله ببركة ذلك الإمام الهمام أن نحفظ عزّة وكرامة الامّة الإسلامية ونحلّ مشكلاتها.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاستماع قول الحقّ ويرزقنا اذناً واعية لفهم هذه التعليمات المهمة الواردة في دائرة المفاهيم القرآنية ثمّ يوفقنا لتجسيد هذه المفاهيم على مستوى العمل والتطبيق والاستفادة من ثمراتها الكثيرة وبركاتها العميمة إنه أرحم الراحمين ... آمين يا ربّ العالمين.

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٢.


آية خير البريّة ١٤

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

«سورة البيّنة / الآية ٧ و ٨»

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة أيضاً من الآيات التي تتعلّق بموضوع الإمامة والخلافة ، وتدلُّ بدقائق عباراتها الظريفة على أحقيّة مقام الإمامة والخلافة للإمام علي عليه‌السلام ، ولا يوجد فيها اختلاف على مستوى السياق والمدلول «خلافاً للآيات السابقة» وأما كيفية الاستدلال بهذه الآية لإثبات الولاية والإمامة فيحتاج إلى دقّة وتدبّر خاصّ كما سيأتي بيانه لاحقاً.

الشرح والتفسير : أفضل المخلوقات وشرّها

من أجل إيضاح المراد من الآية الشريفة «آية خير البريّة» واستجلاء المفهوم منها نرى من الضروري أن نشرع بشرح الآية السادسة من سورة البيّنة :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)


أي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لم يقبلوا بالإسلام وكذلك المشركون وعبادة الأوثان يشتركون في العاقبة والمصير الاخروي فجميعهم يردون جهنم خالدين فيها.

(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)

وهذا هو السبب في أنهم مخلّدون في نار جهنم ، وكأن هذه الجملة وردت في مقام الدليل لبيان سبب خلود هؤلاء في نار جهنم (١).

ويستفاد من الآيات السابقة لهذه الآية الشريفة أن هؤلاء ليسوا من الكفرة العاديين بل هم طائفة من الكفّار الذين فهموا الرسالة الإلهية واتّضحت لديهم الحجّة والبيّنة وعلموا بحقّانيّة الإسلام والرسالة السماوية ولكنّهم مع ذلك أصرّوا على عنادهم ولجاجتهم وانطلقوا في عداءهم مع الحقّ والعدل من موقع الخصومة والعدالة ، وعليه فإنّ هذه الآية لا تشمل كلُّ الكفّار والمشركين وأهل الكتاب حتّى لو تحرّكوا في خطّ الباطل والكفر من موقع الجهل والغفلة ، فالخطأ الذي ينطلق من موقع الغفلة والاندفاع العفوي ليس كالخطإ الذي ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف ووضوح الرؤية.

وبعد أن ذكرت الآية الشريفة شرّ المخلوقات تحرّكت الآية التي بعدها لبيان أفضل المخلوقات وقالت :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)

فقد ذكرت هذه الآية الشريفة لأفضل مخلوقات الله ثلاث صفات وخصوصيات :

١ ـ «الَّذينَ آمَنُوا» فالخصوصية الاولى لهؤلاء هي إيمانهم بالله تعالى والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوم القيامة ، وعليه فإنّ المشركين وجميع الأشخاص الذين لا يدينون بدين الإسلام خارجون عن هذه الدائرة ولا يتّصفون بهذه الصفة الكريمة.

__________________

(١) عبارة «اولئك هم شرّ البريّة» عبارة قارعة مثيرة ، وتعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أقل وأسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحقّ وإتمام الحجّة وساروا في طريق الضلال ، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى : «إنّ شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون» الأنفال : ٢٢. وكذلك في قوله سبحانه يصف أهل النار : «اولئك كالأنعام بل هم أضلّ اولئك هم الغافلون» الأعراف : ١٧٩. وهذه الآية مورد البحث تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا تذهب إليه غيرها ، لأنها تصفهم بأنهم شرّ المخلوقات. (التفسير الامثل : ج ٢٠ ، ص ٣٦٤ ، ذيل الآية).


٢ ـ (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الخصوصية الثانية للأشخاص الذين هم «خير البريّة» هو أنهم يتحرّكون في واقعهم الاجتماعي من موقع العمل الصالح الذي يستوحي مقوّماته من الإيمان والاعتقاد في عالم القلب والروح.

«العمل الصالح» (١) يتضمن معنىً عاماً وشاملاً ، وقد ورد في الروايات الشريفة أن أدنى مرتبة له هو «اماطَةُ الْأذى عَن الطَّريقِ» وأعلى مرتبة له هو اعتناق دين الحقّ والشهادة بالتوحيد «وأعْلاهَا شَهادَةُ انْ لا الهِ إلّا الله» (٢).

والخلاصة أن الصفة الثانية لهؤلاء هي أنهم يعملون الأعمال الصالحة.

٣ ـ (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) الخصوصية الثالثة لهؤلاء الأشخاص هي أنهم يتمتعون بمقام «الخشية» من الله تعالى ، فمضافاً للإيمان والعمل الصالح فإنهم يعيشون حالة الخشية والخضوع والإذعان للحقّ تعالى والتسليم لأوامره وتعليماته.

سؤال : هل أن «الخشية» هي شيء آخر غير الإيمان والعمل الصالح؟

الجواب : نعم ، إنّ الخشية مرتبة أعلى من الإيمان والعمل الصالح ، والظاهر أنها تعني الإحساس بالمسئولية ، فتارةً يعيش الإنسان الإيمان والعمل الصالح ولكن ذلك لا يعني أنه يتحلّى بعنصر الإحساس بالمسئولية ولا يكون إيمانه وعمله الصالح مسترفداً من إحساسه بالمسئولية بل بسبب العادة والتربية وأجواء الاسرة والمحيط الاجتماعي ، وتارةً اخرى يتحرّك الإنسان في إيمانه وعمله الصالح على أساس من إحساسه بالمسئولية ، فمثل هذا الإنسان يتعامل مع الأحداث والأشخاص والمواقف المختلفة من منطلق إحساسه بالمسئولية ويكون سلوكه وممارساته في حركة الحياة الفردية والاجتماعية قائمة على هذا الدافع النفساني والوجداني.

والنتيجة هي أن «خير البريّة» هم الذين يتمتعون بثلاث صفات : الإيمان ، العمل الصالح ، الإحساس بالمسئولية.

__________________

(١) لبيان أهمية العمل الصالح يكفي أن نعلم أن هذه العبارة وردت في القرآن الكريم سبعين مرّة تقريباً.

(٢) عوالي اللئالي : ج ١ ، ص ٤٣١ ، والرواية أعلاه وردت في صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، الباب ١٢ ، ح ٥٨ ، مسند أحمد : ج ٢ ، ص ٣٧٩.


وبعد ان تنتهي الآية الشريفة من تعريف «خير البريّة» وتبيين صفاتهم وخصائصهم تتعرض كذلك لبيان أجرهم وثوابهم عند الله وتقول :

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

إنّ ثواب «خير البريّة» في الدار الآخرة يتضمن الثواب المادي والمعنوي على السواء ، لأن الإنسان مركّب من جسم وروح ، فجسمه يطلب الثواب المادي ، وروحه تشتاق إلى الثواب المعنوي.

أما الثواب المادي لهؤلاء الصالحين فهو عبارة عن الجنّة الخالدة والبساتين اليانعة التي تجري من تحت أشجارها الأنهار (١) والمياه العذبة بصورة دائمة.

البساتين على نحوين :

١ ـ البساتين التي تردُّ إليها المياه من خارجها ويتمُّ سقي أشجارها بالماء بين كلِّ حين وآخر وعلى فواصل زمنيّة معيّنة ، فالمياه لا تجري دائماً في جداولها وسواقيها.

٢ ـ البساتين التي تتوفر فيها المياه بصورة دائمة وتجري في سواقيها وبين أشجارها ، وبلا شك أن مثل هذه البساتين تنعم أشجارها بطراوة خاصّة ومشهد جذّاب ولا يخشى عليها الجفاف والذبول ، فبساتين الجنّة التي تقدّم وصفها في الآية الشريفة هي من النوع الثاني ، فهي خضراء يانعة دائماً.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فكما أن الكفّار والمشركين وأهل الكتاب الذين وقفوا من الرسالة الإلهية موقف المعاند والعدو مخلدون في نار جهنم ، وكذلك المؤمنون الذين يعيشون الإحساس بالمسئولية ويترجمون إيمانهم وإحساسهم هذا على مستوى الممارسة والأعمال الصالحة هم مخلدون في الجنّة أيضاً.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وتشير هذه الجملة إلى الثواب المعنوي لهؤلاء المؤمنين ، وهو أن الله تعالى ينعم عليهم بالمواهب الاخروية العظيمة إلى درجة أنهم يعيشون الرضا والسرور الفائق ، ومن جهة اخرى فإنّ لطف الله تعالى ورحمته بهؤلاء يبلغ إلى الحدّ الذي يرضى الله عزوجل عنهم.

__________________

(١) صفة «الخلود» يمكن استفادتها من كلمة «عدن» بمعنى الخالدة ، ويقال «معدن» للأشياء المعدنية الثابتة والمستقرة في ذلك المكان بصورة دائمية.


فما أعظم هذا المقام الشامخ ، وما أعظم هذه المرتبة السامية التي لا تتصور فوقها مرتبة في عالم الكمال والنعمة والسعادة.

والنتيجة التي نستخلصها من هذه الآيات الشريفة الثلاث أنها ذكرت خصوصيّات «شرُّ البريّة» وعقوباتهم في الدار الآخرة ، وكذلك صفات وخصوصيّات «خير البريّة» وأجرهم وثوابهم عند الله في يوم القيامة.

خير البريّة في الروايات

سؤال : هل أن المفهوم من هذه الآية الشريفة عام أو خاصّ؟

وبعبارة اخرى : هل أنّ «خير البريّة» يشمل جميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، أو يتحدد بفئة خاصّة منهم؟

الجواب : ومن أجل التوصل إلى جواب هذا السؤال نرى من اللازم الرجوع إلى الروايات الواردة في شأن نزول هذه الآيات الكريمة :

طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في مصادر وكتب الشيعة وأهل السنّة أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر في تفسير «خير البريّة» أنهم : عليّ وشيعته ، وقد وردت هذه الروايات في كتب مختلفة ، منها :

١ ـ «شواهد التنزيل» لمؤلفه الحاكم الحسكاني (١).

٢ ـ «الصواعق المحرقة» تأليف ابن حجر الهيثمي (٢)

٣ ـ «الدرّ المنثور» للسيوطي (٣).

٤ ـ «نور الأبصار» لمحمّد الشبلنجي (٤).

__________________

(١) الحاكم الحسكاني النيشابوري من علماء أهل السنّة في نيشابور ، و «حسكان» قرية من قرى نيشابور ، ويعتبر من العلماء المعتدلين والبعيدين عن التعصّب ، وقد سعى لجمع جميع الروايات الواردة في شأن نزول آيات القرآن الكريم في كتابه.

(٢) الصواعق المحرقة : ص ٩٦ نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٦١.

(٣) الدرّ المنثور : ج ٦ ، ص ٣٧٩ نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٦٠.

(٤) نور الأبصار : ص ٧٠ و ١١٠ نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩ ، ص ٢٦١.


٥ ـ «تفسير الطبري» (١).

٦ ـ «روح المعاني» للآلوسي (٢).

٧ ـ «المناقب» للخوارزمي (٣).

٨ ـ «فتح الغدير» للعلّامة الشوكاني (٤).

وقد أورد صاحب كتاب «شواهد التنزيل» في كتابه هذا أكثر من عشرين رواية في ذيل آية خير البريّة ، وقد اخترنا منها ثلاث روايات كنموذج لتقرير المطلوب ، وهي كالتالي :

الف) يقول جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي المعروف : كنت جالساً مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجماعة من أصحابه عند الكعبة ، وإذا بعليّ قد ظهر لنا من بعيد ، فلمّا رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه :

«قَدْ أَتاكُمْ أَخي ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى الْكَعْبَةِ ، فَقالَ وَرَبِّ هذِهِ الْبُنْيَةِ! إنَّ هذا وَشِيعَتَهُ هُمُ الفائزونَ يَوْمَ الْقيامَةِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنا بِوَجْهِهِ ، فَقَالَ : أَما وَاللهِ إنّهُ أَوَّلُكُمْ إيماناً باللهِ ، وَاقْوَمُكُمْ بأمر اللهِ وَأَوفاكُم بِعَهْدِ اللهِ وَأَقْضاكُمْ بِحُكْمِ اللهِ وَأَقْسَمُكُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَأَعْدَلُكُمْ فِي الرَّعيَّةِ وَأَعْظَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ مَزِيَّةً. قالَ جابِرُ فَأَنْزَلَ الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فَكانَ عَلِيٌّ إذا أَقْبَلَ قالَ أَصْحابُ مُحَمّدٍ : قَدْ أَتاكُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ رَسُول اللهِ» (٥).

ويستفاد من العبارة الواردة في ذيل هذه الرواية الشريفة أنها كانت مشهورة بين المسلمين في صدر الإسلام ، وعليه فإنّ الرواة لها لا يقتصرون على ابن عبّاس وجابر بن عبد الله وأبو برزة.

ب) ويقول جابر في رواية اخرى : أنه عند ما نزلت آية خير البريّة ، التفت النبي

__________________

(١) تفسير الطبري : ج ٣٠ ، ص ١٧١.

(٢) روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ٢٠٧.

(٣) المناقب الخوارزمية : ص ٤٢١ ، طبعة طهران نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٨٩.

(٤) فتح الغدير : ج ٥ ، ص ٤٦٤ ، طبعة مصر نقلاً عن احقاق الحقّ : ج ٣ ، ص ٢٩١.

(٥) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٣٦٢.


الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال :

«هُمْ أَنْتَ وَشِيعَتُك ، تَرِدُ عَلَيَّ وَشِيعَتُكَ رَاضِينَ مَرْضِيِّيْنَ» (١).

ج) يقول أبو برزة الأسلمي : عند ما نزلت آية خير البريّة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي بن أبي طالب :

«هُمْ أَنْتَ وَشِيعَتُكَ يا عَلِيّ ، وَميعادُ ما بَيْني وَبَينكَ الْحَوْضُ» (٢).

د) ويروي ابن عساكر في شرح هذه الآية الشريفة «آية خير البريّة» عن عائشة رواية طريفة ، (ورغم أن عائشة لم تكن على علاقة جيّدة مع علي بن أبي طالب وقد قامت بوجهه في حرب الجمل) قال :

«وفي رواية لعائشة عن عطاء قال سألت عائشة عن علي فقالت : ذاك خير البشر لا يشك فيه إلّا كافر» (٣).

والنتيجة أنه طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في تفسير آية خير البريّة أن المراد من «خير البريّة» هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

سؤال : ويطرح الآلوسي في روح المعاني سؤالاً بهذه الصورة :

إذا كان المراد من خير البريّة هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام فهل أنه أعلى مقاماً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ لأنّ كلمة «خير البريّة» في الآية الشريفة وردت بشكل مطلق ، ومفهومها أن المصداق لها هو أفضل من جميع الناس.

الجواب : لو تدبرنا في مضمون الآية الشريفة لاتّضح الجواب عن هذا السؤال ، لأنه كما تقدّم أن أحد الشروط التي لا بدّ أن تتوفر في «خير البريّة» هو الإيمان ، أي الإيمان بالله والرسول وسائر مبادئ وأحكام الإسلام ، وعليه فإنّ الإمام علي من جهة اعتقاده وإيمانه العميق بالله تعالى ورسوله الكريم هو خير البريّة ، فكيف يمكن أن يكون الإمام علي وبسبب اعتقاده وإيمانه برسول الله هو خير البريّة وفي نفس الوقت يكون أعلى مرتبة من

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٣٦٠.

(٢) شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٣٥٩.

(٣) احقاق الحقّ : ج ٢ ، ص ٢٨٨.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه؟ ولهذا السبب ورد في رواية جابر بن عبد الله الأنصاري المذكورة في منابع أهل السنّة أنّ عليّ بن أبي طالب خير البريّة بعد رسول الله.

سؤال آخر : ما هي العلاقة بين الآية الشريفة وبين مسألة الإمامة والخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام؟ وعلى فرض أن يقبل أهل السنّة بأن علي بن أبي طالب هو خير البريّة كما ورد في رواياتهم ، ولكن كيف يمكن الاستدلال بهذه الآية على إمامته وخلافته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

الجواب : بالنسبة إلى طريقة تعيين الخليفة بعد النبي هناك اختلاف بين الشيعة وأهل السنّة ، فالشيعة يرون أن الخليفة والإمام بعد رسول الله يجب أن يكون منصوباً ومعيّناً من قبل الله تعالى (١) ، إذن فتعيين الخليفة في نظر الشيعة هو أمر انتصابي لا انتخابي ، ولكنّ أهل السنّة يرون أن تعيين الخليفة بعد النبي هو أمر انتخابي ويجب أن يختاره الناس إماماً وزعيماً لهم ، فإذا حظى بموافقة الناس وانتخابهم له صار خليفة لرسول الله.

وطبعاً إنّ هذا الاختلاف في مفهوم وطريقة تعيين الخليفة لا يؤثر في المفهوم من الآية الشريفة لأنه لو كانت الخلافة انتخابية أو انتصابية فإنّ الإمام علي هو الوحيد اللائق لهذا المقام ، لأنه لو كانت انتصابية كما يعتقد الشيعة فمع وجود الإمام علي الذي هو خير البريّة وأفضل مخلوقات عالم الوجود فإنّ الله الحكيم لا يختار شخصاً آخر غيره لهذا المقام وإلّا لكان منافياً لمقتضيات الحكمة الإلهية ، ولو كانت المسألة انتخابية فهل يعقل مع وجود أفضل الناس وأعلمهم أن يختار العقلاء شخصاً آخر لهذا المقام؟

من الواضح أن ما يعتذر به البعض من أنّ المسلمين في ذلك الزمان لم يكونوا يعرفون الأفضل والأعلم هو عذر غير مقبول مع وجود كل هذه الروايات الكثيرة التي مرّت سابقاً ومع اشتهار مقام الإمام علي عليه‌السلام ومناقبه وفضائله بعنوان إنه «خير البريّة».

ومع الالتفات إلى ما تقدّم يتّضح جيّداً ارتباط الآية الشريفة مع مسألة الولاية والإمامة.

__________________

(١) لأنّه كما تقدّم سابقاً لا بدّ أن يكون خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوماً ، وملكة العصمة لا يدركها سوى الله تعالى ، إذن فيجب أن يكون تعيين الخليفة المعصوم من قبل الله تعالى.


السؤال الثالث : إنّ الأفضل عادةً يكون شخصاً واحداً لا أكثر ، وعليه كيف يكون الإمام علي وشيعته هم الأفضل؟

الجواب : إنّ مقام أفضل الخلق له مراتب ، فيمكن أن يكون أحد الأشخاص على رأس الهرم في سلسلة الأفاضل ، وهناك أشخاص آخرون يقعون في المراتب التي تلي هذه المرتبة ، وهناك طائفة ثالثة أدنى منها وهكذا ، وعليه فإنّ الإمام علي يقف على رأس الهرم في الأفضلية ويأتي شيعته في المراحل الدانية.

والنتيجة لجميع هذه الأبحاث أن «خير البريّة» ومن يحوي الصفات الثلاثة : الإيمان ، العمل الصالح والإحساس بالمسئولية ، هم علي وشيعته.

توصيات آية خير البريّة

إنّ هذه الآية الشريفة والروايات الواردة في تفسيرها تتضمن توصيات مختلفة ، منها :

١ ـ نظام القيم في الإسلام

إنّ قيمة كلُّ دين أو مذهب تكمن في منظومة القيم لذلك الدين أو المذهب ، وببيان أوضح : إنّ كلُّ دين أو مدرسة فكرية وفلسفية تدور حول محور أساسي ، وذلك المحور يكون بمثابة النظام القيمي والمعيار الذي ترسل فيه معالم ذلك الدين والمدرسة الفكرية ، وكمثال على ذلك :

الف : ذكرت الآيات الكريمة في حديثها عن منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع الفرعوني الطاغوتي كما ورد ذلك في الآية ٥١ من سورة الزخرف على لسان فرعون :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ)

هنا نرى أن فرعون يفتخر بتسلطه على مصر واستلامه زمام الامور في حكومة مصر ، تلك الحكومة المستبدة والديكتاتورية ، وهذا السياق القرآني يعبّر في الحقيقة عن نظام القيم في حكومة فرعون ، وعلى هذا الأساس فالإنسان الجيّد في نظر فرعون والفراعنة هو الحاكم


والمتسلط على الناس حتّى لو كان متوغلاً في الفساد والجريمة والظلم ، أما الإنسان السافل والساقط فهو من يعيش بعيداً عن أجواء السلطة والحكومة حتّى ولو كان من الناحية الأخلاقية يتّصف بأفضل الصفات والفضائل الأخلاقية ، ولهذا اعترض فرعون على موسى ودعواه النبوّة والرسالة من الله تعالى وقال :

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)(١) (ليؤيدوا كلامه من كونه مرسل من الله تعالى).

أي أن موسى عليه‌السلام وطبقاً لرؤية الفراعنة ونظامهم الأخلاقي كان يعيش بعيداً عن أجواء القدرة والثروة والحكومة إذن فلا يستحق مقام النبوّة والرسالة.

والنتيجة هي أن المعيار الأخلاقي في النظام الفرعوني هو القدرة والثروة والزينة.

ب : وهناك بعض الأنظمة الأخلاقية في بعض المجتمعات والمذاهب الاخرى تعتبر أن كثرة الأموال والأولاد والثروة هي المعيار ، كما ورد في الآية الشريفة ٣٥ من سورة سبأ :

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)

فهؤلاء يعيشون بنظام من القيم الأخلاقية التي تدور حول محور القوى الإنسانية والاقتصادية ، وطبقاً لهذه العقيدة وهذه الرؤية فإنّ الإنسان الجيّد والمحترم هو من يتمتع بأموال كثيرة وثروة طائلة وأبناء كثيرين وخاصّة إذا كان هؤلاء الأبناء ذكور كما هو حال العرب في زمن الجاهلية حيث كانت العائلة السعيدة هي التي يتوفر فيها كثرة في الأولاد الذكور ، لأن ذلك يمنحهم القدرة على القتال والغارة وعمليّات السلب والنهب أو ينتفع الأب من معونتهم في أعماله الشخصية والاجتماعية.

والخلاصة أن مثل هذا النظام الأخلاقي يعتمد بالدرجة الاولى على مبدأ القوّة البشرية والكثرة في الأموال والأولاد.

وأمّا بالنسبة إلى الرؤية الإسلامية ومنظومة القيم في دائرة المفاهيم القرآنية فإنها تختلف عمّا تقدّم من النظم والمعايير الثقافية ، فكلُّ ذلك لا يعدّ في نظر الإسلام معياراً وقيمةً ذات

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية ٥٣.


أهميّة على مستوى حياة الإنسان الأخلاقية والمعنوية رغم أنها قد تنفع أحياناً في كونها وسيلة وأداة للتوصل بها إلى الأهداف المقدسة والغايات الدينية فتكون مطلوبة وإيجابية حينئذٍ.

القرآن الكريم يردُّ على ما ذكرناه آنفاً من النظام القيمي للطائفة الأخيرة ويقول :

(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ)(١)

فهذه الآية الشريفة وضمن رفضها للنظام الأخلاقي الذي يستوحي مقوماته من القوّة البشرية والاقتصادية تطرح النظام الأخلاقي والمعيار القيمي في دائرة المفاهيم الإسلامية وتذكر «الإيمان» و «العمل الصالح» كمفردات معيارية للنظام الأخلاقي في الإسلام ، لأن هذه الامور هي التي توصل الإنسان إلى معراج الكمال المعنوي وتقوده في حركته الصاعدة نحو الله تعالى لا المال والأولاد والامور الدنيوية الاخرى.

ويقول تبارك وتعالى في الآية ١٣ من سورة الحجرات ضمن اعتبار التقوى محور آخر من محاور النظام الأخلاقي في الإسلام ويخاطب الناس كافة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

عند ما جاء الإسلام بنظام أخلاقي جديد يقوم على الإيمان والعمل الصالح والتقوى فإنه استبدل القيم الجاهلية القديمة بهذه القيم السماوية والإنسانية وخلق بذلك تحولاً عظيماً في هيكلية المجتمع البشري وقدّم إلى البشرية أشخاصاً مثل «أبي ذرّ» و «سلمان» و «ميثم التمّار» بدلاً من «أبي جهل» و «أبي لهب» و «أبي سفيان».

إنّ آية «خير البريّة» تقرر إنّ منظومة القيم في الإسلام تقوم على أساس «الإيمان» و «العمل الصالح» و «الإحساس بالمسئولية» وتقرر بأن أفضل الناس هم الذين يتميّزون بهذه السمات الأخلاقية والدينية الثلاث ، ولكننا نرى مع الأسف في عالمنا المعاصر أن قيم

__________________

(١) سورة سبأ : الآية ٣٧.


الجاهلية عادت لتحكم من جديد فالإنسان الأفضل هو الذي يمتلك دولارات أكثر أو يتمتع بقدرة اقتصادية أعظم أو يمتلك قوّة عسكرية أكبر ، ولكن كلّ هذه الامور لا تعدّ معياراً أساسياً في منظومة القيم والمفاهيم الإنسانية.

٢ ـ تاريخ ظهور الشيعة

يتصور البعض أو يلقّن نفسه بهذا المفهوم الزائف عن الشيعة ، وهو أن الشيعة ظهرت إلى الوجود كمذهب وتيار إسلامي منذ زمن الصفويين أو بعد ذلك وليس لهم امتداد تاريخي في القرون السابقة.

ولكن يتضح بطلان هذا التصور بمجرّد إلقاء نظرة عابرة على ما ورد في الروايات الإسلامية وكتابات المؤرّخين ومن ذلك ما ورد في الروايات الشريفة في ذيل آية «خير البريّة» والتي تقدّم ذكرها وأن كلمة «الشيعة» ذكرت لأوّل مرّة على لسان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأراد منها أتباع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعلى هذا الأساس فإنّ تاريخ ظهور الشيعة يتزامن مع تاريخ ظهور الإسلام وقد سبق ظهور هذا المذهب جميع المذاهب الإسلامية الاخرى.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هذا الأمر يتّضح جيّداً أن بعض الأشخاص الذين يتحركون من موقع الغفلة أو التغافل أو العناد على مستوى اتهام الشيعة والتعريض بهم بما تقدّم ، هم بعيدون عن الحقّ والصواب ومشمولون لقول الشاعر :

وَإن كُنْتَ لا تَدْري فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ

وَإنْ كُنْتَ تَدْري فَالْمُصيبَةُ أَعْظَمُ

أي أن بعض العلماء من الفرق الإسلامية إذا لم يكونوا يعلمون بهذه الأحاديث والروايات وغير مطّلعين عليها فهذه مصيبة (بحيث إنّ الإنسان الذي يدّعي العلم يجهل هذه الروايات).

وإذا كانوا مطّلعين عليها ولكنهم ينكرونها ويتغافلون عنها من موقع العناد والتعصّب فمصيبتهم أعظم وأكبر.

إلهنا احفظنا من التورط في منزلقات التعصّب الأعمى وأبعدنا عن آثاره المشئومة وعواقبه الوخيمة.


٣ ـ ما ذا تعني كلمة الشيعة؟

سؤال : إنّ الروايات الواردة في هذا البحث تصف شيعة الإمام علي عليه‌السلام كأنهم أفضل من خلق الله تعالى ، ومع الالتفات إلى هذا المقام السامي للشيعة ، نريد أن نعرف من هم هؤلاء الشيعة؟

الجواب : وفي المقام الجواب على هذا السؤال لا بدّ من استعراض معنى كلمة «الشيعة» والبحث فيها من ثلاث جهات :

ففي البداية نبحث المعنى اللغوي لهذه الكلمة ، ثمّ موارد استعمالها في القرآن الكريم ، في الثالثة نستعرض بعض الروايات التي تتعرض لوصف الشيعة الحقيقيين.

الف : الشيعة في اللغة : إنّ هذه الكلمة «الشيعة» تعني في اللغة «الانتشار مع القدرة» ، فالشيء الذي يمتد وينتشر في مناطق مختلفة مع القدرة والقوّة يطلق عليه «شيعة» والنتيجة أن الشيعة في اللغة تطلق على الفئة والجماعة المنتشرة والقوية في نفس الوقت.

ب : الشيعة في القرآن : وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أربعة موارد ، إحداها ما ورد في شأن النبي إبراهيم عليه‌السلام في سورة الصافات ، الآية ٨٣ و ٨٤ :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

هذه الآية الشريفة وصفت إبراهيم بأنه من شيعة النبي نوح عليه‌السلام ، أي أنه استمرار لخطّ النبي نوح عليه‌السلام ، والآية الثانية ترسم معالم التوفيق الذي ناله إبراهيم في هذا المجال حيث توجه إلى خالقه وربّه بقلب سليم (١) من أدران الشرك وتلوثات الخطايا.

والآية الاخرى التي وردت فيها كلمة الشيعة هي الآية ١٥ من سورة القصص حيث

__________________

(١) ورد في تعريف القلب السليم في الروايات أنه القلب الذي لا يوجد فيه غير الله ، أي حتّى الامور التي يريدها الإنسان من المقام والثروة والمرأة والأطفال والصحّة والأمان فإنما يريدها للتقرب إلى الله تعالى ، ولو أرادها الإنسان بصورة مستقلة ووقعت في قلبه من دون غاية التقرب إلى الله فإن مثل هذا القلب لا يكون سليماً ، وقد وردت عبارة «القلب السليم» في القرآن مرتين ، إحداهما في سورة الشعراء : الآية ٨٩ ، والاخرى في سورة الصافات : الآية ٨٤. (وللمزيد من التفاصيل في معنى القلب السليم يراجع التفسير الامثل ، ذيل تفسير هاتين الآيتين).


تتعرض هذه الآية إلى قصة موسى عليه‌السلام وتقول :

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ...)

كلمة «شيعة» في هذه الآية الشريفة اطلقت على أتباع النبي موسى عليه‌السلام ويمكننا أن نستوحي من هذا التعبير أن النبي موسى كان قد شكّل جماعة له قبل النبوّة وربّاهم على طريق الحقّ والإيمان.

والنتيجة هي أن كلمة شيعة في الآيات أعلاه وردت في حقِّ بعض الأنبياء وأتباعهم.

ج : الشيعة في الروايات : لقد وردت كلمة «شيعة» في الروايات الشريفة بشكل واسع ومستفيض ، ونكتفي هنا بذكر ثلاث نماذج منها :

١ ـ ما ورد في خطاب الإمام علي لأحد أصحابه ويدعى «نوف البكالي» قال :

«أَتَدْري يا نَوْفُ مَنْ شيعَتِي؟»

فقال نوف : لا وَالله.

فشرع الإمام يبين له أوصاف الشيعة الحقيقيين ومن ذلك أنه قال : «رُهْبانٌ بِاللَّيْلِ وَاسْدٌ بِالنَّهار» (١) فيعيشون في الليل الشوق والمناجاة والتبتل إلى الله تعالى ، وفي النهار يتحركون في دفاعهم عن الإسلام وخدمة المسلمين من موقع الإخلاص والشجاعة الفائقة ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم.

٢ ـ وورد في رواية اخرى في أوصاف الشيعة :

«إنَّما شَيعَتُنا أَصْحابُ الْارْبَعَةِ الأعْيُنِ ؛ عَيْنانِ فِي الرَّأْسِ وَعَينانِ فِي الْقَلْبِ» (٢)

أي أن الشيعي ينبغي أن يكون شخصاً قوياً ، شجاعاً ، واعياً ، يقظاً ، فاهماً وعالماً لا أن يكون ساذجاً وسطحياً ويتعامل مع الأحداث من موقع الهويمات والأوهام الهشة والمطلقات الخاوية.

٣ ـ وقال شخص للإمام الباقر عليه‌السلام : «الحمد لله على كثرة شيعتكم».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٥ ، ص ٢٨.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٢١٥.


فنظر إليه الإمام نظرة ذات مغزى وقال له : إنما تقوله عن شيعتنا :

هَلْ يَعْطِفُ الْغَنيُّ عَلَى الْفَقيرِ؟ وَيَتَجاوَزُ الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ وَيَتَواسَوْنَ؟

قُلتُ : لا.

قالَ : لَيْسَ هؤُلاءِ الشِّيعَةُ ، الشِّيعَةُ مَنْ يَفْعَلُ هَكَذا (١).

أجل ، فإنَّ الشخص الشيعي يجب أن يكون قائم الليل يقظ وعامل في النهار ويتعامل مع الواقع والأحداث بمنطق العقل والفهم السليم ويساعد الفقراء والمساكين ويعفو عن المسيئين ويشارك الناس في همومهم ويواسيهم في غمومهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ ، ص ٣١٣.



آية الحكمة ١٥

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

«سورة البقرة / الآية ٢٦٩»

أبعاد البحث

بلا شك إنّ الإسلام له دور هام وأساسي في ترويج العلم وتشويق الناس إلى سلوك طريق المعرفة أكثر من جميع الأديان الإلهية والشرائع السماوية ، ولذلك فلو قيل عن الإسلام بأنه دين العلم والمعرفة فلا يعدُّ هذا الكلام جزافاً ، والآية مورد البحث من جملة الآيات التي عبّرت عن «الحكمة والمعرفة» بأنها «خير كثير» ، أما ما هي علاقة الآية الشريفة بفضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ فسيأتي في الأبحاث اللاحقة ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من جملة هؤلاء الأشخاص الذين رزقوا الحكمة وأدركوا حقائق الامور ، آمين يا ربّ العالمين.

الشرح والتفسير :

الحكمة هي الخير الكثير!

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ذكروا للحكمة معاني كثيرة من قبيل : «أن الحكمة عبارة عن معرفة أسرار عالم الوجود» و «العلم بحقائق القرآن» و «الوصول إلى الحقّ على مستوى القول


والعمل» وأخيراً «الحكمة هي معرفة الله» (١) ويمكن جمع هذه المعاني كلّها بمعنى ومفهوم واسع.

وبما أن القرآن الكريم تحدّث في الآية السابقة (الآية ٢٦٨ من سورة البقرة) أن الله تعالى وعد أن يبارك على الإنفاق وأن يغفر لمن ينفق في سبيل الله وحذّره من وسوسة الشيطان وتخويفه من الفقر ، ففي هذه الآية الشريفة أشار إلى هذه الحقيقة القرآنية وهي أن «الحكمة» هي الأداة والوسيلة للتمييز بين «الإلهي» و «الشيطاني» وبذلك يستطيع الإنسان أن يتخلص من وساوس الشيطان ويبعد نفسه عن الوقوع في مصائده وفخاخه.

وأما في عبارة «من يشاء» فلا تتضمن أن الله تعالى يرزق الحكمة والمعرفة بدون مبرر وبطريقة عشوائية بل إنّ مشيئة الله وإرادته مقرونة دائماً مع الحكمة ، أي أنه لا يعطي الحكمة لمن لا يستحق ولا يليق بها ، بل يؤتي الحكمة ويروي عطش الإنسان لها فيما لو كان الإنسان قابلاً لها ومستعداً لتقبلها.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)

وبالرغم من أن الله تعالى هو الذي يؤتي الحكمة لعباده إلّا أن هذه الآية لم تذكر الفاعل لهذا العطاء ، بل اقتصرت على القول «ومن يؤتَ الحكمة» وهذا التعبير يشير إلى أن الحكمة والمعرفة بذاتها حسنة وجيّدة من أي مكان حصل عليها الإنسان فلا يختلف حالها في الحسن باختلاف مصدرها ، والملفت للنظر أن الآية الشريفة تقرر هذه الحقيقة ، وهي أن كلّ من رزق العلم والمعرفة والحكمة فقد رزق الخير الكثير لا «الخير المطلق» لأنّ الخير المطلق أو السعادة المطلقة لا تكمن في العلم والحكمة فقط بل إنّ العلم والحكمة هي أحد أدوات الخير والسعادة.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) «تذّكر» يعني حفظ العلوم والمعارف في واقع النفس والروح و «الألباب» جمع «لُبّ» وبما أن لُبّ الشيء هو أهم جزء من أجزائه وأفضل أقسامه ولذلك اطلق على العقل كلمة «لُبّ» لأنه أفضل أجزاء الإنسان ، فالآية الشريفة تقول : إنّ أصحاب العقل والمعرفة هم فقط الذين يدركون هذه الحقائق ، ويتذكرونها وينتفعون منها ،

__________________

(١) وردت الاحتمالات الأربعة مع ستة احتمالات اخرى في «مجمع البيان» : ج ٢ ، ص ٣٨٢.


ورغم أن جميع الناس يتمتعون بالعقل «سوى المجانين» ولكنّ اولو الألباب لا يقال لجميع العقلاء بل المراد الأشخاص الذين يستخدمون عقولهم ويتحركون في سلوكهم العملي من موقع الاستفادة من نور العقل وضياء الحكمة ويتدبّرون في امورهم.

الإمام علي عليه‌السلام صاحب الحكمة

إنّ آية الحكمة هذه تدلُّ على أن «كلُّ من رُزق الحكمة فقد رُزق الخير العميم والكثير» ولكنها ساكتة عن مصداق هذا المفهوم العام ولا تقرر من هو هذا الشخص في الواقع الخارجي ، ولكن الروايات العديدة المذكورة في طرق الشيعة وأهل السنّة ذكرت بأن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو المصداق لها وهو الذي يتمتع بالحكمة الإلهية ، وهنا نستعرض بعض هذه الروايات :

١ ـ ذكر «الحاكم الحسكاني» العالم السنّي المعروف نقلاً عن «ربيع بن خيثم» أنه ذكر علي عليه‌السلام عنده فقال :

لَمْ ارَهُمْ يَجِدُونَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ وَاللهُ تَعالى يَقُولُ : «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوتِيَ خَيْراً كَثيراً» (١).

٢ ـ ويقول ابن عبّاس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى إبْراهِيمَ فِي حِلْمِهِ وَإلَى نُوحٍ فِي حِكْمَتِهِ وَالى يُوسُفَ فِي اجْتماعِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بْن ابي طالِبٍ (٢).

ونفس هذه الرواية وردت بشكل آخر عن «ابن الحمراء» حيث يقول : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

مَنْ سَرَّهُ انْ يَنْظُرَ إلى آدَمَ فِي عِلْمِهِ وَنُوحٍ فِي فَهْمِهِ وَإبْراهيمَ فِي خُلَّتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بْنِ أبي طالِبٍ (٣).

٣ ـ وفي رواية اخرى عن ابن عبّاس يقول :

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ١٠٧ ، ح ١٥٠.

(٢) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ١٠٦ ، ح ١٤٧.

(٣) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٧٩ ، ح ١١٦.


«كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسئل عن علي ، فقال :

قُسِّمَتِ الْحِكْمَةُ عَشْرَةَ أَجْزَاءَ ، فَأُعْطِيَ عَليٌّ تِسْعَةَ أَجْزاء وَاعْطِيَ النّاسُ جُزْءاً وَاحِداً» (١).

هذه المضامين الواردة في الروايات الشريفة توضح بصورة جيّدة أن الشخص الذي رُزق الحكمة والمعرفة في الامّة الإسلامية بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأنه لا يصل إليه أحد من الصحابة في العلم والمعرفة ، وبما أن أهم ركن من أركان الإمامة هو العلم والحكمة والمعرفة فإنّ أجدر الناس لهذا المقام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

سعة علم الإمام علي عليه‌السلام وحكمته

إنّ دائرة علم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وحكمته واسعة إلى درجة أن شعاع نور علمه بلغ مبلغ اعترف به حتّى مخالفيه ولم يقدروا على إنكاره بل كانوا يرجعون إليه في قضاياهم وما تشتبك عليهم من الامور ، فكان مرجعاً علمياً لهم حيث كان الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه يرجعون إليه في كثير من التعقيدات العلميّة والمشاكل الفقهيّة أيّام المحنة والسكوت الطويل ، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ صدر الإسلام ونكتفي هنا بذكر نماذج منها :

١ ـ المرجعية العلمية للإمام علي عليه‌السلام

يقول أنس ابن مالك خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ رسول الله قال لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام :

«انْتَ تُبيّنُ لِأُمَّتِي ما اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدِي» (٢).

وأحد وظائف الإمامة والولاية المهمة هي حفظ حريم القرآن وخزانة العلوم النبوية ونقلها بصورة صحيحة إلى العلماء والفقهاء وشرح ما أشكل عليهم من مفاهيم وأحكام إلهية ، وتتّضح أهمية هذا الدور والوظيفة للإمامة فيما لو علمنا أن الكثير من الامم والبلدان التي حققت انتصارات على امم اخرى كبيرة ولكنها عجزت في نفس الوقت عن التصدّي

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ١٠٥ ، ح ١٤٦.

(٢) مستدرك الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٢٢ ، وكنز العمّال : ج ٦ ، ص ١٥٦ ، والمرحوم التستري في إحقاق الحقّ : ج ٦ ، ص ٥٢ و ٥٣ ، إضافة إلى المصدرين المذكورين وردت هذه الرواية في أربعة كتب اخرى أيضاً.


للثقافة الأجنبية وبالتالي لم تستطع حفظ ثقافتها ودينها وغلبت أخيراً على أمرها كما هو الحال في هجوم المغول على البلاد الإسلامية وانتصارهم في ميادين القتال والحرب على المسلمين إلّا أنهم سرعان ما غُلبوا في مقابل القرآن والإسلام واعتنقوا بذلك الإسلام بل أصبحوا من المدافعين عنه والمروّجين له.

الإمام علي عليه‌السلام اهتم بعد رحيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر المهم جدّاً «الثقافة الإسلامية» وشرع بجمع القرآن وأقسم على أن لا يرتدي رداءه ويخرج من البيت قبل إتمام هذه المهمة إلّا أن يكون خروجه للصلاة (١) ، ثمّ شرع بتعليم وتفسير القرآن الكريم في ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وظاهره وباطنه ، إلى أولاده وتلاميذه كالإمام الحسن والحسين عليهما‌السلام وابن عبّاس وابن مسعود وأمثالهم كما تعلّمها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليكون ذلك حصناً ثقافياً للُامّة الإسلامية أمام الغزو الثقافي والعقائدي الذي قد يتعرض له علماء الإسلام في ظلّ الفتوحات الكثيرة واختلاط الحضارات والثقافات السائدة بين الأقوام البشرية حينذاك وليأمن حاجة المسلمين الفقهية والحقوقية من هذه المعارف الإلهية ويبيّن الاصول العقائدية والأحكام الفقهية وغيرها من المسائل الثقافية بأفضل وجه وأحسن صورة للمسلمين.

٢ ـ الإمام علي عليه‌السلام باب مدينة العلم

وقد ورد في صحيح الترمذي أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«انَا دارُ الْحِكْمَةِ وَعَلِيٌّ بابُها» (٢).

ومن المسلّم أن كلُّ من أراد الدخول في الدار فعليه أن يردها من بابها كما ورد في الآية الشريفة ١٨٩ من سورة البقرة (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وعليه فكلُّ من أراد العلم والمعرفة والوصول إلى خزائن الحكمة لدى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فعليه أن يبدأ مساره من الإمام علي عليه‌السلام فهو مفتاح هذه الخزائن ويطلب منه العلم والمعرفة.

__________________

(١) الاستيعاب : ص ١١٠٩ والاحتجاج للطبرسي : ص ٢٣٩.

(٢) صحيح الترمذي : ج ٥ ، ص ٦٣٧ (نقلاً عن نفحات القرآن : ج ٩) وهناك روايات كثيرة بهذا المضمون ، ولكن بما أن الرواية أعلاه ذكرت كلمة (الحكمة) فقد أوردناها خاصة ، والروايات الاخرى من قبيل «أنا مدينة العلم وعلي بابها» مستفيضة وقد أورد منها في البحار : ج ٤٠ ، ١٢ رواية في هذا المعنى.


٣ ـ الإمام علي عليه‌السلام وتفسير القرآن

مع مراجعة سريعة إلى تفاسير القرآن الكريم يتّضح جيّداً أن الإمام علي عليه‌السلام كان على قائمة المفسّرين وأئمّة التفسير كما ذكر ذلك السيوطي حيث قال : «إنّ أكثر ما ورد في التفسير من الخلفاء هو من علي بن أبي طالب» (١).

ويعدّ ابن عبّاس على رأس المفسّرين في صدر الإسلام وكان في ذلك تلميذاً للإمام علي عليه‌السلام وعند ما قيل له : ما علمك إلى علم ابن عمّك؟ قال : كالقطرة بالنسبة إلى البحر (٢). وهكذا نقرأ في كتب التاريخ أن تلامذة الإمام علي عليه‌السلام في مكّة والمدينة والكوفة كان لكلٍّ منهم مدرسة للتفسير.

٤ ـ الإمام علي عليه‌السلام واضع علم النحو

لقد أمر الإمام علي عليه‌السلام لغرض صيانة القرآن من التحريف اللغوي والأدبي أبا الأسود الدؤلي أن يكتب قواعد علم النحو كما علّمه اصوله ومبادئه ، ثمّ إنّ أبا الأسود الدؤلي وبالاستفادة من علم النحو هذا عمل على إعراب القرآن الكريم (٣).

٥ ـ الإمام علي عليه‌السلام وعلم الكلام

يقول ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة : إنّ علم الكلام هو أشرف العلوم وقد اقتبسه العلماء من الإمام علي عليه‌السلام (٤).

ويقول الإربلي في كشف الغمّة إنّ أئمّة الكلام يعني الأشاعرة ، المعتزلة ، الشيعة والخوارج ، كلُّهم ينتسبون إلى ذلك الإمام (٥).

__________________

(١) الاتقان : نوع ٨٠ ، طبقات المفسّرين.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١ ، ص ١٨ و ١٩.

(٣) طبقات النحويين : ج ٧ ، ص ١٤.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١ ، ص ١٧.

(٥) كشف الغمّة : ج ١ ، ص ٢١.


٦ ـ الإمام علي عليه‌السلام وعلم الفقه

مضافاً إلى فقهاء الإمامية الذين أخذوا فقههم من الإمام علي عليه‌السلام نرى أن أحمد ابن حنبل أخذ فقهه من الشافعي ، والشافعي أخذ فقهه من محمّد بن الحسن ومالك ، ومحمّد بن الحسن تعلم الفقه من أبي حنيفة ، وتعلّم كلٌّ من مالك وأبو حنيفة الفقه على يد الإمام الصادق عليه‌السلام ، وفقه الإمام الصادق عليه‌السلام ينتهي إلى جدّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

٧ ـ الإمام علي عليه‌السلام وعلم الباطن

يقول الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني استاذ جامعة القاهرة وشيخ الطريقة في مقدّمته على كتاب «وسائل الشيعة» : «إنّ المشايخ وأصحاب الطريقة كالرفاعي ، البدوي ، الدسوقي ، الگيلاني وهم من أجلّة علماء أهل السنّة يصلون بطريقتهم إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم إلى الإمام علي عليه‌السلام ومنهم إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «انا مدينة العلم وعليّ بابها» (٢) وهذه الحقيقة لدى العرفاء والتي تسمّى بعلم المكاشفة وعلم الباطن لم يملكها أحد سوى الإمام علي عليه‌السلام (٣) ، وهناك شواهد كثيرة في أكثر كتب أهل السنّة على اختصاص الإمام علي عليه‌السلام بهذا العلم ، وكمثال على ذلك نرى أن عمر بن الخطّاب عند ما أراد استلام الحجر قال : اقبّلك وإنّي لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع ولكن كان رسول الله بك حفياً ، ولو لا أنني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.

فقال له الإمام علي عليه‌السلام : بلى ، والله إنه ليضرّ وينفع ، قال : وبمَ قلت ذلك يا أبا الحسن؟ قال : بكتاب الله تعالى. قال : أشهد أنك لذو علم بكتاب الله تعالى ، فأين ذلك من الكتاب؟ قال : قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) ... فلمّا أقروا له بالربوبية كتب أسماءهم في رقّ وأودعه هذا الحجر ثمّ قال له : اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة ... فقال عمر : لا عشتُ في امّة لست فيها يا أبا الحسن (بتلخيص).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ ، ص ١٨.

(٢) تفصيل الكلام فيما يتعلق بعالم الذر في التفسير الامثل : سورة الأعراف ، الآية ١٧٢.

(٣) كيهان فرهنگي : الرقم ١٨٤ ، ص ١٦.


٨ ـ الإمام علي عليه‌السلام وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد اتّضحت من خلال الأبحاث السابقة للقارئ الكريم هذه الحقيقة ، وهي : أن الشخص الذي يعترف الجميع (الموافقون والمخالفون والأصدقاء والأعداء) أنه أعلم الناس وأفضلهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو اللائق لمقام الخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا غير ، ولهذا ورد أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر في خطبته الغرّاء في غدير خمّ هذين المطلبين (المرجعيّة العلميّة والخلافة) وقال :

«مَعاشِرَ النّاسِ! هذا اخِي وَوَصِيّي وَواعِي عِلْمِي وَخَليفَتِي» (١).

والتأمّل والتفكّر بهذه الخصوصيات الأربع المذكورة في هذا الحديث الشريف تبيّن حقائق كثيرة لطلّاب الحقيقة :

١ ـ «أخي» : فلو أن الإنسان أراد إظهار احترامه وتقديره لمن يكبره في السنّ فإنه يعبّر عنه بكلمة «أبي» وعند ما يريد إظهار المحبّة والعاطفة بالنسبة إلى من هو أصغر منه سنّاً فيقول عنه «ابني» وعند ما يريد إظهار العلاقة والمحبّة لمن يكون رديفه في السنّ فإنه يعبّر عنه بأنه «أخي» لأن الاخوة المعنوية تعني الارتباط الروحي القريب بين شخصين على أساس المساواة ، وعليه فإنّ عبارة «أخي» في الحديث الشريف تتضمن حقيقة كبيرة ، وهي أن الإمام علي عليه‌السلام في واقعه وشخصيته يساوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أن شخصيته تقترب إلى حدٍّ كبير إلى شخصية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعبارة اخرى إنّ كلمة «أخي» تتضمن المفهوم والمعنى الذي ورد في آية المباهلة «أنفسنا وأنفسكم».

٢ ـ «وصيّي» : طبقاً لعقيدة أهل السنّة فإنّ الأنبياء لا يورثون ، وعليه فإنّ الإمام علي عليه‌السلام لا يكون وصيّاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجال الأموال والثروة ، ونعلم أن النبي لم يخلف من ذريته عند وفاته سوى فاطمة الزهراء عليها‌السلام ولذلك لا معنى لأن يكون الإمام علي عليه‌السلام وصيّاً على أبنائه وذريته ، وعلى هذا الأساس فإنّ الإمام علي عليه‌السلام وصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسائل المتعلقة بالدين ، أجل إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولغرض تكميل واستمرار الدعوة

__________________

(١) الغدير : ج ٣ ، ص ١١٧.


السماوية والدين الإلهي جعل من الإمام علي عليه‌السلام وصيّاً له على هذا الأمر.

٣ ـ «واعي علمي» : «وعى» على وزن «سعى» ويراد بها كما ذكر أهل اللغة : حفظ الشيء في القلب ، أي أن يتفكر الإنسان في شيء معين ويحفظه في قلبه ويجعله نبراساً له ومصباحاً يضيء طريق حياته ، وعليه فإن الإمام علي عليه‌السلام قد وعى جميع العلوم النبوية والمعارف الإلهية وجعلها تحت اختيار المسلمين ليستضيئوا بنورها ويسلكوا في خطّ الهدى والعقيدة والرسالة بضوئها.

فهل يصحّ مع وجود مثل هذه الشخصية الممتازة أن نقلد امور الخلافة وزمام تدبير الامّة بيد شخص آخر؟

٤ ـ «وخليفتي على من آمن بي» : وفي الحقيقة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الجملة ـ التي تعتبر نتيجة منطقية للجملات الثلاث المتقدمة ـ لم يدع ذريعة واحدة للمخالفين ، وأعلن بصريح العبارة للعالم أجمع استخلافه للإمام علي عليه‌السلام من بعده ، فلم يكتف صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلمة «خليفتي» لئلّا يقول أهل البدع والأهواء «إن مراد النبي هو الوصاية على الأهل والأولاد لا الخلافة على المسلمين» ، فقد بيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصريح العبارة وبأفضل بيان خلافة وإمامة الإمام علي عليه‌السلام وأولاده على جميع المسلمين إلى قيام القيامة.

النتيجة : انه بالرغم من أن الضروري هو التأكيد على مرجعيّة أهل البيت عليهم‌السلام العلميّة وعلى رأسهم الإمام علي عليه‌السلام ، إلّا أنّ فصل مسألة الإمامة عن الخلافة أمر خطير وخطأ كبير ويترتب عليه لوازم سلبية كثيرة لا يلتزم بها أحد.

«وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين»

انتهى



الفهرس

المقدّمة.......................................................................... ٥

الكتاب الحاضر.................................................................. ٥

ملاحظات...................................................................... ٦

االفصل الاول

أيات الخلافة والولاية على المسلمين

أبعاد التبليغ.................................................................... ١١

أبعاد البحث................................................................... ١١

الشرح والتفسير................................................................ ١١

إنتخاب الخليفة مرحلة نهائية للرسالة............................................... ١١

الطريق الأوّل : تفسير الآية بغض النظر عن الشواهد الأخرى......................... ١٤

تطبيق العلامات الثلاث على مسألة الولاية........................................ ١٦

الطريق الثاني : تفسير آية التبليغ في دائرة الروايات................................... ١٨

توصيتان في آية التبليغ........................................................... ٢٠

واقعة الغدير................................................................... ٢١

مضمون روايات الغدير.......................................................... ٢٢

توضيحات..................................................................... ٢٥

١ ـ معنى الولاية والمولى في حديث الغدير........................................... ٢٥

٢ ـ سورة المعارج تؤيد حديث الغدير.............................................. ٢٧

٣ ـ كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها........................................ ٣٠


أبعاد إكمال الدين............................................................. ٢٣

أبعاد البحث................................................................... ٣٣

الشرح والتفسير................................................................ ٣٣

يوم إكمال الدين والنعمة........................................................ ٣٣

أيّ يوم هو ذلك اليوم؟......................................................... ٣٤

الطريق الأوّل : تفسير الآية بدون الاستعانة بالقرائن الخارجية......................... ٣٥

المراد من إكمال الدين........................................................... ٣٧

اعتراف جذّاب من الفخر الرازي.................................................. ٣٩

الطريق الثاني : تفسير الآية في ضوء الروايات الشريفة................................ ٤٣

كلام الآلوسي العجيب......................................................... ٤٦

توصية الآية الشريفة............................................................. ٤٧

١ ـ الولاية تبعث على يأس الأعداء............................................... ٤٧

٢ ـ إتمام الدين وإكمال النعمة في ظلّ الولاية....................................... ٤٧

مباحث تكميلية................................................................ ٤٨

١ ـ الولاية مسألة أساسية في الإسلام.............................................. ٤٨

٢ ـ الولاية ذات جهتين.......................................................... ٤٩

أبعاد البحث................................................................... ٥١

الشرح والتفسير................................................................ ٥١

علائم الولي.................................................................... ٥١

الطريق الأوّل : تفسير الآية مع غض النظر عن الروايات الشريفة...................... ٥٢

«ولي» في استعمالات القرآن..................................................... ٥٣

المراد من الولي في الآية محل البحث................................................ ٥٥

مصداق «الّذين آمنوا» في الآية الشريفة........................................... ٥٦

الطريق الثاني : تفسير الآية بلحاظ الروايات الشريفة................................. ٥٧

ملاحظتان..................................................................... ٥٩


شبهات واشكالات............................................................. ٦٠

الإشكال الأوّل : كلمة إنّما لا تدلّ على الحصر..................................... ٦٠

الإشكال الثاني : إعطاء الخاتم فعل كثير مبطل للصلاة............................... ٦١

الإشكال الثالث : الخاتم الثمين.................................................. ٦٢

الإشكال الرابع : إنّ هذا العمل لا يسجم مع حضور القلب......................... ٦٣

الإشكال الخامس : لماذا تعود الضمائر في الآية إلى الجمع؟........................... ٦٥

الإشكال السادس : ماذا تعني ولاية الإمام عليّ (عليه السلام) في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)؟  ٧١

الإشكال السابع : ما هو المراد من الزكاة؟.......................................... ٧٢

ملاحظة مهمة جداً!............................................................ ٧٥

توصية آية الولاية............................................................... ٧٦

أبعاد البحث................................................................... ٧٩

الشرح والتفسير................................................................ ٧٩

من هم اُولي الأمر؟............................................................. ٧٩

حدود إطاعة اُولي الأمر......................................................... ٨٠

اختلاف النظريات حول معنى اُولوا الأمر........................................... ٨١

تفسير الآية في ظلال الروايات.................................................... ٨٥

أهمية حديث الثقلين............................................................ ٨٦

أسئلة وأجوبة.................................................................. ٩٠

غزوة تبوك..................................................................... ٩١

توصيات الآية.................................................................. ٩٥

أبعاد البحث................................................................... ٩٩

معرفة إجمالية لسورة التوبة........................................................ ٩٩

ألف) أسماء السورة وعلة تسميتها................................................. ٩٩

ب) زمان نزول آيات سورة التوبة................................................ ١٠١


الشرح والتفسير............................................................... ١٠٢

من هم الصادقين؟............................................................ ١٠٣

نظرية علماء أهل السنّة........................................................ ١٠٤

تفسير آية الصادقين بضميمة الآيات الاُخرى..................................... ١٠٥

الصادقين في الروايات......................................................... ١١١

توصية آية الصادقين.......................................................... ١١٢

الفصل الثاني

آيات فضائل أهل البيت عليهم السلام

أبعاد التطهير................................................................. ١١٧

أبعاد البحث................................................................. ١١٧

مقدّمة....................................................................... ١١٧

الشرح والتفسير............................................................... ١١٨

آية التطهير، برهان واضح للعصمة.............................................. ١١٨

من هم أهل البيت؟........................................................... ١٢٣

الجواب على الأسئلة........................................................... ١٣٠

أبعاد البحث................................................................. ١٣٣

نظرة إلى الآيات السابقة....................................................... ١٣٣

الشرح والتفسير............................................................... ١٣٥

مودّة أهل البيت، أجر الرسالة.................................................. ١٣٥

من هم القربى؟............................................................... ١٣٦

تفسير «القربى» في نظر الشيعة................................................. ١٣٨

نظرات أهل السنّة في معنى «القربى»............................................. ١٣٩

اعتراف مفروض.............................................................. ١٤٠

تفسير المودّة في كلمات الإمام الصادق (عليه السلام)............................. ١٤٤

تفسير آية المودّة من خلال الروايات............................................. ١٤٥


ملاحظات مهمة.............................................................. ١٤٩

معطيات آية المودّة............................................................ ١٥٠

مراتب المحبّة.................................................................. ١٥٢

ميثم التمّار، العاشق الخالص................................................... ١٥٢

أية المباهلة................................................................... ١٥٥

أبعاد البحث................................................................. ١٥٥

مقدّمة....................................................................... ١٥٥

١ ـ المباهلة آخر الدواء......................................................... ١٥٥

٢ ـ ماذا تعني المباهلة؟......................................................... ١٥٦

الشرح والتفسير............................................................... ١٥٦

الدعوة إلى المباهلة............................................................. ١٥٦

هل تحققت المباهلة؟........................................................... ١٥٧

من هم أبناءنا ، نساءنا ، أنفسنا؟............................................... ١٥٩

أبعاد البحث................................................................. ١٦٣

شأن النزول.................................................................. ١٦٣

الشرح والتفسير............................................................... ١٦٥

الخصائص الخمسة لأهل البيت (عليهم السلام).................................. ١٦٥

آيات الأجر والثواب........................................................... ١٦٩

المقارنة بين الثواب الدنيوي والاُخروي............................................ ١٦٩

النعم الاثنا عشر في الجنّة...................................................... ١٧٠

ماذا يعني الشراب الطهور؟..................................................... ١٧٤

شبهات وردود................................................................ ١٧٥

١ ـ سورة الإنسان مكّية........................................................ ١٧٦

٢ ـ التعارض بين الوجوب والإستحباب.......................................... ١٧٨

٣ ـ آيات سورة الدهر عامة أو خاصّة؟........................................... ١٨٠


توصيات الآية................................................................ ١٨١

١ ـ أهميّة إسداء المعونة إلى المحتاجين............................................. ١٨١

٢ ـ المعيار في العمل ليس كميّته................................................. ١٨٢

٣ ـ إنعكاس آيات سورة الدهر في الأشعار........................................ ١٨٣

آية التوبة لآدم................................................................ ١٨٥

أبعاد البحث................................................................. ١٨٥

الشرح والتفسير............................................................... ١٨٥

التوبة والإنابة إلى الله تعالى..................................................... ١٨٥

دروس من قصة آدم وحواء..................................................... ١٨٦

توسل النبي آدم............................................................... ١٨٨

ماذا كانت الكلمات؟......................................................... ١٨٩

هل أن التوسل مشروع؟....................................................... ١٩٢

أقسام التوسل................................................................ ١٩٣

مقام التوحيد ومكانته السامية................................................... ١٩٤

أقسام التوحيد................................................................ ١٩٥

الأشاعرة والتفسير الخاطىء للتوحيد الأفعالي...................................... ١٩٦

هل ينسجم التوسل مع التوحيد؟................................................ ١٩٨

التوسل في القرآن............................................................. ٢٠١

التوسل بالعظماء والأولياء بعد وفاتهم............................................ ٢٠٢

التوسل في الروايات............................................................ ٢٠٣

لا تجوز العبادة لغير الله........................................................ ٢٠٥

الفصل الثالث

آيات الفضائل الخاصّة بالإمام علي عليه السلام

آية ليلة المبيت................................................................ ٢١١

أبعاد البحث................................................................. ٢١١

شأن النزول.................................................................. ٢١١


اعترافات علماء أهل السنّة..................................................... ٢١٣

الشرح والتفسير............................................................... ٢١٤

التجارة الرابحة................................................................ ٢١٤

المعاملة مع الله................................................................ ٢١٤

المقارنة بين المعاملات الثلاث................................................... ٢١٥

مقارنة اُخرى................................................................. ٢١٦

جمال التعبير في آية ليلة المبيت.................................................. ٢١٦

إرتباط آية ليلة المبيت مع الآيات التي قبلها....................................... ٢١٧

ارتباط آية ليلة المبيت بولاية أميرالمؤمنين (عليه السلام)............................. ٢١٩

الجواب عن بعض الشبهات.................................................... ٢٢٠

١ ـ آية ليلة المبيت تتعلق بالآمرين بالمعروف....................................... ٢٢٠

٢ ـ إنّ الآية مورد البحث واردة في شأن أبي ذرّ................................... ٢٢٠

٣ ـ إنّ الآية الشريفة تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار.............................. ٢٢١

٤ ـ هل يعلم الإمام علي (عليه السلام) بموته أو حياته؟............................ ٢٢١

٥ ـ من هو المخاطب للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟........................... ٢٢٣

بقي هنا اُمور................................................................. ٢٢٣

١ ـ أشعار حسّان ابن ثابت في وصف الواقعة..................................... ٢٢٣

٢ ـ مصير الإمام علي (عليه السلام) في تلك الليلة................................ ٢٢٤

٣ ـ الله تعالى يباهي بإيثار أميرالمؤمنين (عليه السلام)............................... ٢٢٥

توصية الآية.................................................................. ٢٢٦

كلّ شيء في سبيل نيل رضا الله................................................. ٢٢٦

أبعاد البحث................................................................. ٢٢٩

شأن النزول.................................................................. ٢٢٩

ملاحظة مهمّة!............................................................... ٢٣٢

الشرح والتفسير............................................................... ٢٣٢


الإيمان بالله، أفضل الاُمور!..................................................... ٢٣٢

إرتباط آية سقاية الحاج مع الإمامة............................................... ٢٣٤

اعتراف أحد علماء السنّة...................................................... ٢٣٤

توصية الآية.................................................................. ٢٣٥

الإتّباع العملي لأولياء الدين.................................................... ٢٣٥

بحثان........................................................................ ٢٣٧

١ ـ لماذا لم يرد إسم الإمام علي (عليه السلام) في القرآن؟.......................... ٢٣٧

٢ ـ لماذا لم يقضِ النبي (صلى الله عليه وآله) على المنافقين؟......................... ٢٣٨

آية النصرة................................................................... ٢٤١

أبعاد البحث................................................................. ٢٤١

الشرح والتفسير............................................................... ٢٤٢

التعبئة الكاملة والإستعداد التام................................................. ٢٤٢

من هم المؤمنون؟.............................................................. ٢٤٤

توصية الآية.................................................................. ٢٤٧

الدفاع عن الإسلام بكلّ القوى................................................. ٢٤٧

أبعاد البحث................................................................. ٢٤٩

لا تقبلوا أمراً بدون دليل....................................................... ٢٤٩

الشرح والتفسير............................................................... ٢٥١

الشهود على النبوّة............................................................ ٢٥١

كيفية شهادة الله.............................................................. ٢٥١

من هو الذي «عنده علم الكتاب»؟............................................ ٢٥٢

كيف يشهد الإمام علي (عليه السلام) بالنبوّة؟................................... ٢٥٢

المقارنة بين آصف بن برخيا وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)..................... ٢٥٥

آية المؤذن وآية الأذان......................................................... ٢٥٧

أبعاد البحث................................................................. ٢٥٧


تفسير الآية ٤٢ من سورة الأعراف.............................................. ٢٥٨

حوار أهل الجنّة وأهل النار..................................................... ٢٥٨

من هو المؤذّن؟............................................................... ٢٦٠

هل أنّ مقام المؤذّن يعدّ فضيلة؟................................................. ٢٦١

تفسير الآية ٣ من سورة التوبة.................................................. ٢٦٢

الإختلاف في الجزئيات........................................................ ٢٦٥

الشرح والتفسير............................................................... ٢٦٥

الإنذار الهام للمشركين......................................................... ٢٦٥

هل تعدّ هذه المهمة فضيلة؟.................................................... ٢٦٧

ارتباط آية الأذان والمؤذّن....................................................... ٢٦٨

الحكمة في تغيير المأمور بإبلاغ آيات سورة البراءة.................................. ٢٦٩

أبعاد البحث................................................................. ٢٧١

الشرح والتفسير............................................................... ٢٧١

أظلم الناس!................................................................. ٢٧١

من هو «الذي جاء بالصدق» ومن «صدّق به»؟................................. ٢٧٤

الفخر الرازي المخالف الوحيد................................................... ٢٧٥

أبعاد البحث................................................................. ٢٧٧

الشرح والتفسير............................................................... ٢٧٧

السابقون في الإسلام.......................................................... ٢٧٧

أوّل رجل مسلم............................................................... ٢٨٠

قيمة الإيمان قبل البلوغ........................................................ ٢٨٢

أوّل المؤمنين، امتياز كبير....................................................... ٢٨٧

توصية الآية.................................................................. ٢٨٩

معرفة الفضائل مقدّمة للعمل!.................................................. ٢٨٩


آية المحبّة..................................................................... ٢٩١

أبعاد البحث................................................................. ٢٩١

التوغّل والنفوذ في القلوب أهم رأس مال القادة.................................... ٢٩١

الشرح والتفسير............................................................... ٢٩٢

إرتباط الإيمان والعمل الصالح بمسألة النفوذ في القلوب............................. ٢٩٢

شأن نزول آية المحبّة........................................................... ٢٩٤

التفاسير الاُخرى للآية مورد البحث............................................. ٢٩٦

توصية الآية الشريفة........................................................... ٢٩٧

الشيعة بمثابة السراج المنير...................................................... ٢٩٧

مباحث اُخرى................................................................ ٢٩٨

١ ـ نفوذ المحبّة في قلوب الجميع................................................. ٢٩٨

٢ ـ مفهوم العمل الصالح في القرآن.............................................. ٢٩٩

آية السابقون................................................................. ٣٠١

أبعاد البحث................................................................. ٣٠١

مضمون سورة الواقعة.......................................................... ٣٠١

الشرح والتفسير............................................................... ٣٠٢

من هم السابقون؟............................................................ ٣٠٢

الإمام علي (عليه السلام) المصداق الأتم والأكمل للسابقين........................ ٣٠٤

تفسير السابقين على لسان النبي (صلى الله عليه وآله)............................. ٣٠٦

آية اذن واعية................................................................ ٣٠٩

أبعاد البحث................................................................. ٣٠٩

الشرح والتفسير............................................................... ٣٠٩

قصة الأنبياء................................................................. ٣٠٩

من هو صاحب الاُذن الواعية؟................................................. ٣١١

التناقض في كلام الشيخ روزبهان................................................. ٣١٣

ملاحظة ظريفة من الفخر الرازي................................................ ٣١٤


علي مع الحقّ والحقّ مع علي.................................................... ٣١٥

دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) في حقّ علي (عليه السلام)........................ ٣١٥

علي (عليه السلام) أفضل القضاة!.............................................. ٣١٦

آية صالح المؤمين.............................................................. ٣١٩

أبعاد البحث................................................................. ٣١٩

شأن النزول.................................................................. ٣١٩

الشرح والتفسير............................................................... ٣٢٠

أصحاب وأنصار النبي(صلى الله عليه وآله)....................................... ٣٢٠

من هو صالح المؤمنين؟......................................................... ٣٢٣

توصية الآية.................................................................. ٣٢٦

أبعاد البحث................................................................. ٣٢٧

الشرح والتفسير............................................................... ٣٢٧

ذرائع مختلفة.................................................................. ٣٢٧

تناسب صدر الآية وذيلها...................................................... ٣٢٨

من هو المنذر والهادي؟......................................................... ٣٣٠

الأوّل : تفسير الآية بدون ملاحظة الروايات...................................... ٣٣٠

الطريق الثاني : تفسير الآية بملاحظة الروايات الشريفة.............................. ٣٣٢

توصيات آية الولاية والإنذار.................................................... ٣٣٤

١ ـ التعصّب هو الحجاب والمانع!............................................... ٣٣٤

٢ ـ الإقتداء بالهادي........................................................... ٣٣٦

آية خير البرية................................................................ ٣٣٩

أبعاد البحث................................................................. ٣٣٩

الشرح والتفسير............................................................... ٣٣٩

أفضل المخلوقات وشرّها....................................................... ٣٣٩

خير البريّة في الروايات......................................................... ٣٤٣


توصيات آية خير البريّة........................................................ ٣٤٧

١ ـ نظام القيم في الإسلام...................................................... ٣٤٧

٢ ـ تاريخ ظهور الشيعة........................................................ ٣٥٠

٣ ـ ماذا تعني كلمة الشيعة؟.................................................... ٣٥١

آية الحكمة................................................................... ٣٥٥

أبعاد البحث................................................................. ٣٥٥

الشرح والتفسير............................................................... ٣٥٥

الحكمة هي الخير الكثير!...................................................... ٣٥٥

الإمام علي (عليه السلام) صاحب الحكمة....................................... ٣٥٧

سعة علم الإمام علي (عليه السلام) وحكمته..................................... ٣٥٨

١ ـ المرجعية العلمية للإمام علي (عليه السلام).................................... ٣٥٨

٢ ـ الإمام علي (عليه السلام) باب مدينة العلم................................... ٣٥٩

٣ ـ الإمام علي (عليه السلام) وتفسير القرآن..................................... ٣٦٠

٤ ـ الإمام علي (عليه السلام) واضع علم النحو................................... ٣٦٠

٥ ـ الإمام علي (عليه السلام) وعلم الكلام...................................... ٣٦٠

٦ ـ الإمام علي (عليه السلام) وعلم الفقه........................................ ٣٦١

٧ ـ الإمام علي (عليه السلام) وعلم الباطن....................................... ٣٦١

٨ ـ الإمام علي (عليه السلام) وخلافة النبي (صلى الله عليه وآله).................... ٣٦٢

الفهرس...................................................................... ٣٦٥

آيات الولاية في القرآن

المؤلف:
الصفحات: 376