
بسم الله الرحمن
الرحيم
سورة سبأ
مكية وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة
آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قوله تعالى : (الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ
فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ
فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ
عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي
الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ
وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦)
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ) اعلم أن السور المفتتحة بالحمد خمس ، سورتان منها في النصف
الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه وسورة الملائكة ،
والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير. والحكمة
فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد
ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولا برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد
مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء
والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد
__________________
ونعمة الإبقاء
فقال في النصف الأول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى
: (الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ طِينٍ) فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ) فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فان الشرائع بها البقاء
ولو لا شرع ينقاد له لاتّبع كلّ واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل
والتّفاني وقال ههنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) [سبأ : ١] وقال في
الملائكة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ١] إشارة
إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً) أي يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال
تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء : ١٠٣]
وقال تعالى عنهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣]
وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ١] إلى
النعمة العاجلة ، وأشار بقوله : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) إلى النعمة الآجلة ، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.
فإن قيل : قد
ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلماذا ذكر الله السموات
والأرض؟
فالجواب : أن نعم
الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال
: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ) لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها.
قوله : (الَّذِي لَهُ) يجوز فيه أن يكون تابعا وأن يكون مقطوعا نصبا ورفعا على
المدح فيهما و (ما فِي السَّماواتِ) يجوز أن يكون فاعلا به وهو الأحسن وأن يكون مبتدأ .
قوله : (فِي الْآخِرَةِ) يجوز أن يتعلق بنفس الحمد ، وأن يتعلق بما تعلق به خبره (وهو
الحكيم) يجوز أن يكون معترضا إذا أعربنا «يعلم» حالا مؤكدة من ضمير الباري تعالى ،
ويجوز أن يكون «يعلم» مستأنفا ، وأن يكون حالا من الضمير في «الخبير».
فصل
له ما في السموات
وما في الأرض ملكا وخلقا وله الحمد في الآخرة كما هو له في
__________________
الدنيا ؛ لأن
النعم في الدين كلها منه وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى :
(وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا
وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] وهو
الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمرا ولا يأتي
بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ، والفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم ،
والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها ، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي
بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في
الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ
فِي الْأَرْضِ) أي ما يدخل فيها من الماء والأموات وما يخرج منها من
النبات والأموات إذا حشروا.
قوله : (وَما يَنْزِلُ) العامة على «ينزل» مفتوح الياء مخفف الزاي مسند إلى ضمير
«ما» وعليّ ـ رضي الله عنه ـ والسّلميّ بضمها وتشديد الزاي أي الله تعالى . والمراد الأمطار والملائكة والقرآن. (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الكلام الطيب لقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠]
والملائكة والأعمال الصالحة لقوله : «والعمل الصّالح يرفعه» وقدم : (ما يَلِجُ فِي
الْأَرْضِ) على : (ما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ) ؛ لأن الحبة تبذر أولا ثم تسقى ثانيا. وقال : (وَما يَعْرُجُ فِيها) ولم يقل : «ما يعرج إليها» إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة
لأن كلمة : «إلى» للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال :
وما يعرج فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ؛ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال :
(وَهُوَ الرَّحِيمُ
الْغَفُورُ) رحيم عند الإنزال حيث ينزل الرزق من السماء غفور عند ما
يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال. ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة
أنكرها قوم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ). قوله : «بلى» جواب لقولهم : (لا تَأْتِينَا) وما بعدها قسم على ذلك. وقرأ العامة : لتأتينّكم بالتأنيث
، وقرأ (طلق) بالياء فقيل : (أي) البعث. وقيل : على معنى الساعة أي اليوم. قاله الزمخشري ورده أبو حيان بأنه ضرورة كقوله :
__________________
٤١٠١ ـ ..........
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
وليس مثله ، وقيل
: (أي) الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون : «عالم»
فاعلا لتأتينّكم في قراءة من رفعه.
قوله : «عالم» قرأ
الأخوان : علّام على صيغة المبالغة وخفضه نعتا ل «ربّي» أو بدلا منه. وهو قليل ؛ لكونه مشتقا. ونافع وابن عامر
عالم بالرفع على هو عالم ، أو على أنه مبتدأ وخبره «لا يعزب» أو على أن خبره مضمر أي هو ذكره الحوفيّ . وفيه بعد ، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتا فلا بدّ
من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلا الصفة المشبهة ،
وتقدمت قراءتا «يعزب» في يونس .
فصل
اعلم أن الله
تعالى ردّ على منكري الساعة فقال : (قُلْ بَلى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ) فأخبر بإتيانها وأكدها باليمين.
فإن قيل : إنهم
يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب
عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). وبيان كونه دليلا هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة
مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة
ويموت فيها فلو لا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة .
__________________
قوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ
فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح ، فالأجسام أجزاؤها
في الأرض والأرواح في السماء فقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح ، وقوله : (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى عمله بالأجسام فإذا علم الروح والأجسام قدر على
جمعها فلا استبعاد في الإعادة.
قوله : (وَلا أَصْغَرُ) العامة على رفع «أصغر وأكبر». وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء
، والخبر قوله (إِلَّا فِي كِتابٍ).
والثاني : النّسق
على «مثقال» وعلى هذا فيكون : (إِلَّا فِي كِتابٍ) تأكيدا للنفي في: (لا يَعْزُبُ) كأنه قال لكنه في كتاب مبين . وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضا بفتح الراءين
. وفيها وجهان :
أحدهما : أنها «لا»
التبرئة وبني اسمها معها ، والخبر قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ).
والثاني : النسق
على «ذرّة» وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح راء «أصغر وأكبر» وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري :
فإن قلت : هلّا جاز عطف : «ولا أصغر» على «مثقال» وعطف (وَلا أَكْبَرُ) على ذرة؟
قلت : يأبى ذلك
حرف الاستثناء إلا إذا جعلت الضمير في «عنه» للغيب وجعلت الغيب اسما للخفيات قبل
أن تكتب في اللوح المحفوظ لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى
أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزال عنه إلا مسطورا في اللوح . قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا
الكتاب ليس اللوح
__________________
المحفوظ ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جدّا ، وخرجت على أنهما في نية الإضافة إذ الأصل
: «ولا أصغره ولا أكبره» وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف
إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم :
٤١٠٢ ـ بين ذراعي وجبهة الأسد
٤١٠٣ ـ يا تيم تيم عديّ
على خلاف . وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذوف لفظا بخلاف هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا
التخريج لوجود «من» ؛ لأنّ «أفعل» متى أضيف لم يجامع «من» وأجيب عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أن (من)
ليست متعلقة «بأفعل» بل بمحذوف على سبيل البيان ؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم
المضاف فبين «بمن» ومجرورها أي أعني من ذلك.
والثاني : أنه مع
تقديره للمضاف إليه نوي طرحه ، فلذلك أتى «بمن» ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود «من»
قال الشاعر :
٤١٠٤ ـ نحن بغرس الوديّ أعلمنا
|
|
منّا بركض
الجياد في السّدف
|
__________________
وخرج على هذين
الوجهين إما التعلق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل
الجمع بين «أل» ومن في أفعل كقوله :
٤١٠٥ ـ ولست بالأكثر منهم حصّى
|
|
..........
|
وهذه توجيهات شذوذ
ويكفي فيها مثل ذلك.
فصل
قوله : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا
يعزب.
فإن قيل : فأيّ
حاجة إلى ذكر الأكبر وإنّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب : لما كان
الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم
أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته
فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضا مكتوب ثم لما بين علمه
بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).
قوله : «ليجزي»
فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق
(بلا) وقال أبو
البقاء و (يعزب) بمعنى لا يعزب أي يحصي ذلك ليجزي . وهو حسن. أو بقوله : «ليأتينكم» أو بالعامل في قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي إلا استقر ذلك (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ليجزي .
__________________
فصل
اعلم أنه تعالى
ذكر منهم أمرين الإيمان والعمل الصالح وذكر لهم أمرين المغفرة والرّزق الكريم
فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦]
وقوله عليه (الصلاة و) السلام : «يخرج من النّار من قال لا إله إلّا الله ومن (في)
قلبه وزن ذرّة من إيمان» والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من
عمل لسيد كريم عملا فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق
بالكريم أنه بمعنى ذا كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق
الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب إليه لا يأتي.
فإن قيل : ما
الحكمة في تمييزه الرزق بوصفه بأنّه كريم ولم يضف المغفرة؟
فالجواب : لأنّ
المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزّقّوم والحميم ومنه الفواكه
والشّراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام
فيها .
فصل
قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
ذلك لهم جزاء فيوصله إليهم لقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا).
وثانيهما : أن
يكون ذلك لهم والله يجزيهم بشيء آخر لأن قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ) جملة (تامة اسمية ، وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا) جملة) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل :
ليجزي الّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقا» .
فصل
اللام في «ليجزي»
للتعليل ومعناه الآخرة للجزاء.
فإن قيل : فما وجه
المناسبة؟
فالجواب : أن الله
تعالى أراد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف دارا باقية تكون ثوابه
__________________
واصلا إليه فيها
دائما أبدا وجعل قبلها دارا فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار
ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله .
قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه
مبتدأ و «أولئك» (و) ما بعده خبره.
والثاني : أنه عطف
على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون «أولئك» الذي بعده مستأنفا و «أولئك»
الذي قبله وما في خبره معترضا بين المتعاطفين .
قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا
فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي في إبطال أدلّتنا معاجزين يحسبون أنهم يفوتوننا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين . واعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين
حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله : «معاجزين» أي سعوا في
إبطالها لأن المكذّب آت بإخفاء آيات بينات فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ
ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.
قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ) قرأ ابن كثير وحفص هنا وفي الجاثية أليم بالرفع والباقون بالخفض. فالرفع علىّ أنه نعت «لعذاب» والخفض على
أنه نعت «لرجز» ، إلا أن مكّيّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال : لأنّ الرّجز هو
العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن . قال : والاختيار خفض «أليم» لأنه أصحّ في التقدير والمعنى
إذ تقديره لهم عذاب من عذاب أليم أي هذا الصّنف من أصناف العذاب ، لأن العذاب بعضه
آلم من بعض . وأجيب : بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل : لهم هذا الصنف
من العذاب من جنس العذاب ، وكأن أبا البقاء لحظ هذا حيث قال : وبالرفع صفة لعذاب ، والرّجز مطلق العذاب.
__________________
فصل
قال قتادة : الرجز
أسوأ العذاب فيكون «من» لبيان الجنس كقولك : خاتم من فضّة. قال ابن الخطيب : قال
هناك : لهم رزق كريم ولم يقدر بمن التبعيضية فلم يقل : لهم نصيب من رزق ، ولا رزق
من جنس كريم ، وقال ههنا : (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ
رِجْزٍ أَلِيمٌ) بلفظة صالحة للتبعيض ، وذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة
الغضب وقال هناك : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ثم قال : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال : ٤]
وههنا لم يقل إلا : (لَهُمْ عَذابٌ) فزادهم هناك الرزق الكريم ، وههنا لم يزدهم على العذاب
وفيما قاله نظر ، لقوله تعالى في موضع آخر : (زِدْناهُمْ عَذاباً
فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨].
قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف
على «ليجزي» . قال الزمخشري : أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء
الساعة . وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق : «ليجزي»
بقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) فبنى هذا عليه وهو من أحسن ترتيب .
والثاني : أنه
مستأنف أخبر عنهم بذلك و (الَّذِي أُنْزِلَ) هو المفعول الأول وهو فصل ، و «الحقّ» مفعول ثان ، لأن
الرؤية علميّة ، وقرأ ابن أبي عبلة الحقّ بالرفع على أنه خبر «هو» والجملة في موضع المفعول
الثاني وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل مبتدأ وخبر و (مِنْ رَبِّكَ) حال على القراءتين .
__________________
فصل
لما بين حال من
يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن من أوتي علما
لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه (الصلاة و) السلام حق وصدق وقوله: هو الحقّ يفيد الحصر أي ليس الحق
إلا ذلك وأما قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خصمان والنزاع لفظي فيكون قول
كل واحد حقا في المعنى ، قال المفسرون : (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
هُوَ الْحَقَّ) يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.
قوله : «ويهدي»
فيه أوجه :
أحدها : أنه
مستأنف وفي فاعله احتمالان : أظهرهما : أنّه ضمير «الّذي» وهو
القرآن. والثاني : ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله : (إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ؛ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صراطه ويجاب بأنه من الالتفات
ومن إبراز المضمر ظاهرا تنبيها على وصفه بهاتين الصّفتين .
الوجه الثاني :
أنه معطوف على موضع «الحقّ» و «أن» معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.
الثالث : أنه عطف
على «الحق» عطف فعل على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى : (صافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] أي
وقابضات كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله:
٤١٠٦ ـ فألفيته يوما يبير عدوّه
|
|
ومجر عطاء
يستخفّ المعابرا
|
كأنه قيل : وليروه
الحق وهاديا.
الرابع : أن «ويهدي»
حال من (الَّذِي أُنْزِلَ) ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله:
__________________
٤١٠٧ ـ ..........
|
|
نجوت وأرهنهم
مالكا
|
وهو قليل جدا ، ثم
قال : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد
التخويف والانتقام من المكذّب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ
لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي
الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ
نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)
قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) لما بين حالة المكذب بالساعة ورد عليه بقوله: (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ثم بين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله
الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات وبين حال الكافر
والمؤمن بعد قوله عليه (الصلاة و) السلام ـ (بَلى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ) فقال المؤمن الذي أنزل إليك من ربّك الحق وهو يهدي وقال
الكافر المنكر للبعث متعجبا : (هَلْ نَدُلُّكُمْ
عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) يخبركم يعنون محمدا صلىاللهعليهوسلم ـ وهذا كقول القائل في الاستبعاد : جاء رجل يقول : إنّ
الشمس تطلع من المغرب ؛ إلى غير ذلك من المحاولات .
فصل
إذا مزّقتم «إذا»
منصوب بمقدر أي تبعثون وتحشرون وقت تمزيقكم لدلالة : (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) عليه ولا يجوز أن يكون العامل «ينبّئكم» لأن التنبئة لم
تقع ذلك الوقت ولا (خَلْقٍ جَدِيدٍ) لأن ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها . ومن توسع في الظرف أجازه
__________________
هذا إذا جعلنا «إذا»
ظرفا محضا ، فإن جعلناه شرطا كان جوابها مقدرا أي تبعثون وهو العامل في «إذا» عند
جمهور النحاة. وجوّز الزجاج أن تكون معمولة لمزّقتم ، وجعله ابن عطية خطأ وإفسادا للمعنى ، قال أبو حيان : وليس بخطأ ولا إفساد .
وقد اختلف في
العامل في «إذا» الشرطية ، والصحيح أن العامل فيها فعل الشرط كأخواتها من أسماء
الشرط . وقال شهاب الدين : والجمهور على خلافه ، ثم قال أبو حيان : والجملة الشرطية تحتمل أن تكون معمولة
«لينبّئكم» لأنه في معنى : يقول لكم إذا مزقتم تبعثون ، ثم أكد ذلك بقوله: (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) ويحتمل أن يكون : (إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ) معلقا «لينبّئكم» سادّا مسد المفعولين ولو لا اللام لفتحت «أن»
وعلى هذا فجملة الشرط اعتراض ، وقد منع قوم التعليق في «اعلم» وبابها والصحيح
جوازه ، قال :
٤١٠٨ ـ حذار فقد نبّئت إنّك للّذي
|
|
ستجزى بما تسعى
فتسعد أو تشقى
|
وقرأ زيد بن عليّ
بإبدال الهمزة ياء ، وعنه ينبئكم من «أنبأ» كأكرم و «ممزّق» فيه
وجهان :
أحدهما : أنه اسم «مصدر»
وهو قياس كلّ ما زاد على الثلاث أن يجيء مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم
مفعوله أي كلّ تمزيق .
والثاني : أنه ظرف
مكان ، قاله الزمخشري ، أي كل تمزيق من القبور وبطون
__________________
الوحش والطير ،
ومن مجيء مفعّل مجيء التّفعيل قوله :
٤١٠٩ ـ ألم تعلمي مسرّحي القوافي
|
|
فلا عيّا بهنّ
ولا اجتلابا
|
أي تسريحي ،
والتمزيق التخريق والتقطيع ، يقال ثوب ممزّق وممزوق ويقال : مزّقه فهو مازق ومزق أيضا قال :
٤١١٠ ـ أتاني أنّهم مزقون عرضي
|
|
..........
|
وقال الممزق
العبدي ـ وبه سمي الممزّق ـ :
٤١١١ ـ فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
|
|
وإلّا فأدركني
ولمّا أمزّق
|
أي ولما أبلى
وأفنى ، و «جديد» عند البصريين بمعنى فاعل يقال : جدّ الشّيء فهو جادّ وجديد وعند
الكوفيين بمعنى مفعول من جددته أي قطعته .
فصل
المعنى أن الكفار
قالوا لقومهم متعجبين : إن محمدا يقول : إنكم إذا متّم ومزقتم كل تمزيق وصرتم
ترابا إنكم لفي خلق جديد أي تخلقون خلقا جديدا.
__________________
(قوله) : «أفترى» هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل
فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلا وابتداء. قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك نصب(عَلَى اللهِ كَذِباً) وبهذه الآية استدل الجاحظ على أن الكلام ثلاثة أقسام صدق وكذب ولا صدق ولا كذب ووجه
الدلالة عنه على القسم.
الثالث : أن قوله «به
جنّة» لا جائز أن يكون كذبا لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون
صدقا لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث . وأجيب عنه بأنّ المعنى : أم لم يفتر ، ولكن عبر عن هذا
بقولهم : «أم به جنّة» ؛ لأن المجنون لا افتراء له ، والظاهر في «أم» هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيّ
الشّيئين ويجاب بأحدهما لأنه قيل : أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنونا
ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله :
٤١١٢ ـ لا أبالي أنبّ بالحزن تيس
|
|
أم جفاني بظهر
غيب اللّئيم
|
ومثل قول الآخر :
٤١١٣ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
|
|
شعيث بن سهم أم
شعيث بن منقر
|
لأن «منقر» خبر لا
نعت كذا أنشده بعضهم مستشهدا على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل «ابن» وليس
بصفة ، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سورة التوبة .
__________________
فصل
قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر أولا أي من كلام القائلين : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) كأن السامع لما قيل له : هل ندلكم على رجل قال له وهو يفتري على الله كذبا إن كان يعتقد خلافه «أو به جنّة» مجنون ؟ إن كان لا يعتقد خلافه ، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لا
يرضى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفتر بل قال مفتر أو مجنون احترازا من
أن يقول قائل : كيف يقول بأنه مفتر مع أنه جاز أن يظن أن الحق ذلك ، وظن الصدق يمنع تسمية القائل مفتريا وكاذبا في بعض
المواضع ألا ترى أن من يقول : جاء زيد فإذا تبين أنه لم يجىء وقيل له : لم كذبت؟
يقول : ما كذبت وإنما سمعت من فلان فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم
احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند الناس ولا يكون
العاقل أدنى درجة من الكافر ، ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى ردا عليهم فقال : «بل
الذين كفروا في العذاب» في مقابلة قولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً).
وقوله : (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) عن الحق في الدنيا ، وهذا في مقابلة قولهم : «به جنّة»
وكلاهما مناسب أما العذاب فلأن نسبة المكذب إلى الصادق مؤذ ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل
العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البريء وأما الجنون فلأن نسبة الجنون إلى
العاقل دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه
إلى عدم الهداية فبين أنّهم هم الضالون ، ثم وصف ضلالهم بالبعد لأن من يسمي
المهتدي ضالّا يكون أضلّ ، والنبي عليه (الصلاة و) السلام (كان) هادي كل مهتد .
قوله : «أفلم» فيه
الرأيان المشهوران ، قدّره الزمخشري أعموا فلم يروا ، وغيره يدّعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف .
قوله : (مِنَ السَّماءِ) بيان للموصول ، فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون حالا فيتعلق
به أيضا قيل : (و) ثمّ حال محذوفة تقديره : أفلم يروا إلى كذا مقهورا تحت
__________________
قدرتنا ، أو محيطا
بهم فيعلموا أنّهم حيث كانوا فإنّ أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من
أقطارها وأنا القادر عليهم .
قوله : «إن نشأ»
قرأ الأخوان يشأ يخسف يسقط بالياء في الثلاثة ، والباقون بنون العظمة فيها ، وهما واضحتان ، وأدغم
الكسائي الفاء في الباء واستضعفها الناس من حيث أدغم الأقوى في الأضعف ، قال الفارسي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من
الفاء فلا يدغم فيها وإن كانت الباء يدغم فيها نحو : اضرب فلانا كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضرب
مالكا وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو : اضمم بكرا ؛ لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنّة ، وقال الزمخشري : وليست بالقوية ، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت.
فصل
لما ذكر الدليل
بكونه عالم الغيب وكونه جازيا على السّيّئات والحسنات ذكر دليلا آخر فيه التهديد
والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما
تقدم مرارا ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى :
(أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [يس : ٨١] وأما
التهديد فقوله : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ
بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق والكشف ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ) أي فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على
البعث (لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ) تائب
__________________
راجع إلى الله
بقلبه. ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم
داود كما قال تعالى عنه : (فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً
يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها
شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
فَلَمَّا
قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) فقوله : «منّا» إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيدا خلعة ،
فإذا قال القائل : آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاصّ ما يكون له فكذلك إيتاء
الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ونظيره قوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَرِضْوانٍ) [التوبة : ٢١]
فإنّ رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من
عنده لخواصّه ، والمراد بالفضل النبوة والكتاب ، وقيل : الملك ، وقيل :
جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خصّ به .
قوله : «يا جبال»
محكيّ بقول مضمر ، ثم إن شئت قدرته مصدرا ويكون بدلا من «فضلا» على جهة
تفسيره به كأنه قيل : آتيناه فضلا قولنا يا جبال ، وإن شئت جعلته مستأنفا.
قوله : «أوّبي»
العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمرا من التّأويب وهو
__________________
التّرجيع ، وقيل : التسبيح بلغة الحبشة ، وقال القتيبيّ : أصله من التأويب في السير وهو أن يسير النهار كلّه ،
وينزل ليلا كأنه قال : ادأبي النّهار كلّه بالتسبيح معه ، وقال وهب : نوحي معه ، وقيل : سيري معه ، والتضعيف يحتمل أن يكون للتكثير ، واختار أبو حيان أن
يكون للتعدي قال : لأنهم فسّروه برجع مع التسبيح ، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى .
وقرأ ابن عباس
والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق : أوبي بضم الهمزة أمرا من آب يؤوب أي ارجع معه
بالتسبيح .
قوله : «والطير»
العامة على نصبه وفيه أوجه :
أحدها : أنه عطف
على محل جبال لأنه منصوب تقديرا .
الثاني : أنه
مفعول معه قاله الزجاج . ورد عليه بأن قبله لفظ «معه» ولا يقتضي العامل أكثر من
مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال : جاء زيد مع بكر مع عمرو . قال شهاب الدين : وخلافهم في تقصّيه حالين يقتضي مجيئه هنا .
الثالث : أنه عطف
على «فضلا» ، قاله الكسائي ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلا وتسبيح الطير.
__________________
الرابع : أنه
منصوب بإضمار فعل أي سخّرنا له الطّير. قاله أبو عمرو ، وقرأ السّلميّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم ـ في رواية ـ والطّير بالرفع ، وفيه أوجه : النسق على لفظ «الجبال» وأنشد :
٤١١٤ ـ ألا يا زيد والضّحّاك سيرا
|
|
فقد جاوزتما خمر
الطّريق
|
بالوجهين ، وفي
عطف المعرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب ، الثاني : عطفه على الضمير المستكن في «أوّبي» وجاز ذلك ؛ للفصل بالظرف ، والثالث : الرفع على الابتداء والخبر مضمر أي والطير
كذلك أي مؤوبة.
فصل
لم يكن الموافقون
له في التأويب منحصرا في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير
للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن
من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشدّ قسوة . قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال
بصداها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل :
كان داود إذا تخلل الجبال
__________________
فسبح الله جعلت
الجبال تجاوبه بالتسبيح. وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال
تنشيطا له
قوله : «وألنّا»
عطف على «آتينا» وهو من جملة الفضل ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يعطف على «قلنا»
في قوله (يا جِبالُ أَوِّبِي
... وَأَلَنَّا).
فصل
ألان الله تعالى
له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب
مطرقة وذلك في قدرة الله يسير ، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت
المال فألان الله له الحديد وعلمه صنعة اللّبوس وهي الدرع وأنه أول من اتخذها. وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية
للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزّرّاد خير من القوّاس والسّيّاف وغيرهما ؛ لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربّما يستعمل في قتل النفس المحرمة
، بخلاف الدّرع قال عليه (الصلاة و) السلام : «كان داود لا يأكل إلّا من عمل يده» .
قوله : «أن اعمل»
فيه وجهان :
أظهرهما : أنها
مصدرية على حذف الجر أي لأن .
والثاني : قاله
الحوفيّ وغيره إنها مفسرة لقوله : (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) ليعمل سابغات» ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم
يتقدم إلا «ألنّا» ، واعتذر بعضهم عن هذا بأن قدّر ما هو بمعنى القول أي وأمرناه أن
اعمل. ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وقرىء : «صابغات» لأجل الغين وتقدم تقديره في لقمان عند «وأسبغ عليكم نعمه»
__________________
فصل
معنى «سابغات» أي
كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض. وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف .
قوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) والسرد : نسيج الدّروع يقال لصانعه : السّرّاد» الزّرّاد. والمعنى
قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظا فتكسر الحلق ولا دقاقا فتغلغل فيها. ويقال السرد المسمار في
الحلقة ، يقال : درع مسرودة أي مسمورة الحلق. وقدر في السّرد أي اجعله على القصد
وقدر الحاجة ، ويحتمل أن يقال السّرد هو عمل الزرد .
وقوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي إنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب (إنما)
يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل
جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب. ويدل عليه قوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه
والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : (إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يريد بهذا داود وآله ، ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيبا
آخر وهو سليمان كقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) [ص : ٣٤] ذكر ما
استفاد من الإنابة وهو قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ) العامة على النصب بإضمار فعل ، أي سخّرنا لسليمان ، وأبو
بكر بالرفع على الابتداء ، والخبر في الجار قبله أو محذوف ، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلا يعني بالجار ، وليس بقويّ لعدم اعتماده وكان قد وافقه في الأنبياء غيره ،
__________________
وقرأ العامة
الرّيح بالإفراد. والحسن وأبو حيوة ، وخالد بن إلياس الرّياح جمعا. وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك
بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك.
فإن قيل : الواو
في قوله (وَلِسُلَيْمانَ) للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفا للجملة الاسمية على
فعلية وهو لا يجوز أو لا يحسن؟
فالجواب : أنه لما
بين حال داود فكأنه قال : لما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله
: (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) (كأنه قال وألنا
لداود الحديد) وسخرنا لسليمان الريح .
قوله : (غُدُوُّها شَهْرٌ) مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غدوّها مسيرة شهر أو
مقدار غدوّها شهر ، ولو نصب لجاز ، إلا أنه لم يقرأ بها فيما علمنا ، وقرأ ابن أبي عبلة غدوتها وروحتها على المرّة ، والجملة إما مستأنفة ، وإما في محلّ حال .
فصل
المعنى غدوّ تلك
الريح المستمرة له مسيرة شهر ، وسير رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين. قال
الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر (وبينهما مسيرة شهر ، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل) وبينهما مسيرة شهر
للراكب المسرع ، وقيل : كان يتغذى بالرّيّ ويتعشى بسمرقند .
فإن قيل : ما
الحكمة في قوله في الجبال مع داود الجبال وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا
جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام؟
فالجواب : أن
الجبال لما سبّحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه
كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة له .
__________________
قوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أذبنا له عين النّحاس. والقطر : النحاس ، قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها
كجري المياه ، وكان بأرض اليمن. وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان .
قوله : (مَنْ يَعْمَلُ) يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره في الجار قبله أي من
الجنّ من يعمل وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسخّرنا له من يعمل و (مِنَ الْجِنِّ) يتعلق بهذا المقدر ، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان ، و «بإذن»
حال أي ميسّرا بإذن ربه ، والإذن مصدر مضاف لفاعله ، وقرىء : (وَمَنْ يَزِغْ) بضم الياء من أزاغ ومفعوله محذوف أي يزغ نفسه ، أي يميلها و (مِنْ عَذابِ) لابتداء الغاية أو للتبعيض.
فصل
قال ابن عباس :
سخر الله الجنّ لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، ومن يزغ يعدل منهم من الجن
عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نذقه من عذاب السّعير في الآخرة ، وقيل : في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم
عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.
قوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) مفسر لقوله : (مَنْ يَعْمَلُ) و (مِنْ مَحارِيبَ) بيان ل (ما يَشاءُ). والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة ، وكان
مما عملوا له بيت المقدس ، ابتدأه داود ورفعه قامة رجل فأوحى الله إليه أني لم أقض
ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه
الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسّم عليهم
الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرّخام
والميمها الأبيض من معادنه وأمر ببناء المدينة بالرّخام والصّفاح وجعلها اثني عشر
ربضا وأنزل على كل
__________________
ربض منها سبطا من
الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد
فوجه الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدرّ
الصّافي من البحر وفرقا يقلعون الجواهر من الحجارة من أماكنها وفرقا يأتونه بالمسك
والعنبر وسائر الطّيب من أماكنها فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عزوجل. ثم أحضر الصّنّاع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة
وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقّب الياقوت واللآلىء فبنى المسجد بالرّخام
الأبيض والأصفر والأخضر وعمّده بأساطين الميها الصّافي وسقّفه بألواح الجواهر
الثمينة وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح
الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهر ولا أنور من ذلك المسجد كان يضيء في
الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع أحبار بني إسرائيل وأعلمهم أنه بناه
لله وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا ، روى عبد الله
بن عمرو بن العاص عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربّه
ثلاثا فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثّالثة سأل حكما يصادف حكمه فأعطاه
إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد
يصلّي ركعتين إلّا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك»
قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصّر فخرّب المدينة
وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت
وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصونا
كثيرة وعجيبة من الصخر .
قوله : (وَتَماثِيلَ) وهي النقوش التي تكون في الأبنية. وقيل : صور من نحاس وصفر
وشبه وزجاج ورخام. قيل : كانوا يصوّرون السّباع والطيور. وقيل : كانوا يتخذون صور
الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ولعلها كانت
مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صورا من طين فينفخ فيها فيكون طيرا .
قوله : «وجفان
كالجواب». الجفان القصاع ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجواب»
__________________
وصلا ووقفا وأبو
عمرو وورش بإثباتها وصلا وحذفها وقفا. والباقون بحذفها في الحالين . و «كالجواب» صفة «لجفان». والجفان جمع جفنة ، والجوابي
جمع جابية كضاربة وضوارب والجابية الحوض العظيم سميت بذلك لأنه يجبى إليها الماء ،
أي يجمع وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يجبى فيها كما قيل : خابية ،
لما يخبّأ فيها قال الشاعر :
٤١١٥ ـ بجفان تعتري نادينا
|
|
من سديف حين هاج
الصّنّبر
|
كالجوابي لا تني
مترعة
|
|
لقرى الأضياف أو
للمحتضر
|
وقال الأعشى :
٤١١٦ ـ نفى الذّمّ عن آل المحلّق جفنة
|
|
كجابية الشّيخ
العراقيّ تفهق
|
وقال الأفوه :
٤١١٧ ـ وقدور كالرّبا راسية
|
|
وجفان كالجوابي
مترعه
|
قيل : كان يقعد
على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
__________________
فصل
وقدور راسيات
ثابتات لها قوائم لا يحرّكن عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها
بالسلاليم وكانت باليمن .
قوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) في «شكرا» أوجه :
أحدها : أنه مفعول
به أي اعملوا الطّاعة سميت الصلاة ونحوها شكرا لسدّها مسدّه.
الثاني : أنه مصدر
من معنى «اعملوا» كأنه قيل : اشكروا شكرا بعملكم أو اعملوا عمل شكر.
الثالث : أنه
مفعول من أجله أي لأجل الشكر كقولك : جئتك طمعا ، وعبدت الله رجاء
غفرانه.
الرابع : أنه مصدر
واقع موقع الحال أي شاكرين
الخامس : أنه
منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشكروا شكرا.
السّادس : أنه صفة
لمصدر اعملوا تقديره اعملوا عملا شكرا أي ذا شكر . قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا
له على نعمه ، واعلم أنه كما قال عقيب قوله (تعالى) : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) (اعْمَلُوا صالِحاً) قال عقيب ما تعمله الجن له اعملوا آل داود شكرا إشارة إلى
ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء ، وإنما يجب
الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكرا .
قوله : (وَقَلِيلٌ) خبر مقدم (مِنْ عِبادِيَ) صفة له ، (الشَّكُورُ) مبتدأ . والمعنى أن العامل بطاعتي شكرا لنعمتي قليل. قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه ، وقيل : داود
وسليمان وأهل بيته .
__________________
فصل
قال جعفر بن
سليمان : سمعت ثابتا يقول : كان داود نبي الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة
من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلّي.
قوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي على سليمان ، قال أهل العلم : كان سليمان ـ عليهالسلام ـ يتحرز ببيت المقدس السّنة والسّنتين والشهر والشهرين ، وأقل من
ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه
كان لا يصبح يوما إلا نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي
كذا فيقول : لأن شيء أنت؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فإن كانت تنبت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها
ما أنت؟ قالت الخرّوبة قال : لأي شيء نبتت ؟ قالت : لخراب مسجدك فقال سليمان : ما كان الله ليجزيه
وأنا حي أنت الذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم
قال : اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت
الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب
فقام يصلي متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن
تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إلى سليمان فيرونه
قائما متكئا على عصاه فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا
يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخرّ ميتا فعلموا بموته
، قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب
فذلك قوله : (ما دَلَّهُمْ عَلى
مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) وهي الأرضة (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه .
قوله : «تأكل» إما
حال ، أو مستأنفة ، وقرأ ابن ذكوان منسأته ـ بهمزة ساكنة
__________________
ـ ونافع وأبو عمرو
بألف محضة ، والباقون بهمزة مفتوحة ، والمنسأة اسم آلة من نسأه أي أخّره كالمكسحة والمكنسة من
نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله أي أخّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :
٤١١٨ ـ أمن أجل حبل لا أباك ضربته
|
|
بمنسأة قد جرّ
حبلك أحبلا
|
(والألف) وهو لغة الحجاز وأنشد :
٤١١٩ ـ إذا دببت على المنسأة من كبر
|
|
فقد تباعد عنك
اللهو والغزل
|
فأما بالهمزة
المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مفعلة كمكنسة وأما
سكونها ففيه وجهان :
أحدهما : أنه أبدل
الهمزة ألفا كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة
من يقول العألم والخأتم وقوله :
٤١٢٠ ـ ..........
|
|
وخندف هامة هذا
العألم
|
ذكره ابن مالك ، قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه
__________________
هرب من شيء ثم
يعود إليه وأيضا فإنهم نصّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن كان لتلك الألف
أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف .
وأنشد ابن عصفور
على ذلك :
٤١٢١ ـ ولّى نعام بني صفوان زوزأة
|
|
..........
|
قال : الأصل زوزاة
وأصل هذا : زوزوة ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو ، إذا عرف هذا فكان
ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المفتوحة
فتعود إلى الأول وهذا لا يقال .
الثاني : أنه سكن
الفتحة تخفيفا والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها ، ويحسنه هنا
أن الهمزة تشبه حروف العلة ، وحرف العلة يستثقل عليه الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها ،
وأنشدوا على تسكين همزتها :
٤١٢٢ ـ ضريع خمر قام من وكأته
|
|
كقومة الشّيخ
إلى منسأته
|
وقد طعن قوم على
هذه القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا : لأن قياس تخفيفها إنما هو تسهيلها بين بين وبه قرأ ابن عامر وصاحباه فظن الراوي أنهم
__________________
سكنوا وضعفها أيضا
بعضهم بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف . وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية يعنون أنها ليست
على قياس تخفيفها إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة فلا يلتفت لمن طعن ، وقد قال أبو عمرو وكفى به : أنا لا
أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز
فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره.
وقرىء منسأته بفتح الميم مع تحقيق الهمز ، وإبدالها ألفا وحذفها تخفيفا ، وقرىء منساءته بزنة منعالته كقولهم : ميضأة وميضاءة . وكلها لغات ، وقرأ ابن جبير من ساته فصل «من» ، وجعلها حرف جر وجعل «ساته» مجرورة بها ، والسّاة والسّية هنا العصا وأصلها يد القوس العليا
والسفلى يقال : ساة القوس مثل شاة وسئتها ، فسمّيت العصا بذلك على وجه الاستعارة والمعنى تأكل من طرف
عصاه. ووجه بذلك ـ كما جاء في التفسير ـ أنه اتّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا
الخضراء متى اتّكىء عليها تصير كالقوس في الاعوجاج غالبا. و «سأة» فعلة وسئة فعلة
نحو قحة وقحة والمحذوف لا مهما . وقال ابن جني : سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فلة
والعين محذوفة . قال شهاب الدين : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة
والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أبدلت.
__________________
قوله : (دَابَّةُ الْأَرْضِ) فيه وجهان :
أظهرهما : أن
الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأرضة دويبّة تأكل الخشب.
والثاني : أن
الأرض مصدر لقولك أرضت الدابّة الخشبة تأرضها أرضا أي أكلتها فكأنه قيل : دابة
الأكل يقال : أرضت الدّابّة الخشبة تأرضها أرضا فأرضت بالكسر تأرض هي بالفتح أيضا
وأكلت الفوازج الأسنان تأكلها أكلا فأكلت هي بالكسر تأكل أكلا بالفتح. ونحوه أيضا
: جدعت أنفه جدعا فجدع هو جدعا بفتح عين المصدر ، وقرأ ابن عباس والعباس بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القراءة
المشهورة وقيل : الأرض بالفتح ليس مصدرا بل هو جمع أرضة وهذا يكون من باب إضافة
العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابّ .
قوله : (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه (الصلاة و) السلام ، وقيل : عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع
وقيل : بل أكلت عتبة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحّ ؛ إذ كان يكون التركيب
خرّت بتاء التأنيث و : أبقل إبقالها ضرورة ، أو نادر وتأويلها بمعنى العود أندر منه.
قوله : (تَبَيَّنَتِ) العامة على نيابته للفاعل مسندا للجنّ وفيه تأويلات.
أحدها : أنه على
حذف مضاف تقديره تبيّن أمر الجنّ أي ظهر وبان ، و «تبيّن» يأتي بمعنى «بان» لازما كقوله :
٤١٢٣ ـ تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة
|
|
وأنّ أعزّاء
الرّجال طيالها
|
__________________
فلما حذف المضاف
وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث (به) .
وقوله : (أَنْ لَوْ كانُوا) بتأويل المصدر مرفوعا بدلا من الجنّ والمعنى ظهر كونهم لو
علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظهر جهلهم .
الثاني : أن تبين
بمعنى بان وظهر أيضا والجنّ فاعل. ولا حاجة إلى حذف مضاف و (أَنْ لَوْ كانُوا) بدل كما تقدم
والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك: بان زيد جهله .
الثالث : أن تبيّن
هنا متعدّ بمعنى أدرك وعلم وحينئذ يكون المراد «بالجنّ» ضعفتهم وبالضمير في «كانوا»
كبارهم ومردتهم و (أَنْ لَوْ كانُوا) مفعول به ، وذلك أن المردة (و) الرؤساء من الجن كانوا
يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خرّ سليمان ميتا ومكثوا بعده عاما في العمل
تبينت السفلة من الجن أن المراد منهم لو كانوا يعلمون الغيب كما ادعوا ما مكثوا في
العذاب ، ومن مجيء «تبيّن» متعديا بمعنى أدرك قوله :
٤١٢٤ ـ أفاطم إنّي ميّت فتبيّني
|
|
ولا تجزعي كلّ
الأنام يموت
|
وفي كتاب أبي جعفر
ما يقتضي أن بعضهم قرأ : «الجنّ» بالنصب . وهي واضحة أي تبينت الإنس الجنّ ، و (أَنْ لَوْ كانُوا) بدل أيضا من «الجنّ» ، قال البغوي : قرأ ابن مسعود وابن
عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت
الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ ابن عباس ويعقوب تبيّنت الجنّ على
__________________
البناء للمفعول . وهي مؤيدة لما نقله النّحّاس وفي الآية قراءات كثيرة
أضربت علها لمخالفتها الشواذ وأن» في «أن لو» الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة
واسمها ضمير الشأن و «لو» فاصلة بينها وبين خبرها الفعليّ . وتقدم تحقيق ذلك كقوله : (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا) [الجن: ١٦] و (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) [الأعراف : ١٠٠]
وقال ابن عطية : وذهب سيبويه إلى أنّ «أن» لا موضع لها
من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق
واليقين ؛ لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ
محلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب «لو» وعلى الأقوال الأول يكون جوابها. قال شهاب الدين : وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطّراد زيادتها قبل لو في
حيّز القسم .
وللناس خلاف هل
الجواب للو أو للقسم. والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذو خبر كما
تقدم بيانه.
وتقدم الكلام والقراءات
في سبأ في سورة النمل.
فصل
المعنى أن سليمان
لما سقط ميتا تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي
في التّعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيا أراد الله بذلك أن يعلم الجن
أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب
__________________
لغلبة الجهل عليهم وذكر الزّهريّ أن معنى تبيّنت الجنّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر
لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، ويؤيد هذا
قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة ، وقوله : (ما لَبِثُوا فِي
الْعَذابِ الْمُهِينِ) يدل على أن المؤمنين من الجنّ لم يكونوا في التسخير ، لأن المؤمن
لا يكون في زمان النّبيّ في العذاب المهين.
فصل
روي أن سليمان كان
عمره ثلاثا وخمسين سنة ومدة ملكه أربعون سنة وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة
وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ
آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا
لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)
فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا
فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا
باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ)(١٩)
(قوله) تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) قرأ حمزة وحفص مسكنهم بفتح الكاف مفردا ، والكسائي كذلك
إلا أنه كسر الكاف والباقون مساكنهم جمعا فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله :
٤١٢٥ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
|
|
..........
|
__________________
والفتح هو القياس
لأن الفعل متى ضمت عين مضارعه أو فتحت جاء المفعل منه زمانا أو مكانا أو مصدرا
بالفتح والكسر مسموع على غير قياس ، وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس
اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة.
و «مسكنهم» يحتمل
أن يراد به المكان ، وأن يراد به المصدر أي السّكنى ، ورجح بعضهم الثاني ، قال : لأن المصدر يشمل الكل ، فليس
فيه وضع مفرد موضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وضع المفرد موضع الجمع ، كما تقرر ، لكن سيبويه يأباه إلّا ضرورة كقوله :
٤١٢٦ ـ ..........
|
|
قد عضّ أعناقهم
جلد الجواميس
|
أي جلود ، وأما
الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن ، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك
احتمل القراءات المذكورة.
فصل
لما بين حال
الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بيّن حال الكافرين بأنعمه ، بحكاية أهل «سبأ» وقرىء سبأ بالفتح على أنه اسم بقعة ، وبالجر مع التنوين
على أنه
__________________
اسم قبيلة ، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل
لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل ، وقوله «آية» أي من فضل ربهم دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا
وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وسمي (سبأ) لأنه أول من سبأ من العرب.
قال السّهيليّ : ويقال : إنه أول من تبرج ، وذكر بعضهم أنه كان مسلما وكان له شعر يشير فيه بوجود
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال (يعني سليمان عليه الصلاة والسلام) :
٤١٢٧ ـ سيملك بعدنا ملكا عظيما
|
|
نبيّ لا يرخّص
في الحرام
|
ويملك بعد منهم
ملوك
|
|
يدينون العباد
بغير دام
|
ويملك بعده منهم
ملوك
|
|
يصير الملك فينا
باقتسام
|
ويملك بعد قحطان
نبيّ
|
|
نفى جنته خير
الأنام
|
يسمى أحمد يا
ليت أنّي
|
|
أعمّر بعد مبعثه
بعام
|
فأعضده وأحبوه
بنصري
|
|
بكلّ مدجّج
وبكلّ رامي
|
متى يظهر فكونوا
ناصريه
|
|
ومن يلقاه يبلغه
سلامي
|
روى ابن عباس قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن سبأ ما هو؟ أكان رجلا أو امرأة أو أرضا؟ قال : بل هو
رجل من العرب ولد عشرة من الولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما
الذين تيامنوا فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير فقال رجل وما
أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاموا فلخم وجذام وعاملة وغسان ، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم
تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شذر مذر ، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد
اجتماع :
__________________
«تفرقوا أيادي سبا»
فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوس والخزرج
نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع
وبنو قريظة والنّضير فخالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أخر منهم
الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسّان وعاملة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم
، و «سبأ» يجمع هذه القبائل كلها. والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية وعدنانيّة ، فالقحطانية شعبان سبأ
وحضرموت والعدنانيّة شعبان ربيعة ومضر وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى
قحطان وبعضهم إلى عدنان ، قيل : إن قحطان أول من قيل له : أنعم صباحا ، وأبيت
اللّعن قال بعضهم : إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما (الصلاة
و) السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عربا. والصحيح أن
العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق
يقال : إن «أهم» كان ملكا يقال إنه أول من سقّف البيوت بالخشب المنشور وكانت الفرس
تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة ، يقال لها : وبار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم
وطمّ (مناهلهم) وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
٤١٢٨ ـ وكرّ دهر على وبار
|
|
فهلكت عنوة وبار
|
__________________
قوله : «جنتان»
فيه ثلاثة أوجه :
الرفع على البدل
من «آية» وأبدل مثنّى
من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا المثنى وتقدم في قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠].
الثاني : أنه خبر
مبتدأ مضمر . وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه . ولا يظهر ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفرادا أو تثنية
فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم .
الثالث ـ وإليه
نحا ابن عطية ـ أن يكون جنتان مبتدأ وخبره (عَنْ يَمِينٍ
وَشِمالٍ). وردّه أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعتذر عنه
بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جنّتان لهم أو جنتان عظيمتان فيصح ما ذهب إليه وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصبا على خبر كان واسمها «آية»
.
فإن قيل : اسم كان
كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة
عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر «لسبأ» لكان صفة «لآية» في هذه
القراءة .
قوله : (عَنْ يَمِينٍ) إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمر أي هما عن يمين . قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله. وقيل : عن يمين
من أتاها وشماله وكان لهم واد قد أحاط الجنتان بذلك الوادي.
قال الزمخشري :
أيّة آية في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجنان؟ وأجاب بأن المراد
لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض
جعلها جنة واحدة .
__________________
قوله : «كلوا» على
إضمار القول أي قال الله أو الملك كلوا من رزق ربكم. وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له
على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له
بطاعته . قوله : (بَلْدَةٌ) أي بلدتكم بلدة (طيبة) وربكم (رَبٌّ غَفُورٌ) والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة .
قال ابن زيد : لم
ير في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حيّة ولا عقرب ولا وباء ولا وخم وكان
الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها من طيب الهواء ، فذلك قوله: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي طيبة الهواء (وَرَبٌّ غَفُورٌ) قال مقاتل : وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب . وقيل : ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة وقرأ رويس بنصب «بلدة ، ورب» على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا . وجعله أبو البقاء مفعولا به والعامل فيه «اشكروا» وفيه نظر ؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم ربّا غفورا ، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من
جانبهم فقال : (فَأَعْرَضُوا) من كمال ظلمهم ، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة: ٢٢] قال وهب : أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم
الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزوجل علينا نعمة ، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن
استطاع فذلك قوله عزوجل : فأعرضوا ، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ) [السجدة : ٢٢]
وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلا غرّق أموالهم وخرّب دورهم.
قوله : (سَيْلَ الْعَرِمِ) العرم فيه أوجه :
أحدها : أنه من
باب إضافة الموصوف لصفته في الأصل إذ الأصل : السّيل العرم ، والعرم الشديد وأصله
من العرامة ، وهي الشّراسة والصعوبة وعرم فلان فهو عارم وعرم وعرام الجيش منه .
__________________
الثاني : أنه من
حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه تقديره فأرسلنا عليهم سيل المطر العرم أي الشديد
الكثير .
الثالث : أن العرم
اسم للبناء الذي يجعل سدا وأنشد (قول الشاعر) :
٤١٢٩ ـ من سبأ الحاضرين مأرب إذ
|
|
يبنون من دون
سيله العرما
|
أي البناء القوي.
قال البغوي : العرم والعرم جمع عرمة وهي السد الذي يحبس الماء.
الرابع : أن العرم
اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه. وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث شاء.
الخامس : أنه اسم
للجرذ وهو الفأر. قيل : هو الخلد وإنما أضيف إليه ؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه
قرض السدّ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثة
تكون الإضافة إضافة صحيحة معرفة نحو : غلام زيد ، أي سيل البناء أو سيل الوادي
الفلانيّ أو سيل الجرذ. وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفرقة فقالوا : «تفرقوا
أيدي سبا». وقد تقدم .
__________________
فصل
قال ابن عباس ووهب
وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ،
فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسنّاة بلغة حمير فسكت ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق
بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار هم يفتحونها
إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سدّوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية
اليمن فاحتبس السيل من وراء السّدّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى (ثم) من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب
الماء من السنة المقبلة فكانت تقتسمه بينهم على ذلك فبقوا على ذلك بعدها مدة فلمّا
طغوا وكفروا سلّط الله عليهم جرذا يسمّى الخلد فنقب السد من أسفله فغرّق الماء
جنانهم وخرب أرضهم .
قوله : (بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج ، والمنصوب
هو الداخل ؛ ولهذا غلط من قال من الفقهاء : فلو أبدل ضادا بظاء بطلت
صلاته بل الصواب أن يقول : ظاء بضاد .
قوله : (أُكُلٍ خَمْطٍ) قرأ أبو عمرو بإضافة «أكل» إلى «خمط». والباقون بتنوينه
غير مضاف ، وقد تقدم في البقرة أن ابن عامر ، وأبا عمرو والكوفيّين يضمون كاف «أكل» غير
المضاف لضمير المؤنثة وأنّ نافعا وابن كثير يسكنونها بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب
، الأولى لأبي عمرو أكل خمط بضم كاف أكل مضافا «لخمط».
الثانية : لنافع
وابن كثير بتسكين كافه وتنوينه.
الثالثة : للباقين
ضم كافه وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجنى والثّمر .
__________________
والخمط قيل : شجر
الأراك وثمره يقال له : البرير. (و) هذا قول أكثر المفسرين وقيل : كل شجر ذي
شوك وقال المبرد والزجاج : كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط . وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمرة شجرة يقال لها : فسوة
الضّبع على صورة الخشخاش لا ينتفع به . قال البغوي : من جعل الخمط اسما للمأكول فالتنوين في «أكل»
حسن ومن جعله أصلا وجعل «الأكل» ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب
في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه .
قوله : (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) معطوفان على «أكل» لا على «خمط» لأن الخمط لا أكل له ، وقال مكي : لمّا لم يجز أن يكون الخمط نعتا للأكل ؛ لأن
الخمط اسم شجر بعينه ولا بدلا ؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من
الشجر أضيف على تقدير «من» كقولك : «هذا ثوب خزّ» . ومن نون فيحتمل أوجها :
الأول : أنه جعل «خمطا»
وما بعده إما صفة «لأكل» . قال الزمخشري : أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل
بشيع . قال أبو حيان : والوصف بالأسماء لا يطّرد وإن كان قد جاء منه شيء نحو قولهم : «مررت بقاع عرفج كلّه».
الثاني : البدل من
«أكل» قال أبو البقاء : وجعل خمطا أكلا لمجاورته إياه ، وكونه سببا له إلا أن الفارسيّ ردّ كونه بدلا قال : لأنّ الخمط ليس
بالأكل نفسه ، وقد تقدم جواب أبي البقاء ، وقد أجاب بعضهم عنه وهو
منتزع من كلام الزمخشري أي أنه
__________________
على حذف مضاف
تقديره ذواتي أكل أكل خمط قال : والمحذوف هو الأول في الحقيقة .
الثالث : أنه عطف
بيان وجعله أبو عليّ أحسن ما في الباب ، قال : كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ، إلا أن عطف البيان لا يجيزه البصريون في النّكرات
إنما يخصّونه بالمعارف ، والأثل هو الطّرفاء. وقيل : شجر يشبه الطرفاء وقيل : نوع من الطرفاء ولا يكون على ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعفص أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسّدر شجر معروف وهو شجر النّبق ينتفع بورقه لغسل اليد ويغرس في
البساتين ولم يكن هذا من ذلك بل كان سدرا برّيا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء ،
وقال بعضهم : السّدر سدران سدر له ثمرة عفصة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه
في الاغتسال وهو الضّال وسدر له ثمرة يؤكل وهو النّبق (و) يغتسل بورقه. والمراد بالآية الأوّل. وقال قتادة : كان
شجرهم خير الشّجر فصيره الله من شر الشّجر بأعمالهم .
قوله : «قليل» نعت
ل «سدر». وقيل : نعت «لأكل». وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتا «لخمط» و «أثل»
و «سدر» وقرىء «وأثلا وشيئا» بنصبهما عطفا على «جنّتين» ثم بين (الله) تعالى أن ذلك (كان) مجازاة لهم على كفرانهم فقال:
__________________
(جَزَيْناهُمْ بِما
كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي) بذلك الجزاء (إِلَّا الْكَفُورَ).
قوله : (وَهَلْ نُجازِي) قرأ الأخوان وحفص نجازي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله : (جَزَيْناهُمْ) أي (نحن) (وهل نجازي هذا الجزاء) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح
الزاي مبنيا للمفعول إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم بن جندب «يجزى» للمفعول إلّا الكفور رفعا على ما تقدم وقرىء «يجزي» مبنيا للفاعل
وهو الله تعالى «الكفور» نصبا على المفعول به .
فصل
قال مجاهد : يجازي
أي يعاقب ويقال في العقوبة يجازي وفي التوبة يجزى . قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى أي يجزى الثواب بعمله ولا يكأفأ بسيّئاته. وقال بعضهم :
المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) يدل على أن «يجزي» في النّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من
المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون ما بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق
الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدىء بالنعم.
قوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالماء والشجر وهي قرى الشام «قرى ظاهرة» متواصلة أي يظهر
بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان شجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون
بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام.
فإن قيل : هذا من
النعم والله تعالى أراد بيان تبديل نعمهم بقوله : (وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة؟
__________________
فالجواب : أنه ذكر
حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها
بكثرة القرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبراري والبوادي بقوله : (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربّنا بعّد بين
أسفارنا على المبتدأ والخبر.
قوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغدو والرّواح
على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة :
كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها
حتى يمتلىء مكتلها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك .
قوله : (سِيرُوا) أي وقلنا لهم سيروا ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي
مكّنّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها ليالي وأياما أي بالليالي والأيّام أي وقت
شئتم «آمنين» لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا .
وقيل : معنى قوله تعالى : (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أنكم تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياما لعدم الخوف
بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك
نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا : لو كان جنى جنّاتنا
أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه فقالوا : ربّنا بعّد بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين
الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرّواحل ونتزود فيها الأزواد. وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل.
ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره : اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر
عليه ، ويحتمل أن يكون قولهم : (رَبَّنا باعِدْ) بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعّد بين أسفارهم
وتخريب المعمور من ديارهم ، وقوله : «ظلموا» يكون بيانا لذلك.
قوله : «ربّنا»
العامة بالنصب على النداء. وابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعّد»
__________________
بتشديد العين فعل
طلب والباقون باعد طلب أيضا من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابن الحنفيّة وسفيان بن حسين وابن السّميفع بعد بضم العين فعلا ماضيا والفاعل المسير أي بعد المسير ، و «بين»
ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضمّن نون بين جعله فاعل «بعد» فأخرجه عن الظرفية ، كقراءة (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤]
رفعا. فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أشروا وبطروا فلذلك طلبوا بعد
الأسفار ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد
الأسفار التي طلبوها أولا وقرأ جماعة كبيرة منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب (وعمرو)
بن فايد : «ربّنا» رفعا على الابتداء بعّد بتشديد العين فعلا ماضيا خبره ، وأبو رجاء والحسن ويعقوب كذلك إلا أنه «باعد» بالألف والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها
ودنوّها تعنّتا منهم وقرىء : «بوعد» مبنيا للمفعول. وإذا نصبت «بين» بعد فعل متعد من هذه المادة في
إحدى هذه القراءات سواء أكان أمرا أم ماضيا فجعله أبو حيان منصوبا على المفعول به
لا ظرفا قال : «ألا ترى إلى قراءة من رفع كيف جعله اسما»؟ قال شهاب الدين : إقراره على ظرفيته أولى
ويكون المفعول محذوفا تقديره بعد المسير بين أسفارنا. ويدل على ذلك قراءة بعد بضمّ
العين بين بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السّير كذلك يبقى هنا «بين» على
بابها وينوى السّير وكان هذا أولى ؛
__________________
لأن حذف المفعول كثير جدا لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته
فيه نزاع كثير . وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع «بينكم» في الأنعام ، وقرأ العامة أسفارنا جمعا. وابن يعمر «سفرنا» مفردا.
قوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. وهذا بيان
لجعلهم أحاديث. قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا
بالشام ومرّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس
والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جدّ الأوس والخزرج .
قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لعبر ودلالات
(لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن معاصي الله «شكور» لنعمة الله قال مقاتل : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء
قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ
هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ)(٢٣)
قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ) قرأ الكوفيون صدّق بتشديد الدال والباقون
__________________
بتخفيفها ، فأما الأولى «فظنّه» مفعول به والمعنى أن ظنّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على
المجاز والاتساع ومثله : كذّبت ظنّي ونفسي وصدّقتهما وصدّقاني وكذّباني وهو مجاز
شائع سائغ أي ظن شيئا فوقع وأصله من قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) [النساء : ١١٩]
وقوله : (فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم
إياه. وأما الثانية : فانتصب «ظنه» على ما تقدم من المفعول به كقولهم «أصبت ظنّي ،
وأخطأت ظنّي» أو على المصدر بفعل مقدر أي «يظنّ ظنّه» أو على إسقاط (الخافض
أي) في ظنّه ، وزيد بن علي والزّهريّ بنصب «إبليس» ورفع «ظنّه» كقول الشاعر :
٤١٣٠ ـ فإن يك ظنّي صادقا فهو صادق
|
|
..........
|
جعل «ظنه» صادقا فيما ظنه مجازا واتساعا ، وروي عن أبي عمرو برفعهما وهي
__________________
واضحة جعل «ظنه»
بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في «عليهم» عائد على أهل سبأ و (إِلَّا فَرِيقاً) استثناء من فاعل «اتّبعوه» و (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) صفة «فريقا» و «من» للبيان لا للتبعيض لئلا يفسد المعنى ؛
إذ يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبليس .
فصل
قال المفسرون :
صدق عليهم أي على أهل سبأ. وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتّبعوه
إلّا فريقا من المؤمنين . قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين
لم يتبعوه في أصل الدين وقد قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] يعني المؤمنين وقيل : هو خاص في المؤمنين
الذين يطيعون الله ولا يعصونه. وقال ابن قتيبة : إن إبليس سأل النظرة فأنظره الله
قال : لأغوينّهم ولأضلّنّهم لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم
وإنما قال ظنا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم .
قوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ) هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره : وما كان له
عليهم (من سلطان) استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المحقّ من
الشّاكّ .
قوله : «منها»
متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبسببها . وقيل : «من» بمعنى «في». وقيل : هو حال من «شكّ» . وقوله : (مَنْ يُؤْمِنُ) يجوز في «من» وجهان :
أحدهما : أنها
استفهامية فتسدّ مسدّ مفعولي العلم كذا ذكر أبو البقاء . وليس بظاهر ؛ لأن المعنى إلا لنميّز ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) لأنه من نتائجه ولوازمه.
__________________
والثاني : أنها
موصوله وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره.
فصل
قال ابن الخطيب :
إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالما
لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر
فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد فإذا وجد علمه موجودا بذلك العلم وإذا عدم
علمه معدوما كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا
قابلها عمرو يظهر فيها صورته والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما
التغيير في الخارجات فكذلك ههنا .
قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر ، والإيمان من
المؤمن وكان علمه فيه أن سيكفر زيد ويؤمن عمرو قال البغوي : المعنى إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد
كان معلوما عنده بالغيب . وقوله : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ حَفِيظٌ) محقّق ، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم
بما سيقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا
الجاهل .
قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) مفعول «زعمتم» الأول محذوف هو عائد الموصول ، والثاني أيضا
محذوف قامت صفته مقامه أي زعمتموهم شركاء من دون الله ولا جائز أن يكون : (مِنْ دُونِ اللهِ) هو المفعول الثاني ؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كلام لو
قلت : هم من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولو لا قيام الوصف مقامه أيضا لم
يحذف لأنّ حذفه اختصارا قليل على أن بعضهم منعه .
__________________
فصل
لما بين الله
تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه
(الصلاة و) السلام : قل للمشركين (ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل بكم في سنين الجوع ثم وصفها فقال : (لا يَمْلِكُونَ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) من خير وشر ونفع وضر (وَما لَهُمْ) أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض (مِنْ شِرْكٍ) أي شركة (وَما لَهُ) أي وما لله (مِنْهُمْ مِنْ
ظَهِيرٍ) عون .
قوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) اللام في «لمن» فيها أوجه :
أحدها : أن اللام
متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء : وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في
المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول «تنفع» وكلاهما خلاف الأصل .
الثاني : أنه
استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعة لأحد إلّا لمن أذن له
ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكورا
إنما دل عليه الفحوى والتقدير :
لا تنفع الشّفاعة
لأحد من المشفوع لهم إلا لمن أذن له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون
هو الشافع والمشفوع له ليس مذكورا تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن
يشفع وعلى هذا فاللام في «له» لام التبليغ لا لام العلة .
الثالث : أنه
استثناء مفرغ أيضا لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعة إلا
__________________
كائنة لمن أذن له . وقدره الزمخشري فقال : تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه
الشافع كما تقول : الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد
فاحتمل قوله : (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يكون على أحد هذين الوجهين أي لا تنفع الشفاعة إلا
كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تنفع الشّفاعة إلا كائنة لمن أذن له
أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك : «أذن زيد لعمرو» أي لأجله فكأنه قيل :
إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيف وهو الوجه. انتهى . فقوله : «الكرم لزيد» يعني أنها ليست لام العلة بل لام الاختصاص . وقوله : القيام لزيد يعني أنها لام العلة كما هي في : «القيام لزيد» وقوله : «أذن زيد لعمرو» أن
الأولى للتبليغ والثانية لام العلة ، وقرأ الأخوان وأبو عمرو «أذن» مبنيا للمفعول
والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنيا للفاعل أي أذن الله وهو المراد
في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ) [النجم : ٢٦] و (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ).
فصل
معنى الآية إلّا
لمن أذن الله له في الشفاعة قاله تكذيبا لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله
ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له .
قوله : (حَتَّى إِذا) هذه غاية لا بدّ لها من مغيّا وفيه أوجه :
أحدها : أن قوله :
«فاتّبعوه» على أن يكون الضمير في «عليهم» من قوله : (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) وفي «قلوبهم» عائدا على جميع الكفار ويكون التفريغ حالة
مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة إلى يوم القيامة مجازا. والجملة من قوله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) معترضة بين الغاية والمغيا. ذكره أبو حيان. وهو حسن .
والثاني : أنه
محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل : ولا هم شفاء كما تحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون
أي منقادون (حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) انتهى . وجعل الضمير في
__________________
«قلوبهم» عائدا
على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائدا على الكفار أو على جميع العالم.
وقوله : (قالُوا ما ذا) هو جواب «إذا» ، وقوله : (قالُوا الْحَقَّ) جواب لقوله : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) و «الحقّ» منصوب
بقال مضمرة أي قالوا : قال ربّنا الحقّ أي القول الحقّ ، إلّا أنّ أبا حيان ردّ هذا فقال : وما قدّره ابن عطية لا
يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها (و) هم منقادون عنده دائما لا ينفكون عن ذلك لا إذا فزّع عن
قلوبهم ولا إذا لم يفزّع.
الثالث : أنه «زعمتم»
أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق وعلى هذا يكون
في الكلام التفات من خطاب في قوله : «زعمتم» إلى الغيبة في قوله : قلوبهم» .
الرابع : أنه ما
فهم من سياق الكلام ، قال الزمخشري : فإن قلت : بأي شيء اتصل قوله: (حَتَّى إِذا فُزِّعَ)؟ ولأي شيء وقعت «حتّى» غاية؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام
من أن ثمّ انتظارا للأذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن
لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلّا بعد مليّ من الزمان وطول من التّربّص ودل
على هذه الحالة قوله ـ عزّ من قائل ـ (رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) [النبأ : ٣٧] إلى
قوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨]
فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليّا فزعين وجلين حتى إذا فزّع عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين
والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وقال بعضهم
لبعض : ماذا قال ربّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر
فزّع مبنيا للفاعل . فإن كان الضمير في «قلوبهم» للملائكة فالفاعل في «فزع»
ضمير اسم الله تعالى لتقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مغويهم. كذا قال أبو
حيان . والظاهر أنه يعود على الله
__________________
مطلقا وقرأ
الباقون مبنيا للمفعول والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده ، وفعل بالتشديد معناه السلب هنا نحوه «قرّدت البعير» أي
أزلت قرادة كذا هنا أي أزال الفزع عنها أي كشف الفزع وأخرجه عن قلوبهم فالتفزيع
لإزالة الفزع كالتّمريض والتّقريد .
وقرأ الحسن فزع
مبنيا للمفعول مخففا كقولك «ذهب بزيد» ، والحسن أيضا وقتادة ومجاهد فرّغ مشددا مبنيا للفاعل من الفراغ وعن الحسن أيضا تخفيف الراء ، وعنه أيضا وعن ابن عمر وقتادة مبنيا للمفعول والفراغ الفناء والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل أو انتفى
بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مقامه وقرأ ابن
مسعود وابن عمر افرنقع من الافرنقاع وهو التفرق قال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة
مع زيادة العين كما ركب «اقمطرّ» من حروف القمط مع زيادة الراء ، قال أبو حيان : فإن عنى أن العين من حروف الزيادة (وكذا
الراء وهو ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف
الزيادة) وإن عنى أنّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة «فرقع
وقمطر» فهو صحيح انتهى ، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة
اللفظ نص أهل البيان عليها ومثلوا بها وحكي عن عيسى بن عمر أنه غشي عليه ذات يوم فاجتمع عليه النّظّارة فلما
أفاق قال : «ما لي أراكم تكأكأتم عليّ تكأكؤكم على ذي جنّة افرنقعوا عنّي» أي
اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل
هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ
مضمر أي قالوا : قوله الحقّ .
__________________
فصل
اختلفوا في
الموصوفين بهذه الصفة فقيل : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنّما يفزع عن
قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله ـ عزوجل ـ لما روى أبو هريرة أن نبي الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة
بأجنحتها خضعانا» لقوله كأنه سلسلة
على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو
العلي الكبير . وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلّم بالوحي
أخذت السّموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل
السّموات ضعفوا وخرّوا لله سجّدا فيكون أوّل من يرفع رأسه جبريل فيكلّمه من وحيه
بما أراد ثمّ يمرّ جبريل على الملائكة كلّما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال
ربّنا يا جبريل؟ فيقول جبريل الحقّ وهو العليّ الكبير قال : فيقولون كلّهم مثل ما
قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله . وقيل : إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة . قال مقاتل والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد ـ عليهما (الصلاة
و) السلام ـ خمسمائة سنة. وقيل : ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحيا فلما بعث الله محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كلّم جبريل ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بالرسالة إلى
محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمدا ـ عليه (الصلاة
و) السلام ـ عند أهل السموات من أشراط الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام
الساعة فلما انحدر جبريل جعل يمرّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول
بعضهم لبعض : ماذا قال ربّكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل : الموصوف بذلك
المشركون. قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول
الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق
وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار.
__________________
قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فقوله : «الحق» إشارة إلى أنه كامل وقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته.
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ
عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ
الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩)
قُلْ
لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)(٣٠)
قوله (تعالى) : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ
مِنَ السَّماواتِ) المطر «و» من «الأرض» النبات (قُلِ اللهُ) يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت إن رازقكم الله.
قوله : (أَوْ إِيَّاكُمْ) عطف على اسم «إن» وفي الخبر أوجه :
أحدها : أن
الملفوظ به الأول . وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنّا لعلى هدى أو في ضلال
أو إنكم لعلى هدى أو في ضلال.
والثاني : العكس
أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني . وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ). وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعا لأن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما
هذا الكلام جار على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل
الفرض والتقدير ويسميه أهل البيان الاستدراج وهو أن يذكر المخاطب أمرا
يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم
يصغ ، ونظيره قولهم : أخزى الله الكاذب منّي ومنك ومثله قول الآخر :
__________________
٤١٣١ ـ فأيّي ما وأيّك كان شرّا
|
|
فقيد إلى
المقامة لا يراها
|
وقول حسان ـ رضي
الله عنه ـ :
٤١٣٢ ـ أتهجوه ولست له بكفء
|
|
فشرّكما لخيركما
الفداء
|
مع العلم لكل أحد
أنه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ خير خلق الله كلهم.
الثالث : أنه من
باب اللف والنشر والتقدير : وإنّا لعلى هدى وإنّكم لفي ضلال مبين ولكن لفّ
الكلامين وأخرجهما كذلك لعدم اللبس ، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون «أو» بمعنى الواو. وهي مسألة
خلاف ومن مجيء «أو» بمعنى الواو قوله :
٤١٣٣ ـ قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم
|
|
ما بين ملجم
مهره أو سافع
|
وتقدم تقرير هذا ، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة .
__________________
الرابع : قال أبو
حيان : و «أو» هنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين وخبر «إنّا أو إيّاكم» هو (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين
لقولك : «زيد أو عمرو في القصر أو في المسجد» لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد
هذين في أحد هذين .
وقيل : الخبر
محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره ، وهذا الذي ذكره تفسير معنى لا تفسير إعراب. (والناس) نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه . وذكروا في الهدى كلمة «على» وفي الضلال كلمة «في» لأن
المهتدي كأنه مرتفع مطّلع فذكره بكلمة «التعالي» والضال منغمس في الظلمة غريق فيها
فذكره بكلمة «في» .
قوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم : (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.
قوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ
بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر «الفاتح» اسم فاعل.
قوله : (أَرُونِيَ) فيها وجهان :
أحدهما : أنها
علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثة أولها «ياء»
المتكلم ثانيها «الموصول» ، ثالثها : «شركاء» وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم.
والثاني : أنها
بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما : ياء المتكلم وثانيهما :
الموصول و «شركاء» نصب على الحال من عائد الموصول أي بصّروني الملحقين به حال
كونهم شركاء . قال ابن عطية في هذا الثاني «ولا غناء» له أي لا منفعة فيه يعني أن معناه ضعيف . قال أبو حيان: وقوله : «لا غناء له» ليس بجيد بل
__________________
في ذلك تبكيت لهم
وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن
أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك .
فصل
الضمير في «به» أي
بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون؟
كلّا لا يخلقون ولا يرزقون .
قوله : (بَلْ هُوَ اللهُ) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه ضمير
عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هو الله ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان.
والثاني : أنه
ضمير الأمر والشأن و «الله» مبتدأ ، و (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) خبران ، والجملة .. خبر «هو» والعزيز هو
الغالب على أمره ، (و) الحكيم في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه؟
قوله : «كافّة»
فيه أوجه :
أحدها : أنه حال
من كاف «أرسلناك» والمعنى
إلا جامعا للناس في الإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع والهادي لله للمبالغة كهي في «علّامة» و «راوية» قال الزجاج : وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كفّ يكفّ ، قال أبو حيان : أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعا ،
والهاء فيه للمبالغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظا بمعنى «جمع».
يعني أنّ المحفوظ معناه «منع» يقال : كفّ يكفّ أي منع والمعنى إلا مانعا لهم من
الكفر وأن يشذّوا من تبليغك ، ومنه الكف لأنها تمنع ما فيه .
__________________
الثاني : أن كافّة
مصدر جاءت على الفاعلة كالعاقبة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالا إما على المبالغة
وإما على حذف مضاف أي ذا كافّة للنّاس .
الثالث : أن كافة
صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرسالة كافّة قال الزمخشري : إلّا إرسالة عامّة لهم
محيط بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم . قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين
أنها لا تكون إلا حالا ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما
نقلوا ، ولا يحفظ أيضا استعمالها صفة لموصوف محذوف .
الرابع : أن «كافة»
حال من «للنّاس» أي للناس كافة إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال : «ومن جعله حالا
من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة
تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضمّ
إليه أن يجعل اللام بمعنى «إلى» ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني
فيرتكب الخطأين معا» . قال أبو حيان : أما قوله كذا فهو مختلف فيه ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز ، وذهب أبو علي
وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه قال : وهو الصحيح قال : ومن أمثله أبي علي : «زيد خيرا ما يكون خير منك»
التقدير : زيد خير منك خيرا ما يكون فجعل «خيرا ما يكون» حالا من الكاف في «منك»
وقدمها عليها وأنشد :
٤١٣٤ ـ إذا المرء أعيته المروءة ناشئا
|
|
فمطلبها كهلا
عليه شديد
|
__________________
أي فمطلبها عليه
كهلا ، وأنشد أيضا :
٤١٣٥ ـ تسلّيت طرا عنكم بعد بينكم
|
|
بذكراكم حتّى
كأنّكم عندي
|
أي عنكم طرّا ،
وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر :
٤١٣٦ ـ مشغوفة بك قد شغفت وإنّما
|
|
حمّ الفراق فما
إليك سبيل
|
أي قد شغفت بك
مشغوفة وقال الآخر :
٤١٣٧ ـ غافلا تعرض المنيّة للمرء
|
|
فيدعى ولات حين
إباء
|
أي تعرض المنية
للمرء غافلا قال : وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجوز
قال : وممن حمله على الحال ابن عطية فإنه قال : قدمت للاهتمام والمنقول عن
ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافّة . وقول الزمخشري : لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيع
لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى «إلى» لأن «أرسل» يتعدى باللام قال
تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء : ٧٩]
وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضا فقد جاءت اللام بمعنى «إلى» و «إلى» بمعناها .
قال شهاب الدين :
أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيّة وأما كونها
بمعنى «إلى» والعكس فالبصريون لا يتجوّزون في الحروف ، و «بشيرا» و «نذيرا» حالان أيضا.
__________________
فصل
لما بيّن مسألة
التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً) أي الرسالة كافة أي تكف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن
الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم. و
«للنّاس» أي عامة أحمرهم وأسودهم (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي مبشرا ومنذرا تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) ذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «كان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى
النّاس عامّة» .
قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر.
قوله : (لَكُمْ مِيعادُ) مبتدأ وخبر. والميعاد يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر
مضاف لظرفه والميعاد يطلق على الوعد والوعيد. وقد تقدم أن الوعد في
الخير ، والوعيد في الشر غالبا.
الثاني : اسم أقيم
مقام المصدر والظاهر الأول ، قال أبو عبيدة : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى.
الثالث : أنه هنا
ظرف زمان . (قال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا ظرف زمان) ، والدليل عليه (قراءة) من قرأ : ميعاد يوم يعني برفعهما منونين فأبدل منه «اليوم»
وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك : سحق ثوب ، وبعير سانية ، قال أبو حيان : ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون
التقدير : لكم ميعاد ميعاد يوم ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه ، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به ، وجوّز الزمخشري في الرفع وجها آخر وهو الرفع على
__________________
التعظيم يعني على
إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع ، وسيأتي هذا قريبا ، وقرأ ابن أبي عبلة واليزيديّ ميعاد
يوما بتنوين الأول ونصب «يوما» منونا وفيه وجهان :
أحدهما : أنه
منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره : لكم إنجاز وعد في يوم صفته كيت
وكيت.
الثاني : أن ينتصب
بإضمار فعل. قال الزمخشري : وأما نصب «اليوم» فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني
يوما ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم . وقرأ عيسى بتنوين الأول ونصب «يوم» مضافا للجملة بعده . وفيه الوجهان المتقدمان النّصب على التعظيم أو الظّرف.
قوله : (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ) يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة «لميعاد» إن عاد الضمير في
«عنه» عليه أو «ليوم» إن عاد الضمير في «عنه» عليه فيجوز أن يحكم على موضعها
بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في «عنه» على «ميعاد»
لأنهم نصّوا على أنّ الظّرف إذا أضيف إلى جملة لم يعد منها إليه ضمير إلّا في ضرورة كقوله :
٤١٣٨ ـ مضت سنة لعام ولدت فيه
|
|
وعشر بعد ذاك
وحجّتان
|
فصل
تقدم الكلام في
سورة الأعراف أن قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ) [الأعراف : ٣٤]
يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وقد تقدم ،
ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعجال بين أنه لا استعجال فيه كما أنه لا إمهال
وهذا يفيد عظم الأمر ، وخطر الخطب ؛ لأن الأمر الحقير إذا طلبه طالب من غيره لا
يؤخره ولا يوقفه
__________________
على وقت بخلاف
الأمر الخطير والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك : يوم الموت لا
يتأخرون عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص.
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ
الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى
بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ
الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)
قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) لما بين التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكلّ كافرين بين كفرهم العام
بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل وقوله : (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني التوراة والإنجيل وعلى هذا فالمراد «بالذين كفروا» هم
المشركون المنكرون للثواب والحشر. ويحتمل أن يكون المراد بالذين كفروا العموم
ويكون المراد بقوله : (الْقُرْآنِ وَلا
بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أن لا نؤمن بالقرآن أنه من الله (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولا بما فيه من الإخبارات والآيات والدلائل وذلك لأن
أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنّه من الله ولا بالذي فيه من الرّسالة وتفاصيل
الحشر.
فإن قيل : أليس هم
مؤمنين بالوحدانية والحشر؟
فالجواب : إذا لم
يصدق واحد بما في كتاب من الأمور المختصة به يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه وإن
آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون إيمانه لا بما فيه كمن يكذب رجلا فيما يقوله
فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال بأنه صدقه لأنه إنما صدق
نفسه فإنه كان عالما به من قبل وعلى هذا فقوله : (بَيْنَ يَدَيْهِ) الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه .
قوله : (وَلَوْ تَرى) مفعول «ترى» وجواب «لو» محذوفان للفهم أي ولو ترى حال
الظالمين وقت وقوفهم مراجعا بعضهم إلى بعض القول لرأيت حالا فظيعة وأمرا
__________________
منكرا . و «يرجع» حال من ضمير «موقوفون» و «القول» منصوب ب «يرجع»
؛ لأنه يتعدى قال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ) [التوبة : ٨٣]
وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) إلى آخره تفسير لقوله : «يرجع» فلا محلّ له. و «أنتم» بعد «لو
لا» مبتدأ على أصحّ المذاهب ، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرفع بعد «لو لا»
خلافا للمبرد ؛ حيث جعل خلاف هذا لحنا ، وأنه لم يرد إلّا في قول زياد :
٤١٣٩ ـ وكم موطن لولاي ...
|
|
..........
|
وقد تقدم تحقيقه ،
والأخفش جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع . وسيبويه جعله ضمير جر .
فصل
لما وقع اليأس من
إيمانهم في هذه الدار بقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ) فإنه لتأبيد النفي وعد النّبيّ عليه (الصلاة و) السلام ـ بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع
بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال كما يكون عليه حالة
جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض. (يَقُولُ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) استحقروا وهم الأتباع (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة والأشراف (لَوْ لا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي أنتم منعتمونا
__________________
عن الإيمان بالله
ورسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا :
ما جاءنا رسول ولا أن يقولوا : قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئا لما كانوا
يقولون لو لا المستكبرون. ثم أجابهم المستكبرون وهم المتبوعون في الكفر
للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع (أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) يعني المانع ينبغي أن يكون راجحا على المقتضي حتى يعمل عمله والذي جاء به هو الهدى ، والذي صدر من المستكبرين لم
يكن شيئا يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحّ تعلّقكم بالمانع (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراما من حيث إن المعذور
لا يكون معذورا إلا لعدم المقتضي أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما. ثم قال (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) لما قال المستكبرون : إنا صددنا ، وما صدر منا ما يصلح
مانعا وصادفا اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل
والنهار . واعلم أنه يجوز رفع «مكر» من ثلاثة أوجه :
أحدها : الفاعلية تقديره : بل صدّنا مكركم في هذين الوقتين.
الثاني : أن يكون
مبتدأ خبره محذوف أي مكر الليل صدّنا.
الثالث : العكس أي
سبب كفرنا مكركم. وهو المتقدم في التفسير ، وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم : ليل ماكر ، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل
والنهار كقول الشاعر :
٤١٤٠ ـ ..........
|
|
ونمت وما ليل
المطيّ بنائم
|
__________________
فيكون مصدرا مضافا
لمرفوعه ، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافا
لمنصوبه وهذا أحسن من قول من قال : إن الإضافة بمعنى «في» أي في
الليل ، لأن ذلك لم يثبت في (غير) محل النزاع ، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد : ١٦]
وقرأ العامة مكر بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافا لما بعده ، وابن يعمر وقتادة
بتنوين : «مكر» وانتصاب الليل والنهار ظرفين . وقرأ أيضا وسعيد بن جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافا لما بعده أي كرور الليل والنهار ، واختلافهما
، من كرّ يكرّ إذا جاء وذهب ، وقرأ ابن جبير أيضا وطلحة وراشد القاري ـ وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره ـ كذلك إلا
أنه ينصب الراء ، وفيها أوجه :
أظهرها : ما قاله
الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال : «بل تكرون الإغواء مكرا دائما لا تفترون
عنه» .
الثاني : النصب
على الظرف بإضمار فعل أي بل صددتمونا مكرّ الليل والنهار أي دائما.
الثالث : أنه
منصوب «بتأمروننا». قاله أبو الفضل الرازي . وهو غلط ؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله إلا في مسألة واحدة وهي «غير» إذا كانت بمعنى «لا» كقوله :
__________________
٤١٤١ ـ إنّ امرءا خصّني عمدا مودّته
|
|
على التّنائي
لعندي غير مكفور
|
وتقدم تقرير هذا
آخر الفاتحة ، وجاء قوله : (قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) بغير عاطف ؛ لأنه جواب لقول الضّعفة فاستؤنف بخلاف قوله : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) فإنه لم يكن جوابا لعطف ، والضمير في (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) للجميع للأتباع والمتبوعين.
فصل
لما اعترف
المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما
أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد
وامتداد المدد فكفرنا فكان قولكم جزءا لسبب وقولهم (إِذْ تَأْمُرُونَنا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) أي ننكره (وَنَجْعَلَ لَهُ
أَنْداداً) هذا يبين أن المشرك بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في
الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمنا به.
فصل
قوله أولا يرجع
بعضهم إلى بعض القول يقول الّذين استضعفوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين
الأخيرتين : «وقال (الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) ، وقال (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة
إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] وأما
الاستقبال فعلى الأصل.
قوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ) أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون
ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل : معنى الإسرار الإظهار وهو من الأضداد أي
أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله
بقولهم أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرّوا ذلك
القول ، وقوله : (وَجَعَلْنَا
الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الأتباع والمتبوعين جميعا في النار ، وهذا إشارة إلى
كيفية عذابهم (هَلْ يُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي في الدنيا.
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي
__________________
تُقَرِّبُكُمْ
عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ
الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ
يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)
قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أغنياؤها ورؤساؤها ، وقوله: (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) جملة حالية من «قرية» وإن كانت نكرة لأنها في سياق النفي . قوله : (بِما أُرْسِلْتُمْ) متعلق بخبر «إنّ» و «به» متعلق بأرسلتم ، والتقدير : إنا
كافرون بالذي أرسلتم به. وإنما قدم للاهتمام وحسنه تواخي الفواصل . وهذا تسلية لقلب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن إيذاء الكفار للأنبياء ليس بدعا بل ذلك عادة جرت من
قبل ، وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضا قالوا ذلك القول لأن
المترفين هم الأصل في ذلك القول كقول المستضعفين للذين استكبروا : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال
والأولاد فقالوا (نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوالاً وَأَوْلاداً) أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضيا بما نحن عليه
من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا. ثم إن
الله تعالى بيّن خطأهم بقوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني أنّ الرزق في الدنيا لا يدل سعته وضيقه على حال المحق
والمبطل فكم من موسر شقي ومعسر تقيّ فقوله : (وَيَقْدِرُ) أي يضيّق بدليل مقابلته «يبسط» . وهذا هو الطباق البديعيّ . وقرأ الأعمش : ويقدّر بالتشديد ثم قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن قلة الرزق وضيق العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة
من غير اختصاص بالفاسق والصالح. ثم بين فساد استدلالهم بقوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) يعني إن قولكم نحن أكثر أموالا وأولادا فنحن أحسن حالا
__________________
عند الله ليس
استدلالا صحيحا فإن المال لا يقرب إلى الله وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان
وذلك أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال
على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئا حصل ؟
قوله : (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ) صفة للأموال والأولاد ، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل
معاملة المؤنثة الواحدة ، وقال الفراء والزجاج إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وما
أموالكم بالّتي تقرّبكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالّتي تقرّبكم وهذا لا حاجة إليه
أيضا. ونقل عن الفراء ما تقدم من أن «التي» صفة للأموال والأولاد معا وهو الصحيح وجعل الزمخشري «التي» صفة لموصوف محذوف قال : «ويجوز أن
يكون هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليست أموالكم
ولا أولادكم بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب». قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف . قال شهاب الدين : والحاجة إليه بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعية ، و «زلفى» مصدر من
معنى الأول ، إذ التقدير تقرّبكم قربى ، وعن الضحاك زلفا بفتح اللام وتنوين الكلمةعلىأنها جمع «زلفى» نحو قربة وقرب ، جمع المصدر لاختلاف أنواعه وقال الأخفش : «زلفى» اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تقريبا .
__________________
قوله : (إِلَّا مَنْ) فيه أوجه :
أحدها : أنه
استثناء منقطع فهو منصوب المحل والمعنى لكن من آمن وعمل صالحا ، قال ابن
عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي .
الثاني : أنه في
محل جر بدلا من الضمير في : «أموالكم» قاله الزجاج . وغلّطه النّحّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو
جاز هذا لجاز : رأيتك زيدا ، وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء انتهى . قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من
ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ
الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : ما زيد بالّذي يضرب إلّا خالدا لم يجز.
وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز
إلا أن يصح التفريغ له . قال شهاب الدين : ومنعه قولك «ما زيد بالّذي يضرب إلّا خالدا»
فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحبا على الجملة أعطى حكم ما لو باشر ذلك الشيء ألا
ترى أن النفي في قولك : «ما ظننت أحدا يفعل ذلك إلّا زيد» سوغ البدل في زيد من
ضمير «يفعل» وإن لم يكن النفي متسلطا عليه وقالوا ولكنه لما كان في حيّز النفي صح
فيه ذلك فهذا مثله والزمخشري
أيضا تبع الزجاج والفراء في ذلك من حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلا بل منصوبا
على أصل الاستثناء فقال: (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من «كم» في «نقرّب» والمعنى أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الذي ينفقها
في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علّمهم الخير وفقّههم في الدّين
ورشّحهم للصّلاح . ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز : «ما زيد
بالّذي يخرج إلّا أخوه» ، و «ما زيد بالّذي يضرب إلّا عمرا» . والجواب عنه ما تقدم وأيضا فالزمخشري لم يجعله بدلا بل
استثناء صريحا ، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي
__________________
بل الإسناد
المعنوي ألا ترى أنك تقول : قام القوم إلّا زيدا ولو فرغته لفظا لامتنع لأنه مثبت
وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة . الرابع : أنّ (مَنْ آمَنَ) في محلّ رفع على الابتداء والخبر .
قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلّا من
آمن ، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله. قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافا على أنه مصدر مضاف لمفعوله
، أي أن يجازيهم الضّعف وقدره الزمخشري مبنيا للمفعول أي يجزون الضّعف . ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه . وقرأ قتادة برفعها على إبدال الضّعف من «جزاء» . وعنه أيضا وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منونا والعامل
فيها الاستقرار . وهذه كقوله : (فَلَهُ جَزاءً
الْحُسْنى) ، فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف.
قوله : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) قرأ حمزة الغرفة بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل
أحد غرفة تخصه وقد أجمع على التوحيد في قوله : (يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ) [الفرقان : ٧٥] ، ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع
أمن اللبس والباقون «الغرفات» جمع سلامة وقد أجمع على الجمع في قوله : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨] والرسم محتمل للقراءتين. وقرأ الحسن بضم
راء غرفات على الإتباع وبعضهم يفتحها
__________________
وتقدم تحقيق ذلك
أول البقرة . وقرأ ابن وثاب الغرفة بضم الراء والتوحيد .
فصل
والمعنى يضعف الله
حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرة إلى سبع مائة لأن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي
السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال : (وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) إشارة إلى دوامها وتأبيدها. ثم بين حال المسيء فقال : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ) أي يسعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم
يعجزوننا ويفوتوننا. وقد تقدم تفسير: (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ
مُحْضَرُونَ). وهذا إشارة إلى الدوام أيضا كقوله : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٦].
ثم قال مرة أخرى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا بل الصالحون
قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعم في العقبى بناء على الوعد قطعا
لقول من يقول : إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص
بكم فإن كثيرا من الأشقياء مدفوعون وكثيرا من الأتقياء ممنوعون ، ولهذا المعنى ذكر
هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالة على حسن أحوالهم
ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إن سلّمنا
أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على
ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولا لمن يشاء من عباده بل قال : لمن يشاء. وقال ثانيا
: لمن يشاء من عباده فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما
المؤمن فما ينفقه يخلفه الله. قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ) يجوز أن تكون ما موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر قوله (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ودخلت الفاء لشبهه بالشرط ، و (مِنْ شَيْءٍ) بيان كذا قيل. وفيه نظر ؛ لإبهام شيء فأي (تبيين) فيه؟ ويجوز أن تكون «ما» شرطية فيكون في محل نصب مفعولا
مقدما و (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) جواب الشرط .
__________________
فصل
المعنى : وما
أنفقتم من شيء فهو يخلفه أي يعطي خلفه قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسراف ولا
تقتير فهو يخلفه ، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من
نفقة فهو (ينفقه) ويخلفه على المنفق إما أن يعجّل له في الدنيا وإما أن يدّخر له
في الآخرة . (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) خير من يعطي ويرزق ، روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنّ الله قال : «أنفق أنفق عليك» وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «ما من يوم يصبح فيه العباد إلّا وينزل (فيه)
ملكا (ن) فيقول أحدهما : اللهمّ أعط منفقا خلفا ويقول الآخر :
اللهمّ أعط ممسكا تلفا». وإنما جمع الرازقين من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق
للكل في الحقيقة إنما هو الله ، واعلم أنّ خير الرازقين يكون لأمور أن لا يؤخر في
وقت الحاجة وأن لا ينقص من قدر الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يكدّره بطلب
الثواب والله تعالى كذلك.
فإن قيل : قوله : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ينبىء عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلّا الله.
فالجواب : أن يقال
: الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤]
وأيضا فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم
أنه واحد ، والعبد يعلم أنه واحد حقيقة ومنها ما يقال لله حقيقة وللعبد مجازا مثل
الرزّاق والخالق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئا فالله هو المعطي في
الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سمّي معطيا وهذا منه .
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ
بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا
يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ
يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ
__________________
آباؤُكُمْ
وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ
لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ
مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٥)
قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ
يَقُولُ) وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء في الأنعام.
قوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا
يَعْبُدُونَ) إياكم منصوب بخبر «كان» قدم لأجل الفواصل والاهتمام . واستدل به على جواز تقديم خبر «كان» عليها إذا كان خبرها
جملة فإن فيه خلافا جوزه ابن السراج ، ومنعه غيره . وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة. قال ابن السّرّاج :
القياس جوازه لكن لم يسمع .
قال شهاب الدين :
قد تقدم في قوله : (ما كانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [الأعراف : ١٩] ونحوه
أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون. ووجه الدلالة هنا أن تقديم المعمول
مؤذن بتقديم العامل. وتقدم تحقيق هذا في «هود» في قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] (و) وضع
هذه القاعدة.
فصل
لما بين أن حال
النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني المكذبين بك (ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ) الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتقي إليه منزلتهم أنهم يقولون :
__________________
نحن نعبد الملائكة
والكواكب قال قتادة : هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦]
فيقول (أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ
كانُوا يَعْبُدُونَ) فتتبرأ منهم الملائكة فيقولون : «سبحانك» تنزيها لك (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى
وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ) أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن (كنا) كالقبلة لهم.
فإن قيل : فهم
كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل : أراد أن الشياطين زينوا
لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله : «يعبدون»
أي يطيعون الجن والعبادة هي الطاعة (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ
مُؤْمِنُونَ) أي مصدّقون الشياطين.
فإن قيل : جميعهم
كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله : (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ) فإنه يدل على أنّ بعضهم لم يؤمن بهم ولم يطعهم؟
فالجواب من وجهين
:
أحدهما : أن
الملائكة أحتزوا عن (دعوى) الإحاطة بهم فقالوا : أكثرهم لأنّ الّذين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجنّ ويؤمنون بهم ولعلّ في
الوجود من لم يطلع الله الملائكة عليه من الكفار.
الثاني : هو أن
العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاطّلاعهم على أعمالهم
وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في
القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [هود : ٥].
ثم بين أن ما
كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال : (فَالْيَوْمَ لا
يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة لسبق قوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ
كانُوا يَعْبُدُونَ) وعلى هذا يكون تنكيلا للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا
ينفعهم ولا يضر. ويصحح هذا قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).
ولقوله بعده : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا) ولو كان المخاطب هم الكفار لقال :
__________________
«فذوقوا» ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) أي الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيركم ،
ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا
فقوله (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا) إنما ذكره تأكيدا لبيان حالهم في الظلم.
فإن قيل : قوله «نفعا»
مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين
ذلك؟
فالجواب : لما كان
العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبّار ، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس
فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
فإن قيل : قوله
ههنا : (الَّتِي كُنْتُمْ
بِها) صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار
وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟
فالجواب : قيل :
لأنهم هناك كانوا ملتبسين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ٢٠] فوصف لهم ما لابسوه وهنا لم يلابسوه بعد
لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم : هذه النار التي كنتم
بها تكذبون .
قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا) يعنون محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (إِلَّا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) فعارضوا البرهان بالتقليد (وَقالُوا ما هذا
إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) يعنون القرآن وقيل : القول بالوحدانية (إِفْكٌ مُفْتَرىً) كقوله تعالى في حقهم : (أَإِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات : ٨٦]
وكقولهم للرسول : (أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) [الأحقاف : ٢٢]
وعلى هذا فيكون قوله : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بدلا وقالوا للحقّ لمّا جاءهم ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصا
بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقا عليه بين المشركين وأهل الكتاب
فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِّ) على العموم .
قوله : (وَما آتَيْناهُمْ) يعني هؤلاء المشركين (مِنْ كُتُبٍ
يَدْرُسُونَها) العامة على
__________________
التخفيف مضارع «درس»
مخففا أي حفظ وأبو حيوة يدرّسونها بفتح الدال مشددة وكسر الراء والأصل «يدترسونها» من الادّراس على الافتعال فأدغم ، وعنه
أيضا بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء من التّدريس . والمعنى يقرأونها وقوله : (وَما أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ) أي إلى هؤلاء المحاضرين لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبلك نبي ولا نزل عليهم
كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك ، فلا تعارض بينه وبين قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] إذ
المراد هناك آثار النذير. ولا شك أن هذا كان موجودا يذهب النبي وتبقى شريعته ، ثم
بين أنهم كالذين من قبلهم كذّبوا مثل عاد وثمود وغيرهم.
قوله : (وَما بَلَغُوا) الظاهر أن الضمير في «بلغوا» وفي «آتيناهم» للّذين من
قبلهم ليناسق قوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المنّة (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) من النعم والإحسان إليهم . وقيل : بل ضمير الرفع لقريش والنصب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أكثر أموالا ، وقيل
: بالعكس على معنى إنا أعطينا قريشا من الآيات والبراهين ما لم نعط من قبلهم . واختلف في المعشار فقيل : هو بمعنى العشر بني مفعال من
لفظ العشر كالمرباع ، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال : مسداس ولا مخماس ، وقيل : هو عشر العشر ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال : ليس بشيء ، وقال الماورديّ : المعشار هنا عشر العشير ، والعشير هو عشر العشر
__________________
فيكون جزءا من ألف
قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل .
فصل
المعنى أن هؤلاء
المشركين ما بلغوا معشار ما أعطينا الأمم الخالية من النّعمة والقوة وطول العمر فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقيل :
المراد وكذّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من
قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان وذلك لأن كتاب محمد ـ عليهالسلام ـ أكمل من سائر الكتب وأوضح ومحمد ـ عليهالسلام ـ أفضل من جميع الرسل وأفصح وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ،
ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم
فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرّسل وأوضح السّبل ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ
يَدْرُسُونَها) يعني غير القرآن ما آتيناهم كتابا (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
مِنْ نَذِيرٍ) فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية
الثانية على إيتاء الكتاب أولى.
قوله : (فَكَذَّبُوا) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
معطوف على (كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ).
والثاني : أنه
معطوف على (وَما بَلَغُوا). وأوضحهما الزمخشري فقال : «فإن قلت: ما معنى «فكذبوا رسلي»
وهو مستغنى عنه بقوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ)؟ قلت : لما كان معنى قوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل
سببا عنه ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويجوز أن يعطف على قوله : (وَما بَلَغُوا) كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضّل عليه» و «نكير» مصدر
مضاف لفاعله أي إنكاري وتقدم حذف يائه وإثباتها.
__________________
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي
إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠)
قوله : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة
فقال : (أَنْ تَقُومُوا
لِلَّهِ) أي لأجل الله.
قوله : (أَنْ تَقُومُوا) فيه أوجه :
أحدها : أنها
مجرورة المحل بدلا من «واحدة» على سبيل البيان. قاله الفارسي .
الثاني : أنها عطف
بيان «لواحدة» قاله الزمخشري . وهو مردود لتخالفها تعريفا وتنكيرا ، وقد تقدم هذا عند
قوله : (فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧].
الثالث : أنها
منصوبة بإضمار «أعني» .
الرابع : أنها
مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا ، و (مَثْنى وَفُرادى) حال . وتقدم تحقيق القول في «مثنى» وبابه في سورة النّساء ، ومضى القول في «فرادى» في الأنعام ، ومعنى «مثنى» أي اثنين اثنين ، و «فرادى» واحدا واحدا.
ثم قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) عطف على (أَنْ تَقُومُوا) أي قيامكم ثم تفكّركم ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية
ثم يبتدىء : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ). وقال مقاتل : تم الكلام (عند) قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك
له .
__________________
قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ). وفي «ما» هذه قولان :
أحدهما : أنها
نافية .
والثاني : أنها
استفهامية لكن لا يراد به حقيقة الاستفهام فيعود إلى النفي. وإذا
كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تتفكّروا»
لأنه فعل تحقيق كتبيّن وبابه؟ ثلاثة أوجه نقل الثّالث ابن عطية . وربما نسبه لسيبويه ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها
الوجهان الأولان دون الثالث و (مِنْ جِنَّةٍ) يجوز أن يكون فاعلا بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ ، ويجوز في «ما» إذا كانت نافية أن تكون الحجازيّة أو
التّميميّة .
قوله : (مَثْنى وَفُرادى) إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره
فيدخل في قوله «مثنى» وإن كان وحده دخل في قوله : «فرادى» فكأنه قال : تقوموا لله
مجتمعين ومنفردين لا يمنعكم الجمعيّة من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين
يعينكم على ذكر الله ، ثم تتفكروا في حال محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة» جنون. وليس المراد من
القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القيام بالأمر الذي هو طلب الحق كقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧].
قال ابن الخطيب : وقوله : (بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ) يفيد كونه رسولا وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة
أن يكون رسولا ، لأن النبي ـ عليهالسلام ـ كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر
من النبي ـ عليهالسلام ـ بواسطة الجن بل بقدرة الله من غير واسطة وعلى
__________________
التقديرين فهو
رسول الله وهذا من أحسن الطّرق ، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في
البشر بنفي أخسّ الصفات فإنه لو قال أولا هو رسول كانوا يقولون فيه النّزاع فإذا
قال: ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك ، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه ،
فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) يعني إما هو به جنّة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة
فهو نذير. وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ
شَدِيدٍ) إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يمسّكم
عن قريب .
قوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) في «ما» وجهان :
أحدهما : أنها
شرطية فيكون مفعولا مقدما و (فَهُوَ لَكُمْ) جوابها .
والثاني : أنها
موصولة في محل رفع بالابتداء والعائد محذوف أي سألتكموه والخبر : (فَهُوَ لَكُمْ) ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم
يسألهم أجرا البتة كقولك : إن أعطيتني شيئا فخذه مع عملك أي لم يعطك شيئا وقول
القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ويحتمل أنه سألهم شيئا نفعه عائد عليهم وهو المراد بقوله :
(إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
قوله : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) يجوز أن يكون (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) مفعوله محذوفا لأن القذف في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضا
عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالحقّ» أي بسبب الحق أو ملتبسا بالحق.
ويجوز أن يكون التقدير يقذف الباطل بالحقّ أي يدفعه ويطرحه ، كقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) [الأنبياء : ١٨].
ويجوز أن يكون الباء زائدة أي نلقي الحقّ ، كقوله : (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] أو
تضمن «يقذف» معنى يقضي ويحكم ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحصاة أو الكلام .
__________________
قال المفسرون :
معناه نأتي بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء .
قوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) العامة على رفعه وفيه أوجه :
أظهرها : أنه خبر (ثان)
ل «إنّ» أو خبر لمبتدأ مضمر أو بدل من الضمير في «يقذف» أو نعت له على رأي الكسائي ؛ لأنه يجيز نعت الضمير الغائب.
وقد صرح به هنا وقال الزمخشري : رفع على محل إنّ واسمها ، أو على المستكنّ
في «يقذف» يعني بقوله محمول على محل إنّ واسمها يعني به النعت إلا أن
ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند
بعضهم. ويريد بالحمل على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك
انفرد به الكسائي ، وقرأ زيد بن عليّ وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب
نعتا لاسم إنّ أو بدلا منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على المدح. وقرىء الغيوب بالحركات الثلاث في الغين. فالضم
والكسر تقدما في «بيوت» وبابه. وأما الفتح
__________________
صيغة مبالغة
كالشّكور والصّبور وهو الشيء الغائب الخفيّ .
فصل
قال ابن الخطيب في
يقذف بالحق وجهان :
أحدهما : نقذف
بالحق في قلوب المحقين. وعلى هذا تعلّق الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي
ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا
نَذِيرٌ) وأكده بقوله: (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما حكى عنهم قولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ذكر ما
يصلح جوابا لهم فقال : (قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) في القلوب (إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء ثم
قال : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من فعل شيئا
كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالما وإنما ذلك فعل اتفاقا ، كما يصيب السهم موضعا دون غيره مع تسوية المواضع
في المحاذاة ، فقال : «بالحقّ» كيف شاء وهو عالم بما يفعله (دعاكم) بعواقب ما يفعله إذ هو علّام الغيوب فهو كما يريد لا كما
يفعل الهاجم الغافل عن العواقب.
الوجه الثاني : أن
المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة قال : (إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي يبلي باطلكم. وعلى هذا الوجه فقوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة
وأما الحشر فلا برهان على وقوعه إلا إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولو لا بيان الله
بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال : (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد
والنبوة. ثم قال : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها فهو لا خلف فيه فإن الله علام الغيوب. وتحتمل الآية وجها آخر وهو أن يقال : (رَبِّي يَقْذِفُ
بِالْحَقِّ) أي ما
__________________
يقذفه يقذفه بالحق
لا بالباطل. والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على
الوجهين الأولين وعلى هذا الباء في قوله : «بالحق» كالباء في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦] والمعنى
على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.
قوله : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ) يعني القرآن. وقيل : التوحيد والحشر ، وكلّ ما ظهر على
لسان النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام. وقيل : المعجزات الدالة على نبوة محمد ـ عليه (الصلاة
و) السلام ـ وقيل : المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلّ ما جاء فقد ظهر.
قوله : (وَما يُبْدِئُ) يجوز في «ما» أن تكون نفيا ، وأن تكون استفهاما ، ولكن يؤول معناها إلى النفس ، ولا مفعول «ليبدىء» ولا «ليعيد»
؛ إذ المراد لا يوقع هذين الفعلين كقوله :
٤١٤٢ ـ أقفر من أهله عبيد
|
|
أصبح لا يبدي
ولا يعيد
|
وقيل : مفعوله
محذوف أي ما يبدىء لأهله خبرا ولا يعيده ، وهو تقدير الحسن . والمعنى : ذهب الباطل ووهن فلم يبق منه بقية يبدي شيئا أو
يعيد. وهو كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ). وقال قتادة : الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليس أحدا
ابتداء ولا يبعثه. وهو (قول) مقاتل والكلبيّ ، وقيل : الباطل الأصنام .
قوله : (إِنْ ضَلَلْتُ) العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن
__________________
بنقل الساكن
قبلها. وابن وثاب بالعكس وهو لغة تميم . وتقدم ذلك .
فصل
قال المفسرون : إن
كفار مكة كانوا يقولون : إنك ضللت حتى تركت دين آبائك ، فقال الله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ
عَلى نَفْسِي) أي إثم ضلالي على نفسي (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ
فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) من القرآن والحكمة (إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ).
قوله : (فَبِما يُوحِي) يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي ، وأن تكون
موصولة أي بسبب الذي يوحيه فعائده محذوف . وقوله «سميع» أي يسمع إذا ناديته واستعنت به عليكم قريب
يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدّاعي .
قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ
وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا
بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا
بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا
فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)
قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) قال قتادة : عند البعث حتى يخرجوا من قبورهم (فَلا فَوْتَ) أي فلا تفوتوني كقوله : (وَلاتَ حِينَ). وقيل : إذ فزعوا عند الموت فلا نجاة ، و (لَوْ تَرى) جوابه محذوف ؛ أي (جوابه) ترى عجبا .
قوله : (فَلا فَوْتَ) العامة على بنائه على الفتح و «أخذوا» فعلا ماضيا مبنيا
للمفعول معطوفا على «فزعوا» .
__________________
وقيل : على معنى :
(فَلا فَوْتَ) أي فلم يفوتوا وأخذوا ، وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم ، وطلحة فلا فوت وأخذ مرفوعين منونين ، وأبيّ يفتح «فوت» ، ورفع «أخذ» ، فرفع «فوت» على الابتداء أو على اسم لا الليسية ، ومن رفع «وأخذ» رفعه بالابتداء والخبر محذوف أي وأخذ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وحالهم أخذ. ويكون
من عطف الجمل مثبتة على منفية.
قوله : (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال الكلبي : من تحت أقدامهم. وقيل : أخذوا من بطن الأرض
إلى ظهرها. وحيث ما كانوا فهم من الله قريب لا يفوتونه. وقيل : من مكان قريب يعني
عذاب الدنيا. قال الضحاك : هو يوم بدر. وقال ابن أبزى : خسف بالبيداء . وجواب (لَوْ تَرى) محذوف أي لرأيت أمرا يعتبر به.
قوله : (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي عند اليأس. والضمير في «به» لله أو للرسول ، أو للقرآن أو للعذاب أو للبعث و (أَنَّى لَهُمُ) أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظّفر بالمطلوب وذلك لا
يكون إلّا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة .
فإن قيل : فكيف
قال في كثير من المواضع : إنّ الآخرة من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال
: (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ) [القمر : ١] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧].
__________________
فالجواب : أن
الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون ؛ إذ لا وصول إليه والمستقبل وإن كان بينه
وبين الحاضر سنين فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيّها ويوم القيامة في
الدنيا قريب لإتيانه.
قوله : «التّناوش»
مبتدأ و «أنّى» خبره ، أي كيف لهم التناوش و «لهم» حال ، ويجوز أن يكون «لهم»
رافعا للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد ، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو ، وأبي بكر وبالواو في قراءة غيرهم ، فيحتمل أن يكونا مادتين
مستقلتين مع اتّحاد معناهما ، وقيل : الهمزة عن الواو لانضمامها كوجوه وأجوه ، ووقّتت
وأقّتت وإليه ذهب جماعة كثيرة كالزّجّاج والزّمخشري وابن عطية والحوفي وأبي البقاء ، قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار
، وتابعه الباقون قريبا من عبارته. وردّ أبو حيان هذا الإطلاق وقيده بأنه لا
بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزا من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل
فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو : ترهوك ترهوكا ، وتعاون تعاونا. وهذا
القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في : «تناوش يتناوش» ، ومتى سلم له هذان القيدان
أو الأخير منهما ثبت رده . والتّناوش الرجوع ، قال :
٤١٤٣ ـ تمنّى أن تئوب إليّ ميّ
|
|
وليس إلى
تناوشها سبيل
|
__________________
أي إلى رجوعها.
وقيل : هو التناول يقال : ناش كذا أي تناوله ومنه تناوش القوم بالسّلاح كقوله :
٤١٤٤ ـ ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه
|
|
لله أرحام هناك
تشقّق
|
وقال آخر :
٤١٤٥ ـ وهي تنوش الحوض نوشا من علا
|
|
نوشا به تقطع
أجواز الفلا
|
وفرق بعضهم بين
المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير. وقال الفراء : من نأشت أي تأخّرت. وأنشد :
٤١٤٦ ـ تمنّى نئيشا أن يكون مطاعنا
|
|
وقد حدثت بعد
الأمور أمور
|
وقال آخر :
٤١٤٧ ـ قعدت زمانا عن طلابك للعلا
|
|
وجئت نئيشا بعد
ما فاتك الخير
|
وقال الفراء أيضا
: هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذمت الشيء وذأمته أي عبته وانتاش انتياشا كتناوش وقال :
٤١٤٨ ـ كانت تنوش العنق انتياشا
__________________
وهذا مصدر على غير
المصدر ، و (مِنْ مَكانٍ) متعلق بالتّناوش.
فصل
المعنى كيف لهم
تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريبا في الدنيا فضيّعوه وهذا على
قراءة من لم يهمز وأما من همز فقيل معناه هذا أيضا. وقيل : التناوش بالهمز من
النّيش وهي حركة في إبطاء ، يقال : جاء نيشا أي مبطئا متأخرا والمعنى من أين لهم
الحركة فيما لا حيلة لهم فيه .
قال ابن عباس :
يسألون الرد فيقال : وأنّى لهم الردّ إلى الدنيا (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من الآخرة إلى الدنيا .
قوله : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) جملة حالية. وقوله «به» أي بالقرآن. وقيل : بالله أو محمد
ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ.
وقيل : بالعذاب أو
البعث. و «من قبل» أي من قبل نزول العذاب. وقيل : من قبل أن عاينوا أهوال القيامة ، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر.
قوله : (وَيَقْذِفُونَ) يجوز فيها الاستئناف والحال ، وفيه بعد. عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت . وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو : ويقذفون مبنيا
للمفعول أي يرجمون بما يسوؤهم من جزاء أعمالهم من حيث لا يحتسبون.
__________________
فصل
ويقذفون قال مجاهد
: يرمون محمدا صلىاللهعليهوسلم بالظنّ لا باليقين وهو قولهم : ساحر وشاعر وكاهن. ومعنى
الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى
يرمون محمدا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون.
وقال قتادة : «أي
يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار» .
قوله : «وحيل»
تقدم فيه الإشمام والكسر أول البقرة. والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو
أي الحول ولا تقدره مصدرا مؤكدا بل مختصا حتى يصح قيامه ، وجعل الحوفيّ القائم مقام الفاعل «بينهم» . واعترض عليه بأنه كان ينبغي أن يرفع. وأجيب عنه بأنه إنما بني على الفتح لإضافته
إلى غير متمكّن. ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن
مطلقا ، فلا يجوز : قام غلامك ولا مررت بغلامك بالفتح . قال شهاب الدين : وقد تقدم في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) ما يغني عن إعادته . ثم قال أبو حيان : وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :
٤١٤٩ ـ ..........
|
|
وقد حيل بين
العير والنّزوان
|
فإنه نصب «بين»
مضافة إلى معرب . وخرّج أيضا على ذلك قول الآخر :
٤١٥٠ ـ وقالت متى يبخل عليك ويعتلل
|
|
يسؤك (و) إن
يكشف غرامك تدرب
|
__________________
أي يعتلل هو أي
الاعتلال .
قوله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما
يَشْتَهُونَ) يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا. وقيل : نعيم
الدنيا وزهرتها ، (كَما فُعِلَ
بِأَشْياعِهِمْ) بنظرائهم ومن كان (على) مثل حالهم من الكفار. (مِنْ قَبْلُ) لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ) من البعث ونزول العذاب بهم ، و (مِنْ قَبْلُ) متعلق «بفعل» أو «بأشياعهم» أي (الذين) شايعوهم قبل ذلك الحين.
قوله : «مريب» قد
تقدم أنه اسم فاعل من أراب أي أتى بالريب أو دخل فيه وأربته أوقعته في الرّيب. ونسبة
الإرابة إلى الشك مجازا .
وقال الزمخشري هنا
إلا أن ههنا فريقا وهو أن المريب من المتعدي منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر ... وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن
يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب. وقول ابن عطية
الشك المريب : أقوى ما يكون من الشك وأشدّه ،
__________________
وتقدم تحقيق الريب
أول البقرة ، وتشينع الراغب على من يفسره بالشكّ ، والله أعلم.
روى أبو أمامة عن
أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له
رفيقا ومصافحا .
(صدق نبي الله
وحبيب الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ) .
__________________
سورة الملائكة
(عليهمالسلام)
مكية وهي ست وأربعون آية وسبع مائة وسبع وتسعون كلمة وثلاثة
آلاف ومائة وثلاثون حرفا.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ
بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا
النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٥)
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر. ونعم
الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء.
قوله : «فاطر» إن
جعلت إضافة محضة كان نعتا «لله» وإن جعلتها غير محضة كان بدلا. وهو قليل ، من حيث
إنه مشتق ، وهذه قراءة العامة. والزّهريّ والضحاك : «فطر» فعلا
ماضيا وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها صلة
لموصول محذوف أي الّذي فطر. كذا قدره أبو (حيان) وأبو
__________________
الفضل ، ولا يليق
بمذهب البصريين لأن حذف الموصول الاسمي لا يجوز ، وقد تقدم هذا الخلاف مستوفى في البقرة.
الثاني : أنه حال
على إضمار «قد». قاله أبو الفضل أيضا .
الثالث : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي هو فطر . وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال : «وقرىء
الذي فطر وجعل» ، فصرح بالموصول .
فصل
معنى فاطر السموات
والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. قاله ابن عباس . وقيل : فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض. ويدل عليه قوله تعالى :
(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً) ، فإن في ذلك اليوم تكون الملائكة رسلا .
قوله : «جاعل»
العامة أيضا على جره نعتا أو بدلا ، والحسن بالرفع والإضافة . وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنّه لم ينون ونصب الملائكة ، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين
كقوله:
٤١٥١ ـ ..........
|
|
ولا ذاكر الله
إلّا قليلا
|
__________________
وابن يعمر وخليد
بن نشيط «جعل» فعلا ماضيا
بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ) [الأنعام : ٩٦].
والحسن وحميد رسلا بسكون السين وهي لغة تميم. وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أو بمعنى
خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن
جاعلا غير ماض أما إذا كان ماضيا تعين أن ينتصب بإضمار فعل .
وتقدم تحقيق ذلك
في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال ، و (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) صفة لأجنحة و «أولي» صفة لرسلا .
وتقدم تحقيق
الكلام في مثنى وأختيها في سورة النساء . قال أبو حيان وقيل : أولي أجنحة معترض و «مثنى» حال
والعامل فعل محذوف يدل عليه رسلا أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع . وهذا لا يسمى اعتراضا لوجهين :
أحدهما : أن «أولي»
صفة لرسلا والصفة لا يقال فيها معترضة.
والثاني : أنها
ليست حالا من «رسلا» (بل) من محذوف فكيف يكون ما قبله معترضا؟ ولو جعله حالا من
الضمير في «رسلا» لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء
__________________
ويكون الاعتراض
بالصفة مجازا من حيث إنه فاصل في الصورة .
قوله : «يزيد»
مستأنف . و «ما يشاء» هو المفعول الثاني للزّيادة. والأول لم يقصد
فهو محذوف اقتصارا لأن قوله في الخلق يغني عنه .
فصل
قال قتادة ومقاتل
: أولي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة ، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها
ما يشاء وهو قوله : (يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال (عبد الله) بن مسعود في قوله عزوجل : (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨]. قال
: رأى جبريل في صورته له ستّمائة جناح. «قال ابن شهاب في قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال : حسن الصوت . وعن قتادة : هو الملاحة في العينين . وقيل : هو العقل والتمييز (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر
وقال : (ما يَفْتَحِ اللهُ) يعني إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعث له عليها.
وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه :
أحدها : التقديم
حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.
وثانيها : أنه
أنّث الكناية فقال : (فَلا مُمْسِكَ لَها). ويجوز من حيث العربية أن يقال : «له» عودا إلى «ما» ولكن
قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فهي واصلة إلى من رحمته وقال
عند الإمساك : (وَما يُمْسِكْ فَلا
مُرْسِلَ لَهُ) بالتذكير ولم يقل «لها» فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل
ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة ، فإن قوله (تعالى) : (وَما يُمْسِكْ) عامّ من غير بيان وتخصيص.
وثالثها : قوله من
بعده أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال : «لامرسل له إلا الله» وعند الإمساك قال :
(فَلا مُمْسِكَ لَها) ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمهالله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد يرحمهالله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان .
__________________
قوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) تبيين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة ل «ما» لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل :
أيّ رحمة كانت سماوية أو أرضية؟ قال أبو حيان : والعموم مفهوم من اسم الشرط و (مِنْ رَحْمَةٍ) بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجتزىء فيه بالنكرة
المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و «من»
في موضع الحال. انتهى .
قوله (وَما يُمْسِكْ) يجوز أن يكون على عمومه أي أيّ شيء أمسكه من رحمة أو غيرها. فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه
عائد على (ما يُمْسِكْ). ويجوز أن يكون قد حذف المبيّن من الثاني لدلالة الأول عليه
تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله : «له» على لفظ «ما» وفي قوله
أولا : فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى «ما» لأن المراد به الرحمة فحمل
أولا على المعنى وفي الثاني على اللفظ . والفتح والإمساك استعارة حسنة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فيما أمسك أي كامل القدرة «الحكيم» فيما أرسل أي كامل
العلم. قال ـ عليه (الصلاة و) السلام «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا
ينفع ذا الجد منك الجد» .
قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تستوجب
الحمد على سبيل التفصيل بين النعمة على سبيل الإجمال فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء
فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال : «يرزقكم» إشارة
إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء.
قوله : (مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) قرأ الأخوان «غير» بالجر نعتا «لخالق» على اللّفظ و (مِنْ خالِقٍ) مبتدأ مراد فيه «من» وفي خبره قولان :
أحدهما : هو
الجملة من قوله : «يرزقكم».
__________________
والثاني : أنه
محذوف تقديره : «لكم» ونحوه ، وفي «يرزقكم» على هذا وجهان :
أحدهما : أنه صفة
أيضا لخلق فيجوز أن يحكم على موضعه بالجر اعتبارا باللفظ وبالرفع اعتبارا بالموضع .
والثّاني : أنه
مستأنف . وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر
المبتدأ .
والثاني : أنه صفة
لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما «يرزقكم».
والثالث : أنه
مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلّا أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل
وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ (فيه) زيادة «من» قال : فيحتاج مثله إلى سماع . ولا يظهر التوقف فإن شروط الزيادة والعمل موجودة ، وعلى
هذا الوجه «فيرزقكم» إما صفة أو مستأنف . وجعل أبو حيان استئنافه أولى ، قال: لانتفاء صدق «خالق»
على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تقيّد فيكون ثمّ خالق غير الله لكنه ليس
برازق . وقرأ الفضل بن إبراهيم النحويّ «غير» بالنصب على الاستثناء والخبر «يرزقكم» أو محذوف و «يرزقكم»
مستأنفة أو صفة .
فصل
قال المفسرون :
هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال : لا خالق غير الله يرزقكم
__________________
من السماء والأرض
أي من السماء المطر ومن الأرض النبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستأنف (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فأنى تصرفون عن هذا الظاهر فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل
الثاني وهو الرّسالة فقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) يسلي نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب (و) غير المكذب له الثواب بقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌّ) يعني وعد القيامة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان . وقرأ العامة بفتح «الغرور» وهو صفة مبالغة كالصّبور
والشّكور. وأبو السّمّال وأبو حيوة بضمّها ؛ إما جمع غار كقاعد وقعود وإمّا مصدر كالجلوس.
قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ
السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما
يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٩)
قوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) لما قال تعالى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللهِ الْغَرُورُ) ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار وقال : (الشَّيْطانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ، ولا تسمعوا قوله. وقوله: (فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا) أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح. ثم قال : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا) أي أشياعه (لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحابِ السَّعِيرِ). (و) في الآية إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما
أن يعاديه مجازاة له وإما أن يرضيه فلما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ) أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا. وأما
الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إن أرضيتموه واتّبعتموه فهو لا يؤدّيكم إلا إلى السعير. واعلم أن من
علم أن له عدوا لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف له ويصبر معه على
__________________
قتاله إلى أن يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان (أن) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتا على الجادّة
والاتّكال على العبادة . ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين :
أظهرهما : أن يكون
مبتدأ والجملة بعده خبره . والأحسن أن يكون «لهم» هو الخبر و «عذاب» فاعله.
الثاني : أنه بدل
من واو «ليكونوا» . ونصبه من أوجه : البدل من «حزبه» أو النعت له أو إضمار فعل «أذمّ» ونحوه ، وجره من وجهين : النعت أو البدلية من (أَصْحابِ السَّعِيرِ) وأحسن الوجوه الأول لمطابقة التقسيم . واللام في «ليكونوا» إما للعلة على المجاز من إقامة
السّبب مقام المسبب وإما الصّيرورة ثم قال : (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) وهذا حال حزب الشيطان. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤبّد مؤمن في النار والعمل الصالح في مقابلته «الأجر الكبير».
قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)
«من» موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائيّ (تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)
لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ)
عليه (١٦). وقدره الزجاج : «وأضله الله كمن هداه» (١٧) وقدره غيرهما كمن لم يزيّن
له. وهو
__________________
أحسن ، لموافقته
لفظا ومعنى . ونظيره (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ) (هو أعمى)»(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩].
والعامة على «زيّن» مبنيا للمفعول «سوء» رفع وعبيد بن عمير زيّن مبنيا للفاعل وهو الله «سوء» بالنصب به. وعنه «أسوأ»
بصيغة التفضيل منصوبا . وطلحة «أمن» بغير فاء . قال أبو الفضل : الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير
ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التّمام كما حذف من المشهور الجواب ، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة
للنداء وحذف التّمام أي ما نودي لأجله كأنه قيل : يا من زين له سوء عمله ارجع إلى
الله وتب إليه ، وقوله : «كما حذف الجواب» يعني به خبر المبتدأ الذي تقدّم تقريره .
فصل
قال ابن عباس :
نزلت في أبي جهل ومشركي مكة . وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهواء والبدع فقال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين
وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له
سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسنا زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية
حذف مجازه : أفمن زيّن له سوء عمله فرأى الباطل حقّا كمن هداه الله فرأى الحق حقا
والباطل باطلا ؟ (فَإِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
__________________
مَنْ
يَشاءُ) وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة
والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون
ذلك باستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى .
ثم سلى رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة
قاهرة فقال : (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) كقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) [الكهف : ٦] أي لا
تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله : (فَلا تَذْهَبْ) العامة على فتح التاء مسندا «لنفسك» من باب «لا ارينك
هاهنا» أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر الهاء مسندا لضمير المخاطب (و) نفسك مفعول
به .
قوله : «حسرات»
فيه وجهان :
أحدهما : أنه
مفعول من أجله أي لأجل الحسرات.
والثاني : أنه في
موضع الحال على المبالغة كأن كلها صا (ر) ت حسرات لفرط التحسر كما قال :
٤١٥٢ ـ مشق الهواجر لحمهنّ مع السّرى
|
|
حتّى ذهبن
كلاكلا وصدورا
|
يريد : رجعن
كلاكلا وصدورا ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر) :
__________________
٤١٥٣ ـ فعلى إثرهم تساقط نفسي
|
|
حسرات وذكرهم لي
سقام
|
وكون «كلاكل وصدور»
حال قول سيبويه . وجعلهما المبرّد تمييزين منقولين من الفاعلية. والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه ، ثم عاد إلى البيان وقال : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار ، لأن الهواء
قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي
حركاته المختلفة قد ينشىء السّحاب وقد لا ينشىء. فهذه الاختلافات دليل على مسخّر
مدبّر مؤثّر مقدّر .
قوله : «فتثير»
عطف على «أرسل» لأن «أرسل» بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقّق
وقوعه. و «تثير» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة كقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] وكقول
تأبّط شرّا :
٤١٥٤ ـ ألا من مبلغ فتيان فهم
|
|
بما لاقيت عند
رحامطان
|
بأنّي قد رأيت
الغول تهوي
|
|
بسهب كالصّحيفة
صحصحان
|
فقلت لها كلانا
نضو أرض
|
|
أخو سفر فخل لي
مكاني
|
فشدّت شدّة نحوي
فأهوت
|
|
لها كفّي بمصقول
يماني
|
فأضربها بلا دهش
فخرّت
|
|
صريعا لليدين
وللجران
|
__________________
حيث قال : «فأضربها»
ليصور لقومه حاله وشجاعته وجرأته وقوله : «فسقناه وأحيينا» معدولا بهما عن لفظ
الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه .
فصل
قال : أرسل بلفظ
الماضي وقال : (فَتُثِيرُ سَحاباً) بلفظ المستقبل ، لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما
يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زمانا ولا جزءا من الزّمان فلم يقل بلفظ
المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى
المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح وهي تؤلّف في زمان فقال : تثير أي على هيئتها وقال : «سقنا»
أسند الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله : «فأحيينا» ، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل
من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بعثت السّحاب وأحييت الأرض. ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب
وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسّوق والإحياء
وقوله : «سقنا وأحيينا» بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله : «أرسل»
وبين قوله : «تثير». ثم قال : (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه :
أحدها : أن الأرض
الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها : كما أن
الريح تجمع القطع السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء.
وثالثها : كما
أنّا نسوق الرّيح والسحاب إلى البلد كذلك نسوق الرّوح إلى الجسد الميّت.
فإن قيل : ما
الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه
واحد؟
فالجواب : أنه
تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح
وإرسالها بقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) ذكر من الأمور الأرضية الرّياح .
__________________
قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ
وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى
الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(١٤)
قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) (فقال مجاهد : معناه) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره
فليطلبها. وقال قتادة : من كان يريد العزة وطريقه القويم ويحبّ نيلها على وجهها.
فيكون تقديره على هذا فليطلبها
وقال الفراء : من
كان يريد علم العزة فيكون التقدير : فلينسب ذلك إلى الله. وقيل : من كان
يريد العزة التي لا يعقبها ذلّة. فيكون التقدير : فهو لا يبالها. ودل على هذه الأجوبة
قوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) وإنما قيل : إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين :
أحدهما : أن العزة
لله مطلقا من غير ترتبها على شرط إرادة أحد.
والثاني : أنه لا
بدّ في الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير ، و «جميعا» حال ، والعامل فيها الاستقرار .
فصل
قال قتادة : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) فليتفرد بطاعة الله ـ عزوجل ـ ومعناه الدعاء إلى
__________________
طاعة من له العزة
أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال : من كان يريد المال فالمال لفلان (أي)
فليطلبه من عنده وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال
تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢]
وقال : (الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩].
قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) العامة على بنائه للفاعل من «صعد» ثلاثيا (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (برفعهما فاعلا ونعتا . وعليّ وابن مسعود يصعد من أصعد الكلم الطّيّب) منصوبان على المفعول والنعت وقرىء يصعد مبنيا للمفعول. وقال ابن عطية : قرأ الضحاك يصعد بضم الياء
لكن لم يبيّن كونه مبنيا للفاعل أو المفعول .
فصل
قال المفسرون :
الكلم الطيّب قول لا إله إلا الله. وقيل : هو قول الرجل : سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلّا الله والله أكبر. وعن ابن مسعود قال : إذا حدّثتكم حديثا أنبأتكم
بمصداقه من كتاب الله ـ عزوجل ـ ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهنّ ملك فجعلهنّ تحت جناحه ثم صعد
بهنّ ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلّا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهنّ وجه
ربّ العالمين ومصداقه من كتاب الله عزوجل قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).
وقيل : الكلم
الطيب : ذكر الله. وعن قتادة : إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل الله الكلم الطيب.
قوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) العامة على الرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه
معطوف على (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فيكون صاعدا أيضا. و «يرفعه» على هذا استئناف إخبار من
الله برفعهما. وإنما وحّد الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل
__________________
ذهابا بالضمير
مذهب اسم الإشارة . كقوله (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]
وقيل : لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصّعود.
والثاني : أنه
مبتدأ و «يرفعه» الخبر ولكن اختلفوا في فاعل «يرفع» على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير
الله تعالى أي والعمل الصالح يرفعه الله إليه .
والثاني : أنه
ضمير العمل الصالح . وضمير النصب على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعود
على صاحب العمل أي يرفع صاحبه.
والثاني : أنه
ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. ونقل هذا عن ابن عباس وسعيد
بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين إلّا أنّ ابن عطية منع هذا عن ابن عباس وقال : لا يصح ؛ لأن مذهب أهل السنة أن
الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصيا.
والثالث : أن ضمير
الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العمل ، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بالنّصب العمل الصّالح على
الاشتغال والضمير المرفوع للكلم أو لله والمنصوب للعمل.
فصل
قال الحسن وقتادة
: الكلم الطّيّب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله ولم يؤد
فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتّخلّي لكن ما وقر في
القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حسنا
وعمل صالحا رفعه العمل لقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
__________________
يَرْفَعُهُ). وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ «لم يقبل الله قولا إلّا
بعمل ولا قولا وعملا إلّا بنيّة». ومن قال الهاء في قوله «يرفعه» راجعة إلى العمل
الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عمل إلا أن يكون صادرا عن
التوحيد. وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل. وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو
الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال لقوله تعالى : (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا
يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠]
فجعل نقيض العمل الصالح الشّرك والرياء.
فصل
قوله : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) ، «يمكرون» أصله قاصر فعلى هذا ينتصب «السيّئات» على نعت مصدر محذوف أي المكرات السيئات أو نعت لمضاف إلى (مصدر) أي أصناف المكرات السيئات . ويجوز أن يكون «يمكرون» مضمنا معنى يكسبون فينتصب «السيّئات»
مفعولا به . قال الزمخشري : ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته
كما قال : (لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] قال
مقاتل : يعني الشرك. وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في دار النّدوة كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) [الأنفال : ٣٠].
قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) هو مبتدأ و «يبور» خبره والجملة خبر قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ) وجوّز الحوفيّ وأبو البقاء أن يكون «هو» فصلا بين المبتدأ
أو الخبر وخبره . وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلا إلّا
أن الجرجانيّ
__________________
جوز ذلك ، وجوز
أبو البقاء أيضا أن يكون «هو» تأكيدا وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر. ومعنى «يبور» يهلك ويبطل في الآخرة.
قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) الآية» قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين :
دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الرياح
شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مرارا أن قوله : (مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى خلق آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) إشارة إلى خلق أولاده. وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا
التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم ، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم
من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء (ينتهي) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة (ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْواجاً ذُكْراناً وَإِناثاً).
قوله : (مِنْ أُنْثى) من مزيدة في «أنثى» وكذلك في : (مِنْ مُعَمَّرٍ) إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و (إِلَّا بِعِلْمِهِ) حال أي إلّا ملتبسة بعلمه.
قوله : (مِنْ عُمُرِهِ) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود
على «معمّر» آخر لأن المراد بقوله : (مِنْ مُعَمَّرٍ) الجنس فهو يعود عليه لفظا لا معنى ، لأنه بعد أن فرض كونه
معمرا استحال أن ينقص من عمره نفسه كقوله :
٤١٥٥ ـ وكلّ أناس قاربوا قتل فحلهم
|
|
ونحن خلعنا قيده
فهو سارب
|
ومنه : عندي درهم
ونصفه أي ونصف درهم آخر.
__________________
والثاني : أنه
يعود على «معمّر» لفظا ومعنى . والمعنى أنه إذا مضى من عمره حول أحصي وكتب ثم حول آخر
كذلك فهذا هو النقص. وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ؛ ومنه قول الشاعر :
٤١٥٦ ـ حياتك أنفاس تعدّ فكلما
|
|
مضى نفس منك
انتقصت به جزءا
|
وقرأ يعقوب وسلّام
ـ وتروى عن أبي عمرو ـ ولا ينقص مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن : من عمره بسكون الميم.
فصل
معنى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر كما يقال :
لفلان عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر (إِلَّا فِي كِتابٍ). وقيل : قوله ولا ينقص من عمره ينصرف إلى الأول. وقال سعيد
بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل (من) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر
فقيل له : إن الله عزوجل يقول: (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و (أن)
ينقص ، وقرأ هذه الآية .
فصل
(وَما تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثى وَلا تَضَعُ) إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل
بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئا فلما
ذكر بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرابٍ) كمال قدرته بين بقوله : (ما تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثى وَلا تَضَعُ
__________________
إِلَّا
بِعِلْمِهِ) كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا
يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فبين أنه هو القادر العليم المريد والأصنام لا قدرة لها (ولا علم) ، ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير
والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد : إن العلم بما تحمله الأنثى يسير
والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق.
قوله : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) طيب (سائِغٌ شَرابُهُ) جائز في الحلق هنيء (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة. وقال الضحاك : هو المرّ .
قوله : (سائِغٌ شَرابُهُ) يجوز أن يكونا مبتدأ وخبرا ، والجملة خبر ثان وأن يكون «سائغ» خبرا و «شرابه»
فاعلا به لأنه اعتمد ، وقرأ عيسى ـ ويروى عن أبي عمرو وعاصم ـ سيّغ مثل سيّد
وميّت . وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هيّن وميّت. وقرأ طلحة وأبو نهيك ملح
بفتح الميم وكسر اللام ، فقيل : هو مقصور من مالح ومالح لغيّة شاذة. وقيل : ملح بالفتح والكسر لغة في ملح ، بالكسر
والسكون .
فصل
قال أكثر المفسرين
: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان
لا يشبّه بالكفر كما لا يشبه البحر العذب الفرات بالبحر الملح الأجاج ثم على هذا
فقوله : (وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال
البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذ اللحم
__________________
الطريّ يوجد فيهما
والحلية تؤخذ منهما والفلك تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على نسق قوله تعالى : (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]
وقوله : (كَالْحِجارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ
وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [البقرة : ٧٤]. قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد منه
ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة
ويختلفان في الماء ، فإن أحدهما فرات والآخر ملح أجاج ولو لا ذلك بإيجاب موجب ، لما اختلف المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريّ يوجد فيهما والحلية
تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافا ومن المختلفين اشتباها لا يكون إلا
قادرا مختارا فقوله : (وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ) إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ
إرادته.
فصل
قال أهل اللغة :
لا يقال لماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح وإنما يقال له : ملح. وقد يذكر في بعض
كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحا. ويؤاخذ قائله (به) . وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي
فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح. وماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته
كذلك لأن المالح شيء فيه ملح ظاهر في الذّوق والماء الملح ليس ماء وملحا
بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ما فيه ملح ظاهر في الذّوق
بخلاف (ما هو ملح ظاهر في الذّوق بخلاف) ما هو من أصل خلقته كذلك (فلما) قال الفقيه : الملح أجزاء أرضيّة سبخة يصير بها ماء البحر
مالحا راعى فيه الأصل فإنّه جعله ماء جاوره ملح. وأهل اللغة حيث قالوا في البحر
ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجاج المرّ كما تقدم.
قوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً
طَرِيًّا) من الطّير والسّمك من العذب والملح جميعا (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) يعني من الملح دون العذب «تلبسونها» من اللّؤلؤ والمرجان.
وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج (عيون) عذبة تمتزج بالملح فيكون
__________________
اللؤلؤ من ذلك.
وقرىء (الْفُلْكَ فِيهِ
مَواخِرَ) أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشقّ جواري مقبلة ومدبرة
بريح واحدة (لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) بالتجارة (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) الله على نعمه وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال
بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
قوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وهذا استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) جواب لسؤال يذكره المشركون وهو أنهم قالوا اختلاف الليل
والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن في الصيف تكون الشمس على سمت الرّؤوس في
بعض البلاد المائلة الآفاق وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة
فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل وفي الشتاء بالضّدّ فيقصر النهار فقال الله
تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة
الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).
قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ذلكم مبتدأ و «الله» خبره و «ربكم» خبر ثان أو نعت لله. وقال الزمخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله
صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و «ربكم» خبر لو لا أن المعنى يأباه . ورده أبو حيان بأن «الله» علم لا جنس فلا يوصف به . ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال : لأنه يكون قد أخبر عن
المشار إليه بتلك الصفات أنه مالككم ومصلحكم.
فصل
المعنى ذلك الذي
فعل هذه الأشياء من فطر السّموات والأرض وإرسال الأرواح وخلق الإنسان من تراب وغير
ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها. ثم
بين ما ينافي صفة الإلهية فقال : (وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام (ما يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ).
__________________
قوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) العامة على الخطاب في «تدعون» لقوله : «ربّكم». وعيسى
وسلّام ويعقوب ـ وتروى عن أبي عمرو ـ بياء الغيبة إمّا على الالتفات وإمّا على الانتقال إلى الإخبار. والفرق
بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحدا بخلاف الثاني فإنهما غيران . و «يملكون» هو خبر الموصول و «من قطمير» مفعول به. و «من»
فيه مزيدة . والقطمير المشهور فيه أنه لفافة النّواة. وهو مثل في
القلّة كقوله :
٤١٥٧ ـ وأبوك يخصف نعله متورّكا
|
|
ما يملك المسكين
من قطمير
|
وقيل : هو القمع
وقيل : ما بين القمع والنّواة . وقد تقدم أن النّواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في
القلّة : الفتيل وهو ما في شقّ النّواة ، والقطمير وهو اللفافة والنّقير والثفروق
وهو ما بين القمع والنّواة .
قوله : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
دُعاءَكُمْ) يعني الأصنام (وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجابُوا لَكُمْ) وهذا إبطال لما كانوا يقولون : إن في عبادة الأصنام عزّة
من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد
فقال مجيبا لهم : إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون: إن الأصنام
تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولوا بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال: (وَلَوْ سَمِعُوا) كما تظنون (مَا اسْتَجابُوا
لَكُمْ).
قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ) أي يتبرءون منكم ومن عبادتكم إيّاها ويقولون (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ). واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع
فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكْفُرُونَ
__________________
بِشِرْكِكُمْ) أي بإشراككم بالله غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثل خبير عالم بالأشياء وهذا
الخطاب يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
خطابا للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ووجهه أن الله تعالى لما أخبر أن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا
يعلم بالعقل المجرد لو لا إخبار الله تعالى عنه بقوله : «إنهم يكفرون بهم يوم
القيامة» فهذا القول مع كون المخبر عنه أمرا عجيبا قال إن المخبر عنه خبير.
والثاني : أن ذلك
الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا ينبئك أيّها السّامع كائنا
من كنت مثل خبير.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَما
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ
وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا
الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ
نَذِيرٌ)(٢٣)
قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) (أي) إلى فضل
الله. والفقير هو المحتاج (وَاللهُ هُوَ
الْغَنِيُّ) عن خلقه «الحميد» أي المحمود في إحسانه إليهم. واعلم أنه
لما كثر الدعاء من النبي ـ عليهالسلام ـ والإصرار من الكفار قالوا إن الله لعله محتاج إلى عبادتنا
حتى يأمرنا بها أمرا بالغا ويهددنا على تركها مبالغا فقال الله : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ
وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه
عليكم .
فصل
التعريف في الخبر
قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا
بأمر يعلمه المخبر أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ثم إنّ المبتدأ لا بدّ
وأن يكون معلوما عند السامع حتى يقول له : أيها السامع الأمر الذي تعرفه ثبت له
قيام لا علم عندك به فإن الخبر معلوم عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر
__________________
تنبيها لا تفهيما
فإنه يحسن تعريف الخبر كقول القائل : «الله ربنا ومحمد نبينا» حيث عرف كون الله
ربنا وكون محمد نبينا وههنا لما كان كون الناس فقراء أمرا ظاهرا لا يخفى على أحد
قال : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) ، وقوله : (إِلَى اللهِ) إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتّكال إلا عليه. وهذا
يوجب عبادته لكونه مفتقرا إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم مع احتياجكم لا
تجيبونه .
قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا بيان لغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي ليس إذهابكم موقوفا إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج
إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إن شاء فلان هدم داره ، وإنما يقال : لو لا حاجة السّكنى إلى الدار لبعتها ، ثم إنه تعالى زاد
على بيان الاستغناء بقوله : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ) يعني إن كان يتوهم متوهم أنّ هذا الملك كمال وعظمة فلو
أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقا جديدا أحسن من هذا (وأجمل) .
(وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ) أي الإذهاب والإتيان. واعلم أن لفظة «العزيز» استعمله الله
تارةفي القائم بنفسه فقال في حق نفسه : (وَكانَ اللهُ
قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب : ٢٥]
وقال في هذه السورة : (عَزِيزٌ غَفُورٌ) واستعمله تارة في القائم بغيره فقال : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) وقال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما
عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨]
فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فنقول : العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله : (وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ذلك الفعل لا يغلبه بل هو هيّن على الله وقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي يحزنه ويؤذيه كالشّغل (الشّاغل) الغالب .
__________________
قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي نفس وازرة بحذف الموصوف للعلم به . ومعنى «تزر» تحمل ، أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى.
قوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس مثقلة بالذنوب نفسا إلى حملها فحذف المفعول به للعلم به. والعامة (لا يُحْمَلْ) مبنيا للمفعول و «شيء» قائم مقام الفاعل ، وأبو السّمّال
وطلحة ـ وتروى عن الكسائي ـ بفتح التاء من فوق وكسر الميم. أسند الفعل إلى ضمير النفس المحذوفة التي هي مفعولة
«لتدع» أي لا تحمل تلك النفس الدّعوة (و) شيئا مفعول «بلا تحمل» .
قوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المدعو ذا قربى ، وقيل : التقدير ولو كان الدّاعي ذا قربى ، والمعنيان حسنان ، وقرىء : «ذو» بالرفع على أنها التامة
أي ولو حضر ذو قربى نحو : قد كان من مطر ، (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠].
قال الزمخشري : ونظم الكلام أحسن ملاءمة للنّاقصة لأن المعنى على أن المثقلة إذا
دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مدعوها ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت :
ولو وجد ذو قربى لخرج عن التئامه ، قال أبو حيان : وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه . قال شهاب الدين : والذي قاله هو أي ولو حضر إذ ذاك ذو
قربى . ثم قال : وتفسيره «كان» وهو مبني للفاعل ب «وجد» وهو مبني للمفعول تفسير
معنى والذي يفسر النّحويّ به كان التامة نحو : حدث وحضر ووقع .
فصل
المعنى وإن تدع
مثقلة بذنوبها غيرها إلى حملها أي يحمل ما عليه من الذنوب لا
__________________
يحمل منه شيء ولو
كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمّه أو أخاه. قال ابن عباس : يلقى الأب
أو الأمّ ابنه فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما عليّ .
قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ولم يروه. قال الأخفش : تأويله إنذارك إنما ينفع الذين
يخشون ربهم بالغيب .
قوله : «بالغيب»
حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عنه. أو من المفعول أي غائبا عنهم . وقوله : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في المعنى .
قوله : (وَمَنْ تَزَكَّى) قرأ العامة «تزكّى» تفعّل (فَإِنَّما يَتَزَكَّى) يتفعل. وعن أبي عمرو «ومن يزكى فإنما يزكى» والأصل فيهما
يتزكّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو «يذّكّرون» في «يتذكّرون» ، وابن مسعود وطلحة : «ومن ازكى» والأصل تزكّى فأدغم (باجتلاب همزة الوصل «فإنما يزكى» أصله «يتزكى فأدغم») كأبي عمرو في غير
المشهور عنه.
فصل
معنى (وَمَنْ تَزَكَّى) صلى وعمل خيرا (فَإِنَّما يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ) لها ثوابه . (وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ) أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا فالمصير إلى الله يظهر
عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر
في الآخرة إذ المصير إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى
الله المؤمن ضرب له مثلا بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح
والكافر أعمى .
قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) استوى من الأفعال التي لا يكتفى فيها بواحد لو قلت : استوى زيد لم يصح فمن ثمّ لزم العطف
على الفاعل أو تعدده و «لا»
__________________
في قوله : (وَلَا الظُّلُماتُ) إلى آخره مكررة لتأكيد النفي . وقال ابن عطية : دخول «لا» إنما هو على نية التكرار كأنه
قال : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثّواني ودل مذكور
الكلام على متروكه. قال أبو حيان : وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استواؤهما
أولا فأي فائدة في نفي استوائهما ثانيا؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال :
فدخول «لا» في النفي لتأكيد معناه كقوله : (وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : ٣٤]
وللناس في هذه الآية قولان :
أحدهما : ما ذكر.
والثاني : أنها
غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السّيّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه
لأن الحسنات درجات متفاوته وكذلك السيئات . وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن
يقال بهذا هنا في الظاهر ؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا
مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولا : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة. «والحرور»
شدة حر الشمس ، وقال الزمخشري : الحرور السّموم إلا أنّ السّموم بالنهار
والحرور فيه وفي الليل . قال شهاب الدّين : وهذا مذهب الفراء وغيره. وقيل : السموم بالنهار والحرور بالليل خاصة. نقله
ابن عطية عن رؤبة. وقال : ليس بصحيح بل الصحيح ما قاله الفراء. وهذا
عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللّسان بقول من يأخذ عنهم ؟ وقرأ الكسائي ـ في رواية زاذان ـ عنه
__________________
«وما تستوي
الأحياء» بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذه الأشياء جيء بها على سبيل الاستعارة
والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظّلّ
والحرور الحقّ والباطل والأحياء والأموات لمن دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه.
وجاء ترتيب هذه المنفيّات على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين
للكافر والمؤمن عقبه بما كل منهما فيه فالكافر في ظلمة والمؤمن في نور لأن البصير
وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصلة
فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل.
ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور ، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة
كما تقدم. وقولنا : لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قبل بعضهم لأجل
السجع لأن القرآن ينزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع ، وإنما كرر الفعل في قوله : (وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ) مبالغة في ذلك لأن المنافاة بين الحياة والموت أتم من
المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد «لا» تأكيدا في قوله الأعمى
والبصير وكررها في غيره لأن منافاة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا
ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظّلّ والحرور والظلمات والنور فإنها
متنافية أبدا لا تجتمع اثنان منها في محلّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة
والنور دائمة.
فإن قيل : الحياة
والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفا بالحياة ثم يتصف بالموت!
فالجواب : أن
المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان
في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافاة بينهما أتمّ. وأفرد (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) لأنه قابل الجنس بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العميان ما
يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيرا بليدا فالتفاوت بين
الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد .
وجمع الظلمات
لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما كثيرة متشعبة. ووحد
__________________
النور لأنه عبارة
عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى
الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد . قال شهاب الدين : كذا قيل. وعندي (أنه) ينبغي أن يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم
انتفاء مساواة (فرد منه) (ل) هذا الواحد
بطريق أولى وإنما جمع الأحياء والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميّت
يساوي في الإدراك حيّا فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس
أم الفرد بالفرد.
فصل
قال ابن الخطيب :
قدم الأشرف في مثلين وهو الظّل والحيّ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول
المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع
ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ
حاملا له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح
فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول : الكفار قبل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانوا في ضلالة فكانوا كالعمي وطريقتهم كالظلمة
ثمّ لما جاء النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين
وطريقتهم كالنّور فقال : (لا يَسْتَوِي) من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان
فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ والكافر قبل المؤمن قدم المقدم. ثم لما ذكر
المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ في الإلهيات : «سبقت رحمتي غضبي» ، ثم إن الكافر المصر بعد البعث صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من
جميع الوجوه فقال : (وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ) أي
__________________
المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم
الآيات البينات ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات
الكافرين المعاندين. وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالّين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بها.
فصل
قال المفسرون : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (يعني) الجاهل والعالم. وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي
المؤمن والمشرك (وَلَا الظُّلُماتُ
وَلَا النُّورُ) يعني الكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ) يعني الجنة والنار (وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) يعني المؤمنين والكفار. وقيل : العلماء والجهال. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) حتى يتعظ ويجيب (وَما أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) ما أنت إلا منذر فخوّفهم بالنار.
قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥)
ثُمَّ
أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٢٦)
قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً) لما قال : إن أنت إلا نذير بين أنه ليس نذيرا من تلقاء
نفسه إنما هو نذير بإذن الله تعالى وإرساله .
قوله : «بالحقّ»
يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنه حال
من الفاعل أي أرسلناك محقّين. أو من المفعول أي محقّا أو نعت لمصدر محذوف أي
إرسالا ملتبسا بالحق. أو متعلق ببشير ، ونذير ، قال الزمخشري : بشيرا بالوعد ونذيرا بالوعيد الحق.
قال أبو حيان :
ولا يمكن أن يتعلق «بالحق» هذا ببشيرا ونذيرا معا بل ينبغي أن
__________________
يتأول كلامه على
أنه أراد أنّ ثمّ محذوفا والتقدير : بشيرا بالوعد الحقّ ونذيرا بالوعيد الحقّ ، قال شهاب الدين : قد صرح الرجل بهذا .
قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أي وما من أمّة فيما مضى. وقوله : (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) خبر (مِنْ أُمَّةٍ). ومعنى «خلا» أي سلف فيها نذير نبي منذر. وحذف من هذا ما
أثبته في الأول ، إذ التقدير: إلّا خلا فيها نذير وبشير .
قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ) أي الكتب (وَبِالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) أي الواضح. وكرر ذكر الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق
التأكيد. وقيل : البينات المعجزات ، والزبر : هي الكتب التي فيها مواعظ وشبهات لا
تحتمل النّسخ. والمراد بالكتاب المنير الشريعة والأحكام الموافقة للحكمة الإلهية وهي المحتملة للنسخ. وهذا تسلية للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملا لأذى القوم وأن غيره
أيضا أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذوه وصبروا على تكذيبهم (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم
واستئصالهم .
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ
الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ
مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)
لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)
الَّذِي
أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا
يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا
__________________
لَهُمْ
نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ
عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
إِنَّ
اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٣٨)
قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً). قيل : الخطاب للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفيه حكمة وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم
ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم
ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا. ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه
إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة
وأيضا فلا يخرج إلى كلام أجنبيّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول
كلاما آخر فيترك التفكر فيما كان من النصيحة .
قوله : «فأخرجنا»
هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال
الماء و «مختلفا» نعت «لثمرات» و «ألوانها» فاعل به. ولو لا ذلك لأنّث «مختلفا» ولكنه لما أسند إلى جميع
تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنث فقيل مختلفة كما يقول اختلفت ألوانها لجاز. وبه
قرأ زيد بن علي.
قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع «جدّة» وهي الطريقة.
قال ابن بحر : قطع من قولك : جددت الشّيء قطعته . وقال أبو الفضل الرازي : هي ما يخالف من الطرائق لون ما
يليها . ومنه جدّة الحمار للخط الذي في ظهره . وقرأ الزّهريّ جدد بضم الجيم والدال جمع جديدة يقال : جديدة وجدد وجدائد ، قال أبو ذؤيب :
__________________
٤١٥٨ ـ ..........
|
|
جون السّراة له
جدائد أربع
|
نحو : سفينة وسفن
وسفائن. وقال أبو الفضل : جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان. وعنه أيضا جدد بفتحهما ، وقد رد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثر
والمعنى . وقد صححها غيره وقال : الجدد الطريق الواضح البيّن ، إلا
أنه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط .
قوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) مختلف صفة «لجدد» أيضا و «ألوانها» فاعل به كما تقدم في
نظيره ولا جائز أن يكون «مختلف» خبرا مقدما و «ألوانها» مبتدأ مؤخر والجملة صفة ؛ إذ كان
يجب أن يقال مختلفة لتحمّلها ضمير المبتدأ . وقوله : «ألوانها» يحتمل معنيين :
أحدهما : أن
البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فربّ أبيض أشدّ من أبيض وأحمر أشدّ من أحمر
فنفيس البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكل.
والثاني : أن
الجدد كلها على لونين بياض وحمرة فالبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا
باعتبار محالّهما .
قوله : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف
على «حمر» عطف ذي لون على ذي لون .
__________________
الثاني : أنه
معطوف على «بيض».
الثالث : أنه
معطوف على «جدد» ، قال الزمخشري : معطوف على بيض (أ) وعلى «جدد» كأنه قيل : ومن الجبال مخطّط ذو جدد ومنها ما
هو على لون واحد. ثم قال : ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) بمعنى ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يؤول إلى قولك
: ومن الجبال مختلف ألوانها» ، كما قال (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُها). ولم يذكر بعد غرابيب سود (مختلفا ألوانها) كما ذكر ذلك
بعد «بيض وحمر» ، لأن الغربيب هو البالغ في السواد فصار لونا واحدا غير متفاوت
بخلاف ما تقدم.
وغرابيب : جمع
غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد .
فهو تابع للأسود
كقان وناصع وناضر ويقق ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير . ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصفة على موصوفها وأنشدوا
:
٤١٥٩ ـ والمؤمن العائذات الطّير
يمسحها
|
|
..........
|
__________________
يريد : والمؤمن
الطير العائذات ، وقول الآخر :
٤١٦٠ ـ وبالطّويل العمر عمرا حيدرا
|
|
..........
|
يريد : وبالعمر
الطويل. والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثّاني بدل من الأول «فسود
والطير والعمر» أبدال مما قبلها . وخرّجها الزّمخشريّ وغيره على أنه حذف الموصوف وقامت صفته
مقامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري : الغربيب تأكيد للأسود
ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفر فاقع وأبيض يقق ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيرا لما
أضمر كقوله : «والمؤمن العائذات الطير» وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على
المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار ، يعني فيكون الأصل وسود غرابيب سود والمؤمن الطير العائذات
الطير. قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوّز حذف المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك . قال شهاب الدين : ليس هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب
الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيدا من حيث إنّها لا تفيد معنى زائدا
إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير
الأول تأكيدا فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو : (نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) [ص : ٢٣] و (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١]
والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصّناعيّ . ومذهب سيبويه جوازه ، أجاز : «مررت بأخويك أنفسهما»
بالنصب والرفع على تقدير أعينهما أنفسهما أو هما أنفسهما فأين هذا من ذاك إلا أنه
يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد «غرابيب» ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسرا
لذلك المحذوف وهذا إنما
__________________
عهد في الجمل لا
في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه؟ والأولى فيه أن يسمى توكيدا
لفظيا إذ الأصل سود غرابيب سود .
قوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) «مختلف» نعت
لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومن النّاس صنف أو نوع مختلف ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله :
٤١٦١ ـ كناطح صخرة يوما ليفلقها
|
|
..........
|
وقرأ ابن السّميقع
ألوانها . وهو ظاهر. وقرأ الزهري (وَالدَّوَابِّ) خفيفة الباء هربا من التقاء ساكنين كما حرك أولهما في الضّالين وجانّ.
فصل
قال ابن الخطيب في
هذه الآية لطائف الأولى : قوله : «أنزل» وقال : «أخرجنا» وفائدته أن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) فإن كان جاهلا يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له
فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهر
أسنده إلى المتكلم. وأيضا فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل
وقرب التفكر فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال : أخرجنا ، لقربه وأيضا فالإخراج
أتم نعمة من الإنزال ، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند (تعالى) الأتمّ إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة المخاطب
الغائب. الثانية : قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) كأنّ قائلا قال : اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى
أن بعض
__________________
النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزّعفران فقال تعالى : اختلاف البقاع ليس
إلا بإرادة الله (تعالى) وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض.
فإن قيل : الواو
في (وَمِنَ الْجِبالِ) ما تقديرها؟ فنقول : هي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون
للاستئناف كأنه تعالى قال : أخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان وفي الجبال جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار.
ثانيهما : أن تكون
للعطف والتقدير وخلق من الجبال جدد «بيض».
قال الزمخشري :
أراد ذو جدد.
الثالثة : ذكر الجبال ولم يذكر الآية في (الأرض) كما قال في موضع
آخر : (وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤] مع أن
هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) كان نفس إخراج الثّمار دليلا على القدرة. ثم زاد عليه بيانا وقال : «مختلفا» كذلك
في الجبال في نفسها دليل القدرة والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون
بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار. ثم زاد بيانا وقال : (جُدَدٌ بِيضٌ) أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج
الثّمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل.
الرابع : قوله : (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها
وحمر مختلف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجصّ وقد يكون على لون التّراب
الأبيض وبالجملة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في
الحمرة ولو كان المراد البيض والحمر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول
أولى. وعلى هذا ذكر (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُها) في البيض والحمر وأخر «السود الغرابيب» لأن الأسود لما
ذكره مع المؤكد وهو الغربيب يكون بالغا غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف.
قوله : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعامِ) استدلال آخر على قدرة الله وإرادته فكان تعالى قسم الدلائل
دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير
__________________
حيوان وهو إما
نبات وإما معدن والنبات أشرف فأشار إليه بقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ
ثَمَراتٍ) ثم ذكر المعدن بقوله : (وَمِنَ الْجِبالِ) ثم ذكر الحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : (وَمِنَ النَّاسِ) ثم ذكر الدواب ، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها
في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها
دلائل. وقوله : (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) مذكرا ؛ لكون الإنسان من جملة المذكور فكان التذكير أولى .
قوله : «كذلك» فيه
وجهان :
أظهرهما : أنه
متعلق بما قبله أي مختلف اختلافا مثل الاختلاف في الثّمرات والجدد والوقف على «كذلك» .
والثاني : أنه
متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء. وإلى هذا نحا ابن
عطيّة . وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنّما» مانع من العمل فيها قبلها . وقد نصّ أبو عمرو الدّانيّ على أن الوقف على «كذلك» تام. ولم يحك فيه خلافا.
قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) العامة على نصب الجلاله ورفع «العلماء» وهي واضحة. وقرأ
عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ـ فيما نقله الزمخشريّ ـ وأبو حيوة ـ فيما نقله الهذلي في كامله ـ بالعكس. وتؤوّلت على معنى التعظيم أي إنما يعظم
الله من
__________________
عباده العلماء.
وهذه القراءة شبيهة بقراءة : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) برفع إبراهيم ونصب «ربّه».
فصل
قال ابن عباس : إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني. واعلم
أنّ الخشية بقدر معرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنّ
العالم أعلى درجة من العابد ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]
بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل قال ـ عليه (الصلاة
و) السلام ـ : «والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» ، وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم
كثيرا» وقال مسروق : كفى بخشية علما وكفى بالاغترار بالله جهلا. ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ) أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف
والرجاء فكونه عزيزا يوجب الخوف التام وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ. وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الجلالة
تقدّم معناه. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ) في خبر «إن» وجهان :
أحدهما : الجملة
من قوله : «يرجون» أي (إنّ) التالين يرجون و (لَنْ تَبُورَ) صفة «تجارة» و «ليوفّيهم» متعلق «بيرجون» أو «بتبور» أو بمحذوف أي فعلوا ذلك ليوفّيهم ، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة .
__________________
والثاني : أن
الخبر (إِنَّهُ غَفُورٌ
شَكُورٌ). (و) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم . وعلى هذا «فيرجون» حال من «أنفقوا» أي أنفقوا ذلك راجين .
فصل
المراد بالذين
يتلون كتاب الله أي قراء القرآن لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين
بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله : (يَتْلُونَ كِتابَ
اللهِ) إشارة إلى الذكر وقوله: (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى العمل البدنيّ وقوله : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) إشارة إلى العمل الماليّ. وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله :
(إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ) إشارة إلى عمل القلب. وقوله: (الَّذِينَ يَتْلُونَ) إشارة إلى عمل اللّسّان وقوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى عمل الجوارح. ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة
بجانب تعظيم الله وقوله : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يعني الشفقة على خلقه. وقوله : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حثّ على الإنفاق كيفما تهيأ فإن تهيأ سرا فذاك وإلّا
فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المراد
بالسّرّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض
وهو مستحب. (يَرْجُونَ تِجارَةً) وهي ما وعد الله من الثواب (لَنْ تَبُورَ) لن تفسد ولن تهلك (لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ) جزاء أعمالهم بالثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) قال ابن عباس : يعني سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع
أذن. ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة (نَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). قال ابن عباس : يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم. وقيل : غفور عند الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة.
قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ
الْكِتابِ) يعني القرآن . وقيل : اللّوح المحفوظ لما بين الأصل (الأول) وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) وقوله : (اللهُ (الَّذِي) خَلَقَكُمْ) وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)
__________________
ذكر الأصل الثاني
وهو الرسالة فقال : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ).
قوله : (مِنَ الْكِتابِ) يجوز أن تكون للبيان كما يقال : «أرسل إلي فلان من الثياب جملة» ، وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال
: «جاءني كتاب من الأمير» وعلى هذا فالكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي
أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق ، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد
والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض و «هو» فصل أو
مبتدأ و «مصدّقا» حال .
فصل
(هُوَ الْحَقُّ) آكد من قول القائل : «الذي أوحينا حق إليك» من وجهين :
أحدهما : أن
التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة.
الثاني : أن
الإخبار في الغالب يكون إعلاما بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا : «زيد قام» فإن
السامع ينبغي أن يكون عارفا بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوما فيكون
الإخبار للتنبيه فيعرّفان باللّام كقولنا : «إنّ زيدا العالم في هذه المدينة» إذا
كان علمه مشهورا. وقوله (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب وهذا تقرير لكونه وحيا لأن النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لم يكن قارئا كاتبا وأتى ببيان ما في كتاب الله
ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى. أو يقال : إن هذا الوحي مصدّق لما تقدم لأن
الوحي لو لم يكن موجودا لكذب موسى وعيسى ـ عليهما (الصلاة و) السلام ـ في إنزال
التوراة والإنجيل فإذا وجد الوحي ونزل على محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ علم
جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة. وفي هذا لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن
مصدّقا لما مضى ، لأن ما مضى أيضا مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل
على غيره وهو محمد ـ عليه (الصلاةو) السلام ـ ولم يجعل ما تقدم مصدقا للقرآن لأن
القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة
تصدّقه . ثم قال : (إِنَّ اللهَ
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلا
لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جوابا لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على
رجل من القريتين عظيم فقال : (إِنَّ اللهَ
بِعِبادِهِ) يعلم بواطنهم وبصير يرى ظواهرهم لخبير
__________________
فاختار محمّدا ولم
يختر غيره ، كقوله : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].
قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا) (الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) مفعولا أورثنا و «الكتاب» هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس . وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن. وقيل:
المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى
الواو وأورثنا كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ومعنى أورثنا أعطينا لأن الميراث عطاء. قاله مجاهد. وقيل :
أورثنا : أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميّت ومعناه : أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
قوله : (مِنْ عِبادِنا) يجوز أن يكون للبيان على معنى إنّ المصطفين هم عبادنا وأن
يكون للتبعيض أي إنّ المصطفين بعض عبادنا لا كلهم . وقرأ أبو عمران الجوني ويعقوب وأبو عمرو ـ في رواية ـ سبّاق مثال مبالغة .
فصل
قال ابن عباس :
يريد بالعباد أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم قسّمهم ورتّبهم فقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ). وروى أسامة بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كلهم من هذه الأمة ، وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على
المنبر (ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) الآية فقال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له .
وروى أبو الدّرداء
قال : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قرأ هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ ...) الآية وقال : أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب
وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيجلس في المقام حتى يدخله
الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
__________________
وقال عقبة بن
صهبان : سألت عائشة عن قول الله ـ عزوجل ـ : أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية. فقالت : يا بنيّ
كلّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ شهد له رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالخير وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما
الظالم فمثلي ومثلكم. فجعلت نفسها معنا . وقال مجاهد والحسن وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب
المشأمة ، ومنهم مقتصد أصحاب الميمنة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من
الناس كلهم. وعن ابن عباس قال : السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم
الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقيل : الظالم هو الرّاجح السيئات والمقتصد هو الذي
تساوت سيّئاته وحسناته والسابق هو الذي رجحت حسناته. وقيل : الظالم هو الذي ظاهره
خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطنه خير من ظاهره. وقيل
الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد هو الموحّد الذي يمنع
جوارحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل
: الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد التالي العالم والسابق التالي العالم العامل. وقيل
: الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم . وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخبارا أنه لا يتقرب إليه
إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمقتصد لأنه بين الخوف
والرجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة . وقال أبو بكر الوراق : رتبهم على مقامات الناس لأن أحوال العبد ثلاثة معصية
وغفلة ثم توبة ثم قربة فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة
المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين. وقيل
غير ذلك . وأما من قال : المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء
لأن لفظ المصطفى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله : (مِنْ عِبادِنا) يدل على أن العباد أكابر مكرّمون لأنه أضافهم إليه ثم
المصطفين (منهم) أشرف
__________________
ولا يليق بمن يكون
أشرف من الشرفاء أن يكون ظالما مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع
على الكافر وسمى الشرك ظلما.
فإن قيل : كيف قال
في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من
المواضع؟
فالجواب : أن
المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال ـ عليه
(الصلاة و) السلام ـ : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن»
الحديث. وقال آدم ـ عليهالسلام ـ مع كونه مصطفى : (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣].
وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق
وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله . ووجه آخر وهو أن قوله : «منهم» غير راجع إلى الأنبياء
المصطفين بل المعنى : إنّ الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا
رسلنا وآتيناهم كتبا «ومنهم» أي ومن قومكم «ظالم» كفر بك
وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به ولم يأت بجميع ما أمر به وسابق آمن وعمل صالحا. وقال
الكلبي : المراد بالظالم لنفسه هو الكافر. وقيل : المراد منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصطفاء في الخلقة
وإرسال الرسول إليهم وأنزل الكتاب. والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم المؤمنون.
فصل
معنى سابق
بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر
الله وإرادته (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ) يعني إيراثهم الكتاب ، ثم أخبر بثوابهم فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) يعني الأصناف الثلاثة.
قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر ، وأن يكون بدلا من «الفضل». قاله
الزمخشري ، وابن عطية إلّا أنّ الزمخشري اعترض
__________________
وأجاب فقال : فإن
قلت : فكيف جعلت (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدلا من «الفضل» الذي هو السبق بالخيرات (المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة
المسبب كأنه هو الثواب) فأبدل عنه (جَنَّاتُ عَدْنٍ). وقرأ زرّ والزّهري جنّة مفردا. والجحدريّ جنات بالنصب على الاشتغال وهي تؤيد رفعها بالابتداء . وجوز أبو البقاء أن كون «جنات» بالرفع خبرا ثانيا لاسم
الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف . وتقدمت قراءة يدخلونها مبنيا للفاعل أو المفعول وباقي
الآية في الحجّ .
فصل
قيل : المراد
بالداخلين الأقسام الثلاثة. وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين. وقيل : الذين
يتلون كتاب الله وقيل : هم السابقون. وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله
: «يحلّون» والمكرم هو السابق .
فإن قيل : تقديم
الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقيّا
كقولنا : الله الّذي خلق السّموات وقول القائل : زيد بنى الجدار ، فإن الله موجود
قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء
ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقيا كقولنا : دخل الداخل الدار ، وضرب
عمرا فإن «الدار» في الحقيقة ليس مفعولا للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى
الدار وكذلك عمرو فعل (من أفعال) زيد تعلق به فسمي مفعولا ولكن الأصل تقديم الفعل على
المفعول ولهذا يعاد الفعل المقدّم بالضمير تقول : عمرا ضربه
__________________
زيد فتوقعه بعد
الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم «الجنات» على الفعل الذي هو الدخول
وإعادة ذكرها بالهاء في «يدخلونها» وما الفرق بين هذا و (بين) قول القائل : يدخلون جنّات عدن؟
فالجواب : أن
السامع إذا علم له مدخلا من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له:
أنت تدخل مال إلى أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي
المداخل يكون. فإذا قيل: «الدّار تدخلها» فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من
العلم السابق بأن له دخولا يعلم الدخول فلا يبقى متعلق القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المدخلين بونا بعيدا.
قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها) إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجا لكان فيه
تأخير المدخول فقال : «يدخلونها» وفيها يقع تحليتهم ، وقوله : (مِنْ أَساوِرَ) بجمع الجمع فإنه جمع «أسورة» وهي جمع «سوار» (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) ، وقوله : «ولباسهم» أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس
يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل (إلا) على الغنى ، وذكر الأساور من بين سائر الحليّ في مواضع
كثيرة كقوله تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان: ٢١] وذلك لأن التحلي بمعنيين :
أحدهما : إظهار
كون المتحلّي غير مبتذل في الأشغال لأن التحلّي لا يكون (حاله) حالة الطبخ والغسل.
وثانيهما : إظهار
الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما باللآلىء والجواهر
وإما بالذهب والفضة والتحلّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المتحلّي لا يعجز عن
الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة
الوجود لا لحاجة والتحلّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجته. وإذا عرف هذا فنقول : الأساور محلّها الأيدي وأكثر
الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور علم الفراغ من الأعمال .
__________________
قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قرأ العامة «الحزن» بفتحتين وجناح بن حبيش بضم الحاء وسكون
الزاي. وتقدم من ذلك أول القصص . والمعنى يقولون إذا دخلوا الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا
الحزن. والحزن والحزن واحد كالبخل والبخل ، قال ابن عباس : حزن النار. وقال قتادة
: حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع بهم. وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف ردّ الطاعات
وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل : حزن أهوال يوم القيامة. وقال
الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة ، وقال سعيد بن جبير : الخبز
في الدنيا. وقيل : هم المعيشة ، وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كلّ الأحزان ما
كان منها لمعاش أو معاد . وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبورهم
ولا في منشرهم وكأنّي بأهل لا إله إلّا الله ينفضون التّراب عن رؤوسهم ويقولون : الحمد لله الّذي أذهب عنّا
الحزن . ثمّ قالوا : إنّ ربّنا لغفور شكور. ذكر الله عنهم أمورا كلها تفيد الكرامة :
الأول (أن) الحمد لله فإن الحامد مثاب. الثاني : قولهم : ربّنا فإن
الله (تعالى) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادي اللهم إلا أن يكون
المنادي يطلب ما لا يجوز. الثالث : قولهم : غفور شكور. والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة
بحمدهم في الدنيا ، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في
الآخرة.
قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا) أي أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) مفعول ثان «لأحلّنا». ولا يكون ظرفا لأنه مختص فلو كان
ظرفا لتعدى إليه الفعل بفي . والمقامة الإقامة . والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال : ما له معقول أي عقل. قال
تعالى : (مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠] (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩] وكذلك
المستخرج للإخراج لأن المصدر هو
__________________
المفعول في
الحقيقة فإنه هو الذي فعل (فجاز إقامة المفعول مقامه).
فصل
في قوله : (دارَ الْمُقامَةِ) إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى
منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العرصات التي فيها الجمع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم
منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها.
قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) متعلق «بأحلّنا» و «من» إما للعلّة
وإما لابتداء الغاية . ومعنى فضله أي يحكم وعده لا بإيجاب من عنده.
قوله : (لا يَمَسُّنا) حال من مفعول «أحلّنا» الأول والثاني ، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من
الأول أظهر . والنّصب التّعب والمشقّة ، واللّغوب الفتور النّاشىء عنه وعلى هذا فيقال إذا انتفى السّبب نفي المسبّب فإذا قيل : لم
آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانيا فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه
يجوز لم أشبع ولم آكل و (في) الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته؟ وقد
أجاب ابن الخطيب : بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع
يمس فيه المشاق كالبراري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار
فقيل : لا يمسّنا فيها نصب لأنها ليست مظانّ المتاعب كدار الدنيا ولا يمسّنا فيها
لغوب أي لا يخرج منها إلى موضع يتعب ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذاك . والذي يقال : إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس.
وقيل :
__________________
اللغوب الوجع وعلى
هذين فالسؤال زائل . وقرأ عليّ والسّلميّ بفتح لام لغوب وفيه أوجه :
أحدها : أنه مصدر على
فعول كالقبول.
والثاني : أنه اسم
لما يلغب به كالفطور والسّحور. قاله الفراء .
الثالث : أنه صفة
لمصدر مقدر أي لا يمسّنا لغوب لغوب نحو : شعر شاعر وموت مائت . وقيل : صفة لشيء غير مقدر أي أمر لغوب .
قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) عطف على قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) وما بينهما كلام يتعلق «بالذين يتلون
كتاب الله» على ما تقدم.
قوله : «فيموتوا»
العامة على نصبه لحذف النون جوابا للنفي وهو على أحد معنيين نصب : «ما تأتينا فتحدثنا» أي ما يكون
منك إتيان ولا حديث. انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه ، وهو الحديث. والمعنى الثاني : إثبات الإتيان ونفي الحديث
أي ما تأتينا محدّثا بل تأتينا غير محدث. وهو لا يجوز في الآية البتّة وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بإثبات النون . قال ابن عطية : وهي ضعيفة ، قال شهاب الدين وقد
__________________
وجّهها المازنيّ على العطف على (لا يُقْضى) أي لا يقضى عليهم فلا يموتون. وهو أحد الوجهين في معنى الرفع في قولك : ما تأتينا فتحدّثنا أو انتفاء الأمرين معا كقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦]
أي فلا يعتذرون. و «عليهم» قائم مقام الفاعل وكذلك «عنهم» بعد «يخفّف». ويجوز أن
يكون القائم (مِنْ عَذابِها) و «عنهم» منصوب
المحل ، ويجوز أن يكون «من» مزيدة عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو
المفعول به . وقرأ أبو عمرو ـ في رواية ـ ولا يخفّف بسكون الفاء ـ شبه المنفصل بعضد كقوله :
٤١٦٢ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب
|
|
..........
|
فصل
(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا) أي لا يهلكون فيستريحوا كقوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) أي قتله. لا يقضي عليهم الموت فيموتوا كقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] أي
الموت فنستريح بل العذاب دائم (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي من عذاب النار. وفي الآية لطائف :
الأولى : أن
العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجا
__________________
فاسدا لا يحسّ به
المعذب فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن بل
هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.
الثانية : دقيق العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت
حتى يتمنوه ولا يجابون كما قال تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي بالموت.
الثالثة : ذكر في
المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقص عذابهم ولم يقل : يزيدهم ، وفي المثابين قال : (يَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ).
قوله : «كذلك» إما
مرفوع المحل أي الأمر كذلك ، وإما منصوبه أي مثل ذلك الجزاء يجزى. وقرأ أبو عمرو «يجزى» مبنيا للمفعول كلّ رفع به . والباقون نجزي بنون العظمة مبنيا للفاعل كلّ مفعول به.
والكفور الكافر.
قوله : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ) يستغيثون ويصيحون «فيها» وهو يفتعلون من الصّراخ وهو
الصّياح. وأبدلت الفاء صادا لوقوعها قبل الطاء ، «يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النار فقوله : «ربنا» على إضمار القول وذلك القول إن
شئت قدرته فعلا مفسرا ليصطرخون أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالا
من فاعل «يصطرخون» أي قائلين ربّنا .
قوله : (صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يجوز أن يكونا نعتي مصدر محذوف أي عملا صالحا غير الذي كنا نعمل وأن يكونا
نعتي مفعول به محذوف أي نعمل شيئا صالحا غير الذي كنا نعمل وأن يكون «صالحا» نعتا
لمصدر و (غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ) هو المفعول به. وقال الزمخشريّ : فإن قلت : فهلا اكتفي
بصالحا كما اكتفي به في قوله : فارجعنا نعمل صالحا؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا
نعمل؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت : فائدته
زيادة التحسّر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور
حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال
تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤]
فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الّذي كنا نحسبه صالحا فنعمله .
__________________
قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) (أي فيقول لهم توبيخا : أو لم نعمركم أي عمّرناكم مقدارا يمكن التذكر
فيه.
قوله) : «ما يتذكّر»
جوزوا في «ما» هذه وجهين :
أحدهما ـ ولم يحك
أبو حيان غيره ـ : أنها مصدرية ظرفية قال : أي مدّة تذكّر ، وهذه غلط لأن الضمير (في) (فيه) يمنع ذلك
لعوده على «ما» ولم يقل باسمية ما المصدرية إلا الأخفش وابن السّرّاج .
والثاني : أنها
نكرة موصوفة أي تعمّرا يتذكّر فيه أو زمانا يتذكّر فيه. وقرأ الأعمش ما يذّكّر بالإدغام من «اذّكّر» ، قال أبو حيان : بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها
في الدّرج وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلّا أن
يكون حافظ على سكون «من» وبيان ما بعدها.
فصل
معنى قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قيل : هو البلوغ. وقال قتادة وعطاء والكلبي : ثماني عشرة
سنة وقال الحسن : أربعون سنة. وقال ابن عباس : ستون سنة. روي ذلك عن عليّ وهو
العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم . قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «أعذر الله إلى ابن آدم
امرىء أخّر أجله حتّى بلغ ستّين سنة» وقال ـ عليه (الصّلاة و) السلام ـ : «أعمار أمّتي ما بين
السّتّين إلى السّبعين وأقلّهم من يجوز ذلك» .
قوله : (وَجاءَكُمُ) عطف على (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ) ؛ لأنه في معنى قد عمّرناكم
__________________
كقوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشعراء : ١٨] ثم
قال : ولبثت (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) [الشرح : ١] ثم
قال: (وَوَضَعْنا) [الشرح : ٢] ، إذ
هما في معنى ربّيناك وشرحنا ، والمراد بالنّذير محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في قول أكثر المفسرين. وقيل : القرآن. وقال عكرمة وسفيان
بن عيينة ووكيع : هو الشيب . والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال : الشّيب نذير
الموت. وفي الأثر : ما من شعرة تبيضّ إلّا قالت لأختها : استعدّي فقد قرب الموت . وقرىء : النّذر جمعا .
قوله : «فذوقوا»
أمر إهانة (فَما لِلظَّالِمِينَ) الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها. (مِنْ نَصِيرٍ) في وقت الحاجة ينصرهم ، و (مِنْ نَصِيرٍ) يجوز أن يكون فاعلا بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبرا
عنه بالجار قبله .
قوله : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) قرأ العامة عالم غيب على الإضافة تخفيفا. وجناح بن حبيش
بتنوين عالم ونصب (غيب) إنّه عليم بذات الصّدور. وهذا تقرير لدوامهم في العذاب
وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاء السّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها
فلو قال (قائل) : الكافر ما كفر بالله إلا أياما معدودة فينبغي أن لا
يعذّب إلا مثل تلك الأيام فقال : إنّ الله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا
يخفى عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أنّ في قلبه تمكّن الكفر لو دام إلى
الأبد لما أطاع الله .
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي
الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ
خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ
غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ
__________________
حَلِيماً
غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ
فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي
الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)(٤٣)
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي
الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا. وقيل : جعلكم أمة واحدة خلت من قبلها
ما ينبغي أن يعتبر به فجعلكم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال
الماضين وترضون بحالهم ، فمن كفر بعد هذا كله (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره (وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي غضبا لأن الكافر (و) السابق كان ممقوتا(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ
إِلَّا خَساراً) أي الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيد إلا المقت ولا
ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسار لأن العمر كرأس (مال) من اشترى به رضى الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر .
قوله : «أرأيتم»
فيها وجهان :
أحدهما : أنها ألف
استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكلمة معنى أخبروني بل هو استفهام حقيقي وقوله :
«أروني» أمر تعجيز.
والثاني : أنّ
الاستفهام غير مراد وأنها ضمّنت معنى أخبروني. فعلى هذا يتعدى لاثنين :
أحدهما : شركاءكم.
والثاني : الجملة
الاستفهامية من قوله (ما ذا خَلَقُوا). و «أروني» يحتمل أن تكون جملة اعتراضية.
والثاني : أن تكون
المسألة من باب الإعمال فإنّ «أرأيتم» يطلب (ما ذا خَلَقُوا) مفعولا ثانيا و «أروني» أيضا يطلبه معلقا له وتكون المسألة
من باب إعمال الثاني على مختار البصريّين ، و «أروني» هنا بصريّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية
قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم : «أما ترى أيّ برق ههنا» وقد تقدم الكلام على (أن) «أرأيتم»
__________________
هذه في الأنعام . وقال ابن عطية هنا : «أرأيتم» ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين. وهو غلط بل يحتاج كما تقدم
تقريره. وجعل الزمخشري الجملة من قوله «أروني» بدلا من قوله : «أرأيتم» قال : لأن
معنى أرأيتم أخبروني . وردّه أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام (لا)
يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضا فإبدال جملة من جملة لم يعهد في
لسانهم . قال شهاب الدين : والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير
مراد قطعا فلم تعد أداته ، وأما قوله : لم يوجد في لسانهم فقد وجد ومنه :
٤١٦٣ ـ متى تأتنا تلمم بنا ...
|
|
..........
|
(و) :
٤١٦٤ ـ إنّ عليّ الله أن تبايعا
|
|
تؤخذ كرها وتجيب
طائعا
|
وقد نص النحويون
على أنه متى كانت الجملة في معنى الأول ومبنية لها أبدلت منها.
فصل
هذه الآية تقرير
للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جعلتموهم شركائي بزعمكم يعني الأصنام «أروني»
أخبروني (ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ) فقال : «شركاءكم» فأضافهم إليهم
__________________
من حيث إنّ
الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي
الشركاء بجعلكم. ويحتمل أن يقال : معنى شركاءكم أي (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨].
ويحتمل أن يكون معنى «أرأيتم» أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم
لا؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم تعلمون أن لها قدرة فأروني
قدرتها في أي شيء أهي في الأرض كما قال بعضهم : إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة
الأرض وهم الذين قالوا : أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات
كما قال بعضهم : إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شركاء في خلق السموات وهذه
الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم : «إنما نعبدهم ليقربونا
إلى الله زلفى» فهل معهم كتاب من الله؟ قال مقاتل : هل أعطينا كفار مكة كتابا فهم
على بينة منه؟
قوله : (آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ) الأحسن في هذا الضمير أن يعود على «الشّركاء» ليتناسق الضمائر. وقيل : يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون
التفاتا من خطاب إلى غيبة . وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن كثير وحفص بيّنة بالإفراد
والباقون بيّنات بالجمع أي دلائل واضحة منه ممّا في ذلك الكتاب من ضروب البيان.
قوله : (بَلْ إِنْ يَعِدُ) «إن» نافية
والمعنى ما يعد الظالمون (بَعْضُهُمْ بَعْضاً
إِلَّا غُرُوراً) غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. والغرور ما يغر
الإنسان مما لا أصل له ، قال مقاتل : يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل
.
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر
بقوله : إن الله يمسك السموات والأرض. ويحتمل أن يقال : لما بين شركهم قال : مقتضى
شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١]
ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية «ان الله كان حليما غفورا» حليما ما ترك
تعذيبهم إلا حلما منه وإلا كانوا يستحقون إسقاط السّماء وانطباق الأرض عليهم.
وإنما أخّر إزالة
__________________
السموات لقيام
الساعة حكما. ويحتمل أن يقال : إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى
قال : شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئا ولا من السماء جزءا لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عبادة لهم وهب أنهم فعلوا
شيئا من الأشياء فهل يقدرون على إمساك السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم
يقدرون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥]
ويؤيد هذا قوله : (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ
أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) فإذن تبين أن لا معبود إلّا الله من حيث إن غيره لم يخلق
شيئا من الأشياء وإن قال كافر بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك .
قوله : (أَنْ تَزُولا) يجوز أن يكون مفعولا من أجله أي كراهة أن تزولا . وقيل : لئلا تزولا ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا على إسقاط الخافض أي يمنعهما
من أن تزولا. كذا قدره أبو إسحاق . ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع زوالهما .
قوله : (إِنْ أَمْسَكَهُما) جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضيا. وقول
الزمخشري : إنه سدّ مسد الجوابين يعني أنه دال على جواب الشرط.
قال أبو حيان ؛
وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث
إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم ، والشيء الواحد
لا يكون معمولا غير معمول . و (مِنْ أَحَدٍ) من مزيدة لتأكيد الاستغراق و (مِنْ بَعْدِهِ) من لابتداء الغاية والمعنى أحد سواه (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ، «حليما» حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم
«غفورا» لمن تاب ويرحمه وإن استحق العقاب.
__________________
فإن قيل : ما معنى
ذكر الحليم ههنا؟ قيل : لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما
الله ـ عزوجل ـ عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقوبة.
قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا
لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا : «لو أتانا
رسول لنكونن أهدى» دينا منهم وذلك قبل مبعث النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى
مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني اليهود والنصارى . وقيل : المعنى أهدى مما نحن عليه. وعلى هذا فقوله (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) للتبيين كما يقال : زيد من المسلمين ، ويؤيده قوله تعالى :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي صاروا أضل مما كانوا يقولون : نكون أهدى. وقيل : المراد
أهدى من إحدى الأمم كقولك : زيد أولى من عمرو. وقيل : المراد بإحدى
الأمم العموم أي إن إحدى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم
للرسول ومبالغتهم فيه حيث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم
كونهم رسلا وقالوا إنما نكذب محمدا ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لكونه كاذبا ولو تبين لنا كونه رسولا لآمنّا
كما قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩]
وهذا مبالغة في التكذيب.
قوله : «ليكوننّ» جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم . وقوله : (لَئِنْ جاءَهُمْ) حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب
لئن جاءنا لنكوننّ.
قوله : (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي من الأمة التي يقال فيها : هي إحدى الأمم تفضيلا لها
كقولهم: هو إحد (ى) الأحدين قال :
٤١٦٥ ـ حتّى استثاروا بي إحدى الإحد
|
|
ليثا هزبرا في
سلاح معتد
|
قوله : (ما زادَهُمْ) جواب «لمّا». وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذ لا يعمل ما
__________________
بعد «ما» النافية
فيما قبلها ، وتقدمت له نظائر . وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].
فصل
معنى فلما جاءهم
أي صح لهم مجيئه بالمعجزة وهو محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (ما زادَهُمْ إِلَّا
نُفُوراً) أي ما زادهم بمجيئه إلا تباعدا عن الهدى.
قوله : «استكبارا»
يجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل الاستكبار . وأن يكون بدلا من «نفورا» وأن يكون
حالا أي حال كونهم مستكبرين . قاله الأخفش.
قوله : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف
على «استكبارا».
والثاني : أنه عطف
على «نفورا» . وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمكر والسيّىء . وقرأ العامّة بخفض همزة «السيّىء». وحمزة والأعمش بسكونها
وصلا . وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها للّحن
__________________
ونزهوا الأعمش من أن يكون قرأ بها. قالوا : وإنما وقف مسكنا فظنّ أنه واصل فغلط عليه . وقد احتج لها قوم بأنه إجراء الوصل مجرى الوقف أو أجري المنفصل
مجرى المتصل وحسّنه كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة . وقد تقدّم أنّ أبا عمرو يقرأ : (إِلى بارِئِكُمْ) (عِنْدَ بارِئِكُمْ) بسكون الهمزة. فهذا أولى لزيادة الثقل هنا. وقد تقدم هنا (ك)
أمثلة وشواهد ، وروي عن ابن كثير «ومكر السأي» بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء
مكسورة . (و) خرجت على أنها مقلوبة من السّيء ، والسّيء مخفف (من
السيّىء) كالميّت من الميّت قال الحماسيّ :
٤١٦٦ ـ ولا يجزون من حسن بسيء
|
|
ولا يجزون من
غلظ بلين
|
وقد كثر في قراءته
القلب نحو ضياء ، وتأيسوا ولا يأيس ، كما تقدم تحقيقه. وقرأ عبد الله : «ومكرا سيئا» بالتنكير
وهو موافق لما قبله . وقرىء : ولا يحيق بضم
__________________
الياء المكر
السّيّىء بالنصب على أن الفاعل ضمير الله تعالى ؛ أي لا يحيط الله المكر
السّيّىء إلّا بأهله.
فصل
المراد بالمكر
السيّىء أي القبيح أضيف المكر إلى صفته قال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك . وقيل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقال ابن الخطيب : هذا من إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال : علم الفقه وحرفة الحدادة ومعناه : ومكروا مكرا
سيئا ثم عرّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّىء لكون السر فيه
أبين الأمور. ويحتمل أن يقال : بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يعملون السيئات.
قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا يحل ولا يحيط ، وقوله : «يحيق» ينبىء عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق.
فإن قيل : كثيرا
ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن يكون
المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا
يوم بدر وغيره.
وثانيها : أن نقول
: المكر عام وهو الأصح ، فإن النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ نهى عن المكر وأخبر بقوله : «لا تمكروا ولا
تعينوا ماكرا فإنّ الله يقول : ولا يحيق المكر السّيّىء إلّا بأهله» وعلى هذا (فذلك) الرجل الماكر يكون أهلا فلا يرد نقضا.
وثالثها : أن
الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر فهو في الحقيقة هو
الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقّة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا
المعنى قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) يعني إن كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور
بخواتيمها.
__________________
قوله : (سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) مصدر مضاف لمفعوله و (لِسُنَّتِ اللهِ) مصدر مضاف لفاعله لأنه سنّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل
والمفعول. وهذا جواب (عن) سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله في
الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين :
أحدهما : أن
المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون
وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمرا : عجبت من ضرب عمرو وكيف ضرب مع ما له من القوم والقوة؟ وعجبت من ضرب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم
والحلم ؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها (سنة) سنت بهم وإضافتها إلى نفسه بعدها بقوله : (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ) لأنها سنة من الله ، فعلى هذا نقول : أضافها في الأول
إليهم حيث قال : سنة الأولين ، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام
فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال : سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيما وتبين
أنها أمر واقع ليس لها من دافع.
وثانيهما : أن
المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله
استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة
لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقّها.
فإن قيل : ما
الحكمة في تكرار التبديل والتحويل؟
فالجواب : أن
المراد بقوله : (فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ
تَحْوِيلاً) حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول
عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.
فصل
المعنى فهل
ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار والمخاطب بقوله : (فَلَنْ تَجِدَ) عام كأنه قال : لن تجد أيها السامع وقيل : الخطاب مع محمد
ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
__________________
وَكانُوا
أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)
قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) لما ذكر الأولين وسنته في إهلاكهم نبههم بتذكير الأولين
فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون
عملهم وكانوا أطول أعمارا منهم وأشد اقتدارا ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد وأنتم يا
أهل مكة كفرتم محمدا ومن تقدّمه.
قوله : (وَكانُوا أَشَدَّ) جملة في موضع نصب على الحال ونظيرتها في الروم : «كانوا» بلا «واو» على أنها مستأنفة فالمقصدان مختلفان.
وقال ابن الخطيب :
الفرق بينهما أن قول القائل : «أما رأيت زيدا كيف أكرمني هو أعظم منك» يفيد أن
القائل يخبره بأن زيدا أعظم وإذا قال : ما رأيته كيف أكرمني وهو أعظم (منك) يفيد أن يقرر أن المعنيين حاصلان عند السامع كأنه رآه
أكرمه ورآه أكرم منه (و) لا شك في أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في
الظهور مثل الأول بحيث لا يحتاج إلى إعلام من المتكلم ولا إخبار. وإذا علم هذا
فنقول : المذكور ههنا كونهم أشدّ منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهرا عندهم فقال «بالواو»
أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قوتهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة
فإنه قال : (أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ) [الروم : ٩]. وفي
موضع آخر قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) [غافر : ٨٢] ولعل
علمهم لم يحصل بإثارتهم في الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم كان معلوما عندهم فإن كل
طائفة تعتقد فيمن تقدمها أنها أقوى منها ولا تنازع فيه.
__________________
قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ
شَيْءٍ) أي ليفوت عنه. وهذا يحتمل شيئين :
أحدهما : أن يكون
المراد بيان أن الأولين مع شدة قوتهم ما عجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا
يعجزوه.
والثاني : أن يكون
قطعا لاعتقاد الجهال فإنّ قائلا لو قال : هب أن الأولين كانوا أشدّ قوة وأطول
أعمارا لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضيّة لها خواص أو
كواكب سماوية لها آثار فقال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بأفعالهم وأقوالهم «قديرا» على إهلاكهم واستئصالهم.
قوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما
كَسَبُوا) من الجرائم (ما تَرَكَ عَلى
ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) يعني على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور. وتقدم نظيرها في النحل ، إلّا أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فهم
من السّياق وهنا قد صرح بها في قوله : (فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ) فيعود الضمير إليها لأنها أقرب ، وأيضا فلقوله : (مِنْ دَابَّةٍ) والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال : (عَلى ظَهْرِها) استعارة من ظهر الدابة دلالة على التمكن والتقلب عليها
والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حث على السير للنظر والاعتبار.
قوله : (مِنْ دَابَّةٍ) أي كما كان في زمن نوح ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة
مع نوح.
فإن قيل : إذا كان
الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما (بال) الدوابّ يهلكون؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن خلق
الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم ، لأن المفرد (أولا)
ثم المركب والمركب إما أن يكون معدنا وإما أن يكون ناميا والنامي إما أن يكون
حيوانا أو نباتا والحيوان إما إنسانا أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في
عالم العناصر للإنسان.
الثاني : أن ذلك
بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا (ء الأشياء) بالإنسان كما أنّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر
الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها
__________________
الإنسان فإذا كان
الهلاك عاما لا يبقى من الإنسان من يعمّر فلا يبقى الأبنية والزروع فما تبقى
الخيرات الإلهية فإن بقاءها لحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك بالسّقي والقلب .
الثالث : أن إنزال
المطر إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر
الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات.
فإن قيل : كيف
يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالتضاد؟ فيقال : من حيث إنّ الأرض كالدابة
الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن
والباطن من باب ووجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
قوله : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى) قيل : هو يوم القيامة. وقيل : يوم لا يوجد في الخلق مؤمن وقيل : لكل أمة
أجل ، ولكل أجل كتاب وأجل قوم محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
قوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ
كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) تسلية للمؤمنين لأنه قال : ما ترك على ظهرها من دابة وقال (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥]
فقال : فإذا جاء الهلاك فالله بالعباد بصير ، قال ابن عباس : يريد أهل طاعته وأهل معصيته ، (و) روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب
الجنّة أن ادخل من أيّ الأبواب شئت» . [والله الموفّق للصّواب ، وإليه المرجع والمآب].
__________________
سورة «يس»
مكية وهي ثلاث وثمانون آية ، وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة ،
وثلاثة آلاف حرف.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قوله تعالى : (يس (١) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ)(٦)
قوله تعالى : (يس) بسكون النون. وأدغم النون في الواو بعدها ابن كثير وأبو
عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بخلاف عنه. وكذلك النون من (ن وَالْقَلَمِ) وأظهرهما الباقون . فمن أدغم فللخفّة ، ولأنه لما وصل والنفي متقاربان من
كلمتين أولهما ساكن وجب الإدغام كالمثلين. ومن أظهر فللمبالغة في تفكيك هذه الحروف
بعضها من بعض ، لأنه بنية الوقف وهذا أجري على القياس في الحروف المقطعة وكذلك التقى فيها الساكنان وصلا ونقل
إليها حركة همزة الوصل على رأي نحو (الم. اللهُ) كما تقدم تقريره.
(وأمال الياء من «يس» الأخوان ، وأبو بكر ؛ لأنها اسم من الأسماء كما تقدم تقريره) أوّل البقرة .
__________________
قال الفارسيّ :
وإذا أمالوا «ياء» وهي حرف نداء فلأن يميلوا «يا» من «يس» أجدر . وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق بفتح النون إمّا على البناء على الفتح تخفيفا ك «أين وكيف» وإما على أنه مفعول ب «اتل» وإما على أنه مجرور بحرف القسم ، وهو على الوجهين غير منصرف للعلمية والتأنيث ويجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف القسم كقوله :
٤١٦٧ ـ ..........
|
|
... أمانة الله الثّريد
|
وقرأ الكلبي بضم النون ، فقيل على أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي هذه يس
ومنعت من الصرف ؛ لما تقدم.
وقيل : بل هي حركة
بناء ك «حيث» فيجوز أن (يكون) خبرا كما تقدم وأن يكون مقسما بها نحو : «عهد
الله لأفعلن».
وقيل : لأنها
منادى فبنيت على الضم ، ولهذا فسّرها الكلبي القارىء لها ب «يا إنسان». قال : وهي
لغة طيّىء . قال الزمخشري : إن صح معناه فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين
فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما قالوا في القسم : «م الله»
في أيمن الله .
قال أبو حيان :
والذي نقل عن العرب في تصغير إنسان أنيسان بياء بعدها ألف فدل أن أصله أنسيان ؛
لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، ولا نعلم أنهم قالوا في تصغيره : أنيسين.
وعلى تقدير أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم ، لأنه
__________________
منادى مقبل عليه ،
ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ويمتنع من ذلك في حق النّبوّة .
قال شهاب الدين :
أما الاعتراض الأخير فصحيح نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعا
، ولذلك يحكى أن ابن قتيبة (لمّا قال) في المهيمن إنه مصغر من «مؤمن» والأصل : مؤيمن فأبدلت
الهمزة هاء قيل له : هذا يقرب من الكفر فليتّق الله قائله .
وتقدمت هذه
الحكايات في المائدة وما قيل فيها. وقد تقدم للزمخشري في «طه» ما يقرب من هذا البحث وتقدم كلام الشيخ معه .
وقرأ ابن أبي
إسحاق أيضا وأبو السّمّال يس بكسر النون ، وذلك على أصل التقاء الساكنين ولا يجوز أن يكون حركة
إعراب . (وَالْقُرْآنِ) إما قسم مستأنف إن لم تجعل ما تقدم قسما وإما عطف على ما
قبله إن كان مقسما به . وقد تقدم كلام عن الخليل في ذلك أوائل البقرة فاعتبره هنا فإنّه حسن جدّا.
__________________
فصل
قد تقدمت في سورة
العنكبوت ذكر حروف التهجي وأن كل سورة بدأ الله فيها بحروف التهجي كان في أوائله
الذكر أو الكتاب أو القرآن. ولنذكر ههنا أن في ذكر هذه الحروف أوائل السور أمورا
تدل على أنها غير خالية عن الحكمة لكن علم الإنسان لا يصل إليها. والذي يدل على أن
فيها حكمة من حيث الجملة هو أن الله تعالى ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفا
وهي نصف ثمانية وعشرين حرفا هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا : الهمزة
ألف متحركة.
ثم إنه تعالى قسم
الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال والتسعة الأخيرة من الفاء إلى
الياء وعشرة في الوسط من الراء إلى الغين ، وذكر من القسم الأول حرفين الألف
والحاء وترك سبعة ، ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحدا
لم يذكره وهو الخاء ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشّفة إلا واحدا لم يتركه
وهو الميم. والعشر الأواسط ذكر منه حرفا وترك حرفا ، فترك الزاي وذكر الراء وذكر
السين وترك الشّين ، وذكر الصاد وترك الضاد ، وذكر الطاء وترك الظّاء وذكر العين
وترك الغين. وليس هذا أمرا يقع اتفاقا بل هو ترتيب مقصود وهو لحكمة لكنها غير
معلومة وهب أن واحدا يدعي فيه شيئا فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة
«ن» و «ق» و «ص» وبعضها بحرفين كسورة «حم» و «يس» و «طه» وبعضها بثلاثة أحرف كسورة
«الم» وطسم» و «الر» وبعضها بأربعة أحرف كسورة «المر» و «المص» وبعضها بخمسة كسورة
«حمعسق» و «كهيعص» وهب أنّ قائلا يقول : إن هذا إشارة بأن الكلام إما حرف ، وإما
فعل ، وإما اسم ، والحرف كثيرا ما جاء على حرف كواو العطف وفاء العقيب ، وهمزة
الاستفهام ، وكاف التشبيه ، وياء الإلصاق وغيرها ، وجاء على حرفين كمن للتبعيض و «أو» للتخيير ، و «أم»
للاستفهام المتوسط ، وإن للشرط وغيرها. والفعل والاسم والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى
وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألو وعلا يعلو في الفعل ، والاسم والفعل
جاءا على أربعة أحرف ، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة ك «عجل» وسنجل
__________________
وجردحل . فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه
الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد ،
والبعض بأكثر فلا يعلم ما السّرّ إلا الله ومن أعلمه الله به وإذا علم هذا
فالعبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ، وكل واحد منها قسمان :
قسم عقل معناه
وحقيقته وقسم لم يعلم.
أما القلبية مع
أنها أبعد عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلا وإنما وجب الإيمان به
والاعتقاد سمعا كالصّراط الذي هو أرق من الشعر وأحدّ من السيف ، ويمر عليه المؤمن
كالبرق الخاطف ، والميزان الذي توزن به الأعمال الذي لا ثقل لها في نظر الناظر
وكيفية الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم
بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم (و) مقطوع به بالسمع ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله
وصدق الرسول وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب
وعدد الركعات والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه
من الفائدة لا يكون الإتيان إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي بها لفائدة
وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده : انقل هذه الحجارة من ههنا ولم
يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزا هو لك فإنه ينقلها وإن
لم يؤمر. وإذا علم هذا فكذلك في العبادات اللّسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم
يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهيّ.
فإذا قال : حم ، يس ، طس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالا لما
أمر به .
فصل
قال ابن عباس : يس
قسم ، وروي عنه أن معناه يا إنسان بلغة طيىء. قيل : لأن تصغير إنسان أنيسين كما
تقدم عن الزمخشري فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال : ياسين أي يا أنيسين.
قال أكثر المفسرين
يعني محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة.
وقال أبو (العالية
: يا رجل. وقال أبو بكر الوراق : يا سيّد البشر . وقوله : (وَالْقُرْآنِ
__________________
الْحَكِيمِ) أي ذي) الحكمة ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أي
ذات رضا ، أو أنه ناطق بالحكمة وهو كالحيّ المتكلم.
قوله : «إنّك»
جواب القسم و (عَلى صِراطٍ) يجوز أن يكون متعلقا ب «المرسلين» يقول : أرسلت عليه ، كما قال تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً) [الفيل : ٣] وأن
يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنّ في (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لوقوعه خبرا ، وأن يكون حالا من «المرسلين» وأن يكون
خبرا ثانيا ل «إنّك» .
فصل
أقسم بالقرآن على
أن محمدا من المرسلين. وهو رد على الكفار ، حيث قالوا : (لست مرسلا).
فإن قيل : المطلب
ثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقسام؟!.
فالجواب من وجوه :
الأول : إن العرب
كانوا يتقون الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون بأن الأيمان الفاجرة توجب
خراب العالم وصحح النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك بقوله : «اليمين الكاذبة تدع الدّيار بلاقع». ثم
إنهم كانوا يقولون : إن النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ يصيبه عذاب آلهتهم ، وهي الكواكب والنبي عليه (الصلاة
و) السلام يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب
بل كان كل يوم أرفع شأنا وأمنع مكانا ، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.
الثاني : أن
المتناظر (ين) إذا وقع بينهما كلام ، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله
وأسكته يقول المغلوب : إنك قدرت هذا بقوة جدالك ، وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك ،
وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة ، وعجزت
__________________
أنا عن القدح فيه
وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن
الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول ، فلا يجد أمرا إلا باليمين
فيقول : والله إنّي لست مكابرا ، وإنّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرجعت
إليه فههنا يتعين اليمين ، فكذلك النبي عليه (الصلاة و) السلام أقام البراهين ،
وقالت الكفرة : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) [سبأ : ٤٣] وقالوا
(لِلْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف: ٧] فالتمسك بالأيمان لعدم فائدة.
الدليل الثالث :
أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ودليل كونه
مرسلا هو المعجزة والقرآن كذلك.
فإن قيل : لم لم
يذكر في صورة الدليل؟ وما الحكمة في صورة اليمين؟
فالجواب : أن
الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين ، قد لا يقبل عليه السامع فلا يفيد فائدة ، فإذا
ابتدأ به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم ، والأمر العظيم
تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلا
شافيا يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب.
قوله : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إنّك على صراط مستقيم. والمستقيم أقرب الطرق الموصلة
إلى المقصد والدين كذلك فإنه يوصل إلى الله وهو المقصد .
قوله : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر برفع «تنزيل» على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هو تنزيل. ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ إذا جعلت (يس) اسما للسورة أي هذه السورة المسمّاة ب (يس) تنزيل ، أو هذه الأحرف المقطعة تنزيل.
والجملة القسمية على هذا اعتراض. والباقون بالنصب على المصدر كأنه قال : نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر. أو على أنه
مفعول بفعل منويّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعني تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن
المرسلين لتنذر. وهذا اختيار الزمخشري.
__________________
وهو المراد بقوله
: «أو على المدح» . وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداء مضمر. و «تنزيل»
مصدر مضاف لفاعله .
وقيل : هو بمعنى
منزّل . وقرأ أبو حيوة واليزيدي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة تنزيل بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه ، كأن قال : والقرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن
المرسلين.
وقوله : (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) إشارة إلى أن الملك إذا أرسل فالمرسل إليهم إما أن يخالفوا
المرسل ويعينوا المرسل ، وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان
عزيزا ، أو يخافوا المرسل ويكرموا المرسل وحينئذ يرحمهم الملك. أو يقال : المرسل
يكون معه في رسالته منع عن أشياء وإطلاق لأشياء والمنع يؤكده العزة والإطلاق يدل
على الرحمة .
قوله : «لتنذر»
يجوز أن يتعلق ب «تنزيل» أو بمعنى المرسلين يعني بإضمار فعل يدل عليه هذا اللفظ أي
أرسلناك لتنذر.
قوله : (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) يجوز أن تكون «ما» هذه بمعنى الذي ، وأن تكون نكرة موصوفة والعائد على الوجهين مقّدر .
أي ما أنذره
آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها في محل نصب مفعولا ثانيا لقوله : «لتنذر» كقوله
: (إِنَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النبأ : ٤٠] أو
التقدير لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم من العذاب ، أو لتنذر قوما عذابا أنذره
آباؤهم .
ويجوز أن تكون
مصدرية أي إنذار آبائهم أي مثله. ويجوز أن تكون ما
__________________
نافية ، وتكون الجملة المنفية صفة ل «قوما» أي قوما غير منذر
آباؤهم. ويجوز أن تكون زائدة أي قوما أنذر آباؤهم. والجملة المثبتة أيضا صفة ل «قوما».
قاله أبو البقاء .
وهو مناف للوجه
الذي قبله. فعلى قولنا ما نافية ، فالمعنى ما أنذر آباؤهم الأدنون وإن قلنا : ما
للإثبات فالمعنى لينذروا بما أنذر آباؤهم الأولون. وقوله : (فَهُمْ غافِلُونَ) أي عن الإيمان والرشد.
قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(١٢)
قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) وجب العذاب (عَلى أَكْثَرِهِمْ
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا كقوله: (وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١] وفي
الآية وجوه :
أشهرها : أن المراد
من القول هو قوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي) [السجدة : ١٣] (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) [ص : ٨٥].
والثاني : أن
معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وجد وثبت بحيث لا
يبدّل بغيره. لا يبدل القول لدي.
الثالث : المراد
لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه ، فإنهم
لمّا لم يؤمنوا عند ما ما حق القول واستمروا ، فإن كانوا يريدون شيئا أوضح من
البرهان فهو العناد وعند العناد لا يفيد الإيمان. وقوله : (عَلى أَكْثَرِهِمْ) على هذا الوجه معناه أن من لم تبلغه الدعوة والبرهان
قليلون فحق القول على أكثرهم وهو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر ، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر.
قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالاً) نزلت في أبي جهل وصاحبيه ، وذلك أن أبا جهل كان (قد) حلف لئن رأى محمدا يصلّي ليرضخنّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو
__________________
يصلي ومعه حجر
ليدمغه به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ، ولزق الحجر بيده ، فلما رجع إلى
أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر ،
فأتاه وهو يصلّي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى
أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت
كلامه ، وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله
تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً).
ووجه المناسبة لما
تقدم أنه لما قال : (لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) وتقدم أن المراد به البرهان قال بعد ذلك : بل عاينوا
وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر ، وهو مضطر
إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلا .
وقال الفراء :
معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، كقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩]
معناه ولا تمسكها عن النفقة.
الرابع : قال ابن
الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبة لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن
الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى : (لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي
صلاتكم عند بعض المفسرين ، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يصلّون ولا يزكون
.
قوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) في هذا الضمير وجهان :
أشهرهما : أنه
عائد على الأغلال ، لأنها هي المحدّث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن
الغلّ لغلظه وعرضه يصل إلى الذقن ، لأنه يلبس العنق جميعه. قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم
أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكّن المغلول معها من أن يطأطىء
رأسه .
الثاني : أن
الضمير يعود على «الأيدي» ، لأن الغلّ لا يكون إلّا في العنق ، واليدين ، ولذلك
سمي جامعة ، ودلّ على الأيدي وإن لم تذكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة
__________________
أعني الغلّ ،
وإليه ذهب الطّبريّ . إلا أن الزمخشري قال : جعل الإقماح نتيجة قوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا ، على
أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر .
وفي هذا الكلام
قولان :
أحدهما : أن جعل
الأغلال حقيقة.
والثاني : أنه
استعارة ، وعلى كل من القولين جماعة من الصّحابة والتابعين .
وقال الزّمخشريّ :
(مثل) لتصميمهم على الكفر ، وأنّه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين
المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون
رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن آيات الله . وقال غيره : هذا استعارة لمنع الله إيّاهم من الإيمان
وحولهم بينهم وبينه. (و) قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنه تعالى لما ذكر
أنهم لا يؤمنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة
الشّقاوة ما حالهم معه حال المغلوبين . وتقدم تفسير الأذقان .
وقال ابن الخطيب :
المانع إما أن يكون في النفس فهو الغلّ وإما من الخارج فالسد ، فلم يقع نظرهم على
أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] وذلك
لأن المقمح لا يرى (في)
__________________
نفسه ولا يقع بصره
على بدنه ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى
هذا فقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ ... وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في (الأنفس و) الآفاق. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) هذه الفاء لأحسن ترتيب ، لأنه لما وصلت الأغلال إلى
الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رؤوسهم إلى فوق. أو لما جمعت الأيدي إلى الأذقان
وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفع رؤوسهم .
والإقماح رفع
الرأس إلى فوق كالإقناع ، وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشّرب ، إما
لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قموحا وقماحا ـ بكسر القاف وضمها ـ وأقمحته أنا
إقماحا ، والجمع قماح ، وأنشد :
٤١٦٨ ـ ونحن على جوانبها قعود
|
|
نغضّ الطّرف
كالإبل القماح
|
يصف نفسه وجماعة
كانوا في سفينة ، فأصابهم الميد .
قال الزجاج قيل :
الكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردن الماء رفعت رؤوسها ، لشدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي :
٤١٦٩ ـ فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا
|
|
وحبّ الزّاد في
شهري قماح
|
__________________
كذا رواه بضم
القاف ، وابن السّكّيت بكسرها. وقال اللّيث : القموح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود.
وقال أبو عبيدة إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب . والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره.
وقال الحسن :
القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه. وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى. وزاد بعضهم مع
رفع الرأس غضّ البصر مستدلا بالبيت المتقدم :
٤١٧٠ ـ ..........
|
|
نغض الطرف
كالإبل القماح
|
وزاد مجاهد مع ذلك
وضع اليد على الفم. وسأل الناس أمير المؤمنين (عليا) ـ كرم الله وجهه ـ عن هذه الآية فجلع يديه تحت لحيته ، ورفع رأسه. وهذه الكيفية ترجّح قول الطّبريّ في عود «فهي»
على الأيدي .
قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) تقدم خلاف القراء في فتح السّين وضمّها والفرق بينهما
مستوفى آخر الكهف والحمد لله.
وأما فائدة السد
من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكون فينبغي أن يسلكوا الطّريقة المستقيمة (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) فلا يقدرون على السلوك. وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنّ
الإنسان له فطريّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جعلنا من بين أيديهم سدّا
فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سدا فلا يرجعون إلى
الهداية والجبلية التي هي فطرية ، وأيضا فإن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه
فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله ، وما خلفه من الدخول في الوجود
بخلق الله وأيضا فإنّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق ، فإن اشتدّ الطريق
الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع ، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع
الذي هو فيه لا
__________________
يكون موضع إقامة
يهلك. فقوله (وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) إشارة إلى هلاكهم فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقف.
قوله : «فأغشيناهم»
العامة على الغين المعجمة أي غطّينا أبصارهم وهو على حذف مضاف. وابن عباس وعمر بن
عبد العزيز ، والحسن ، وابن يعمر ، وأبو رجاء في آخرين بالعين المهملة .
وهو ضعف البصر.
يقال : عشي بصره ، وأعشيته أنا .
وهذا يحتمل
الحقيقة والاستعارة.
فصل
قوله : «فأغشيناهم»
بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتبا على جعل السد فما وجهه؟ فيقال من وجهين :
أحدهما : أن ذلك
بيان لأمور مرتبة ليس بعضها سببا في البعض فكأنه تعالى قال : إنّا جعلنا في
أعناقهم أغلالا فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم ، وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم
سدا فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم
فقال بعد هذا كله : جعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون شيئا أصلا.
والثاني : أن ذلك
بيان لكون السدّ قريبا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم ، فإن من جعل من
خلفه وقدّامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقا بهما يبقى عينه على سطح
السد فلا يبصر شيئا ، لأن شرط المرئيّ أن يكون قريبا من العين جدّا.
فإن قيل : ذكر
السد من بين الأيدي ومن خلف ، ولم يذكر من اليمين والشّمال فما الحكمة فيه؟.
فالجواب : إن قلنا
: إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر. وأما على غير ذلك فيقال : إنه
حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة ، لأنهم إذا قصدوا السلوك
إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجّهين إلى شيء ، ومولّين
__________________
عن شيء فصار ما
إليه توجّههم ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سدا
وأيضا (فإنّا) لما بينا أن جعل السد سببا لاستتار بصره فكان السد ملتزقا
به وهو ملتزق بالسدين ، فلا قدره له على الحركة يمنة ولا يسرة ، فلا حاجة إلى السد
عن اليمين وعن الشّمال.
وقوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي لا يبصرون شيئا ، أو لا يبصرون سبيل الحق ؛ لأن الكافر
مصدور عن سبيل الهدى .
قوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) تقدم الكلام عليه
أول البقرة ، بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغلّ والسدّ والإغشاء
والإعماء بقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي الإنذار وعدمه سيّان بالنسبة إلى إيمانهم.
(إِنَّما تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) قال من قبل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا : (إِنَّما تُنْذِرُ) وهو يقتضي التخصيص ، فكيف الجمع بينهما؟! وطريقه من وجوه :
الأول : أن قوله :
«لتنذر» أي (كيف) ـ ما كان سواء كان مفيدا أو لم يكن.
وقوله : «إنّما
تنذر» أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذّكر ويخشى.
الثاني : (هو) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار
وذكر (أن) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه :
ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه ، فأنذر على سبيل العموم وإنما ينذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد أنذر بإنذارك وتتبّع
بذكرك.
الثالث : أن يقول
: لتنذر أولا فإذا أنذرت وبالغت (وبلغت) ، واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تنذر الّذين
اتّبعوك . والمراد بالذكر : القرآن لتعريف الذكر بالألف واللام. وقد
تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ.) وقيل :
__________________
ما في القرآن من
الآيات لقوله : (وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) [ص : ١] فما جعل
القرآن نفس الذكر. والمعنى إنما تنذر العلماء الّذين يخشون ربهم. وقوله : (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ) أي عمل صالحا لقوله : (فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) وهذا جزاء العمل كقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الحج : ٥٠]
والمراد بالغيب : ما غاب وهو أحوال يوم القيامة. وقيل الوحدانية.
وقوله : «فبشّره»
إشارة إلى الرسالة ، فإنّ النّبيّ بشير ونذير.
وقوله : «بمغفرة»
على التنكير أي بمغفرة واسعة تسير من جميع الجوانب (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي ذي كرم كقوله : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) والمراد به الجنة.
قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) عند البعث. لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة
التي يصير بهم المكلف مؤمنا مسلما ذكر أصلا آخر وهو الحشر. ووجه آخر وهو أن الله
تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله : (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم ير في الدنيا
فالله يحيي الموتى ويجزى المنذرون والمبشرون ووجه آخر وهو أنه تعالى لما ذكر خشية
الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى .
فصل
(إِنَّا نَحْنُ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
مبتدأ وخبرا كقوله :
٤١٧١ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري
ومثل هذا يقال عند
الشّهرة العظيمة ، وذلك لأنّ من لا يعرف يقال (له) : من أنت؟ فيقول : أنا ابن فلان فيعرف ، ومن يكون مشهورا
إذا قيل له : من أنت ، يقول :
__________________
أنا ولا معرفة لي
أظهر من نفسي فيقال : إنّا نحن معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا
ينكر قدرتنا على إحياء الموتى.
والثاني : أن
الخبر «نحيي» كأنه قال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى) و «نحن» يكون
تأكيدا. وفي قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى) إشارة إلى الوحيد ؛ لأن الإشراك يوجب التمييز ، فإن «زيدا»
إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال : «أنا زيد» لا يحصل التعريف التام ، (لأن) للسامع أن يقول : أيّما زيد؟ فيقول : ابن عمرو ، (ولو كان هناك زيد آخر أبو عمرو لا يكفي قوله : ابن عمرو) فلما
قال الله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى) أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول : أنا كذا فيمتاز ،
وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة : الرسالة والتوحيد والحشر .
قوله : (وَنَكْتُبُ) العامة على بنائه للفاعل ، فيكون (ما قَدَّمُوا) مفعولا به و «آثارهم» عطف عليه. وزرّ ومسروق قرآه مبنيا
للمفعول ، و «آثارهم» بالرفع عطفا على «ما قدّموا» لقيامه مقام الفاعل .
فصل
المعنى ما قدموا
وأخروا ، فاكتفي بأحدهما ، لدلالته على الآخر كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي
والبرد. وقيل : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة ، كقوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما قدمت في الوجود وأوجدته. وقيل : نكتب نيّاتهم فإنها
قبل الأعمال و «آثارهم» أي أعمالهم. وفي «آثارهم» وجوه :
أحدها : ما سنوا
من سنة حسنة وسيئة. فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناطر المبنية ، والسيئة كالظّلامة
المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة. قال ـ عليه
__________________
(الصلاة و) السلام : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها من
بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ
في الإسلام سنّة سيّئة فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن
ينقص من أوزارهم شيئا» وقيل : نكتب آثارهم أي خطاهم إلى المسجد ؛ لما روي أبو سعيد الخدري قال : شكت بنو سلمة بعد منازلهم
من المسجد فأنزل الله : (وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال ـ عليه (الصّلاة و) السلام ـ : «إنّ الله يكتب
خطواتكم ويثيبكم عليه» . وقال ـ عليه (الصّلاة و) السّلام ـ : «أعظم النّاس أجرا
في الصّلاة أبعدهم ممشى والّذي ينتظر الصّلاة حتّى يصلّيها مع الإمام أعظم أجرا من
الّذي يصلّي ثمّ ينام» فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال
: («نحيي») و «نكتب» ولم يقل
: نكتب ما قدّموا ونحييهم؟.
فالجواب : أن
الكتابة معظمة ، لا من الإحياء ، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا
يبقى لها أثر أصلا والإحياء هو المعتبر ، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم
الإحياء. (و) لأنه تعالى قال : (إِنَّا نَحْنُ) وذلك يفيد العظمة والجبروت ، والإحياء العظيم يختص بالله ،
والكتابة دونه تقرير العريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) العامة على نصب «كل» على الاشتغال . وأبو السّمّال قرأه مرفوعا بالابتداء والأرجح قراءة العامة ، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية
.
__________________
فصل
«أحصيناه» حفظناه
وثبّتناه (فِي إِمامٍ مُبِينٍ). فقوله «أحصيناه» أبلغ من كتبناه ، لأن من كتب شيئا مفرقا
يحتاج إلى جمع عدده ، فقال يحصي فيه. وإمام جاء جمعا في قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ
بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] أي
بأئمتهم وحينئذ ف «إمام» إذا كان فردا فهو ككتاب وحجاب ، وإذا كان
جمعا فهو كجبال. والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهرا (للملائكة ما) يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق بين أحوال
الخلق فيجعل فريقا في الجنة وفريقا في السعير. وسمي الكتاب إماما ، لأن الملائكة
يأتمون به ، ويتبعونه ، وهو اللوح المحفوظ. وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمرا
مكتوبا عليهم لا يبدّل ، فإن القلم جفّ بما هو كائن ، فلما قال (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) بين أن قبل ذلك كتابة أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم
أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه . وقيل : إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله : (وَنَكْتُبُ) ؛ لأن من يكتب شيئا في أوراق ويرميها قد لا يجدها ، فكأنه لم يكتب فقال :
نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى : (عِلْمُها)(عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ
رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢]. وقيل :
إنّ ذلك تعميم بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم ، وليست الكتابة
مقتصرة عليه بل كل شيء محصى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئا من الأفعال والأقوال
لا يعزب عن (علم) الله ، ولا يفوته وهو قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢ ـ ٥٣]
يعني ليس ما في الزبر منحصرا فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب .
قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
إِذْ
أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا
إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
قالُوا
ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥)
قالُوا
رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا
إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)
قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ) تقدم الكلام على نظيره في
__________________
البقرة والنحل . والمعنى واضرب لأجلهم مثلا ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلا أي مثلهم عند نفسك بأصحاب
القرية. فعلى الأول لمّا قال تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) عا من الرسل بل (قبلي) بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم
وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال
تعالى : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه (الصلاة
و) السلام : فلا بأس واضرب لنفسك ولقومك (مثلا) أي مثّل لهم عند نفسك مثلا بأصحاب القرية ، حيث جاءهم
ثلاثة رسل فلم يؤمنوا ، وصبر الرسل على القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحدا وقومك
أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا قرية وأنت بعثت إلى العالم.
قوله : (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي واضرب لهم مثلا (مثل) أصحاب القرية ، فترك «المثل» وأقيم «الأصحاب» مقامه في
الإعراب كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].
قال الزمخشري : وقيل : لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية
لهم مثلا أو مثل أصحاب القرية بهم . قال المفسرون : المراد بالقرية أنطاكية.
قوله : (إِذْ جاءَهَا) بدل اشتمال. قال الزمخشري : «إذ» منصوبة لأنها بدل من
أصحاب القرية كأنه تعالى قال : واضرب لهم وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت
محمّد .
وقيل : منصوب
بقوله : «اضرب» أي اجعل الضرب كأنه حين مجيئهم وواقع
__________________
فيه. والمرسلون من
قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وهم
ثلاثة.
قوله : (إِذْ أَرْسَلْنا) بدل من «إذ» الأولى ، كأنه قال : اضرب
لهم مثلا إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين. قال ابن الخطيب : والأصح الأوضح أن
يكون «إذ» ظرفا والفعل الواقع فيه «جاءها» ، أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم
.
وإنما جاءوهم حيث
أمروا. وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى ـ
عليه (الصلاة و) السلام ـ أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى (ـ
عليه السلام ـ) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك
كانوا رسل الرسل وإنما هم رسل الله ، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : (إِذْ أَرْسَلْنا). ويؤيد هذا مسألة فقهيّة وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل
وكيل الموكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله
الموكل (الأول) . وهذا على قولنا : (وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً) ضرب المثل لأجل محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ظاهر وقوله :
(إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) في بعثة الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه (الصلاة و) السلام ـ (بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى
عليه الصلاة والسلام) فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما
عند عيسى حجّة تامّة .
فصل
قال ابن كثير :
وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبّه وروي عن بريدة بن الحصيب
وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش ، وكان يعبد
الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق وصدوق وسلوم فكذبهم وهذا ظاهر (ه)
أنهم رسل الله ـ عزوجل ـ وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من عند المسيح وكان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنّا واسم الثالث
__________________
بولص والقرية أنطاكية. وهذا القول ضعيف جدا ؛ لأن أهل أنطاكية
لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك
الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية
والقدس واسكندرية رومية ، ثم بعدها قسطنطينية ، ولم يهلكوا (إذ) أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى
: (إِنْ كانَتْ إِلَّا
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) [يس : ٢٩] لكن إن
كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل أنطاكية قديما فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عمّرت بعد ذلك فلما
كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز. والله أعلم.
قوله : «فعزّزنا»
قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غلبنا ، ومنه : (وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ) [ص : ٢٣] ومنه قولهم : عزّ وبزّ أي صا له بزّ.
والباقون بالتشديد
بمعنى قوّينا ، يقال : عزّز المطر الأرض أي قواها ولبدها ، ويقال لتلك
الأرض العزاء وكذا كل أرض صلبة. وتعزّز لحم النّاقة أي صلب وقوي . وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف أي فقوّيناهما (أو فغلبناهما بثالث) ؛ لأن المقصود من البعثة نصرة الحق ، لا نصرتهما ، والكل
كانوا مقوين للدين والبرهان.
وقرأ عبد الله «بالثّالث» بألف
ولام .
قوله : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) جرد خبر «إنّ» هذه من لام التوكيد ، وأدخلها في خبر
الثانية ، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهو
الإتيان ب «إنّ» وفي الثانية بالغوا في الإنكار فقابلتهم (الرسل) بزيادة التأكيد ،
فأتوا ب «إنّ» وب «اللّام».
قال أهل البيان :
الأخبار ثلاثة أقسام : ابتداء وطلبيّ وإنكاريّ.
__________________
فالأول : (يقال) لمن لم يتردد في نسبة أحد الطرفين إلى الآخر نحو : زيد
عارف.
والثاني : لمن هو
متردد في ذلك طالب له منكر له بعض إنكار فيقال له : إنّ زيدا عارف.
والثالث : لمن
يبالغ في إنكاره فيقال له : إنّ زيدا لعارف . ومن أحسن ما يحكى أن رجلا جاء إلى أبي العباس الكنديّ فقال : يا أبا العباس : إني لأجد في كلام العرب
حشوا. قال : وما ذاك؟ قال: يقولون زيد قائم ، وإنّ زيدا لقائم ، فقال : كلّا ، بل
المعاني مختلفة ، «فعبد الله قائم» إخبار بقيامه ، و «إنّ عبد الله قائم» جواب
لسؤال سائل و «إنّ عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر وهذا هو الكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى
سورة المائدة . وقال أبو حيان : وجاء أولا «مرسلون» بغير لام ، لأنه
ابتداء إخبار ، فلا يحتاج إلى توكيد ، وبعد المجاورة «لمرسلون» بلام التوكيد ،
لأنه جواب عن إنكار .
قال شهاب الدين : «وهذا
قصور عن فهم ما قاله أهل البيان ، فإنه جعل المقام الثاني ـ وهو الطلبي ـ مقام
المقام الأول وهو الابتدائي» .
قوله : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا
وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) جعلوا كونهم بشرا مثلهم دليلا على عدم الإرسال. وهذا عام
في المشركين قالوا في حق محمد عليه (الصلاة و) السلام : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ
بَيْنِنا) [ص : ٨] وإنما
ظنّوه دليلا بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا : إنه موجب
بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن (الرجحان) ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ،
وبقوله : (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى :
__________________
١٣] إلى غير ذلك.
ثم قالوا : (وَما أَنْزَلَ
الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
متمّما لما ذكرو (ه) فيكون الكل شبهة واحدة ، والمعنى وما أنزل الله إليكم أحدا
فكيف صرتم رسلا؟!
والثاني : أن يكون
هذا شبهة أخرى مستقلة وهي أنهم لما قالوا : أنتم بشر مثلنا ، فلا يجوز رجحانكم
علينا. ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئا في هذا العالم ، فإن تصرفه
في العالم العلوي فالله لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم؟!.
وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ) إشارة إلى الرد عليهم ، لأن الله تعالى لما كان رحمن
الدّنيا ، والإرسال رحمة فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن؟! ثم قال : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون . (إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) قال وهب : اسمهما يحيى وبولس (فَكَذَّبُوهُما
فَعَزَّزْنا) برسول «ثالث» وهو شمعون. وقال كعب : الرسولان صادق وصدوق
والثالث سلوم. وإنما أضاف الله الإرسال إليه ، لأن عيسى ـ عليه (الصلاة و) السلام
ـ إنما بعثهم بأمره ـ عزوجل ـ.
قوله : (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وهذا إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا
بل أعادوا ذلك لهم ، وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين. (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وأكدوه باللام لأن علم الله يجري مجرى القسم ، كقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ) أي هو عالم بالأمور (وَما عَلَيْنا إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وهو
البلاغ . وقوله «المبين» أي المبين الحق عن الباطل وهو الفارق
بالمعجزة والبرهان ؛ إذ البلاغ المظهر لما أرسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن
يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين. أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق
فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم : (إِنَّا تَطَيَّرْنا
بِكُمْ) أي تشاء منا بكم وذلك أن المطر حبس عنهم فقالوا أصابنا هذا
بشؤمكم (لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) لنقتلنّكم . قاله قتادة.
وقيل : لنشتمنّكم . (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون
__________________
قولهم : (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ
أَلِيمٌ) كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك
عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد : وليمسّنّكم بسبب الرجم منّا
عذاب أليم أي مؤلم.
وإن قلنا : الرجم
الشتم فكأنهم قالوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحسّيّ.
وإذا فسرنا «أليم» بمعنى مؤلم فالفعيل بمعنى مفعل قليل .
ويحتمل أن يقال :
هو من باب قوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي ذات رضا أي عذاب ذو ألم ، فيكون فعيل بمعنى فاعل وهو كثير .
ثم أجابهم
المرسلون فقالوا (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي شؤمكم معكم ، أي كفركم.
قوله : «طائركم»
العامة على «طائر» اسم فاعل أي ما طار لكم من الخير والشر ، فعبر به عن الحظ
والنصيب وقرأ الحسن ـ فيما روى عنه الزمخشري ـ «اطّيّركم» مصدر اطّيّر الذي أصله تطيّر ، فلما أريد
إدغامه أبدلت الفاء طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطّيّر ، فيكون مصدره «اطّيّارا».
ولما ذكر أبو حيان
هذا لم يرد عليه وكان (هو) في بعض ما رد به على ابن مالك
__________________
في شرح التسهيل في
باب المصادر أن مصدر «تطيّر وتدارأ» إذا أدغما وصار «اطّيّر وادّارأ»
لا يجيء مصدرهما عليهما ، بل على أصلهما ، فيقال : اطّيّر تطيّرا ، وادّارأ
تدارءا. ولكن هذه القراءة تردّه إن صحت. وهو بعيد .
وقد روى غيره
طيركم بياء ساكنة . ويغلب على الظن أنها هذه. وإنما تصحفت على الراوي فحسبها
مصدرا وظن أن ألف «قالوا» همزة وصل.
قوله : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) قرأ السبعة بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل
والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة (البقرة) . واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيّها يجاب؟
فذهب سيبويه إلى إجابة الاستفهام ، ويونس إلى إجابة الشرط.
فالتقدير عند
سيبويه أئن ذكّرتم تتطيّرون وعند يونس تطيّروا مجزوما.
__________________
فالجواب للشرط على
القولين محذوف.
وقد تقدم هذا في
سورة الأنبياء . وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرّ بهمزتين مفتوحتين ، إلّا أنّ زرّا لم يسهل الثانية ، كقوله :
٤١٧٢ ـ أإن كنت داود بن أحوى مرحّلا
|
|
فلست براع لابن
عمّك محرما
|
وروي عن أبي عمرو
وزرّ أيضا كذلك ، إلا أنهما فصلا بألف بين الهمزتين . وقرأ الماجشون (بهمزة ) واحدة مفتوحة .
وتخرج هذه
القراءات الثلاث على حذف لام العلة أي (أ) لأن ذكّرتم تطيّرتم ف «تطيرتم» هو
المعلول ، وأن ذكرتم عليته. والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام. وفي
غيرها يكون إخبارا بذلك. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة وهي شرط من غير استفهام ، وجوابه محذوف أيضا. وقرأ الأعمش
والهمدانيّ أين بصيغة الظرف. وهي أين الشرطية وجوابها محذوف عند جمهور
البصريين أي أين ذكرتم فطائركم معكم أو صحبتكم طائركم ، لدلالة ما
تقدم من قوله : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف .
__________________
وقرأ الحسن وأبو
جعفر وأبو رجاء والأصمعيّ عن نافع ذكرتم بتخفيف الكاف .
فصل
قوله : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) جواب عن قوله : (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم
الأمر بالمعجز والبرهان (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ) مشركون مجاوزون حيث تجعلون ما يتبرّك به يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب
إكرامه ، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تصرّون بعد ظهور الحق بالمعجزة والبرهان.
فإن قيل : (بل) للإضراب فما (الأمر) المضروب عنه؟.
فالجواب : يحتمل
أن يقال قوله : أئن ذكّرتم وارد على تكذيبهم فإنهم قالوا : نحن كاذبون وإن جئتنا
بالبرهان لا بل قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال : أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما
نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال : أنحن مستحقون الرجم والإيلام وإن بينا صحّة ما أتينا به لا بل
أنتم قوم مسرفون .
فصل
ذكر المفسرون أن
عيسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فدعوا إلى توحيد الله
وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل بعدهما شمعون ، فأتى الملك ، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من
الملك بحسن التدبير ، ثم قال : إني أسمع (أنّ) في الحبس رجلين يدّعيا (ن) أمرا بديعا أفلا يحضران نسمع كلامهما؟ فقال الملك : بلى
فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقّة فقال شمعون : وهل لكما بيّنة؟ قالا : نعم فأبرءا
الأكمه والأبرص وأحييا الموتى. فقال شمعون : يا أيها الملك : إن شئت أن تغلبهم
فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها
لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون : فإذن ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك (وقوم) وكفر آخرون. وكانت الغلبة للمكذبين .
__________________
قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠)
اتَّبِعُوا
مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ
شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣)
إِنِّي
إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦)
بِما
غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(٢٧)
قوله : «وجاء من
أقصى المدينة رجل يسعى» في تعلقه بما قبله وجهان :
أحدهما : أنه بيان
لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث أمن بهم الرجل الساعي. وعلى هذا فقوله : (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فيه بلاغة باهرة لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل و (هو)
قد آمن دل على (أن) إنذارهم وإبلاغهم بلغ إلى أقصى المدينة.
والثاني : أن ضرب
المثل لما كان لتسلية قلب محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ذكر بعد الفراغ من ذكر
الرسل سعي المؤمنين في تصديق أنبيائهم ، وصبرهم على ما أوذوا ، ووصول الجزاء الأوفر إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد ـ عليه
الصلاة والسلام ـ .
قوله : (رَجُلٌ يَسْعى) في تنكير «الرجل» مع أنه كان معروفا معلوما عند الله
فائدتان :
الأولى : أن يكون
تعظيما (لشأنه) أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية : أن يكون
مفيدا ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به ، فلا يقال :
إنهم تواطئوا. والرجل هو حبيب النّجار كان ينحت الأصنام. وقال السدي : كان قصارا.
وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقيما قد أسرع فيه الجذام. وكان منزله عند أقصى
باب المدينة وكان مؤمنا آمن بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله ، ورأى فيه نعت محمد وبعثته وقوله : «يسعى» تبصير للمسلمين وهداية لهم
ليبذلوا جهدهم في النّصح.
قوله : (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ) تقدم الكلام في فائدة قوله : (يا قَوْمِ) عند
__________________
قوله موسى : (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤].
فإن قيل : هذا مثل
مؤمن آل فرعون (وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) [غافر : ٣٨] وهذا
قال : (اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ) فما الفرق؟.
فالجواب : هذا
الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا
لكم الدليل وأوضحوا لكم السّبيل وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مرارا فقال :
«اتّبعوني في الإيمان بموسى وهارون ـ عليهما (الصلاة و) السلام ـ واعلموا أنه لو
لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته» ولم يكن للرجل الذي جاء من
أقصى المدينة أن يقول : أنتم تعلمون اتّباعي لهم. واعلم أنه جمع بين إظهار النصيحة
وإظهار إيمانه فقوله : «اتبعوا» نصيحة وقوله : «المرسلين» إظهار إيمانه وقدم إظهار النصيحة على
إظهار الإيمان لأنه كان ساعيا في النصيحة وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله :
«يسعى» يدل على إرادته النصح .
قوله : (مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) بدل من «المرسلين» بإعادة العامل إلا أن أبا حيان قال: النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان
العامل حرف (جر) وإلا فلا يسمونه بدلا بل تابعا وكأنه يريد التوكيد اللفظيّ
بالنسبة إلى العامل.
فصل
هذا الكلام في
غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال
لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب
اتباعه والامتناع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل
الأجرة وإما عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون
أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين
هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم.
قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي) أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم
ليكون الكلام أسرع قبولا ولذلك جاء قوله : (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) دون «وإليه أرجع» وقوله «أأتّخذ» مبني على كلام الأول وهذه الطريقة أحسن من ادّعاء
__________________
الالتفات ، وقرأ حمزة ويعقوب ما لي بإسكان الياء والآخرون بفتحها . واعلم أن قوله : (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ) أي أيّ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود
ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم
عبدته وفي العدول من مخاصمة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا
تعبدون الذي فطركم» لم يكن في البيان مثل قوله : (وَما لِيَ) لأنه لو قال : (وَما لِيَ) وأحد لا يخفى عليه (حال) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه
أعلم بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال : (وَما لَكُمْ) جاز أن يفهم (منه) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه. وقوله : (الَّذِي فَطَرَنِي) إشارة إلى وجود المقتضي ، فإن قوله : (وَما لِيَ) إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي فقوله : (الَّذِي فَطَرَنِي) دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على
المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته.
وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي لأن المقتضي لظهوره كأن مستغنيا عن البيان فلا أقلّ من
تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خالق عمرو
يجب على زيد عبادته لأن من خلق عمرا (لا يكون إلا) كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق العبادة بالنسبة
إلى كل مكلف لكن العبادة على «زيد» بخلق «زيد» أظهر إيجابا .
فصل
أضاف الفطرة إلى
نفسه والرجوع إليهم كأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر
وكان بهم أليق. روي أنه لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له
: «أفأنت تتبعهم»؟ فقال : (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ)) أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند
البعث فيجزيكم بأعمالكم. ومعنى فطرني : خلقني اختراعا ابتداء. وقيل : جعلني على
الفطرة
__________________
كما قال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْها) [الروم : ٣٠].
قوله : «أأتّخذ»
استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا أتخذ من دونه آلهة و «من دونه» يجوز أن يتعلق «بأتّخذ»
على أنها متعدية لواحد وهو «آلهة» ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آلهة» وأن يكون مفعولا ثانيا قدم على أنها
المتعدية لاثنين .
فصل
في قوله : (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن من دونه
لا يجوز عبادته لأن الكل محتاج مفتقر حادث وقوله : «أأتّخذ» إشارة إلى أن غيره ليس
بإله لأن المتخذ لا يكون إلها قوله : (إِنْ يُرِدْنِ) شرط جوابه (لا تُغْنِ عَنِّي) والجملة الشرطية في محل نصب صفة «لآلهة» . وفتح طلحة السّلماني ـ وقيل : طلحة بن مصرف ـ ياء المتكلم . وقال الزمخشري وقرىء : إن يردني الرّحمن بضر بمعنى إن
يوردني ضرّا أي يجعله موردا للضر . قال أبو حيان : وهذا والله أعلم رأى في كتب القراءات بفتح
الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة فلذلك أدخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب
القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطّا ونطقا لالتقاء الساكنين قال
__________________
شهاب الدين : وهذا
رجل ثقة قد نقل هذا القراءة فتقبل منه .
فإن قيل : ما
الحكمة في قوله (إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) ولم يقل : إن يرد الرّحمن بي ضرّا وكذلك قوله تعالى : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ
هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) [الزمر : ٣٨] ولم
يقل : إن أراد الله بي ضرّا؟.
فالجواب : أن
الفعل إذا كان متعديا إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر تعدى بالحرف في قولهم : ذهب به وخرج به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل
المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولا بحرف فإذا قال القائل
مثلا : كيف حال فلان؟ يقول : اختصه الملك بالكرامة والنعمة. فإذا قال :
كيف كرامة الملك؟ يقول : اختصها بزيد فيقول المسؤول مفعولا بغير حرف ؛ لأنه هو المقصود. وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما
نحن فيه : بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرّخاء وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة
والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله. ويؤيّد هذا قوله من قبل : (الَّذِي فَطَرَنِي) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع
الضر تبعا. وكذلك القول في قوله : (إِنْ أَرادَنِيَ
اللهُ بِضُرٍّ) المقصود بيان أنه يكون كما يريده الله (وليس الضر) لخصوصيته مقصودا بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله
تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] يعني
هو تحت إرادته.
فإن قيل : ما
الحكمة في قوله هنا : (إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ) بصيغة المضارع وقال في الزمر : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ) بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد
هناك باسم الله؟.
فالجواب أن الماضي
والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلا لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال
في قوله : «أأتّخذ» وقوله : (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ) [الزمر : ٣٨].
__________________
قوله : (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) [يس : ٢٣] أي إن
يمسسني الله بضرّ أي بسوء ومكروه لا تغن شفاعتهم شيئا أي لا شفاعة لها فتغني (وَلا يُنْقِذُونِ) من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن
فعلت ذلك. قوله تعالى : (إِنِّي إِذاً لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) أي خطأ ظاهر إن فعلت ذلك فأنا ضالّ ضلالا بينا. و «المبين»
مفعل بمعنى «فعيل» وعكسه «فعيل» بمعنى مفعل في قوله «أليم» بمعنى مؤلم.
قوله : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) فيه وجوه :
أحدها : أنه خاطب
المرسلين. قال المفسرون : أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو للمرسلين وقال :
إنّي آمنت بربّكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي.
والثاني : هم
الكفار لمّا نصحهم وما نفعهم قال آمنت فاسمعون.
الثالث : بربكم
أيها السامعون فاسمعوني على العموم كقول الواعظ : يا مسكين ما أكثر أملك (وما أترر
عملك) يريد كل سامع يسمعه وفي قوله «فاسمعون» فوائد منها : أنه كلام متفكر
حيث قال : اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر ، ومنها
أن ينبه القوم ويقول : إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا يقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو
أظهرته لآمنا معك.
فإن قيل : قال من
قبل : ما لي لا أعبد الّذي فطرني ، وقال ههنا : آمنت بربكم ولم يقل : آمنت بربي!؟
فالجواب : إن قلنا : الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر لأنه لما قال : آمنت بربّكم ظهر
عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال «بربّكم».
وإن قلنا : الخطاب مع الكفار ففيه (وجوه) بيان للتوحيد لأنه لما قال : (أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي) ثم قال : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
فَاسْمَعُونِ) فهم أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه
ربكم بخلاف ما لو قال : آمنت بربي فيقول الكافر : وأنا أيضا آمنت بربي .
قوله : «فاسمعون»
العامة على كسر النون وهي نون الوقاية حذفت بعدها ياء الإضافة مجتزءا عنها بكسرة النون وهي اللغة الغالبة. وقرأ عصمة عن عاصم
__________________
بفتحها . وليست إلا غلطا (على عاصم) ، إذ لا وجه (لها) ، وقد وقع لابن عطية وهم فاحش في ذلك فقال : وقرأ الجمهور
بفتح النون . وقال أبو حاتم : هذا خطأ فلا يجوز لأنه أمر فإما حذف
النون وإما كسرها على جهة الياء ، يعني ياء المتكلم ، وقد يكون قوله : «الجمهور» سبق قلم
منه أو من النساخ وكان الأصل : وقرأ غير الجمهور فسقط لفظة «غيره». (و) قال ابن عطية حذف من الكلام ما تواترت الأخبار والروايات
به وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته : ادخل الجنّة بعد القتل وقيل : قوله : (قيل) ادخل الجنة عطف على قوله : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) فعلى الأول يكون قوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ) بعد موته والله أخبر بقوله ، وعلى الثاني قال ذلك في حياته
وكان يسمع الرسل يقولون إنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به. قوله
: ((قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ) كما علمت فيؤمنون كما آمنت. وقال الحسن : خرقوا خرقا في حلقه وعلقوه في سور المدينة وقبره
بأنطاكية فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق ، فذلك قوله عزوجل : (قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ). فلما أفضى إلى الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي
ربي أي بغفران ربي لي وجعلني من المكرمين. قوله : (بِما غَفَرَ لِي) يجوز في (ما) هذه ثلاثة أوجه : المصدرية كما تقدم. والثاني
: أنها بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي غفره لي ربي . واستضعف هذا من حيث إنه يبقى معناه أنه تمنى أن يعلم قومه
بذنوبه المغفورة. وليس المعنى على ذلك إنما المعنى على تمنّي علمهم بغفران ربّه
ذنوبه . والثالث : أنها استفهامية وإليه ذهب الفرّاء . ورده الكسائي بأنه كان
__________________
ينبغي حذف ألفها
لكونها مجرورة . وهو رد صحيح. وقال الزمخشري الأجود طرح الألف والمشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألفها كقوله :
٤١٧٣ ـ (علام يقول الرّمح يثقل عاتقي
|
|
إذا أنا لم أطعن
إذا الخيل كرّت
|
إلّا في ضرورة
كقول الشاعر) :
٤١٧٤ ـ على ما قام يشتمني لئيم
|
|
كخنزير تمرّغ في
رماد
|
وقرىء من المكرمين
بتشديد الراء .
قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ
بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)
قوله (تعالى) : (وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لما تمنى أن
__________________
يعلم قومه أن الله
غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل حبيب غضب الله وعجل لهم النّقمة وأمر جبريل ـ عليه (الصلاة
و) السلام ـ فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم فذلك قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ
بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) يعني الملائكة.
قوله : (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) في (ما) هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
نافية كالتي قبلها فتكون الجملة الثانية جارية مجرى التأكيد للأولى.
والثاني : أنها
مزيدة قال أبو البقاء : أي وقد كنا منزلين. وهذا لا يجوز البتة لفساده لفظا ومعنى.
الثالث : أنها اسم
معطوف على «جند» قال ابن عطية : أي من جند من الذين كنّا منزلين وردّه أبو حيان بأن «من» مزيدة ، وهذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب
جارة لمعرفة ومذهب البصريين غير الأخفش أن يكون الكلام غير موجب وأن يكون المجرور
نكرة ، قال شهاب الدين: فالذي ينبغي عند من يقول بذلك (أن) يقدرها بنكرة أي : ومن عذاب كنّا منزليه والجملة بعضها صفة
لها. وأما قوله إن هذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب فليس بصحيح البتة
وتعجّبت كيف يلزم ذلك ؟!.
فصل
قال ههنا (وَما أَنْزَلْنا) بإسناد الفعل إلى النفس ، وقال في بيان حال المؤمن : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) بإسناد القول إلى غير مذكور لأن العذاب من الهيئة فقال بلفظ التعظيم وأما إدخال الجنة فقال : قيل : (ليكون
كالمهنأ بقول الملائكة وبقول كل صالح يراه ادخل الجنة خالدا
كالتهنئة له ، وكثيرا ما ورد) في القرآن قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلُوا) إشارة إلى أن الدخول يكون دخولا بإكرام. فإن قيل : لم أضاف
القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوما لهم لأن الرسول لكونه مرسلا يكون
جميع الخلق أو جميع من أرسل إليهم قوما لهم؟.
__________________
فالجواب : تبيين الفرق بينه وبينهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضا فالعذاب
كان مختصا بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما من
قبيلة واحدة وأيضا فالعذاب كان مختصا بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم
الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.
فإن قيل : لم خصص
عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جندا قبله أيضا فما فائدة التخصيص؟.
فالجواب : أن
استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك.
فإن قيل : قال : (مِنَ السَّماءِ) وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندا من الأرض فما
فائدة التقييد؟.
فالجواب من وجهين
:
أحدهما : أن يكون
المراد ما أنزلنا عليهم جندا بأمر من السماء فتكون للعموم.
والثاني : أن
العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جندا وإنما كان بصيحة أخذتهم
وخربت ديارهم.
فإن قيل : أي
فائدة في قوله : (وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ) مع قوله : (وَما أَنْزَلْنا) وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين؟.
فالجواب : أن قوله
: (وَما كُنَّا) أي ما كان ينبغي أن ينزل ، لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا
محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كنا منزلين في مثل تلك الواقعة جندا في غير
تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله من جنده وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطّوفان
والصّاعقة والرّيح.
فإن قيل : فكيف
أنزل الله جنودا في يوم «بدر» وفي غير ذلك حيث قال تعالى : (رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩].
فالجواب : أن ذلك
تعظيما لمحمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وإلّا لكان تحريك ريشة من جناح ملك كافيا
في استئصالهم ولم تكن رسل (عيسى) ـ عليه الصلاة
__________________
والسلام ـ في درجة
محمد ـ عليهالسلام ـ ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقال : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً).
قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) العامة على النصب على أنّ «كان» ناقصة واسمها ضمير الأخذ
لدلالة السّياق عليها و «صيحة» خبرها. وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ القارىء برفعها على أنها التامة أي إن وقع وحدث وكان ينبغي أن لا يلحق تاء
التأنيث للفصل «بإلا» بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء نحو : ما قام إلّا هند . وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا : لا ترى إلا مساكنهم [الأحقاف : ٢٥]
كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله :
٤١٧٥ ـ ..........
|
|
وما بقيت إلّا
الضّلوع الجراشع
|
وقوله :
٤١٧٦ ـ ما برئت من ريبة وذمّ
|
|
في حربنا إلّا
بنات العمّ
|
قال الزمخشري :
أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده
من المفسر وهو الصيحة وقوله : «واحدة» تأكيد لكون الأمر هيّنا عنده وقوله : (فَإِذا هُمْ
خامِدُونَ) إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها
لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت
الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب
__________________
فإنّهم قتلوا
مؤمنا كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات
الخالية فإذن كانوا كالنار الموقدة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق
منها . (فَإِذا هُمْ
خامِدُونَ) ميّتون. قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم
صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون ميتون.
قوله : (يا حَسْرَةً) العامة على نصبها. وفيه وجهان :
أحدهما : أنها
منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تحسّروا حسرة .
والثاني : أنها
منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها كقوله :
٤١٧٧ ـ فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغا
|
|
نداماي من نجران
أن لا تلاقيا
|
ومعنى النداء هنا
على المجاز ، كأنه قيل : هذا أوانك فاحضري. وقرأ قتادة وأبيّ ـ في أحد وجهيه ـ يا حسرة بالضم جعلها مقبلا عليها وأبيّ أيضا وابن عباس وعلي بن الحسين (يا حَسْرَةً العبَادِ) بالإضافة فيجوز أن تكون الحسرة مصدرا مضافا لفاعله أي
يتحسّرون على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافا لمفعوله أي يتحسّر عليهم (من)
غيرهم . وقرأ أبو الزناد وابن هرمز وابن جندب (يا حَسْرَةً) بالهاء
__________________
(المهملة) المبدلة من تاء التأنيث وصلا وكأنهم أجروا الوصل مجرى الوقف وله نظائر مرت . وقال صاحب اللوامح وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التّاهة
بمعنى التأوه ثم وصلوا على تلك الحال. وقرأ ابن عباس أيضا : يا حسرة بفتح التاء من غير تنوين ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزىء بالفتحة عن
الألف كما اجتزىء بالكسرة عن الياء ومنه :
٤١٧٨ ـ ولست براجع ما فات منّي
|
|
بلهف ولا بليت
ولا لو انّي
|
أي بلهفها بمعنى لهفي. وقرىء : يا حسرتا بالألف كالتي في الزمر . وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى ، وذلك
على سبيل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة وإلا فالله تعالى لا يوصف بذلك . قوله : (ما يَأْتِيهِمْ) هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسّره لسبب الحسرة عليهم . وهذا الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى قوم حبيب أي ما
يأتيهم من رسول من الرّسل الثلاثة. ويجوز أن يعود إلى الكفار المصرين . وقوله : (إِلَّا كانُوا) جملة حالية من مفعول «يأتيهم» .
__________________
فصل
الألف واللام في
العباد قيل : للعهد وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك. وقيل : لتعريف
الجنس أي جنس الكفار المكذبين وقيل : المراد بالعباد الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون
عند ظهور اليأس يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانيا ، وهم قوم (حبيب) . وفي التحسر وجوه :
الأول : لا متحسر أصلا في الحقيقة إذ المقصود بيان (أن) ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب
وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيرا إذا كان الغرض غير متعلق به يقال : فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطى ولا شخص معطى ،
إذ المقصود أن له المنع والإعطاء ، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو
قليل. والوجه فيه أن ذكر التحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت.
الثاني : أن
القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيما للأمر وتهويلا له وحينئذ يكون
كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضّحك والسّخرية والتعجب والتّمنّي. أو يقال ليس
معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبر عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى
التجوز في كونه تعالى قائلا يا حسرة بل تجريه على حقيقته إلا في النداء فإن النداء
مجاز والمراد الإخبار.
الثالث : أن
المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقول اللهم
اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون فيجوز أن يتحسر المسلم
للكافر ويتندم له وعليه. وقوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا سبب الندامة .
فصل
قال الزهري الحسرة
لا تدعى ، ودعاؤها تنبيه للمخاطبين ، وقيل العرب تقول : يا حسرتا ويا عجبا على
طريق المبالغة. والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول : أيها العجب هذا وقتك
وأيتها الحسرة هذا أوانك وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتّعجّب .
__________________
قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) لما بين حال الأولين قال للحاضرين : ألم يروا الباقون ما
جرى على من تقدم منهم. قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) كم هنا خبرية فهي مفعول «بأهلكنا» تقديره كثيرا من القرون أهلكنا وهي
معلّقة «ليروا» ذهابا بالخبرية مذهب الاستفهامية ، وقيل : بل «يروا» علمية و «كم»
استفهامية كما سيأتي بيانه و (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل
من «كم» قال ابن عطية و «كم» هنا خبريّة و «أنهم» بدل منها ،
والرؤية بصرية قال أبو حيان وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية (كانت) في موضع نصب «بأهلكنا» ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت
كذلك امتنع أن يكون «أنهم» بدلا منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت «أهلكنا
(هم)» على «أنهم» لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم
لا يرجعون لم يكن كلاما لكنّ ابن عطية توهم أن (يروا) مفعولة «كم» فتوهم أن قوله :
(أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ
لا يَرْجِعُونَ) بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم
إليهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في (علم) العربية . قال شهاب الدين: وهذا الإنحاء عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول : كم قد جعلها
خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون : «ملكت كم عبد» فلم يلزم الصدر فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل «كم»
منصوبة «بيروا» و «أنهم» بدل منها. وليس هو ضعيفا في العربية حينئذ.
__________________
الثاني : أن «أنّهم»
بدل من الجملة قبله. قال الزجاج : وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي
أهلكناها أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى. قال أبو حيان وليس بشيء
لأنه ليس بدلا صناعيا وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو قال شهاب الدين : بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة
المفسر إذ هي سادة مسد مفعولي «يروا» فإنها معلقة لها كما تقدم .
الثالث : قال
الزمخشري : ألم يروا ألم يعلموا وهو معلّق عن العمل في «كم» لأن «كم» لا يعمل فيها عامل قبلها
سواه كانت للاستفهام (أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام) إلا أنّ معناها نافذ في الجملة كما
نفذ في قولك : (ألم يروا ) إن زيدا لمنطلق و «أن» لم يعمل في لفظه و (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل من (كَمْ أَهْلَكْنا) على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا
القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم.
قال أبو حيان قوله
«لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر» ليس على
إطلاقه لأن إذا كان حرف جر أو اسما مضافا جاز أن يعمل فيها نحو : على كم جذع بيتك؟
وأين كم رئيس صحبت؟ كم فقير تصدّقت أرجو الثواب؟ وأين كم شهيد في سبيل الله أحسنت
إليه. وقوله أو الخبرية الخبرية فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما
ذكرنا من الجار ، واللغة الأخرى حكاها الأخفش يقولون : ملكت كم غلام أي ملكت كثيرا من الغلمان فكما يجوز
تقدم العامل على «كثيرا» كذلك يجوز على «كم» لأنها بمعناها ، وقوله : لأنها أصلها الاستفهام والخبرية ليس أصلها الاستفهام بل كل واحدة
أصل ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله : لأن معناها نافذ في
الجملة يعني معني «يروا» نافذ في الجملة لأنه جعلها معلّقة وشرح «يروا»
__________________
بيعملوا ، وقوله :
كما نفذ في قولك : «ألم يروا إنّ زيدا لمنطلق» يعني أنه لو كان معمولا من حيث
اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت «أن» فإن «إن» التي في خبرها اللام من الأدوات
المعلقة لأفعال القلوب ، وقوله : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ) إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلا على اللفظ ولا على
المعنى أما على اللفظ فإن زعم أن «يروا» معلقة فتكون كم استفهامية فهي معمولة «لأهلكنا»
و «أهلكنا» لا يتسلط على (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ
لا يَرْجِعُونَ) كما تقدم. وأما على المعنى فلا يصح أيضا لأنه قال تقديره :
أي على (هذا) المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون
بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون (بدل بعض من كل ولا يكون) بدل اشتمال لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف
إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصح هنا لا نقول : ألم يروا انتفاء
رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبتني الجارية
ملاحتها وسرق زيد ثوبه يصح أعجبتني ملاحة الجارية وسرق ثوب زيد.
الرابع : أن يكون
أنهم بدلا من موضع «كم أهلكنا» والتقدير ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء ورده أبو حيان بأن «كم أهلكنا» ليس بمعمول «ليروا». قال شهاب
الدين : وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة لها.
الخامس : وهو قول
الفراء : أن يكون «يروا» عاملا في الجملتين من غير إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز لأن «أنهم»
ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مسند ومسند إليه.
السادس : (أن) «أنّهم» معمول
لفعل محذوف دل عليه السّياق والمعنى تقديره : قضينا وحكمنا أنّهم إليهم لا يرجعون
ويدل على صحة هذا قول ابن عباس والحسن إنّهم بكسر الهمزة على الاستئناف والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها. فهما
__________________
مقولان تكون
معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في «أنهم» عائد على معنى كم ، وفي «إليهم» عائد على ما عاد عليه واو «يروا». (وقيل : بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يروا) والثاني عائد
على المهلكين .
فصل
المعنى ألم يخبروا
أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون والقرن أهل كلّ عصر سموا بذلك لاقترانهم في
الوجود أنّهم إليهم لا يرجعون أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون . وقيل : لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بنسب
ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنّ الإهلاك الذي يكون مع قطع
النّسل أتم وأعم. والأول أشه نقلا والثاني أظهر عقلا .
قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ) تقدم في هود تشديد «لمّا» وتخفيفها والكلام في ذلك ، وقال ابن الخطيب
في مناسبة وقوع «لما» المشددة موقع «إلا» : إن لما كأنّها حرفا نفي جمعا وهما :
«لم» و «ما» فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي : «إن ولا» فاستعمل أحدهما مكان
الآخر انتهى . وهذا يجوز أن يكون أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء
إنها مركبة من «إن ولا» إلا أنّ الفراء جعل إن مخففة من الثقيلة وجعلها نافية . وهو قول ركيك ردّه عليه النحويون . وقال الفراء أيضا إنّ لما هذه أصلها لمما فخففت بالحذف
وتقدم هذا كله موضّحا.
__________________
و «كل» مبتدأ و «جميع»
خبره و «محضرون» خبر ثان لا يختلف ذلك سواء شددت «لما» أم خففتها ، لا يقال : إن جميعا تأكيد لا خبر (لأن) «جميعها» هنا فعيل
بمعنى مفعول أي مجموعون فكل يدل على الإحاطة والشمول وجميع يدل على الاجتماع
فمعناها حمل على لفظها ، كما في قوله : (جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤] وقدم
«جميع» في الموضعين لأجل الفواصل و «لدينا» متعلق «بمحضرون»
. فمن شدد «فلما» بمعنى إلا
وإن نافية كما تقدم والتقدير : وما كلّ إلّا جميع ، ومن خفّف «فإن» مخففة (من الثقيلة) واللام فارقة وما
مزيدة . هذا قول البصريين والكوفيون يقولون : إنّ «إن» نافية واللام بمعنى إلا كما تقدم مرارا.
فصل
لما بين الإهلاك بين أن من أهلكه ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب
وعقاب ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة ونعم ما قال القائل :
٤١٧٩ ـ ولو أنّا إذا ما متنا تركنا
|
|
لكان الموت راحة
كلّ حيّ
|
__________________
ولكنّا إذا متنا
بعثنا
|
|
ونسأل بعدها عن
كلّ شيّ
|
قال الزمخشري : إن
قال قائل : «كل وجميع» بمعنى واحد فكيف جعل جميعا خبرا ل «كلّ» حيث
أدخل اللام عليه إذ التقدير وإن كل لجميع؟ نقول معنى «جميع» مجموع ومعنى «كل» أي
كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال : «محضرون» يعني كما ذكره وذلك لأنه لو قال : وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاما
صحيحا. قال ابن الخطيب : ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أنّ محضرون كالصفة
للجمع فكأنه قال جميع جميع محضرون كما نقول : الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل.
والواو في (وَإِنْ كُلٌّ) يعطف على الحكاية كأنه يقول : بيّنت لك ما ذكرت وأبين أن
كلّا لدينا محضرون .
قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ
أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
(٣٣)
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ
الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(٣٦)
قوله : «وآية» خبر
مقدم و «لهم» صفتها أو متعلقة «بآية» ؛ لأنها (بمعنى) علامة. و «الأرض» مبتدأ . وتقدم تخفيف «الميتة» وتشديدها في أول (آل) عمران .
ومنع أبو حيان أن
يكون «لهم» صفة لآية ولم يبين وجهه ولا وجه له وأعرب أبو البقاء «آية» مبتدأ و «لهم»
الخبر و «الأرض الميتة» مبتدأ وصفته و «أحييناها» خبره ، والجملة مفسرة «لآية» .
__________________
وبهذا بدأ ثم قال : وقيل ؛ فذكر الوجه الأول وكذلك حكى مكّيّ أعني أن تكون «آية»
ابتداء و «لهم» الخبر
وجوز مكي أيضا أن تكون «آية» مبتدأ و «الأرض» خبره
وهذا ينبغي أن لا يجوز ؛ لأنه لا يترك المعرفة من الابتداء بها ويبتدأ بالنّكرة
إلّا في مواضع للضّرورة .
قوله : «أحييناها»
تقدم أنه يجوز أن يكون خبر «الأرض» ويجوز
أيضا أن يكون حالا من «الأرض» إذا جعلناها مبتدأ و «آية» خبر مقدم. وجوز الزمخشري في «أحييناها» وفي «نسلخ» أن يكونا
صفتين للأرض والليل وإن كانا معرفين بأل لأنه تعريف بأل الجنسيّة فهما في قوة
النكرة قال كقوله :
٤١٨٠ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
|
|
..........
|
لأنه لم يقصد
لئيما بعينه ، ورده أبو حيان بأن فيه هدما للقواعد من أنّه لا تنعت
__________________
المعرفة بنكرة . قال : وقد تبعه ابن مالك ثم خرج أبو حيان الحمل على الحال أي الأرض محياة والليل
منسلخا منه النهار واللئيم شاتما لي ، قال شهاب الدين : وقد اعتبر النحاة ذلك في مواضع فاعتبروا معنى المعرف بأل الجنسية دون لفظه
فوصفوه بالنّكرة الصّريحة ، نحو : يا لرجل خير منك على أحد الأوجه. وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ) [العصر : ٢] بعد (إِنَّ الْإِنْسانَ) [العصر : ٣] وقوله
: (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) [النور : ٣١] و «أهلك
النّاس الدّينار الحمر والدّرهم البيض» . كل هذا ما روعي فيه المعنى دون اللفظ ، وإن اختلف نوع
المراعاة ، ويجوز أن يكون «أحييناها» استئنافا بين به كونها آية.
فصل
وجه التعلق بما
قبله من وجهين :
أحدهما : أنه لما
قال : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ) كان ذلك (إشارة) إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم
واستبعادهم وإصرارهم وعنادهم فقال : (وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) كذلك يحيي الموتى .
وثانيهما : أنه
لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذّبين وكان شغلهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ
بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون.
فإن قيل : الأرض
آية مطلقة فلم خصها بهم حيث قال : (وَآيَةٌ لَهُمُ)؟.
فالجواب : الآية
تعدد وتردد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه أما من عرف الشيء بطريق
الرؤية لا يذكر له دليل فالنبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وعباد الله المخلصين
عرفوا الله قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) [فصلت : ٥٣] وقال
: (أَوَلَمْ
__________________
يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] يعني
أنت كفاك الله معرفا به عرفت كل شيء فهو شهيد لك على كل شيء وأما هؤلاء نبين لهم الحق بالآفاق والنفس وكذلك ها هنا الأرض آية لهم ، فإن
قيل : إن قلنا الآية مذكورة للاستدلال على جواز إحياء الموتى فيكفي قوله : «أحييناها»
ولا حاجة إلى قوله : (وَأَخْرَجْنا مِنْها
حَبًّا) وغير ذلك وإن قلنا : إنه للاستدلال على وجود الإله
ووحدانيته فلا فائدة في قوله : (الْأَرْضُ
الْمَيْتَةُ) فقوله : (الْمَيْتَةُ
أَحْيَيْناها) كاف في التوحيد فما فائدة قوله : (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا)؟ فالجواب : هي مذكورة للاستدلال عليها ولكلّ ما ذكره الله
تعالى فائدة أما فائدة قوله : (وَأَخْرَجْنا مِنْها
حَبًّا) فهو بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى لأنه لما أحيا الأرض
وأخرج منها حبا كان ذلك إحياء تامّا لأن الأرض المخضرّة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحبّ دون ما تنبته الحياة ، فكأنه
تعالى قال : الذي أحيا الأرض إحياء كاملا منبتا للزّرع يحيي الموتى إحياء كاملا
بحيث يدري الأمور وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تقرير النعمة ، كأنه يقول :
آية لهم الأرض فإنها مكانهم ومهدهم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي
عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها في
نعمة ثم إحياؤها نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ثم إخراج الحبّ منها نعمة ثالثة فإن قوتهم تصير في
مكانهم وكان يمكن أن يجعل رزقهم في السماء أو الهواء فلا يحصل لهم الوثوق ثم جعل
الحياة منها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحبّ في كل سنة والأشجار بحيث يوجد منها الثّمار فيكون بعد الحبّ وجودا ثم فجر منها العيون
ليحصل لهم الاعتمال بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين
تغرس وأين (يقع) المطر.
فصل
المعنى «أحييناها»
بالمطر (وَأَخْرَجْنا مِنْها
حَبًّا) يعني الحنطة والشعير وما أشبههما (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي من الحب (وَجَعَلْنا فِيها
جَنَّاتٍ) بساتين (مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها) في الأرض (مِنَ الْعُيُونِ
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) الحاصل بالماء .
قوله : (وَفَجَّرْنا) العامة على التشديد تكثيرا لأنها مخففة متعدّية ، وقرأ جناح بن
__________________
حبيش بالتخفيف ، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي ينبوعا كما في آية
: (سُبْحانَ).
قوله : (مِنْ ثَمَرِهِ) قيل : الضمير عائد على النخيل ؛ لأنه أقرب مذكور وكان من
حق الضمير أن يثنى على هذا لتقدم شيئين وهما الأعناب والنّخيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما ،
وقيل يعود على جنات وعاد بلفظ المفرد ذهابا بالضمير مذهب اسم الإشارة كقول رؤبة :
٤١٨١ ـ فيها خطوط من سواد وبلق
|
|
كأنّه في الجلد
توليع البهق
|
فقيل له ، فقال : أردت كأن ذاك وتلك ، وقيل : عائد على الماء
المدلول عليه بعيون . وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون. ويجوز أن
يعود على العيون. ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات ، ويجوز أن يعود على
الأعناب والنخيل معا ويعتذر عنه بما تقدم أيضا. وقال الزمخشري وأصله من «ثمرنا» لقوله : (وَفَجَّرْنا) و «أيدينا» فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات . والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر. فعلى هذا يكون
الضمير عائدا على الله تعالى ولذلك فسر معناه بما ذكر ، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة الأنعام.
__________________
قوله : «وما عملت
أيديهم» في «ما» هذه أربعة أوجه :
أحدها : أنها
موصولة أي ومن الذي عملته أيديهم من الغرس والمعالجة. وفيه تجوز على هذا.
والثاني : أنها
نافية أي لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى ، أي وجدوها معمولة ولا
صنع لهم فيها. وهو قول الضحاك ومقاتل. وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها
يد خلق مثل الدّجلة والفرات والنيل ونحوها. وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء . والباقون : وما عملته بإثباتها. فإن كانت «ما» موصولة
فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١]
بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل ، وإن كانت نافية فعلى قراءة الأخوين
وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي ما عملت أيديهم شيئا من ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمير يعود على «ثمره» وهي مرسومة
بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما عداها ، فالأخوان وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقو (ها) أيضا وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاة من
أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي (بكر) بالهاء ولحفص بدونها.
الثالث : أنها نكرة موصوفة والكلام فيها كالكلام في الموصولة.
والرابع : أنها مصدرية
أي ومن عمل أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول
__________________
به فيعود المعنى
إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.
فصل
إذا قلنا : «ما»
موصولة يحتمل أن يكون المعنى وما عملته أيديهم بالتّجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل
الإنسان وهما الزراعة والتجارة (أ) و من النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعنب والتّمر
وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون
الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام . قوله : (سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي الأصناف و «سبحان» علم دال على التسبيح تقديره : سبّح
تسبيح الّذي خلق الأزواج. ومعنى (سبح) نزّه. (و) وجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) وشكر الله بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره فقال : سبحان
الذي خلق الأزواج كلها وغيره لم يخلق شيئا. أو يقال : لما بين أنهم أنكروا الآيات
ولم يشكروا (بين) ما ينبغي عليه أن يكون عليه العامل فقال (سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ) تنزّه عن أن يكون له شريك أو يكون عاجزا عن إحياء الموتى.
قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الثّمار والحبوب والمعادن ونحوها ، (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني الذكور والإناث والدلائل النفسية (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرض.
قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٤٠)
قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) كقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ) و «نسلخ» استعارة
بديعة شبه انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد عن الشّاة لما استدل تعالى بأحوال الأرض
وهو المكان
__________________
الكلّيّ استدل
بالليل والنهار وهو الزمان الكلّيّ ؛ فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة ؛ لأن المكان لا يستغني عنه الجواهر والزمان لا يستغني عنه
الأعراض لأن كل عرض فهو في زمان.
فإن قيل : إذا كان
المراد منه الاستدلال بالزمان فلم خصّ الدليل؟!.
فالجواب : أنه لما
استدل بالمكان المظلم وهو الأرض استدل بالزّمان المظلم وهو الليل. ووجه آخر وهو أن
اللّيل فيه سكون (الناس) وهدوء الأصوات وفيه النّوم وهو الموت الأصغر فيكون بعد
طلوع الفجر كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) وذكر من الزمان أشبههما بالموت كما ذكر في المكان أشبههما بالموت.
فإن قيل : الليل
بنفسه آية فأيّ حاجة إلى قوله : (نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهارَ)؟.
فالجواب : أن
الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من
المواضع إلا وذكر آية النهار معها.
قوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي داخلون في الظلام كقوله : «مصبحين» . و «إذا» للمفاجأة ؛ أي ليس لهم بعد ذلك أمر لا بد لهم من
الدخول فيه.
قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) يحتمل أن تكون الواو للعطف على «اللّيل» تقديره: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) فهي كلها آية وقوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها بأمر الله
فمغرب الشمس سالخ النّهار فذكر السبب بين صحة الدعوة ويحتمل أن يقال بأن قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ) ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار
لمنافعه .
قال المفسرون : إن
الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر
الظلمة .
قوله : «لمستقر»
قيل : في الكلام حذف مضاف تقديره تجري لمجرى مستقرّ لها
__________________
وعلى هذا فاللام
للعلة أي لأجل جري مستقر لها. والصحيح أنه لا حذف وأن اللام بمعنى «إلى» . ويدل على ذلك قراءة بعضهم «إلى مستقرّ» . وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصّادق ابن الباقر : لا مستقرّ بلا النافية للجنس وبناء «مستقرّ»
على الفتح و «لها» الخبر . وابن عبلة لا مستقرّ بلا العاملة عمل ليس «فمستقر» اسمها و
«لها» في محل نصب خبرها ، كقوله :
٤١٨٢ ـ تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا
|
|
ولا وزر ممّا
قضى الله واقيا
|
والمراد (بذلك)
أنها لا تستقر في الدنيا بل هي دائمة الجريان وذلك إشارة إلى جريها المذكور.
فصل
قيل : المراد
بالمستقر يوم القيامة فعندها تستقر ولا يبقى لها حركة . وقيل : تسير حتّى تنتهي إلى أبعد مغاربها فلا تتجاوزه ثم
ترجع . وقيل : الليل . وقيل : نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء. وروى أبو ذرّ قال : قال
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأبي ذر حين غربت الشمس : «تدري أين تذهب»؟ قلت : الله
ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حت تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد
فلا يقبل (منها) وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع
من مغربها
__________________
فذلك قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس والشمس (تجري) لا مستقرّ لها أي لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبدا.
قوله : «ذلك»
إشارة إلى جري الشّمس أي ذلك الجري تقدير الله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر
أي ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي قادر على
إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه :
الأول : أن الشمس
لو مرّت كل يوم على مسامتة واحدة لاحترقت (الأرض) التي تسامتها بمرورها عليها كل يوم وبقي الجمود مستوليا
على الأماكن الأخر فقدر الله لها بعدا لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر
قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر وينضج ويجفّ.
الثاني : قدر لها
في كل يوم طلوعا وفي كل ليلة غروبا ، لئلا تكلّ القوى والأبصار بالسهر والتعب
ولئلا يخرب العالم بترك العمارة بسبب الظلمة الدائمة.
الثالث : جعل
سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زحل لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئة السير
لدامت زمانا كثيرا في مسامتة شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها
لبث بقدر ما ينضج من الثمار في بقعة واحدة .
قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع «القمر». والباقون
بنصبه . فالرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال . والوجهان مستويان لتقدم جملة ذات وجهين وهي قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي). فإن راعيت صدرها
__________________
رفعت لتعطف جملة
اسمية على مثلها وإن راعيت عجزها نصبت لتعطف فعلية على مثلها . وبهذه الآية يبطل (قول) الأخفش : إنه لا يجوز النصب في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على
الاسم الذي تضمنته جملة ذات وجهين قال : لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير
يعود على المبتدأ فيجوز : «أزيد قام وعمرا أكرمته في داره» ولو لم يقل «في داره» لم يجز ووجه
الردّ من هذه الآية أن أربعة من السبعة نصبوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على
الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن : ٧] بعد
قوله : (وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦].
قوله : «منازل»
فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول
ثان لأن «قدّرنا» بمعنى صيّرنا .
الثاني : أنّه حال
ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره : ذا منازل قال الزمخشري : لا بدّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام ،
لأن القمر لم يجعل نفسه منازل .
الثالث : أنه ظرف
أي قدرنا مسيره في منازل . وتقدم نحوه أول يونس .
قوله : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ) العامة على ضم العين والجيم. وفي وزنه وجهان :
أحدهما : أنه
فعلول. فنونه أصلية وهذا هو المرجح .
__________________
والثاني : وهو قول
الزجاج : أن نونه مزيدة ووزنه فعلون مشتقا من الانعراج ، وهو الانعطاف وقرأ سليمان التّيميّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبزيون
والبزيون . والعرجون عود العذق ما بين الشماريخ إلى منبته من النخلة وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقّته
واستقواسه واصفراره لأن العذق الذي عليه الشماريخ إذا قدم وعتق دقّ وتقوّس واصفرّ . والقديم ما تقادم عهده بحكم العادة ولا يشترط في جواز
إطلاق لفظ القديم عليه مدة بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت
من سنة أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمة ويقال لبعض الأشياء : إنّه قديم
وإن لم يكن له سنة (واحدة) ولهذا جاز أن يقال : بيت قديم وبناء قديم ولم يجز (أن
يقال) في العالم : إنه قديم ؛ لأن القدم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد
ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بتمادي الأزمنة عند من (لا) يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه .
قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على
النهار قبل انقضائه وهو معنى قوله : (وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ) أي يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل : لا يدخل
أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا (يطلع) القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ (واحد) منهما صاحبه قامت القيامة. وقيل : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ) لا تجتمع معه في فلك واحد (وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ) أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
فإن قيل : ما
الفائدة في قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) بصيغة الفعل وقوله : (وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ) بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل «سبق» ولا قال : لا الشّمس مدركة للقمر؟.
__________________
فالجواب : أن حركة
الشمس التي لا تدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها فذكر بصيغة الفعل
لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال : يخيط ولا يكون تصدر
منه الخياطة وأما حركة القمر فليست مختصة بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشترك
بسبب حركة فلك لا يختص بكوكب فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق على اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال : فلان خيّاط
وإن لم يكن يخيط. فإن قيل : قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) يدل على أن الليل سابق.
فالجواب : أن
المراد من الليل ها هنا سلطان الليل وهو القمر ولا يسبق الشمس بالحركة اليوميّة
السريعة والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر فكأنه
طالبه.
فإن قيل : قد ذكر
ههنا سابق (النهار) وقال هناك يطلبه ولم يقل طالبه.
فالجواب : لما
بينا (من) أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وحركاتها
بحركة الفلك فكأنها لا حركة لها فلا سبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس
الليل والنهار وهما زمانان لا قرار لهما فهو يطلب حثيثا لصدور المنقضي منه.
فإن قيل : ما
الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال : ولا القمر
سابق الشّمس.
فالجواب : لو قال
ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم
المناقض بأن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر فالقمر أسرع ظاهرا وإذا قال : ولا القمر
سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال اللّيل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى
الحركة التي بها تتم الدورة في يوم وليلة مرة وأن جميع الكواكب لها طلوع وغروب في
اللّيل والنهار .
قوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) قرأ عمارة بنصب «النّهار» حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
__________________
قال المبرد :
سمعته يقرؤها فقلت : ما هذا؟ فقال : أردت سابق ـ يعني بالتنوين ـ فخففت .
قوله : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي يجرون. وهذا يحقق أن لكلّ طلوع في يوم وليلة لا يسبق
بعضها بعضا بالنسبة إلى هذه الحركة والتنوين في قوله : «كلّ» عوض عن الإضافة . والمعنى كل واحد. وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع
التعريف والتنكير في شيء واحد فلما أسقط المضاف إليه لفظا رد التنوين عليه لفظا
وفي المعنى معرف بالإضافة.
فإن قيل : فهل
يختلف الأمر عند الإضافة لفظا وتركها؟.
فالجواب : نعم ،
لأن قول القائل : كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار
الفهم عليه ، فإذا قال : كلّ كذا يدخل في الفهم عموم أكثر من العموم عند الإضافة
وهذا كما في : «قبل وبعد» إذا قلت : أفعل قبل كذا فإذا حذفت المضاف وقلت أفعل قبل
أفاد فهم الفعل قبل كلّ شيء .
فإن قيل : فهل بين
قولنا : «كل منهم» وبين : «كلّهم» وبين «كلّ» فرق؟.
فالجواب : نعم
فقولك : كلهم يثبت الأمر للاقتصار عليهم ، وقولك : كلّ منهم يثبت الأمر أولا
للعموم ثم استدركه بالتخصيص فقال : منهم وقولك : كلّ يثبت الأمر على العموم وتركت عليه . فإن قيل : إذا كان «كلّ» معناه كل واحد منهم والمذكور
الشمس والقمر فكيف قال : يسبحون؟.
فالجواب : أن قوله
«كل» للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيّارا. وأيضا فلفظ «كل» يجوز أن
يوحّد نظرا إلى كون لفظه موحّدا غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا
، وأما التثنية فلا يدل عليه اللفظ ولا المعنى وعلى هذا يحسن أن يقال : «زيد وعمرو كلّ
جاء» ولا يقال : (كل) جاءا بالتثنية. وجواب آخرا قوله : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ) فالمراد من الليل الكواكب فقال : «يسبحون» .
فصل
الفلك هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة
اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلك الخيمة هي الخشبة المسطحة
__________________
المستديرة التي توضع
على رأس العمود ، لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة.
فإن قيل : فعلى
هذا تكون السماء مستديرة وقد اتفق أكثر المفسرين (على) أنّ السماء مبسوطة لها أطراف على جبال وهي كالسّقف المستوي
ويدل عليه قوله تعالى : (وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ) [الطور : ٥]. قال ابن الخطيب : ليس في النصوص ما يدل دلالة
قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل دل الدليل الحسّيّ على كونها مستديرة
فوجب المصير إليه والسقف المقبّب لا يخرج عن كونه سقفا وكذلك كونه على جبال. وأما الدليل الحسي فوجوه :
الأول : أن من
أمعن في النظر في جانب الجنوب تظهر له كواكب مثل سهيل وغيره ظهورا أبديا ولو كان السماء سطحا مستويا لبان الكلّ للكلّ بخلاف ما إذا كان مستديرا فإن
بعضه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يرى.
الثاني : أن الشمس إذا كانت مقارنة للحمل مثلا فإذا غربت ظهر لك
كواكب في منطقة البروج من الحمل إلى الميزان ثم في كل قليل يستتر الكوكب الذي يكون طلوعه بعد طلوع الشمس وبالعكس وهذا دليل
ظاهر وإن بحث فيه يصير (قطعيّا) .
الثالث : أن الشمس
قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير نورها وإلا لما كان كذا بل كان (عند) إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معا لكون
السماء مستوية (حينئذ مكشوفة كلها لكل أحد.
الرابع : لو كانت
السماء مستوية) لكان القمر عند ما يكون فوق رؤوسنا على المسامتة أقرب ما يكون
إلينا وعند ما يكون على الأفق أبعد منا لأن العمود أصغر من القطر والوتر وكذلك في
الشمس والكواكب وكان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلك.
الخامس : لو كانت
السماء مستوية لكان ارتفاعها أول النهار ووسطه وآخره مستويا وليس كذلك. والوجوه
كثيرة وفي هذا كفاية.
فصل
قال المنجّمون
قوله تعالى : (يَسْبَحُونَ) يدل على أنها أحياء لأن ذلك لا يطلق إلا
__________________
على العاقل قال
ابن الخطيب إن أرادوا القدر الذي يكون منها التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح
بحمده وإن أرادوا شيئا آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في
حق الأصنام : (ما لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ) [الصافات : ٩٢]
وقوله : (أَلا تَأْكُلُونَ) [الصافات : ٩١].
قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)
وَإِنْ
نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)(٤٤)
قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) لما منّ بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر
عليه بل بين للإنسان طريقا يتخذ من البحر ويسير فيها كما يسير في البر وهو كقوله
تعالى : (وَحَمَلْناهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الإسراء : ٧٠]
ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) إذا فسرناه بأن المراد منه الإبل فإنها سفن البرّ. ووجه
آخر وهو أن الله تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك ذكر ما هو مثله وهو سباحة
الفلك في البحار ووجه آخر وهو أن الأمور التي أنعم الله (تعالى) بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة فالأول للحاجة
والثاني للزينة فخلق الله الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه
لما وجد الإنسان ولو لا إحياؤها لما عاش الإنسان ، والليل والنهار في قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) أيضا من القبيل الأول لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث
الإنسان والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لما عاش الإنسان ، ثم إنه تعالى لما ذكر
من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين :
إحداهما : الفلك
التي تجري في البحر فتستخرج من البحر ما يتزيّن به كما قال تعالى : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
مَواخِرَ) [فاطر : ١٢].
وثانيهما :
الدّوابّ التي هي في البرّ كالفلك في البحر في قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ) فإن الدوابّ زينة كما قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨].
قوله : (أَنَّا حَمَلْنا) مبتدأ «وآية» خبر مقدم ، وجوز أبو البقاء أن يكون : (أَنَّا حَمَلْنا) خبر مبتدأ محذوف بناء منه على أن «آية لهم» مبتدأ وخبر
كلام مستقل بنفسه كما
__________________
تقدم في نظيره ، والظاهر أن الضميرين في «لهم» و «ذرّيّتهم» لشيء واحد . ويراد بالذرية آباؤهم المحمولين في سفينة نوح ـ عليه (الصلاة
و) السلام ـ أو يكون الضميران مختلفين أي ذرية القرون الماضية . ووجه الامتنان عليهم أنهم في ذلك مثل الذرية من حيث إنهم
ينتفعون بها كانتفاع أولئك. وقوله «ما يركبون» هذا يحتمل أن يكون من جنس الفلك إن
أريد بالفلك سفينة نوح ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ خاصة وأن يكون من جنس آخر
كالإبل ونحوه ولهذا سمتها العرب سفن البرّ فقوله : (مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل الفلك أو من مثل ما ذكر من خلق الأزواج ، (في
قوله «وآخر من شكله
أزواج») . والضمير في «لهم» يحتمل أن يكون عائدا إلى الذرية أي
حملنا ذريتهم وخلقنا للمحمولين ما يركبون ، ويحتمل أن يعود إلى العباد الذين عاد
إليهم قوله : (وَآيَةٌ لَهُمْ). وهو الظاهر لعود الضمائر إلى شيء واحد . و «من» يحتمل أن تكون صلة أي خلقنا لهم مثله ، وأن تكون للبيان ؛ لأن المخلوق كان أشياء. وقال من مثل
الفلك للبيان . وتقدم اشتقاق الذّرّيّة في البقرة ، واختلاف القراء فيها في الأعراف .
فصل
قال المفسرون :
المراد بالذّرّية الآباء والأجداد واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على
الأولاد أي حملنا آباءكم في الفلك ، والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور
في قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) [هود : ٣٧] وهو
معلوم عند العرب. وقال الأكثرون : الذرية لا تطلق إلا على الولد. وعلى هذا فالمراد إما أن
يكون الفلك
__________________
المعين الذي كان
لنوح وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) [الزخرف : ١٢]
وقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ
فِيهِ مَواخِرَ) [فاطر : ١٢] وقوله
: (فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ). إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس
فإن كان المراد سفينة نوح ففيه وجوه :
الأول : أن المراد
: حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولو لا ذلك لما بقي للأب نسل ولا
عقب وعلى هذا فقوله : (حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل
متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري ، ويحتمل أن يقال : إنه تعالى إنما خص الذريات بالذكر لأن
الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم فقال : (حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) أي لم يكن الحمل حملا لهم وإنّما كان حملا لما في أصلابهم
من المؤمنين كمن حمل صندوقا لا قيمة له وفيه جواهر (ف) قيل : إنه لم يحمل الصندوق إنما حمل ما فيه.
الثاني : أنّ
المراد بالذّرّيّة الجنس أي حملنا أجناسهم لأن ذلك الحيوان من جنسه ونوعه ،
والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النّساء كنهي النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ عن
قتل الذّراري أي النساء لأنّ المرأة وإن كانت صنفا غير صنف الرجل لكنها من جنسه
ونوعه يقال : ذرارينا أي أمثالنا.
الثالث : أن الضمير في
قوله : (وَآيَةٌ لَهُمْ) عائد على العباد ، حيث قال : (يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ) وقال بعد ذلك : (وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ). (وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال: «وآية للعباد أنا حملنا ذريتهم»).
وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال : «وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد». ولا يلزم
أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصا معيّنين كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ
بَأْسَ بَعْضٍ). وكذلك
__________________
إذا تقاتل قوم
ومات الكلّ في القتال يقال : هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم. «فهم» في الموضعين يكون
عائدا إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصا معيّنين بل المراد أن بعضهم قتل بعضهم
فكذلك قوله تعالى : (آيَةٌ لَهُمْ) أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كلّ (بعض) منهم ، أو ذرية بعض منهم. وإن قلنا : المراد جنس الفلك وهو
الأظهر لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فآية
ظاهرة لكل أحد وقوله تعالى في سفينة نوح : (وَجَعَلْناها آيَةً
لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت: ١٥] أي
بوجود جنسها ومثلها. ويؤيده قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان : ٣١]. وإن
وقيل : المراد سفينة نوح فوجه المناسبة أنه ذكرهم بحال نوح وأن المكذّبين هلكوا
والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يهلكوا. والأول أظهر وهو أن
المراد بالفلك الموجود في زمانهم ويؤيده قوله تعالى : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ).
فإن قيل : لم قال (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) ولم يقل : «حملناهم» ليكون أعم كما قال : (وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ) ولم يقل : تأكل ذرّيّتهم؟.
فالجواب : قوله
تعالى : (حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم لأن سكون الأرض عام (ل) كلّ أحد يسكنها فقال : (وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) إلى أن قال : (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) ؛ لأن الأكل عام وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا
يركبها في عمره ولا يحمل فيها ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإنّ فيهم من
يحتاج إليها فيحمل فيها.
فإن قيل : ما
الحكمة في كونه جمع الفلك في قوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ
فِيهِ مَواخِرَ) وأفرده في قوله: (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ).
فالجواب : أن فيه
تدقيقا مليحا في علم اللغة وهو أن الفلك تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة ، والحركتان
مختلفتان في المعنى مثاله قولك : سجد يسجد سجودا للمصدر وهم قوم سجود في جمع «ساجد»
يظن أنها كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك بل السجود عند كونه مصدرا حركته أصلية إذا
قلنا : إن الفعل مشتق من المصدر
__________________
وحركة السجود عند
كونه للجمع حركة معتبرة من حيث إن الجمع مشتق من الواحد وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حرف أو حركة أو
في مجموعهما ، فساجد لما أردنا أن يشتقّ منه لفظ جمع غيّرناه وجئنا بلفظ السّجود
فإذن السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة
لمعنيين. وإذا عرف هذا فنقول «الفلك» عند كونه واحدا مثل : «قفل وبرد» وعند كونها جمعا مثل خشب أو برد أو غيرهما.
فإن قيل : فإذا
جعلته جمعا ما يكون واحدها؟.
فالجواب : نقول
جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النّساء لم يستعمل وكذا
القول في : «إمام مبين» إمام كزمام وكتاب عند قوله تعالى : (كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي بأئمّتهم إمام كسهام وحفان ، وهذا من دقيق التّصريف. وأما من جهة المعنى ففيه سؤالات
:
السؤال الأول :
قال ههنا : (حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) منّ عليهم بحمل ذرّياتهم وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] منّ
عليهم هناك بحمل أنفسهم.
فالجواب : أن من
ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ومن يدفع الضر عن المتعلّق بالغير لا
يكون قد دفع الضر عن ذلك الغير بل يكون قد نفعه كمن أحسن إلى ولد إنسان وفرّحه فرح
بفرحه أبوه وإذا دفع الألم عن ولد إنسان يكون قد فرّح أباه ولا يكون في الحقيقة
أزال الألم عن أبيه فعند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال : دفعت عنكم الضّرر ولو قال : دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان
دفع الضرر عنهم وههنا أراد بيان المنافع فقال : (حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) لأنّ النفع حاصل بنفع الذرية ، ويدل على هذا قوله : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فإن امتلأ الفلك من الأموال يحصل (بذكره)
__________________
بيان المنفعة وإذا دفع المضرة فلا لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص
بها أبطأ وهنالك السلامة فاختار هناك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري وههنا
ما يدل على كمال المنفعة وهو الشّحن.
فإن قيل : قال
تعالى : (وَحَمَلْناهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ولم يقل : وحملنا ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان
النعمة لا دفع النّقمة نقول : لما قال في البرّ والبحر عمّ الخلق لأن ما من أحد
إلا وحمل في البر والبحر وأما الحمل في البحر فلم يعمّ فقال إن كنا ما حملناكم
بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.
فصل
وفي قوله : «المشحون»
فائدة أخرى وهي أن الآدميّ يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك واقع بقدرته لكن من
الطّبيعيّين من يقول : الخفيف لا يرسب في الماء لأنه يطلب جهة فوق فقال
: (الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) وهو أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان
فيه مع ثقله.
فإن قيل : ما
الحكمة في قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ) (و) (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ)؟ ولم يقل: وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم؟.
فالجواب : أن
حملهم في الفلك هو العجيب. أما نفس الفلك فليس بعجيب لأنه كبيت مبنيّ من خشب وأما
نفس الأرض فعجيب ونفس الليل عجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله .
قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) قرأ الحسن بتشديد الراء وهذه الآية تدل على أن المراد بقوله : (مِنْ مِثْلِهِ) الفلك الموجود في زمانهم وليس المراد الإبل كما قاله بعض المفسرين بأن
المراد الإبل لأنها سفن البرّ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ) فاصلا بين متصلين. ويحتمل أن يقال : الضمير في مثله يعود
إلى معلوم غير مذكور. وتقريره أن يقال : وخلقنا لهم من مثل ما ذكر من المخلوقات
كما في
__________________
قوله تعالى : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أن الهاء عائدة إلى ما ذكرنا أي من ثمرنا.
فصل
في قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) فائدتان :
إحداهما : أن في
حال النعمة ينبغي أن لا يؤمن عذاب الله.
والثانية : أن ذلك
جواب عن سؤال مقدر وهو أن الطّبيعيّ يقول : السفينة تحمل بمقتضى الطّبيعة والمجوّف
لا يرسب ، فقال : ليس كذلك بل لو شاء الله إغراقهم لأغرقهم وليس كذلك بمقتضى
الطبيعة ولو صح كلامه الفاسد لكان لقائل أن يقول : ألست توافق أن من السفن ما
ينقلب وينكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء أغرقهم من
غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو شيء من تلك الأسباب التي سلمتها
أنت .
قوله : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) فعيل بمعنى فاعل لا مغيث لهم. وقيل : فلا مستغيث . وقال الزمخشري : فلا إغاثة جعله مصدرا من «أصرخ» . قال أبو حيان «ويحتاج إلى نقل أن «صريحا» يكون مصدرا
بمعنى إصراخ» . والعامة على فتح «صريخ». وحكى أبو البقاء أنه قرىء بالرفع
والتنوين . قال : ووجهه على ما في قوله : (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ).
فصل
معناه : لا مغيث
لهم يمنع عنهم الغرق (وَلا هُمْ
يُنْقَذُونَ) إذا أدركهم الغرق لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون برفع
العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) يدفع ولا هم ينقذون بعد الوقوع فيه وهو كقوله تعالى : (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً
وَلا يُنْقِذُونِ.) وفيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال : لا صريخ
لهم ولم يقل : ولا منقذ لهم ؛ لأ (نّ) من لا يكون من شأنه أن ينصر لا يشرع في
__________________
النصر مخافة أن
يغلب ويذهب ماء وجهه وإنما ينصر ويغيث من كان من شأنه أن يغيث فقال : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعين عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثق من نفسه في
الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال : (وَلا هُمْ
يُنْقَذُونَ) ولم يقل : ولا منقذ لهم ، ثم استثنى وقال : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى
حِينٍ) وهو يفيد أمرين :
أحدهما : انقسام
الإنقاذ إلى قسمين : الرحمة والمتاع أي فمن علم أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع زمانا ويزداد إثمه.
وثانيهما : أنه
بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدّ منه ، فينقذه رحمة
ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع. قال ابن عباس المراد «بالحين»
انقضاء آجالهم يعني (إلّا) أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم.
قوله : (إِلَّا رَحْمَةً) منصوب على المفعول له وهو استثناء مفرغ ، وقيل : استثناء منقطع وقيل : على المصدر بفعل مقدّر ، أو على إسقاط الخافض
أي إلا برحمة ، والفاء في قوله : (فَلا صَرِيخَ) رابطة لهذه الجملة بما قبلها ؛ فالضمير في «لهم» عائد على «المغرقين» . وجوز ابن عطية هذا ووجها آخر وجعله أحسن منه وهو أن يكون
استئناف إخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين هم بهذه الحالة لا
نجاة لهم إلّا برحمة الله وليس قوله : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) مربوطا بالمغرقين انتهى .
وليس جعله هذا
الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن موضوعها والكلام عن التئامه .
__________________
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وَما
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٤٧)
قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا) جوابها محذوف أي أعرضوا يدل عليه قوله بعده : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). وعلى هذا فلفظ «كانوا» زائد ، قال ابن عباس : ما بين أيديكم يعني الآخرة فاعملوا
لها ، وما خلفكم يعني الدنيا فاحذروها ولا تغترّوا بها . وقيل : ما بين أيديكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم
وما خلفكم عذاب الآخرة قاله قتادة ومقاتل ، (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ).
قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ
رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي دلالة على صدق محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلا كانوا عنها معرضين. وهذا الاستئناف في محل (نصب) حال كما تقدم في نظائره ، وهذه الآية متعلقة بقوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما
يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعرضوا.
قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا) لما عدد الآيات بقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ) (و) (آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) (و) (آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) وكانت الآيات تفيد اليقين والقطع ولم تفدهم اليقين قال فلا أقلّ من أن يحترزوا وقوع العذاب ، فإن من أخبر بوقوع العذاب يتقيه وإن لم يقطع
بصدق المخبر احتياطا فقال تعالى : إذا ذكرتم الدليل القاطع لا يعترفون به فإذا قيل
لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يبنون
الأمر على الأحوط ويدل على ذلك قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) بحرف التمنّي أي أن يخفى عليه البرهان لا يترك الاحتراز
والاحتياط.
قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ) أي أعطاكم الله. وهذا إشارة إلى أنهم بخلوا بجميع التكاليف
لأن المكلف يجب عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم
حيث قيل لهم : اتّقوا (فلم يتّقوا) وتركوا الشفقة على خلق الله
__________________
حيث قيل لهم :
أنفقوا ولم ينفقوا فما الحكمة في حذف الجواب في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا)؟ وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب ولو قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) قالوا (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ
يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) لكان كافيا فما الفائدة في قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا)؟ فالجواب : أن الكفار كانوا يقولون بأنّ الإطعام من
الصّفات الحميدة وكانوا يفتخرون بطعمة الأضياف فأوردوا في ذلك على المؤمنين
معتقدين بأن أفعالنا منّا ولو لا إطعامنا منّا لما اندفعت حاجة الضيف وأنتم تقولون : إنّ إلهكم يرزق من يشاء فلم
تقولون لنا : أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين ، لا
الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم : (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) إشارة إلى الرد. وأما قوله : اتّقوا ما بين أيديكم» فلم
يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا فأعرض (الله) عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به.
فصل
قال المفسرون : إن
المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم «قالوا أنطعم» أنرزق (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا
نطعم من لم يطعمه الله. وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون : لا نعطي من حرمه الله.
وهذا الذي يزعمون باطل ؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع
الدنيا من الفقير لا بخلا ، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو
الغنيّ بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في
خلقه.
فإن قيل : ما
الفائدة من تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق من لو يشاء
الله رزقه وذلك أنهم أمروا بالإنفاق في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا) فكان جوابهم أن يقولوا : أننفق ؛ فلم قالوا : أنطعم؟.
فالجواب : أن في
هذا بيان غاية مخالفتهم لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره
فلم يأتوا بالإنفاق ولا بأقلّ منه وهو الإطعام. وهذا كقول القائل لغيره :«أعط زيدا
دينارا» فيقول: لا أعطيه درهما مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه دينارا
__________________
ولكن المبالغة في
هذا الوجه أتمّ. فكذلك ههنا.
فإن قيل : قولهم :
(مَنْ لَوْ يَشاءُ
اللهُ أَطْعَمَهُ) كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذّمّ؟.
فالجواب : لأن
مرادهم كان الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله وكلاهما
فاسد فبيّن الله ذلك بقوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللهُ) فإنه يدل على قدرته ويصحّح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في
خزانته مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال
بالإعطاء ، ولا يجوز أن يقول من في يده مال : في خزانتك أكثر مما في يدي أعطه منه .
قوله : (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) مفعول «أنطعم» و «أطعمه» جواب «لو» وجاء على أحد الجائزين (و)
هو تجرده من اللام. والأفصح أن يكون بلام ، نحو : (لَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٦٥]
قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول الكفار للمؤمنين : ما أنتم إلا في خطأ بيّن في اتّباعكم محمدا وترك ما نحن عليه وهذا إشارة إلى أنهم
قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد
واعتقادهم هو الفاسد.
فصل
اعلم أنّ «إن»
وردت للنفي بمعنى «ما» وكان الأصل في «إن» أن تكون للشرط والأصل في «ما» أن تكون
للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتعارضا . واستعمل «ما» في الشرط ، واستعمل «إن» في النفي. أما وجه
اشتراكهما فهو أن كل واحدة منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من
الألف والميم من النون ولا بد أن يكون المعنى الذي يدخل عليه «ما» و «إن» لا يكون
ثابتا أما في «ما» فظاهر وأما في «إن» فلأنك إذا قلت : «إن جاء زيد أكرمه» ينبغي
أن لا يكون منه في الحال (مجيء)
__________________
فاستعمل إن مكان «ما».
وقيل : «إن زيد قائم» أي ما زيد بقائم. واستعمل ما في الشرط تقول : ما تصنع أصنع
والذي يدل على ما ذكرنا أن «ما» النافية تستعمل بحيث لا تستعمل إن (وذلك) لأنك تقول : «ما إن جلس زيد» فتجعل إن «صلة» ولا تقول : «إن
جلس زيد» ، بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول : إمّا ترين فتجعل «إن» أصلا و «ما» صلة فدلنا هذا على أنّ «إن»
في الشرط أصل و «ما» دخيل فيه و «ما» في النفي بالعكس.
فصل
قوله : (إِنْ أَنْتُمْ) يفيد ما لا يفيد قوله : «أنتم في ضلال» لأنه يوجب الحصر
وأنه ليسوا في غير الضّلال. ووصف الضلال بالمبين أي أنه لظهوره تبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه في ضلال.
وقوله : (فِي ضَلالٍ) يفيد كونهم مغمورين فيه غائصين ، فأما قوله في موضع آخر : (عَلى بَيِّنَةٍ) و (عَلى هُدىً) فهو إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين
عليه .
فصل
إنما وصفوا
المؤمنين بأنهم في ضلال مبين لظنهم أن كلام المؤمنين متناقض ومن يتناقض كلامه يكون
في غاية الضلال. قال ابن الخطيب : ووجه ذلك أنهم قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وهذا إشارة
إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمرا بتحصيل الحاصل
وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ فلا قدرة لنا
على الإطعام فكيف تأمروننا بالإطعام؟! ووجه آخر وهو أنهم قالوا إن أراد الله
تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعيا في إبطال
__________________
فعل الله وأنه لا
يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال. واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا
إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر وذلك لأن العبد إذا أمره السّيد بأمر لا
ينبغي الاطّلاع على المقصود الذي لأجله الذي أمره به مثاله إذا أراد الملك الركوب
للهجوم على عدوّه بحيث لا يطّلع عليه أحد وقال للعبد : أحضر المركوب فلو تطلع
واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه
وكشف سره فالأدب في الطاعة هو اتباع الأمر لا تتبع المراد فالله تعالى إذ (ا) قال : أنفقوا مما رزقكم الله لا يجوز أن يقال : لم لم
يطعمهم (الله) مما في خزائنه؟.
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ
إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
قالُوا
يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥٤)
قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي القيامة والبعث (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) وهذا إشارة إلى ما اعتقدوا أن التقوى المأمور بها في قوله
: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا) والإنفاق المذكور في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا) لا فائدة فيه لأن الوعد لا حقيقة له وقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي متى يقع الموعود به.
فصل
«إن» للشرط وهي
تستدعي جزاء و «متى» استفهام
لا تصلح جوابا فيه فما الجواب؟.
قيل : هو في صورة
الاستفهام وهو في المعنى إنكار كأنهم قالوا : إن كنتم صادقين في وقوع الحشر فقولوا
متى يكون.
فصل
الظاهر أن هذا
الخطاب مع الأنبياء لأنهم لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم أيها المدّعون للرسالة
صادقين فأخبرونا متى يكون ما تعدوننا به.
__________________
فإن قيل : ليس في
هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله : (هذَا الْوَعْدُ) إلى أي وعد؟.
فالجواب : هو ما
في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) من قيام الساعة ، أو نقول : هو معلوم وإن لم يكن مذكورا
لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب.
قوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً). قال ابن عباس : ما ينتظرون إلّا الصيحة المعلومة يريد
النفخة الأولى ، والتنكير للتكثير.
فإن قيل : هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها.
فالجواب : المراد
بالانتظار فعلهم لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله الهوان وتعجيل العذاب
وتقريب الساعة لو لا حكم الله وعلمه بأنهم لا يفوتونه أو يقال : لما لم يكن قولهم «متى»
استفهاما حقيقيا قال ينتظرون انتظارا غير حقيقي لأن القائل متى يفهم منه الانتظار
نظر لقوله.
فصل
ذكر في الصيحة
أمورا تدل على عظمها :
أحدها : التنكير.
وثانيها : قوله «واحدة»
أي لا يحتاج معها إلى ثانية.
ثالثها : «تأخذهم»
أي تعمّهم بالأخذ وتصل إلى من في الأرض مشارقها ومغاربها .
قوله : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) قرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم. والمعنى
يخصم بعضهم بعضا فالمفعول محذوف ، وأبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء ، وتشديد الصاد.
ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنه بإخلاص فتحة الخاء ، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراءات الثلاث يختصمون فأدغمت
التاء في الصاد. فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحتها إلى الساكن قبلها نقلا كاملا
، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخاء أصلها السكون والباقون
حذفوا حركتها
__________________
فالتقى ساكنان
كذلك فكسر (وا) أولهما. فهذه أربع قراءات قرىء بها في المشهور ، وروي عن
أبي عمرو وقالون سكون الخاء وتشديد الصاد فالنحاة يستشكلونها للجمع بين ساكنين على
غير حدّيهما. وقرأ جماعة «يخصّمون» بكسر الياء والخاء وتشديد الصاد وكسروا الياء
إتباعا . وقرأ أبيّ يختصمون على الأصل ، وقال أبو حيان وروي عنهما ـ أي عن أبي عمرو وقالون ـ سكون
الخاء ، وتخفيف الصاد من خصم . قال شهاب الدين : هذه هي قراءة حمزة ولم يحكها هو عنه ،
وهذا يشبه قوله : (يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ) [البقرة : ٢٠] في
البقرة و (لا يَهْدِي) في يونس وقرأ ابن محيصن «يرجعون» مبنيّا للمفعول .
فصل
قال عليه (الصلاة
و) السلام : «لتقومنّ السّاعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا
يطويانه ولتقومنّ السّاعة وقد رفع الرّجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها».
قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي لا يقدرون على الإيصاء قال مقاتل : أي أعجلوا عن الوصية
فماتوا (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ) ينقلبون. أي أنّ الساعة لا تمهلهم لشيء .
واعلم أن قول
القائل : فلان في هذه الحالة لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية لأن من لا يوصي
قد يستطيعها والتوصية بالقول ، والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال : لا
يستطيعون كلمة ، فكيف الذي يحتاج إلى زمن طويل من أداء الواجبات ورد المظالم؟! واعتبار الوصية من
بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة
إلى الوصية أمسّ. والتنكير في التوصية للتعميم أي لا
__________________
يقدر على توصية (ما)
ولو كانت بكلمة يسيرة ، ولأن الوصية قد تحصل بالإشارة ، فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وقوله : (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ) بيان لشدة الحاجة إلى التوصية ، ثم بين ما بعد الصيحة
الأولى فقال : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ
قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] وقرأ
الأعرج ونفخ في الصور بفتح الواو . وهي القبور واحدها جدث ، وقرىء من الأجداف بالفاء. وهو لغة في الأجداث يقال : جدث ، وجدف كثمّ وفمّ ،
وثوم ، وفوم .
فإن قيل : أين يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال؟.
فالجواب : أن الله
يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه من ذلك الموضع وهو جدثه.
قوله : (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي يخرجون من القبور أحياء. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو
في رواية : ينسلون بضم السين ، يقال : نسل الثعلب ينسل وينسل إذا أسرع في
عدوه ، ومنه قيل للولد : نسل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه .
فإن قيل : المسيء إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رجلا ويؤخر أخرى والنّسلان
سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك؟.
فالجواب : ينسلون
من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في
الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : «إذا هم ينسلون»
أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
فإن قيل : قال في
آية (فَإِذا هُمْ قِيامٌ
يَنْظُرُونَ) وقال ههنا : (فَإِذا هُمْ مِنَ
الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين : «إذا هم» يقتضي
أن يكونا معا.
__________________
فالجواب من وجهين
:
الأول : أن القيام
لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر.
الثاني : أن لسرعة
الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :
٤١٨٣ ـ مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا
|
|
..........
|
واعلم أن النفختين
تورثان تزلزلا وانقلابا للأجرام فعند اجتماع الأجرام يفرّقها. وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق
الأجرام يجمعها وهو النفخة الثانية.
قوله : (يا وَيْلَنا) العامة على الإضافة إلى ضمير المتكلمين دون تأنيث وهو «ويل»
مضاف لما بعده. ونقل أبو البقاء أن «وي» كلمة برأسها عن الكوفيين و «لنا» جار
ومجرور انتهى. قال شهاب الدين : ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد
وهو أن يكون يا عجب لنا ، لأن «وي» تفسير بمعنى أعجب منا . وابن أبي ليلى يا ويلتنا بتاء التأنيث وعنه أيضا يا ويلتي
بإبدال التاء ألفا . وتأويل هذه أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي .
قوله : (مَنْ بَعَثَنا) العامة على فتح ميم «من» و «بعثنا» فعلا ماضيا خبرا «لمن»
الاستفهامية قبله ، وابن عباس والضحاك وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر ، و «بعثنا» مصدر مجرور «بمن» ، ف «من» الأولى تتعلق بالويل والثانية تتعلق بالبعث. والمرقد يجوز أن يكون مصدرا أي من رقادنا وأن يكون مكانا وهو مفرد
__________________
أقيم مقام الجمع
والأول أحسن ؛ إذ المصدر يفرد مطلقا .
فصل
قال ابن عباس
وأبيّ بن كعب وقتادة : إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين
فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة ، دعوا بالويل. وقال (أهل)
المعاني : الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها
كالنوم فقالوا : من بعثنا من مرقدنا .
فإن قيل : لو قيل
: فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب :
نقول : معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنه
تعالى بأسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت
النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال
لينسلون أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم : يا ويلنا قبل أن ينسلوا
وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة .
فإن قيل : ما وجه
تعلق (مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا) بقولهم (يا وَيْلَنا)؟
فالجواب : لما
بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل فقالوا : يا ويلنا أبعث الله
البعث الموعود به أم كنا نياما هنا كما إذا كان إنسان موعودا بأن يأتيه عدو لا
يطيقه ثم يرى رجلا هائلا يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا؟. ويدل
على هذا قولهم : (مِنْ مَرْقَدِنا) حيث جعلوا القبور موضع الرّقاد إشارة إلى أنهم شكوا في
أنهم كانوا نياما فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث
فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا
من مرقدنا إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه .
قوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) في «هذا» وجهان :
أظهرهما : أنه
مبتدأ وما بعده خبره . ويكون الوقف تامّا على قوله : (مِنْ مَرْقَدِنا) وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان :
__________________
أحدهما : أنها
مستأنفة إما من قول الله تعالى ، أو من قول الملائكة ، أو من قول المؤمنين للكفار.
الثاني : أنها من
كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقول .
والثاني من
الوجهين الأولين : (أن) «هذا» صفة «لمرقدنا»
و (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) منقطع عما قبله ، ثم في «ما» وجهان :
أحدهما : أنها في
محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم . وإليه ذهب الزجاج والزمخشري .
والثاني : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي هذا وعد الرحمن ، وقد تقدم في أول الكهف أن حفصا يقف على «مرقدنا»
وقفة لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تابع ل «مرقدنا». وهذان الوجهان
يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله ، و «ما» يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم . ومفعولا الوعد والصدق محذوفان أي وعدناه الرّحمن وصدقناه
المرسلون ، والأصل «صدقنا فيه» ويجوز حذف الخافض وقد تقدم ذلك نحو :
صدقني سنّ بكر (ه) أي في سنه .
قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) تقدمت قراءتا : (صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٥٣] نصبا
ورفعا أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة ، ويدل على النفخة قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). ويحتمل أن يقال : إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة
على أن «كان» هي التامة بمعنى «ما وقعت إلا صيحة» قال الزمخشري : لو كان كذلك لكان
الأحسن أن
__________________
يقال : إن كان ؛
لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلا صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر . ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع إن قوله : (إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١]
تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢]
فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قال : «إن كانت إلا موتتنا الأولى» تأنيث تهويل ، ولهذا
جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحاقّة والصّاخّة إلى غيرها .
والزمخشري يقول :
كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة. وقوله «محضرون»
دليل على أنّ كونهم ينسلون إجباريّ لا اختياريّ ، ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) فاليوم منصوب «بلا تظلم» ، و «شيئا» إما مفعول ثان وإما مصدر .
فقوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ) ليأمن المؤمن (و) (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لييأس المجرم والكافر .
فإن قيل : ما
الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان
المؤمن؟
فالجواب : أن قوله
: (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً) يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحدا وأما (لا تُجْزَوْنَ) فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله
فضلا مختصا بالمؤمن وعدلا عاما فيه. وفيه بشارة.
قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ
فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ
فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها
فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(٥٩)
ثمّ بيّن حال
المحسن فقال : (إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) فقوله : (فِي شُغُلٍ) يجوز أن يكون خبرا ل «إنّ» و «فاكهون» خبر ثان وأن يكون «فاكهون»
هو
__________________
الخبر و «في شغل»
يتعلق به ، وأن يكون حالا ، وقرأ الكوفيون وابن عامر «شغل» بضمتين. والباقون
بضم وسكون . وهما لغتان للحجازيين قاله الفراء ، ومجاهد وأبو السّمّال بفتحتين . ويزيد النحويّ وابن هبيرة بفتح وسكون. وهما (لغتان) أيضا. والعامة على رفع «فاكهون»
على ما تقدم. والأعمش وطلحة «فاكهين» نصبا على الحال ، والجار الخبر. والعامة أيضا على فاكهين بالألف بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر ولاحم ، والحسن وأبو جعفر وأبو حيوة وأبو رجاء وشيبة وقتادة
ومجاهد «فكهون» بغير ألف بمعنى طربون فرحون من الفكاهة بالضم. وقيل : الفاكه والفكة بمعنى المتلذذ والمتنعم لأن كلّا من الفاكهة
والفكاهة مما يتلذّذ به ويتنعم كحاذر وحذر ، وقرىء «فكهين» بالقصر والياء على ما تقدم. وفكهون بالقصر وضم الكاف ،
يقال : رجل فكه وفكه كرجل ندس وندس وحذر وحذر .
فصل
اختلفوا في الشغل
فقال ابن عباس : في افتضاض الأبكار ، وقال وكيع بن الجراح : في السماع. وقال
الكلبي : في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم. وقال ابن
كيسان : في زيارة بعضهم بعضا.
__________________
وقيل : في ضيافة
الله فاكهون. وقيل : في شغل عن هول اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب فما عندهم
خير من عذاب ولا حساب . وقوله «فاكهون» متمّم لبيان سلامتهم فإنه لو قال : في شغل
جاز أن يقال هم في شغل أعظم من التذكر في اليوم وأهواله فإن من يصيبه فتنة عظيمة
ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخسران وقع في ماله يقول أنا مشغول عن هذا
بأهمّ منه فقال : فاكهون أي شغلوا عنه باللّذة والسّرور لا بالويل والثّبور. وقال
ابن عباس : فاكهون فرحون .
قوله : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) يجوز في «هم» أن يكون تأكيدا للضمير المستكنّ في : «فاكهون»
و «أزواجهم» عطف على المستكن ، ويجوز أن يكون تأكيدا للضمير المستكنّ في «شغل» إذا
جعلناه خبرا و «أزواجهم» عطف عليه (مستكن ويجوز أن أيضا) . كذا ذكره أبو حيان . وفيه نظر من حيث الفصل بين المؤكد والمؤكد بخبر «أن» ،
ونظيره أن نقول : «إنّ زيدا في الدّار قائم هو وعمرو» على أن يجعل «هو» تأكيدا
للضمير في قولك : «في الدار» ، وعلى هذين الوجهين يكون قوله : «متّكئون» خبرا آخر
ل «إنّ» و (فِي ظِلالٍ) متعلق به أو حال ، و (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق به ، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ ومتكئون خبره والجاران على ما تقدم ، وجوز أبو البقاء أن يكون (فِي ظِلالٍ) هو الخبر قال (عَلَى الْأَرائِكِ) مستأنف . وهي عبارة موهمة غير الصواب ويريد بذلك أن «متّكئون» خبر
مبتدأ مضمر و (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق به ، فهذا وجه استئنافه لا أنه خبر مقدم و «متكئون»
مبتدأ مؤخر إذ لا معنى له . وقرأ عبد الله «متّكئين» نصبا على الحال . وقرأ الأخوان (فِي ظُلَلٍ) بضم الظاء والقصر. وهو جمع ظلّة نحو غرفة وغرف ، وحلّة وحلل. وهي
عبارة عن الفرش والستور والباقون
__________________
بكسر الظاء والألف
جمع ظلّة أيضا كحلّة وحلال وبرمة وبرام أو جمع «فعلة» بالكسر إذ يقال : ظلّة وظلّة
بالضم والكسر ، كلقحة ولقاح إلّا أن فعالا لا ينقاس فيها أو جمع «فعل» نحو : ذئب وذئاب وريح ورياح .
فصل
الأرائك هي السرر
في الحجال واحدها أريكة. قال ثعلب : لا تكون أريكة (جمع) حتى يكون عليها حجلة. «متكئون» ذو (و) اتّكاء . وهو إشارة إلى الفراغ. وقوله (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) إشارة إلى عدم الوحشة (لَهُمْ فِيها
فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) إشارة إلى دفع جميع حوائجهم. وقوله : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) إشارة إلى أن لا جوع هناك لأن التفكه لا يكون لدفع ألم
الجوع .
قوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) في «ما» هذه ثلاثة أوجه : موصولة اسمية (أو) نكرة موصوفة
والعائد على هذين محذوف (أو) مصدرية . و «ويدّعون» مضارع ادّعى افتعل من دعا يدعو ؛ وأشرب التمني . قال أبو عبيدة : العرب تقول : «ادّع عليّ ما شئت» أي تمنّ
، و «فلان في خير ما يدّعي» أي ما يتمنى ، وقال الزجاج : هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة
يأتيهم ، من : دعوت غلامي. فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال
بمعنى الرحل. وقيل : افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم : ارتموا وتراموا ، و «ما» مبتدأ وفي خبرها وجهان :
__________________
أظهرهما : أنه
الجار قبلها .
والثاني : أنه «سلام»
أي مسلم خالص أو ذو سلامة.
قوله : «سلام»
العامة على رفعه وفيه أوجه :
أحدها : ما تقدم
من كونه خبر (ما يَدَّعُونَ).
الثاني : أنه بدل
منها. قاله الزمخشري . قال أبو حيان : وإذا كان بدلا كان «ما يدّعون» خصوصا
والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموما لم يكن بدلا منه .
الثالث : أنه صفة «لما» وهذا إذا
جعلتها نكرة موصوفة. أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما
تعريفا وتنكيرا.
الرابع : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي هو سلام .
الخامس : أنه
مبتدأ خبره الناصب ل (قوله) «قولا» أي سلام يقال لهم قولا. وقيل : تقديره سلام
عليكم .
السادس : أنه
مبتدأ وخبره (مِنْ رَبٍّ). و «قولا» مصدر
مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر ، وقرأ أبيّ وعبد الله وعيسى سلاما بالنصب . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال ، قال الزمخشري : أي لهم مرادهم خالصا.
والثاني : أنه
مصدر (أي) يسلمون سلاما
إما من التحية وإما من السلامة.
__________________
و «قولا» إما مصدر
مؤكد ، وإما منصوب على الاختصاص . قال الزمخشري : وهو الأوجه و (مِنْ رَبٍّ) إما صفة ل «قولا» وإما خبر «سلام» كما تقدم. وقرأ القرظيّ «سلم» بالكسر
والسكون ، وتقدم الفرق بينهما في البقرة.
فصل
إذا قيل : بأن
سلام بدل من (ما يَدَّعُونَ) فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون ونبّه ببدله فقال : لهم سلام
فيكون مبتدأ وخبره الجار والمجرور كما يقال : «في الدّار رجل ولزيد مال» وإن كان في
النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة من المعرفة جائز ، فتكون «ما» بمعنى الذي معرفة ، وسلام نكرة. ويحتمل على
هذا أن يقال : «ما» في قوله تعالى : (ما يَدَّعُونَ) لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدّعون ،
ثم بين بذكر البدل فقال : «سلام». والأول أصحّ. وإن قيل : سلام خبر «ما» و «لهم»
لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم. والسّلام بمعنى السالم
والسليم ، يقال : عبد سلام أي سليم من العيوب كما يقال : لزيد الشّرف متوفر
فالجارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك ، و «الشرف» هو المبتدأ «ومتوفر» خبره ، وإن
قيل : «سلام» منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره : سلام عليهم ويكون
ذلك إخبارا من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : إنّ أصحاب الجنة
في شغل ، ثمّ لمّا بين كمال حالهم قال : سلام عليهم كقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) و (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى
عباده المرسلين. أو يقال تقديره : سلام عليكم ويكون التفاتا حيث قال لهم كذا وكذا
، ثم قال : «سلام عليكم» .
__________________
فصل
إذا قيل : إنّ «قولا»
منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سلام يقوله
الله قولا. أو تقول الملائكة قولا ، وعلى قولنا ما يدعون سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولا ووعدهم أن لهم ما
يدعون سلام وعدا ، وعلى قولنا : سلام عليهم فتقديره أقوله قولا ، وقوله (مِنْ رَبٍ رَحِيمٍ) يكون لبيان (أن) السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولا ، ويحتمل أن يقال على هذا بأنه تمييز ؛ لأن السلام قد يكون قولا وقد يكون فعلا فإن من يدخل على
الملك يطأطىء رأسه يقال : سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل : موجود حكما لا
حسّا.
فصل
روى جابر بن عبد
الله قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا
رؤوسهم فإذا الرّبّ ـ عزوجل ـ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السّلام عليكم يا أهل
الجنّة ؛ فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النّعيم
ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» . وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ
مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]
أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم ، وقيل : يعطيهم السلامة .
قوله : (وَامْتازُوا) على إضمار قول مقابل لما قيل للمؤمنين أي ويقال للمجرمين
امتازوا أي انعزلوا من مازه يميزه .
قال المفسرون : إن
المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته (ويرى ذلّة نفسه)
__________________
فيتحسر فيقال :
امتازوا اليوم. وقيل : المعنى ادخلوا مساكنكم من النار ، وقال أبو العالية تميزوا
، وقال السدي : كونوا على حدة . وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة. وقيل: إن قوله وامتازوا
أمر تكوين فحين يقول فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواد كما قال
تعالى : (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١].
قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي
آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا
الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨)
قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) العامة على فتح الهمزة على الأصل في حرف المضارعة ، وطلحة
والهذيل بن شرحبيل الكوفي بكسرها . وتقدم أن ذلك لغة في حروف المضارعة بشروط ذكرت في الفاتحة
، وقرأ ابن وثاب «أحّد» بحاء مشدّدة ، قال الزمخشري : وهي لغة تميم ومنه : «دحّا محّا» أي دعها معها فقلبت الهاء حاء ثم العين حاء
حين أريد الإدغام ، والأحسن أن يقال : إن العين أبدلت حاء وهي لغة هذيل فلما أدغم
قلب الثاني للأول وهو عكس باب الإدغام. وقد مضى تحقيقه آخر آل عمران ، وقال ابن
خالويه وابن وثاب والهذيل : (أَلَمْ أَعْهَدْ) بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول
المضارع سوى الياء . وروي عن ابن وثاب «أعهد» بكسر الهاء
__________________
يقال : عهد وعهد ،
انتهى . يعني بكسر الميم والهمزة أن الأصل في هذه القراءة أن يكون كسر حرف المضارعة
ثم نقل حركته إلى الميم فكسرت لا أن الكسر موجود في الميم وفي الهمزة لفظا إذ يلزم من ذلك قطع همزة
الوصل وتحريك الميم من غير سبب ، وأما كسر الهاء فلما ذكر من أنه سمع في الماضي «عهد»
بفتحها . قوله : «سوى الياء» ـ وكذا قال الزمخشري ـ هو المشهور ، وقد نقل عن بعض كلب أنهم يكسرون الياء
فيقولون : يعلم. وقال الزمخشري فيه : وقد جوز الزجاج أن يكون من باب : نعم ينعم
وضرب يضرب يعني أن تخريجه على أحد وجهين إما بالشذوذ فيما اتّحد فيه فعل يفعل بالكسر
فيهما كنعم ينعم وحسب يحسب ، ويئس ييئس. وهي ألفاظ معدودة في البقرة . وإما (أنه) سمع في ماضيه الفتح كضرب كما حكاه ابن خالويه ، وحكى الزمخشري أنه قرىء «أحهد» بإبدال العين حاء. وقد تقدم أنها لغة هذيل. وهذه تقوي أن
أصل أحد أحهد فأدغم كما تقدم. قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا) و (وَأَنِ اعْبُدُونِي) يجوز في «أن» أن تكون مفسرة فسرت العهد بنهي وأمر وأن تكون
مصدرية (أي) ألم أعهد إليكم في
عدم عبادة الشيطان وفي عبادتي .
__________________
فصل
في معنى هذا العهد
وجوه : أقواها ألم أوص إليكم ، واختلفوا في هذا العهد فقيل : هو العهد
الذي كان مع آدم في قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ) [طه : ١١٥] وقيل :
هو الذي كان مع ذرية آدم حين أخرجهم وقال : ألست بربّكم قالوا بلى ، وقيل : مع كل
قوم على لسان رسولهم. وهو الأظهر ، وقوله (لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوا الشيطان. والطاعة قد تطلق على العبادة ثم قال
: (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ووجه عداوته أنه لما أكرم الله آدم ـ عليه
(الصلاة و) السلام ـ عاداه إبليس.
فإن قيل : إذا كان
الشيطان عدوا للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزّنا والشّرب ويكره
ما يسخطه من المجاهدة والعبادة؟
فالجواب : استعانة
الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي
خلقها الله فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سببا لفساد حاله ويدعوه بها إلى
مسالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها
سببا لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى (المصادر) ، وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد
الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو
يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي) أطيعوني ووحّدوني (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) لما منع من عبادة الشيطان بقوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا
كَثِيراً) أي خلقا كثيرا .
قوله : «جبلّا»
قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون والباقون بضمتين واللام مخففة في كلتيهما . وابن أبي
__________________
إسحاق والزّهريّ
وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام والأشهب العقيلي واليمانيّ وحماد بن سلمة بكسرة وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء . وقرىء جبلا بكسر الجيم وفتح الباء جمع جبلة ، كفطر جمع
فطرة ، وقرأ عليّ بن أبي طالب بالياء من أسفل (ثنتان) . وهي واضحة.
قال ابن الخطيب :
الجيم والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع (و) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل
الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب ، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير
، ولا يقال : البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبىء عن التفرق فإن الأبلج خلاف
المقرون لأنّا نقول : هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة
والبلدة بمعنى. والبلد سمي بلدا للاجتماع ، لا لتفرق الجمع (العظيم) حتى قيل : إن دون العشرة آلاف لا يكون بلدا وإن لم يكن
صحيحا. قوله : (أَفَلَمْ تَكُونُوا) قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحة وعيسى بياء الغيبة والضمير للجبل ، ومن حقهما أن يقرءا : التي كانوا يوعدون
لو لا أن يعتذروا بالالتفات .
فصل
في كيفية هذا
الإضلال وجهان :
__________________
الأول : تولّيه عن
المقصد وخديعته فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو
توليه فإن لم يقدر يحيد بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية
لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية. ثم قال : (أَفَلَمْ تَكُونُوا
تَعْقِلُونَ) ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس. ويقال لهم
لما دنوا من النار : (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أي ادخلوها اليوم (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ). وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه
:
أحدها : قوله
تعالى : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أمر تنكيل وإهانة كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].
الثاني : قوله : «اليوم»
يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب.
الثالث : قوله
تعالى : (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) فإن الكفر والكفران ينبىء عن نعمة كانت فكفر بها وحياء
الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل : أليس الله بكاف لذي همّة حياء المسيء
من المحسن.
قوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ) اليوم ظرف لما بعده. وقرىء يختم مبنيا للمفعول. والجار بعده قائم مقام فاعله. وقرىء : «وتتكلم»
بتاءين من فوق. وقرىء ولتتكلّم ولتشهد بلام الأمر. وقرأ طلحة ولتكلّمنا ولتشهد بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف
أي للتكلم وللشهادة ختمنا . و (بِما كانُوا) أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين .
__________________
فصل
في الترتيب وجهان :
الأول : أنهم حين
يسمعون قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) يريدون ينكرون كفرهم كما قال عنهم : (ما أَشْرَكْنا) (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله
جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.
الثاني : لما أن
قال الله تعالى لهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان.
وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها : أن الله تعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم
فيشهدون عليهم وأنه في قدرة الله يسير (و) أما الإسكان فلا خفاء فيه وأما الإنطلاق فلأن اللسان عضو
متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه
الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرّؤوس لا يجدون عذرا فيعتذرون ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمور بحيث لا يسمع
معه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن
والصحيح الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى
بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه ، فيقال
لأركانه انطقي قال : فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد لكنّ وسحقا
فعنكن كنت أناضل وقال عليه (الصلاة و) السلام : «أول ما يسأل من أحدكم فخذه
ولفه» .
فإن قيل : ما
الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال «نختم» وأسند الكلام والشهادة إلى
الأرجل والأيدي؟
فالجواب : أنه لو
قال : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبرا منه وقهرا والإقرار
والإجبار غير مقبول فقال : تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله
تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
فإن قيل : ما
الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟
__________________
فالجواب : لأن
الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥] أي ما
عملوه وقال (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أي
لا تلقوا بأنفسكم ، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره
فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم.
فإن قيل : إن يوم
القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو
على العدو غير مقبولة وإن كان عدلا وغير الصدّيقين من الكفار والفساق لا تقبل
شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب (منها) فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها.
فالجواب : أن
الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق ، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه ،
ولا يقال : إن العين تزني وإن الفرج يزني. وأيضا فإنا نقول : في رد شهادتها (قبول شهادتها) لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور
لا بدّ أن يكون مذنبا في الدنيا وإن صدقت في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في
الدنيا وهذا كمن قال لفاسق : «إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حرّ» فقال الفاسق :
كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد الشرط أيضا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم
الذي علقت عتق عبدك على كذا فيه.
قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ) أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شقّ
وهو معنى الطّمس ، كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) [البقرة: ٢٠] يقول : إذا أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة .
قوله : «فاستبقوا»
عطف على «لطمسنا» وهذا على سبيل الفرض والتقدير . وقرأ عيسى فاستبقوا أمرا . وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا والصّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول
الفعل إليه إما بأنه مفعول (به)
__________________
مجازا جعله مستبقا
لا مستبقا إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط . وقال الزمخشري : منصوب على الظرف ، وهو ماش على قول ابن الطراوة فإن الصراط والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة إلا أن سيبويه على أن قوله :
٤١٨٤ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه
|
|
فيه كما عسل
الطّريق الثّعلب
|
ضرورة لنصبه
الطريق.
وقرأ أبو بكر
مكاناتهم جمعا ، وتقدم في الأنعام. والعامة على «مضيّا» بضم الميم وهو مصدر على فعول
أصله مضوي فأدغم وكسر ما قبل الياء ليصبح نحو : «لقيّا» . وقرأ أبو حيوة ورويت عن الكسائيّ مضيّا (أي) بكسر الميم إتباعا لحركة العين نحو (عتياوصليا) [مريم : ٦٩ ـ ٧٠] ، وقرىء بفتحها وهو من
المصادر التي وردت على فعيل كالرّسيم والزّميل .
__________________
فصل
المعنى كما أعمينا
قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن
الهدى وتركناهم عميا يترددون فكيف يبصرون الطريق حينئذ؟ هذا قول الحسن ، وقتادة ،
والسدي. وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة : معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم
فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون
ولم أفعل ذلك بهم. (وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قردة وخنازير في منازلهم لا
أزواج لهم (فَمَا اسْتَطاعُوا
مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) إلى ما كانوا عليه. وقيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.
قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي
الْخَلْقِ) قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف
مشددة من نكّسه مبالغة ، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف ، خفيفة من نكسه. وهي محتملة للمبالغة وعدمها. وقد تقدم في
الأنعام أن نافعا وابن ذكوان قرءا «تعقلون» والباقون بالغيبة .
فصل
معنى ننكسه نردّه
إلى أرذل العمر شبه الصّبيّ في أول الخلق ، وقيل : ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه
بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها (أَفَلا يَعْقِلُونَ) فيعتبرون ، ويعلمون أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على
البعث بعد الموت.
قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما
يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ
كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(٧٠)
قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما
يَنْبَغِي لَهُ) قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمدا شاعر ، وما يقوله
شعر فأنزل الله تكذيبا لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يتسهل له ذلك وما
كان يتّزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه
__________________
منكسرا. روى الحسن أن النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يتمثل بهذا البيت :
كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر : يا
نبي الله إنما قال الشاعر : كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا. فقال عمر : أشهد أنك
رسول بقول الله ـ عزوجل ـ : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) وعن أبي شريح قال : قلت لعائشة : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يتمثل من الشعر قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن
رواحة قالت : وربما قال :
٤١٨٥ ـ ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وفي رواية (قالت) : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من
الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة :
٤١٨٦ ـ ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا
|
|
ويأتيك بالأخبار
من لم تزوّد
|
فجعل يقول :
ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال : إني لست
بشاعر ولا ينبغي لي . وقيل : معناه ما كان يتأتى له. قاله ابن الخطيب. وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن
يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له لأن
الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى والشاعر
يكون المعنى منه تبعا للفظ لأنه يقصد لفظا به يصح وزن الشعر (أ) و قافيته فيحتاج إلى التخيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ.
وعلى هذا فنقول : الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصدا أوليا وأما من
يقصد المعنى فيصدر موزونا لا يكون شاعرا ألا ترى أن قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢]
ليس بشعر والشاعر إذا صدر منه هذا الكلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية
تقطيعه بفاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يكون شعرا لأنه
قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك. والمعنى تبعه. والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ وعلى هذا
يحصل
__________________
الجواب عن قول من
يقول : إنّ النبي ذكر بيت شعر وهو قوله :
٤١٨٧ ـ أنا النّبيّ لا كذب
|
|
أنا ابن عبد
المطّلب
|
أو بيتين لأنا
نقول : ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية وعلى هذا لو صدر من النبي ـ عليه
(الصلاة و) السلام ـ كلام كثير موزون مقفّى لا يكون شعرا لعدم قصده اللفظ قصدا
أوليّا ، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون
موزونا واقعا في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعرا ولا الكلام شعرا
لفقد القصد إلى اللفظ أولا.
فصل
وجه الترتيب ما
تقدم من أنه تعالى في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة
والحشر ذكر الأصل الثالث منها وههنا ذكر أصلين الوحدانية والحشر. أما الوحدانية
ففي قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) وفي قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) وأما الحشر ففي قوله تعالى : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) وبقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ (عَلى أَفْواهِهِمْ) إلى غير ذلك فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما
يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
فقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلّمه
ما لم يرد.
فإن قيل : لم خص
الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أشياء من جملتها السحر ، والكهانة ولم يقل : وما علمناه
السّحر وما علمناه الكهانة؟
فالجواب : أما
الكهانة فكانوا ينسبون النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إليها عند ما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما
السحر فكانوا ينسبونه إليه عند ما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشقّ القمر ، وتكلم الحجر ، والجذع وغير ذلك ، وأما
الشعر فكانوا ينسبونه إليه عند ما كان يتلو القرآن عليهم لكنه ـ عليه (الصلاة و)
السلام ـ ما كان يتحدّى إلا بالقرآن كما قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] إلى
غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فاقطعوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا الغيوب فلما كان
تحديه عليه (الصلاة و) السلام بالكلام وكانوا
__________________
ينسبونه إلى الشعر
عند الكلام خص الشعر بنفس التعليم .
قوله : (إِنْ هُوَ) أي (إن) القرآن ، دل عليه السياق أو إن المعلّم (إِلَّا ذِكْرٌ) يدل عليه: (وَما عَلَّمْناهُ) والضمير في قوله «له» للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقيل : للقرآن .
قوله : (إِلَّا ذِكْرٌ) موعظة (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) فيه الفرائض والحدود والأحكام .
قوله : «لينذر» قرأ
نافع وابن عامر هنا وفي الأحقاف «لتنذر» خطابا ، والباقون بالغيبة بخلاف عن البزّي في الأحقاف ، والغيبة يحتمل أن يكون الضمير فيما للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأن يكون للقرآن . وقرأ الجحدريّ واليمانيّ «لتنذر» مبنيا للمفعول . وأبو السّمّال واليمانيّ أيضا ـ لينذر ـ بفتح الياء
والذّال من نذر بكسر الذال أي علم فتكون «من» فاعلا .
فصل
المعنى لتنذر
القرآن من كان حيا يعني مؤمنا حي القلب لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢].
وقيل : من كان حيا أي عاقلا وذكر الزمخشري في «ربيع الأبرار» «ويحقّ القول» ويجب العذاب على الكافر.
قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ
__________________
(٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا
يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (٧٥) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (٧٦)
ثم إنه تعالى أعاد
الوحدانية والدلائل عليها فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناه من غير معين ولا ظهير بل عملناه بقدرتنا وإرادتنا (أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) ضابطون قاهرون أي لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل هي مسخرة لهم كقوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) ، «سخرناها لهم». (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي ما يركبون وهي الإبل (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) من لحمانها .
قوله : «ركوبهم»
أي مركوبهم كالحلوب والحصور بمعنى المفعول وهو لا ينقاس . وقرأ أبيّ وعائشة «ركوبتهم» بالتاء وقد عد بعضهم دخول
التاء على هذه الزّنة شاذا وجعلها الزمخشري في قول بعضهم جمعا يعني اسم جمع وإلا فلم يرد في أبنية التكسير هذه الزنة. وقد عد ابن مالك
أيضا أبنية أسماء الجموع فلم يذكر فيها فعولة ، وقرأ الحسن وأبو البرهسم والأعمش ركوبهم بضم الراء ، ولا بدّ من حذف مضاف إما من الأول أي فمن منافعها ركوبهم
وإما من الثاني أي ذو ركوبهم. قال ابن خالويه العرب تقول : ناقة حلوب ركوب وركوبة
حلوبة وركباة حلباة وركبوت حلبوت وركبى حلبى وركبوتا (حلبوتا) وركبانة حلبانة وأنشد :
٤١٨٨ ـ ركبانة حلبانة زفوف
|
|
تخلط بين وبر
وصوف
|
__________________
فصل
لما بين الركوب
والأكل ذكر غير ذلك فقال : (وَلَهُمْ فِيها
مَنافِعُ وَمَشارِبُ) فالمراد بالمنافع أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها
وبالمشارب ألبانها ، والمشارب جمع مشرب بالفتح مصدرا ومكانا. ثم قال : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ربّ هذه النعم (وَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً) إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم لأنه كان الواجب عليهم عبادة
الله شكرا لأنعمه فتركوها ، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي ليمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك ، والضمير في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ) إما للآلهة وإما لعابديها وكذلك الضمائر بعده . قال ابن عباس : لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي الكفار جند للأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيرا ولا
تستطيع لهم نصرا ، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أتباعه
الذين عبدوه كأنهم جند (ه) يحضرون في النار. وهذا إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد. وهذا
كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِفَاهْدُوهُمْ
إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٣].
قوله : (فَلا يَحْزُنْكَ) قد تقدم قراءة «يحزن» و «يحزن». «قولهم» يعني قول الكفار
في تكذيبك وهذا إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ) ما يسرون في ضمائرهم وما يعلنون من عبادة الأصنام أو ما
يعلنون بألسنتهم من الأذى.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ
يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)
قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
__________________
وَهُوَ
الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا
خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) ذكر دليلا من الأنفس فقال : (أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ،) قيل : المراد بالإنسان أبيّ بن خلف الجمحيّ خاصم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال : أترى يحيي الله
هذا العظم بعد ما رمّ فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : نعم ويبعثك ويدخلك النار. فأنزل الله هذه الآيات قال ابن الخطيب : وقد ثبت في أصول
الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١]
نزلت في واحدة وأراد الحكم في الكل فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر هذه الآية
ردّ عليه وقوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ) أي جدل بالباطل «مبين» بيّن الخصومة. وفي (هذه) الآية لطيفة
وهي أن اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء النطفة آية ظاهرة ومع ذلك فهناك ما هو أظهر
، وهو نطقه وفهمه لأن النطفة جسم فهب أن جاهلا يقول إنه استحال جسما آخر لكن القوة
الناطقة ، والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب
من إبداع الخلق والجسم وهو (إلى) إدراك القوة والاختيار منه أقرب فقوله : «خصيم» أي ناطق ،
وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين
كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين
ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه.
قوله (تعالى) : (وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) قرأ زيد بن علي : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) بزنة اسم الفاعل .
فصل
المعنى : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي بدء أمره (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ) قيل :
__________________
فعيل بمعنى فاعل ، وقيل : مفعول فعلى الأول عدم التاء غير مقيس . وقال الزمخشري : الرّميم اسم لما بلي من العظام غير صفة
كالرّمّة والرفات فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى
فاعل أو مفعول وقال البغوي ولم يقل : رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما
كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه كقوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ
بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] أسقط
الهاء لأنها مصروفة عن «باغية».
فصل
هذه الآية وما
بعدها إشارة إلى بيان الحشر ، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلا
ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون كقولهم : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون: ٨٢] (قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) على طريق الاستبعاد ، فأبطل استبعادهم بقوله : (نَسِيَ خَلْقَهُ) أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة (الأجزاء) ، ثم جعلنا لهم من النّواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة
الصّورة ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه
الأجرام وهو النطق والعقل اللذي (ن) بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة
قذرة لم تكن محلّا للحياة أصلا ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه.
واختاروا العظم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى
والتّفتّت. والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال :
(وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً) أي جعل قدرتنا كقدرتهم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) العجيب وبدأه الغريب. ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود
إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :
الأول : أنه بعد
العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟!
__________________
فأجاب الله عن هذه
الشبهة بقوله تعالى : (الَّذِي أَنْشَأَها
أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده وإن لم يبق شيئا مذكورا.
الثاني : أن من
تفرّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه في أبدان السّباع ، وبعضه في حواصل الطيور وبعض في جدران الرباع كيف يجتمع؟ وأبعد من هذا : لو أكل الإنسان
إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل (فإن أعيدت أجزاء الآكل) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء. فأبطل
الله تعالى هذه الشبهة بقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ).
ووجهه : أن في
الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل
والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فالله بكل خلق عليم يعلم الأصل من
الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحا
وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته .
ثم إنه تعالى عاد
إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ ناراً) هذه قراءة العامة ، وقرىء الخضراء اعتبارا بالمعنى ، وقد تقدم أنه يجوز تذكير اسم الجنس
وتأنيثه قال تعالى : (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] ، وتقدم أن بني تميم ونجد يذكّرونه ، والحجاز
يؤنثونه إلا ألفاظا استثنيت .
__________________
فصل
قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ وللأخرى العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما
خضراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى.
وتقول العرب : في كلّ شجر نار واستمجد المرخ العفار. وقالت الحكماء : في كل شجرنا إلا العنّاب .
قوله : (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر ، ثم ذكر ما هو أعظم
من خلق الإنسان فقال (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل ،
والجحدريّ وابن أبي إسحاق والأعرج «يقدر» فعلا
مضارعا ، والضمير في مثلهم قيل : عائد على الناس لأنهم هم
المخاطبون وقيل : على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل ، ثم قال : «بلى» (أي قل بلى) هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يخلق خلقا بعد خلق) العليم بجميع ما خلق و «بلى» جواب «لليس» وإن دخل
عليها الاستفهام لتصييرها إيجابا ، والعامة على «الخلّاق» صيغة مبالغة ، والجحدريّ والحسن ومالك بن
دينار «الخالق» اسم فاعل
.
__________________
قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). تقدم الخلاف في «فيكون» نصبا ورفعا وتوجيه ذلك في البقرة .
قوله : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ) قرأ طلحة والأعمش ملكة بزنة شجرة. وقرىء مملكة بزنة مفعلة وقرىء ملك . والملكوت أبلغ الجميع ، والعامة على «ترجعون» مبنيا
للمفعول ، وزيد بن عليّ مبنيّا للفاعل وتقدم الكلام على قوله «سبحان» والتسبيح التنزيه ، والملكوت مبالغة في الملك كالرّحموت ، والرّهبوت ، وهو فعلول أو فعلوت فيه كلام ، قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «اقرءوا على
موتاكم يس» . وقال عليه (الصلاة) والسلام : «لكلّ شيء قلب ، وإنّ قلب
القرآن سورة يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات» ، وعن عائشة قالت : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : إنّ في القرآن سورة تشفع لقارئها ويغفر لمستمعها ألا
وهي سورة يس وعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يس تدعى المعمّة قيل : يا رسول الله : وما المعمّة؟ قال
: تعمّ صاحبها خير الدّنيا والآخرة وتدعى
__________________
الدافعة القاضية
تدفع عنه كلّ سوء وتقضي له كلّ حاجة ، ومن قرأها عدلت له عشرين حجّة ومن سمعها كان
له ألف دينار في سبيل الله ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف يقين وألف
رأفة ونزع منه كلّ داء وغلّ ، وعن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من قرأ يس يريد بها وجه ـ عزوجل ـ غفر الله له وأعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثنتي
عشرة مرّة ، وأيّما مريض قرىء عنده سورة يس نزل عليه بقدر كلّ حرف عشرة أملاك ، يقومون بين يديه صفوفا فيصلّون عليه
ويستغفرون عليه ويشهدون قبضه وغسله ويتّبعون جنازته ويصلّون عليه ويشهدون دفنه
وأيّما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتّى يجيئه
رضوان خازن الجنان بشربة من الجنّة فيشربها وهو على فراشه فيموت وهو ريّان ويبعث
وهو ريّان ، ويحاسب وهو ريّان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء ، حتّى يدخل
الجنّة وهو ريّان ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له» . وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف عنهم يومئذ وكان له
بعدد من فيها حسنات . وعن يحيى بن أبي كثير قال : بلغنا أنه «من قرأ يس حين
يصبح لم يزل في فرح حتّى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتّى يصبح» .
__________________
سورة «الصافات»
مكية . وهي مائة واثنتان وثمانون آية ، وثمانمائة وستون كلمة ،
وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣)
إِنَّ
إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)
قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء من «الصّافّات» و «الزّاجرات»
و «التّاليات» في صاد «صفا» وزاي «زجرا» وذال «ذكرا» ، وكذلك فعلا في (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) [الذاريات : ١]
وفي (فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً) [المرسلات : ٥] ،
وفي (وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً) [العاديات : ١]
بخلاف عن خلّاد في الأخيرين وأبو
عمرو جار على أصله في إدغام المتقاربين كما هو المعروف من أصله ، وحمزة خارج عن
أصله. والفرق بين مذهبيهما أن أبا عمرو يجيز الروم وحمزة لا يجيزه وهذا كما اتفقا
في إدغام (بَيَّتَ طائِفَةٌ) [النساء : ٨١] وإن
كان ليس من أصل حمزة إدغام مثله . وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك .
قال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى
أنهما من
__________________
طرف اللسان وأصول
الثنايا يسمعان في الهمس والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصّفير وإدغام
الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتا في الأنقص. وأيضا إدغام التاء
في الزاي في قوله : (فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً) حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما
كان في الصاد. وأيضا حسن إدغام التاء في الذال في قوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا. وأما من
قرأ بالإظهار فلاختلاف المخارج ومفعول «الصّافّات» «والزّاجرات»
غير مراد إذ المعنى الفاعلات لذلك . وأعرب أبو البقاء «صفّا» مفعولا به على أنه قد يقع على
المصفوف . وهذا ضعيف ، وقيل : هو مراد والمعنى والصافات أنفسها وهم الملائكة ، أو المجاهدون أو المصلون أو الصافات أجنحتها وهي الطير ،
كقوله : (وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ) [النور : ٤١]
والزاجرات : السحاب أو العصاة إن أريد بهم العلماء ، والزجر الدفع بقوة وهو قوة التصويت وأنشد :
٤١٨٩ ـ زجر أبي عروة السّباع إذا
|
|
أشفق أن يختلطن
بالغنم
|
وزجرت الإبل
والغنم إذا فزعت من صوتك . وأما «والتّاليات» فيجوز أن يكون «ذكرا» مفعوله ، والمراد بالذكر القرآن وغيره من تسبيح وتحميد ، ويجوز أن
يكون «ذكرا» مصدرا أيضا من معنى التّاليات ، وهذا أوفق لما قبله . قال الزمخشري : الفاء في «فالزاجرات» (وفي) فالتاليات إما
أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله :
__________________
٤١٩٠ ـ يا لهف زيّابة للحارث الص
|
|
صابح فالغانم
فالآيب
|
أي الذي صبح فغنم
فآب ، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل واعمل
الأحسن فالأجمل ، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله (صلىاللهعليهوسلم) : «رحم الله
المحلّقين فالمقصّرين» فأما هنا فإن وجدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات
في التفاضل ، فإذا كان الموحد الملائكة فيكون الفضل للصف ثم للزجر ، ثم للتلاوة
وعلى العكس وإن ثلّثت الموصوف فترتب في الفضل ، فيكون «الصافات» ذوات فضل
والزاجرات أفضل (و التاليات أبهر فضلا أو على العكس يعني بالعكس في الموضعين
أنك ترتقي من أفضل) إلى فاضل إلى مفضول أو تبدأ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل. والواو في هذه للقسم ، والجواب قوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ).
وقد ذكر الكلام في
الواو (و) الثانية والثالثة هل هي للقسم أو للعطف .
فصل
قال ابن عباس والحسن وقتادة : والصّافّات صفّا هم الملائكة في السماء
يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «ألا
تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّهم»؟ قلنا : وكيف تصفّ الملائكة عند ربّهم قال :
يتمّون الصّفوف المقدّمة ويتراصّون في الصّفّ . وقيل : هم الملائكة تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة
__________________
حتى يأمر (ها)
الله بما يريد ، وقيل : هي الطير لقوله تعالى (وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ) (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه ، وقال قتادة : هي زواجر
القرآن تنهى وتزجر عن القبيح (فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً) هم الملائكة يتلون ذكر الله وقيل : هم جماعة قرّاء القرآن
، وهذا كله قسم ، وقيل: فيه إضمار ، أي وربّ الصّافّات والزاجرات والتاليات .
فصل
قال أبو مسلم
الأصفهاني لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة
مبرأون عن هذه الصفة ، وأجيب بوجهين :
الأول : أن
الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ، ثم يجمع على صافات.
والثاني : أنهم
مبرأون عن التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع
أن علامة التأنيث حاصلة.
فصل
اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين :
أحدهما : أن
المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن الحلف بغير الله تعالى ولأن الحلف في مثل هذا الموضع
تعظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ومما يؤكّد هذا أنه
تعالى صرح به في قوله : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٥ ـ ٧].
الثاني : أن
المقسم به هو هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل وأما قوله تعالى : (وَما بَناها) فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباء في السماء ولو كان المراد من
القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التّكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز وأيضا
لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها.
__________________
فإن قيل : ذكر
الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه :
الأول : أن
المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر. والأول
باطل لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف.
والثاني : باطل
لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كلّ
تقدير.
الثالث : أنه
تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على
أن القيامة حق فقال : (وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً) [الذاريات : ١]
إلى قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٥ ، ٦].
وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا
يليق بالعقلاء.
فالجواب : من وجوه
:
الأول : أنه قرّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور
بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيدا
لما تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة
مألوفة عند العرب.
الثاني : أنه
تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ
لَواحِدٌ) ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحدا وهو
قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) وذلك لأنه تعالى بين في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
أنّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) أردفه : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) كأنه قيل : بيّنّا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على
كون الإله واحدا فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
الثالث : أن
المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم : بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والرّكاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه
الحجّة.
قوله : (رَبُّ السَّماواتِ) يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون بدلا من «لواحد» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع
__________________
السنة فإن للشمس
ثلثمائة وستين مشرقا وثلثمائة وستين مغربا ، وأما قوله : «المشرقين والمغربين»
فباعتبار الصّيف والشّتاء ، وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ، لأن لكل كوكب
مشرقا ومغربا ، (وقيل : كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه
الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمس وغربت) .
فإن قيل : لم
اكتفى بذكر المشارق؟.
فالجواب : من
وجهين :
الأول : أراد
المشارق والمغارب كما قال في موضع آخر : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]
وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].
والثاني : أن
الشروق قوى حالا من الغروب وأكثر نفعا من الغروب فذكر المشرق بينهما على كثرة
إحسان الله تعالى على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم ـ عليه (الصلاة و)
السلام ـ بالمشرق فقال : (فَإِنَّ اللهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) [البقرة : ٢٥٨].
فصل
دلّ قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما) على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد ، لأن أعمال العباد
موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السموات
والأرض فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل : الأعراض
لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلا في
حيّز وجهة والأعراض ليست كذلك.
قلنا : إنها لما
كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضا حاصلة بين السموات والأرض.
قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ
عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
فَاسْتَفْتِهِمْ
أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١)
قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) قرأ عاصم برواية أبي بكر : «بزينة» منونة ونصب «الكواكب» وفيه وجهان :
__________________
أحدهما : أن تكون
الزينة مصدرا ، وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئة حسنة
في أنفسها.
والثاني : أن
الزينة اسم لما يزان به كاللّيقة اسم لما يلاق به الدّواة فتكون الكواكب على هذا منصوبة
بإضمار أعني أو يكون بدلا من (ال) سّماء الدّنيا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل «بزينة» وحمزة وحفص كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به ،
والكواكب بدل أو بيان للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع. قال الفراء : وهو رد
معرفة على نكرة كقوله : (بِالنَّاصِيَةِ.
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) فرد نكرة على معرفة ، وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كقولك : «مررت بأبي عبد الله زيد». والباقون بإضافة زينة إلى الكواكب. وهي تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو : ثوب خزّ.
الثاني : أنها
مصدر مضاف لفاعله أي بأن زيّنت الكواكب السّماء بضوئها.
والثالث : أنه
مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضيئة في نفسها ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب فإن جعلتها مصدرا
__________________
ارتفع الكواكب به
، وإن جعلتها اسما لما يزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكب» بإضمار مبتدأ أي هي
الكواكب. وهي في قوة البدل ، ومنع الفراء إعمال المصدر المنون وزعم أنه لم يسمع ، وهو غلط لقوله تعالى : (إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ
ذِي مَسْغَبَةٍ) كما سيأتي إن شاء الله. قوله : «وحفظا» منصوب على المصدر ،
بإضمار فعل أي حفظناها حفظا ، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو ، والعامل فيه زيّنّا ، أو على أن يكون العامل مقدرا أي
لحفظها زيّنّاها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي : إنا خلقنا السماء الدنيا زينة وحفظا ، و (مِنْ كُلِّ) متعلق «بحفظا» إن لم يكن مصدرا مؤكدا ، وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا ؛ ويجوز أن يكون صفة «لحفظا» ، قال المبرد : إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر
نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك : أفعل وكرامة لما قال أفعل علم أن الأسماء
لا تعطف على الأفعال فكان المعنى أفعل ذاك وأكرمك كرامة .
فصل
قال ابن عباس (زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) بضوء الكواكب «وحفظناها من كل شيطان مارد» متمرد يرمون بها ،
وتقدم الكلام على المارد عند قوله : (مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١].
واعلم أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين :
إحداهما : تحصيل
الزينة.
والثانية : الحفظ
من الشيطان المارد.
فإن قيل : ثبت في
علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة
في الكرات السّتّة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ)؟.
__________________
فالجواب : أن
الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو (ن) ها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ). وأيضا فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم
دليل الفلاسفة عليه.
فن قيل : هذه
الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا؟ والأول
باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن
يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية
لم تتغير ألبتة وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء
فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض . وإن كانت هذه الشهب جنسا آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضا مشكل لأنه تعالى قال في سورة الملك : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥]
فالضمير في قوله : (وَجَعَلْناها) عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم
بأعيانها.
فالجواب : أن
الشهب غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) فنقو (ل) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن
تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى
ويجعلها رجوما للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال.
فإن قيل : كيف
يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة
وهل يمكن أن يصدر (مثل) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مزيّة في
معرفة الحيل الدقيقة؟.
فالجواب : أن حصول
هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى
مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا
إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا
في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب
فيها كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة. هذا ما
ذكره أبو عليّ الجبّائي في الجواب عن
__________________
(هذا) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها
موضع خال من الملائكة لقوله ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «أطّت السّماء وحقّ لها
أن تئطّ ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك قائم أو ساجد» ، قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا إما
أن يصلوا إلى مواضع (الملائكة) وإلى غير (تلك) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة
احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلا
وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالا وجب أن
يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال المسافر في البحر فإن
الغالب عليهمالسلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق
إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب
أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق
في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها فيما بين الشياطين. والله
أعلم . فإن قيل : دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (ولذلك) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن
ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ امتنع حمله على مجيء النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أجاب القاضي بأن الأقرب أنّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولكنها كثرت في زمان النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فصارت بسبب الكثرة معجزة .
فإن قيل : الشيطان
مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس (خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ) [الأعراف: ١٢] وقال : (وَالْجَانَّ
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧]
ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار
بالنار؟.
فالجواب : يحتمل
أن الشياطين وإن كانوا من النّيران إلا أنّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالا
منهم ولا جرم صار الأقوى للأضعف مبطلا ، ألا ترى أن السراج
__________________
الضعيف إذا وضع في
النار القوية فإنه ينطفىء فكذلك ههنا .
قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ) قرأ الأخوان وحفص بتشديد السين (فالميم) والأصل يستمعون فأدغم ، والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأولى وقال : لو كان مخففا لم
يتعد بإلى . وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ ، وقال
مكي : لأنه جرى مجرى مطاوعه وهو يسّمّعون فكما كان يسمع يتعدى «بإلى» تعدى سمع
بإلى ، وفعلت وافتعلت في التعدي سواء فتسمع مطاوع سمع واستمع أيضا مطاوع سمع فتعدى
سمع تعدّي مطاوعه . وهذه الجملة منقطعة عما قبلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة
لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير : من كلّ شيطان مارد غير سامع أو مستمع وهو فاسد ،
ولا يجوز أن يكون جوابا لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك . وقال بعضهم : أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن»
فارتفع الفعل وفيه تعسف . وقد وهم أبو البقاء فجوّز أن تكون صفة وأن تكون حالا وأن
تكون مستأنفة فالأولان ظاهرا الفساد والثّالث إن عني به الاستئناف البياني فهو فاسد أيضا. وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو
صحيح.
فصل
واحتجوا لقراءة
التخفيف بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢].
وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا
يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من
كونهم معزولين أيضا عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من
استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعا
__________________
عن السمع أولى واعلم أن الفرق بين قولك : سمعت حديث فلان وبين قولك :
سمعت إلى حديثه أنّ قولك : سمعت حديثه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء
مع الإدراك ، وفي قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) قولان أشهرهما : أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا ، فلما حذف
الناصب صار كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦]
وقوله : (رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥]. قال
الزمخشري : حذف اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن
المنكرات التي يجب صون القرآن عنها ، قال الزمخشري : إنه كلام منقطع عما قبله وهو
حكاية المسترقين السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويستمعوا وهم
مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود . والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى
يقذفون يرمون من كل جانب من آفاق السماء .
قوله : «دحورا»
العامة على ضم الدال. وفي نصبه أوجه :
أحدها : المفعول
له أي لأجل الطرد.
الثاني : مصدر
ليقذفون أي يدحرون دحورا أو يقذفون قذفا فالتجوز إما في الأول وإما في الثاني.
الثالث : أنه مصدر
لمقدر أي يدحرون دحورا .
الرابع : أنه في
موضع الحال أي ذوي دحور أو مدحورين . وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالا بنفسه من
غير تأويل . قال مجاهد : دحورا مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ
ويقذفون مبنيا للفاعل وقرأ عليّ والسّلمّي وابن أبي عبلة دحورا بفتح الدال وفيها وجهان :
__________________
أحدهما : أنه صفة
لمصدر مقدر أي قذفا دحورا. وهو كالصّبور والشّكور.
والثاني : أنه
مصدر كالقبول والولوع وقد تقدم أنه محصور في ألفاظ ، والدّحور قال المبرد : أشد
الصغار والذل. وقال ابن قتيبة : دحرته دحورا ودحرا أي دفعته
وطردته . وتقدم في الأعراف عند قوله : (مَذْؤُماً مَدْحُوراً) [الأعراف : ١٨].
قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دائم ، قال مقاتل : دائم إلى النفخة الأولى . وتقدم في سورة النحل في قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [النحل : ٥٢].
قوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
مرفوع المحل بدلا من ضمير (لا يَسَّمَّعُونَ) وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني : أنه
منصوب على أصل الاستثناء ، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف ، قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون «من» شرطية وجوابها : «فأتبعه»
أو موصولة وخبرها «فأتبعه». وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل
هذه الجملة تكون استثناء منقطعا كقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [الغاشية : ٢٢ ،
٢٣] ، والخطفة مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية ، وقرأ العامة خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة ، وقتادة
والحسن بكسرهما وتشديد الطاء . وهي لغة تميم بن مرة وبكر بن وائل . وعنهما أيضا وعن عيسى : بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن (أيضا) خطف كالعامة . وأصل القراءتين اختطف
__________________
فلما أريد الإدغام
سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتباعا
لحركة الخاء وهذه [الأولى] واضحة. وأما الثانية فمشكلة جدّا لأن كسر الطاء إنما كان لكسر الخاء وهو مفقود.
وقد وجه على التّوهّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء
ففتحت وهم يتوهمون أنها مكسورة لالتقاء الساكنين ـ كما تقدم تقريره ـ فأتبعوا
الطاء لحركة الخاء المتوهمة ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات
الإعراب فلأن يفعلوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ ، وقرأ ابن عبّاس خطف بكسر الخاء والطاء خفيفة . وهو إتباع كقولهم : نعم بكسر النون والعين.
وقرىء فاتّبعه
بالتشديد .
فصل
ومعنى الخطف أي
اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة «فأتبعه» أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي
لا يخطئه يقتله أو يحرقه ، قيل : سمي ثاقبا لأنه يثقب بنوره سبع سموات. وقال عطاء : سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقبا
لأنه يثقبهم وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في
السلامة ونيل المراد كراكب البحر.
قوله : «فاستفتهم»
يعني كفار مكة أي سلهم (أَهُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير
أي هذه الأشياء أشد خلقا كقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقوله
: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧]. (وقيل : معنى) أمّن خلقنا (يعني ) : من الأمم الخالية لأن من تذكر لمن يعقل. والمعنى أن
هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذي يؤمّن
هؤلاء من العذاب .
قوله : «أمن خلقنا»
العامة على تشديد الميم. الأصل أم من وهي «أم» المتصلة
__________________
عطفت «من» على «هم»
وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثان ، فالهمزة للاستفهام أيضا و «من» مبتدأ وخبره محذوف أي
الذين خلقناهم أشد ، فهما جملتان مستقلتان ، وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن» قوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي جيّد حر لاصق يعلق باليد. واللازب واللازم بمعنى . وقد قرىء : لازم ، لأنه يلزم اليد ، وقيل : اللازب اللّزج . وقال مجاهد والضحاك : منتن ، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم .
فصل
وجه النظم : أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول
الأربعة وهي الإلهيّات والمعاد والنّبوّة وإثبات القضاء والقدر فافتتح تعالى هذه
السورة بإثبات ما يدل على وجود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق
السموات والأرض وما بينهما وربّ المشارق ، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر
والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله
: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبأن يكون قادرا على إعادة
الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضا فقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلة للحياة
لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) يعني أصلهم وهو آدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ روي أنّ
القوم قالوا : كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال
لهم : إنكم لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات والأرض وما
__________________
بينهما إنما حصل
بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من
الأبوين فإن اعترفتم به فقد سقط قولكم : إن الإنسان كيف يحدث من غير نطفة ومن غير
الأبوين؟ وأيضا فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق
الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون
المراد بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المني ودم
الطّمث والمني إنما يتولد من الدّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد
من الغذاء ، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ ، أما تولد الحيوان الذي صار غذاء
فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو
النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل
الخلق (منه) متولّدون من الطّين اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى
قادر عليها. وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل
الأوقات. وهذه بيانات ظاهرة .
قوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا
آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ)(١٨)
قوله : (بَلْ عَجِبْتَ) قرأ الأخوان بضم التاء والباقون بفتحها ، فالفتح ظاهر وهو ضمير الرسول أو كل من يصح منه ذلك. وأما
الضم فعلى صرفه للمخاطب أي قل يا محمد بل عجبت أنا ، أو على إسناده للباري تعالى
على ما يليق به . وقد تقدم هذا في البقرة وما ورد منه في الكتاب والسنة. وعن شريح أنه أنكرها وقال : الله لا يعجب فبلغت إبراهيم النّخعيّ
فقال : إنّ شريحا كان معجبا برأيه قرأها من هو أعلم (منه) ؛
__________________
يعني عبد الله بن
مسعود وابن عباس . والعجب من الله ليس كالتّعجّب من الآدميين كما قال : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ
مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩]
وقال : (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].
فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار
والذّمّ وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث : «عجب ربّكم من شابّ
ليست له صبوة» ، وقوله: «عجب ربّكم من إلّكم وقنوطكم وسرعة إجابته إيّاكم»
. وسئل جنيد عن هذه الآية فقال : إن الله لا يعجب من شيء ولكن الله
وافق رسوله لمّا عجب رسوله وقال : (إِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي هو كما تقوله .
قوله : (وَيَسْخَرُونَ) يجوز أن يكون استئنافا وهو الأظهر. وأن يكون حالا. والمعنى أي عجبت من تكذيبهم
إياك وهم يسخرون من تعجبك ، وقال قتادة : عجب نبيّ الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون
القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من ذلك فقال الله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ) (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي إذا وعظوا بالقرآن لا يتّعظون.
وقرأ (جناح) بن حبيش «ذكروا» مخففا ، (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) قال ابن عباس ومقاتل: يعني انشقاق القمر «يستسخرون» يسخرون
ويستهزئون ، وقيل : يستدعي بعضهم عن بعض السخرية وقرىء «يستسحرون» بالحاء المهملة . (وَقالُوا إِنْ هذا
__________________
إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) (أي سحر بيّن) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها
من باب السحر.
فصل
قال ابن الخطيب :
والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون
من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه؟ وبقوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا
المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إلّا من وجهين :
أحدهما : أن يذكر
لهم الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على
الأصعب الأشق يجب أن يكون قادرا على الأسهل. فهذا الدليل وإن كان جليّا قويّا إلا
أن (ذكر) أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا
يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جرم لم
ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني :
أن يثبت الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولا
صادقا من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حقّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا
ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على أنها سحر وسخروا منها واستهزأوا
بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً
يَسْتَسْخِرُونَ وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
قوله : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) وهذا بيان للسّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات
وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط (بتراب) الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم.
فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حيّا ثانيا؟!. ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه
الشبهة قال : قل (لهم) يا محمد (نَعَمْ وَأَنْتُمْ
داخِرُونَ) أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون ، والدخور أشد الصغار وإنما
اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه (أمر) ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل
__________________
إلى القطع بالوقوع
إلا بأخبار المخبر الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد ـ عليه (الصلاة و)
السلام ـ كان واجب الصدق فكان مجرد قوله : «نعم» دليلا قاطعا على الوقوع .
قوله : (أَوَآباؤُنَا) قرأ ابن عامر وقالون : بسكون الواو على أنها «أو» العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف ، وهذا الخلاف
جار أيضا في «الواقعة» وتقدم مثل هذا في الأعراف في قوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) ، فمن فتح الواو أجاز في : «آباؤنا» وجهين :
أحدهما : أن يكون
معطوفا على محل إن واسمها .
والثاني : أن يكون
معطوفا على الضمير المستتر في : «لمبعوثون» . واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام ، ومن سكنها تعين فيما
الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل ، وقد أوضح هذا الزمخشريّ حيث قال :
(أَوَآباؤُنَا) معطوف على محل إنّ واسمها أو على الضمير في : «لمبعوثون» ،
والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام . قال أبو حيان : أما قوله معطوف على محل «إنّ» واسمها
فمذهب سيبويه خلافه ، فإن قولك : «إنّ زيدا قائم وعمرو» وعمرو فيه مرفوع
بالابتداء وخبره محذوف ، وأما قوله : أو على الضمير في لمبعوثون (الخ ... فلا يجوز
أيضا ؛ لأن همزة
__________________
الاستفهام لا تدخل
إلا على الجمل لا على المفرد ؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملا في المفرد
بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، فقوله : (أَوَآباؤُنَا) مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا . قلت : أما الرد الأول : فلا يلزم لأنه لا يلتزم مذهب سيبويه ، وأما الثاني : فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في
الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسمها وخبرها. ويدل على هذا ما
قاله هو في سورة الواقعة فإنه قال : دخلت همزة الاستفهام على حرف
العطف ، فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون) من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما
حسن في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا
آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨]
لفصل (لا) المؤكدة بالنفي انتهى . فلم يذكر هنا غير هذا الوجه وتشبيهه بقوله لفصل (لا) المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا
مشكل بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يعد في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولا
أو بضميره. وقد مضى القول فيه . وتحصل في رفع «آباؤنا» ثلاثة أوجه: العطف على محل «إنّ»
واسمها ، والعطف على الضمير المستكن في «لمبعوثون». والرفع على الابتداء والخبر
مضمر ، والعامل في «إذا» محذوف أي : أنبعث إذا متنا. هذا إذا جعلتها ظرفا غير متضمن
لمعنى الشرط ، فإن جعلتها شرطية كان جوابها عاملا فيها أي إذا متنا بعثنا أو حشرنا.
وقرىء «إذا» دون
استفهام ، وقد مضى القول فيه في الرعد .
__________________
قوله : (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها «نعم» أي
تبعثون وأنتم صاغرون أذلّاء . قال أبو حيان : وقرأ ابن وثّاب «نعم» بكسر العين وتقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقعت. وكلامه هنا موهم أن
ابن وثاب منفرد بها .
قوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ
فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَقالُوا
يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ
الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)
قوله : (فَإِنَّما هِيَ) قال الزمخشري : (فَإِنَّما هِيَ) جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا زجرة واحدة . قال أبو حيان : وكثيرا ما تضمّن جملة الشرط قبل فاء إذا
ساغ تقديره ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم
الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب للأمر والنهي وما ذكر معهما ، أمّا ابتداء
فلا يجوز حذفه .
فصل
«هي» ضمير البعثة
المدلول عليها بالسّياق لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا ، قال
الزّمخشريّ «هي» مبهمة يوضحها خبرها ، قال أبو حيان : وكثيرا ما يقول هو وابن مالك: إن الضمير يفسره خبره . ووقف أبو حاتم على (يا وَيْلَنا) وجعل
__________________
مع ما بعده من قول
الباري تعالى ، وبعضهم جعل (هذا يَوْمُ الدِّينِ) من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه ، وقوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) من قول الباري تعالى. وقيل : الجميع من كلامهم. وعلى هذا
فيكون قوله : «تكذّبون» إما التفاتا من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض .
فصل
لما بين في الآية
المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأردفه بما يدل على وقوع القيامة ذكر في
هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله : (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي أحياء
ينظر بعضهم إلى بعض ، وقيل : ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا
به والزجرة هي الصيحة التي يزجرها كالزجرة بالنّعم والإبل عند الحثّ ، ثمّ كثر
استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة ، قال ابن الخطيب : ولا يبعد أن يقال تلك الصيحة
إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور
إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل : فما الفائدة
في هذه الصيحة للأموات وهذه النفخة جارية مجرى السبب لحياتهم فتكون مقدمة على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالا لكونهم
أمواتا فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عبث والعبث لا يجوز في فعل الله؟
فالجواب : على قول
أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي : فيه وجهان :
الأول : أن يعتبر
بها الملائكة.
والثاني : أن تكون
فائدتها التخويف والإرهاب. (انتهى) . وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة
الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في
الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله (وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها) كما قال : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] روي
أن الله تعالى يأمرنا سرا قيل فينادى أيّتها العظام النّخرة ، والجلود البالية
والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال
القيامة قولهم بعد القيام من القبور : (يا وَيْلَنا هذا
يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج : الويل كلمة
__________________
يقولها القائل وقت
الهلكة ، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم الحساب القيامة المذكور في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ) تقدّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من
كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) هذا من كلام الملائكة والمراد اجمعوا الذين أشركوا إلى
الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل : ما معنى
احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحضروا محفل القيامة وقالوا : هذا يوم الدين وقالت
الملائكة لهم : بل هذا يوم الفصل؟
أجاب القاضي عنه وقال : المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار ،
ولذلك قال بعده : (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ) أي دلّوهم على ذلك الطريق ، ثم سأل نفسه وقال : كيف يصح
ذلك وقد قال بعده : (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ومعلوم أن (م) حشرهم إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في
العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احشروهم وقفوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن
الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال : إنهم إذا
قاموا من قبورهم لم يبعد أن يقفوا هناك لحيرة تلحقهم لمعاينتهم أهوال القيامة ، ثم
إن الله تعالى يقول للملائكة : احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم ، أي
سوقوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثمّ (من) هنا (ك) يساقون إلى النار.
قوله : (وَأَزْواجَهُمْ) العامة على نصبه وفيه وجهان :
أحدهما : العطف
على الموصول.
والثاني : أنه
مفعول معه . قال أبو البقاء : وهو في المعنى أقوى ، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن
العطف فلا يعدل عنه ، وقرأ عيسى بن سليمان الحجازيّ بالرفع عطفا على ضمير «ظلموا» . وهو ضعيف لعدم
__________________
العامل ، وقوله : (وَما كانُوا
يَعْبُدُونَ) لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضا على ما
تقدم .
قوله : (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) العامة على الكسر على الاستئناف المفيد للعلة ، وقرىء بفتحها على حذف لام العلة أي قفوهم لأجل سؤال الله إيّاهم.
فصل
المراد (بالأزواج
أشباههم وأمثالهم وأتباعهم). قال قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم فأهل الخمر
مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنّصرانيّ مع
النصراني لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] أي
أشكالا وأشباها ، وتقول «عندي من هذا أزواج» أي أمثال ، وتقول : زوجان من الخفّ
لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يسمّيان زوجين متشابهين ، وكذلك
العدد الزوج ، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر
مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن : أزواجهم : المشركات ، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان
والطواغيت. وقال مقاتل : يعني إبليس وجنوده لقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطانَ). فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ)
، قال ابن عباس :
دلوهم إلى طريق النّار. وقال ابن كيسان والأصمّ: قدموهم والعرب تسمي السابق هاديا. قال الواحدي : وهذا وهم لأنه يقال هدى إذا تقدم ومنه الهادية والهوادي
، وهاديات الوحش ، ولا يقال هدى بمعنى قدم. «وقفوهم» يقال وقفت الدّابة أقفها وقفا
فوقفت هي وقوفا . قال المفسرون : لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن
السؤال عند الصراط فقال : (قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ). قال ابن عباس : عن أقوالهم وأفعالهم.
__________________
وقيل : تسألهم
الخزنة : «ألم يأتكم نذير رسل منكم» ، (رسل) بالبينات قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين.
ويجوز أن يكون هذا السؤال هو قوله بعد ذلك : (ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ) (أي لا تسألون) (توبيخا لهم فيقال) : ما لكم لا تناصرون قال ابن عباس : لا ينصر بعضكم
بعضا كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر فقيل لهم
يوم القيامة : ما لكم لا تناصرون ، وقيل : يقال للكفار : ما لشركائكم لا يمنعونكم
من العذاب.
قوله : (ما لَكُمْ) يجوز أن يكون منقطعا عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور
ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم ، ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقا
للسؤال و (لا تَناصَرُونَ) جملة حالية العامل فيها الاستقرار في «لكم» . وقيل : بل هي على حذف حرف الجرّ وأن الناصبة فلما حذفت «أن»
ارتفع الفعل. والأصل في أن لا . وتقدمت قراءة البزّي لا تناصرون بتشديد التاء . وقرىء تتناصرون على الأصل .
قوله (تعالى) : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ) قال ابن عباس : خاضعون. وقال الحسن منقادون ، يقال استسلم للشيء إذا
انقاد له وخضع. والمعنى هم اليوم أذلّاء منقادون لا حيلة لهم في دفع تلك المضارّ.
قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ
تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠)
فَحَقَّ
عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ
إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
إِنَّهُمْ
كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ
__________________
إِلاَّ
اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)(٣٧)
قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) قيل : الأتباع والرؤساء يتساءلون متخاصمون. وقيل : هم
والشياطين يقولون إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين أي من قبل الدين فتضلوننا عنه. قاله
الضحاك ، وقال مجاهد : من الصراط الحق واليمين عبارة عن الدّين والحق كما أخبر الله عن إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧]
فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فليس عليه الحق ، واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات لأن الجانب
الأيمن أفضل من الجانب الأيسر إجماعا ، ولا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين
ويتفاءلون بالجانب الأيمن ويسمونه البارح وكان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ يحب التيامن في شأنه كله
وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين ووعد الله المحسن أن يعطيه الكتاب باليمين.
وقيل: إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا
بأيمانهم ، وقيل : عن اليمين أي عن القوة والقدرة كقوله : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة : ٤٥].
قوله : (عَنِ الْيَمِينِ) حال من فاعل : «تأتوننا». واليمين إما الجارحة عبّر بها عن
القوة وإما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يمسح كل منهما يمين الآخر فالتقدير على
الأول وتأتوننا أقوياء وعلى الثاني مقسمين حالفين .
قوله : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا جواب الرؤساء للأتباع أي ما كنتم موصوفين بالإيمان
حتى يقال : إنا أزلناكم عنه وإنما الكفر من قبلكم (وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) من قوة وقدرة حتى نقهركم ونجبركم (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) ضالين (فَحَقَّ عَلَيْنا) وجب علينا جميعا (قَوْلُ رَبِّنا) يعني كلمة العذاب وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩].
قوله : «إنا
لذائقوا العذاب» الظاهر أنه من إخبار الكفرة المتبوعين أو الجن بأنهم ذائقون
العذاب. ولا عدول في هذا الكلام . وقال الزمخشري : ولزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني وعيد
الله بأنا لذائقون لعذابه لا محالة ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم
__________________
لذائقون ولكنه عدل
به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قول القائل :
٤١٩١ ـ لقد علمتهوازن قلّ مالي
|
|
..........
|
ولو حكى قولها
لقال : قلّ مالك ، ومنه قول المحلف للحالف احلف (لأخرجنّ) ولتخرجنّ ، الهمزة لحكاية الحالف ، والتاء لإقبال المحالف على المحلف .
قوله : (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي إنما أقدمنا إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية. وفيه دقيقة
أخرى كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر لزم
التسلسل. وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قبلنا بل من قبل غيرنا.
وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل وهو قوله : (فَحَقَّ عَلَيْنا
قَوْلُ رَبِّنا). ثم قال تعالى بعده : (فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) يعني الرؤساء والأتباع يومئذ يسألو (ن) ويراجعو (ن) الكلام فيما بينهم ثم قال : (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ) أي الكفار. قال ابن عباس : الذين جعلوا لله شركاء ثم وصفهم
بأنهم (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا
آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعني النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقرأ ابن كثير أينا لتاركوا بهمزة وياء بعدها خفيفة وألف
ساكنة بلا مدة . وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو كذلك ، ويمدان.
والباقون بهمزتين بلا مد ، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ) أي جاء بالدين الحق.
قوله : (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي صدقهم محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ يعني
__________________
صدقهم في مجيئهم
بالتوحيد ، وقرأ عبد الله صدق خفيف الدال «المرسلون» فاعلا به أي صدقوا فيما جاؤوا
به . ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ).
قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ
الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ
رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ
مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ
وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ)(٤٩)
قوله : (لَذائِقُوا الْعَذابِ) العامة على حذف النون والجر. وقرأ بعضهم بإثباتها والنصب هو الأصل. وقرأ أبان بن تغلب ـ عن عاصم وأبو السّمّال في رواية ـ بحذف النون والنصب أجرى النون مجرى التنوين في حذفها لالتقاء الساكنين كقوله
: (أَحَدٌ اللهُ
الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢]
(و) :
٤١٩٢ ـ ولا ذاكر الله إلّا قليلا
وقال أبو البقاء :
قرىء شاذا بالنصب. وهو سهو من قارئه لأن اسم الفاعل يحذف منه النون وينصب إذا كان
فيه الألف واللام ، قال شهاب الدين : وليس بسهو لما تقدم ، وقرأ أبو السمال أيضا لذائق بالإفراد والتنوين العذاب
نصبا . وتخريجه
__________________
على حذف اسم جمع هذه
صفته أي إنكم لفريق أو لجمع ذائق ليتطابق الاسم والخبر في الجمعيّة . ثم كأنه قيل : فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن
النفع والضر أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله : (وَما تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي «إلا جزاء ما كنتم تعملون» .
قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء منقطع أي لكن عباد الله المخلصين الموحدين ، وقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ) بيان لحالهم ، وقد تقدم في فتح اللام وكسرها من المخلصين قراءتان فمن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله. والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى . والرزق المعلوم قيل : بكرة وعشيّا لقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) [مريم : ٦٢] فيكون
المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشوة وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية. وقيل
: ذلك الرزق معلوم الصفة أي مخصوصا بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر. وقيل معناه
أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع وقيل : معلوم
القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وقد (بين أنه) تعالى يعطيهم غير ذلك تفضّلا .
قوله : «فواكه»
يجوز أن يكون بدلا من «رزق» وأن يكون خبر ابتداء مضمر أي ذلك الرزق فواكه ، وفي الفواكه قولان :
أحدهما : أنها
عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن
حفظ الصحّة بالأقوات فإن أجسامهم محكومة ومخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على
سبيل التلذذ.
والثاني : أن
المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى ، لما كانت الفاكهة حاضرة أبدا
كان المأكول للغذاء أولى بالحضور .
__________________
قوله : (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) قرأ العامة مكرمون خفيفة الراء. و (ابن) مقسم بتشديدها . والمعنى وهم مكرّمون بثواب الله في جنات النعيم لما ذكر
مأكولهم ذكر مسكنهم. وقوله (فِي جَنَّاتِ) يجوز أن يتعلق «بمكرمون» وأن يكون خيرا ثانيا وأن يكون
حالا .
قوله : (عَلى سُرُرٍ) العامة على ضم الراء. وأبو السّمّال بفتحها . وهي لغة بعض كلب ، وتميم يفتحون عين «فعل» جمعا إذا كان اسما مضاعفا. وأما
الصفة نحو : ذلل ففيها خلاف. والصحيح أنه لا يجوز لأنّ السماع ورد في الجوامد دون
الصفات . و (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) حال ، ويجوز أن يتعلق (عَلى سُرُرٍ) بمتقابلين و «يطاف» صفة «لمكرمون» أو حال من الضمير في : «متقابلين»
أو من الضمير في أحد الجارّين إذا جعلناه حالا .
ومعنى متقابلين لا
يرى بعضهم قفا بعض ، ولما ذكر المأكل والمسكن ذكر بعده صفة المشرب فقال : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ). والكأس من الزجاج ما دام فيها شراب وإلا فهو قدح. وقد يطلق
الكأس على الخمر نفسها وهو مجاز سائغ وأنشد :
٤١٩٣ ـ وكأس شربت على لذّة
|
|
وأخرى تداويت
منها بها
|
و (مِنْ مَعِينٍ) صفة «لكأس» . والمعين معناه الخمر الجارية في الأنهار ، أي ظاهرة تراها
العيون وتقدم الكلام في معين . وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي
__________________
الخمر ، وقوله : (مِنْ مَعِينٍ) أي من شراب معين أو من نهر معين. المعين مأخوذ من عين
الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء ، وسمي (م) عينا لظهوره ، يقال : عان الماء إذا ظهر جاريا ، (قاله ثعلب) فهو مفعول من العين نحو : مبيع ومكيل ، وقيل : سمي
معينا لأنه يجري ظاهر العين كما تقدم. ويجوز أن يكون فعيلا من المعين وهو الماء
الشديد الجري ، ومنه أمعن في الجري إذا اشتد فيه .
قوله : «بيضاء»
صفة لكأس . وقال أبو حيان : صفة «لكأس» أو «للخمر» ، قال شهاب الدين : لم يذكر الخمر اللهم إلا أن يعني
بالمعين الخمر. وهو بعيد جدا. ويمكن أن يجاب بأن الكأس إنما سميت كأسا إذا كان
فيها الخمر .
وقرأ عبد الله :
صفراء وهي مخالفة للسواد ، إلا أنه جاء وصفها بهذا اللون وأنشد لبعض المولدين :
٤١٩٤ ـ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
|
|
لو مسّها حجر
مسّته سرّاء
|
و «لذة» صفة أيضا
وصفت بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فلان جود وكرم إذا أرادوا
المبالغة .
وقال الزجاج : أو
على حذف المضاف أي ذات لذّة ، أو على تأنيث «لذّ» بمعنى لذيذ فيكون وصفا على «فعل»
كصعب يقال : لذّ الشّيء يلذّ لذّا فهو لذيذ ولذّ وأنشد :
٤١٩٥ ـ بحديثها اللّذّ الّذي لو كلّمت
|
|
أسد الفلاة به
أتين سراعا
|
__________________
وقال آخر :
٤١٩٦ ـ لذّ كطعم الصّرخديّ تركته
|
|
بأرض العدا من
خشية الحدثان
|
واللذيذ كل شيء
مستطاب. وأنشد :
٤١٩٧ ـ يلذّ لطعمه وتخال فيه
|
|
إذا نبّهتها بعد
المنام
|
و «للشّاربين» صفة
«للذّة». وقال اللّيث : اللّذّة واللّذيذة يجريان مجرى واحدا في النعت يقال : شراب
لذّ ولذيذ قال تعالى : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) وقال تعالى : (مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥] وعلى
هذا «لذّة» بمعنى لذيذ .
قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) صفة أيضا ، وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها ، وتقدم أول البقرة فائدة تقديم مثل هذا الخبر ، والبحث مع أبي
حيان فيه. قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول (وغول) سواء ، وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس :
__________________
٤١٩٨ ـ وما زالت الكأس تغتالهم
|
|
وتذهب بالأوّل
فالأوّل
|
وقال الليث :
الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا ، وقال الواحدي : الغول حقيقته الإهلاك ، يقال : غاله غولا
واغتاله أهلكه ، والغول والغائل المهلك وسمّي (وطء) المرضع غولا لأنه يؤدي إلى الهلاك ، والغول كلّ ما اغتالك
أي أهلكك ، ومنه الغول بالضم شيء توهّمته العرب ولها فيه أشعار كالعنقاء يقال : غالني كذا ومنه الغيلة في العقل والرضاع قال :
٤١٩٩ ـ مضى أوّلونا ناعمين بعيشهم
|
|
جميعا وغالتني
بمكّة غول
|
فالغول اسم لجميع
الأذى. وقال الكلبي : لا فيها إثم ، وقال قتادة : وجع البطن . وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق أمره في خفية ، وخمر
الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السّكر وذهاب العقل ووجع البطن والصّداع
والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنّة.
قوله : (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) قرأ الأخوان «ينزفون» هنا ، وفي الواقعة ، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصم على ما في الواقعة
فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي . وابن أبي إسحاق بالفتح والكسر . وطلحة بالفتح والضم فالقراءة الأولى من أنزف الرّجل إذا ذهب عقله من السكر فهو
نزيف ومنزوف ، وكان قياسه منزف كمكرم ، ونزف الرجل الخمرة فأنزف هو ثلاثيّة متعدد
ورباعيه بالهمزة قاصر وهو نحو : كببته فأكبّ وقشعت الريح السّحاب فأقشع أي دخلا في
الكبّ والقشع وقال الأسود :
__________________
٤٢٠٠ ـ لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
|
|
لبئس النّدامى أنتم
آل أبجرا
|
ويقال : أنزف أيضا
أي نفذ شرابه. وأما الثانية فمن نزف أيضا بالمعنى المتقدم وقيل هو
من قولهم : نزفت الرّكيّة أي نزحت ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم بل هي باقية أبدا ، وضمن ينزفون معنى يصدون عنها بسبب
النّزيف.
وأما القراءتان
الأخيرتان فيقال : نزف الرجل ونزف بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله
بالسّكر ، ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ). (قاصِراتُ الطَّرْفِ) يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة أي قاصرات أطرافهن كمنطلق اللّسان ، وأن يكون من باب إطلاق
اسم الفاعل على أصله. فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل وعلى الثاني منصوبه أي قصرن أطرافهنّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ
القيس :
٤٢٠١ ـ من القاصرات الطّرف لو دبّ محول
|
|
من الذّرّ فوق
الإتب منها لأثّرا
|
ومعنى القصر في
اللغة الحبس ومنه قوله تعالى : (مَقْصُوراتٌ فِي
الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢].
والمعنى أنهن يحبسن نظرهنّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن ، والعين جمع عيناء وهي
الواسعة العينين والذّكر أعين ، قال الزجاج كبار الأعين حسانها ، يقال رجل أعين ، وامرأة عيناه ، ورجال ونساء عين.
قوله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) والبيض جمع بيضة وهو معروف والمراد به هنا بيض
__________________
النّعام ،
والمكنون المصون المستور من كننته أي جعلته في كنّ والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوب ببعض صفرة والعرب تحبه.
قال امرؤ القيس :
٤٢٠٢ ـ وبيضة خد (ر) لا يرام خباؤها
|
|
تمتّعت من لهو
بها غير معجل
|
كبكر مقاناة
البياض بصفرة
|
|
غذاها نمير
الماء غير المحلّل
|
وقال ذو الرمة :
٤٢٠٣ ـ بيضاء في برج صفراء في غنج
|
|
كأنّها فضّة قد
مسّها ذهب
|
وقال بعضهم : إنما
شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة
للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال :
٤٢٠٤ ـ تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى
|
|
بهنّ اختلافا بل
أتين على قدر
|
ويجمع البيض على
بيوض قال :
٤٢٠٥ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها
|
|
قطا الحزن قد
كانت فراخا بيوضها
|
قال الحسن : شب (ه)
هن ببيض النّعام تكنّها بالرّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.
__________________
يقال : هذا أحسن
ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة ، (وإنما ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ) .
قوله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ
مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)
أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ
فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا
الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ
هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)
قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وهذا على عطف قوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) والمعنى يشربون فيتحادثون على الشراب قال :
٤٢٠٦ ـ وما بقيت من اللّذّات إلّا
|
|
محادثة الكرام
على المدام
|
وأتى بقوله «فأقبل»
ماضيا لتحقق وقوعه ، كقوله (وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠] وقوله : «يتساءلون» حال من فاعل «أقبل»
والمعنى : أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا.
قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ) أي في الدنيا ينكر البعث. و (يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي كان يوبّخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي لمحاسبون ومجازون ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه
الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند
اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع
في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد : كان ذلك
القرين شيطانا ، وقيل : كان من الإنس ، وقال مقاتل : كانا أخوين . وقيل : كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار
__________________
فتقاسماها واشترى
أحدهما دارا بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال : ما أحسنها) ، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إنّ
صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإنّي أسألك دارا من دور الجنة ثم إن صاحبه
تزوج امرأة حسناء بألف دينار ، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى
من الحور العين ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار ، ثم
إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل : كان أحدهما
كافرا اسمه نطروس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف : (وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الكهف : ٣٢].
قوله : (لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدّقين
بلقاء الله. وقرىء بتشديدها من الصّدقة ، واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ)
(أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى
والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام). والباقون
بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها
ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين .
فصل
ثم إن ذلك الرجل
يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السّرور بالاطّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين
ومخاطبته (هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ) إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا «فأطلع أنت». قال ابن عباس : إنّ في الجنة كوى ينظر
أهلها منها إلى النار.
قوله : «مطّلعون»
قرأ العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطّلع ماضيا مبنيا للفاعل افتعل من
الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين ـ ويروى عن أبي عمرو ـ بسكون الطاء وفتح النون
«فأطلع» بقطع (ال) همزة مضمومة وكسر اللام ماضيا مبنيا
__________________
للمفعول ، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصرا أي مقبلون
من قولك : اطلع علينا فلان أي أقبل ، وأن يكون متعديا ومفعوله محذوف أي أصحابكم ، وقرأ أبو البرهسم وحماد بن أبي عمار : مطلعون خفيفة الطاء مكسورة النون فأطلع مبنيا
للمفعول ، ورد أبو حاتم وغيره هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذ كان
قياسها مطلعيّ ، والأصل مطلعوي فأبدل فأدغم نحو : جاء مسلميّ القاطنون وقوله عليه
ـ (الصلاة و) السلام ـ «أو مخرجيّ هم» ، وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مجرى
المضارع يعني في إثبات النون فيه مع الضمير وأنشد الطبري على ذلك :
٤٢٠٧ ـ وما أدري وظنّي كلّ ظنّي
|
|
أمسلمني إلى قومي شراح
|
وإليه نحا
الزمخشري قال : أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما (كأنه) قال يطلعون وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر . وذكر فيه فيه توجيها آخر فقال : أراد مطلعون إياي فوضع
المتصل موضع المنفصل كقوله :
__________________
٤٢٠٨ ـ هم الفاعلون الخير والآمرونه
|
|
..........
|
ورده أبو حيان بأن
هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه لا يجوز : «هند زيد ضارب إيّاها» ولا «زيد ضارب
إيّاي». قال شهاب الدين : وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يعدل
إلى المنفصل . ولقائل أن يقول : لا أسلم أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل
الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيصحّ ما قال (ه) الزمخشري ، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم
نحو البيت المتقدم وقول الآخر :
٤٢٠٩ ـ فهل فتى من سراة القوم يحملني
|
|
وليس حاملني
إلّا ابن حمّال
|
وقول الآخر :
٤٢١٠ ـ وليس بمعييني وفي النّاس ممنع
|
|
صديق وقد أعيى
عليّ صديق
|
قولان :
أحدهما : أنه
تنوين وأنه شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا : إن الضمير بعده في محل نصب .
__________________
والثاني : أنه ليس
تنوينا وإنما هو نون وقاية .
واستدل ابن مالك
على هذا بقوله : وليس بمعييني ، وبقوله أيضا :
٤٢١١ ـ وليس الموافيني (وفي النّاس
ممنع
|
|
صديق إذا أعيا
عليّ صديق)
|
ووجه الدلالة من
الأول أنه لو كان تنوينا لكان ينبغي أن يحذف الياء قبله لأنه منقوص منون ،
والمنقوص المنون تحذف ياؤه رفعا وجرا لالتقاء الساكنين ، ووجهها من الثاني أن
الألف واللام لا تجامع التنوين. والذي يرجح القول الأول ثبوت النون في قوله : «والآمرونه»
، وفي قول الآخر :
٤٢١٢ ـ ولم يرتفق والنّاس محتضرونه
|
|
جميعا وأيدي
المعتفين رواهقه
|
فإن النون قائمة
مقام التنوين تثنية وجمعا على حدها ، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون». وهو
بعيد جدا ؛ لأن النون إن كانت للوقاية فلا تلحق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا
تثبت في الإضافة وهذا الترديد صحيح لو لا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف
فيه وخروج عن القواعد .
(وقرىء مطّلعون بالتشديد كالعامة فأطلع مضارعا) منصوبا (بإضمار «أن» على
__________________
جواب الاستفهام).
وقرىء مطلعون بالتخفيف فأطلع مخففا ماضيا ومخففا مضارعا على ما تقدم يقال : طلع
علينا فلان وأطلع كأكرم واطّلع بالتشديد بمعنى واحد . وأما قراءة من بنى الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل
ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر
الفعل أي اطّلع الاطّلاع .
الثّاني : الجار
المقدر .
الثّالث : ـ وهو
الصحيح ـ أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال : طلع زيد وأطلعه غيره
فالهمزة فيه للتعدية ، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في
لوامحه فقال : طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعا إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك :
هل أنتم مقبلون فأقبل ، وإنما أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع ،
أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أطلع به لأن أطلع لازم كما أن أقبل كذلك . ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن «أطلع»
بالهمزة معدّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا
لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله ، فكذلك هذا لو قلت : «زيد ممرور أو مغضوب» تريد «به» أو «عليه»
لم يجز .
قال شهاب الدين :
أبو الفضل لا يدّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال : بتقدير حرف الجر
المحذوف. (ومعنى ذلك) أنه لما حذف حرف الجر اتّساعا انقلب الضمير مرفوعا فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف
عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويسمّى الحذف على التدريج .
__________________
قوله : «فرآه» عطف
على «فاطّلع» . و (سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطها ، وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء
المسافة منه إلى الجوانب ، وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدة : كنت أكتب حتى ينقطع سوائي .
قوله : «تالله»
قسم فيه تعجب ، و «إن» مخففة أو نافية . واللام في «لتردين» فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين
فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها .
فصل
قال المفسرون :
إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فرآه في سواء الجحيم أي وسط الجحيم
فقال له توبيخا : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ) أي والله لقد كدت أن تهلكني. وقال مقاتل : والله لقد كدت
أن تغويني ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه ، والرّدى الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيّاي إلى إنكار البعث والقيامة.
(وَلَوْ لا نِعْمَةُ
رَبِّي) أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في النار. ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار
عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال : (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ) قال بعضهم : إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة
أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح يقول أهل الجنة للملائكة :
(أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ)؟ فتقول الملائكة : لا. فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون.
وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت . وقيل : إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجّبه بها يقول
ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه ، وقيل : يقوله المؤمن لقرينه توبيخا له بما كان ينكره .
قوله : «بميّتين»
قرأ زيد بن علي بمائتين ، وهما مثل ضيّق ، وضائق كما
__________________
تقدم ، وقوله «أفما» فيه الخلاف المشهور ، فقدّره الزمخشري أنحن
مخلّدون منعّمون فما نحن بميتين ، وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
قوله : (إِلَّا مَوْتَتَنَا) منصوب على المصدر ، والعامل فيه الوصف قبله ، ويكون استثناء مفرّغا ، وقيل : هو استثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا
في الدنيا . وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].
وفيها هناك بحث حسن.
قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من (هذه) المحادثات. وقوله : (لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) قيل : إنه من بقية كلامهم ، وقيل : إنه ابتداء كلام من
الله تعالى أي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه .
قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها
فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ
لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)
إِنَّهُمْ
أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى
آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ)(٧١)
قوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) أي أذلك الذي ذكره لأهل الجنة خير نزلا أم شجرة الزّقّوم. (فنزلا)
تمييز «لخير» والخيرية
بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره. والزقوم شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مسّ
جسم أحد تورم فمات. والتزقم البلع بشدة وجهد للأشياء الكريهة ، وقول أبي جهل وهو من العرب : لا نعرف الزقوم إلا بالتمر
والزبد من العناد والكذب البحت .
__________________
فصل
لما ذكر ثواب أهل
الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال : «لمثل هذا فليعمل العاملون
أتبعه بقوله : «قل» يا محمد أذلك خير أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجرا لهم عن
الكفر. وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم. والنّزل الفضل الواسع في الطعام ؛ يقال : طعام كثير النّزل ، و (استعير) للحاضر من الشيء ؛ ويقال : أرسل الأمير إلى فلان نزلا وهو الشيء
الذي يحصل حال من نزل بسببه. وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة
والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمّ. ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في
الجزائيّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين
لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى
العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخا لهم على اختيارهم .
قال الكلبي : لما
نزلت هذه الآية قال ابن الزّبعرى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن
يسمون التّمر والزّبد بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته : زقّمينا فأتته بزبد وتمر
وقال تزقّموا . قال الواحدي: ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا
التمر والزّبد . قال ابن دريد : لم يكن للزقّوم اشتقاق من الزّقم وهو الإفراط في أكل
الشيء حتى يكره ذلك ، يقال : بات فلان يتزقم . وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة
الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها .
قوله : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ) أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قالوا :
كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فأجيبوا : بأن خالق النار قادر على أن
يمنع النار من إحراق الشجر ؛ لأنه إذا جاز أن تكون في النار زبانية والله تعالى
يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟
فمعنى كون شجرة
الزقوم فتنة للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهة في قلوبهم
وصارت سببا لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنة لهم. أو يكون المراد
صيرورة هذه الشجرة فتنة لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك
__________________
عليهم فحينئذ يصير
ذلك فتنة في حقّهم. أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد
عن العرف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على
الزّنديق توسل به إلى الطّعن في القرآن والنبوة. ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة
بصفات الأولى قوله : (إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى
دركاتها.
الصفة الثانية
قوله : «طلعها» أي ثمرها سمي طلعا لطلوعه . قال الزمخشري : الطّلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة
الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية ، قال ابن قتيبة : سمي طلعا لطلوعه كلّ سنة فلذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله : (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
حقيقة ، وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة :
٤٢١٣ ـ تحيد عن أستن سود أسافلها
|
|
مثل الإماء
الغوادي تحمل الحزما
|
وهو شجر منكر
الصورة سمّته العرب بذلك تشبيها برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلا يشبه به.
وقيل : الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال :
٤٢١٤ ـ عجيز تحلف حين أحلف
|
|
كمثل شيطان
الحماط أعرف
|
وقيل : شجر يقال
له : الصوم ومنه قول ساعدة بن جؤيّة :
٤٢١٥ ـ مؤكّل بشدوف الصّوم يرقبها
|
|
من المعارب
مخطوف الحشا زرم
|
__________________
فعلى هذا قد خوطبت
العرب بما تعرفه ، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة ، والثاني أنه من باب التخيل
والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم
وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما
ألفوه من الاستعارات التخييلية كقول امرىء القيس : [البسيط]
٤٢١٦ ـ أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي
|
|
ومسنونة زرق
كأنياب أغوال
|
ولم ير أنيابها ؛
بل ليست موجودة ألبتة ، قال ابن الخطيب : وهذا هو الصحيح ؛ وذلك أن الناس لما
اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية
القبح في الصورة والسيرة فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في
قول النساء : (إِنْ هذا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ) فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشويه الخلقة ،
ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئا (شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا
رأوا شيئا) حسنا قالوا : إنه ملك من الملائكة . قال ابن عباس : هم الشياطين بأعيانهم شبهه بها لقبحه.
قوله : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) ، والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزّيادة عليه .
فإن قيل : كيف
يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟
فالجواب : أن
المضطر ربما استروح من الضّرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم
__________________
الله الجوع الشديد
فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال : إن الزبانية يكرهونهم على
الأكل من تلك الشجرة تكميلا لعذابهم.
قوله : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً
مِنْ حَمِيمٍ) قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله. وقيل: يراد به
اسم المفعول . ويدل له قراءة شيبان النّحوي لشوبا ـ بالضم ـ. قال الزجاج : المفتوح مصدر ، والمضموم اسم بمعنى المشوب
كالنقض بمعنى المنقوض ، وعطف «بثمّ» لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم
من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بثمّ» المقتضية للتراخي ، وإما لأن العادة
تقضي بتراخي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المنوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل
فلذلك عطف على ما قبله بالفاء .
قال الزجاج :
الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره ، والشّوب الخلط والمزج ، ومنه شاب اللبن يشوبه أي خلطه
ومزجه ، والحميم : الماء الحار والمتناهي في الحرارة . و (مِنْ حَمِيمٍ) صفة «لشوبا» واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها : (وَغَسَّاقاً) [النبأ : ٢٥]
ومنها : (وَسُقُوا ماءً
حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] ومنها
المذكور في هذه الآية ، ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما
هو أشنع منه وسماه شوبا أي خلطا ومزجا من حميم من ماء حار ، فإذا أكلوا الزّقّوم
وشربوا عليه الحميم فيشرب الحميم في بطونهم فيصير شوبا له.
قوله : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى
الْجَحِيمِ) قال مقاتل : أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على
أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون
__________________
الحميم في موضع
خارج عن الجحيم فهم يوردون الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم ؛ ويدل عليه قوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ) [الرحمن : ٤٤]
وقرأ ابن مسعود : «ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم» (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) وجدوا (آباءَهُمْ ضالِّينَ
فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) ؛ قال الفراء : الإهراع الإسراع ، يقال : هرع وأهرع إذا استحث . والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعا في سرعة كأنهم يزعجون
إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي : يعملون مثل عملهم ، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما
يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال : (وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الخالية.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ
مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ)(٧٤)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف
فوجب أن يكون له ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله
وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ. ثم قال : (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الكافرين أي كان عاقبتهم العذاب وهذا الخطاب وإن كان ظاهره
مع الرسول ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا
بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك
فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجرا لهم عن كفرهم .
قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء من قوله : «المنذرين» استثناء منقطعا لأنه وعيد
وهم لم يدخلوا (في) هذا الوعيد ، وقيل : استثناء من قوله : (وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ).
__________________
والمراد بالمخلصين
: الموحدين نجوا من العذاب. وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحجر عند قوله
تعالى : (إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحشر : ٤٠].
قوله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ
فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ)(٨٢)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) الآية. لما قال : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ) أتبعه بشرح وقائع الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ فقال:
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ) أي نادى ربه أن ينجيه مع من نجا من الغرق ، وقيل : نادى
ربه أي استنصره على كفار قومه ، فأجاب الله دعاءه.
قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) جواب لقسم مقدر أي فو الله ومثله :
٤٢١٧ ـ لعمري لنعم السّيّدان وجدتما
|
|
..........
|
والمخصوص بالمدح
محذوف تقديره أي نحن أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه. (وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) واعلم أن هذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه
:
أحدها : أنه تعالى
عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال : (وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ) والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
وثانيها : أنه أعاد
صيغة الجمع في قوله : فلنعم المجيبون (من ذلك أيضا يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك
الإجابة بأنها نعمة الإجابة.
وثالثها : أن
الفاء في قوله : (فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ)) يدل على أن محصول هذه الإجابة
__________________
مرتب على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي
كونه معلّلا به. وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى
لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). والكرب : هو الخوف الحاصل من الغرق والكرب الحاصل من أذى
قومه (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته
فقد فنوا ، قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب
وفارس ، وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم.
قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء
والأمم إلى يوم القيامة .
قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) مبتدأ وخبر ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مفسر «لتركنا».
والثاني : أنه
مفسر لمفعوله ، أي تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام ، وقيل : ثمّ قول مقدر أي فقلنا سلام .
وقيل : ضمن تركنا
معنى قلنا ، وقيل : سلط «تركنا» على ما بعده . قال الزمخشري : وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة» وهي (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له ، وهو من الكلام
المحكيّ كقولك : «قرأت سورة أنزلناها» .
__________________
وهذا الذي قاله
قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولا بتركنا لا أنه ضمن معنى القول بل هو على معناه بخلاف الوجه قبله. وهذا أيضا من أقوالهم ، وقرأ عبد الله «سلاما» وهو مفعول به «بتركنا» و «كذلك» نعت مصدر
أو حال من ضميره . كما تقدم تحريره.
فصل
المعنى : سلام
عليه في العالمين ، وقيل : تركنا عليه في الآخرين أن يصلّى عليه إلى يوم الدين(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنما خصّصنا نوحا ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بهذه
التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية ذكره الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسنا ، ثم علل
كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا .
قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى
آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
وَقالَ
إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩)
رَبِّ
هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)(١٠٠)
القصة الثانية :
قصة إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ
__________________
شِيعَتِهِ) أي من أهل دينه وسنته وفي الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه
يعود على «نوح» أي ممن كان يشايعه أي يتبعه على دينه والتصلب في أمر الله.
الثاني : أنه يعود
على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو قول الكلبي . والشيعة قد تطلق على المتقدم كقوله:
٤٢١٨ ـ وما لي إلّا آل أحمد شيعة
|
|
وما لي إلّا
مشعب الحقّ مشعب
|
فجعل (آل) أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له ، قاله الفراء ، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر. قالوا كان بين نوح
وإبراهيم (نبيان هود وصالح ، وروى الزمخشري أنه كان بين نوح وإبراهيم)
ألفان وستمائة وأربعون سنة .
قوله : (إِذْ جاءَ) في العامل فيه وجهان :
أحدهما : اذكر
مقدرا. وهو المتعارف.
والثاني : قال
الزمخشري : ما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن ممّن شايعه على دينه وتقواه
حين جاء ربّه ، قال أبو حيان : (لا يجوز لأن فيه) الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو «لإبراهيم»
؛ (لأنه أجنبي من «شعته» ومن «إذ» وزاد المنع أن قدره ممن شايعه حين جاء
لإبراهيم) ؛ (لأنه قدر ممن شايعه فجعل العامل قبله صلة لموصول ، وفصل بينه وبين «إذ»
بأجنبي وهو «لإبراهيم») ، وأيضا فلام الابتداء تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت : إنّ ضاربا لقادم علينا زيدا تقديره : أن ضاربا زيدا قادم علينا. لم يجز .
__________________
فصل
قال مقاتل
والكلبيّ : المعنى أنه سليم من الشّرك ؛ لأنه أنكر على قومه الشّرك لقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا
تَعْبُدُونَ). وقال الأصوليون : معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من
كل معصية .
قوله : (إِذْ قالَ) بدل من «إذ» الأولى ، أو ظرف لسليم أي سلم عليه في وقت
قوله كيت وكيت ، أو ظرف لجاء ، ذكره أبو البقاء ، وقوله : (ما ذا تَعْبُدُونَ) استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطريقة وتقبيحها .
قوله : «أئفكا»
فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول
من أجله ، أي أتريدون آلهة دون الله إفكا ، فآلهة مفعول به ، ودون ظرف «لتريدون»
وقدمت معمولات الفعل اهتماما بها ، وحسّنه كون العامل رأس فاصلة ، وقدم المفعول من
أجله على المفعول به اهتماما به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل ، وبهذا الوجه
بدأ الزمخشري .
الثاني : أن يكون
مفعولا وتكون «آلهة» بدلا منه ، جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها عنه وفسره بها . ولم يذكر ابن عطيّة غيره .
الثالث : أنه حال
من فاعل «تريدون» أي تريدون آلهة أفكين أو ذوي إفك ، وإليه نحا الزمخشري .
قال أبو حيان :
وجعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أمّا نحو : أمّا علما فعالم ، والإفك أسوأ الكذب.
قوله : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أتظنون بربّ العالمين أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة
في المعبودية ، أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى
__________________
جعلتموها مساوية
له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء. أو فما ظنكم برب العالمين إذا
لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم؟
قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم على
مقتضى عادتهم ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير
معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خاليا في
بيت الأصنام فيقدر على كسرها.
فإن قيل : النظر
في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟
فالجواب : من
وجوه.
الأول : أن نظره
في النجوم أي في أوقات الليل والنهار ، وكانت تأتيه الحمّى في بعض ساعات الليل
والنهار فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال : إني سقيم فجعله عذرا في تخلفه عن
العيد الذي لهم فكان صادقا فيما قال ، لأن السّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
الثاني : أنهم
كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم
أي في علم النجوم كما تقول : «نظر فلان في الفقه» أي في علم الفقه فأراد إبراهيم
أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال : إني سقيم سكنوا إلى
قوله ، وأما قوله : إنّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ (وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ) أي ستموت.
الثالث : أن نظره
في النجوم هو قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ) (الليل) (رَأى كَوْكَباً) إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي
قديمة أو محدثة؟ وقوله : «إنّي سقيم أي سقيم القلب أي غير عارف بربّي ، وكان ذلك
قبل البلوغ.
الرابع : قال ابن
زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما
رآه في تلك الحالة المخصوصة قال : إني سقيم أي هذا السّقم واقع لا محالة.
الخامس : أن قوله
: إني سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله
تعالى لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ) [الكهف : ٦].
السادس : أنا لا
نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص
كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على
هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله : إني سقيم على سبيل التعريض
بمعنى أن الإنسان لا ينفكّ في أكثر حاله عن حصول حالة
__________________
مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم .
السابع : قال ابن
الخطيب : قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كذبا.
وأوردوا فيه حديثا عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «ما كذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات» .
قلت لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبة الكذب (إلى
إبراهيم فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرّاوي العدل؟) فقلت : لما
وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه (الصلاة
و) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول : لم لا
يجوز أن يكون المراد من قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ) أي في نجوم كلامهم ومتفرّقات أقوالهم ، فإن الأشياء التي
تحدث قطعة قطعة يقال : إنها منجّمة أي متفرقة. ومنه : نجمت الكتابة ، والمعنى : أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر
فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم ، فلم يجد
عذرا أحسن من قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ؛ (والمراد : أنه لا بدّ من أن أصير سقيما كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر : إنك
مسافر ، ولما قال : إني سقيم) تولّوا عنه مدبرين وتركوه ، وعذروه في عدم الخروج
إلى عيدهم.
قوله : «فراغ» أي
مال في خفية ، وأصله من روغان الثعلب ، وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ، ولا يقال :
راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه ، فقال استهزاء بها : (أَلا تَأْكُلُونَ) يعني الطعام الذي كان بين أيديهم (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) قاله أيضا استهزاء ، فراغ عليهم مال عليهم مستخفيا .
قوله : «ضربا»
مصدر واقع موقع الحال أي فراغ عليهم ضاربا ، أو مصدر لفعل ذلك الفعل حال تقديره
فراغ يضرب ضربا ، أو ضمن راغ معنى «يضرب» وهو بعيد ،
__________________
و «باليمين» متعلق
«بضربا» إن لم تجعله مؤكدا وإلا فلعامله ، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر وأن
يراد بها القوة ، فالباء على هذا للحال أي ملبسا بالقوة ، وأن يراد بها الحلف وفاء ، بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧]
والباء على هذا للسبب ، وعدي «راغ» الثاني «بعلى» لما كان مع الضرب المستولي
عليهم من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم ، وأتى بضمير العقلاء في
قوله : «عليهم» جريا على ظن عبدتها أنها كالعقلاء.
قوله (تعالى) : (يَزِفُّونَ) حال من فاعل «أقبلوا». و «إليه» يجوز تعلقه بما قبله أو
بما بعده ، وقرأ حمزة يزفّون. بضم الياء من أزفّ. وله معنيان :
أحدهما : أنه من
أزف يزفّ أي دخل في الزفيف . وهو الإسراع ، أو زفاف العروس ، وهو المشى على هيئة ؛ لأن
القوم كانوا في طمأنينة من أمرهم ، كذا قيل. وهذا الثاني ليس بشيء ، إذ المعنى
أنهم لما سمعوا بذلك بادروا مسرعين ، فالهمزة على هذا ليست للتعدية .
والثاني : أنه من
أزفّ غيره أي حمله على الزفيف وهو الإسراع ، أو على الزّفاف ، وقد تقدم ما فيه ، وباقي السبعة بفتح الياء من زفّ
الظليم يزفّ أي عدا بسرعة . وأصل الزفيف للنعام. وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة : يزفون من وزف يزف أي أسرع إلا أنّ
الكسائيّ والفراء قالا لا نعرفها بمعنى زفّ . وقد عرفها غيرهما ، قال مجاهد ـ وهو بعض من قرأ بها ـ :
الوزيف
__________________
النسلان ، وقرىء : يزفّون مبنيا للمفعول ويزفون كيرمون من زفاه
بمعنى حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه ، وبين قوله : «فأقبلوا» وقوله (فَراغَ عَلَيْهِمْ) جمل محذوفة يدل عليها الفحوى أي فبلغهم الخبر ، فرجعوا من
عيدهم ونحو هذا .
قال ابن عرفة : من قرأ بالنصب فهو من زفّ يزفّ (ومن قرأ بالضم فهو من : أزفّ يزف) . قال الزجاج : يزفون يسرعون ، وأصله من زفيف النعامة وهو
من أشدّ عدوها.
قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) لما عاتبوا إبراهيم على كسر الأصنام ذكر لهم الدليل الدال
على فساد عبادتها فقال : (أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ووجه الاستدلال : أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما
كان معبودا البتة فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه الآثار تصرفه فلو
صار معبودا عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي لم يكن معبودا إذا حصلت آثار
تصرّفاته فيه صار معبودا (إلى (ذلك)) ، وفساد
ذلك معلوم ببديهة العقل.
قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) في «ما» هذه أربعة أوجه :
أجودها : أنها
بمعنى الذي أي وخلق الذي تصنعونه ، فالعمل هنا التصوير والنحت نحو : عمل الصانع السّوار
الذي صاغه. ويرجح كونها بمعنى الذي تقدم «ما» قبلها فإنها بمعنى الذي أي أتعبدون
الذي تنحتون والله خلقكم وخلق الذي تعملون (ه) بالنحت .
__________________
والثاني : أنها
مصدرية أي خلقكم وأعمالكم ، وجعلها الأشعريّة دليلا على خلق أفعال العباد لله تعالى
وهو الحق ، إلا أن دليل ذلك من هنا غير قوي لما تقدم من ظهور كونها بمعنى الذي ، وقال مكي : يجب أن تكون ما والفعل مصدرا جيء به ليفيد أن
الله خالق الأشياء كلها. وقال أيضا : وهذا أليق لقوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ٢] أجمع
القراء على الإضافة فدل على أنه خالق الشر. وقد فارق عمرو بن عبيد الناس فقرأ من شرّ بالتنوين ليثبت مع الله خالقين ، وشنع الزمخشري على القائل هنا بكونها مصدرية.
والثالث : أنها
استفهامية ، وهو استفهام توبيخ ، أي : (و) أيّ شيء تعملون؟
الرابع : أنها
نافية ، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم (لا) تعملون شيئا ، والجملة من قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) حال. ومعناها حسن أي أتعبدون الأصنام على حالة تنافي ذلك
وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها ، ويجوز أن تكون مستأنفة.
فصل
دلت الآية على أن
فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ (ما) مع ما بعده في
تقدير المصدر فقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) معناه وعملكم ، وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم
وخلق عملكم.
فإن قيل : هذه
الآية حجة عليكم من وجوه :
الأول : أنه تعالى
قال : (أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ) أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة
__________________
الفعل إلى الفاعل
ولو كان ذلك دافعا بتخليق الله لاستحال كونه فعلا (للعبد) .
الثاني : أنه
تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام ؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه
الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام ، والخالق هو المستحق للعبادة دون
المخلوق ، فلما تركوا عبادته ـ سبحانه وتعالى ـ وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جرم
أنه سبحانه وبّخهم على هذا الخطأ العظيم فقال : (أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها
سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم : لفظ ما مع
ما بعدها في تقدير المصدر قلنا : ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال
: أعجبني ما قمت أي قيامك ، فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش ، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي
وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول عند الأخفش سلّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضا
قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه :
الأول : قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) والمراد بقوله : (ما تَنْحِتُونَ) المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون
المراد بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) المعمول لا العمل حتى يكون كلّ واحد من هذين اللفظين على
وفق الآخر.
الثاني : أنه
تعالى قال : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ
ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧]
وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصيّ والحبال التي هي متعلقات ذلك
الإفك فكذا ههنا.
الثالث : إن العرب
تسمي محلّ العمل عملا ، يقال في الباب والخاتم : هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت
بهذه الوجوه أن لفظ (ما) مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضا بمعنى
المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى ؛ لأن المقصود في الآية تزييف مذهبهم في
عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم
__________________
لأن الذي جرى ذكره
من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال . قال ابن الخطيب : و (اعلم أن) هذه (ال) سّؤالات قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه
الآية.
قوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) لما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا
إلى طريقة الإيذاء (فقالوا : ابنوا (له) بنيانا) ، قال ابن عباس : بنوا حائطا من
حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملأوه نارا وطرحوه فيها وذلك
هو قوله : (فَأَلْقُوهُ فِي
الْجَحِيمِ) وهي النار العظيمة . قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم ، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية (والمعنى في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان. ثم قال تعالى : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَسْفَلِينَ)) والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر
النار فصار هو الغالب عليهم (وَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً) أي شواء وهو أن يحرقوه (فَجَعَلْناهُمُ
الْأَسْفَلِينَ) المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم ، ولمّا
انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ) ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع
دين ربي ، وقوله: «سيهدين» أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام ، وهذا يدل
على أن الهداية لا تحصل إلّا من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلّة وإزاحة
الأعذار لأن ذلك كان حاصلا في الزمان والماضي ، قال مقاتل : فلما قدم الأرض
المقدسة سأل ربه الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ) أي هب لي ولدا صالحا ، لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان
قد جاء في الأخ في قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣].
قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ
يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ)(١١١)
(فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ) في كبره ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سنّ يوسف
__________________
بالحلم ، وأيّ حلم
أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)؟!.
قوله : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ) (معه) متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلا قال : مع (من) بلغ السعي؟ فقيل : مع أبيه ولا يجوز تعلقه «ببلغ» ؛ لأنه
يقتضي بلوغهما معا حدّ السعي ، ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدم
عليه ، فتعين ما تقدم. قال معناه الزمخشري ومن يتسع في الظرف يجوز تعلقه بالسّعي .
فصل
قال ابن عباس
وقتادة : معنى بلغ السعي أي المشي معه إلى الجبل ، قال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم
والمعنى أن ينصرف معه ويعينه في عمله ، قال الكلبي: يعني العمل لله. وهو قول الحسن ؛ ومقاتل وابن حبان وابن زيد قالوا : هو العبادة ، واختلفوا في سنه ، فقيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة ، وقيل : كان ابن سبع سنين.
قوله : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ) قال المفسرون : لما بشّر إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام
ـ بالولد قبل أن يولد له فقال : هو إذن لله ذبيح ، فقيل لإبراهيم : قد نذرت نذرا
فأوف بنذرك فلما أصبح قال يا بنيّ : إن أرى في المنام أنّي أذبحك ، وقيل : رأى في
ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح تروى
في ذلك من الصباح إلى الرّواح ، أمن الله أو من الشيطان؟ فلذا سمي يوم التروية ،
فلما رأى ذلك أيضا عرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة
الثالثة فهمّ بالنحر فسمي يوم النحر. وهو قول أكثر المفسرين. وهذا يدل على أنه رأى
في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة ، وعلى هذا فتقدير اللفظ أرى في المنام
ما يوجب أنّي أذبحك.
فصل
اختلفوا في الذبيح
، فقيل : إسحاق. وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ،
__________________
والعباد بن عبد
المطلب ، وكعب الأحبار ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، ومسروق ، وعكرمة والزهري ،
والسدي ، ومقاتل ، وهي رواية عكرمة ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس. وقالوا : وكانت
هذه القصة بالشام ، وقيل : إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وسعيد
بن المسيب ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد ، والكلبي ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب
القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح ويوسف بن (مهران) عن ابن عباس ، وكذا القولين رويا عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واحتجّ القائلون بأنه إسماعيل بقوله عليه (الصلاة و)
السلام : «أنا ابن الذّبيحين» وقال له أعرابي : يا ابن الذّبيحين فتبسم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فسئل عن ذلك فقال : «إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم
نذر إن سهل الله أمرها ليذبحن أحد ولده ، فخرج السّهم على عبد الله فمنعه أخواله
وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل» . والذبيح الثاني إسماعيل ونقل الأصمعيّ أنه قال : سألت أبا
عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي : أين عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو
الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة وقد وصف الله إسماعيل بالصبر دون إسحاق في
قوله : (وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الأنبياء : ٨٥]
وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضا بصدق الوعد فقال : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ
الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] لأنه
وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وقال قتادة : (فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف تقع البشارة المتقدمة؟! وقال الإمام أحمد : الصحيح أن
الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السّلف والخلف ، قال ابن عباس : وذهبت
اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود ، وروى ابن عباس أنه هبط عليه الكبش من بشير فذبح
وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فذبحه بمنى وقيل بالمقام ، وروي : أنه كان
وعلا. وقيل : كان تيسا من الأروى ، قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى
أحرق فاحترقا. وروى ابن عباس : أن الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة حتى وحش
وأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عثمان بن طلحة فقالت امرأة عثمان لم دعاك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ؟ قال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن
أريك أين نحرها فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي ، وهذا يدل على أن
الذبيح كان إسماعيل لأنه الذي كان مقيما بمكة ، وإسحاق لا يعلم أنه
__________________
كان قدمها في صغره
وهذا ظاهر القرآن لأنه ذكر قصة الذبيح ، ثم قال بعده : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) قال ابن كثير : من قال : إنه إسحاق فإنما أخذه ـ والله
أعلم ـ من كعب الأحبار أو من صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى
ينزل لأجله ظاهر الكتاب العزيز .
قوله : (ما ذا تَرى) يجوز أن تكون «ماذا» مركبة مغلّبا فيها الاستفهام فتكون
منصوبة وهي وما بعدها في محل نصب «بانظر» لأنها معلّقة له ، وأن تكون «ما» استفهامية و «ذا» موصولة فتكون مبتدأ
وخبرا. والجملة معلقة أيضا ، وأن تكون ماذا بمعنى الذي فيكون معمولا لانظر. وقرأ الأخوان تري بالضم والكسر ، والمفعولان محذوفان أي تريني إيّاه من صبرك واحتمالك . وباقي السبعة ترى ـ بفتحتين ـ من الرّأي. وقرأ الأعمش
والضحاك ترى بالضّمّ والفتح ، بمعنى : ما يخيّل إليك ويسنح لخاطرك .
قوله : (ما تُؤْمَرُ) يجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي ، والعائد مقدر ، أي تؤمره والأصل: تؤمر به ، ولكن حذف
الجار مطرد فلم يحذف العائد إلا وهو منصوب المحل ، فليس حذفه هنا كحذفه (في) قولك : جاء الذي مررت وأن تكون مصدرية ، قال الزمخشري : أو أمرك على إضافة المصدر للمفعول وتسمية
المأمور به أمرا . يعني بقوله المفعول أي الذي لم يسمّ فاعله ، إلّا أن في
تقدير المصدرية (بفعل) مبني للمفعول خلافا مشهورا .
__________________
قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ) لما تؤمر. إنما علق المشيئة لله تعالى على سبيل التبرك
والتيمن فإنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلّا
بتوفيق الله.
فصل
اختلف الناس في أنّ إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كان
مأمورا بهذا. وهذا الاختلاف يتفرع عليه مسألة أصولية وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم
قبل حضور وقت الامتثال ، فقال بعضهم : إنه يجوز ، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية
والحنفية : إنه لا يجوز فعلى الأول أنّ الله تعالى أمره بالذبح ، ثم إن الله تعالى
فسخ هذا التكليف قبل حضور وقته ، وعلى الثاني أن الله تعالى ما أمره بالذبح وإنما أمره
بمقدمات الذبح ، واحتج الأوّلون بقصة إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وقول
الولد لأبيه : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ). وقالت المعتزلة لا نسلم أنه أمر بذبح ولده بل إنما أمر
بمقدّمات الذبح وهي إضجاعه ، ووضع السكين على حلقه ، والعزم الصحيح في الإتيان
بذلك الفعل ، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به لقوله : (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) فدل على أنه تعالى إنما أمره بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح.
وأيضا فإن الذبح عبارة عن قطع الحلقوم ، فلعل إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قطع
الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءا أعاد الله تأليفه ولهذا السبب لم يحصل الموت. وأيضا
فإنه تعالى لو أمر شخصا معينا بإيقاع فعل معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع
ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فلو حصل النهي في عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين إما أن
يكون عالما بحال ذلك الفعل فيلزم أن يقال : إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن ، وإن
لم يكن عالما به لزم جهل الله (تعالى) وأنه محال ، والجواب عن الأول أنه تعالى
إنما أمره بالذّبح لظاهر الآية وأما قولهم كلما قطع إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام
جزءا أعاد الله تأليفه فهذا باطل لأن إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام لو أتى بكل
ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بكل ما
أمر به ، وأما قولهم : يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول : هذا بناء على أن
الله لا يأمر إلا بما يكون حسنا في ذاته ولا ينهى إلا عما يكون قبيحا في ذاته فذلك
مبني على تحسين العقل وتقبيحه. وهو باطل فإن سلّمنا ذلك فلم (لا) يجوز أن يكون الأمر بالشيء تارة حسنا لكون المأمور به حسنا
في ذلك الوقت لمصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسنا كما إذا أراد السيد
اختبار طاعة العبد فيقول له : افعل الفعل الفلانيّ في يوم الجمعة ويكون ذلك الفعل
شاقّا ويكون مقصود السيد ليس أن يأتي العبد بذلك الفعل بل أن يوطن العبد نفسه على
الانقياد
__________________
والطاعة ثم إن
السيد إذا علم منه توطين نفسه على الطاعة فقد يزيل (الألم عنه) بذلك التكليف فكذا ههنا.
فصل
احتجوا بهذه الآية
على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه ، لأنه تعالى لو أراد وقوعه لوقع الذبح
لا محالة.
فصل في الحكمة في
ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة
وذلك من وجوه :
الأول : أن هذا
التكليف في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولا في النوم حتي يصير ذلك
كالمفيد لورود هذا التكليف الشاقّ ، ثم يتأكد ذلك بأحوال اليقظة
لكيلا يهجم هذا التكليف الشاقّ على النفس دفعة واحدة بل على التدريج.
الثاني : أن الله
تعالى جعل رؤيا الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ حقا ، قال تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧] وقال
عن يوسف : (إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] وقول
إبراهيم : (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ). والمقصود من هذا تقوية الدلالة على كونهم صادقين فإذا
تظاهرت الحالتان على الصدق دل ذلك على نهاية كونهم محقين في كل الأحوال .
فصل
والحكمة في مشاورة
الابن في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله فيكون فيه قوة عين لإبراهيم حيث
يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحدّ العظيم في الصبر على أشد المكاره إلى هذه
الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدّنيا .
قوله : (فَلَمَّا أَسْلَما) في جوابها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه
محذوف أي ذادته الملائكة أو ظهر صبرهما ، أو أجزلنا لهما أجرهما ، وقدره بعضهم : بعد الرؤيا ؛ أي كان ما كان مما ينطق به
الحال والوصف مما لا يدرك كنهه ، ونقل ابن عطية: أن التقدير فلما أسلما أسلما وتلّه كقوله :
__________________
٤٢١٩ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي
قفاف عقنقل
|
أي فلما أجزنا
أجزنا وانتحى ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل . وفيه نظر من حيث اتخاذ الفعلين الجاريين مجرى الشّرط
والجواب ، إلا أن يقال : جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل
الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضا ، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير.
الثاني : أنه «وتلّه
للجبين» والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش .
والثالث : أنه : (وَنادَيْناهُ) والواو زائدة أيضا كقوله : (وَأَجْمَعُوا أَنْ
يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) [يوسف : ١٥] فنودي
من الجبل أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. تمّ الكلام هنا. ثم ابتدأ : إنّ كذلك (نجزي
المحسنين) وقرأ عليّ وعبد الله وابن عباس سلّما ، وقرىء : استسلما. «وتله» أي صرعه وأضجعه على شقّه ، وقيل : هو الرمي بقوة
وأصله من رمى به على التلّ وهو المكان المرتفع أو من التّليل وهو العنق ، أي رماه
على عنقه ، ثم قيل لكلّ إسقاط وإن لم يكن على تلّ ولا عنق. والتّلّ الرّيح الذي
يتلّ به ،
__________________
و «الجبين» ما
انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا ، وشذ جمعه على أجبن ، وقياسه في القلة أجبنة
كأرغفة وفي الكثرة جبن وجبنان كرغيف ورغف ورغفان .
فصل
المعنى سلم لأمر
الله ، وأسلم واستسلم بمعنى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها
سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله ، وعن قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه ،
وهذا نفسه ، وقوله : «وتلّه للجبين» أي صرعه على شقّه فوقع أحد
جبينيه للأرض وللوجه جبينان والجبهة بينهما. قال ابن الأعرابي : التّليل والمتلول
المصروع والمتلّ الذي يتلّ به أي يصرع ، والمعنى أنه صرعه على جبينه. وقال مقاتل : كبه على جبهته
وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة (وَنادَيْناهُ أَنْ يا
إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).
فإن قيل : لم قال
: صدّقت الرؤيا وكان قد رأى الذي لم يذبح؟ قيل : جعله مصدقا لأنه قد أتى بما أمكنه
والمطلوب إسلامهما لأمر الله وقد فعلا. وقيل : قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير
إراقة دم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال : قد صدقت الرؤيا ، قال
المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلّفه هذا
التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد
لا جرم قال الله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) ، وقوله : (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنا كما عفونا عن ذبح
ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده
(إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الاختبار البيّن الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة
الصعوبة التي لا محنة أصعب منها ، وقال مقاتل : البلاء ههنا النّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش ، وقوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الذّبح مصدر ذبحت والذّبح أيضا ما يذبح. وهو المراد في هذه
الآية . وسمي عظيما لسمنه وعظمه ، وقال سعيد بن جبير : حق
__________________
له أن يكون عظيما
لعظم قدره حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم . وتقدم الكلام على نظير بقيّة القصة.
قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)
قوله : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ). «نبيا» نصب على
الحال. وهي حال مقدرة. قال أبو البقاء : إن كان الذّبيح إسحاق فيظهر كونها مقدرة
وإن كان إسماعيل هو الذبيح وكانت هذه البشارة بشارة بولادة إسحاق فقد جعل الزمخشري
ذلك محل سؤال قال : فإن قلت : فرق بين هذا وبين قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) وذلك أن الدخول موجود مع وجود الدّخول والخلود (غير) موجود
معهما فقدرت الخلود فكان مستقيما وليس كذلك المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة
وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لأن الحال حلية لا يقوم إلا في المحلى. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين
وجد لم توجد النبوة أيضا بوجوده بل تراخت عنه مدة طويلة فكيف نجعل «نبيا» حالا
مقدرة والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به؟! فالخلود وإن لم يكن
صفتهم عند دخول الجنة فنقدرها صفتهم لأن المعنى مقدرين الخلود وليس كذلك النبوة
فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق قلت
: هذا سؤال دقيق المسلك . والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف وذلك قوله :
وبشّرناه بوجود إسحاق نبيا أي بأن يوجد مقدّرة نبوته ، والعالم في الحال الوجود لا
فعل البشارة ، وذلك يرجع نظير قوله تعالى : (فَادْخُلُوها
خالِدِينَ) انتهى . وهو كلام حسن.
قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) يجوز أن يكون صفة «لنبيّا» وأن يكون حالا من الضمير في «نبيّا»
فتكون حالا متداخلة ، ويجوز أن تكون حالا ثانية ، قال الزمخشري : وورودها على
سبيل الثّناء والتّقريظ لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصّالحين .
قوله : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ) يعني على إبراهيم في أولاده «وعلى إسحاق» بأن أخرج جميع
بني إسرائيل من صلبه .
__________________
وقيل : هو الثناء
الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة. (وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) مؤمن (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي كافر «مبين» ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من
كثرة فضائل الأب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود ، ودخل تحت قوله : «محسن» الأنبياء والمؤمنون ، وتحت قوله
: (وَظالِمٌ) الكافر والفاسق.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ
(١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ
فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٢٢)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوة (وَنَجَّيْناهُما
وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم.
(قوله : (وَنَصَرْناهُمْ)) قيل : الضمير يعود على «موسى وهارون وقومهما» ، وقيل :
عائد على الاثنين بلفظ الجمع تعظيما كقوله :
٤٢٢٠ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم
|
|
..........
|
(يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ).
قوله : (فَكانُوا هُمُ) يجوز في «هم» أن تكون تأكيدا ، وأن تكون بدلا ، وأن تكون
فصلا ، وهو الأظهر .
فصل
المعنى : فكانوا
هم الغالبين على القبط في كلّ الأحوال ، أما في أول الأمر فبظهور الحجة ، وأما في
آخر الأمر فبالدولة والرفعة (وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) المستنير المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح
الدين والدنيا كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤]. (وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) دللناهما
__________________
على طريق الحق
عقلا وسمعا. (وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) تقدم الكلام عليه في آخر القصة.
قوله تعالى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
(١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥)
اللهَ
رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩)
سَلامٌ
عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)
قوله : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قرأ العامة إلياس بهمزة مكسورة همزة قطع ، وابن ذكوان
بوصلها ، ولم ينقلها عنه أبو حيان بل نقلها عن جماعة غيره ، ووجه القراءتين أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعت
همزته تارة ووصلتها أخرى ، وقالوا فيه إلياسين كجبرائين ، وقيل : تحتمل قراءة الوصل أن يكون اسمه ياسين ثم دخلت عليه «أل» المعرفة
كما دخلت على «يسع» ؛ وقد تقدم. وإلياس هذا قيل : ابن (إل) ياسين المذكور بعد ولد هارون أخي موسى ، وقال ابن عباس هو ابن عم اليسع ، وقال ابن إسحاق : هو الياس بن بشير بن فنحاص بن العيران
بن هارون بن عمران ، وروي عن عبد الله بن مسعود قال : إلياس هو إدريس وفي مصحفه «وإن إدريس لمن المرسلين» وبها قرأ عبد الله
والأعمش وابن وثاب ، وهذا قول عكرمة ، وقرىء إدراس (يل) وإبراهيم وإبراهام ، وفي مصحف أبي قراءته وإن أيليس بهمزة
مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم لام مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ساكنة ثم
سين مفتوحة مهملة .
قوله : (إِذْ قالَ) ظرف لقوله (لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) والتقدير : اذكر يا محمد لقومك إذ قال
__________________
لقومه : ألا
تتّقون أي لا تخافون الله. ولما خوفهم على سبيل الاحتمال ذكر ما
هو السبب لذلك التخويف فقال : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).
قوله : «بعلا»
القراء على تنوينه منصوبا وهو الربّ بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلا منهم ينشد ضالّة
فقال آخر : أنا بعلها ، فقال : الله أكبر وتلا الآية. ويقال : من بعل هذه الدار؟
أي من ربّها؟ وسمي الزوج بعلا لهذا المعنى ، قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] ،
وقال : وَهذا
بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] فعلى
هذا التقدير : المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله تعالى وقيل : هو علم
لصنم بعينه ، وقيل : هو علم لامرأة بعينها أتتهم بضلال فاتبعوها ، ويؤيده قراءة من قرأ : «بعلاء» بزنة حمراء .
قوله : (وَتَذَرُونَ) يجوز أن يكون حالا ، على إضمار مبتدأ ، وأن يكون عطفا على
«تدعون» فيكون داخلا في حيّز الإنكار .
قوله : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ) قرأ الأخوان بنصب الثلاثة من ثلاثة أوجه : النصب على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا : إنّ إضافة «أفعل» إضافة محضة ، والباقون بالرفع إمّا على أنه خبر ابتداء مضمر أي هو
الله ، أو على أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر ، روي عن حمزة أنه كان إذا وصل نصب ، وإذا وقف رفع. وهو
حسن جدا.
وفيه جمع بين
الرّوايتين.
__________________
فصل
قال المفسرون :
لما قبض الله حزقيل ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ عظمت الأحداث في بني إسرائيل
وظهر فيهم الفساد والشك وعبدوا الأوثان من دون الله ـ عزوجل ـ فبعث الله إليهم إلياس نبيّا ، وكانت الأنبياء من بني
إسرائيل ، يبعثون من بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا
متفرقين في أرض الشام ، وسبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل
وقسمها بينهم فأحل سبطا منهم ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم إلياس
فبعثه الله إليهم نبيا وعليهم يومئذ ملك يقال له أحب قد أضلّ قومه وأجبرهم على
عبادة الأصنام وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له بعل وكان طوله عشرين ذراعا وله
أربعة أوجه فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ـ عزوجل ـ وهم لا يسمعون إلا ما كان من الملك فإنه صدقه وآمن به ثم
ذكروا قصة طويلة وذكروا في آخرها أن إلياس رفع إلى السماء وكسناه الله الرّيش وقطع
عنه لذّة المطعم والمشرب فكان إنسيّا ملكيا أرضيا سمائيا ، قال ابن أبي دؤاد : إنّ الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان
الموسم في كل عام. وقيل : إنّ إلياس وكّل بالفيافي والخضر وكّل بالعمار. ثمّ قال
تعالى : (فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي لمحضرون النار غدا (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) من قومه الذين أوتوا بالتوحيد الخالص فإنّهم محضرون (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).
قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء من فاعل «فكذبوه» وفيه دلالة على أن في قومه من لم
يكذبه فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مستثنين من ضمير «لمحضرون» ؛ لأنه يلزم أن
يكونوا مندرجين فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين. وهو بين
الفساد. (و) لا يقال : هو مستثنى منه استثناء منقطعا ؛ لأنه يصير المعنى لكن عباد
الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضروا. ولا حاجة إلى هذا بوجه إذ به يفسد نظم
الكلام .
قوله تعالى : (عَلى إِلْ ياسِينَ) قرأ نافع وابن عامر (إِلْ ياسِينَ) بإضافة «آل» ـ بمعنى الأهل ـ إلى ياسين والباقون بكسر
الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين ؛ كأنه جمع
__________________
إلياس جمع سلامة ، فأما الأولى فإنه أراد بالآل إلياس ولد ياسين كما تقدم وأصحابه ، وقيل
: المراد بياسين هذا إلياس المتقدم فيكون له اسمان مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل
وميكائين ، وآله : رهطه وقومه المؤمنون ، وقيل : المراد بياسين ، محمد بن عبد الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقيل : المراد بياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام على من
آمن بكتاب الله الذي هو ياسين.
وأما القراءة
الثانية ، فقيل : هي جمع إلياس المتقدم وجمع باعتبار أصحابه (ك) المهالبة
والأشاعثة في المهلّب وبنيه والأشعث وقومه. وهو في الأصل جمع المنسوب إلى إلياس
والأصل إلياسي كأشعري ، ثم استثقل تضعيفهما فحذفت إحدى يائي النسب ، فلما
جمع جمع سلامة التقى ساكنان إحدى اليائين (و) ياء الجمع فحذفت أولاهما لالتقاء الساكنين فصار الياسين
كما ترى ومثله الأشعرون والخبيبون ، قال :
٤٢٢١ ـ قدني من نصر الخبيبين قد (ي)
|
|
..........
|
وقد تقدم طرف من
هذا آخر الشعراء عند قوله : «الأعجمين» إلّا أنّ الزمخشري قد رد هذا بأنه لو كان على ما ذكر لوجب
تعريفه بأل ، فكان يقال على الإلياسين .
__________________
قال شهاب الدين :
لأنه متى جمع العلم جمع سلامة أو ثني لزمته الألف واللام لأنه تزول علميته فيقال :
الزّيدان ، والزّيدون ، والزّينبات ، ولا يلتفت إلى قولهم : جماديان وعمايتان علمي
شهرين ، وجبلين لندورهما . وقرأ الحسن وأبو رجاء على الياسين بوصل الهمزة لأنه يجمع الياسين وقومه المنسوبين إليه
بالطريق المذكورة. وهذه واضحة لوجود «ال» المعرفة كالزّيدين. وقرأ عبد الله على
إدراسين لأنه قرأ في الأول : وإن إدريس ، وقرأ أبي علي إبليسين لأنه قرأ في الأول وإن إبليس كما تقدم عنه ، وهاتان
القراءتان تدلّان على أنّ «الياسين» جمع إلياس.
قوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِلاَّ
عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ
مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)(١٤٧)
قوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) تقدم الكلام على نظيره ، وقوله : «مصبحين» حال ، وهو من أصبح التامة أي داخلين في الصّباح ، ومنه :
٤٢٢٢ ـ إذا سمعت بسرى القي
|
|
ن فاعلم بأنّه
مصبح
|
أي مقيم في الصباح ، وتقدم ذلك في سورة الروم ، و «باللّيل» عطف
على الجارّ قبلها ، أي ملتبسين بالليل ، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام
، والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى
عن هذين الوقتين ثم قال : (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ) أي ليس فيكم عقول تعتبرون بها قوله : (وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قرىء بضم النون وكسرها ، قاله الزمخشري ، قال ابن الخطيب : وإنّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه
لم يصبر على أذى قومه ، قال
__________________
المفسرون : بعث
الله تعالى يونس عليه (الصلاة و) السلام إلى أرض نينوى من أرض الموصل فدعاهم إلى
الله ـ عزوجل ـ فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من
بين أظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سيأتي .
قوله : (إِذْ أَبَقَ) (ظرف للمرسلين ، أي هو من المرسلين ، حتى في هذه الحالة و «أبق» هرب يقال
: أبق العبد يأبق إباقا فهو آبق و) الجمع إباق كضراب ، وفيه لغة ثانية أبق بالكسر يأبق بالفتح وتأبّق الرجل
تشبه به في الاستتار ، وقول الشاعر :
٤٢٢٣ ـ ..........
|
|
(و) قد أحكمت حكمات القدّ والأبقا
|
قيل : هو القتب. (قوله)
: «فساهم» أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقتراع ، وأصله (أن) يخرج السهم على من غلب (فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) أي المغلوبين ، يقال أدحض الله حجّته فدحضت أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدّحض وهو الزّلق
يقال : دحضت رجل البعير إذا زلقت.
فصل
قال ابن عباس ووهب
: كان يونس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرّد منهم فقصد البحر فركب
السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون : ههنا عبد أبق من سيده فاقترعوا فوقعت
القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثا فوقعت على يونس فقال يونس : أنا الآبق وزجّ نفسه
في الماء .
قوله : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) المليم الذي أتى بما يلام عليه . قال :
__________________
٤٢٢٤ ـ وكم من مليم لم يصب بملامة
|
|
ومشبع بالذّنب
ليس له ذنب
|
يقال : ألام فلان
أي فعل ما يلام عليه ، وقوله (وَهُوَ مُلِيمٌ) حال. وقرىء «مليم» بفتح الميم من لام يلوم وهي شاذة جدا ،
إذ كان قياسها «ملوم» ؛ لأنها من ذوات الواو كمقول ومصوب . قيل : ولكن أخذت من ليم على كذا مبنيا للمفعول ومثله في
ذلك : شيب الشيء فهو مشيب ودعي فهو مدعيّ . والقياس مشوب ومدعوّ لأنهما من يشوب ويدعو.
فصل
روى ابن عباس أن يونس ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كان يسكن مع
قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي
إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم (أ) وأصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا
أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيّ من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل
لهم يبعث إلى بني إسرائيل نبيا فاختار يونس ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لقوته
وأمانته ، قال يونس : الله أمرك بهذا؟ قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قويا أمينا وأنت
كذلك فقال يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه؟ فألح الملك عليه
فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم فوجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما أشرف على لجّة البحر أشرفوا على الغرق. فقال الملاحون إن فيكم
عاصيا وإلّا لم يحصل في السفينة ما نراه . وقال التجار قد جرّبنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج
عليه نغرقه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج من بينهم يونس فقال يا هؤلاء : أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى
بنفسه فالتقمه الحوت وأوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظما ولا تقطع له وصلا
ثم إن السمكة خرجت
__________________
من نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى (بحر) البطائح ، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نصيبين بالعراء ،
وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم فأنبت الله عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها
ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنّ الأرض (ة) أكلتها فحزن يونس لذلك حزنا فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه
الشجرة من الشمس والرّيح وأمصّ من ثمرها وقد سقطت فقيل (له) : يا يونس تحزن (على شجرة) أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو
يزيدون تركتهم فانطلق إليهم.
قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ) من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كثير الذّكر ، قال ابن عباس
: من المصلين وقال وهب : من العابدين. وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت
ولكن قدّم عملا صالحا. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
قوله : (فِي بَطْنِهِ) الظاهر أنه متعلق «بلبث». وقيل : حال أي مستقر . وكان بطنه قبرا له إلى يوم القيامة ، قال الحسن : لم يلبث
إلا قليلا ثم أخرج من بطن الحوت. وقال بعضهم : التقمه بكرة ولفظه عشيا وقال مقاتل
بن حيّان ثلاثة أيام ، وعن عطاء : سبعة أيام ، وعن الضحاك : عشرون يوما. وقيل :
شهر ، وقيل : أربعين يوما .
قال ابن الخطيب :
ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير . وروى أبو بردة عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : سبّح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه
فقالوا ربنا إنا نسمع صوتا بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن
الحوت في البحر ، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة
عمل صالح قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل. وروي أن يونس لما ابتلعه
الحوت ابتلع الحوت حوت آخر أكبر منه فلما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك
جوارحه فتحركت فإذا هو حيّ فخرّ لله ساجدا وقال : يا رب اتخذت لك مسجدا لم يعبدك
أحد في مثله.
قوله : «فنبذناه»
أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل
العبد مخلوق لله تعالى . وقوله : «بالعراء» أي في العراء نحو : زيد بمكّة .
__________________
والعراء : الأرض
الواسعة التي لا نبات بها ولا معلم اشتقاقا من العري وهو عدم السّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك
لعدم استتارها بشيء . والعرى بالقصر الناحية ومنه اعتراه أي قصد عراه. وأما
الممدود فهو كما تقدم الأرض الفيحاء قال :
٤٢٢٥ ـ ورفعت رجلا لا أخاف عثارها
|
|
ونبذت بالمتن
العراء ثيابي
|
قوله : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي له ، وقيل : عنده (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) اليقطين (ي) فعيل من قطن بالمكان إذا أقام فيه لا يبرح . قال المبرد والزجاج : اليقطين كل ما لم يكن له ساق من عود
كالقثّاء والقرع والبطّيخ والحنظل وهو قوله الحسن و (قتادة) ، ومقاتل.
قال البغوي :
المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين . وروى الفراء أنه ورق القرع عن ابن عباس.
فقال : «ومن جعل
ورق القرع من بين الشجر يقطينا كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين».
واعلم أن في قوله
: «شجرة» ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود بل الصحيح أنها أعم ، ولذلك بيّنت بقوله : (مِنْ يَقْطِينٍ) ، وأما قوله : (وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ) [الرحمن : ٦] فلا
دليل فيه لأنه استعمال اللفظ العام في أحد مدلولاته.
وقيل : بل أنبت
الله اليقطين الخاص على ساق معجزة له ، فجاء على أصله . قال الواحدي: الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون :
__________________
أحدهما : أن هذا
اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله ، والآخر : أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل ، ولو
كان منبسطا على الأرض لم يمكن أن يستظل به . وقال مقاتل بن حيّان : كان يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها
بكرة وعشيّا حتى اشتد لحمه ونبت شعره.
وقال ههنا : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) وقال في موضع آخر : (لَوْ لا أَنْ
تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم : ٤٩]
ولكنه تداركه النعمة فنبذه وهو غير مذموم.
فصل
قال شهاب الدين :
ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت : يوعيد ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء
وكسرة كيعد مضارع «وعد» لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة ، وهذه مما يمتحن بها أهل
التصريف بعضهم بعضا .
قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ) يحتمل أن يكون المراد : «وأرسلناه قبل ملتقمه» ؛ وعلى هذا
فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع ويحتمل أن
يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام قال ابن عباس : كان إرسال يونس بعد ما نبذه
الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول ويجوز أن
يكون أرسل إلى الأولين بشريعة فآمنوابها.
قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) في «أو» هذه سبعة أوجه تقدم تحقيقها أول البقرة عند قوله
تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) [البقرة : ١٩]
فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرّائي يشك عند رؤيتهم ، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر
أو بهذا القدر وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا ، والإضراب ومعنى الواو واضحان.
__________________
قوله : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) قال قتادة أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل الالتقام
كما تقدم ، وقيل : بعده ، وقيل : إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على «أو». قال ابن
عباس : إنها بمعنى الواو ، وقال مقاتل والكلبي : بمعنى بل ، وقال الزجاج : على
الأصل بالنسبة للمخاطبين . واختلفوا في مبلغ الزيادة ، قال ابن عباس ومقاتل : كانوا
عشرين ألفا. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقال الحسن : بضعا وثلاثين ألفا ، وقال سعيد بن جبير :
تسعين ألفا فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب فآمنوا فمتعناهم
إلى حين انقضاء آجالهم .
قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ
وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١)
وَلَدَ
اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ)(١٦٠)
قوله : «فاستفتهم»
قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت . قال أبو حيان : وإذا كان قد عدوا الفصل بنحو : كل لحما ،
واضرب زيدا أو خبزا من أقبح التّر (ا) كيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة ؟ قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : إن الفصل وإن كثر بين
الجمل المتعاطفة مغتفر ، وأما المثال الذي ذكره فمن قبيل المفردات ، ألا ترى كيف
عطفت خبزا على لحما ، فعلى الأول أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء ـ عليهم (الصلاة
و) السلام ـ عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها ومن جملة أقوالهم الباطلة
أنهم أثبتوا الأولاد لله تعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال
«فاستفتهم» باستفتاء قريش عن وجه الإنكار للبعث أولا ثم ساق الكلام موصولا بعضه
ببعض إلى أن أمرهم بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولهم البنين؟
ونقل الواحديّ عن
المفسرين أنهم قالوا : إنّ قريشا وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح ،
قالوا الملائكة بنات الله . وهذا الكلام يشتمل على أمرين :
__________________
أحدهما : إثبات
البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه
المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق؟
والثاني : إثبات
أن الملائكة إناث ، وهذا أيضا باطل لأن طريق العلم إما الحسّ وإما الخبر وإما
النظر أما الحسّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من
قوله : (أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ). وأما الخبر فمفقود أيضا لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم
كونه صدقا قطعا وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم
دليل وهذا هو المراد من قولهم : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وأما النظر فمفقود من وجهين :
الأول : أن دليل
العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء
البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأخسّ
إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبرا في هذا الباب كان قولكم باطلا.
الثاني : أن
يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم
فإذا لم يجدوا دليلا ظهر بطلان مذهبهم ، وهذا هو المراد بقوله : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فقوله : «فاستفتهم» فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ
الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) وهذه جملة حالية من الملائكة ، والرابط الواو ، وهي هنا واجبة لعدم
رابط غيره قاله شهاب الدين ؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين .
قوله : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) العامة على «ولد» فعلا ماضيا مسندا للجلالة ، أي أتى
بالولد ؛ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، وقرىء : ولد الله بإضافة الولد إليه ، أي
يقولون الملائكة ولده ، فحذف المبتدأ للعلم به ، وأبقى خبره ، والولد فعل بمعنى مفعول
كالقبض فلذلك يقع خبرا عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيرا وتأنيثا ، (تقول : هذه) ولدي وهم ولدي .
قوله : «أصطفى»
العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع ، وقد حذف
معها همزة الوصل استغناء عنها. وقرأ نافع في رواية وأبو جعفر
__________________
وشيبة والأعمش
بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجا . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على
نية الاستفهام ، وإنما حذف للعلم به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
٤٢٢٦ ـ قالوا : تحبّها قلت : بهرا
|
|
عدد الرّمل
والحصى والتّراب
|
أي أتحبها.
والثاني : أن هذه
الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي : «ولد الله» أي تقولون كذا وتقولون
اصطفى هذا الجنس على هذا الجنس .
(قال الزمخشري : وقد قرأ بها حمزة والأعمش. وهذه القراءة وإن كان هذا
محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها) أن هذه الجملة قد اكتنفها الإنكار من جانبيها وذلك قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ما لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ) فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين ؛ لأن لها مناسبة ظاهرة مع قولهم : «ولد الله» وأما قولهم : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فهي جملة اعتراض بين مقالة الكفرة جاءت للتشديد والتأكيد
في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم ، ونقل أبو البقاء أنه قرىء «آصطفى» بالمد قال : وهو بعيد
جدا .
قوله : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) جملتان استفهاميتان ليس لإحداهما تعلق بالأخرى من حيث
الإعراب استفهم أولا عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار ، وثانيا استفهام تعجب من
حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم . والمعنى : ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ
مُبِينٌ) برهان بين على أن الله ولد (فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ) الذي لكم فيه حجة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم.
__________________
قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَباً) قال مجاهد وقتادة : أراد بالجنة الملائكة سموا جنة
لاجتنانهم عن الأبصار .
وقال ابن عباس :
جنس من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس ، وقيل : إنهم خزّان الجنة ، قال ابن الخطيب : وهذا القول عندي مشكل ؛ لأنه تعالى
أبطل قولهم : الملائكة بنات الله ، ثم عطف عليه قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَباً) والعطف يقتضي كون المعطوف مقابلا بمعطوف عليه فوجب أن يكون
المراد من الآية غير ما تقدم
وقال مجاهد : قالت
كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق : فمن أمهاتهم؟ قالوا :
سروات الجنّ وهذا أيضا بعد لأن المصاهرة لا تسمّى نسبا .
قال ابن الخطيب :
وقد روينا في تفسير قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠]
أن قوما من الزّنادقة يقولون : إن الله وإبليس أخوان فالله هو الحرّ الكريم وإبليس
هو الأخ الشديد ، فقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد منه هذا المذهب. وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل.
وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ، ثم قال : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار
ومعذبون. وقيل : المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب. فعلى (القول) الأول : الضمير عائد إلى قائل هذا القول وعلى (القول)
الثّاني عائد إلى نفس الجنّة ، ثم إنه تعالى نزّه نفسه عما قالوا من الكذب فقال (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) في هذا الاستثناء وجوه :
أحدهما : أنه
مستثنى منقطع والمستثنى منه إما فاعل «جعلوا» أي جعلوا بينه وبين الجنة نسبا إلى عباد الله.
الثاني : أنه فاعل
«يصفون» أي لكن عباد الله يصفونه بما يليق به تعالى.
الثالث : أنه ضمير
«محضرون» أي لكن عباد الله ناجون. وعلى هذا فتكون
__________________
جملة التسبيح
معترضة . وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناء متصلا
لأنه قال : مستثنى من «جعلوا» أو «محضرون». ويجوز أن يكون منفصلا . وظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا
منفصل. وليس ببعيد كأنه قيل : وجعل الناس ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل
بين الله وبين الجنة نسبا فهو عند الله مخلص من الشّرك .
قوله تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ
اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١٧٠)
قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) في المعطوف وجهان :
أحدهما : أنه
معطوف على اسم «إنّ» «وما» نافية و «أنتم» اسمها أو مبتدأ . و «أنتم» فيه تغليب المخاطب على الغائب إذ الأصل فإنّكم
ومعبودكم ما أنتم وهو ؛ فغلب الخطاب (و) «عليه» متعلق
بقوله «بفاتنين» والضمير عائد على (ما تَعْبُدُونَ) بتقدير حذف مضاف وضمن «فاتنين» معنى حاملين على عبادته إلا
الذي سبق في علمه أنّه من أهل صلي الجحيم و «من» مفعول بفاتنين. والاستثناء مفرغ .
الثاني : أنه مفعول معه وعلى هذا فيحسن السكوت على تعبدون كما
يحسن في قولك : إنّ كلّ رجل وضيعته . (وحكى الكسائي : إنّ كلّ ثوب وثمنه ، والمعنى إنكم مع معبودكم مقرنون)
كما تقدر ذلك في كل رجل وضيعته مقترنان . وقوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
بِفاتِنِينَ) مستأنف أي ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين أو بحاملين على
الفتنة ، «إلا من هو ضال» مثلكم ، قاله الزمخشري ، إلا أن أبا البقاء ضعف الثاني وتابعه أبو
__________________
حيان في تضعيفه
لعدم تبادره (إلى) الفهم ، قال شهاب الدين : الظاهر أنه معطوف واستئناف (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) غير واضح والحق أحق أن يتبع .
وجوز الزمخشري أن
يعود الضمير في «عليه» على الله. قال : فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟.
قلت : يفسدونهم
عليه بإغوائهم من قولك : فتن فلان على امرأته كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه ، و (مَنْ هُوَ) يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة . وقرأ العامة صال الجحيم بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت
لامه لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ «من» فأفرد «هو».
وقرأ الحسن وابن
أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها فيما نقله الهذليّ عنهما ، و (ابن عطية) عن الحسن (وقرأ بضمها مع عدم واو (بعدها) فيما نقل ابن خالويه عنهما) وعن الحسن فقط فيما نقله الزمخشري ، وأبو الفضل . فأما مع الواو فإنه جمع سلامة بالواو والنون ويكون قد حمل
على لفظ «من» أولا فأفرد في قوله : «هو» وعلى معناها ثانيا فجمع في قوله : «صالو»
وحذفت النون للإضافة ومما حمل فيه على اللفظ والمعنى في جملة واحدة وهي صلة
الموصول قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ كانَ
هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١]
فأفرد في «كان» وجمع في «هودا». ومثله قوله :
٤٢٢٧ ـ وأيقظ من كان منكم نياما
__________________
وأما مع عدم الواو
فيحتمل أن يكون جمعا (أيضا) وإنما حذفت الواو خطّا كما حذفت لفظا ، وكثيرا ما يفعلون هذا يسقطون في الخطّ ما يسقط في اللفظ
، ومنه : (يَقُصُّ الْحَقَ) [الأنعام : ٥٧] ،
في قراءة من قرأ بالضاد المعجمة ورسم بغير ياء ، وكذلك : (وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ) [المائدة : ٣].
ويحتمل أن يكون مفردا وحقه على هذا كسر اللام فقط لأنه عين منقوص وعين المنقوص
مكسورة أبدا وحذفت اللام ـ وهي الياء ـ لالتقاء الساكنين نحو : هذا قاض البلد ، وقد ذكروا فيه توجيهين :
أحدهما : أنه
مقلوب إذ الأصل صالي ثم صائل قدّموا اللام إلى موضع العين ، فوقع الإعراب على
العين ثم حذفت لام الكلمة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى ووزنه على هذا فاع ، فيقال
على هذا : جاء صال ورأيت صالا ، ومررت بصال فيصير في اللفظ كقولك : هذا باب ورأيت
بابا ، ومررت بباب ، ونظيره في مجرد القلب ، شاك ولاث في شائك ولائث ، ولكن
شائك ولائث قبل القلب صحيحان فصارا به معتلين منقوصين بخلاف صالي فإنه قبل القلب
كان معتلا منقوصا فصار به صحيحا.
والثاني : أن
اللام حذفت استثقالا من غير قلب ، وهذا عندي أسهل مما قبله وقد رأيناهم يتناسون اللام المحذوفة ويجعلون
الإعراب على العين ، وقد قرىء : (وَلَهُ الْجَوارِ) [الرحمن : ٢٤]
برفع الراء. (وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) برفع النون تشبيها بجناح وجانّ ، وقالوا : ما باليت به
بالة ، والأصل بالية ، كعافية . وقد تقدم طرف من هذا عند قوله : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) فيمن قرأه برفع الشين .
__________________
فصل
قال المفسرون :
المعنى «فإنكم» تقولون لأهل مكة (وَما تَعْبُدُونَ) من الأصنام (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ما تعبدون «بفاتنين» بمضلّين أحدا إلا من هو صال الجحيم أي
من قدّر الله أنه سيدخل النار ، ومن سبق له في علم الله الشقاوة ، واعلم أنه لما
ذكر الدلائل على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون
على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار. وقد
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر
قضاء الله وقدره.
قوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) فيه وجهان :
أحدهما : أن «منا»
صفة لموصوف محذوف فهو مبتدأ والخبر الجملة من قوله : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) تقديره : ما أحد منّا إلّا له مقام ، وحذف المبتدأ مع «من» جيّد فصيح.
والثاني : أن
المبتدأ محذوف أيضا و (إِلَّا لَهُ مَقامٌ) صفة حذف موصوفها والخبر على هذا هو الجار المتقدم والتقدير
: «وما منا أحد إلا له مقام» . قال الزمخشري : حذف الموصوف وأقام الصّفة مقامه كقوله :
٤٢٢٨ ـ أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا
|
|
..........
|
وقوله :
٤٢٢٩ ـ يرمي بكفّي كان من أرمى البشر
ورده أبو حيان
فقال : «ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، لأن
__________________
المحذوف مبتدأ و (إِلَّا لَهُ مَقامٌ) خبره ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : «وما منا أحد» ، وقوله
: (إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) محط الفائدة وإن تخيل أن (لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) في موضع الصفة فقد نصّوا على أنّ «إلّا» لا تكون صفة إذا
حذف موصوفها وأنها فارقت «غيرا» إذا كانت صفة في ذلك لتمكّن «غير» في الوصف وعدم تمكن «إلّا» فيه ؛ وجعل ذلك كقوله : «أنا ابن جلا» أي
أنا ابن رجل جلا ، و «بكفّي كان» أي رجل كان فقد عده النّحويّون من أقبح الضرائر ،
حيث حذف الموصوف والصفة جملة لم يتقدمها من ، بخلاف قوله :
٤٢٣٠ ـ «منّا ظعن ومنّا أقام»
يريدون : منّا
فريق ظعن ، ومنا فريق أقام ، وقد تقدم نحو من هذا في النّساء عند قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النساء : ١٥٩].
وهذا الكلام وما
بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة ، وقيل : من كلام الرّسول صلىاللهعليهوسلم .
فصل
قال المفسرون :
يقول جبريل للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم» أي ما منا
ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه . قال ابن عباس : «ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك
يصلي أو يسبّح» ، وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «أطّت السّماء وحقّ
لها أن تئطّ ، والّذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلّا وفيه ملك واضع
جبهته ساجد لله» . وقال السّدّيّ : إلّا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة .
قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) مفعول «الصافون والمسبحون» يجوز أن يكون مرادا أي الصافون
أقدامنا وأجنحتنا ، والمسبّحون الله تعالى ، وأن لا يراد البتة أي نحن من أهل هذا
الفعل .
__________________
فعلى الأول يفيد
الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وذلك يدل على أنّ طاعات
البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعدم حتى يصحّ هذا الحصر .
قال ابن الخطيب :
وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال : البشر أقرب درجة من الملك فضلا عن أن يقال : هم
أفضل منه أم لا؟! .
قال قتادة : قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) هم الملائكة صفّوا أقدامهم ، وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخبر جبريل للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين
كما زعمت الكفار ، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال : (وَإِنْ كانُوا) أي وقد كانوا : يعني أهل مكة «ليقولون» لام التأكيد (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ
الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من كتب الأولين (لَكُنَّا عِبادَ
اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا ، ثم جاءهم الذكر الذي
هو سيّد الأذكار وهو القرآن ، (فَكَفَرُوا بِهِ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
وَتَوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ
يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٢)
قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) وهي قوله : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١]
لما هدد الكفار بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ) والنّصرة والغلبة قد تكون بالحجّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام
والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب
ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل بعض الأنبياء وهزم كثير من المؤمنين .
قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) تفسير للكلمة فيجوز أن لا يكون لها محلّ من
__________________
الإعراب ، ويجوز
أن تكون خبر مبتدأ مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك
لو صرحت بالفعل قبلها حاكيا للجملة بعده كان صحيحا كأنك قلت : عنيت هذا اللفظ كما تقول : كتبت زيد قائم ، وإنّ زيدا لقائم . وقرأ الضحاك : «كلماتنا» جمعا .
قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم (حَتَّى حِينٍ) قال ابن عباس : يعني الموت ، وقال مجاهد : يوم بدر ، وقال
السدي : حتى يأمرك الله بالقتال ، وقيل : إلى أن يأتيهم عذاب الله ، وقيل: إلى فتح
مكة .
قال مقاتل بن حيان
: نسختها آية القتال «وأبصرهم» إذا نزل
بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ذلك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في
الآخرة فقالوا : متى هذا العذاب؟ فقال تعالى : (أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ) أي إن ذلك الاستعجال جهل لأن لكلّ شيء من أفعال الله تعالى
وقتا معيّنا لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) العامة على نزل مبنيا للفاعل ، وعبد الله مبنيا للمفعول ، والجارّ قائم مقام فاعله.
والساحة الفناء
الخالي من الأبنية وجمعها سوح فألفها عن واو فيصغّر على سويحة قال الشاعر :
٤٢٣١ ـ فكان سيّان أن لا يسرحوا نعما
|
|
أو يسرحوه بها
واغبرّت السّوح
|
وبهذا يتبين ضعف
قول الراغب : إنها من ذوات الياء حيث عدها في مادة سيح ، ثم قال : الساحة المكان
الواسع ومنه : ساحة الدار. والسائح الماء الجاري في الساحة ،
__________________
وساح فلان في
الأرض مرّ مرّ السائح. ورجل سائح وسيّاح انتهى. ويحتمل أن يكون لها مادّتان لكن كان ينبغي أن يذكر
ما هي الأشهر أو يذكرهما معا.
قوله تعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) يعني العذاب بساحتهم ، قال مقاتل : بحضرتهم. وقيل :
بعتابهم.
قال الفراء :
العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا بالعذاب. لما خرج ـ عليه (الصّلاة
و) السلام ـ إلى خيبر أتاها ليلا ، وكان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح فلما أصبح
خرجت يهود (خيبر) بمساحيها ومكاتلها ، فلما رأوه قالوا : محمّد والله محمّد
والخميس فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الله أكبر خربت خيبر إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء
صباح المنذرين» .
قوله : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ).
قيل : المراد من
هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى التقديرين
فالتكرير زائل ، وقيل : المراد من التكرير المبالغة في التّهديد والتّهويل .
فإن قيل : ما
الحكمة في قوله أولا : (وَأَبْصارِهِمْ). وههنا قال : (وَأَبْصِرْ) بغير ضمير؟.
فالجواب أنه حذف
مفعول «أبصر» الثاني إمّا اختصارا لدلالة الأولى عليه وإما اقتصارا تفنّنا في
البلاغة . ثمّ إنّه تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق
بصفات الإلهيّة فقال : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ) أي الغلبة والقوة ، أضاف الربّ إلى العزة لاختصاصه بها
كأنه قيل : ذو العزّة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه به. وقيل : المراد بالعزة
المخلوقة الكائنة بين خلقه .
ويترتب على
القولين مسألة اليمين .
فصل
قوله : (رَبِّ الْعِزَّةِ) الربوبية إشارة إلى كمال الحكمة والرحمة والعزة إشارة إلى
كمال القدرة ، فقوله (رَبِّ الْعِزَّةِ) يدل على أنه القادر على جميع الحوادث ، لأن الألف
__________________
واللام في قوله : «العزة»
يفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكا له لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ) كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) ، الذين بلغوا عن الله التوحيد بالشرائع (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على هلك الأعداء ونصر الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام
ـ .
روي عن عليّ ـ رضي
الله عنه ـ قال «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر فليكن آخر كلامه من
مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ
العالمين» . وروى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من قرأ سورة «والصافات» أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد
كلّ جنّيّ وشيطان وتباعدت منه مردة الشياطين وبرىء من الشّرك وشهد له حافظاه يوم
القيامة أنّه كان مؤمنا .
والله سبحانه
وتعالى أعلم.
__________________
سورة ص
مكية وهي خمس وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثمانون كلمة ، وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)
كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)(٣)
قوله تعالى : (ص) قرأ العامة بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور
وقد مر ما فيه.
وقرأ أبيّ والحسن
وابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة وأبو السّمّال بكسر الدال من غير تنوين . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه كسر
لالتقاء الساكنين وهذا أقرب.
والثاني : أنه (أمر)
من المصاداة وهي المعارضة ومنه صوت الصّدى لمعارضته لصوتك ، وذلك في الأماكن
الصّلبة الخالية .
والمعنى عارض
القرآن بعملك فاعمل بأوامره (وانته عن نواهيه. قاله الحسن . وعنه أيضا أنه من صاديت أي حادثت) والمعنى حادث النّاس بالقرآن ، وقر ابن
__________________
أبي إسحاق كذلك
إلّا أنه نونه وذلك على أنه مجرور بحرف قسم مقدر حذف وبقي عمله كقولهم :
الله لأفعلنّ بالجر إلا أن الجر يقل في غير الجلالة ، وإنما صرفه ذهابا به إلى
معنى الكتاب أو التنزيل . وعن الحسن أيضا وابن السميقع وهارون الأعور صاد بالضم من غير تنوين على أنه اسم للسورة وهو (خبر) مبتدأ مضمر أي هذه صاد. ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث وكذلك قرأ ابن السّميقع وهارون قاف ونون بالضم على ما تقدم وقرأ عيسى وأبو عمرو ـ في رواية محبوب ـ
صاد بالفتح من غير تنوين وهي تحتمل ثلاثة أوجه : البناء على الفتح تخفيفا كأين
وكيف ، والجر بحرف القسم المقدر وإنما منع من الصرف للعلمية والتأنيث كما تقدم.
والنصب بإضمار فعل أو على حذف حرف القسم نحو قوله :
٤٢٣٢ ـ فذاك أمانة الله الثّريد
وامتنعت من الصرف
لما تقدم. وكذلك قرأ قاف ونون بالفتح فيهما. وهما كما تقدم ولم يحفظ التنوين مع الفتح والضم.
فصل
قيل : هذا قسم ، وقيل : اسم للسورة كما ذكر في الحروف المقطعة في أوائل
__________________
السور . قال محمد بن كعب القرظيّ : (ص) مفتاح اسم الصّمد وصادق
الوعد . وقال الضحاك: معناه صدق الله وروي عن ابن عباس صدق محمد صلىاللهعليهوسلم . وقيل معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون
عليها ولستم قادرين على معارضته .
فإن قيل : قوله (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) قسم فأين المقسم عليه؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال
الزجاج والكوفيون غير الفراء : هو قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) قال الفراء : لا نجده مستقيما لتأخيره جدا عن قوله (وَالْقُرْآنِ). وقال ثعلب والفراء هو قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) والأصل : «لكم أهلكنا» فحذف اللام كما حذفها في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] بعد قوله
: (وَالشَّمْسِ) ، لما طال الكلام.
الثالث : قال
الأخفش هو قوله : «إن كل لما كذب الرسل» ، كقوله : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا) [الشعراء : ٩٧] وقوله : (وَالسَّماءِ
وَالطَّارِقِ إِنْ كُلُ) [الطارق : ١ و ٤].
الرابع : قوله : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا).
الخامس : هو قوله
: (ص) لأن المعنى والقرآن لقد صدق محمد قاله الفراء وثعلب أيضا ؛ وهذا بناء منهما على جواز تقديم جواب القسم وأن هذا
الحرف مقتطع من جملة دالّ هو عليها وكلاهما ضعيف.
السادس : أنه
محذوف . واختلفوا في تقديره فقال الحوفيّ تقديره : «لقد جاءكم الحق» ونحوه وقدره ابن
عطية : ما الأمر كما تزعمون. ودل على هذا المحذوف
__________________
قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا). والزمخشري : أنه لمعجز ، وأبو حيان : إنّك لمن المرسلين. قال : لأنه نظير : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ١ ـ ٣].
وللزمخشري هنا
عبارة بشعة جدا قال : فإن قلت : قوله : (ص. وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) كلام ظاهر متناف غير منتظم فما وجه انتظامه؟.
قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون
قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز كما مر
في أول الكتاب ثم أتبعه القسم محذوف الجواب بدلالة التّحدّي عليه كأنه قال :
والقرآن ذي الذّكر إنه لكلام معجز.
والثاني : أن يكون
(صاد) خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة كأنه قال : هذه «ص» يعني هذه السورة
التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر كما تقول : «هذا حاتم والله» تريد هو المشهور
بالسخاء والله وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنه
لمعجز. ثم قال : بل الّذين كفروا في عزّة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف (بالحق)
وشقاق لله ورسوله. (و) جعلتها مقسما بها وعطفت عليها (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله ، وأن تريد السورة
بعينها. ومعناه : أقسم بالسّورة الشّريفة والقرآن ذي الذّكر كما تقول : مررت
بالرّجل الكريم وبالنّسبة المباركة ، ولا تريد بالنّسبة غير الرجل . وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا في عزّة وشقاق والقرآن ذي الذكر.
(والمراد بكون
القرآن ذي الذكر) أي ذي الشرف ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤]
وقال : (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠]
كما تقول : «لفلان ذكر في النّاس». ويحتمل أن يكون معناه ذو النبأ أي فيه أخبار الأولين والآخرين وبيان العلوم الأصلية
والفرعية.
__________________
قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إضراب انتقال من قصة إلى أخرى. وقرأ الكسائي ـ في رواية
سورة ـ وحماد بن الزّبرقان وأبو جعفر والجحدريّ : في غرّة بالغين المعجمة والراء. وقد نقل أن حمّادا الرواية قرأها كذلك تصحيفا فلما ردّت عليه قال : ما ظننت أن الكافرين في
عزّة. وهو وهم منه ، لأن العزة المشار إليها حمية الجاهلية. والتنكير في (عزة
وشقاق) دلالة على شدّتهما وتفاقمهما.
فصل
قالت المعتزلة دل
قوله : (ذي الذّكر) على أنه محدث ، ويؤيده قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) [الأنبياء : ٥٠] (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ) [يس : ٦٩] ،
والجواب : أنا نصرف دليلكم إلى ما نقرأه نحن به .
فصل
قال القتيبيّ : بل
لتدارك كلام ونفي آخر ، ومجاز الآية أن الله أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر أن الذين
كفروا من أهل مكة في عزة وحميّة جاهلية وتكبّر عن الحق وشقاق خلاف وعداوة لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقال مجاهد : في عزة وتغابن .
قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) (كم) مفعول «أهلكنا»
و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) لابتداء الغاية والمعنى كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعني من الأمم الخالية
فنادوا استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النّقمة. وقيل : نادوا بالإيمان والتوبة
عند معاينة العذاب .
قوله : (وَلاتَ حِينَ) هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل «نادوا» أي
استغاثوا والحال أنه لا مهرب ولا منجى .
__________________
وقرأ العامة «لات»
بفتح التاء وحين منصوبة وفيها أوجه :
أحدها وهو مذهب
سيبويه : أن لا نافية بمعنى ليس والتاء مزيدة فيها كزيادتها في ربّ وثمّ ، كقولهم:
ربّت وثمّت وأصلها «ها» وصلت بلا فقالوا «لاه» كما قالوا «ثمّه» ولا يعمل إلا في الزمان خاصة نحو : لات حين ، ولات أوان
كقوله :
٤٢٣٣ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان
|
|
فأجبنا أن ليس
حين بقاء
|
وقوله الآخر :
٤٢٣٤ ـ ندم البغاة لات ساعة مندم
|
|
والبغي مرتع
مبتغيه وخيم
|
والأكثر حينئذ حذف
مرفوعها تقديره : ولات الحين حين مناص. وقد يحذف المنصوب ويبقى
المرفوع . وقد قرأ هنا بذلك بعضهم لقوله :
٤٢٣٥ ـ من صدّ عن نيرانها
|
|
فأنا ابن قيس لا
براح
|
أي لا براح ليّ.
ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور ، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان في قوله
:
٤٢٣٦ ـ حنّت نوار ولات هنّا حنّت
|
|
وبدا الّذي كانت
نوار أجنّت
|
فإن «هنّا» من
ظروف الأمكنة ، وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه :
__________________
أحدها : عملها في
اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات.
الثاني : كونه لا
ينصرف.
الثالث : كونه غير
زمان. وقد رد بعضهم هذا بأن «هنا» قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان كقوله
تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ) [الأحزاب : ١١] ،
وقوله :
٤٢٣٧ ـ (وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت)
|
|
فهناك يعترفون
أين المفزع
|
كما تقدم في سورة
الأحزاب.
إلا أن الشذوذين
الأخيرين باقيان. وتأول بعضهم البيت أيضا بتأويل آخر وهو أن «لات» هنا مجملة لا
عمل لها ، و «هنا» ظرف خبر مقدم و «حنت» مبتدأ بتأويل حذف «أن» المصدرية تقديره «أن
حنّت» نحو : «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه». وفي هذا تكلف وبعد إلى أن فيه الاستراحة
من الشذوذات المذكورة أو الشذوذين . وفي الوقف عليها مذهبان : أشهرهما عند [علماء] العربية وجماهير
القراء السبعة بالتاء المجبورة اتباعا لمرسوم الخط ، والكسائي وحده من السبعة بالهاء.
والأول : مذهب
الخليل وسيبويه والزّجّاج والفراء وابن كيسان.
والثاني : مذهب
المبرد .
وأغرب أبو عبيد
فقال : الوقف على «لا» والتاء متصلة بحين فيقولون : قمت تحين قمت وتحين كان كذا
فعلت كذا ، وقال : رأيتها في الإمام كذا «ولا تحين» متصلة ، وأنشد على هذا أيضا
قول أبي وجزة السّعديّ :
٤٢٣٨ ـ العاطفون تحين ما من عاطف
|
|
والمطعمون زمان
لا من مطعم
|
__________________
ومنه حديث ابن عمر
وسأله رجل عن عثمان فذكر مناقبه ثم قال : «اذهب تلان إلى أصحابك» يريد «الآن» والمصاحف إنما هي لات حين. وحمل العامة ما رآه على أنه مما
شذ عن قياس الخط كنظائر له مرت. فأما البيت فقيل فيه : إنه شاذ لا يلتفت إليه .
وقيل : إنه إذا
حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها «لات حين» جاز أن يحذف (لا) وحدها ويستغنى
عنها بالتاء ، والأصل : العاطفون حين لات حين لا من عاطف ، فحذف الأول ولا وحدها
كما أنه قد صرح بإضافة حين إليها في قول الآخر :
٤٢٣٩ ـ وذلك حين لات أوان حلم
|
|
..........
|
ذكر هذا الوجه ابن
مالك ؛ وهو متعسف جدا. وقد يقدر إضافة «حين» إليها من غير حذف لها كقوله :
٤٢٤٠ ـ تذكّر حبّ ليلى لات حينا
|
|
..........
|
أي حين لات حين.
وأيضا فكيف يصنع أبو عبيد بقوله : «ولات ساعة مندم ، ولات أوان» فإنه قد وجدت
التاء من «لا» دون حين؟!
الوجه الثاني من
الأوجه السابقة : أنها عاملة عمل «أن» يعني أنها نافية للجنس فيكون «حين مناص»
اسمها ، وخبرها مقدر تقديره ولات حين مناص لهم ، كقولك : لا غلام سفر لك. واسمها
معرب لكونه مضافا .
__________________
الثالث : أنّ
بعدها فعلا مقدّرا ناصبا لحين مناص بعدها أي لات أرى حين مناص لهم بمعنى لست أرى
ذلك ، ومثله : «لا مرحبا بهم ولا أهلا ولا سهلا» أي لا أتوا مرحبا ولا وطئوا سهلا
ولا لقوا أهلا.
وهذا الوجهان ذهب
إليهما الأخفش . وهما ضعيفان وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله :
٤٢٤١ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا
|
|
..........
|
لضرورة أن اسمها
المفرد النكرة مبني على الفتح فلما رأينا هنا معربا قدرنا له فعلا خلافا للزجّاج
فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ويدعي أن فتحته للإعراب ، وإنما حذف التنوين للتخفيف
ويستدلّ بالبيت المذكور وقد تقدم تحقيق هذا.
الرابع : أن لات
هذه ليست هي «لا» مرادا فيها تاء التأنيث. وإنما هي ليس فأبدلت السين تاء ، وقد
أبدلت منها في مواضع قالوا : النّات يريدون الناس ومنه ستّ وأصله سدس ، وقال :
٤٢٤٢ ـ يا قاتل الله بني السّعلات
|
|
عمرو بن يربوع
شرار النّات
|
ليسوا
بأخيار ولا أليات
|
وقرىء شاذا : «قل
أعوذ برب النات» إلى آخرها [الناس : ١ ـ ٦] يريد شرار
__________________
الناس ولا أكياس
فأبدل ، ولما أبدل السين تاء خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفا فبقيت
تاء «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلة ، لأن حرف العلة لا يبدل ألفا إلّا بشرط
منها أن يتحرك ، وأن ينفتح ما قبله فيكون «حين مناص» خبرها والاسم محذوف على ما
تقدم والعمل هنا بحقّ الأصالة لا الفرعيّة .
وقرأ عيسى بن عمر
: ولات حين مناص بكسر التاء وجر حين. وهي قراءة مشكلة جدا ، زعم الفراء أن لات يجر بها
وأنشد :
٤٢٤٣ ـ ولتندمنّ ولات ساعة مندم
وأنشد غيره :
٤٢٤٤ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان
وقال الزمخشري :
ومثله قول أبي زبيد الطّائي :
٤٢٤٥ ـ طلبوا صلحنا ...
البيت. قال : فإن
قلت : ما وجه الجر في أوان؟.
قلت : شبّه بإذ في
قوله :
٤٢٤٦ ـ وأنت إذ صحيح
في أنه زمان قطع
عنه المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل : ولات أوان صلح. فإن قلت : فما تقول في «حين مناص» والمضاف إليه قائم؟
قلت : نزل قطع المضاف إليه من «مناص» لأن أصله حين مناصهم منزلة قطعه من «حين»
لاتّحاد
__________________
المضاف والمضاف
إليه وجعل تنوينه عوضا عن المضاف المحذوف ، ثم بين الجهة لكونه مضافا إلى غير
متمكن انتهى .
وخرجها أبو حيان
على إضمار «من» والأصل ولات من حين مناص فحذفت «من» وبقي عملها نحو قولهم
: «على كم جذع بنيت بيتك» أي من جذع في أصحّ القولين . وفيه قول آخر : أنّ الجر بالإضافة مثل قوله :
٤٢٤٧ ـ ألا رجل جزاه الله خيرا
أنشدوه بجرّ رجل
أي ألا من رجل.
وقد يتأيد بظهورها
في قوله :
٤٢٤٨ ـ ..........
|
|
وقال ألا لا من
سبيل إلى هند
|
قال : ويكون موضع (من
حين مناص) رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائما والخبر
محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، (و) على أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول الأخفش . وخرج الأخفش «ولات أوان» على حذف مضاف يعني أن (ه) حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجرورا على ما كان والأصل
ولات حين أوان .
وقدر هذا الوجه
مكي بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مقامه في الإعراب فيرفع .
__________________
قال شهاب الدين :
قد جاء بقاء المضاف إليه على جرّه وهو قسمان قليل وكثير : فالكثير
أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو قوله :
٤٢٤٩ ـ أكلّ امرىء تحسبين امرءا
|
|
ونار توقّد
باللّيل نارا
|
أي وكل نار ،
والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ : (وَاللهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) بجر الآخرة فليكن هذا منه. على أن المبرد رواه بالرفع على
إقامته مقام المضاف ، وقال الزجاج : الأصل ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرف وكسره
لالتقاء الساكنين.
وقال أبو حيان :
وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري أخذه من أبي إسحاق يعني الوجه الأول وهو قوله ولات أوان صلح. هذا ما يتعلق
بجر «حين» وأما كسرة لات فعلى أصل التقاء الساكنين كحين إلا أنه لا يعرف تاء تأنيث إلّا مفتوحة . وقرأ عيسى أيضا بكسر التاء فقط ونصب حين كالعامة . وقرأ أيضا ولات حين بالرفع . مناص بالفتح . وهذه قراءة مشكلة جدا لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى
فإنه بمكان من العلم المانع له من مثل هذه القراءة . وقد خرجها أبو الفضل الرازي في لوامحه على التقديم
والتأخير وأن «حين» أجري مجرى «قبل وبعد» في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة
بجامع ما بينه وبينها من الظرفية الزمانية و «مناص» اسمها مبني على الفتح فصل بينه
وبينها بحين المقطوع عن الإضافة والأصل : ولات مناص حين كذا ، ثم حذف المضاف إليه
حين وبني على الضم وقدم فاصلا بين لات واسمها قال : وقد
__________________
يجوز أن يكون لذلك
معنى لا أعرفه . وقد روي في تاء لات الفتح والكسر والضمّ .
(قوله) : «فنادوا» لا مفعول له لأن الأصل فعلوا النداء من غير قصد
منادى . وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطربوا نادى بعضهم لبعض مناص أي عليكم
بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله لهم : ولات حين مناص . قال القشيري فعلى هذا يكون التقدير فنادوا فحذف لدلالة ما بعده (عليه) .
قال شهاب الدين :
فيكون قد حذف المنادى وهو بعضا وما ينادون به وهو «مناص» أي نادوا بعضهم بهذا
اللفظ وقال الجرجانيّ : أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجى ولا فوت ، فلما
قدم «لا» وأخر «حين» اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا مثل ما
تقول : جاء زيد راكبا ، ثم تقول : جاء وهو راكب ، «فحين» ظرف لقوله : «فنادوا» (وقال أبو حيان : وكون أصل هذه الجملة فنادوا حين لا مناص وأن حين ظرف
لقوله) : فنادوا دعوى أعجمية في نظم القرآن والمعنى على نظمه في غاية الوضوح . قال شهاب الدين : الجرجانيّ لا يعني أن «حين» ظرف «لنادوا»
في التركيب الذي عليه القرآن الآن إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب كما شبه
ذلك بقوله : «جاء زيد راكبا ، ثم جاء زيد وهو راكب» «فراكبا» في التركيب الأول
__________________
حال وفي الثاني
خبر مبتدأ كذلك حين كان (في الأصل) ظرف للنداء ، ثم صار خبر «لات» أو اسمها على حسب
الخلاف المتقدم .
و «المناص» مفعل
من ناص ينوص أي هرب فهو مصدر . يقال ناصه ينوصه إذا فاته فهو متعدّ ، وناص ينوص أي تأخر ، ومنه ناص عن قرنه أي تأخر عنه جبنا. قاله الفراء . وأنشد قول امرىء القيس : [من الطويل]
٤٢٥٠ ـ أمن ذكر سلمى إن نأتك تنوص
|
|
فتقصر عنها حقبة
وتنوص
|
قال أبو جعفر
النحاس : ناص ينوص إذا تقدم فيكون من الأضداد ، واستناص طلب المناص ، قال حارثة بن بدر :
٤٢٥١ ـ غمر الجراء إذا قصرت عنانه
|
|
بيدي استناص
ورام جري المسحل
|
ويقال : ناص إلى
كذا ينوص نوصا إذا التجأ إليه. قال بعضهم المناص المنجى والغوث ، يقال ناصه ينوصه
إذا أغاثه ، قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطربوا في الحرب
قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم ، فلما نزل بهم العذاب ببدر ، وقالوا
مناص فأنزل الله تعالى : ولات حين مناص أي ليس حين هذا القول .
__________________
قوله تعالى : (وَعَجِبُوا
أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا
عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)(١١)
قوله : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ) أي من أن ، ففيها الخلاف المشهور. (وَقالَ الْكافِرُونَ) من باب وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليهم بهذا الوصف
القبيح .
فصل
لما حكى عن الكفار
في كونهم في عزّة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ) وفي قوله : «منهم» وجهان :
الأول : أنهم
قالوا : إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل
والصورة فكيف يعقل أن يختصّ من بيننا بهذا المنصب العالي؟!.
والثاني : أن
الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم (لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في
الآخرة والتنفير عن الدنيا ثم إن هذا الرجل) من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدا عن
الكذب والتهمة وكان ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون له من
قوله. ونظيره قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون : ٦٩] (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ
كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) مبالغة في «عجب»
كقولهم : رجل طوال ، وأمر سراع ، هما أبلغ من طويل وسريع ، وقرأ عليّ والسّلمي وعيسى وابن مقسم : عجّاب بتشديد الجيم. وهي أبلغ مما قبلها فهي مثل رجل كريم وكرام
بالتخفيف وكرّام بالتشديد.
__________________
قال مقاتل : وعجاب
ـ يعني بالتخفيف ـ لغة أزد شنوءة ، وهذه القراءة أعني بالتشديد كقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح : ٢٢]. وهو
أبلغ من كبار وكبار أبلغ من كبير ، وقوله : «أجعل» أي أصيّرها إلها واحدا في قوله
وزعمه.
قوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) الملأ : هم القوم الذين إذا حضروا امتلأت العيون والقلوب
من مهابتهم ، وقوله «منهم» أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد
ما بكّتهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالجواب العنيد قائلين بعضهم لبعض : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى
آلِهَتِكُمْ) ، وذلك أن عمر بن الخطاب أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به
المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة
وعشرين رجلا أكبرهم سنّا الوليد بن المغيرة قال لهم : امشوا إلى أبي طالب فأتوا
أبا طالب وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد
أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأرسل أبو طالب إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فدعا به فقال يا ابن أخي : هؤلاء قومك يسألونك السّواء
فلا تمل كلّ الميل على قومك ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ماذا تسألون؟» فقالوا : ارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهتك
فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها
العجم فقال أبو جهل لله أبوك لنعطيكها وعشرا أمثالها فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقالوا : أجعل
الآلهة إلها واحدا كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟! (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عُجابٌ) أي عجيب .
قوله : (أَنِ امْشُوا) يجوز أن تكون «أن» مصدرية أي انطلقوا بقولهم أن امشوا ، وأن تكون مفسّرة إما «لانطلق» لأنه ضمن معنى القول ، قال الزمخشري : لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم
أن يتكلموا ويتعارضوا فيما جرى لهم انتهى .
وقيل : بل هي
مفسرة لجملة محذوفة في محل حال تقديره وانطلقوا يتحاورون أن امشوا .
ويجوز أن تكون
مصدرية معمولة لهذا المقدر . وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في
__________________
القول والكلام نحو
: انطلق لسانه فأن مفسرة له من غير تضمين ولا حذف. والمشي الظاهر أنّه هو
المتعارف. وقيل : (بل) هو دعاء بكثرة الماشية. وهذا فاسد لفظا ومعنى ، أما اللفظ
فلأنه إنما يقال من هذه المعنى : أمشى الرّجل إذا كثرت ماشيته ، بالألف ؛ أي صار
ذا ماشية فكان ينبغي على هذا أن يقرأ أمشوا بقطع الهمزة مفتوحة . وأما المعنى فليس مرادا البتة وأي معنى على ذلك ، إلا أن الزمخشري ذكر وجها صحيحا من حيث الصناعة وأقرب
معنى ممّا تقدم (فقال ) : ويجوز أنهم قالوا امشوا أي اكثروا واجتمعوا من : مشت
المرأة إذا كثرت ولادتها ، ومنه : الماشية للتفاؤل انتهى وإذا وقف على «أن» وابتدىء بما بعدها فليبتدأ بكسر الهمزة لا بضمّها ، لأن الثالث مكسور تقديرا إذ الأصل : امشيوا ، ثم أعلّ بالحذف ، وهذا كما يبتدأ بضم الهمزة في قولك : أغزي يا امرأة ،
وإن كانت الزاي مكسورة لأنها مضمومة ، إذا الأصل اغزوي كاخرجي فأعلّ بالحذف .
فصل
لما أسلم عمر وحصل
للمسلمين قوة لمكانه قال المشركون : إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لشيء يراد بنا ، وقيل : يراد بأهل الأرض ، وقيل : يراد
بمحمد (أن) يملك علينا ، وقيل : إن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ عنكم .
قوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يقول (ه) محمد من التوحيد في الملة الآخرة ، قال ابن عباس والكلبي
ومقاتل : يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون : ثالث
ثلاثة ، وقال مجاهد وقتادة : يعنون ملّة قريش دينهم الذي هم عليه .
__________________
قوله : «في الملّة»
وفيه وجهان :
أحدهما : أنه
متعلق «بسمعنا» أي (لم نسمع في الملة الآخرة بهذا الذي جئت به.
والثاني : أنه
متعلق بمحذوف على أنه حال من هذا أي ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة) أي لم نسمع من الكهّان ولا من أهل الكتب أنه يحدث توحيد
الله في الملة الآخرة. وهذا من فرط كذبهم.
قوله : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي افتعال وكذب.
(قوله) : أأنزل عليه الذّكر (من بيننا) ، قد تقدم حكم هاتين
الهمزتين في أوائل آل عمران ، وأن الوارد منه في القرآن ثلاثة أماكن ، والإضرابات في هذه الآية واضحة و «أم» منقطعة .
فصل
المعنى أأنزل عليه
الذكر أي القرآن من بيننا وليس بأكبرنا ولا أشرفنا ، وهذا استفهام على سبيل
الإنكار فأجابهم الله تعالى بقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْ ذِكْرِي) (أي وحيي وما أنزلت) ، (وقيل : بل هم في شك من ذكري) أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك
عنهم (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ) ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ، وقيل : معنى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) هو أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر. ثم إنهم
أصروا على الكفر ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه و (قالُوا اللهُمَّ إِنْ
كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) [الأنفال : ٣٢] (من
السّماء) .
قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ) يعني مفاتيح نعمة ربك وهي النبوة يعطونها
__________________
من شاءوا ، ونظيره
: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] أي
نبوة ربك العزيز في ملكه الكامل القدر الوهاب أي وهب النبوة لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
قوله : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) لما قال : (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) فخزائن الله تعالى غير متناهية كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ) [الحجر : ٢١] ومن
جملة تلك الخزائن السموات والأرض ، فلما ذكر الخزائن أولا على العموم أردفها بذكر
السموات والأرض وما بينهما يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله فإذا كانوا
عاجزين عن هذا القسم فبأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله أولى .
قوله : «فليرتقوا»
قال أبو البقاء : هذا كلام محمول على المعنى أي إن زعموا ذلك فليرتقوا ، فجعلها
جوابا لشرط مقدر .
وكثيرا ما يفعل
الزمخشري ذلك ، ومعنى الكلام إن ادّعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي
توصلهم إلى السماء فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.
قال مجاهد : أراد
بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو
طريق فهو سببه ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز . واستدل حكماء الإسلام بقوله : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى
والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسبابا ، وذلك
يدل على ما ذكرنا .
قوله : «جند» يجوز
فيه وجهان :
أظهرهما : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي هم جند و «ما» فيها وجهان
:
أحدهما : أنها
مزيدة .
والثاني : أنها
صفة لجند على سبيل التعظيم للهزء بهم أو للتحقير ومثله قول امرىء
القيس :
__________________
٤٢٥٢ ـ ..........
|
|
وحديث ما على
قصره
|
وقد تقدم هذا في
أوائل البقرة . و «هنالك» يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
خبر الجند و «ما» مزيدة ، ومهزوم نعت لجند. ذكره مكي .
الثاني : أن يكون
صفة لجند .
الثالث : أن يكون
منصوبا «بمهزوم» ومهزوم يجوز فيه أيضا وجهان :
أحدهما : أنه خبر
ثان لذلك المبتدأ المقدر .
والثاني : أنه صفة
لجند إلا أن الأحسن على هذا الوجه أن لا يجعل «هنالك» صفة بل متعلقا به لئلا يلزم
تقدم الوصف غير الصريح على الصريح .
و «هنالك» مشار به
إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة وهو مكة أي سيهزمون بمكة ، وهو إخبار
بالغيب. وقيل : مشار به إلى نصرة الأصنام ، وقيل : إلى حفر الخندق يعني إلى مكان
ذلك .
الثاني من الوجهين
الأولين : أن يكون «جند» مبتدأ و «ما» مزيدة ، و «هنالك» نعت ومهزوم خبره ، قاله
أبو البقاء قال أبو حيان : وفيه بعد لتفلته عن الكلام الذي قبله قال شهاب الدين وهذا الوجه المنقول عن أبي البقاء سبقه إليه مكي .
قوله : (مِنَ الْأَحْزابِ) يجوز أن يكون صفة لجند وأن يكون صفة «لمهزوم» وجوز أبو
البقاء أن يكون متعلقا به وفيه بعد لأن المراد بالأحزاب هم المهزومون.
__________________
فصل
المعنى أن الذين
يقولون هذا القول جند هنالك و «ما» صلة مهزوم مغلوب من الأحزاب أي من جملة الأجناد
، يعني قريشا ، قال قتادة : أخبر الله تعالى نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو بمكة أنه سيزم جند المشركين فقال : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] فجاء
تأويلها يوم بدر ، وهنالك إشارة إلى (يوم) بدر ومصارعهم ، وقيل : يوم الخندق . وقال ابن الخطيب : والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن
المعنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة
فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح.
وقوله : (مِنَ الْأَحْزابِ) أي من جملة الأحزاب أي هم من القرون الماضية الذين تحزّبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا
وأهلكوا.
قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)
وَثَمُودُ
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
وَما
يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
اصْبِرْ
عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(١٧)
ثم قال لنبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ معزيا له : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) قال ابن عباس ومحمد بن كعب : ذو البناء المحكم ، وقيل :
أراد ذو الملك الشديد الثابت ، وقال القتيبيّ : تقول العرب : هم في عزّ ثابت الأوتاد بريدون أنه دائم
شديد ، وقال الضحاك : ذو القوة والبطش ، وقال عطية : ذو الجنود والجموع الكثيرة ،
وسميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم. وهي رواية عطية العوفي عن ابن عباس يعني أنهم
كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء. وهذه استعارة بليغة حيث شبه الملك ببيت الشّعر ،
وبيت الشعر لا يثبت إلا بالأوتاد والأطناب كما قال الأفوه الأودي :
٤٢٥٣ ـ والبيت لا يبتنى إلّا على عمد
|
|
ولا عماد إذا لم
ترس أوتاد
|
__________________
فاستعير لثبات
العز والملك واستقرار الأمر كقول الأسود بن يعفر :
٤٢٥٤ ـ ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
|
|
في ظلّ ملك ثابت
الأوتاد
|
والأوتاد جمع وتد
وفيه لغات : وتد بفتح الواو وكسر التاء وهي الفصحى ، ووتد بفتحتين ، وودّ بإدغام
التاء في الدال قال :
٤٢٥٥ ـ تخرج الودّ إذا ما أشجذت
|
|
وتواريه إذا ما
تشتكر
|
ووت بإبدال (الدال)
تاء ، ثم إدغام التاء فيها ، وهذا شاذ ؛ لأن الأصل إبدال الأول
للثاني لا العكس ، وقد تقدم نحو من هذا في آل عمران عند قوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) [آل عمران : ١٨٥].
ويقال : وتد (واتد)
أي قويّ ثابت وهو مثل مجاز قولهم : شغل شاغل .
أنشد الأصمعي :
٤٢٥٦ ـ لاقت (على) الماء جذيلا واتدا
|
|
ولم يكن يخلفها
المواعدا
|
وقيل : الأوتاد
هنا حقيقة لا استعارة ، (و) قال الكلبي ومقاتل : الأوتاد جمع الوتد وكان له
أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد تشدّ كل يد وكل رجل منه إلى سارية ويتركه كذلك في
__________________
الهواء بين السماء والأرض حتى يموت. وقال مجاهد ومقاتل بن حيّان
كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي : كان
يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات. وقال قتادة وعطاء : كانت
له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه ، ثم قال : (وَثَمُودُ وَقَوْمُ
لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) تقدم الخلاف في الأيكة في سورة الشعراء .
قوله : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) يجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها (من الإعراب) وأن تكون
خبرا ، والمبتدأ قال أبو البقاء (من) قوله : (وَعادٌ) وأن يكون من «ثمود» وأن يكون من قوله (وَقَوْمُ لُوطٍ).
قال شهاب الدين : الظاهر عطف (عاد) وما بعدها على «قوم نوح» واستئناف
الجملة بعده ، وكان يسوغ على ما قاله أبو البقاء أن يكون المبتدأ وحده (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ).
فصل
المعنى أن هؤلاء
الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم وكذلك قومك
هم من جنس الأحزاب المتقدمين. وقيل : المعنى أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف
حال هؤلاء الضعفاء (المساكين) ؟
قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) إن نافية ولا عمل لها هنا البتة ولو على لغة من قال :
__________________
٤٢٥٧ ـ إن هو مستوليا على أحد
|
|
..........
|
وعلى قراءة : إن
الذين تدعون من دون الله عبادا [الأعراف : ١٩٤]
لانتقاض النفي ب «إلّا» فإن انتقاضه مع الأصل وهي «ما» مبطل فكيف بفرعها؟ وقد تقدم
أنه يجوز أن تكون جوابا للقسم .
فصل
المعنى كل هذه
الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان
ذلك بعد حين ، والمقصود منه زجر السامعين. ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن
تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم (وَما يَنْظُرُ
هؤُلاءِ) أي وما ينتظر هؤلاء يعني كفار مكة (إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً) وهي نفخة الصور الأولى كقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا
إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس : ٤٩ ـ ٥٠]
والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدّ لهم يوم القيامة فجعلهم
منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطّرف إليه
يقطع كل ساعة في حضوره. وقيل : المراد بالصيحة عذاب يفجأهم ويجيئهم دفعة واحدة كما
يقال : صاح الزمان بهم إذا هلكوا (قال) :
٤٢٥٨ ـ صاح الزّمان بآل برمك صيحة
|
|
خرّوا لشدّتها
على الأذقان
|
ونظيره قوله تعالى
: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ
إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس : ١٠٢].
قوله : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) يجوز أن يكون «لها» رافعا «لمن فواق» بالفاعلية ؛ لاعتماده
__________________
على النفي ، وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر وعلى التقديرين فالجملة
المنفية في محل نصب صفة «لصيحة» و «من» مزيدة . وقرأ الأخوان : «فواق» بضم الفاء ، والباقون بفتحها ، قال الكسائيّ والفراء وأبو عبيدة : هما لغتان وهما الزمان الذي بين حلبتي الحالب ، ورضعتي
الرّاضع ، والمعنى ما لها من توقف قدر فواق ناقة.
وفي الحديث : «العيادة
قدر فواق ناقة». وهذا في المعنى كقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) [الأعراف : ٣٤].
وقال ابن عباس :
ما لها من رجوع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع
اللبن إلى ضرعها يقال : أفاقت النّاقة تفيق إفاقة رجعت الفيقة في ضرعها ، والفيقة
اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، ويجمع على أفواق وأما أفاويق فجمع الجمع ، ويقال
: ناقة مفيق ومفيقة .
وقال الفراء وأبو عبيدة ومؤرّج السّدوسيّ : الفواق بالفتح الإفاقة والاستراحة كالجواب من الإجابة
وهو قول ابن زيد والسّدّيّ .
وأما المضموم فاسم
لا مصدر أي اسم لما بين الحلبتين ، والمشهور أنهما بمعنى واحد كقصاص الشّعر وقصاصه
وجمام المكول وجمامه ، فالفتح لغة قريش ،
__________________
والضم لغة تميم . قال الواحدي : الفواق والفواق اسمان من الإفاقة . والإفاقة معناها الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض إلا
أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر ، والفواق بالضم اسم لذلك الزمان ،
الذي يعود فيه اللبن ، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال في هذه الآية : يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ
نفخة الفزع قال : فيمدّها ويطولها وهي التي يقول ما لها من فواق ، ثم قال الواحدي
: وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : ما لها
من سكون.
الثاني : ما لها
من رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على
حالة واحدة بأنه لا يفيق منه ولا يستفيق .
قوله : «قطنا» أن
نصيبنا وحظّنا ، وأصله من قطّ الشيء أي قطعه ، ومنه قطّ القلم والمعنى قطعه مما وعدتنا به ولهذا يطلق على الصحيفة
والصك قطّ ، لأنهما قطعتان يقطعان ، ويقال للجائزة أيضا قطّ لأنها قطعة من العطية ، قال الأعشى :
٤٢٥٩ ـ ولا الملك النّعمان يوم لقيته
|
|
بغبطته يعطي
القطوط ويأفق
|
وأكثر استعماله في
الكتاب ، قال أمية بن أبي الصّلت :
٤٢٦٠ ـ قوم لهم ساحة أرض العراق وما
|
|
يجبى إليهم بها
والقطّ والقلم
|
__________________
ويجمع على قطوط
كما تقدم ، وعلى قططة نحو : قرد وقردة وقرود ، وفي القلة على أقطّة وأقطاط كقدح وأقدحة وأقداح ، إلا أن أفعلة في فعل شاذ .
فصل
قال سعيد بن جبير
عن ابن عباس يعني كتابنا. والقطّ : الصحيفة أحصت كل شيء ، قال الكلبي: لما نزل
قوله في الحاقة : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) [الحاقة : ١٩ ـ ٢٥] قالوا استهزاء : عجل لنا كتابنا في
الدنيا قبل يوم الحساب ، وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي
تقول. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي : يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب قال عطاء
: قاله النّضر بن الحرث وهو قوله : (إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢]
وعن مجاهد قطنا : حسابنا يقال للكتاب قط .
قال أبو عبيدة
والكسائي : القط الكتابة بالجوائز . واعلم أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة ، أولها : من أمر النبوات
وإثباتها فقال : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، فقال الكافرون هذا ساحر كذّاب».
وثانيها : تعجبهم
من الإلهيات فقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا.
وثالثها : تعجبهم
من المعاد والحشر والنشر فقالوا : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا
قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ، قالوا ذلك استهزاء فأمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم
فقال : (اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ).
فإن قيل : أي تعلق
بين قوله : (اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ) وبين قوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا
داوُدَ)؟
فالجواب : هذا
التعلق من وجوه :
الأول : كأنه قيل
: إن كنت شاهدت من هؤلاء الجهّال جراءتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر فاذكر
قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقدر ما يزداد أحد
الضّدين شرفا يزداد (الضّدّ) الآخر نقصانا.
الثاني : كأنه قيل
لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (لا) تضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم وإن خالفوك
فالأكابر من الأنبياء وافقوك.
__________________
الثالث : أن للناس
في قصة داود قولان : منهم من قال : إنها تدل على دينه ، ومنهم من قال إنها لا تدل
عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك ، وأما حزن داود فكان
بسبب وقوع ذلك الذنب ، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من
الحزن. ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر وإنما
دخلا عليه لقصد قتله ، فخاف منهما داود ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما
بسوء بل استغفر لهم على (ما سيجيء تقرير هذه الطريقة) ، فلا جرم أمر الله تعالى محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن يقتدي به في حسن الخلق.
الرابع : أن قريشا
إنما كذبوا محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واستخفوا به لقولهم : إنه يتيم فقير ، ثم إنه تعالى قصّ
على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما كان في مملكة داود ، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من
الأحزان والغموم ليعلم أن الخلاص من الحزن لا سبيل إليه في الدنيا.
الخامس : قوله
تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيب قصة داود قصص أنبياء
كثيرة فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن
كل واحد منهم كان مشغولا بهمّ خاص وحزن خاص فيعلم حينئذ أن لا انفكاك عن الهموم
والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب
في الدنيا.
قال ابن الخطيب :
وههنا وجه آخر قويّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند
الانتهاء إلى تفسير قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ) الآية [ص : ٢٩].
قوله : «داود» بدل
أو عطف بيان ، أو منصوب بإضمار أعني و «ذا الأيد» نعت له ، والأيد القوة ، قال ابن عباس : أي القوة في العبادة ، وقيل : القوة في
الملك ، واعلم أن قوله : «عبدنا داود» فوصفه بكونه عبدا له. وعبر عن نفسه بصيغة
الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما
أراد أن يشرف محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليلة المعراج ، قال : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١]
وأيضا فإن وصف الأنبياء بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب
الاجتهاد في الطاعة ، والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن
مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل
ما أمر الله به ، وترك ما نهى
__________________
عنه ، والأيد
المذكورة ههنا كالقوة المذكورة في قوله : (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢]
وقوله: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ) [الأعراف : ١٤٥] أي باجتهاد وتشدد في القيام بالدعوة وترك
إظهار الوهن والضعف ، والأيد (و) القوة سواء ، ومنه قوله : (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) [الأنفال : ٦٢]
وقوله : (وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧] (وقوله)
: (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧]
وقال عليه (الصلاة و) السلام : «أحبّ الصّيام إلى الله صيام داود عليه (الصّلاة و)
السّلام وأحبّ الصّلاة إلى الله عزوجل صلاة داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان ينام نصف اللّيل
ويقوم ثلثه وينام سدسه».
قوله : «إنّه
أوّاب» أي رجاع إلى الله عزوجل بالتوبة على كل ما يكره ، والأوّاب فعّال من آب يؤوب إذا
رجع قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥]
وهذا بناء مبالغة كما يقال : قتّال وضرّاب وهو أبلغ من قاتل وضارب ، وقال ابن عباس
: مطيع ، وقال سعيد بن جبير : مسبّح بلغة الحبشة .
قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨)
وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ
نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
إِذْ
دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا
عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ
الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا
لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(٢٦)
قوله : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ
يُسَبِّحْنَ) فقوله : «يسبحن» جملة حالية من «الجبال» وأتى بها هنا فعلا مضارعا دون اسم الفاعل فلم يقل مسبّحات ، دلالة على
__________________
التجدد والحدوث
شيئا بعد شيء كقول الأعشى :
٤٢٦١ ـ لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
|
|
إلى ضوء نار في
بقاع تحرّق
|
أي تحرق شيئا فشيئا ، ولو قال : محرقة لم يدل على هذا المعنى.
فصل
المعنى يسبحن
بتسبيحه. (و) في كيفية تسبيح الجبال وجوه :
الأول : أن الله
تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلا وقدرة ونطقا ، فحينئذ يصير الجبل مسبحا لله
تعالى.
الثاني : قال
القفال : إن داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له
في الجبال دويّ حسن وما يصغي الطير (إليه) لحسنه فيكون دويّ الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه
تسبيحا ، وروى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحدا من خلقه مثل صوت داود حتى
إنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى تؤخذ بأعناقها.
الثالث : أن الله
تعالى سخر الجبال حتى إنّها كانت تسير إلى حيث يريده داود فجعل ذلك السير تسبيحا
لأنه يدل على كمال قدرة الله وحكمته .
قوله : (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) قال الكلبي غدوة وعشيّا والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها قال الزجاج :
يقال شرقت الشمس (إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت ، وقيل : هما بمعنى. والأول أكثر . تقول العرب شرقت الشمس) والماء يشرق ، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى. قال ابن عباس كنت أمر بهذه
الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أمّ هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثمّ صلّى الضّحى وقال يا أم
هانىء : هذه صلاة الإشراق . وروى
__________________
طاوس عن ابن عباس
قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا : لا ؛ فقرأ : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) قال : وكانت صلاة يصليها داود عليهالسلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى طلبتها فوجدتها
في قوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ).
قوله : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) العامة على نصبها عطف مفعولا على مفعول ، وحالا على حال
كقولك : ضربت زيدا مكتوفا وعمرا مطلقا ، وأتى بالحال اسما لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئا فشيئا لأن حشرها دفعة
واحدة أدلّ على القدرة والحاشر الله تعالى . وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري برفعهما جعلاها مستقلة من مبتدأ
وخبر .
والمعنى وسخرنا
الطير محشورة ، قال ابن عباس : كان داود إذا سبح جاءته الجبال واجتمعت إليه الطير
فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله تعالى.
فإن قيل : كيف
يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها؟
فالجواب : أنه لا
يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولا حتى تعرف الله فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود قال الزمخشري قوله : «محشورة» في مقابلة : «يسبّحن» إلا
أنه ليس في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء فلا
جرم أتى به اسما لا فعلا ، وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير (محشورة) (يحشرن) على تقدير أن الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء والحاشر
هو الله عزوجل لكان خلفا لأنه تعالى حشرهم جملة واحدة .
قوله : (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير لداود أي لأجل تسبيحه ، فوضع أواب
موضع مسبّح. وقيل : (إنّ) الضمير في : «له» للباري تعالى ، والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله
تعالى.
قوله : «وشددنا»
العامة على تخفيف شددنا أي قوّينا كقوله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] وابن
أبي عبلة والحسن «شدّدنا» بالتشديد . وهي مبالغة
__________________
كقراءة العامة ،
ومعنى الكلام قويناه بالحرس والجنود.
قال ابن عباس :
كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل.
قوله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطابِ) أما الحكمة فهي النبوة ، وقيل : العلم والخير ؛ قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩]
وأما فصل الخطاب فقال بعض المفسرين : إن داود أول من قال في كلامه : أما بعد . وقيل : المراد منه : معرفة الأمور التي بها يفصل بين
الخصوم وهو طلب البينة واليمين .
قال ابن الخطيب :
وهذا بعيد لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير على كل ما يخطر بالبال
ويحضر في الخيال بحيث لا يخلط شيئا بشيء وبحيث يفصل كلّ مقام عن ما يخالفه هذا
معنى عامّ يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق ويتناول جميع
الأقسام والله أعلم .
وروى ابن عباس أن
رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود أن هذا غصبني بقرأ فسأله (داود)
فجحد فقال للآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود : قوما حتى انظر في أمركما
فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل
حتى أتثبت فأوحى الله إليه ثانية فلم يفعل فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو
تأتيه العقوبة ، فأرسل داود إليه فقال إن الله أوحى إليّ أن أقتلك ؛ فقال : تقتلني
بغير بينة ، فقال داود نعم والله لأنفذنّ أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله
قال لا تعجل حتى أخبرك إنّي والله ما أخذت بهذا الذنب ولكن اغتلت والد هذا فقتلته
ولذلك أخذت فأمر به داود فقتل فاشتد هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل ،
واشتد به ملكه فذلك قوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ)(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) يعني النبوة والإصابة في الأمور ، و (فَصْلَ الْخِطابِ) قال ابن عباس : بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن
والكلبي ومقاتل : على الحكم بالقضاء ، وقال علي بن أبي طالب : هو أن البينة على
المدّعي واليمين على من أنكر ؛ لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به ، ويروى ذلك
__________________
عن أبي بن كعب قال
: فصل الخطاب الشهود والإيمان. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن الشعبي : فصل
الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه : أما بعد إذا أراد الشروع في
كلام آخر .
قوله (تعالى) : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ) قد تقدم أن الخصم في الأصل مصدر فلذلك يصلح للمفرد والمذكر
وضدّيهما ، وقد يطابق ، ومنه (لا تَخَفْ خَصْمانِ) [ص : ٢٢]. والمراد
بالخصم هنا جمع بدليل قوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا) وقوله : (إِذْ دَخَلُوا). قال الزمخشري : وهو يقع للواحد والجمع كالضّيف ، قال تعالى
: (حَدِيثُ ضَيْفِ
إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) [الذاريات : ٢٤]
لأنه مصدر في أصله ، يقال خصمه يخصمه خصما كما تقول : ضافه ضيفا. فإن قلت : هذا
جمع وقوله: خصمان تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت : معنى خصمان فريقان خصمان ، والدليل
قراءة من قرأ : «بغى بعضهم على بعض» ونحوه قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا) [الحج : ١٩] فإن
قلت : فما تصنع بقوله : (إِنَّ هذا أَخِي) وهو دليل على الاثنين ؟ قلت : معناه أنّ التحاكم بين ملكين ولا يمنع أن يصحبهما
آخرون ، فإن قلت : كيف سماهم جميعا خصما في قوله : «نبأ الخصم وخصمان»؟ قلت : لما
كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به .
قوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا) في العامل في «إذ» أوجه :
أحدها : أنه معمول
للنبأ إذا لم يرد به القصة. وإليه ذهب ابن عطية وأبو البقاء ومكّيّ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسوّرهم المحراب ، وقد ردّ
بعضهم هذا بأن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإن أريد بالنبأ القصة لم يكن ناصبا. قاله أبو حيّان .
الثاني : أن
العامل فيه «أتاك» . وردّ بما ردّ به الأول ، وقد صرح الزّمخشريّ
__________________
بالرد على هذين
الوجهين. فقال : «فإن قلت : بم انتصب إذ؟ قلت : لا يخلوا إما أن ينتصب «بأتاك» أو «بالنّبأ»
أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود (و) لا بالنبأ ؛ لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصبا ، فبقي أن
يكون منصوبا بمحذوف تقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ» . فاختار أن يكون معمولا لمحذوف .
الرابع : أن ينتصب
بالخصم ؛ لما فيه من معنى الفعل .
قوله : (إِذْ دَخَلُوا) فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل
من «إذ» الأولى.
الثاني : أنه
منصوب بتسوّروا .
ومعنى تسوروا علوا
أعلى السّور ، وهو الحائط غير مهموز كقولك : تسنّم البعير أي بلغ
سنامه. والضمير في «تسوّروا» و «دخلوا» راجع على الخصم ، لأنه جمع في المعنى على ما تقدم ، (أو على أنه مثنّى والمثنى جمع في المعنى. وتقدم) تحقيقه .
قوله : «خصمان»
خبر مبتدأ مضمر أي نحن خصمان ولذلك جاء بقوله : «بعضنا» ، ومن قرأ : «بعضهم» بالغيبة يجوز أن يقدره كذلك ويكون قد راعى لفظ : خصمان ،
ويجوز أن يقدرهم خصمان ليتطابق ، وروي عن الكسائي خصمان بكسر الخاء . وقد تقدم أنه قرأها كذلك في الحجّ.
قوله : (بَغى بَعْضُنا) جملة يجوز أن تكون مفسّرة لحالهم ، وأن تكون خبرا ثانيا .
فإن قيل : كيف قالا
: بغى بعضنا على بعض وهما ملكان ـ على قول بعضهم ـ
__________________
والملكان لا
يبغيان؟ قيل : معناه أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر ، وهذا من معاريض الكلام لا
على تحقيق البغي من أحدهما .
قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا
تُشْطِطْ) العامة على ضم التاء وسكون الشين ، وضم الطاء الأولى من (أ)
شطط يشطط إشطاطا إذا تجاوز الحق ، قال أبو عبيدة : شططت في الحكم وأشططت إذا جرت ؛ فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل ، وإنما فكّه على أحد الجائزين كقوله : (مَنْ يَرْتَدِدْ). وقد تقدم تحقيقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة
تشطط بفتح التاء وضم الطاء من «شطّ» بمعنى «أشطّ» كما تقدم .
وقرأ قتادة : تشطّ
من «أشطّ» رباعيا إلا أنه أدغم . وهو أحد الجائزين كقراءة من قرأ : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) وعنه أيضا «تشطّط» بفتح الشين وكسر الطاء مشددة من شطّط يشطّط. والتثقيل فيه للتكثير. وقرأ زرّ بن حبيش
تشاطط من المفاعلة وأصل الكلمة من : شطّت الدّار وأطّت إذا بعدت. (وَاهْدِنا إِلى
سَواءِ الصِّراطِ) أرشدنا إلى طريق الصواب فقال لهما داود : تكلّما فقال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) يعني امرأة (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) أي امرأة واحدة.
__________________
قوله : (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ) العامة على كسر التاء وهي اللغة الفاشية ، وزيد بن عليّ
والحسن بفتحها . وهي لغيّة لبعض تميم ، وكثر في كلامهم الكناية بها عن المرأة ، قال
ابن عون :
٤٢٦٢ ـ أنا أبوهنّ ثلاث هنّه
|
|
رابعة في البيت
صغراهنّه
|
ونعجتي
خمسا توفّيهنّه
|
وقال آخر :
٤٢٦٣ ـ هما نعجتان من نعاج تبالة
|
|
لدى جؤذرين أو
كبعض دمى هكر
|
قال الحسين بن
الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي كقولهم : ضرب
زيد عمرا ، أو اشترى بكر دارا. ولا ضرب هناك ولا شراء .
قال الزمخشري : «أخي»
بدل من «هذا» وقر عبد الله : «تسع وتسعون نعجة أنثى» وهذا تأكيد كقوله : (وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] وقال
الليث : لنّعجة الأنثى من الضأن والبقر الوحشي والشاة والجمع النّعاج .
قوله : (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) قال ابن عباس أعطنيها ، وقال مجاهد : انزل لي عنها. وحقيقته
ضمّها إليّ واجعلني كافلها ، وهو الذي يعولها وينفق عليها ، والمعنى : طلقها
لأتزوج إياها .
__________________
قوله : «وعزّني»
أي غلبني ، قال :
٤٢٦٤ ـ قطاة عزّها شرك فباتت
|
|
تجاذبه وقد علق
الجناح
|
يقال : عزّه يعزّه
بضم العين. وتقدم تحقيقه في يس عند قوله تعالى : (فَعَزَّزْنا
بِثالِثٍ.)
وقرأ طلحة وأبو
حيوة : «وعزني» بالتخفيف . قال ابن جنّي : حذف الزاي الواحدة تخفيفا كما قال الشاعر
:
٤٢٦٥ ـ ..........
|
|
أحسن به فهنّ
إليه شوس
|
يريد أحسسن فحذف.
وتروى هذه قراءة عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك :
وعازّني بألف مع تشديد الزاي أي غالبني.
قوله : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) مصدر مضاف لمفعوله. والفاعل محذوف أي بأن سألك نعجتك ، وضمّن السؤال معنى الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك
على سبيل السؤال ولذلك عدي (بإلى).
فصل
قال ابن الخطيب :
للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال :
أحدها : أن هذه
القصة دلت على صدور الكبيرة عنه.
وثانيها : دلالتها
على الصغيرة.
وثالثها : لا تدل
على كبيرة ولا على صغيرة ، فأما القول الأول فقالوا : إن داود
__________________
أحبّ امرأة «أوريا»
فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله (تعالى) ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته (وعرضا تلك الواقعة عليه) فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه
مذنبا ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة. وقال ابن الخطيب : والذي أدين به وأذهب إليه
أنّ ذلك باطل لوجوه:
الأول : أن هذه
الحكاية لا تناسب داود لأنها لو نسبت إلى أفسق النّاس وأشدهم فجورا لانتفى منها ،
والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه ورعا ولعن من
نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إليه؟!.
الثاني : أن حاصل
القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي وقتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما
الأول فأمر منكر ؛ قال ـ عليه (الصلاة و) السلام : «من سعى في دم مسلم ولو بشرّ
كلمة جاء مكتوب عليه بين عينيه آيس من رحمة الله» . وأما الثاني فمنكر عظيم ، قال ـ عليه (صلاة و) السلام ـ :
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . وإن «أوريا» لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه.
الثالث : أن الله
تعالى وصف داود بصفات تنافي كونه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ موصوفا بهذا الفعل
المنكر فالصفة الأولى أنه تعالى أمر محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (في) أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكاره فلو قيل إنّ داود
لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدا أفضل الرسل بأن
يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله؟!. وأما الصفة الثانية فإنه وصفه بكونه عبدا
له ، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملا في وصف
العبودية أما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات ، فلو قلنا : إن
داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملا إلّا في طاعة الهوى
والشهوة. وأما الصفة الثالثة وهي قوله : (ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن
القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ، ولا معنى للقوة في الدين إلا
القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات ، وأي قوة لمن لم يملك
نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟! الصفة الرابعة : كونه أوّابا كثير الرجوع
إلى الله تعالى فكيف يليق هذا بمن قلبه مشغوف بالقتل والفجور؟!. الصفة الخامسة :
قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذوا سبيله
__________________
إلى القتل والفجور؟!
الصفة السادسة : قوله تعالى : (وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً) قيل : إنه كان محرّما عليه صيد شيء من الطير فكيف يعقل أن
يكون الطير آمنا منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على زوجته ومنكوحه . الصفة السابعة : قوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) ومحال أن يكون المراد أنه تعالى : شد ملكه بأسباب الدنيا
بل المراد بأنا ملكناه تقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة ، أو المراد تشديد ملكه في
الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟! الصفة الثامنة
: قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا فكيف يجوز أن يقال : إنّا
آتيناه) الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف عنه الشيطان من مزاحمة أخصّ أصحابه في الروح والمنكوح؟! فهذه الصفات التي وصف بها قبل
شرح القصّة.
وأما الصفات
المذكورة بعد ذكر القصة فأولها قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) وهذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة (على قوته في طاعة الله أما لو كانت القصة المتقدمة) دالة على
سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله : (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) لائقا.
وثانيها : قوله
تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه :
الأول : أن الملك
الكبير إذا حكي عن عبده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فعند فراغه من شرح قصته على الناس يقبح منه أن يقول عقيبه
أيها العبد إنّي فوضت إليك خلافتي ونبوتي لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة
يناسب الزجر والحجر فأما جعله نائبا وخليفة لنفسه فذلك مما (لا) يليق البتة.
الثاني : أنه ثبت
في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك
الوصف فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة ، ثم قال بعده : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ) أشعر هذا (الوصف) بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال
المنكرة. ومعلوم أن هذا فاسد. أما لو ذكرنا أن تلك
__________________
القصة كانت على
وجه يدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدّة مصابرته في طاعة الله تعالى
فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه : (إِنَّا جَعَلْناكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) فثبت أن الذي نختاره أولى.
الثالث : أنه لما
كان مقدمة الآية دالة على مدح داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وتعظيمه ومؤخرتها
أيضا دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على المقابح والمعايب لجرى مجرى أن يقال
: فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله تعالى يقتل ويزني ويسرق وقد جعله
الله خليفة له في أرضه وصوب أحكامه فكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا
ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب.
ورابعها : أن بعض
القائلين ذكر في هذه الآية أن داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من
المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار ، وحصل للذبيح من الذبح
وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه إنما وجدوا تلك
الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه (الصلاة و) السلام
الابتلاء فأوحى الله إليه إنك مبتلى في يوم كذا فبالغ في الاحتراز ، ثم وقعت
الواقعة فنقول : إن حكايتهم تدلّ على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في
منقبته ويكمل مراتب إخلاصه ، فالسعي في قتل النفس (بغير الحق) والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة بحيث إن الحكاية
التي ذكروها يناقص أولها آخرها.
وخامسها : أن داود
عليه (الصلاة و) السلام (تمنّى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من
المنازل العالية) قال : (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) استثنى الذين آمنوا من البغي. فلو قلنا : إنه كان موصوفا
بالبغي لزم أن يقال : إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.
وسادسها : حضرت في
مجلس وفيه بعض أكابر المسلمين وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة
الخبيثة لسبب اقتضى ذلك فقلت له : لا شك أن داود عليه (الصلاة و) السلام كان من
أكابر الأنبياء والرسل وقال الله : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، ومن مدحه الله (تعالى بمثل) هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في المطعن فيه
وأيضا فبتقدير أنه ما كان من الأنبياء فلا شك أنه كان مسلما ؛ وقال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ
__________________
«لا تذكروا موتاكم
إلا بخير» ثم على تقدير أنّا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلّا
أنّا نقول : إنّ من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها في
حقه صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئا من الثواب ، لأن إشاعة الفاحشة إن لم
توجب العقاب فلا أقل من ألّا توجب الثواب. وأما بتقدير أن تكون هذه القصّة باطلة
فاسدة فإن ذكرها مستحق به أعظم العقاب ، والواقعة التي هذا شأنها وصفتها فإنّ
صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه ، وأن شرح تلك القصة محرم
محظور ، فلما سمع ذلك الملك الشديد هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئا.
السابع : أن ذكر
هذه القصة وذكر قصة يوسف ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ يقتضي إشاعة الفاحشة في الذين
آمنوا.
الثامن : لو سعى
داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله : «من سعى في دم امرىء مسلم ولو بشطر كلمة
جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله».
وأيضا لو فعل ذلك
لكان ظالما وكان يدخل تحت قوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود : ١٨].
التاسع : عن سعيد
بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال : من حدّثكم بحديث داود على ما ترويه القصّاص
فاجلدوه مائة وستين (جلدة) وهو حدّ
الفرية على الأنبياء ، وما يقوي هذا أنّهم لما قالوا : إن المغيرة بن شعبة زنى
وشهد ثلاثة من عدول الصحابة وأما الرابع فإنه لم يقل : إني رأيت ذلك بعيني فإن عمر
بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا ،
فإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك فكيف الحال مع داود عليه (الصلاة و)
السلام؟! مع أنه كان من أكابر الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ.
العاشر : روي أن
بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله ، ثم قال : فما ينبغي أن يزاد عليها وإن
كانت الواقعة على ما ذكرت ثم إنه تعالى لم يذكرها لستر تلك الواقعة على داود عليه
الصلاة والسلام فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ستر ستره الله ألف سنة أو أقل أو
أكثر فقال عمر : سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
__________________
فثبت بهذه الوجوه
التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها باطلة فاسدة. فإن قال قائل : إن كثيرا من أكابر
المحدثين المفسرين ذكروا هذه القصة فكيف الحال فيها؟!.
فالجواب الحقيقي :
أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر (كل) واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة
أولى. وأيضا فالأصل براءة الذمة ، وأيضا فلما تعارض ذكر التّحرّم والتحليل كان
جانب التحريم أولى ، وأيضا طريقة الاحتياط توجب ترجيح قولنا ، وأيضا فنحن نعلم
بالضرورة أن بتقدير (وقوع) هذه الواقعة لا يقول لنا الله يوم القيامة لم لم تسعوا في
تشهير هذه الواقعة أما بتقدير كونها باطلة فإنه يوجب أن لا تجوز الشهادة بها ،
وأيضا كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول ، بل الأكثرون والمحققون يردونه
ويحكمون عليه بالكذب ، وإذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدّثين تساقطت وبقي الرجوع
فيه إلى الدلائل التي ذكرناها.
الاحتمال الثاني
أن نحمل هذه القصة على حصول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه :
الأول : أن هذه
المرأة خطبها «أوريا» فأجابوه ، ثم خطبها داود فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطب على
خطبته أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني : قالوا
إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألبتّة ، أما وقوع بصره
عليها من غير قصد فليس بذنب ، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضا ذنبا ، لأن
الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفا به بل لما اتفق أنه قتل زوجها لأجل أنه طمع في
أن يتزوج بتلك المرأة فحصلت بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث : أنه كان
أهل زمان داود عليه (الصلاة و) السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق زوجته حتى يتزوجها
وكانت عادتهم مألوفة مفهومة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود (عليهالسلام) وقعت على تلك المرأة فأحبها فسألوه النزول فاستحيا أن يرده
ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزا في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك
فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد
منها لم يلزم في حقّ داود عليه (الصلاة و) السلام إلا ترك الأفضل ، والأولى.
الاحتمال الثالث : أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا
__________________
صغيرة لداود عليه (الصلاة
و) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول : روي أنّ جماعة
من الأعداء طمعوا أن يقتلوا داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وكان له يوم يخلو فيه
بنفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوّروا المحراب فلما
دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذبا وقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة. وليس
في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه (الصلاة و) السلام
إلا ألفاظ أربعة :
أحدها : قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ).
وثانيها : قوله : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً).
وثالثها : (وَأَنابَ).
ورابعها : قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ). ثم نقول : هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من
وجوه :
الأول : أنهم لما
دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليهالسلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصّفح
والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة الله تعالى فكانت هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان ثم إنّه
استغفر ربه مما همّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمّ وأناب فغفر له ذلك
القدر من الهمّ والعزم.
الثاني : أنه وإن
غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال : لمّا لم تقم
دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فلبئس ما عملت حيث ظننت فيهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد
من قوله : (وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ) ثم إنه استغفر ربه وأناب منه فغفر الله له ذلك.
الثالث : دخولهم
عليه كان فتنة لداود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ إلا أنه عليه (الصلاة و) السلام
استغفر لذلك العازم على قتله كقوله في حق محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] فداود
(عليهالسلام) استغفر لهم ، وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب المغفرة
لذلك الرجل الداخل القاصد القتل ، وقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ
ذلِكَ) أي فغفرنا ذلك الذنب لأجل احترام داود وتعظيمه كما قال بعض
المفسرين في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] إن
معناه : إن الله يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمّتك.
__________________
الرابع : أنه عاتب
داود عليهالسلام عن زلّة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة. ولم لا يجوز أن يقال : إن تلك الزلة
إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني لأنه لما قال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) حكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوة الخصم بلا بينة فيكون هذا
الحكم مخالفا للصواب. فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا من باب ترك
الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآيات على هذا
الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بل
ذلك يوجب إسناد أعظم الطّاعات إليه. ثم نقول: وحمل الآية عليه أولى لوجوه :
الأول : أن الأصل
في حال المسلم البعد عن المناهي لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل.
الثاني : أنه أحوط
.
الثالث : أنه
تعالى قال في أول الآية لمحمد (صلىاللهعليهوسلم) : (اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) فإن قوم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لما أظهروا السفاهة حيث قالوا : إنه ساحر كذاب ،
واستهزأوا به حيث قالوا : ربّنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ، فقال تعالى في أول
الآية : اصبر على ما يقولون يا محمد وعلى سفاهتهم وتحمل ولا تظهر الغضب واذكر
عبدنا داود فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليهالسلام قد صبر على أذاهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش
والغضب وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه. أما إذا حملنا الآية
على ما ذكروه صار الكلام متناقضا.
الرابع : أن تلك
الرواية إنما تتمشى إذا قلنا : إن الخصمين كانا ملكين وإذا كانا ملكين ولم يكن
بينهما مخاصمة ولم يبغ أحدهما على الآخر كان قولهما : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) كذب. فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين :
أحدهما : إسناد
الكذب إلى الملائكة.
والثاني : إسناد
أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا
استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء ، فكان قولنا
أولى .
__________________
فصل
قال المفسرون قوله
: وعزّني (في الخطاب) أي قهرني وغلبني (فِي الْخِطابِ) أي في القول. قال الضحاك يقول : إن تكلم كان أفصح مني ،
وإن حارب كان أبطش مني وحقيقة المعنى أن الغلبة كانت له فضعفي في يده وإن كان الحق
معي فقال داود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه .
فإن قيل : كيف قال
: لقد ظلمك بسؤال نعجتك ولم يكن سمع قول صاحبه؟!.
فالجواب : قيل :
إن معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك ، قال ابن إسحاق : لما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود
إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال : «لئن صدق لقد ظلمه» .
وقال ابن الأنباري
: لما ادعى أحد الخصمين) اعترف الثاني فحكم داود عليه ولم يذكر الله ذلك
الاعتراف لدلالة الكلام عليه. وقيل التقدير : إن الخصم الذي هذا شأنه قد ظلمك ثم قال : (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).
قال الليث : خليط
الرّجل مخالطه ، وقال الزجاج : الخلطاء : الشركاء .
فإن قيل : لم خص
الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك؟
فالجواب : أن
المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على
أحوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيفضي
ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة فلهذا خص داود ـ عليه (الصلاة و) السلام الخلطاء
بزيادة البغي والعدوان . ثم استثنى عن هذا الحكم الذين آمنوا وعملوا الصلحات لأن
مخالطة هؤلاء لا تكون لأجل الدين. وهذا استثناء متصل من قوله : «بعضهم» .
قوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) خبر مقدم و «ما» مزيدة للتعظيم. و «هم» مبتدأ .
__________________
قال الزمخشري : و
«ما» في قوله : (قَلِيلٌ ما هُمْ) للإبهام وفيه تعجب من قلتهم.
قال : فإن أردت أن
تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرىء القيس :
٤٢٦٦ ـ وحديث ما على قصره
وانظر هل بقي لها
معنى قط ؟ (وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي امتحناه ، قرأ العامة فتنّاه بالتخفيف وإسناده إلى ضمير
المتكلم المعظّم نفسه ، وعمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء فتّنّاه بتشديد التاء.
وهي مبالغة . وقرأ الضحاك : أفتنّاه ، يقال : فتنه وأفتنه أي حمله على الفتنة ومنه :
٤٢٦٧ ـ لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت
|
|
..........
|
وقرأ قتادة وأبو
عمرو ـ في رواية ـ فتنّاه بالتخفيف وفتّنّاه بالتشديد ، والألف ضمير الخصمين ، و «راكعا» حال مقدرة ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر لظهور المقارنة.
فصل
قال المفسرون : إن
الظن ههنا بمعنى العلم ؛ لأن داود عليه (الصلاة و) السلام لما قضى بينهما نظر
أحدهما إلى صاحبه فضحك ، ثم صعد إلى السماء قبل وجهه فعلم داود أنّ الله ابتلاه
بذلك فثبت أن داود علم بذلك. وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم ، لأن العلم
الاستدلاليّ يشبه الظنّ مشابهة عظيمة والمشابهة علة لجواز المجاز. قال ابن
__________________
الخطيب : هذا
الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين إما إذا لم يقل ذلك لا يلزمنا حمل
الظن على العلم بل لقائل أن يقول : إنه لمّا غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله
تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
قوله : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) أي سأل الغفران من ربه ، ثم ههنا وجهان إن قلنا : إنه صدرت
منه زلّة حمل هذا الاستغفار عليها وإن لم يقل به قلنا فيه وجوه :
الأول : أن القوم
لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطانا شديد القهر عظيم القوة مع القدرة
الشديدة على الانتقام ومع محصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئا قرب الأمر من أن
يدخل قلبه شيء من العجب فاستغفر ربّه من تلك الحالة وأناب إلى الله ،
واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله فغفر له وتجاوز عنه بسبب
طريان ذلك الخاطر.
الثاني : لعله همّ
بإيذاء القوم ، ثم قال : إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم
ثم استغفر من ذلك الهم.
الثالث : لعل
القوم تابوا إلى الله تعالى وطلبوا منه أن يستغفر الله (لهم) ولأجل أن يقبل توبتهم
فاستغفر وتضرع إلى الله فغفر له توبتهم بسبب شفاعته ودعائه. وهذه كلها وجوه محتملة
ظاهرة ، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه ، وإذا كان اللفظ محتملا لما ذكرناه
ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام ما ذكروه من المنكرات فما الذي دل عليه
التزامه والقول به؟ ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى ختم هذه القصة بقوله: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ) ومثل هذه الخاتمة إنما يحصل في حقّ من صدر عنه امتثال
الأوامر في الخدمة والطاعة وتحمل أنواعا من الشدائد في الموافقة والانقياد.
قوله : «ذلك»
الظاهر أنه مفعول «غفرنا» وجوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي الأمر ذلك ولا حاجة إلى هذا. والمشهور أنّ الاستغفار إنما كان بسبب قصة
النّعجة ، والنّعاج ، وقيل : بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الثاني ،
وذلك غير جائز.
قوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ) أي تدبر أمور العباد بأمرنا ، واعلم أنه لما تمم الكلام في
شرح القصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض
__________________
وهذا من أقوى
الدلائل على فساد القول المشهور في القصة لأن من البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه
ساعيا في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم منهم ، ثم يذكر عقيبه أن الله
فوّض خلافة الأرض إليه. ثم في تفسير كونه خليفة وجهان :
الأول : جعلناك
تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة
الرجل من يخلفه وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة ، وذلك على الله محال.
الثاني : إنا
جعلناك ممكنا في الناس نافذ الحكم فيهم. فبهذا التأويل يسمى خليفة ، ومنه يقال خليفة
الله في الأرض وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته ، وحقيقة
الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة (مفيدة) للزوم نفاذ ذلك الحكم في تلك الحقيقة.
قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) أي بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقيقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات ، وإذا
كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى إلى تخريب العالم ووقوع
الهرج والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن
سبيل الله يوجب سوء العذاب .
قوله : «فيضلك»
فيه وجهان :
أظهرهما : أنه
منصوب في جواب النهي .
الثاني : أنه عطف
على (لا تَتَّبِعِ) فهو مجزوم ، وإنما فتحت اللام لالتقاء الساكنين. وهو نهي عن كل واحدة
على حدته ، والأول فيه النهي عن الجمع بينهما وقد يترجح الثاني لهذا المعنى ، وقد تقدم تقرير ذلك في البقرة في قوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢].
__________________
وفاعل «فيضلك»
يجوز أن يكون الهوى ، ويجوز أن يكون ضمير المصدر المفهوم من الفعل أي فيضلك اتّباع
الهوى .
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ) قرأ العامة بفتح ياء يضلون. وقرأ ابن عباس والحسن وأبو
حيوة بضمها أي يضلون الناس وهي مستلزمة للقراءة الأولى فإنه لا يضل غيره إلا
ضالّ بخلاف العكس.
قوله : (بِما نَسُوا) ما مصدرية ، والجار يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لهم» ، و (لَهُمْ عَذابٌ) يجوز أن يكون جملة خبرا ل «إنّ» ، ويجوز أن يكون الخبر وحده الجار ، و «عذاب» فاعل به وهو
الأحس لقربه من المفرد .
فصل
قيل : معناه بما
تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقال الزجاج : بتركهم العمل لذلك اليوم ، وقال عكرمة
والسدي : في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي
تركوا القضاء بالعدل .
قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا
الْأَلْبابِ)(٢٩)
قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً) قال ابن عباس : أي لا لثواب ولا لعقاب ، احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن
يكون خالقا لأعمال العباد قال : لأنها مشتملة على الكفر والفسق وكلها أباطيل فلما
بين تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا دل هذا على أنه لم يخلق
أعمال العباد.
(وأيضا قوله تعالى : (ما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)). وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل ،
فقد خلق الباطل ، ثم أكد تعالى
__________________
ذلك بأن قال : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كل من قال بهذا القول فهو كافر فهذا تصريح بأن مذهب
المجبرة من الكفر. واحتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق أعمال
العباد لأن الآية دلّت على أنه تعالى خلق ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقا لها.
فصل
دلت الآية على صحة
القول بالحشر والنّشر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم
للإضرار أو الانتفاع ، أو لا لشيء ، والأول باطل ، لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم
، والثالث أيضا باطل ؛ لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين ، فلم يبق إلا أن
يقال : خلقهم للانتفاع فذلك الانتفاع إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة
الآخرة ، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارّها كثيرة وتحمل الضرر الكثير
لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة ، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة أخرى
بعد هذه الحياة ، وذلك هو القول بالحشر والنّشر والقيامة.
قوله : «باطلا»
يجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أو حالا من ضمير أي خلقا باطلا ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل «خلقنا»
أي مبطلين ، أو ذوي باطل ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله أي للباطل ، وهو العبث.
قوله : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنهم خلقوا لغير شيء وأنه لا
بعث ولا حساب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).
قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم في الموضعين منقطعة ، وقد تقدم ما فيها. قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين :
إنّا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ) أي المؤمنين كالكفار ، قيل : أراد بالمتقين أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) يجوز أن يكون «كتاب» خبر مبتدأ مضمر ، أي هذا كتاب
__________________
و «أنزلناه» و «مبارك» خبر
مبتدأ مضمر أو خبر ثان . ولا يجوز أن يكون نعتا ثانيا لأنه لا يتقدم عند الجمهور
غير الصريح على الصّريح ، ومن يرى ذلك استدل بظاهرها . وقد تقدم تحرير هذا في المائدة.
قوله : «ليدّبّروا»
متعلق «بأنزلناه» وقرىء : مباركا على الحال اللّازمة ، لأن البركة لا تفارقه وقرأ علي ـ رضي الله عنه ـ ليتدبّروا
، وهي أصل قراءة العامة ، فأدغمت التاء في الدال ، وأبو جعفر ورويت عن عاصم والكسائيّ
لتدبّروا بتاء الخطاب وتخفيف الدال ، وأصلها لتتدبروا بتاءين فحذفت إحداهما ، وفيها الخلاف المشهور هل هي الأولى
أو الثانية ، قال الحسن : تدبروا آياته (أتباعه) (وَلِيَتَذَكَّرَ) ليتعظ أولو الألباب أي العقول.
قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
إِذْ
عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢)
رُدُّوها
عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)
وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ
لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(٤٠)
(قوله) : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) المخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد سليمان ، وقيل : داود ؛
لأنه وصفه بهذا المعنى وقد تقدم حيث قال : (داوُدَ ذَا الْأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ). والأول أظهر لأنه هو المسوق للحديث عنه ، وقرىء : بكسر العين وهي الأصل كقوله :
__________________
٤٢٦٨ ـ ..........
|
|
نعم السّاعون في
القوم في القوم الشّطر
|
فصل
قوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يدل على أنه كان نعم العبد لأنه كان أوابا ؛ أي كثير
الرجوع إلى الله في أكثر أوقاته ومهماته.
قوله : (إِذْ عُرِضَ) في ناصبه أوجه :
أحدها : «نعم» :
وهو أضعفها ؛ لأنه لا يتقيد مدحه بوقت ، (و) لعدم تصرف «نعم». قال ابن الخطيب : التقدير نعم العبد إذ
كان من أعماله أنّه فعل كذا .
الثاني : «أواب»
وفيه تقييد وصفه بذلك بهذا الوقت.
والثالث : اذكر مقدّرا ، وهو أسلمها .
والعشيّ من العصر
إلى آخر النهار. والصّافنات جمع صافن ، وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج : هو
الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وعي علامة الفراهة وأنشد :
٤٢٦٩ ـ ألف الصّفون فلا يزال كأنّه
|
|
ممّا يقوم على
الثّلاث كسيرا
|
__________________
وقيل : هو الذي
يجمع بين يديه ويسويهما ، وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المخيم ، قاله أبو عبيد .
وقيل : هو القائم
مطلقا أي سواء كان من الخيل ، أو من غيرها ، قاله القتبيّ . واستدل (بحديث) وبقوله عليه (الصلاة و) السلام «من سرّه
أن يقوم النّاس له صفونا فليتبوّأ مقعده من النّار» أي يديمون له القيام. وحكاه قطرب أيضا. وجاء في الحديث «قمنا صفونا» أي صافّين أقدامنا ، وقيل : هو القيام مطلقا سواء وقفت على
طرف سنبك أم لا ، قال الفراء : على هذا رأيت أشعار العرب ، وقال النابغة :
٤٢٧٠ ـ لنا قبّة مضروبة بفنائها
|
|
عتاق المهارى
والجياد الصّوافن
|
والجياد إما من
الجودة ، يقال : جاد الفرس يجود جودة وجودة بالفتح والضم فهو جواد ، للذكر
والأنثى. والجمع جياد وأجواد ، وأجاويد ، وقيل : جمع لجود بالفتح كثوب وثياب. وقيل
: جمع جيّد. وإما من الجيد وهو العنق ، والمعنى : طويلة الأعناق الأجياد. وهو دال
على فراهتها .
قوله : (حُبَّ الْخَيْرِ) فيه أوجه :
أحدها : هو مفعول
أحببت لأنه بمعنى آثرت ، و «عن» على هذا بمعنى «على» أي على ذكر ربّي ، لأنه روي أن
عرض الخيل حتى شغلته عن صلاة العصر أول الوقت حتى غربت الشّمس.
وقال أبو حيان ـ وكأنه
منقول عن الفراء ـ : إنّه ضمن «أحببت» معنى آثرت ، حيث نصب «حب الخير» مفعولا (به)
. وفيه نظر ؛ لأنه متعد بنفسه وإنما يحتاج إلى التضمين إن لم يكن متعدّيا .
__________________
الثاني : أن «حب»
مصدر على حذف الزوائد والناصب له «أحببت» .
الثالث : أنه مصدر
تشبيهي أي حبّا مثل حبّ الخير .
الرابع : أنه قيل
: ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعن .
الخامس : أن أحببت
بمعنى لزمت .
قال ابن الخطيب :
إن الإنسان قد يحب (شيئا ولكنه يجب أن) لا يحبه كالمريض الذي يشتهي في مرضه فأما من أحب شيئا وأحب
أن يحبه فذلك غاية المحبة ، فقوله : (أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ) أي أحببت حبي للخير .
السادس : أن أحببت
من أحبّ البعير إذا سقط وبرك من الإعياء ، والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون «حب الخير» على هذا
مفعولا من أجله ، والمراد بقوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) ، قيل : عن صلاة العصر ، وقيل : عن كتاب ربي وهو التوراة ، لأن ارتباط الخيل كما
أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح وقوله (ذِكْرِ رَبِّي) يجوز أن يكون مضافا للمفعول أي عن أن أذكر ربي ، وأن يكون
مضافا للفاعل أي عن أن ذكر بي ربي والمراد بالخير : الخيل والعرب تعاقب بين الراء واللام (تقول)
: ختلت الرجل وخترته أي خدعته ، وسميت الخيل (خيرا) لأنه معقود بنواصيها الخير الأجر والمغنم .
قوله : (حَتَّى تَوارَتْ) في الفاعل وجهان :
أحدهما : هو : «الصّافنات»
، والمعنى : حتى دخلت إصطبلاتها فتوارت وغابت .
والثاني : أنه : «الشمس» أضمرت لدلالة السياق عليها ، وقيل : لدلالة «العشيّ»
__________________
عليها فإنها تشعر
بها ، وقيل : يدل عليها الإشراق في قصة داود . وما أبعده.
قوله : «ردّوها»
هذا الضمير للصّافنات ، وقيل : للشمس وهو غريب جدّا . قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لوجوه :
منها : أن
الصّافنات مذكورة بالتصريح ، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من
عوده إلى المقدّر ، ومنها : أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر
كان ذلك ذنبا عظيما ومن كان هذا حاله فطريقه التّضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة
فإما أن يقول على سبيل العظمة لربّ العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب
عقيب ذلك الجرم العظيم (فهذا) لا يصدر عن
أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول المطهر المكرم ومنها أن القادر على
تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردّها عليّ ، ولا يقول :
ردوها عليّ لأن هذا اللفظ مشعر بأعظم أنواع الاستعلاء فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية
التعظيم؟ ومنها : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهدا لأهل الدنيا ولو
كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علمنا فساده .
قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً) نصب «مسحا» بفعل مقدر ، هو خبر طفق أي (ف) طفق يمسح مسحا ، لأن خبر هذه الأفعال لا يكون إلا مضارعا في الأمر العام.
وقال أبو البقاء ـ وبه بدأ ـ : مصدر في موضع الحال وهذا ليس بشيء ؛ لأن «طفق» لا بدّ لها من خبر .
وقرأ زيد بن علي :
مساحا بزنة قتال ، والباء في «بالسوق» مزيدة مثلها في قوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].
وحكى سيبويه : مسحت رأسه وبرأسه بمعنى واحد .
ويجوز أن تكون
للإلصاق كما تقدم ، وتقدم همز السوق وعدمه في النمل .
__________________
وجعل الفارسيّ
الهمز ضعيفا . وليس كما قال لما تقدم من الأدلة. وقرأ زيد بن عليّ (أيضا)
«بالسّاق» مفردا اكتفاء بالواحد لعدم اللّبس كقوله :
٤٢٧١ ـ ..........
|
|
وأمّا جلدها
فصليب
|
وقوله :
٤٢٧٢ ـ ..........
|
|
كلوا في بعض
بطنكم تعفّوا
|
وقوله :
٤٢٧٣ ..........
|
|
في حلقكم عظم
وقد شجينا
|
قال الزمخشري :
فإن قلت : بم اتّصل قوله «ردوها علي»؟
قلت : بمحذوف
تقديره قال ردوها فأضمر وأضمر ما هو جواب له كأنّ قائلا قال : فماذا قال سليمان؟ لأنه
موضع مقتض للسؤال اقتضاءا ظاهرا .
قال أبو حيان :
وهذا لا يحتاج إليه لأن هذه الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو : «فقال : إنّي
أحببت» .
__________________
فصل
قال المفسرون :
إنه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لما فاتته صلاة العصر لاشتغاله بالنظر إلى تلك
الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى ، وبقي منها مائة ،
فالخيل التي في أيدي الناس اليوم ، من نسل تلك المائة ، قال الحسن : فلما عقر
الخيل ، أبدله الله ـ عزوجل ـ خيرا منها وأوسع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء . قال ابن الخطيب : وهذا عندي بعيد لوجوه :
الأول : أنه لو
كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي اقطعوها وهذا لا يقوله
عاقل ، بل لو قيل : مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق ، أما إذا لم يذكر
لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.
الثاني : أن
القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أنواعا من
الأفعال المذمومة.
فأولها : ترك
الصلاة.
وثانيها : أنه
استولى عليه الاشتغال بحبّ الدنيا حيث نسي الصلاة وقال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ
: (حبّ) الدّنيا رأس كلّ خطيئة .
وثالثها : أنه بعد
الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة.
ورابعها : أنه
خاطب رب العالمين بقوله : (رُدُّوها عَلَيَّ) وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس.
وخامسها : أنه
أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل من سوقها وأعناقها وقد «نهى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» ، وهذه أنواع من الكبائر
نسبوها إلى سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ مع أن لفظ القرآن لم يدلّ على شيء
منها. وخلاصتها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله عزوجل لمحمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : يا محمد اصبر على
سفاهتهم ، واذكر عبدنا داود ، ثم ذكر عقيبه قصّة سليمان فكان التقدير أنه تعالى
قال لمحمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا
سليمان. وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا : إن سليمان ـ عليه
__________________
(الصلاة و) السلام
ـ أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى
وأعرض عن الشهوات واللذات ، فلو كان المقصود من قصة سليمان في هذا الموضع أنه أقدم
على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقا. والصواب أن نقول : إن
رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما هو في دين محمد عليه (الصلاة و) السلام ؛
ثم إنّ سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل
وأمر بإجرائها ، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما حبها لأمر الله
وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي). ثم إنه ـ عليهالسلام ـ أمر بإجرائها وسيّرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره
، ثم إنه أمر الرابضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح
سوقها وأعناقها. والغرض من ذلك أمور:
الأول : تشريفا
لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني : أنه أراد
أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتّضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث : أنه كان
أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل
فيها ما يدل على المرض. فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا
يلزم منه نسبة شيء من تلك المنكرات إلى سليمان عليه ـ (الصلاة و) السلام ـ والعجب
منهم كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها
شبهة فضلا عن حجة؟
فإن قيل :
فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه.
فالجواب : أن نقول
لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا ، وأيضا فإن
الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ ولم يدل على
صحة هذه الحكايات دليل قاطع ، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف
الحكايات عن أقوام لا نلتفت إلى أقوالهم؟ والذي ذهبنا إليه قول الزهري وابن كيسان.
قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) قال بعض المفسرين : إن سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بلغه
خبر مدينة في البحر يقال لها : صيد ، فخرج إليها بجنوده فأخذها وقتل ملكها وأخذ بنتا له اسمها : «جرادة» من أحسن الناس وجها
فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبّها فكانت تبكي على أبيها ، فأمر سليمان الشيطان فمثل
لها صورة أبيها فكستها مثل
__________________
كسوته وكانت تذهب
إلى تلك الصورة بكرة وعشيّا مع جواريها يسجد (و) ن لها فأخبر «آصف» سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة
وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرّماد وجلس عليه تائبا لله تعالى ، وكانت له أم ولد يقال لها : الأمينة إذا دخل
للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه فيه موضعه عندها يوما فأتاها
الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة «سليمان» وقال لها يا أمينة : خاتمي
فناولته الخاتم فتختّم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس
وتغيرت هيئة سليمان فأتى الأمينة لطلب الخاتم فأنكرته فعلم أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف ، وإذا
قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبّوه ، وأخذ ينقل السمك للسّماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم
الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن : ما يدع امرأة (منا) في دمها ولا تغتسل من جنابة ، وقيل : (بل) نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم
في البحر فابتلعته سمكة ، ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم
فتختم به ووقع ساجدا لله تعالى ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان فحبسه في صخرة
وألقاها في البحر.
وقيل : إن تلك
المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من
يده ولا يتماسك فيها فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتب إلى الله تعالى.
وقيل : إن سليمان
قال لبعض الشياطين : كيف تفتنون الناس ، فقال : أرني خاتمك أخبرك ، فلما أعطاه
إياه نبذه في البحر ، وذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ثم ذكر الحكاية إلى
آخرها فقالوا : المراد من قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ) أن الله تعالى ابتلاه ، وقوله : (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً) عقوبة له. قال ابن الخطيب : واستبعد أهل التحقيق هذا
الكلام من وجوه :
الأول : أن
الشيطان لو قدر على أن يتشبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد
على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى
__________________
وموسى ـ عليهم (الصلاة
و) السلام ـ ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء
والإضلال. وذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني : أن
الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على
مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تصانيفهم ، ويخرّب
ديارهم. ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولى.
الثالث : كيف يليق
بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ (ولا شك أنه قبيح.
الرابع : لو قلنا
: إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادت (ها) تلك الصورة فهذا كفر منه) وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ
الله سليمان بفعل لم يصدر منه؟
وأما أهل التحقيق
فذكروا وجوها :
الأول : أن فتنة
سليمان أنه ولد له ابن فقال الشيطان إن عاش صار ملكا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ لقي ذلك (الولد) ميتا على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يثق ويتوكل على
الله فاستغفر ربه وتاب.
الثاني : روي عن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : قال سليمان لأطوفنّ اللّيلة على سبعين امرأة
كلّ امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله تعالى فطاف عليهنّ
فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله تعالى
لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين فذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف : «إنّه لحم على
وضم وجسم بلا روح». «ثمّ أناب» أي رجع إلى حال الصحة. فاللفظ يحتمل لهذه الوجوه
ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
الثالث : لا يبعد
أيضا أن يقال : إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو وقوع بلاء توقّعه من بعض
الجهات حتى صار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الخفي على ذلك الكرسي. ثم إن
الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب .
__________________
قوله : «جسدا» فيه
وجهان :
أظهرهما : أنه
مفعول به لألقينا.
والثاني : أنه حال
، وصاحبها إما سليمان لأنه يروى أنه مرض حتى صار كالجسد الذي لا روح فيه ، وإما
ولده ، قالهما أبو البقاء ولكن «جسد» جامد فلا بدّ من تأويله بمشتق أي ضعيفا أو فارغا.
قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) تمسك به من حمل الكلام المتقدم على صدور الزّلّة لأنه لو
لا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ويمكن أن يجاب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل
والأولى وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأنه
أبدا في مقام هضم النفس وإظهار الذّلّة والخضوع كما قال ـ عليه (الصلاة و) السلام
ـ : «إنّي لأستغفر الله في اليوم واللّيلة سبعين مرّة» مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قوله : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهمّ الدين على مهمّ
الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم طلب المملكة بعده ، ثم دلت الآية أيضا على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح
أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب
المملكة ونوح ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قال : (فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) يغفر (يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [١٠ ـ ١٢] وقال
لمحمد عليه (الصلاة و) السلام : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢].
فإن قيل : قول
سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : (هَبْ لِي مُلْكاً لا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) مشعر بالحسد.
فالجواب : أن
القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معناه هو : أن يعطيه الله ملكا لا
يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه ألبتة ، وأما المنكرون فأجابوا بوجوه :
الأول : أن الملك
هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري
عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا
__________________
قوله تعالى عقيبه
: (فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته.
الثاني : أنه ـ عليه
(الصلاة و) السلام ـ لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى
التغيرات فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل عنّي إلى غيري.
الثالث : أنّ
الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على
ممالك البشر بالكلية حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير (ثوابي) أكمل وأفضل.
الرابع : سأل ذلك
ليكون علما على قبول توبته حيث أجاب الله دعاءه ورد عليه ملكه وزاده فيه.
قوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخاءً) ليّنة أي رخوة ليّنة ، وهي من الرخاوة والريح إذا كانت
لينة لا تزعزع (ولا تمتنع عليه إذا كانت طيبة).
فإن قيل : قد قال
في آية أخرى : (وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ).
فالجواب من وجهين
:
الأول : لا منافاة
بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرّيح العاصفة إلا أنها لما
أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رخاء.
الثاني : أن تلك
الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين .
قوله : (حَيْثُ أَصابَ) ظرف ل «تجري» أو «لسخّرنا» و «أصاب» أراد
بلغة حمير.
وقيل : بلغة هجر . وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون : أصاب الصواب فأخطأ
الجواب .
__________________
وروي أن رجلين
خرجا يقصدان «رؤبة» ليسألاه عن هذا الحرف فقال لهما : أين تصيبان فعرفاها وقالا
هذه بغيتنا ، وأنشد الثعلبيّ على ذلك :
٤٢٧٤ ـ أصاب الجواب فلم يستطع
|
|
فأخطا الجواب
لدى المفصل
|
أي أراد الجواب
ويقال : «أصاب الله بك خيرا» أي أراد بك . وقيل : الهمزة في أصاب للتعدية من (أ) صاب يصوب أي نزل ، قال :
٤٢٧٥ ـ ..........
|
|
تنزّل من جوّ
السّماء يصوب
|
والمفعول محذوف أي أصاب جنوده أي حيث وجّههم وجعلهم يصوبون صوب
المطر ، و «الشياطين» نسق على «الريح» و «كل بناء» بدل من «الشياطين» ، كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية.
روي أن سليمان ـ عليه
(الصلاة و) السلام ـ أمر الجانّ فبنت له إصطخر ، فكانت فيها قرار مملكة النزل
قديما ، وبنت له الجان أيضا «تدمر» وبيت المقدس وباب جبرون وباب البريد الذين
بدمشق على أحد الأقوال ، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غدان وشالخين ويبنون ومدينة
صنعاء. وقوله : «وغواص» نسق على «بناء» أي يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. وأتى بصيغة
المبالغة لأنه في معرض الامتنان.
قوله : (وَآخَرِينَ) عطف على «كلّ» فهو داخل في حكم البدل وتقدم شرح (مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ) آخر سورة إبراهيم .
__________________
فصل
قال ابن الخطيب :
دلت هذه الآيات على أن الشياطين لها قوة عظيمة قدروا بها على بناء تلك الأبنية
العظيمة التي لا يقدر عليها البشر ، وقدروا على الغوص في البحار واستخراج اللآلىء
وقيدهم سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ. ولقائل أن يقول : هذه الشياطين إما أن
تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ؛ فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان شديد الحاسّة ؛
إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات
هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في السّفسطة وإن كانت أجسادهم لطيفة فمثل
هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة ، ويلزم أيضا أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزّق بالرّياح العاصفة القوية وأن يموتوا (في الحال) وذلك يمنع وصفهم بالقوة وأيضا فالجنّ والشياطين وإن كانوا
موصوفين بهذه القوة والشدة فلم لا يقتلون العلماء والزّهّاد في زماننا هذا ولم لا
يخرّبون ديار الناس مع أن المسلمين يبالغون في إظهار لعنتهم وعداوتهم وحيث لم يحس
بشيء من ذلك علمنا أن القول بإثبات الجنّ ضعيف.
قال ابن الخطيب :
واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسادهم كثيفة مع أنا لا نراهم وأيضا لا يبعد أن
تكون أجسادهم لطيفة بمعنى عدم الكون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق. وأما
الجبّائيّ فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام ، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في
زمن سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ثم إنه لما توفي سليمان ـ عليه (الصلاة و)
السلام ـ أمات الله أولئك الجنّ والشياطين وخلق أنواعا أخر من الجن والشياطين تكون
أجسادهم في غاية الرّقّة ، ولا يكون لهم شيء من القوة ، والموجود في زماننا من
الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس ـ والله أعلم ـ.
قوله : (هذا عَطاؤُنا) أي قلنا له : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك ، قال ابن عباس :
أعط من شئت وامنع من شئت .
قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق
«بعطاؤنا» أي
أعطيناك بغير حساب ولا تقدير. وهو دلالة على كثرة الإعطاء.
__________________
الثاني : أنه حال من : «عطاؤنا» أي في حال كونه غير محاسب عليه لأنه جمّ
كثير يعسر على الحسّاب ضبطه.
الثالث : أنه
متعلق «بامنن» أو «أمسك» ، ويجوز أن يكون حالا من فاعلهما أي غير محاسب عليه.
فصل
قال المفسرون :
معناه لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما (أ) مسكت ، قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه
تبعة إلا سليمان ، فإنه (إن) أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. وقال مقاتل : هذا
في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمسك من شئت (منهم) في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه .
قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ) نسقا على اسم «إنّ» وهو «لزلفى».
وقرأ الحسن وابن
أبي عبلة برفعه على الابتداء ، وخبره مضمر ، لدلالة ما تقدم عليه ، ويقفان
على (لزلفى) ويبتدئان ب (حُسْنَ مَآبٍ) ؛ أي وحسن مآب له أيضا .
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٤٤)
قوله : (تعالى) : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ) كقوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) وفيه الثلاثة الأوجه ، و (إِذْ نادى) بدل منه بدل اشتمال أي بأني ، وقوله : «أنّي» جاء به على حكاية كلامه الذي ناداه بسببه
ولو لم يحكه لقال : (إِنْ مَسَّهُ) لأن غائب .
__________________
وقرأ العامة بفتح
الهمزة على أنه هو المنادي بهذا اللفظ. وعيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول أو على إجراء النداء مجراه.
قوله : «بنصب» قرأ
العامة بالضم والسكون ، فقيل : هو جمع نصب بفتحتين ، نحو : (وثن) ووثن وأسد وأسد ، وقيل : هو لغة في النّصب نحو : رشد ورشد وحزن وحزن وعدم وعدم. وأبو جعفر وشيبة وحفص ونافع ـ في
رواية ـ بضمتين ـ وهو تثقيل نصب بضمة وسكون ، قاله الزمخشري . وفيه بعد لما تقرر أن مقتضى اللغة تخفيف فعل كعنق لا تثقيل فعل كقفل. وفيه خلاف. وقد تقدم في هذا العسر واليسر في البقرة .
وقرأ أبو حيوة
ويعقوب وحفص ـ في رواية ـ بفتح وسكون وكلها بمعنى واحد وهو التّعب والمشقة.
فصل
النّصب المشقة
والضر. قال قتادة ومقاتل : النصب في الجسد والعذاب في المال . واعلم أن داود وسليمان ـ عليهما (الصلاة و) السلام ـ كانا
ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنّعماء ، وأيوب كان ممن خصّه الله تعالى
بأنواع البلاء. والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال : يا محمد
اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها أكثر من داود
وسليمان ، وما كان أكثر بلاء ولا محنة من أيوب. فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ
أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره .
__________________
فصل
قال بعض الحكماء :
الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان ، وقيل : إنما حصلت بفعل
الله تعالى. والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة وإلقاء
الخواطر الفاسدة أما تقرير القول الأول فهو ما روي أنّ إبليس سأل فيه ربه فقال :
هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب فجعل
يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه فقال : رب إنه قد امتنع عليّ
فسلّطني على ماله فكان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا فيقول : الله أعطى
والله أخذ ثم يحمد الله تعالى فقال : يا رب إنّ أيوب لا يبالي بماله فسلّطني على
ولده فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلّطني
على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه فمكث في ذلك
البلاء سنين حتى استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء
الشيطان إلى امرأته ، وقال : إنّ زوجك إن استغاث إليّ خلّصته من هذا البلاء فذكرت
المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدها مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ
وَعَذابٍ) فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه أن : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) وأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها
فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ، ورد عليه أهله وماله. وأما القول الثاني
أن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه
:
الأول : أنا لو
جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد
الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل بفعل الشيطان وحينئذ لا سبيل (لنا) إلى معرفة معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى
أم الشيطان.
الثاني : أن
الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ، ولم (لا) يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم.
الثالث : أن الله
حكى عن الشيطان أنه قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ
مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢]
فصرح بأنه لا قدرة له في حقّ البشر ، إلا إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة فدل ذلك
على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.
__________________
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يقال : إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله لكن على وفق التماس الشيطان؟
قلنا : فإذا كان
لا بدّ من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأيّ فائدة في جعل
الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد من قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أنه سبب إلقاء الوساوس الفاسدة كأن يلقيه في أنواع العذاب ،
والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا
وجوها :
الأول : أن علته
كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له
مال ألبتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل قدر القوت ، ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى
أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم والشيطان كان يذكر (ه) النّعم التي كانت ، والآفات التي حصلت وكان يحتال في دفع
تلك الوساوس ، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ
وَعَذابٍ) لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
الثاني : أنه لما طالت مدة المرض جاء الشيطان فكان يقنطه مدة
ويزلزله أن يجزع فخاف من خاطر القنوط في قلبه وتضرع إلى الله تعالى وقال : إنّي مسني الشيطان.
الثالث : روي أن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «بقي أيّوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتى رفضه
القريب والبعيد إلّا رجلين ، ثم قال أحدهما لصاحبه : لقد أذنب أيوب ذنبا ما أتى به
أحد من العالمين ، ولولاه لما وقع في مثل هذا البلاء فذكروا ذلك لأيوب فقال : لا
أدري ما تقولان غير أنني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع
إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق».
الرابع : قيل :
إنّ امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب فاتّفق أنهم
ما استخدموها ألبتة وطلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر
القوت ففعلت ، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب ـ عليه
(الصلاة و) السلام ـ إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذّؤابة فلما لم يجد
الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه ، فعند ذلك قال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ
وَعَذابٍ).
الخامس : روي أنه
ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قال في بعض الأيام : يا رب لقد علمت أني ما اجتمع عليّ
أمران إلا آثرت طاعتك ، ولما أعطيتني المال كنت للأرامل
__________________
قيما ، ولابن
السبيل معينا ولليتامى أبا فنودي : يا أيوب ممّن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب
التراب ووضعه على رأسه وقال : منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال : مسّني
الشيطان بنصب وعذاب وذكر أحوالا أخر. والله أعلم .
قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) معناه أنه لما اشتكى مسّ الشّيطان فكأنه سأل ربه أن يزيل
عنه تلك البلية فأجابه الله بأن قال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ). والرّكض هو الدفع القويّ بالرجل. ومنه ركض الفرس ، والتقدير : قلنا
له اركض برجلك قيل : إنه ضرب برجله تلك الأرض فنبعت عين ، فقيل : هذا مغتسل بارد
وشراب أي هذا ما تغتسل به فيبرأ ظاهرك وتشرب منه فيبرأ باطنك. وظاهر (هذا) اللفظ
يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه ، وشرب منه ، والمفسرون قالوا : نبعت له عينان فاغتسل من
إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى . وقيل : ضرب برجله اليمين فنبعت عين حارّة فاغتسل منها ثم
باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها.
قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ) قيل : هم عين أهله ودياره (وَمِثْلَهُمْ) قيل : غيرهم مثلهم ، والأول أولى ؛ لأنه الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير
ضرورة . ثم اختلفوا فقيل : أزلنا عنهم السّقم فأعيدوا أصحّاء ، وقيل : بل حضروا عنده
بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا ، وقيل : بل تمكن منهم وتمكنوا منه كما
يفعل بالعشرة والخدمة .
قوله : (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) الأقرب أنه تعالى (متّعه) بصحّته وماله وقواه حتى كثر نسله وصاروا أهله ضعف ما كانوا وأضعاف ذلك. وقال الحسن : المراد بهبة
الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا .
__________________
قوله : «رحمة
وذكرى» مفعول من أجله أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليتذكّر بحاله أولو الألباب
يعني سلطنا عليه البلاء أولا فصبر ، ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلنا إليه الآلاء
والنّعماء تنبيها لأولي الألباب على أن من صبر ظفر. وهو تسلية لمحمد ـ عليه (الصلاة
و) السلام ـ كما تقدم. قالت المعتزلة: وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معلّلة
بالأغراض والمقاصد لقوله : (رَحْمَةً مِنَّا
وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).
قوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) (ضغثا) معطوف على «اركض». والضّغث الحزمة الصّغيرة من الحشيش والقضبان ،
وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان . وفي المثل : «ضغث على إبّالة» والإبّالة الحزمة من الحطب ، قال الشاعر :
٤٢٧٦ ـ وأسفل منّي نهدة قد ربطتها
|
|
وألقيت ضغثا من
خلى متطيب
|
وأصل المادة يدل
على جمع المختلطات ، وقد تقدم هذا في يوسف في قوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [يوسف : ٤٤].
قوله : (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) الحنث الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف
على فعله لأنهما سببان فيه غالبا .
فصل
هذا الكلام يدل
على تقدم يمين منه ، وقد روي أنه حلف على أهله ، واختلفوا في سبب حلفه عليها
، ويبعد ما قيل : إنها رغبة في طاعة الشيطان ويبعد أيضا ما روي أنها قطعت ذوائبها
لأن المضطر يباح له ذلك ، بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات ، وذلك أنها ذهبت
في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنّها مائة إذا برىء ،
__________________
ولما كانت حسنة
الخدمة لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة
باقية ، لما روي أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أتي برجل ضعيف زنا بأمة فقال : «خذوا (عثكالا فيه) مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة».
قوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) فإن قيل : كيف وجده صابرا وقد شكا إليه؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه شكى
مسّ الشيطان إليه وما شكى إلى أحد.
والثاني : أن
الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين (ف)
تضرّع.
الثالث : أن
الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر.
قوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) يدل على أن التشريف بقوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ) إنما حصل لكونه أوابا.
روي أنه لما نزل
قوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ) في حق سليمان تارة وفي حق أيوب أخرى عظم في قلوب أمة محمد
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقالوا : إن قوله : نعم العبد تشريف عظيم فإن احتجنا إلى
تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله :
(فَنِعْمَ الْمَوْلى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨]. والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم
المولى فإن كان منك الفضل فمني الفضل وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتّيسير .
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
وَاذْكُرْ
إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)(٤٨)
قوله : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) قرأ ابن كثير : عبدنا بالتوحيد . والباقون عبادنا بالجمع والرسم يحتملهما ، فأما قراءة ابن
كثير فإبراهيم بدل ، أو بيان ،
__________________
أو بإضمار أعني ،
وما بعده عطف على نفس «عبدنا» لا على : «إبراهيم» ؛ إذ يلزم إبدال جمع من مفرد .
ولقائل أن يقول :
لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجمع منه كقراءة ابن عباس : «وإله أبيك
إبراهيم» في البقرة [١٣٣] في أحد القولين. وقد تقدم. وأما قراءة
الجماعة ، فواضحة لأنها موافقة للأول في الجمع.
قال ابن الخطيب :
لأن غير إبراهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في حق عيسى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا
عَلَيْهِ) [الزخرف : ٥٩] وفي
أيوب : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : ٤٤] وفي نوح:
(إِنَّهُ كانَ عَبْداً
شَكُوراً) [الإسراء : ٣]
والمعنى اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر صبر أيوب على البلاء واذكر صبر إبراهيم
حين ألقي في النار وصبر إسحاق حين عرض على الذّبح وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره .
قوله : (أُولِي الْأَيْدِي) العامة على ثبوت الياء وهو جمع «يد» وهي إما الجارحة وكني
بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما تزاول باليد ، وقيل : المراد بالأيدي ـ جمع يد ـ المراد بها
النّعمة . وقرأ عبد الله والأعمش والحسن وعيسى : الأيد بغير ياء ، فقيل : هي الأولى. وإنما حذفت الياء اجتزاء عنها بالكسرة
ولأن «أل» تعاقب التنوين والياء تحذف مع التنوين فأجريت مع «أل» إجراؤها معه. وهذا ضعيف جدّا . وقيل : الأيد القوة ، إلّا أنّ الزّمخشريّ قال : وتفسيره
بالأيد من التأييد قلق غير متمكن . انتهى.
وكأنه إنما قلق عنده لعطف «الأبصار» عليه فهو مناسب للأيدي لا
للأيد من
__________________
التأييد. وقد يقال
: إنه لا يراد حقيقة الجوارح ، إذ كلّ أحد كذلك إنما المراد الكناية عن العمل
الصالح والتفكر ببصيرته ، فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الأبصار وكأنه قيل أولي
القوة والتفكر بالبصيرة ، وقد نحا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك ، قال ابن عباس : أولي القوة في طاعة الله والأبصار في
المعرفة بالله أي البصائر في الدين ، وقال قتادة ومجاهد أعطوا قوة في العبادة
وبصرا في الدين.
قوله : (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) بالإضافة وفيها أوجه :
أحدها : أن يكون
إضافة خالصة إلى «ذكرى» ، للبيان لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى كما في قوله : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) [النمل : ٧] لأن
الشهاب يكون قبسا وغيره .
الثاني : أن «خالصة»
مصدر بمعنى إخلاص فيكون مصدرا مضافا لمفعوله والفاعل محذوف أي بأن أخلصوا ذكرى
الدار وتناسوا عندها ذكر (ى) الدنيا ، وقد جاء المصدر على فاعله كالعافية ، أو يكون
المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدّار.
الثالث : أنها
مصدر أيضا بمعنى الخلوص فتكون مضافة لفاعلها أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة وفيها أوجه :
أحدها : أنها مصدر
بمعنى الإخلاص فتكون : «ذكرى» منصوبا به ، وأن يكون بمعنى الخلوص فيكون «ذكرى» مرفوعا به كما تقدم .
والمصدر يعمل
منونا كما يعمل مضافا. أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه ، «وذكرى» بدل أو بيان لها
. أو منصوب بإضمار أعني ، أو مرفوع على إضمار مبتدأ. و «الدار» يجوز أن يكون مفعولا به «بذكرى» وأن يكون
ظرفا إما على الاتّساع ، وإما على إسقاط الخافض. ذكرهما أبو البقاء . و «خالصة» إذا كانت صفة فهي صفة لمحذوف أي بسبب خصلة
خالصة .
__________________
فصل
من قرأ بالإضافة
فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة إن لم يعملوا لها ، والذّكرى بمعنى الذكر. قال مالك بن دينار : نزعنا من
قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها ، وقال قتادة : كانوا يدعون
إلى الآخرة وإلى الله عزوجل. وقال السدي : أخلصوا الخوف للآخرة ، وقيل : أخلصناهم
بأفضل ما في الآخرة ، قاله ابن زيد. ومن قرأ بالتنوين فمعناه بخلّة خالصة وهي ذكرى
الدار فتكون (ذِكْرَى الدَّارِ) بدلا عن الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما اخترنا من ذكر
الآخرة . والمراد بذكرى الدار : الذكر الجميل الرفيع لهم في
الآخرة.
وقيل : (إنهم) أبقي لهم الذكر الجميل في الدنيا ، وقيل : هو دعاؤهم (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ).
قوله : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي المختارين من أبناء جنسهم ، والأخيار : جمع خير أو خيّر
ـ بالتثقيل والتخفيف ـ كأموات في جميع ميّت أو ميت. واحتج العلماء بهذه الآية على
إثبات عصمة الأنبياء لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق وهذا يعم
حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) وهم (قوم) آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله ، وقد تقدم
شرح أصحاب هذه الأسماء في سورة «الأنعام» .
قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها
يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ
(٥٢)
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤)
قوله : (هذا ذِكْرٌ) جملة جيء بها إيذانا بأنّ القصّة قد تمّت وأخذ في أخرى
وهذا كما فعل الجاحظ في كتبه يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر ويدل على ذلك أنه لما
__________________
أراد أن يعقب بذكر
أهل النار ذكر أهل الجنة ثم قال : (هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ) وقيل : المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون أبدا
والصحيح الأول.
قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) المآب المرجع ، لما حكى سفاهة قريش على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بقولهم : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) وقولهم له استهزاء : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) ثم أمره بالصبر على سفاهتهم واقتدائه بالأنبياء المذكورين
في صبرهم على الشدائد والمكاره بين ههنا أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا
وكذا وكل من خالفه كان له من العقاب كذا وكذا. وذلك يوجب الصبر على تكاليف الله
تعالى. وهذا نظم حسن ، وترتيب لطيف .
قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) العامة على نصب «جنات» بدلا من (حُسْنَ مَآبٍ) سواء كانت (جَنَّاتِ عَدْنٍ) معرفة أم نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس ، ويجوز
أن تكون عطف بيان إن كانت نكرة ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة .
(وقد جوز الزمخشري
ذلك بعد حكمه) واستدلاله على أنها معرفة ، وهذا كما تقدم له في مواضع يجيز
عطف البيان وإن تخالفا تعريفا وتنكيرا . وقد تقدم هذا في قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ
إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] ،
ويجوز أن ينتصب (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بإضمار فعل ، و «مفتّحة» حال من (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أو نعت لها إن كانت نكرة .
وقال الزمخشري :
حال ، والعامل فيها ما في «المتّقين» من معنى الفعل. انتهى .
وقد علل أبو
البقاء بعلة في «متّكئين» تقتضي منع «مفتحة» أن تكون حالا وإن كانت العلة غير
صحيحة فقال : ولا يجوز أن تكون ـ يعني متكئين ـ حالا من «للمتقين» ؛ لأنه قد أخبر عنهم قبل الحال . وهذه العلة موجودة في جعل «مفتّحة» حالا من للمتقين كما
ذكره الزمخشري إلّا أنّ هذه العلة ليست صحيحة. وهو نظير قولك : «إنّ لهند (ما) لا قائمة» وأيضا في عبارته تجوز فإن «للمتقين» لم يخبر
__________________
عنهم صناعة إنما
أخبر عنهم معنى وإلا فقد أخبر عن (حُسْنَ مَآبٍ) بأنه لهم ، وجعل الحوفي العامل مقدرا أي يدخلونها مفتحة .
قوله : «الأبواب»
في ارتفاعها وجهان :
أشهرهما عند الناس
: أنها مرتفعة باسم المفعول كقوله : (وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣].
واعترض على هذا بأن «مفتّحة» إما حال ، وإما نعت «لجنّات». وعلى التقديرين فلا
رابط. وأجيب بوجهين :
أحدهما : قول
البصريين وهو أن ثمّ خبرا مقدرا تقديره الأبواب منها.
والثاني : أن («أل»)
قامت مقام الضمير ، إذ الأصل أبوابها ، وهو قول الكوفيين . وتقدم تحقيق هذا. والوجهان جاريان في قوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١].
الثاني : أنها
مرتفعة على البدل من الضمير في مفتحة العائد على جنات. وهو قول الفارسي . لما رأى خلوّها من الرابط لفظا ادّعى ذلك. واعترض على هذا
بأن هذا من بدل البعض أو الاشتمال وكلاهما لا بدّ فيهما من ضمير فيضطر إلى تقديره
كما تقدم. ورجح بعضهم الأول بأن فيه إضمارا واحدا وفي هذا إضماران وتبعه الزمخشري فقال «والأبواب» بدل من الضمير في «مفتحة»
أي مفتحة هي الأبواب كقولك : «ضرب زيد اليد والرّجل» وهو من بدل الاشتمال .
فقوله : «بدل
الاشتمال» إنما يعني به الأبواب لأن الأبواب قد يقال : إنها ليست بعض الجنات ،
وأما ضرب زيد اليد والرجل فهو بعض من كل ليس إلا .
وقرأ زيد بن علي
وأبو حيوة جنات عدن مفتحة برفعها إما على أنها جملة من
__________________
مبتدأ وخبر ، وإما
على أن كل واحدة خبر مبتدأ مضمر أي هي جنات هي مفتحة .
قوله : «متّكئين»
حال من «لهم» العامل فيها مفتحة ، وقيل : العامل «يدعون» .
(و) تأخر عنها. وقد تقدم منع أبي البقاء أنها حال من «للمتقين»
وما فيه ، و «يدعون» يجوز أن يكون مستأنفا وأن يكون حالا إما من ضمير «متكئين»
وإما حالا ثانية .
فصل
اعلم أنه تعالى
وصف أحوال أهل الجنة في هذه الآية بأشياء :
أولها : أحوال
مساكنهم جنات عدن وذلك يدل على أمرين :
أحدهما : كونها
بساتين.
والثاني : كونها
دائمة ليست منقضية ، وقوله : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ) قيل : المراد أن الملائكة يفتحو (ن) لهم أبواب الجنة ويحيّونهم بالسلام كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣]. وقيل:
الحق أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم ، وقيل : المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن
بالسّعة وقرّة العيون فيها ، وقوله : «متّكئين» قد ذكر في آيات أخر كيفية
ذلك الاتّكاء فقال في آية : (عَلَى الْأَرائِكِ
مُتَّكِؤُنَ) [يس : ٥٦] وقال في
أخرى : (مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) [الرحمن : ٧٦] ،
وقوله : (يَدْعُونَ فِيها) في الجنات بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة
كثيرة وشراب كثير ، ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح فقال (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي عن غيرهم وقوله «أتراب» أي على سنّ واحد ، وقيل : بنات ثلاث وستين سنة واحدها ترب. وعن مجاهد : متواخيات لا يتباغضن ولا
__________________
يتغايرن ، وقيل : أتراب للأزواج ، وقال القفال : والسبب في اعتبار
هذه الصفة أنهن لما تشابهن في الصّفة والسن والجبلّة كان الميل إليهن على السّويّة وذلك يقتضي عدم الغيرة .
قوله : (هذا ما تُوعَدُونَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «هذا ما يوعدون» بياء الغيبة وفي
(ق) (و) ابن كثير وحده. والباقون بالخطاب فيهما . ووجه الغيبة هنا وفي (ق) تقدم ذكر المتقين ووجه الخطاب
الالتفات إليهم والإقبال عليهم ؛ أي قل للمتّقين هذا ما توعدون ليوم الحساب أي في
يوم الحساب. (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا
ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي فناء وانقطاع ، وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.
قوله : (مِنْ نَفادٍ) إما مبتدأ وإما فاعل و «من» مزيدة ، والجملة في محل نصب
على الحال من رزقنا أي غير فان ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا.
قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ
(٥٥)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦)
هذا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
(٥٧)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ
أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ
قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣)
إِنَّ
ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)(٦٤)
قوله : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يجوز أن يكون «هذا» مبتدأ ، والخبر مقدر ، فقدره الزمخشر :
«هذا كما ذكر» وقدره أبو علي هذا للمؤمنين ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا .
فصل
لما وصف ثواب
المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكورا عقيب الوعد والترهيب عقيب
الترغيب فقال : (هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي مرجع ، وهذا في
__________________
مقابلة قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ). والمراد «بالطاغين» : الكفار ، وقال الجبائي : هم أصحاب
الكبائر سواء كانوا كفارا أم لا ، واحتج الأولون بقوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) ؛ ولأن هذا ذمّ مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان
وهو الكافر ، واحتج الجبائي بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧]
فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة ، لأن كل من تجاوز حدّ تكاليف
الله وتعداها فقد طغى .
قوله : «جهنّم»
يجوز أن يكون بدلا من (لَشَرَّ مَآبٍ) أو منصوبة بإضمار أعني فعل ، وقياس قول الزمخشري في : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي يكون عطف بيان وأن يكون جهنم منصوبة بفعل يتقدمه على الاشتغال أي يصلون جهنّم يصلونها ، والمخصوص بالذم محذوف أي «هي».
قوله : (فَبِئْسَ الْمِهادُ) هو معنى قوله : (لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف: ٤١] شبّه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد
الذي يفرشه النائم .
قوله : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) في هذا أوجه :
أحدها : أن يكون
مبتدأ وخبره : (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). وقد تقدم أن اسم الإشارة يكتفي بواحدة في المثنى كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] أو
يكون المعنى : هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله : «فليذوقوه» جملة اعتراضية .
الثاني : أن يكون «هذا»
منصوبا بمقدر على الاشتغال أي ليذوقوا هذا ، وشبهه الزمخشري بقوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠]
يعني على الاشتغال والكلام على مثل هذه الفاء قد تقدم . و «حميم» على هذا خبر مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ وخبره مضمر أي منه حميم ومنه غسّاق كقوله :
__________________
٤٢٧٧ ـ حتّى إذا ما أضاء البرق في غلس
|
|
وغودر البقل
ملويّ ومحصود
|
أي منه ملويّ ومنه
محصود.
الثالث : أن يكون «هذا»
مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كما ذكر أو هذا للطاغين .
الرابع : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي الأمر هذا. ثم استأنف أمرا فقال «فليذوقوه» .
الخامس : أن يكون
مبتدأ خبره فليذوقوه وهو رأي الأخفش . ومنه :
٤٢٧٨ ـ وقائلة خولان فانكح فتاتهم
وتقدم تحقيق هذا
عند قوله : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) [المائدة : ٣٨].
وقرأ الأخوان وحفص غسّاق بتشديد السين هنا وفي (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١]
وخفّفه الباقون فيهما. فأما المثقل فهو صفة كالجبّار والضّرّاب مثال مبالغة وذلك
أن «فعّالا» في الصفات أغلب منه في الاسم . ومن وروده في الأسماء الكلّاء والحبّان والفيّاد لذكر البوم والعقّار والخطّار. وأما المخفف فهو اسم لا صفة لأن فعالا بالتخفيف في
الأسماء كالعذاب والنّكال أغلب منه في الصفات على أنّ منهم من جعله صفة بمعنى «ذو
كذا» أي ذي غسق ، وقال أبو البقاء أو يكون «فعّال» بمعنى
__________________
فاعل . قال شهاب الدين : وهذا غير معروف .
فصل
قيل : هذا على
التقديم والتأخير. والتقدير : هذا حميم وغسّاق (فليذوقوه ، وقيل : التقدير : جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه
ثم يبتدىء فيقول : حميم وغسّاق أي منه حميم وغساق) . والغسق السّيلان ، يقال : غسقت عينه أي سالت ، قال
المفسرون : إنه ما يسيل من صديدهم ، وقيل : غسق أي امتلأ ، ومنه غسقت عينه أي
امتلأت بالدمع ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله. وقيل : الغسّاق ما قتل ببرده ،
ومنه قيل لليل : غاسق ، لأنه أبرد من النهار ، (و) قال ابن عباس : هو الزّمهرير يحرقهم ببرده كما
تحرقهم النار بحرّها. وقال مجاهد وقتادة : هو الذي انتهى برده ، وقيل : الغسق شدة الظلمة ومنه قيل للّيل غاسق ، ويقال
للقمر غاسق إذا كسف لاسوداده ، والقولان منقولان في تفسير قوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ) [الفلق : ٢]. وقيل
: الغساق : المنتن بلغة الترك وحكى الزجاج : «لو قطرت منه قطرة بالمغرب لأنتنت أهل
المشرق» . وقال ابن عمر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه ، قال قتادة : هو ما يغسق أي يسيل من القيح والصّديد من
جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم : غسقت عينه إذا انصبّت والغسقان
الانصباب ، قال كعب : الغسّاق عين في جهنم يسيل إليها كل ذوات حية
وعقرب .
قوله : (وَآخَرُ) قرأ أبو عمرو بضم الهمزة على أنه جمع وارتفاعه من أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ
و «من شكله» خبره ، و «أزواج» فاعل به .
الثاني : أن يكون
مبتدأ أيضا و «من شكله» خبر مقدم ، و «أزواج» مبتدأ. والجملة خبره ، وعلى هذين القولين فيقال : كيف يصحّ من غير ضمير يعود
على «آخر» فإن
__________________
الضمير في «شكله»
يعود على ما تقدم أي من شكل المذوق؟ والجواب أن الضمير عائد على المبتدأ وإنما
أفرد وذكر لأن المعنى من شكل ما ذكرنا. ذكر هذا التأويل أبو البقاء . وقد منع مكّيّ ذلك لأجل الخلوّ من الضمير. وجوابه ما ذكرنا.
الثالث : أن يكون «من
شكله» نعتا «لآخر» و «أزواج» خبر المبتدأ أي و «آخر من شكله المذوق أزواج».
الرابع : أن يكون «من شكله» نعتا أيضا ، و «أزواج» فاعل به
والضمير عائد على «آخر» بالتأويل المتقدم وعلى هذا فيرتفع «آخر» على الابتداء ،
والخبر مقدر أي ولهم أنواع أخر استقر من شكلها أزواج.
الخامس : أن يكون الخبر مقدرا كما تقدم أي ولهم آخر و «من شكله» و
«أزواج» صفتان لآخر ، وقرأ العامة «من شكله» بفتح الشين ، وقرأ مجاهد بكسرها.
وهما لغتان بمعنى
المثل والضرب. تقول : هذا على شكله أي مثله وضربه وأما الشّكل بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. قاله الزمخشري . وقرأ الباقون وآخر بفتح الهمزة وبعدها ألف بصيغة أفعل
التفضيل والإعراب فيه كما تقدم ، والضمير في أحد الأوجه يعود عليه من غير تأويل
لأنه مفرد إلا أن في أحد الأوجه يلزم الإخبار عن المفرد بالجمع أو وصف المفرد
بالجمع لأن من جملة الأوجه المتقدمة أن يكون «أزواج» خبرا عن «آخر» أو نعت له كما
تقدم. وعنه جوابان :
أحدهما : أن
التقدير وعذاب آخر أو مذوق آخر ، وهو ضروب ودرجات فكان في قوة الجمع أو يجعل كل جزء من
ذلك الآخر مثل الكل وسماه باسمه وهو شائع كثير نحو غليظ الحواجب وشابت مفارقه.
__________________
على أن لقائل أن
يقول : إن «أزواجا» صفة للثلاثة الأشياء المتقدمة أعني الحميم والغساق وآخر من
شكله فيلغى السؤال .
قوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) مفعول «مقتحم» محذوف أي مقتحم النار ، والاقتحام الدخول في
الشيء بشدة والقحمة الشدة . وقال الراغب : الاقتحام توسط شدة مخيفة ومنه قحم الفرس
فارسه أي توغل به ما يخاف منه ، والمقاحيم الذين يقتحمون في الأمر الذي يتجنب .
قوله : «معكم»
يجوز أن يكون نعتا ثانيا «لفوج» وأن يكون حالا منه لأنه قد وصف وأن يكون حالا من
الضمير المستتر في «مقتحم» . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون طرفا لفساد المعنى ، قال شهاب الدين : ولم أدر من أي وجه يفسد
والحالية والصفة في المعنى كالظرفية ، وقوله : (هذا فَوْجٌ) إلى «النار» يجوز أن يكون من كلام الرؤساء بعضهم لبعض
بدليل قول الأتباع (لا مَرْحَباً بِكُمْ
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) وأن يكون من كلام الخزنة ، ويجوز أن يكون (هذا فَوْجٌ) من كلام الملائكة والباقي من كلام الرؤساء. وكان القياس
على هذا أن يقال : بل هم لا مرحبا بهم لا يقولون للملائكة ذلك إلا أنهم عدلوا عن
خطاب الملائكة إلى خطاب أعدائهم تشفيا منهم. والمعنى هنا جمع كثيف وقد اقتحم معكم
النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال ، والفوج القطيع من النّاس وجمعه أفواج .
(قوله) : (لا مَرْحَباً) في «مرحبا» وجهان :
أظهرهما : أنه
مفعول بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحبا (أو لا سمعتم مرحبا.
والثاني : أنه
منصوب على المصدر. قاله أبو البقاء أي لا رحبتكم داركم مرحبا) بل ضيقا ، ثم في الجملة المنفية وجهان :
__________________
أحدهما : أنها
مستأنفة سيقت للدعاء عليهم ، وقوله : «بهم» بيان للمدعوّ عليهم.
والثاني : أنها
حالية ، وقد يعترض عليه بأنه دعاء والدعاء طلب (والطلب) لا يقع حالا والجواب أنه على إضمار القول أي مقولا لهم لا
مرحبا . قال المفسرون قوله تعالى : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له : مرحبا أي
أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا أو رحبت بلادك رحبا ، ثم تدخل عليه كلمة «لا» في دعاء
النفي .
قوله : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل لاستجابة الدعاء عليهم. ونظير هذه الآية قوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ
أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] «قالوا»
أي الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ) يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم
أحق به وعللوا ذلك بقولهم : (أَنْتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) والضمير للعذاب أو للضّلال.
فإن قيل : ما معنى
تقديمهم العذاب لهم؟
فالجواب : الذي
أوجب التقديم عو عمل السوء كقوله تعالى : (وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ٩ ، ١٠]
إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل :
أنتم قدمتموه لنا ، وقوله : (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي بئس المستقرّ والمستكنّ جهنم.
قوله : (مَنْ قَدَّمَ) يجوز أن تكون «من» شرطية و («ف) زده» جوابها ، وأن تكون استفهامية وقدّم خبرها أي (أن) أي شخص قدم لنا هذا؟ ثم استأنفوا دعاء ، بقولهم : «فزده»
وأن تكون موصولة بمعنى الذي وحينئذ يجوز فيها وجهان : الرفع بالابتداء
والخبر «فزده» والفاء زائدة تشبيها له بالشرط ، والثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر
على الاشتغال والكلام في مثل هذه الفاء (قد) تقدم.
وهذا الوجه يجوز
عند بعضهم حال كونها شرطية أو استفهامية أعني الاشتغال إلا أنه لا يقدر الفعل إلا
بعدها لأن لها صدر الكلام و «ضعفا» نعت
لعذاب أي مضاعفا.
__________________
قوله : (فِي النَّارِ) يجوز أن تكون ظرفا «لزده» أو نعتا «لعذاب» أو حالا منه
لتخصيصه أو حالا من مفعول «زده» .
قوله : «قالوا»
يعني الأتباع (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ
لَنا هذا) أي شرعه وسنّه لنا فزده عذابا ضعفا أي مضاعفا (فِي النَّارِ) ونظيره قوله تعالى : (رَبَّنا هؤُلاءِ
أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً
مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨]
وقولهم (إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٧ ـ ٦٨].
فإن قيل : كل
مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفا وإن كان زائدا عليه كان
ظلما وإنه لا يجوز.
فالجواب : المراد
منه قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى
يوم القيامة» والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضّلال ، والثّاني عذاب الإضلال
، والله أعلم .
وهذا آخر شرح
أحوال الكفار مع الذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا ، وأما شرح أحوالهم مع الذين
كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله : (وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) أي أن صناديد قريش قالوا ، وهم في النار : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا
نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين عمارا وخبابا وصهيبا
وبلالا وسلمان وسموهم أشرارا إما بمعنى الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى أو
لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشرارا .
قوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ الأخوان وأبو عمرو بوصل الهمزة ، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
خبرا محضا ، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية «لرجالا» كما وقع (كُنَّا نَعُدُّهُمْ) صفة وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة «أم» عليها كقوله :
__________________
٤٢٧٩ ـ تروح من الحيّ أم تبتكر
|
|
وماذا عليك بأن
تنتظر
|
«فأم» متصلة على هذا ، وعلى الأول
منقطعة ، بمعنى «بل» والهمزة لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية ، والباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ، والظاهر أنه لا
محل للجملة حينئذ لأنها طلبية ، وجوز بعضهم أن تكون صفة لكن على إضمار القول أي
رجالا مقولا فيهم أتخذناهم كقوله :
٤٢٨٠ ـ ..........
|
|
جاؤوا بمذق هل
رأيت الذئب قطّ
|
إلا أن الصفة في
الحقيقة ذلك القول المضمر ، وقد تقدم الخلاف في «سخريّا» في (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) والمشهور أن المكسور من الهزء كقوله :
٤٢٨١ ـ إنّي أتاني لسان لا أسرّ بها
|
|
من علو لا كذب
فيها ولا سخر
|
وتقدم معنى لحاق
الياء المشددة في ذلك ، و «أم» مع الخبر منقطعة فقط كما تقدم ومع الاستفهام يجوز
أن تكون متصلة ، وأن تكون منقطعة كقولك : (أ) زيد عندك أم عندك عمرو ، ويجوز أن
يكون (أَمْ زاغَتْ) متصلا بقوله : (ما لَنا) ؛ لأنه استفهام إلا أنه يتعين انقطاعها لعدم الهمزة ويكون
ما بينهما معترضا على قراءة «أتّخذناهم» بالاستفهام إن لم
__________________
تجعله صفة على إضمار
القول كما تقدم. قال أهل المعاني : قراءة الأخوين أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم
سخريا لقوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) فلا يستقيم الاستفهام. وتكون «أم» على هذه القراءة بمعنى «بل»
وأجاب الفراء عن هذا بأن قال : هذا من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ.
ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل «أم»
في قوله (أَمْ زاغَتْ).
فإن قيل : فما الجملة المعادلة بقوله : (أَمْ زاغَتْ) على القراءة الأولى؟
فالجواب : أنها
محذوفة ، والتقدير : أم زاغت عنهم الأبصار . وقرأ نافع سخريّا ـ بضم السّين ـ والباقون بكسرها. فقيل :
هما بمعنى ، وقيل : الكسر بمعنى الهزء ، وبالضم التذليل والتسخير وأما نظم الآية على قراءة الإخبار فالتقدير : ما لنا نراهم
حاضرين لأجل أنّهم لحقارتهم تركوا لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار ، ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم
: (أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا) وأما على قراءة الاستفهام فالتقدير لأجل أنّا قد اتخذناهم
سخريا وما كانوا كذلك فلم يدخلوا لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار.
فصل
معنى الآية : وما
لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النّار أم دخلو (ها) فزاغت
أي فمالت عنهم أبصارنا فلم نرهم حتى دخلوا.
وقيل : (أم) هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا ، وقال ابن كيسان أم
كانوا خيرا منا ونحن لا نعلم فكان أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهّم شيئا .
__________________
قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) أي الذي ذكرت لحق أي لا بدّ وأن يتكلموا به ، ثم بين ذلك
الذي حكاه عنهم فقال : (تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ) العامة على رفع «تخاصم» مضافا «لأهل» وفيه أوجه :
أحدها : أنه بدل
من «لحقّ» .
الثاني : أنه عطف
بيان .
الثالث : أنه بدل
من «ذلك» على الموضع حكاه مكي وهذا يوافق قول بعض الكوفيين.
الرابع : أنه خبر
ثان ل «إنّ» .
الخامس : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي هو تخاصم.
السادس : أنه
مرفوع بقوله : «لحقّ» إلا أن أبا البقاء قال : ولو قيل : هو مرفوع «بحق» لكان بعيدا لأنه
يصير جملة ولا ضمير فيها يعود على اسم «إنّ» ، وهذا رد صحيح . وقد يجاب عنه بأن الضمير مقدر أن لحقّ تخاصم أهل النار
فيه ، كقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] أي
منه ، وقرأ ابن محيصن بتنوين «تخاصم» ورفع «أهل» فرفع «تخاصم» على ما تقدم ، وأما رفع «أهل»
فعلى الفاعلية بالمصدر المنون كقولك : «يعجبني تخاصم الزيدون» أي (أن) تخاصموا وهذا قول البصريّين ، وبعض الكوفيين خلا الفراء ، وقرأ ابن أبي عبلة تخاصم بالنصب مضافا «لأهل» وفيه أوجه :
__________________
أحدها : أنه صفة «لذلك»
على اللفظ ، قال الزمخشري : لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس وهذا فيه نظر لأنهم نصوا على أن أسماء الإشارة لا توصف إلا
بما فيه أل نحوه : (مررت) بهذا الرجل ولا يجوز : (مررت) بهذا غلام الرجل ، فهذا أبعد ، ولأن الصحيح أن الواقع بعد
اسم الإشارة المقارن «لأل» إن كان مشتقا كان صفة وإلا كان بدلا ، و «تخاصم» ليس
مشتقا .
الثاني : أنه بدل
من «ذلك» الثالث : أنه عطف بيان .
الرابع : على
إضمار أعني ، وقال أبو الفضل : ولو نصب «تخاصم» على أنه بدل من «ذلك»
لجاز انتهى . كأنه لم يطلع عليها قراءة. وقرأ ابن السّميقع «تخاصم» فعلا ماضيا «أهل» فاعل به وهي جملة استئنافية ، وإنما سمى
الله تعالى تلك الكلمات تخاصما لأن قول الرؤساء : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) وقول الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ) من باب الخصومة .
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ
إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)(٦٨)
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) لما شرح الله نعيم أهل الثّواب وعقاب أهل العقاب عاد إلى
تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورين أول السورة فقال : قل يا محمد إنما أنا
منذر مخوف ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار فكونه واحدا
يدل على عدم التشريك وكونه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف ولما ذكر ذلك أردفه بما
يدل على الرجاء والترغيب فقال : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) فكونه ربّا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه
غفارا يشعر بأن العبد لو أقدر على المعاصي والذنوب فإنه يغفر برحمته. وهذا الموصوف
هو الذي (يجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى ثوابه ويجوز أن يكون)
(رَبُّ السَّماواتِ) خبر مبتدأ مضمر ، وفيه معنى المدح.
قوله : (هُوَ نَبَأٌ) (هو) يعود على
القرآن وما فيه من القصص والأخبار ، وقيل : على
__________________
تخاصم أهل النار
وقيل : على ما تقدم من إخباره ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأنه نذير مبين وبأن الله إله واحد متصف بتلك الصفات
الحسنى و (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) صفة «لنبأ» ، أو مستأنفة ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المراد بالنبأ العظيم
القرآن ، وقيل : القيامة لقوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ و ٢].
قال ابن الخطيب :
هذا النبأ العظيم يحتمل وجوها : فيمكن أن يكون المراد به القول بأن «الإله» واحد ،
وأن يكون المراد القول بإثبات الحشر والقيامة نبأ عظيم ويمكن أن يكون المراد (كون)
القرآن معجزا لتقدم ذكره في قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) ، وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه . قوله : (ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) يعني الملائكة فقوله : (بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى) متعلق بقوله : (مِنْ عِلْمٍ) وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدى بالباء. و (قد) تقدم تحقيقه .
قوله تعالى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ
إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢)
فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣)
إِلاَّ
إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ
ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(٨٥)
قوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فيه وجهان :
أحدهما : هو منصوب
بالمصدر أيضا.
والثاني : بمضاف
مقدر أي بكلام الملأ الأعلى إذ ؛ قاله الزمخشري ، والضمير
__________________
في «يختصمون» للملأ
الأعلى هذا هو الظاهر ، وقيل : لقريش أي يختصمون في الملأ الأعلى فبعضهم يقول :
بنات الله ، وبعضهم يقول غير ذلك فالتقدير إذ يختصمون فيهم ؛ (يعني) في شأن آدم ، حين قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠].
فإن قيل :
الملائكة لا يجوز أن يقال : إنهم اختصموا بسبب قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء ، والمخاصمة مع الله كفر.
فالجواب : لا شك
أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ،
ولما أمر الله تعالى محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي .
قوله : (إِلَّا أَنَّما أَنَا) العامة على فتح همزة «أنّما» ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها مع
ما في خبرها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إليّ (إلا) الإنذار أو إلا كوني نذيرا مبينا.
والثاني : أنها في
محل نصب أو جر بعد إسقاط لام العلة والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور أي
ما يوحى إليّ إلّا للإنذار ، أو لكوني نذيرا ، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل على هذا ضميرا يدل
عليه السياق أي ما يوحى إليّ ذلك الشيء إلا للإنذار. وقرأ أبو جعفر بالكسر ؛ لأن الوحي قول ، قاله البغوي. وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه
قيل: ما يوحى إليّ إلا هذه
__________________
الجملة المتضمنة
لهذا الإخبار ، وقال الزمخشري : (على) الحكاية أي إلا هذا القول وهو أن أقول لكم إنّما أنا نذير
مبين ولا أدّعي شيئا آخر . قال أبو حيان : وفي تخريجه تعارض لأنه قال إلا هذا فظاهره
الجملة التي هي (أَنَّما أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) ثم قال : وهو أن أقول لكم إني نذير ، فالقائم مقام الفاعل هو أن أقوال لكم وإنّي وما بعده في موضع نصب. وعلى قوله : «إلا هذا القول» يكون
في موضع رفع فتعارضا .
قال شهاب الدين :
ولا تعارض البتة لأنه تفسير معنى في التقدير الثاني وفي الأول تفسير إعراب فلا تعارض .
قوله : (إِذْ قالَ) يجوز أن يكون بدلا من «إذ» الأولى وأن يكون منصوبا باذكر
مقدرا. قال الأول الزمخشري وأطلق ، (و) أبو البقاء الثاني وأطلق . وفصل أبو حيان فقال بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض وعلى غيره
من الأقوال يكون منصوبا «باذكر» انتهى . قال شهاب الدين : وتلك الأقوال أن التّخاصم إما بين الملأ
الأعلى أو بين قريش وفي ما (إ) ذا كان المخاصمة خلاف .
قوله : (مِنْ طِينٍ) يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة «لبشرا» وأن يتعلق بنفس «خالق».
فصل
اعلم أن المقصود
من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر ؛ لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب
الحسد والكبر والكفار إنما نازعوا محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير
سماعها زاجرا لهم عن هاتين الخصلتين
__________________
المذمومتين ،
والمراد بالبشر ههنا : آدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ.
قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) فأضاف الروح إلى نفسه وذلك يدل على أنه جوهر شريف علويّ
قدسيّ ، والفاء في قوله : (فَقَعُوا لَهُ
ساجِدِينَ) يدل على أنه كما تم (نفخ) الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود. وقد تقدم
الكلام في الملائكة المأمورين بالسجود (و) هل هم ملائكة الأرض أو يدخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل
وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨].
وقال بعض الصوفية : الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النّباتيّة
والحيوانية والحسيّة والحركيّة فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة ، وإبليس
الذي لم يسجد هو القوى الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل.
قوله : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تأكيدان. وقال الزمخشري «كل» للإحاطة و «أجمعون» للاجتماع
، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا جميعا في
وقت واحد غير متفرّقين .
وقد تقدم الكلام
معه في ذلك في سورة الحجر .
قوله : (أَنْ تَسْجُدَ) قد يستدل به من يرى أن «لا» في «أن لا تسجد» في السورة
الأخرى زائدة ، حيث سقطت هنا والقصة واحدة. وقوله : (لِما خَلَقْتُ) قد يستدل به من يرى جواز وقوع «ما» على العاقل ؛ لأن المراد به آدم ، وقيل : لا دليل فيه لأنه كان فخّارا
غير جسم حسّاس فأشير إليه في تلك الحالة . وهذا ليس بشيء ؛ لأن هذا الخطاب إنما كان بعد نفخ الرّوح
فيه لقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
__________________
رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فلما امتنع من السجود قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). وقيل : ما مصدرية والمصدر غير مراد فيكون واقعا موقع المفعول به
أي لمخلوقي. وقرأ الجحدريّ «لمّا» بتشديد الميم وفتح اللام وهي «لمّا» الظرفية
عند الفارسيّ ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه . والمسجود له على هذا غير مذكور ؛ أي ما منعك من السجود لمّا خلقت أي
حين خلقت لمن أمرتك بالسجود له. قرىء : «بيديّ» بكسر الياء كقراءة حمزة : (بِمُصْرِخِيَ) [إبراهيم : ٢٢] ،
وتقدم ما فيها وقرى : بيدي بالإفراد .
قوله : «أستكبرت»
قرأ العامة بهمزة الاستفهام ، وهو استفهام توبيخ وإنكار ، و «أم» متصلة هنا ، وهذا قول
جمهور النّحويّين ونقله ابن عطية عن بعض النحويين أنها لا تكون معادلة للألف مع
اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك : أقام زيد أم
عمرو ، وأزيد قام أم عمرو ، وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست معادلة . وهذا الذي حكاه عن بعض النحاة مذهب فاسد بل جمهور النحاة
على خلافه. قال سيبويه : وتقول : أضربت زيدا أم قتلته ، فالبداءة هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيّهما كان
، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت : أيّ ذلك كان. انتهى ، فعادل بها الألف مع اختلاف الفعلين ، وقرأ جماعة منهم ابن كثير ـ وليست
مشهورة عنه ـ استكبرت بألف الوصل ؛ فاحتملت وجهين :
__________________
أحدهما : أن يكون
الاستفهام مرادا يدل عليه «أم» كقوله :
٤٢٨٢ ـ ..........
|
|
بسبع رمين الجمر
أم بثمان
|
وقوله :
٤٢٨٣ ـ تروّحمن الحيّ أم تبتكر
|
|
..........
|
فتتفق القراءتان في المعنى ، واحتمل أن يكون خبرا محضا ، وعلى هذا «فأم» منقطعة لعدم شرطها .
فصل
المعنى استكبرت
الآن أم كنت من المتكبرين أبدا أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك
منهم فأجاب إبليس بقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فبين كونه خيرا منه بأن أصله من النار ، وأصل آدم من الطين
، والنار أشرف من الطين ، والدليل على أن النّار أفضل من الطين أن الأجرام
الفلكيّة أفضل من الأجرام العنصريّة ، والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها
عنه ، فوجب كون النار أفضل من الأرض وأيضا فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة
العالم عند غيبتهما ، والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من
الأرض وأيضا فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من
البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت ، وأيضا فالنار لطيفة ،
والأرض كثيفة ، واللطافة أشرف من الكثافة وأيضا فالنار مشرقة والأرض مظلمة ، والنور خير من الظلمة ، وأيضا فالنار
خفيفة تشبه الروح ، والأرض كثيفة تشبه الجسد ، والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من
الأرض ، وذهب آخرون إلى تفضيل الأرض على النار ، وقالوا : إن الأرض
__________________
أمين مصلح فإذا
أودعته حبّة ردّها إليك شجرة مثمرة ، والنار خائن مفسد كلّ ما سلمته إليه
وأيضا فالنار بمنزلة الخادم لما في الأرض إن احتيج إليها استدعيت استدعاء الخادم
وإن استغني عنها طردت وأيضا والأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار وأيضا فإن
استدلال إبليس بكون أصله خيرا من أصله فهو استدلال فاسد لأن أصل الرماد وأصل
البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين ، ومعلوم بالضرورة أن
الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضا (هب) أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارض بجهة أخرى فوجب الرّجحان
مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإنّ نسبه يوجب رجحانه إلا أن من لا يكون نسيبا قد يكون كثير العلم
والزهد فيكون أفضل من النّسيب بدرجات لا حدّ لها فكذبت مقدمة إبليس.
فإن قيل : هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكنه كيف لزمه الكفر في
تلك المخالفة؟ وتقرير هذا السؤال من وجوه :
الأول : أن قوله :
«اسجدوا» أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل النّدب ، ومخالفة الندب لا تقتضي العصيان
فضلا عن الكفر ، (وأيضا فالذين يقولون : إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا للندب
احتمالا ظاهرا ومع قيام الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر؟!).
الثاني : هب أنها
للوجوب إلّا أنّ إبليس ما كان من الملائكة فالأمر (بالسجود) لآدم لا يدخل فيه إبليس.
الثالث : هب أنه
تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر
بالقياس.
الرابع : هب أنه
لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر
فكيف لزمه الكفر؟!.
فالجواب : هب أن
صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على
الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ)،
فلما أتى إبليس
بقياسه الفاسد ودل ذلك على أنه إنما ذكر القياس
__________________
ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. وإذا
عرفت هذا فنقول : إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب
يدل على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف ، وههنا الحكم بكونه رجيما ورد عقيب ما
حكى عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم .
قوله : «منها» أي
من الجنة أو من الخلقة لأنه كان حسنا فرجع قبيحا ؛ وكان نورانيّا فعاد مظلما. وقيل
: من السّموات . وقال هنا لعنتي وفي غيرها اللّعنة ، وهما وإن كانا في اللفظ عامّا وخاصّا إلا أنهما من حيث
المعنى عامّان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل أحد لا
محالة ، وقال تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة : ١٦١]
وباقي الجملة تقدم نظيرها.
قوله : «الرّجيم» المرجوم والرّجم ههنا عبارة عن الطّرد ؛ لأن الظاهر
أن من طرد فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد .
فإن قيل : الطرد
هو اللّعن ، فلو حملنا قوله : «رجيم» (على الطرد) لكان قوله بعد ذلك: (وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي) تكرارا.
فالجواب : من
وجهين :
الأول : أنّا نحمل
الرجم على الطرد من الجنة ومن السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله.
الثاني : أنا نحمل
الرجم على الطرد ونحمل قوله : (عَلَيْكَ لَعْنَتِي
إِلى يَوْمِ الدِّينِ) على أنه الطرد إلى يوم القيامة فيكون على هذا فيه فائدة
زائدة ولا يكون تكرارا ، وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب.
فإن قيل : كلمة «إلى»
لانتهاء الغاية فقوله : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) يقتضي
__________________
انقطاع تلك اللعنة
عند مجيء يوم الدين وأجاب الزمخشري بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم
القيامة حصل مع اللعنة أنواع من العذاب فتصير اللعنة مع حصرها منفية واعلم أنّ إبليس لما صار مغلوبا قال : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، قيل : إنما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلص
من الموت لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا
يموت فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى : (إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه
فقال إبليس : «فبعزّتك» وهو قسم بعزة الله وسلطانه لأغوينّهم أجمعين» فههنا أضاف
الإغواء إلى نفسه على مذهب القدريّة ، وقال مرة أخرى : ربّ بما أغويتني فأضاف
الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبرية. ثم قال : (إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قيل : إن غرض إبليس من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه
الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء أو أدعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن
إغواء عباد الله المخلصين وعند هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف
يليق بالمسلم (الإقدام عليه)؟ وهذا يدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين
، وقد قال الله تعالى في صفة يوسف عليه (الصلاة و) السلام ـ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف : ٢٤] فتحصل
من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسف عليهالسلام فدل على كذب المانويّة فيما نسبوه إلى يوسف ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ من
القبائح .
قوله : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ) قرأهما العامة منصوبين ، وفي نصب الأول أوجه :
أحدها : أنه مقسم
به حذف منه حرف القسم فانتصب كقوله :
٤٢٨٤ ـ فذاك أمانة الله الثّريد
وقوله : لأملأنّ (جهنّم)
جواب القسم ، قال أبو البقاء : إلّا أنّ سيبويه يدفعه
__________________
لأنه لا يجوز حذف
حرف القسم إلّا مع اسم الله ويكون قوله : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) معترضا بين القسم وجوابه قال الزمخشري : كأنه قيل : ولا أقول إلّا الحقّ يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر. والمراد بالحق إما
الباري تعالى كقوله : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ
اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور : ٢٥]
وإمّا نقيض الباطل .
والثاني : أنه
منصوب على الإغراء أي الزموا الحقّ .
والثالث : أنه
مصدر مؤكد لمضمون قوله : «لأملأنّ» ، قال الفّراء : هو على معنى قولك : حقّا لآتينّك ، ووجود
الألف واللام وطرحهما سواء (أي لأملأن جهنم حقا) انتهى. وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين ، فإن
شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان
جامدان . وجوز ابن العلج أن يكون الخبر نكرة ، وأيضا فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة
المؤكد هو لمضمونها ؛ وهذا قد تقدم.
وأما الثاني
فمنصوب «بأقول» بعده ، والجملة معترضة كما تقدم ، وجوز الزمخشري أن يكون منصوبا
على التكرير بمعنى (أنّ) الأول والثاني كليهما منصوبان بأقول وسيأتي إيضاح ذلك في
عبارته وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني ، فرفع الأول من أوجه :
__________________
أحدها : أنه مبتدأ
وخبره مضمر تقديره فالحق منّي أو فالحقّ أنا.
والثاني : أنه
مبتدأ خيره «لأملأنّ» ، قاله ابن عطية ، قال : لأن المعنى إني أملأ. قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء ؛ لأن «لأملأنّ» جواب قسم
ويجب أن يكون جملة فلا تتقدّر بمفرد ، وأيضا ليس مصدرا مقدرا بحرف مصدريّ والفعل حتى
ينحل إليهما ولكنّه لما صحّ إسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنّه خبر عنه .
قال شهاب الدين :
وتأويل ابن عطية صحيح من حيث المعنى لا من حيث الصناعة .
الثالث : أنه
مبتدأ خبره مضمر تقديره فالحقّ قسمي و «لأملأنّ» جواب القسم ، كقوله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧٢] ولكن
حذف الخبر هنا ليس بواجب لأنه ليس نصا في اليمين ، بخلاف «لعمرك» ومثله قول امرىء القيس :
٤٢٨٥ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا
|
|
ولو قطّعوا رأسي
لديك وأوصالي
|
وأما نصب الثاني
فبالفعل بعده ، أي وأنا أقول الحقّ وقرأ ابن عبّاس ومجاهد والأعمش برفعهما ، فرفع الأول على ما تقدم ، ورفع الثاني بالابتداء وخبره
الجملة بعده ، والعائد محذوف كقوله تعالى في قراءة ابن عارم : «وكل وعد الله الحسنى» وقول أبي النّحم :
٤٢٨٦ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي
|
|
عليّ ذنبا كلّه
لم أصنع
|
ويجوز أن يرتفع
على التكرير عند الزمخشري وسيأتي ، وقرأ الحسن وعيسى بجرّهما وتخريجهما على أن الأول مجرور بواو القسم مقدرة أي فو
الحقّ و «الحقّ»
__________________
عطف عليه كقولك :
والله والله لأقومنّ» ، و «أقول» اعتراض بين القسم وجوابه ويجوز أن يكون مجرورا
على الحكاية وهو منصوب المحلّ «بأقول» بعده ، قال الزمخشريّ : ومجرورين ـ أي وقرئا مجرورين ـ على أن
الأول مقسم به قد أضمر حرف قسمه كقولك : «(و) الله لأفعلنّ والحقّ أقول» أي ولا أقول إلّا الحقّ على
حكاية لفظ المقسم به ومعناه التوكيد والتشديد ، وهذا الوجه جائز في المرفوع
والمنصوب أيضا وهو وجه دقيق حسن . انتهى.
يعني أنه أعمل
القول في قوله : (وَالْحَقَّ) على سبيل الحكاية فيكون منصوبا بأقول سواء نصب أو رفع أو
جر كأنه قيل : وأقول هذا اللفظ المتقدم مقيدا بما لفظ به أولا .
فصل
معنى لأملأن جهنم
منك أي من جنسك وهم الشياطين وممّن تبعك منهم من ذرية آدم .
قوله : «أجمعين»
فيه وجهان :
أظهرهما : أنه
توكيد للضمير في «منك» ولمن عطف عليه في قوله (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) والمعنى لأملأن جهنم من (المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحدا ، وجيء بأجمعين دون كل ، وقد
تقدم أن الأكثر خلافه وجوز الزمخشري أن يكون تأكيدا للضمير في «منهم» خاصة ، فقدر
: لأملأن جهنّم من) الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس
وناس .
قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(٨٨)
قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الرسالة (مِنْ أَجْرٍ) جعل فقوله : «عليه» متعلق «بأسألكم» لا «بالأجر» لأنه مصدر ،
ويجوز أن يكون حالا منه والضمير إما للقرآن وإما للوحي وإما للدعاء إلى الله .
__________________
قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) المتقولين القرآن من تلقاء نفسي ، وكل من قال شيئا من
تلقاء نفسه فقد تكلف له وقيل : معناه أن هذا الدين الذين أدعوكم إليه ليس يحتاج في
معرفة صحته إلى التّكليفات الكثيرة بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته.
قوله : (إِنْ هُوَ) ما هو يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) موعظة «للعالمين» أي للخلق أجمعين «لتعلمنّ» جواب
قسم مقدر ومعناه لتعرفنّ «نبأه» أنتم يا
كفار (مكة) خبر صدقه (بَعْدَ حِينٍ) قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت ، وقال عكرمة : يعني يوم
القيامة ، وقال الكلبي : من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا من مات علمه بعد الموت.
قال الحسن : ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
روى الثعلبي في
تفسيره أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «من قرأ سورة «ص» أعطي من الأجر بعدد كلّ جبل
سخّره الله لداود ـ عليهالسلام ـ عشر حسنات وعصم أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير» ، وقال أبو أمامة عصمه الله من كل ذنب صغير أو كبير. والله
أعلم (وهو الرحيم الغفور ، وإليه ترجع الأمور).
__________________
سورة «الزمر»
مكية إلا قوله : (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ). وهي خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف.
بسم الله الرحمن
الرحيم
قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ
(٢)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
كاذِبٌ كَفَّارٌ)(٣)
قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ) في «تنزيل» وجهان :
أحدهما : أنه خبر
مبتدأ محذوف تقديره هذا تنزيل . وقال أبو حيان : وأقول : إنه خبر والمبتدأ «هو» ليعود على
قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو؟ فقيل : هو تنزيل الكتاب .
الثاني : أنه
مبتدأ ، والجار بعده خبره أي تنزيل الكتاب كائن من الله ، وإليه ذهب الزّجّاج والفراء .
قال بعضهم : وهذا
أولى من الأول ؛ لأن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا
__________________
لضرورة ، وأيضا
فإنّا إذا قلنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ) جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد فائدة شريفة وهي تنزيل
الكتاب يكون من الله لا من غيره ، وهذا الحصر معنى معتبر ، وإذا أضمرنا المبتدأ لم
تحصل هذه الفائدة ، وأيضا فإنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير : هذا تنزيل الكتاب
، وحينئذ يلزم مجاز آخر لأن هذا إشارة إلى السورة وهي ليست نفس التنزيل بل السورة
منزلة فحينئذ يحتاج إلى أن يقول : المراد منه المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة .
قوله : (مِنَ اللهِ) يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنه مرفوع
المحل خبر التنزيل كما تقدم .
الثاني : أنه خبر
بعد خبر إذا جعلنا تنزيل خبر مبتدأ مضمر ، كقولك : هذا زيد من أهل العراق.
الثالث : أنه خبر
مبتدأ مضمر أي هذا تنزيل هذا من الله .
الرابع : أنه
متعلق بنفس «تنزيل» إذا جعلناه خبر مبتدأ مضمر .
الخامس : أنه
متعلق بمحذوف على أنه حال من «تنزيل» عمل فيه اسم الإشارة المقدر قاله الزمخشري .
قال أبو حيان :
ولا يجوز أن يكون حالا عمل فيها معنى الإشارة ؛ لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان
ما هي فيه محذوفا ، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزدق :
٤٢٨٧ ـ ..........
|
|
... وإذ ما مثلهم بشر
|
__________________
أنّ «مثلهم» منصوب
بالخبر المحذوف وهو مقدر وإذ ما في الوجود في حال مماثلتهم بشرا.
السادس : أنه حال
من «الكتاب». قاله أبو البقاء ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه لكونه مفعولا
للمضاف ، فإن المضاف مصدر مضاف لمفعوله .
والعامة على رفع «تنزيل»
على ما تقدم ، وقرأ زيد بن عليّ (وعيسى) وابن أبي عبلة بنصبه بإضمار فعل تقديره الزم أو اقرأ
ونحوهما .
فصل
احتج القائلون
بخلق القرآن بأن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا. وهذا الوصف لا يليق
إلا بالمحدث المخلوق ، قال ابن الخطيب : والجواب أنّا نحمل هذه اللفظة على الصّيغ
والحروف .
قوله : (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) والعزيز هو القادر الذي لا يغلب ، والحكيم هو الذي يفعل (لداعية)
الحكمة وهذا إنما يتم إذا كان عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحاجات .
قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ) اعلم أن لفظ «تنزيل» يشعر بأنه تعالى أنزله نجما نجما على
سبيل التدريج ، ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله دفعة واحدة ، وطريق الجمع أن
يقال : إنا حكمنا حكما كليا بأن نوصل إليك هذا الكتاب وهذا الإنزال ثم أوصلنا إليك نجما نجما على وفق المصالح. (وهذا هو التنزيل).
قوله : «بالحقّ»
يجوز أن يتعلق «بالإنزال» أي بسبب الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو
المفعول وهو الكتاب أي ملتبسين بالحق أو ملتبسا بالحقّ والصّدق والصواب ، والمعنى كل ما فيه من إثبات التوحيد
والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به وفي قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) تكرير
__________________
تعظيم بسبب إبرازه
في جملة أخرى مضافا إنزاله إلى المعظم نفسه .
قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً) لما بين أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق وأردفه ببيان
بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله على سبيل الإخلاص
فقال : فاعبد الله مخلصا له الدّين ، فقوله (مُخْلِصاً لَهُ) حال من فاعل «فاعبد» و «الدين» منصوب
باسم الفاعل ، والفاء في «فاعبد» للربط ، كقولك : «أحسن إليك فلان
فاشكره» والعامة على نصب «الدين» ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه
مرفوع بالفاعلية رافعة «مخلصا». وعلى هذا فلا بد من تجوز وإضمار ، أما التجوز
فإسناد الإخلاص للدين وهو لصاحبه في الحقيقة ونظيره قولهم : شعر شاعر ، وأما
الإضمار فهو إضمار عائد على ذي الحال ، أي مخلصا له الدين منك ، هذا رأي البصريين في مثل
هذا ، وأما الكوفيون فيجوز أن يكون عندهم «أل» عوضا عن الضمير أي مخلصا دينك .
قال الزمخشري :
وحقّ لمن رفعه أن يقرأ مخلصا ـ بفتح اللام ـ لقوله تعالى : (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) [النساء : ١٤٦]
حتى يطابق قوله : (أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ) والخالص والمخلص واحد إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على
الإسناد المجازي كقولهم : «شعر شاعر» .
الثاني : أن يتم
الكلام على : «مخلصا» وهو حال من فاعل «فاعبد» ، و «له الدّين» مبتدأ وخبر ، وهو
قول الفراء . وقد ردّه الزمخشري وقال : فقد جاء بإعراب رجع به الكلام
إلى قولك: لله الدين ألا لله الدين الخالص . قال شهاب الدين : وهذا الذي ذكره الزمخشري لا يظهر فيه
ردّ على هذا الإعراب .
__________________
فصل
المراد بإخلاص
الدين الطاعة ، (أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ) قال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله. واعلم أنّ العبادة فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول يؤتى
به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب الانقياد له وأما الإخلاص فهو
أن أن يكون الداعي إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد الانقياد والامتثال ،
واحتج قتادة بما روي عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : لا إله إلّا الله حصني ، ومن دخل حصني أمن عذابي وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا ينتفع
بالطاعة مع الكفر ، وقال الأكثرون الآية متناولة لكل ما يخلق الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى (فَاعْبُدِ اللهَ)عام.
وروي أن امرأة
الفرزدق لما قربت وفاتها أوصت أن يصلي الحسن البصري عليها ، فلما دفنت قال الحسن
للفرزدق : أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال شهادة أن لا إله إلّا الله. قال
الحسن : هذا العمود فأين الطّنب ؟ فبين هذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى
يمكن الانتفاع بالخيمة. قال القاضي : فأما ما يروى أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال لمعاذ وأبي الدرداء : وإن زنا وإن سرق على رغم أنف
أبي الدرداء فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يجز قبول هذا الخبر
لأنه مخالف للقرآن ، ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجورا عن الزّنا والسّرقة
ويكون إغراء له بفعل القبيح ، وذلك ينافي حكمة الله ، وهذا يدل على أن اعتقاد فعل
القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين ، هذا تمام قول القاضي.
قال ابن الخطيب :
فيقال له : أمّا قولك : إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن فليس كذلك بل القرآن يدل
عليه قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] كما
يقال : رأيت الأمير على أكله وشربه أي حين كونه آكلا وشاربا. وقال : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] وأما
قوله : إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له : إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح
غفرانه عقلا. وهذا
__________________
مذهب البغداديّ من المعتزلة ، وأنت لا تقول به لأن مذهب البصريين غفران
الذنب جائز عقلا ، وأيضا فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه
إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر ، وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه
إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضر (ه) ذلك الذنب البتة. ثم نقول : مذهبنا أنّا نقطع بحصول العفو
عن الكبائر في الجملة إلا أنه تعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في
حق من يشاء وإذا كان الأمر كذلك كان الخوف حاصلا والله أعلم .
قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ) يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون «الذين»
مبتدأ ، وخبره قول مضمر حذف وبقي معموله وهو قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ) والتقدير : يقولون ما نعبدهم .
الثاني : أن يكون
الخبر قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ) ويكون ذلك القول المضمر (في محلّ نصب على الحال أي والّذين اتخذوا قائلين كذا إنّ الله
يحكم بينهم .
الثالث : أن يكون
القول المضمر) بدلا من الصلة التي هي «اتخذوا» والتقدير : والذين اتخذوا قالوا ما
نعبدهم ، والخبر أيضا : إنّ الله يحكم بينهم . و «الّذين» في هذه الأقوال عبارة عن المشركين المتخذين
غيرهم أولياء.
الرابع : أن يكون «الّذين»
عبارة عن الملائكة وما عبدوا من دون الله كعزير ، واللّات والعزّى ويكون فاعل «اتّخذ»
عائدا على المشركين ومفعول الاتّخاذ الأول محذوف هو عائد الموصول ، والمفعول
الثاني هو : «أولياء» والتقدير : والذين اتخذهم المشركون أولياء. ثم لك في خبر
هذا المبتدأ وجهان :
__________________
أحدهما : القول
المضمر والتقدير والّذين اتّخذهم المشركون أولياء يقول فيهم المشركون ما نعبدهم إلا.
الثاني : أن الخبر
هي الجملة من قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ) وقرىء : (ما نَعْبُدُهُمْ) بضم النون إتباعا للباء ، ولا يعتدّ بالساكن.
قوله : «زلفى»
مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه ملاق لعامله في المعنى ، والتقدير (والمعنى) ليزلفونا زلفى وليقرّبونا قربى . وجوز أبو البقاء أن يكون حالا مؤكدة .
فصل
والذين اتخذوا من
دونه أي من دون الله أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله. وهذا الضمير
عائد إلى الأشياء التي عبدت ، وهذا الكلام إنما يليق بالعقلاء لأن الضمير في : «نعبدهم»
ضمير العقلاء فيحمل على المسيح وعزير والملائكة لكي يشفعوا لهم عند الله.
ويمكن أن يحمل على الأصنام أيضا لأن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر ،
وإنما يعبد ربه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو
تماثيل الملائكة أو تماثيل الصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى أصحاب تلك الصور.
ولما حكى الله
تعالى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه :
الأول : أنه اقتصر
في الجواب على مجرد القول فقال : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
واعلم أن المبطل
إذا ذكر مذهبا باطلا وأصرّ عليه فعلاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال الإصرار عن قلبه
، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يذكر له الدليل الدالّ على
__________________
بطلانه فيكون هذا
الطريق أفضى إلى المقصود كما يقول الأطباء : لا بد من تقديم (المنضج) على سقي المسهل ، فإن تناول المنضج يصير المواد الفاسدة
رخوة قابلة للزوال ، فإذا سقي المسهل بعد ذلك حصل النقاء التامّ فكذلك
ههنا سماع التهديد والتخويف أولا يجري مجرى سقي المنضج أولا ، وإسماع الدليل ثانيا
يجري مجرى المنضج المسهل ثانيا. فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.
ثم قال الله تعالى
: (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي من أصر على الكذب والكفر بقي (مح) روما من الهداية. والمراد بهذا الكذب وصفهم للأصنام بأنها
آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة ، ويحتمل أن يكون المراد بالكفار
كفران النعمة لأن العبادة نهاية التعظيم وذلك لا يليق إلا ممن يصدر عنه غاية الإنعام وهو الله تعالى ، والأوثان لا مدخل
لها في الأنعام فعبادتها توجب كفران نعمة المنعم الحق .
قوله : (كاذِبٌ كَفَّارٌ) قرأ الحسن والأعرج ـ وتروى عن أنس ـ كذّاب كفار ، وزيد بن عليّ كذوب كفور .
قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً
مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَإِذا
مَسَّ الْإِنْسانَ
__________________
ضُرٌّ
دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما
كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٩)
قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً لَاصْطَفى) لاختار (مِمَّا يَخْلُقُ ما
يَشاءُ) يعني الملائكة كما قال : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧]
ثم نزه نفسه فقال : «سبحانه» تنزيها له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).
والمراد من هذا
الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزها عن الولد.
قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ) لما بين في الآية المتقدمة كونه منزها عن الولد بكونه إلها
واحدا قهارا أي كامل القدرة ذكر عقيبها ما يدل على الاستغناء. وأيضا لما أبطل إلهيّة الأصنام ذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل
الإلهية ، وقد تقدم أن الدّلائل التي يذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إمّا أن
تكون فلكية أو أرضيّة أما الفلكية فأقسام :
أحدها : خلق
السموات والأرض. وقد تقدم شرحها في تفسير قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١].
وثانيها : اختلاف
أحوال الليل والنهار ، وهو المراد ههنا من قوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ). وفي هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها
مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك.
والثاني : أنها
حال ، قاله أبو البقاء ، وفيه ضعف من حيث أن تكوير أحدهما على الآخر إنما كان بعد
خلق السموات والأرض إلا أن يقال : هي حال مقدرة ، وهو خلاف الأصل .
والتكوير : اللّفّ
واللّيّ يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها ، ومعنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل
على هذا المعنى أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا وإذا غشي مكانه
فكأنما لف عليه وألبسه كما يلف اللباس على
__________________
اللابس أو أن كل
واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار أو إن
هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع إكرار العمامة بعضها على بعض . قاله الزمخشري. وهذا أوفق للاشتقاق من أشياء قد ذكرت . وقال الراغب : كور الشيء إدارته وضمّ بعضه إلى بعض ككور
العمامة ، وقوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ) إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار
وازديادهما. وكوّره إذا ألقاه مجتمعا. واكتار الفرس إذا رد ذنبه في عدوه ، وكوارة النّحل معروفة ، والكور الرّحل. وقيل لكل مصر كورة وهي
البقعة التي يجتمع فيها قرى ومحال . قال ابن الخطيب : إن النور والظلمة عسكران عظيمان ، وفي
كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا ، وذلك يدل على أن كل واحد منهما يكون مغلوبا مقهورا
، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله تعالى ، والمراد من
هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر ، والمراد من تكوير
الليل والنهار ما ورد في الحديث : «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» أي من النقصان بعد الزيادة ، وقيل : من الإدبار بعد
الإقبال.
قوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فإن الشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح
هذا العالم مربوطة بهما كل يجري لأجل مسمى إلى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى
هذا اليوم ، فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك
تدور كدوران المنجنون على حدّ واحد.
ثم قال : (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) ومعناه أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دلّ على كونه عزيزا
، أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان ، فإنه لما كان
الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفارا كثير الرحمة يوجب
الرجاء والرغبة.
ثم إنه تعالى لما
ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل السفلية فبدأ بذكر الإنسان فقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم .
__________________
قوله : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها) في «ثم» هذه أوجه :
أحدها : أنها على
بابها من الترتيب بمهلة وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذّرّ ، ثم
خلق حواء بعد ذلك بزمان.
الثاني : أنها على
بابها أيضا ولكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله «واحدة»
إذ التقدير من نفس وحّدت أي انفردت ثم جعل منها زوجها .
الثالث : أنها
للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجوديّ كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل
منها زوجها .
(الرابع : أنها للترتيب في الأحوال والرّتب ، قال الزمخشري : فإن
قلت : ما وجه قوله : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها
زَوْجَها)) وما تعطيه من التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها
دالا على وحدانيته وقدرته بتشعيب هذا الخلق الثابت للحصر من نفس آدم عليه (الصلاة و) السلام
وخلق حواء من قصيراه إلا أنّ إحديهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم تجر
بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب
لعجب السامع فعطفها «بثمّ» على الآية الأولى للدلالة على مباينتها فضلا ومزيّة
وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهي من التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود .
قال ابن الخطيب :
إن كلمة «ثمّ» كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء
لبيان تأخر أحد المكانين عن الآخر كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت
أمس أعجب ، وأعطيتك اليوم شيئا ثمّ الّذي أعطيتك أمس أكثر .
قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) عطف على «خلقكم». والإنزال يحتمل الحقيقة ، يروى أنه خلقها
في الجنة ثم أنزلها. ويحتمل المجاز. وله وجهان :
__________________
أحدهما : أنها لما
لم تعش إلا بالنبات والماء والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق
الإنزال عليها وهو في الحقيقة مطلق على سبب السبب كقوله :
٤٢٨٨ ـ أسنمة الآبال في ربابه
وقوله :
٤٢٨٩ ـ صار الثّريد في رؤوس العيدان
وقوله :
٤٢٩٠ ـ إذا نزل السّماء بأرض قوم
|
|
رعيناه وإن
كانوا غضابا
|
والثاني : أن
قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ ، وهو أيضا سبب في
إيجادها . وقال البغوي : معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله
: (أَنْزَلْنا
عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ،
وقيل : معناه : أنزل لكم من الأنعام جعلها نزلا لكم ورزقا ومعنى ثمانية أزواج أي
ثمانية أصناف ، وهي الإبل والبقر والضّأن والمعز ، وتقدّم تفسيرها في سورة الأنعام.
قوله : «يخلقكم»
هذه الجملة استئنافية ، ولا حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ مضمر بل استؤنفت للإخبار
بجملة فعلية ، وقد تقدم خلاف القراء في كسر الهمزة في «أمّهاتكم» .
__________________
قوله : «خلقا»
مصدر «خلق» ، وقوله : (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) صفة له فهو لبيان النوع من حيث إنه لما وصف زاد معناه على
معنى عامله ، ويجوز أن يتعلق (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) بالفعل قبله ، فيكون خلقا لمجرد التوكيد.
قوله : (فِي ظُلُماتٍ) متعلق «بخلق» الذي قبله ، ولا يجوز تعلقه «بخلقا» المنصوب ، لأنه مصدر مؤكد ، وإن
كان أبو البقاء جوزه ثم منعه بما ذكرت فإنه قال : و «في» يتعلّق به ؛ أي «بخلقا»
أو «بخلق» الثاني ، لأن الأول مؤكد فلا يعمل ، ولا يجوز تعلقه بالفعل قبله لأنه قد تعلق به حرف مثله ، ولا يتعلق حرفان متحدان لفظا ومعنى إلا
بالبدليّة أو العطف ، فإن جعلت «في ظلمات» بدلا من (فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ) بدل اشتمال لأن البطون مشتملة عليها وتكون بدلا بإعادة
العامل جاز ذلك أعني تعلّق الجارّين ب «يخلقكم» ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بالمصدر لأنه من
تتمّة العامل فليس بأجنبيّ .
فصل
هذه الحالة مشتركة
بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات ، وقوله : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) معناه ما ذكر الله تعالى في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ...) الآيات [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].
وقوله : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) قال ابن عباس : ظلمة البطن ، وظلمة الرّحم ، وظلمة المشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن . ووجه الاستدلال بهذه الآيات مذكور في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦].
قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) يجوز أن يكون «الله» خبرا «لذلكم» و «ربّكم» نعت لله أو
بيان له أو بدل منه . ويجوز أن يكون «الله» بدلا من «ذلكم» و «ربكم» خبره ،
والمعنى : ذلكم الله الذي خلق هذه الأشياء ربّكم .
قوله : (لَهُ الْمُلْكُ) يجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون خبرا بعد
__________________
خبر ، وأن يكون «الله» بدلا من «ذلكم» و «ربكم» نعت لله أو بدل
منه ، والخبر الجملة من (لَهُ الْمُلْكُ). ويجوز أن يكون الخبر نفس الجار والمجرور وحده ، و «الملك»
فاعل به فهو من باب الإخبار بالمفرد .
قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون خبرا بعد خبر .
فصل
قوله : (لَهُ الْمُلْكُ) يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ، ولما ثبت أنه لا ملك
إلا له وجب القول بأن لا إله إلا هو.
ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته وحكمته ورحمته زيّف طريقة المشركين وقال : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن طريق الحق بعد هذا البيان ، وهذا يدل على أنهم لم
يصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفهم عنها غيرهم وما ذلك الغير إلا الله وأيضا
فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل أحد يريد تحصيل الحق والصواب فلمّا لم يحصل ذلك فإنما
حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه. واستدلت المعتزلة بهذه الآيات أيضا لأن قوله تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله
لم يبق لهذا التعجب معنى. قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إنه تعالى ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعة أو
ليدفع عن نفسه مضرّة لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع
المضرة ، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته في جميع صفاته يكون غنيا على
الإطلاق وأيضا فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش
والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زيد» وصيام «عمرو» وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك.
ثم قال : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي وإن كان لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ، إلا أنه لا
يرضى بالكفر. قال ابن عباس والسدي : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم
__________________
الذين قال الله
تعالى فيهم : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢]
فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى كقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦]
يريد بعض العباد ، وقال قتادة : لا يرضى لأحد من عباده الكفر أي لا يرضى لعباده أن
يكفروا به. وهو قول السّلف قالوا : كفر الكافر غير مرضي لله وإن كان بإرادته .
واحتج الجبائيّ
بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن
المجبرة يقولون : إن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم وأقوالهم وكل ما خلقه حقّ
وصواب ، وإذا كان كذلك كان قد رضي بالكفر من التوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية.
الثاني : لو كان
الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله واجب وحيث
اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضا برضا الله
تعالى. وأجيب بوجوه :
أحدها : إن عادة
القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين كما قدمناه عن ابن عباس.
وثانيها : قول
السلف المتقدم وأنشد ابن دريد :
٤٢٩١ ـ رضيت قسرا أو على القسر رضا
|
|
من كان ذا سخط
على صرف القضا
|
أثبت الرضا مع
القسر.
وثالثها : هب أن
الرضا هو الإرادة إلا أن قوله : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) عام فيتخصص بالآيات الدالة على أنه تعالى لا يريد الكفر
لقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠].
قوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أي تؤمنوا بربكم وتطيعوه (يَرْضَهُ لَكُمْ) فيثيبكم عليه. قرأ ابن كثير والكسائي وابن ذكوان يرضهو
بالصلة . وهي الأصل من غير خلاف وهي قراءة واضحة. قال الواحدي : من
أشبع الهاء (حتى ألحق فيها واوا لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه ، وقرأ
: «يرضه» بضم الهاء) من غير صلة بلا خلاف نافع وعاصم
__________________
وحمزة. وقرأ «يرضه»
بإسكانها وصلا من غير خلاف السّوسيّ عن أبي عمرو ، وقرأ بالوجهين أعني الإسكان والصلة الدّوريّ
عن أبي عمرو. وقرأ بالإسكان والتحريك من غير صلة هشام عن ابن عامر. فهذه خمس مراتب للقراءة وقد تقدم توجيه الإسكان والقصر والإشباع أول
الكتاب وما أنشد عليه ، ولا يلتفت إلى أبي حاتم في تغليطه راوي السكون ؛ فإنها لغة
ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب.
قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) قال الجبائي : هذا يدل على أنه لا يجوز أن يقال : إنه
تعالى يأخذ الأولاد بذنوب الآباء واحتج به أيضا من أنكر وجوب ضرب
الدية على العاقلة. ثم قال : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ) وهذا يدل على إثبات البعث والقيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) وهذا يدل على تهديد العاصي وبشارة المطيع. وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كالعلة لما سبق أي إنه إنما ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع
المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر
إلى قلوبكم وأعمالكم.
قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ) لما بين فساد القول بالشّرك وبين أنه تعالى هو الذي يجب أن
يعبد بين ههنا أن طريقة الكفار متناقضة لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا دفعه من الله ،
وإذا أزال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة غيره فكان الواجب عليهم أن يتعرفوا بالله
تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم.
والمراد بالإنسان الكافر ، وقيل المراد : أقوام معينين كعتبة بن ربيعة وغيره. والمراد بالضر جميع المكاره سواء
كان في جسمه أو ماله أو في أهله وولده ، لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده.
__________________
قوله : «منيبا»
حال من فاعل «دعا» و «إليه» متعلق «بمنيبا» أي راجعا إليه في إزالة ذلك الضر ، ولأن الإنابة الرجوع.
قوله : (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أعطاه (نِعْمَةً مِنْهُ) أي أعطاها إياه ابتداء من غير مقتض. ولا يستعمل في الجزاء
بل في ابتداء العطيّة ، قال زهير :
٤٢٩٢ ـ هنالك إن يستخولوا المال
يخولوا
|
|
..........
|
ويروى : يستخبلوا
المال يخبلوا ، وقال أبو النجم :
٤٢٩٣ ـ أعطى فلم يبخل ولم يبخّل
|
|
كوم الذّرى من
خول المخوّل
|
وحقيقة خول من أحد
معنيين إما من قولهم : هو خائل مال إذا كان متعهّدا له حسن القيام عليه ، وإما من
خال يخول إذا اختال وافتخر ، ومنه قول العرب : إن الغنيّ طويل الذّيل ميّاس الخيل ، وقد تقدم اشتقاق هذه المادة مستوفى في الأنعام .
قوله : «منه» يجوز
أن يكون متعلقا «بخوّل» وأن يكون متعلقا بمحذوف على أنه صفة : «لنعمة» .
قوله : «نسي» أي
ترك (ما كانَ يَدْعُوا
إِلَيْهِ) يجوز في «ما» هذه أربعة أوجه :
__________________
أحدها : أن تكون
موصولة بمعنى الذي مرادا بها الضّرّ أي نسي الشّرّ الذي يدعو إلى كشفه أي ترك دعاءه كأنه (لم) يتضرع إلى ربه .
الثاني : أنها
بمعنى الذي مرادا الباري تعالى أي نسي الله الذي كان يتضرع إليه . وهذا عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم ، وقال ابن الخطيب : وما بمعنى «من» كقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ٣] (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) [النساء : ٣].
الثالث : أن تكون «ما» مصدرية أي
نسي كونه داعيا .
الرابع : أن تكون (ما) نافية وعلى
هذا فالكلام تام على قوله : («نسي» ) ثم استأنف إخبارا بجملة منفية ، والتقدير : نسي ما كان
فيه لم يكن دعاء هذا الكافر خالصا لله (تعالى) . وقوله : (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الضر على القول الأخير ، وأما على الأقوال قبله
فالتقدير من قبل تحويل النّعمة.
قوله : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) يعني الأوثان (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلّ» بفتح الياء أي ليفعل
الضلال بنفسه ، والباقون بضمها فمفعوله محذوف ، وله نظائر تقدمت ، واللام يجوز أن تكون
للعلة ، وأن تكون لام العاقبة كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).
ثم قال : قل يا
محمد لهذا الكافر (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ
قَلِيلاً) في الدنيا أي إلى انقضاء أجلك ، وليس المراد منه الأمر بل
المراد منه الزجر وأن يعرفه قلة تمتّعه في الدنيا ثم مصيره إلى النار ، قيل : نزلت
في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في حذيفة بن المغيرة المخزوميّ ، وقيل :
عامّ في كل كافر.
قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) لما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير
__________________
الله أردفه بشرح
أحوال المحقين . قرأ الحرميّان نافع وابن كثير بتخفيف الميم والباقون
بتشديدها فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : أنها
همزة الاستفهام دخلت على «من» بمعنى الذي ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف
تقديره : أمّن هو قانت كمن جعل لله أندادا؟ أو : أمّن هو قانت كغيره؟ أو التقدير :
أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله : (قُلْ تَمَتَّعْ
بِكُفْرِكَ قَلِيلاً)؟ ويدل عليه قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) محذوف خبر المبتدأ وما يعادل المستفهم عنه. والتقدير أن
الأوّلان أولى لقلة الحذف ومن حذف المعادل للدلالة قول الشاعر :
٤٢٩٤ ـ دعاني إليها القلب إنّي لأمرها
|
|
سميع فما أدري
أرشد طلابها
|
يريد : أم غي .
الثاني : أن تكون
الهمزة للنداء و «من» منادى
ويكون المنادى هو النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو المأمور بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) كأنه قال : يا من هو قانت قل كيت وكيت كقول الآخر :
٤٢٩٥ ـ أزيد أخا ورقاء إن كنت ثائرا
|
|
..........
|
__________________
وفيه بعد ، ولم
يقع في القرآن نداء بغير يا حتى يحمل هذا عليه. وضعف أبو حيان هذا الوجه بأنه
أجنبي مما قبله ومما بعده ، قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه ليس أجنبيا مما بعده إذ
المنادى هو المأمور بالقول . وضعفه الفارسي أيضا بقريب من هذا . وتجرأ على قارىء هذه القراءة أبو حاتم والأخفش ، وأما القراءة الثانية فهي «أم» داخلة على من الموصولة
أيضا فأدغمت الميم في الميم. وفي «أم» حينئذ قولان :
أحدهما : أنها
متصلة ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت ، وهذا معنى قول الأخفش
.
قال أبو حيان :
ويحتاج حذف المعادل إذا كان أوّل إلى سماع ، وقيل : تقديره أمّن يعصي أمن هو مطيع يستويان وحذف الخبر
لدلالة قوله (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ).
والثاني : أنها
منقطعة فتتقدّر ببل والهمزة أي بل أمّن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول
له تمتع بكفرك .
وقال أبو جعفر :
هي بمعنى «بل» و «من» بمعنى الذي تقديره بل الذي هو قانت أفضل مما ذكر قبله .
وانتقد عليه هذا
التقدير من حيث إن من تقدم ليس له فضيلة البتّة حتى يكون هذا أفضل منه والذي ينبغي
أن يقدر : بل الّذي هو قانت من أصحاب الجنة لدلالة ما لقسيمه عليه من قوله : (إِنَّكَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ). وقال البغوي من شدّد فله وجهان :
__________________
أحدهما : أن تكون
الميم في «أم» صلة ويكون معنى الكلام استفهاما وجوابه محذوف مجازه : أمّن هو قانت كمن هو
غير قانت كقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الزمر : ٢٢] يعني
كمن لم يشرح صدره.
والثاني : أنه عطف
على الاستفهام مجازه : الذي جعل لله أندادا .
فصل
القانت : هو
القائم بما يجب عليه من الطاعة ، ومنه قوله عليه (الصلاة و) السلام : «أفضل
الصّلاة صلاة القنوت» وهو القائم فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائما ، وعن ابن عمر
أنه قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ). وعن ابن عباس : القنوت الطاعة كقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي مطيعون .
قوله : (آناءَ اللَّيْلِ) آناء منصوب على الظرف . وتقدم اشتقاقه ، والكلام في مفرده ، والمعنى ساعات الليل. وفي هذه الآية
دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار ، قال ابن عابس ـ في رواية عطاء ـ :
نزلت في (أبي بكر الصدّيق ، وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر وعمر ، وعن ابن
عمر : أنها نزلت في عثمان وعن الكلبي : أنها نزلت في) ابن مسعود ، وعمّار وسلمان .
قوله : «ساجدا»
حال و «قائما» حال أيضا وفي صاحبها وجهان :
أظهرهما : أنه
الضمير المستتر (في) «وقانت».
والثاني : أنه
الضمير المرفوع «بيحذر» قدما على عاملهما ، والعامة على نصبهما.
__________________
وقرأ الضحاك
برفعهما على أحد وجهين ، إما النعت «لقانت» وإما أنهما خبر بعد خبر .
قوله : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) يجوز أن يكون حالا من الضمير في «قانت» وأن يكون حالا من
الضمير في «ساجدا» و «قائما» وأن يكون مستأنفا جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : ما
شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدّها؟ فقيل : يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، أي عذاب الآخرة. وفي الكلام حذف ، والتقدير كمن لا يفعل شيئا من ذلك ، وإنّما حسّن هذا
الحذف دلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) والتقدير : هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم
يقنتون آناء الليل ساجدا وقائما والذين لا يعلمون وهم الذين صفتهم عند البلاء والخوف
يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون ، وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنه
تعالى وإن آتاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلهذا جعلهم الله كأنهم
ليسوا أولي الألباب من حيث إنّهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم .
قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قيل : الذين يعلمون «عمار» والذين لا يعلمون أبو حذيفة
المخزوميّ ، وهذا الكلام تنبيه على فضيلة العلم قيل لبعض العلماء :
إنكم تقولون العلم أفضل من المال (ثم نرى العلماء عند أبواب الملوك) ولا نرى الملوك عند أبواب
العلماء فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من
المنفعة فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما للعلم من المنافع فلا جرم تركوه.
(قوله) : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) قرىء : إنّما يذكر بإدغام التاء في الذال.
قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ
اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١٠)
قوله : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ) أي بطاعته ، واجتناب معاصيه. قال
__________________
القاضي أمرهم
بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم
الثواب وبالإقدام عليها يحبط.
فيقال (له) : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى
فدل ذلك على أنه يبقى مؤمنا مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان .
واعلم أنه تعالى
لما أمر المؤمنين بالاتّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ
الدُّنْيا حَسَنَةٌ).
قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، وحذفت صفة «حسنة» إذ المعنى
حسنة عظيمة لأنه لا يوعد من عمل حسنة في الدنيا حسنة مطلقا بل مقيدة بالعظم ، وأن
يتعلق بمحذوف على أنه حال من «حسنة» كانت صفة لها فلما تقدمت بقيت حالا .
فصل
قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) يحتمل أن يكون صلة لقوله : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا) أي آمنوا وأحسنوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول
الجنة ، والتنكير في «حسنة» للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها ، قاله
مقاتل. ويحتمل أن يكون صلة لقوله : «حسنة». وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه
الدنيا حسنة يريد الصحة. قال ابن الخطيب : الأولى أن يحمل على الثلاثة
المذكورة في قوله صلىاللهعليهوسلم : ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصّحّة والكفاية ، وقال بعضهم : الأول أولى لوجوه:
أحدها : أن
التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة ، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها
خسيسة منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة.
وثانيها : أن
الثواب للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة ، وأما الأمن والصحة
والكفاية فحاصل للكفار أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال ـ عليه (الصلاة و) السلام
ـ : «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» .
__________________
وقال تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣]
وثالثها : قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ) يفيد الحصر ، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين
أحسنوا وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر فكان
حمله على حسنة الآخرة أولى.
قوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) قال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة ، وفيه حثّ على الهجرة
من البلد الّذي يظهر فيه المعاصي ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧].
وقيل : نزلت في
مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهرب ، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ؛ لأنه
تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود
في الجنة ، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ
نَشاءُ) [الزمر : ٧٤]
وقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣].
قال ابن الخطيب : والأول عندي أولى لأن قوله : (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) لا يليق إلا بالأول.
قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى ، وقيل : نزلت
في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا
وهاجروا . قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير نهاية ؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه فما
لا نهاية له كان خارجا عن الحساب قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : كل مطيع يكال له كيلا أو يوزن
له وزنا إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثيا ، يروى : أنه يؤتى بأهل البلاء فلا
ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصبّ عليهم الأجر صبّا قال الله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض
بالمقاريض مما ذهب به أهل البلاء من الفضل .
__________________
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١)
وَأُمِرْتُ
لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)
قُلْ
إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ
بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ
عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ
أُولُوا الْأَلْبابِ)(١٨)
قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ
مُخْلِصاً (لَهُ الدِّينَ) أي مخلصا له) التوحيد لا أشرك به شيئا ، وهذا هو النوع الثامن من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها.
قوله : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها
للتعليل تقديره وأمرت بما أمرت به لأن أكون قال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف «أمرت»
على «أمرت» وهما واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص
وتكليفه شيء والأمر به ليحوز به قصب السبق في الدّين شيء آخر ، وإذا اختلف وجها الشيء
وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.
الثاني : أن تكون
اللام مزيدة في «أن» قال الزمخشري : وذلك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في قولك :
أردت لأن أفعل. ولا تزاد إلّا مع «أن» خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من
ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في «أسطاع» عوضا من ترك الأصل الذي هو
«أطوع» والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٧٢ والنمل
: ٩١] (و) (وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ١٠٤] (و) (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤]
انتهى .
قوله : «ولا تزاد
إلا مع أن» فيه نظر من حيث إنها تزاد باطّراد إذا كان المعمول متقدما
__________________
أو كان العامل فرعا وبغير اطراد في غير الموضعين. ولم يذكر أحد من
النحويين هذا التفصيل. وقوله : كما عوض السين في «أسطاع» هذا على أحد القولين ، والقول الآخر أنه استطاع ، فحذف تاء
الاستفعال ، وقوله : والدليل عليه مجيئه بغير لام قد يقال : إن أصله باللام ،
وإنما حذفت لأن حرف الجر يطرد حذفه مع «أن» و «أنّ» ويكون المأمور به محذوفا
تقديره : أن أعبد لأن أكون.
فصل
المراد من الكلام
: أن يكون أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها. واعلم أن العبادة لها ركنان عمل
القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح وهو الإسلام فقال : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ) أي من هذه الأمة.
قوله : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) وعبدت غيره (عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) وهذا حين دعا إلى دين آبائه ، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي. ودلت
هذه الآية على أن الأمر للوجوب لقوله في أول الآية : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ
أَعْبُدَ اللهَ) ثم قال بعده : (قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره ، ودلت
الآية أيضا على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب .
قوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) قدمت الجلالة عند قوم لإفادة الاختصاص . قال الزمخشري : ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل
العبادة هنا وأخره في الأول فالكلام أولا وقع في الفعل نفسه وإيجاده ، وثانيا فيمن
يفعل الفعل من أجله فلذلك رتب عليه قوله : (فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ). قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وقوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي)؟ قلنا : هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة
الله بالإيمان بالعبادة والثاني إخبار بأنّه أمر أن لا يعبد أحدا غير
الله ، وذلك لأن قوله : (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ) لا يفيد الحصر وقوله تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) يفيد الحصر أي الله أعبد ولا أعبد أحدا سواه ، ويدل عليه
أنه لما قال : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) قال بعده : (فَاعْبُدُوا ما
__________________
شِئْتُمْ
مِنْ دُونِهِ) وهذا أمر توبيخ وتهديد. والمراد منه الزجر كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]. ثم
بين كمال الزجر بقوله : (قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهاليهم
أيضا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل
الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده البتة. وقيل : خسران النفس بدخول النار
وخسران الأهل أن يفرق بينه وبين أهله.
ولما شرح الله
تعالى خسرانهم وصف ذلك الخسران (المبين بالفظاعة فقال : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ)
الْمُبِينُ) ، وهذا يدل على غاية المبالغة من وجه :
أحدها : أنه وصفهم
بالخسران ، ثم أعاد ذلك بقوله : (أَلا ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) وهذا التكرير لأجل
التأكيد.
وثانيها : ذكره
حرف «ألا» وهو للتّنبيه ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم كأنه قيل : بلغ في العظم
إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا له.
وثالثها : قوله : (هُوَ الْخُسْرانُ) ، ولفظ «هو» يفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في
مقابلته كلا خسران.
ورابعها : وصفه
بكونه خسرانا مبينا وذلك يدل على التهويل .
قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) يجوز أن يكون الخبر أحد الجارين المتقدمين وإن كان الظاهر
جعل الأول هو الخبر ، ويكون (مِنْ فَوْقِهِمْ) إما حالا من «ظلل» فيتعلق بمحذوف ، وإما متعلقا بما تعلق
به الخبر و (مِنَ النَّارِ) صفة لظلل ، وقوله : (وَمِنْ تَحْتِهِمْ
ظُلَلٌ) كما تقدم .
وسماها ظللا
بالنسبة لمن تحتهم ، ونظيره قوله : (لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] وقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ
الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت : ٥٥]. والمعنى أن النار محيطة بهم من جميع
الجوانب.
فإن قيل : الظلة
ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه من
باب إطلاق اسم أحد الضّدّين على الآخر ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].
الثاني : أن الذي
تحته يكون ظلة لغيره لأن النار درجات كما أن الجنة درجات.
__________________
الثالث : أن الظلة
التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانيّة في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة .
قوله : «ذلك»
مبتدأ. وقوله «الذي يخوف الله به» خبر ، والتقدير ذلك العذاب المعدّ للكفار هو
الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين ، لأن لفظ العباد في القرآن يختص بأهل
الإيمان ، وقيل : تخويف للكفار والضلال والأول أقرب لقوله بعده : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ). والظاهر أن المراد منه المؤمنون.
قوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) الذين مبتدأ ، والجملة من (لَهُمُ الْبُشْرى) الخبر ، وقيل : «لهم» هو الخبر نفسه ، و «البشرى» فاعل به .
وهذا أولى لأنه من
باب الإخبار بالمفردات . والطّاغوت قال الزمخشري : فعلوت من الطّغيان كالملكوت
والرّهبوت إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين. لما ذكر وعيد عبدة الأصنام ذكر وعد من اجتنب
عبادتها واحترز عن أهل الشرك ليكون الوعد مقرونا بالوعيد أبدا فيحصل كمال الترغيب
والترهيب.
قيل : المراد
بالطاغوت هنا : الشيطان .
فإن قيل : إنما عبدوا
الصنم.
فالجواب : أن
الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة الصنم
عبادة للشيطان ، وقيل المراد بالطاغوت : الصنم وسميت طواغيت على سبيل
المجاز لأنه لا فعل لها ، (والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها
والقرب منها وصفت بذلك) إطلاقا لاسم السبب على المسبّب بحسب الظاهر. وقيل :
الطاغوت كل من يعبد ويطاع دون الله. نقل (ذلك) في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم (كانوا) مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنواع مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون
__________________
تلك التماثيل على
اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة .
قوله : (أَنْ يَعْبُدُوها) الضمير يعود على الطّاغوت لأنها تؤنث ، وقد تقدم الكلام
عليها مستوفى في البقرة و (أَنْ يَعْبُدُوها) في محل نصب على البدل من «الطّاغوت» بدل اشتمال كأنه قيل :
اجتنبوا عبادة الطاغوت .
قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) من إيقاع الظاهر موقع المضمر أي فبشّرهم أي أولئك المجتبين ، وإنما فعل ذلك
تصريحا بالوصف المذكور .
فصل
الذين اجتنبوا
الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة ما سوى الله وأنابوا أي رجعوا بالكلية إلى الله وأقبلوا
بالكلية على عبادة الله. ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء :
أحدها : قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) وهذه البشرى تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر
، وعند الخروج من القبر ، وعند الوقوف في عرصة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة
وفريق في السعير ، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير ، وهذا
المبشّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [النحل : ٣٢] أو
بعد دخول الجنة لقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤].
ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] ،
ثم قال (فَبَشِّرْ عِبادِ) (ي) (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم. وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح
الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الأصوب وتمييز الأحسن
الأصوب عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما بحجة العقل. واختلفوا في المراد باتّباع
الأحسن ، فقيل : هو مثل أن
__________________
يسمع القصاص
والعفو فيعفو ، لأن العفو مندوب إليه لقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة: ٢٣٧] ، وقيل : يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن
وهو العزائم ، وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن فيتبعون القرآن . وروى عطاء عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن
أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ (ي) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). وقال ابن الخطيب : إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها
والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا فكل ما حكم به أول العقل
بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول ، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن (إله
العالم حي عالم قادر حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك المذهب أولى. والإقرار)
بأن الله لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول
بأن أكثر ما يجري في سلطان الله على خلاف إرادته ، والإقرار بأن الله تعالى
فرد أحد صمد ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعّضا ، مؤلفا ، وأيضا القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى
من القول بأنه لا يستغني عنه ألبتة ، فكل هذه الأبواب داخلة تحت قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، فهذا في أبواب الاعتقادات وأما أبواب التكاليف فهي قسمان
: عبادات ومعاملات ، أما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها : الله أكبر وهي بنيّة ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ويتشهّد فيها
ويخرج منها بالسلام فلا شكّ أنها أحسن من تلك التي لا يراعى فيها شيء من هذه
الأحوال ، فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ، وكذا القول في جميع
أبواب العبادات.
وأما المعاملات
فكما تقدم في القصاص والعفو عنه ، وروي عن ابن عباس : أن المراد منه أن الرجل يجلس
مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدّث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه.
قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ) الظاهر أنه نعت «لعبادي» ، أو بدل منه ، أو بيان له ،
__________________
وقيل : يجوز أن
يكون مبتدأ ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) إلى آخره خبره ، وعلى هذا فالوقف على قوله : «عبادي»
والابتداء بما بعده .
قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ
وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) قال ابن زيد : نزلت : (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ...) الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله
إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسيّ ، والأحسن قول لا إله إلا
الله. وفي هذه الآية لطيفة وهي أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بدّ له
من فاعل وقائل أما الفاعل فهو الله تعالى وهو المراد من قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) ، وأما القائل فإليه الإشارة بقوله : (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه
المعارف والحقيقة في قلبه .
قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ)(٢٠)
قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ) في «من» هذه وجهان :
أظهرهما : أنها
موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف فقدره أبو البقاء : «كمن نجا» . وقدره الزمخشري : «فأنت تخلّصه» قال : حذف لدلالة : «أفأنت
تنقذ» عليه وقدره غيره : تتأسّف عليه ، وقدره آخرون : تتخلّص منه ، أي
من العذاب .
وقدر الزمخشري على
عادته جملة بين الهمزة والفاء تقديره : أأنت مالك أمرهم فمن حقّ عليه كلمة العذاب ؟
وأما غيره فيدعي أن الأصل تقديم الفاء ، وإنما أخّرت لما تستحقه
الهمزة من التصدير. وقد تقدم تحقيق هذين القولين .
الثاني : أن تكون «من»
شرطية وجوابها : «أفأنت» فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة
لتوكيد معنى الإنكار. وأوقع الظاهر وهو (مَنْ فِي النَّارِ)
__________________
موقع المضمر إذ
كان الأصل أفأنت تنقذه وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك ، وإلى هذا نحا الحوفيّ والزمخشريّ ، قال الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لمّا طال الكلام
توكيدا ولو لا طوله لم يجز الإتيان بها لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف
الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء ومعنى الكلام أفأنت تنقذه .
وعلى القول بكونها
شرطية يترتّب على قول الزمخشري وقول الجمهور مسألة وهو أنه على قول الجمهور يكون
قد اجتمع شرط واستفهام. وفيه حينئذ خلاف بين سيبويه ويونس هل الجملة الأخيرة في
جواب الاستفهام وهو قول يونس أو جواب الشرط وهو قول سيبويه .
وأما على قول
الزمخشري فلم يجتمع شرط (و) استفهام ؛ إذ أداة الاستفهام عنده داخلة على جملة محذوفة
عطفت عليها جملة الشرط ولو لم يدخل على جملة الشرط . وقوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) استفهام توقيف ، وقدم فيها الضمير إشعارا بأنك لست قادرا
على إنقاذه إنما القادر عليه الله وحده .
فصل
قال ابن عباس :
معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار. وقيل كلمة العذاب قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). وقيل : هي قوله : «هؤلاء في النار ولا أبالي».
فصل
احتج أهل السنة
بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال بقوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ
كَلِمَةُ الْعَذابِ) ، فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان
والطاعة وإلّا لزم (انقلاب) خبر الله الصدق كذبا وانقلاب علمه جهلا ، وهو محال ، وأيضا
فإنه تعالى
__________________
حكم بأن حقية كلمة العذاب (توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة منه ولو كان ذلك
ممكنا ولم تكن حقية كلمة العذاب) مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى
.
فصل
احتج القاضي بهذه
الآية على أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة
تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد ، وأجيب : بأنا لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم
العذاب وكيف يحق عليهم العذاب مع أن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦]
وقال: (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣].
قوله : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) استدراك بين شيئين نقيضين ، أو (بين) ضدين ، وهما المؤمنون
والكافرون وقوله : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ
فَوْقِها غُرَفٌ) وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ، وفوقها منازل أرفع
منها.
فإن قيل : ما معنى
قوله «مبنية»؟
فجوابه : أن
المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التّحتانيّ ، فقوله :
«مبنية» معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو المنزل الأسفل ، ثم
قال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) وذلك معلوم .
قوله : (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بواجب الإضمار لأن قوله
: (لَهُمْ غُرَفٌ) في معنى وعدهم الله ذلك ، وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات
الوعد يصرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل
هذا التأكيد والتقوية ، وذلك يدل أنّ جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف قول
المعتزلة إنه قال في جانب الوعيد : (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] وأجيبوا
بأن قوله : (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ) ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو عام يتناول القسمين الوعد
والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرنا حق. والله أعلم .
__________________
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ
حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٢)
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) (الآية) لما وصف الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفة توجب (اشتداد) النفرة عنها ، وذلك أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل
: كل ماء في الأرض فهو من السماء ، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي عيونا ومسالك وركايا في الأرض ومجاري كالعروق في الأجساد (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) من خضرة وحمرة ، وصفرة وبياض وغير ذلك مختلفا أصنافه من
برّ وشعير وسمسم «ثمّ يهيج» أي ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) لأنه إذا تم جفافه جاز (له) أن ينفصل عن منابته وإن لم تتفرّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق
ثم تصير حطاما فتاتا متكّسرا (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) يعني من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان
والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بدّ من الانتهاء إلى أن يصير مصفرّ اللون
متحطم الأعضاء والأجزاء ثم يكون عاقبته الموت ، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في
النبات مذكرة حصول (مثل) هذه الأحوال في نفسه وفي حياته فحينئذ تعظم نفرته عن
الدنيا ولذاتها.
قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ) العامة على رفع الفعل نسقا على ما قبله ، وقرأ أبو بشر ثم يجعله منصوبا .
__________________
قال أبو حيان :
قال صاحب الكامل ـ يعني الهذليّ ـ : وهو ضعيف. ولم يبين هو ولا صاحب الكامل وجه
ضعفه ولا تخريجه ، فأما ضعفه فواضح حيث لم يتقدم ما يقتضي نصبه في الظاهر ،
وأما تخريجه فذكر أبو البقاء فيه وجهين :
أحدهما : أن ينتصب
بإضمار «أن» ويكون معطوفا على قوله : (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً) في أول الآية والتقدير : ألم تر إنزال الله ثم جعله.
والثاني : أن يكون
منصوبا بتقدير : ترى أي ثم ترى جعله حطاما يعني أنه ينصب «بأن» مضمرة وتكون أن وما
في حيّزها مفعولا به بفعل مقدر وهو «ترى» لدلالة : (أَلَمْ تَرَ) عليه .
قوله (تعالى) : (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الآية ، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة
الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل إلا إذا شرح الصدر
ونوّر القلب ، والكلام في قوله (تعالى) : (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ) وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي) كالكلام في (أَفَمَنْ حَقَّ) والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن قسا قلبه ، أو
كالقاسي المعرض لدلالة : (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) عليه وكذا التقدير في : (أَفَمَنْ يَتَّقِي) أي كمن أمن العذاب ، وهو تقدير الزمخشري ، أو : كالمنعمين في الجنة وهو تقدير ابن عطيّة.
فصل
معنى شرح الله
صدره للإسلام أي وسعه لقبول الحق (فَهُوَ عَلى نُورٍ
مِنْ رَبِّهِ) كمن أقسى الله قلبه (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب
وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة .
فإن قيل : إن ذكر
الله ـ عزوجل ـ سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] فكيف
جعله في هذه الآية مبينا لحصول القسوة في القلب؟
__________________
فالجواب : أن
النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الرّوحانيّات شديدة
الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة
وكدورة ، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود وجه القصار ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح. وقد
نرى إنسانا (واحدا) يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه
غيره ، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢]
وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) قال كل (واحد) منهما : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : اكتب فكذا نزلت فازداد عمر إيمانا على إيمان ، وازداد
ذلك الإنسان (كفرا على كفر) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله ـ عزوجل ـ يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة
الروحانيّة ويوجب القسوة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشّيطانيّة.
قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى
اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ)(٢٦)
قوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه تعالى
وصفه بكونه : «حديثا» في هذه الآية وفي قوله : «قل (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) وفي قوله : (أَفَبِهذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١]
والحديث لا بدّ وأن يكون حادثا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث
لأنه (لا) يصح أن يقال :
__________________
هذا حديث وليس
بعتيق ، وهذا عتيق وليس بحديث ، ولا يصح أن يقال : هذا عتيق وليس بحادث فثبت
أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحدوث. وسمي الحديث حديثا لأنه مؤلّف من
الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة.
الثاني : قالوا
بأنّه تعالى وصفه بأنه أنزله والمنزل يكون في محلّ تصرف الغير وما كان كذلك فهو
محدث وحادث.
الثالث : قالوا :
إن قوله : (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أنّ قوله : «زيد
أفضل الإخوة» (يقتضي أن يكون زيد مشاركا لأولئك الأقوام في صفة الأخوّة) ويكون
من جنسهم ، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ، ولما كان سائر الأحاديث حادثة
وجب أيضا أن يكون القرآن حادثا.
الرابع : قالوا :
إنه تعالى وصفه بكونه كتابا والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الاجتماع ، وهذا يدل على
كونه حادثا.
قال ابن الخطيب :
والجواب أن نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والألفاظ والعبارات ،
وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق .
فصل
كون القرآن أحسن
الحديث إما أن يكون بحسب اللفظ وذلك من وجهين :
الأول : أن يكون
ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة.
الثاني : أن يكون
بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس
الرّسالة بل هو نوع يخالف الكلّ مع أن كل (ذي) طبع سليم يستلذّه ويستطيبه ، وإما أن يكون أحسن الحديث
لأجل المعنى. وهو من وجوه :
الأول : أنه كتاب
منزه عن التناقض قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ،
ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات.
الثاني : اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل.
__________________
الثالث : أن
العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا. وقد شرح ابن الخطيب منها أقساما كثيرة .
قوله : «كتابا»
فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل
من : (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).
والثاني : أنّه
حال منه ، قال أبو حيان ، لمّا نقله عن الزمخشري : وكأنه بناه على
أن «أحسن الحديث» معرفة لإضافته إلى معرفة ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه
خلاف ، فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة.
قال شهاب الدين :
وعلى تقدير كونه نكرة يحسن أيضا أن يكون حالا ؛ لأن النكرة متى أضيفت ساغ مجيء
الحال منها بلا خلاف ، والصحيح أن إضافة «أفعل» محضة وقوله : «متشابها» نعت «لكتاب». وهو المسوّغ لمجيء الجامد حالا ، أو لأنه في قوّة «مكتوب» ، أو تمييزا منقولا من الفاعلية أي متشابها مثانيه. وإلى
هذا ذهب الزمخشريّ .
قوله : «مثاني»
قرأ العامة مثاني ـ بفتح الياء ـ صفة ثانية ، أو حالا أخرى. وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بشر بسكونها ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه من
تسكين حرف العلة استثقالا للحركة عليه كقراءة : (تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ) [المائدة : ٨٩] ، (و) (قوله) :
٤٢٩٦ ـ كأنّ أيديهنّ ...
|
|
..........
|
__________________
ونحوهما.
والثاني : أنه خبر
مبتدأ محذوف أي هو مثاني. كذا ذكره أبو حيان ، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن ينون وتحذف ياؤه
لالتقاء السّاكنين ، فيقال : مثان كما تقول : هؤلاء جوار ، وقد يقال : إنه وقف
عليه ثم أجري الوصل مجرى الوقف لكن يعترض عليه بأن الوقف على المنقوص المنون بحذف
الياء نحو : هذا قاض وإثباتها لغة قليل ، ويمكن الجواب عنه بأنه قد قرىء بذلك في المتواتر نحو : (مِنْ والٍ) [الرعد : ١١] و (باقٍ) [النحل : ٩٦] و (هادٍ) [الرعد : ٧] في
قراءة ابن كثير .
فصل
تقدم تفسير الكتاب
عند قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) ، وقوله : «متشابها» أي يشبه بعضه بعضا (في الحسن ويصدّق بعضه بعضا) ليس فيه تناقض ولا اختلاف ، قاله ابن عباس ،
وقوله : «مثاني» جمع «مثنى» أي يثنّى فيه ذكر الوعد ، والوعيد ، والأمر ، والنهي ،
والأخبار ، والأحكام ، أو جمع «مثنى» مفعل من التّثنية بمعنى التّكرير ، وإنما وصف
كتاب وهو مفرد «بمثاني» وهو جمع لأن الكتاب مشتمل على سور وآيات ، وهو من باب : برمة
أعشار ، وثوب أخلاق. قاله الزمخشري . وقيل : ثمّ موصوف محذوف أي فصولا مثاني ، حذف للدلالة عليه ، وقال ابن الخطيب : إن أكثر الأشياء
المذكورة زوجين زوجين مثل الأمر ، والنهي ، والعام ، والخاص ، والمجمل ، والمفصل ،
وأحوال
__________________
السموات والأرض
والجنة والنار ، والضوء ، والظلمة ، واللوح ، والقلم ، والملائكة ، والشياطين ،
والعرش ، والكرسيّ ، والوعد ، والوعيد ، والرجاء ، والخوف والمقصود منه أن بيان
كلّ ما سوى الحق زوج يدل على أن كل شيء ممثل بضدّه ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله تعالى.
قوله : «تقشعرّ»
هذه الجملة يجوز أن تكون صفة «لكتاب» وأن تكون حالا منه لاختصاصه بالصفة ، وأن تكون مستأنفة ، واقشعر جلده إذا تقبّض وتجمّع من الخوف وقفّ شعره ، والمصدر الاقشعرار والقشعريرة
أيضا ووزن اقشعرّ افعللّ ، ووزن القشعريرة فعلّيلة .
فصل
قال المفسرون :
تقشعر تضطرب وتشمئز (مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، وقيل
المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم (ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (أي لذكر الله) . قيل : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله
وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال الله : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨]
وحقيقة المعنى أن قلوبهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء. قال عليه (الصلاة و) السلام : «إذا اقشعرّ جلد العبد من
خشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشّجرة اليابسة ورقها» ، وقال : «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله حرّمه الله
على النّار» ، قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأنهم
تقشعرّ جلودهم وتطمئن قلوبهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في
أهل البدع وهو
__________________
من الشيطان ، وعن
عروة بن الزّبير قال : قلت لجدّتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ (قالت : كانوا كما نعتهم الله عزوجل تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم ، قال : فقلت لها : إن ناسا
اليوم إذا قرىء عليهم القرآن) خرّ أحدهم مغشيّا عليه فقالت : أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم. وعن ابن عمر أنه مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا؟
قالوا : إنه إذا قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر : إنّا لنخشى
الله (ـ عزوجل) ـ وما نسقط.
وقال ابن عمر : إن
الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
فصل
قال الزمخشري :
تركيب لفظ القشعريرة من حروف التّقشّع وهو الأديم وضموا إليه حرفا رابعا وهو الراء ليكون رباعيا
دالا على معنى زائد ، يقال : اقشعرّ جلده من الخوف (إذا) وقف شعره وهو مثل في شدة الخوف فإن قيل : كيف قال : (تَلِينُ إِلى ذِكْرِ
اللهِ) فعداه بحرف «إلى»؟
فالجواب : التقدير
: تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس الإدراك.
فإن قيل : كيف قال
: إلى ذكر الله ولم يقل : إلى ذكر رحمة الله؟
فالجواب : أن من
أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئا غيره ، وأما من أحبّ الله لا
لشيء سواه فهو المحب الحق وفي الدرجة العالية فلهذا لم يقل : تلين جلودهم وقلوبهم
إلى ذكر رحمة الله وإنما قال : إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا بقوله : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ).
فإن قيل : لم ذكر
في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب؟
فالجواب : لأن
المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات ، والشر
مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هي القلوب والأرواح والله أعلم .
__________________
ثم إنه تعالى :
لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : (ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) فقوله «ذلك» إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله وهو الذي شرح
الله صدره (أولا) لقبول الهداية ومن يضلل الله أي يجعل قلبه قاسيا مظلما (فَما لَهُ مِنْ هادٍ).
واعلم أن سؤالات
المعتزلة وجوابها عن مثل هذه الآية قد تقدم في قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥]
ونظائرها.
قوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ) الآية لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو
الضلال التام حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وتقريره أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه لأنه محل
الصباحة وصومعة الحواس (والسعادة والشقاوة) لا تظهر إلا فيه ، قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢].
ويقال لمقدم القوم : يا وجه العرب ، ويقال للطريق الدال على حال الشيء : إن وجه كذا
هو كذا. فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه وإذا وقع الإنسان في نوع
من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه ، وإذا عرف هذا فنقول : إذا كان القادر
على الاتّقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتّقاء بالوجه كناية (عن العجز) عن
الاتقاء ونظيره قول النابغة :
٤٢٩٧ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
|
|
بهنّ فلول من
قراع الكتائب
|
أي لا عيب فيهم
إلا هذا ، وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على
الاتقاء يوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء
البتّة ، وقيل : إنه يلقى في النار مغلولة يده إلى عنقه ، فلا يتهيأ له أن يتقي
النار إلا بوجهه ، وتقدم الكلام على الإعراب . و «سوء العذاب» أشده ، وقال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، وقال عطاء : يرمى به في النار
منكوسا ، فأول شيء يمس النار منه وجهه.
__________________
قوله : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) أي تقول الخزنة للظالمين : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ) أي وباله.
ولما بين كيفية
عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال : (كَذَّبَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ) يعني وهم آمنون غافلون عن العذاب أي من الجهة التي لا يخشون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم
منها ، (فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو الذل والصغار والهوان ثم قال (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ) يعني أنّ أولئك وإن نزل بهم العذاب والخزي في الدنيا
فالعذاب المدخر لهم يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)
قُرْآناً
عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
ضَرَبَ
اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢٩)
ولما ذكر الله
تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البيانات بلغت حدّ الكمال
والتمام فقال : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون ، قالت المعتزلة : دلت الآية على أن أفعال الله
تعالى وأحكامه معللة ، ودلت أيضا على أنه تعالى يريد الإيمان والمعرفة من الكلّ ؛
لأن قوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ) مشعر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) مشعر بالتعليل أيضا ومشعر بأن المراد من ضرب هذه الأمثال
حصول التذكرة والعلم .
قوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : (أن يكون
منصوبا على المدح ؛ لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه للقرآن .
الثاني : أن ينتصب
ب «يتذكرون» أي) يتذكرون قرآنا.
الثالث : أن ينتصب
على الحال من «القرآن» على أنها حال مؤكدة وتسمى حالا موطّئة؛ لأن
الحال في الحقيقة «عربيا» ، و «قرآنا» توطئة له ، نحو : جاء زيد رجلا
__________________
صالحا ، وقوله : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) نعت «لقرآنا» ، أو حال أخرى .
قال الزمخشري :
فإن قلت : فهلا قيل مستقيما أو غير معوجّ؟ قلت : فيه فائدتان :
إحداهما : نفي أن
يكون فيه عوج قط كما قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) [الكهف : ١].
والثانية : أن
العوج يختص بالمعاني دون الأعيان وقيل : المراد بالعوج الشك واللّبس وأنشد :
٤٢٩٨ ـ وقد أتاك يقين غير ذي عوج
|
|
من الإله وقول
غير مكذوب
|
فصل
اعلم أنه تعالى
وصف القرآن بصفات ثلاثة :
أولها : كونه
قرآنا ، والمراد كونه متلوّا في المحاريب إلى قيام الساعة.
وثانيها : كونه
عربيا أي أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨].
وثالثها : كونه
غير ذي عوج ، والمراد براءته من التناقض ، قال ابن عباس : غير مختلف ، وقال مجاهد : غير ذي لبس
وقال السدي : غير مخلوق ، ويروى ذلك عن مالك بن أنس ، وحكى سفيان بن عيينة عن
سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق .
قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الكفر والتكذيب به. وتمسك المعتزلة به في تعليل أحكام الله
تعالى ، وقوله في الآية الأولى : (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ ،) وههنا : (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) لأن التذكر يتقدم على الاتّقاء والاحتراز. والله أعلم .
قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً) قال الكسائي : نصب «رجلا» لأنه تفسير للمثل.
واعلم أنه تعالى
لما شرح وعيد الكفار مثّل بما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم ، فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً).
__________________
قوله : (فِيهِ شُرَكاءُ) يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة «لرجل»
ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده ، و «شركاء» فاعل به ، وهو أولى لقربه من
المفرد ، و «متشاكسون» صفة «لشركاء» ، والتّشاكس (التخالف ، وأصله سوء الخلق وعسره ، وهو سبب التخالف ، والتشاجر ،
ويقال : التّشاكس) والتّشاخس ـ بالخاء ـ موضع الكاف ، وقد تقدم الكلام على نصب المثل وما بعده الواقعين
بعد ضرب. وقال الكسائي : انتصب «رجلا» على إسقاط الجار ، أي لرجل أو في رجل ، والمتشاكسون المختلفون العسرون ، يقال : شكس يشكس شكوسا وشكسا إذا عسر ، وهو رجل شكس أي
عسر وشاكس إذا تعاسر قال الليث : التّشاكس التضاد والاختلاف ويقال : الليل والنهار
يتشاكسان أي يتضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر . وقوله «فيه» صلة «لشركاء» كما تقول اشتركوا فيه أي في
رقّة ، (قال شهاب الدين : وقال أبو البقاء كلاما لا يشبه أن يصدر من
مثله بل ولا أقل منه قال : (فِيهِ شُرَكاءُ)) الجملة صفة «لرجل» و «فيه» متعلق بمتشاكسون ، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه
انتهى أما هذا فلا أشك أنه سهو لأنه من حيث جعله جملة كيف يقول بعد ذلك : إن «فيه»
يتعلق «بمتشاكسون». وقد يقال : أراد من حيث المعنى. وهو بعيد جدا ، ثم قوله : «وفيه
دلالة» إلى آخره يناقضه أيضا وليست المسألة غريبة حتى يقول : «وفيه دلالة» وكأنه
أراد وفيه دلالة على تقديم معمول الخبر على المبتدأ بناء منه على أن «فيه» يتعلق
بمتشاكسون ، ولكنه فاسد ، والفاسد لا يرام صلاحه .
__________________
قوله : (سَلَماً لِرَجُلٍ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالما بالألف وكسر اللام ،
والباقون سلما بفتح السين واللّام ، وابن جبير بكسر السين وسكون اللام ، (قال ابن الخطيب : ويقال أيضا : بفتح السين وسكون اللام) ، فالقراءة
الأولى اسم فاعل من سلم له كذا فهو سالم. والقراءتان الأخيرتان سلما وسلما فهما
مصدران وصف بهما على سبيل المبالغة أو على حذف مضاف ، أو على وقوعهما موقع اسم
الفاعل فيعود كالقراءة الأولى ، وقرىء : «ورجل سالم» برفعهما وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون
مبتدأ والخبر محذوف تقديره وهناك رجل سالم لرجل ، كذا قدره الزمخشريّ.
الثاني : أنه
مبتدأ ، و «سالم» خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل كقول أمرىء القيس
:
٤٢٩٩ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
|
|
بشقّ وشقّ عندنا
لم يحوّل
|
وقولهم : «النّاس
رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت».
قوله : «مثلا»
منصوب على التمييز المنقول من الفاعلية إذ الأصل : هل يستوي مثلهما ، وأفرد
التمييز لأنه مقتصر عليه أولا في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً). وقرىء «مثلين» فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري فيمن قرأ مثلين : إنّ الضمير في «يستويان» «للمثلين» لأن
التقدير : مثل رجل ومثل رجل ، والمعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية كما تقول
: كفى بهما رجلين . قال أبو حيان : والظاهر أنه يعود
__________________
الضمير في «يستويان»
على «رجلين» ، وأما إذا جعلته عائدا إلى المثلين اللّذين ذكر أن التقدير : مثل رجل
ومثل رجل ، فإن التمييز يكون إذ ذاك قد فهم من المميز الذي هو الضمير إذ يصير
التقدير : هل يستوي المثلان مثلين في الوصفية ، فالمثلان الأولان معهودان والثانيان جنسان مبهمان كما
تقول : كفى بهما رجلين ، فإن الضمير في بهما عائد على ما يراد بالرّجلين فلا فرق
بين المسألتين فما كان جوابا عن : «كفى بهما رجلين» يكون جوابا له.
فصل
تقدير الكلام :
اضرب لقومك مثلا وقل ما تقولون في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع فيه وكل واحد
يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيّر في أمره وكلما أرضى أحدهم غضب
الباقون ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّرا لا يعرف
أيّهم أولى أن يطلب رضاه؟ وأيهم يعينه في حاجاته؟ فهو بهذا السبب في عذاب دائم ،
وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهماته فأي هذا (من)
العبدين أحسن حالا؟ والمراد أن من أثبت آلهة أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى
: (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
وقال : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]
فيبقى ذلك المشرك متحيرا ضالّا لا يدري أيّ هؤلاء الآلهة يعبد؟ وعلى ربوبية أيهم
يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ فهمه مشاع وقلبه أوزاع أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما
كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول ، وهذا
المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك وتحسين التّوحيد.
فإن قيل : هذا
المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس.
فالجواب : أن عبدة
الأصنام مختلفون منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل
__________________
الكواكب السبعة
وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ، ألا ترى أنهم يقولون : زحل هو النحس الأعظم ، (والمشتري
: هو السّعد الأعظم) ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية
وحينئذ (يحصل) بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحينئذ يكون المثال مطابقا
، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزّهاد (الذين) مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من
العلماء والزّهّاد شفعاء لهم عند الله. والقائلون بهذا القول يزعم كل طائفة منهم أن المحقّ هو ذلك الرجل الذي هو على دينه ،
وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضا ينطبق المثال.
قوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه
لا إله إلا الواحد الأحد المحقّ ثبت أن الحمد له لا لغيره ، ثم قال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الحمد له لا لغيره ، وأنّ المستحق العبادة هو الله.
وقيل : لا يعلمون ما يصيرون إليه ، وقيل : المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل
الظاهرة قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على حصول هذه البيانات ، وظهور هذه البيّنات وإن كان (أكثر)
الخلق لا يعرفونها. قال البغوي : والمراد بالأكثر الكلّ .
قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
(٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)
لَهُمْ
ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)
لِيُكَفِّرَ
اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
أَلَيْسَ
اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)(٣٧)
قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي ستموت (وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ) أي سيموتون. قال الفراء والكسائي : الميّت ـ بالتشديد ـ من لم يمت وسيموت والميت ـ
بالتخفيف ـ من فارقه
__________________
الروح ولذلك لم
يخفف ههنا. والعامة على ميّت وميّتون ، وقراءة ابن محيصن وابن أبي عبلة واليماني :
مائت ومائتون ، وهي صفة مشعرة بحدوثها دون ميّت ، وقد تقدم أنه لا خلاف
بين القراء في تثقيل مثل هذا.
فصل
والمراد أن هؤلاء
الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة لأجل الحسد فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضا يموتون «ثمّ إنّكم»
تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق يحكم بينكم فيوصل إلى كل أحد حقه وحينئذ يتميز المحق من المبطل.
ثم إنه تعالى بين
نوعا آخر من قبائح أفعالهم وهم أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائلالمحق
أما كذبهم فهو أنهم أثبتوا لله ولدا وشركاء ، وأما تكذيبهم الصادق فلأنهم يكذبون (القائل
المحق) محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد قيام الدلائل القاطعة على كونه صادقا في ادّعاء
النّبوة ، ثم أردفه بالوعيد فقال : (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي منزل ومقام للكافرين ، وهذا استفهام بمعنى التقرير .
ولما ذكر (الله)
من افترى على الله الكذب أو كذب بالحق ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصّدق وصدّق به ،
وقوله : (وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ) لفظ مفرد ، ومعنا جمع لأنه أريد به الجنس ، وقيل : لأنه قصد به الجزاء وما كان
كذلك كثر فيه وقوع : «الذي» موقع «الذين» ولذلك روعي معناه فجمع في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) كما روعي معنى «من» في قوله : «للكافرين» فإن «الكافرين»
ظاهر واقع موقع المضمر ؛ إذ الأصل مثوى لهم ، وقيل : بل الأصل : والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفا
كقوله : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩]
وهذا وهم ؛ إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والّذي جاءوا ، كقوله
: (كَالَّذِي خاضُوا). ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنّى
كقوله :
__________________
٤٣٠٠ ـ أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا
|
|
قتلا الملوك
وفكّكا الأغلالا
|
ولجاء كقوله :
٤٣٠١ ـ [و] إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم
|
|
هم القوم كلّ
القوم يا أمّ خالد
|
وقرأ عبد الله : «والذي
جاؤ بالصدق وصدقوا به» . وقد تقدم تحقيق نظير هذه الآية في أوائل البقرة وغيرها ،
وقيل : «الذي» صفة لموصوف محذوف بمعنى الجمع تقديره والفريق أو الفوج ، ولذلك قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقيل : المراد بالذي واحد بعينه وهو محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولكن لما كان المراد هو وأتباعه اعتبر ذلك فجمع فقال : «أولئك
هم» كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [المؤمنون : ٤٩]
قاله الزمخشري ، وعبارته : هو رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه ، وناقشه أبو حيان في إيقاع الضمير المنفصل موقع المتصل ،
قال : وإصلاحه أن يقول : وأراده به كما أراده بموسى وقومه ، قال شهاب الدين : ولا مناقشة لأنه مع تقديم «به» و «بموسى»
لغرض من الأغراض استحال اتّصال الضمير ، وهذا كالبحث في قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) [النساء : ١٣١]
وقوله :
__________________
(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١]
وهو أن بعض الناس زعم أنه يجوز الانفصال مع القدرة على الاتصال. وتقدم الجواب
بقريب مما ذكرنا ههنا ، وتقدم بيان حكمة التقديم ثمة. وقول الزمخشري إن الضمير في
: (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) لموسى وقومه فيه نظر بل الظاهر خصوص الضمير بقومه دونه
لأنهم هم المطلوب منهم الهداية ، وأما موسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ فمهتد ثابت
على الهداية وقال الزمخشري أيضا : ويجوز أن يريد : والفوج أو الفريق
الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته الذين صدقوا به . قال أبو حيان : وفيه توزيع للصّلة ، والفوج هو الموصول
فهو كقولك : «جاء الفريق الّذي شرف وشرف» والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على
الصلة صلة لمن له الصلة الأولى .
وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان ومحمد بن جحادة مخففا بمعنى صدق فيه ولم يغيره بل أداه من غير تحريف ، وقرىء : «وصدّق
به» مشدّدا مبنيا للمفعول .
فصل
المعنى فمن أظلم
ممن كذب على الله فزعم أن له ولدا وشريكا وكذّب بالصّدق بالقرآن ، أو بمحمد إذ
جاءه ، ثم قال (وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ) قال ابن عباس : والّذي جاء بالصدق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وصدّق به محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تلقّاه بالقبول ، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء
بالصدق : رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وصدق به : أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وقال قتادة : والذي
جاء بالصدق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وصدق به : هم المؤمنون لقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٤].
وقال عطاء والذي جاء بالصدق : الأنبياء وصدق به : الأتباع وحينئذ يكون «الّذي»
بمعنى «الّذين» كقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا
__________________
أَضاءَتْ
ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧].
وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في الآخرة ، (أُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
وهذا لا يفيد العبدية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الإخلاص ، كقوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].
ثم قال : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) قالت المعتزلة : وهذا يدل على أن الأجر مستحق لهم على
إحسانهم في العبادة.
قوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ) في تعلق الجار وجهان :
أحدهما : أنها
متعلقة بمحذوف أي يسّر لهم ذلك ليكفّر.
والثاني : أن
تتعلق بنفس المحسنين كأنه قيل : الذين أحسنوا ليكفّر أي لأجل التكفير .
قوله : (أَسْوَأَ الَّذِي) الظاهر أنه أفعل تفضيل ، وبه قرأ العامة وقيل : ليست
للتفضيل بل بمعنى سيء الذي عملوا كقولهم : «الأشجّ والنّاقص أعدلا بني مروان» أي
عادلاهم . ويدل عليه قراءة ابن كثير ـ في رواية ـ : أسواء بألف بين
الواو والهمزة بزنة أعمال جمع سوء ، وكذا قرأ في : (لَحْمَ) السّجدة .
فصل
قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أي يسترها عليهم بالمغفرة ويجزيهم أجرهم
بأحسن الذي كانوا
__________________
يعملون. وقال
مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء ، قال ابن الخطيب : واعلم أن مقاتلا كان شيخ المرجئة وهم
الذين يقولون : لا يضرّ شيء من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيء من الطاعات مع
الكفر. واحتج بهذه الآية فقال : إنها تدلّ على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه
تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا يجوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن
ظاهر الآية أن التكليف إنما حصل في حال وصفهم بالتّقوى ، (وهو التقوى) من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر
التي يأتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تنصيصا على أنه تعالى يكفر عنهم بعد
إيمانهم (أسوأ) ما يأتون به وذلك هو الكبائر.
قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) العامة على توحيد «عبده» ، والأخوان عباده جمعا ، وهم الأنبياء وأتباعهم ، وقرىء «بكافي عباده»
بالإضافة. ويكافي مضارع كافى عباده نصب على المفعول به.
ثم المفاعلة هنا تحتمل أن تكون بمعنى «فعل» نحو : يجازي بمعنى يجزي
وبني على لفظ المفاعلة لما تقدم من أن بناء المفاعلة يشعر بالمبالغة لأنه للمبالغة
، ويحتمل أن يكون أصله يكافىء بالهمز من المكافأة بمعنى يجزيهم فخففت الهمزة ، وهذا استفهام تقرير.
قوله : «ويخوّفونك»
يجوز أن يكون حالا ؛ إذ المعنى أليس (الله) كافيك حال تخويفهم إياك بكذا كأنّ
المعنى أنه كافيه في كل حال حتى في هذه الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة .
فصل
من قرأ بكاف عبده
يعني محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن قرأ عباده يعني الأنبياء عليهم (الصلاة و) السلام قصدهم قومهم بالسوء
كما قال تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ
__________________
لِيَأْخُذُوهُ) [غافر : ٥] وكفاهم
الله شرّ من عاداهم. وقيل : المراد أن الله تعالى كفى نوحا ـ عليه (الصلاة و) السلام
ـ وإبراهيم النار ويونس ما دفع إليه فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى
هؤلاء الرسل قبلك.
وقوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) وذلك أن قريشا خوفوا النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ معاداة الأوثان وقالوا : لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو ليصيبنّك منهم
خبل أو جنون ، فأنزل الله هذه الآية.
ولما شرح الوعد
والوعيد والترغيب والترهيب ختم الكلام بخاتمة هي المفصل الحق فقال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي هذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد
بالهداية والتوفيق ، ثم قال : (أَلَيْسَ اللهُ
بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ). وهذا تهديد للكفّار.
فصل
احتج أهل السنة
بهذه الآية على مسألة خلق الأعمال لأن قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) صريح في ذلك ، وتمسك المعتزلة بقوله أليس الله بعزيز ذي
انتقام ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله تعالى لكان الانتقام والتهديد غير لائق.
والله أعلم .
قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ
أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٣٨)
قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ.) .. الآية. لما بين وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى
إقامة الدليل على تزييف طريق عبدة الأوثان وهذا التّزييف مبني على أصلين :
الأصل الأوّل : أن
هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم وهو المراد من قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). قال بعض العلماء العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم
علم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا
العلم فإن من تأمل في عجائب بدن
__________________
الإنسان وما فيه
من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بدّ من الاعتراف بالإله
القادر الحكيم الرحيم.
والأصل الثاني :
أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ
أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فثبت أنه لا بدّ من الإقرار بوجود (الله) الإله القادر
الحكيم الرحيم ، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر
كذلك كانت عبادة الله كافية والاعتماد عليه كافيا وهو المراد من قوله : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).
قوله : (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) هي المتعدية لاثنين أولهما : «ما تدعون» ، وثانيهما : الجملة
الاستفهامية والعائد على المفعول منها قوله «هنّ». وإنما أنّثه تحقيرا
لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث اللات ومناة والعزّى ، وتقدم تحقيق هذا.
قوله : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ) قرأ أبو عمرو كاشفات وممسكات ـ بالتنوين ـ ونصب «ضره
ورحمته» وهو الأصل في اسم الفاعل . والباقون بالإضافة. وهو تخفيف .
فصل
قال مقاتل : لما
نزلت هذه الآية سألهم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن ذلك فسكتوا فقال الله لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : قل حسبي الله ثقتي بالله واعتمادي (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يثق الواثقون .
قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩)
مَنْ
يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٤٠)
قوله : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ) وهذا أمر تهديد أي أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية
القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل في
__________________
تقرير ديني فسوف
تعلمون أن العذاب والخزى يصيبني أو يصيبكم .
قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٤١)
قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) الآية .. اعلم أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى
آثارِهِمْ) [الكهف : ٦] وقال : (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وقال :
(لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣]
فلما بين الله تعالى في هذه الآيات فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل البينات
وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن
قلب الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : إنا أنزلنا إليك الكتاب الكامل الشريف لنفع الناس
وهداهم وجعلنا إنزاله مقرونا بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن
اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل
القبول ، وعدم القبول مفوض إليهم وذلك تسلية للرسول ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ثم
بين تعالى أن الهداية لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى ، وكما أن الموت والنوم لا
يحصلان إلا بتخليق الله تعالى ، كذلك الضلال لا يحصل إلا بأمر الله تعالى ، ومن
عرف هذه الدقيقة فقد عرف سرّ الله في القدر ومن عرف سرّ الله تعالى في القدر هانت
عليه المصائب فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سببا لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ فهذا وجه النظم ، وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى ذكر
حجة أخرى في إثبات أنه إله عالم ليدل على أنه بالعبادة أحقّ من هذه الأصنام .
قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
أَمِ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ
شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣)
قُلْ
لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)
(٤٥)
قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها) أي الأرواح حين موتها فيقبضها عند انقضاء أجلها ، وقوله : (حِينَ مَوْتِها) يريد موت أجسادها (وَالَّتِي لَمْ
تَمُتْ) يريد يتوفى الأنفس
__________________
التي لم تمت في
منامها فالتي تتوفى عند النوم هي النفس التي بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان
إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت وتزول بزوالها النفس والأخرى هي
النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس (فَيُمْسِكُ الَّتِي
قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فلا يردها إلى الجسد (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي يردها إلى
الجسد وهي التي لم يقض عليها الموت (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت موته.
قوله : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) عطف على «الأنفس» أي يتوفى الأنفس حين تموت ويتوفى أيضا
الأنفس التي لم تمت في منامها ف «في منامها» ظرف «ليتوفّى» . وقرأ الأخوان : «قضي» مبنيا للمفعول الموت رفعا لقيامه
مقام الفاعل .
فصل
قيل : إنّ للإنسان
نفسا وروحا ، فعند النوم يخرج النّفس وتبقى الروح ، وعن عليّ قال : تخرج الروح عند
النوم ويبقى شعاعه في الجسد ، فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى
جسده بأسرع من لحظة ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما
شاء الله فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح
الأجساد حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من
الأرواح وإرسال ما يرسل منها.
وقال مقاتل :
لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث يعني أن توفّي نفس النائم وإرسالها بعد
التّوفّي دليل على البعث .
فإن قيل : قوله
تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ) يدل على أن المتوفّي هو الله تعالى فقط ، ويؤكده قوله
تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وقوله
: (رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة: ٢٥٨]
وقال في آية أخرى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] (وقال
في آية ثالثة : (إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١]
فكيف الجمع؟
فالجواب : أن
المتوفّي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة
ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم
__________________
فأضيف التوفّي في
آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقة ، وفي آية إلى ملك الموت لأن الرئيس في
هذا العمل وفي آية إلى أتباعه والله أعلم .
قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا) أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة .
واعلم أن الكفار
أوردوا على هذا الكلام سؤالا قالوا : نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها تضر
وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عنده من المقربين فنحن نعبدها
لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء فأجاب الله تعالى بأن قال (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
شُفَعاءَ).
قوله : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا) تقدم الكلام على نحو «أولو» وكيف هذا التركيب ، والمعنى قل يا محمّد أولو كانوا أي وإن كانوا يعني
الآلهة (لا يَمْلِكُونَ
شَيْئاً) من الشفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ) أنكم تعبدونهم ، وجواب هذا محذوف تقديره وإن كانوا بهذه
الصفة تتخذونهم .
قوله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) قال مجاهد : لا يشفع أحد إلا بإذنه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ) نفرت ، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : أي انقبضت عن
التّوحيد وقال قتادة استكبرت ، وأصل الاشمئزاز النّفور والاستكبار (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ) وهذا نوع آخر من أعمال المشركين القبيحة (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يعني يفرحون. قال مجاهد ومقاتل : وذلك حين قرأ النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سورة والنجم فألقى الشيطان في أمنيّته «تلك الغرانيق العلا» ففرح به الكفار.
قوله : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ) قال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في : (إِذا ذُكِرَ)؟
__________________
قلت : العامل فيه «إذا»
الفجائية تقديره وقت ذكر الّذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار.
قال أبو حيان :
أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين معمولان «لفاجأوا» ثمّ «إذا»
الأولى تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية . وقال الحوفي : (إِذا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ) «إذا» مضافة إلى
الابتداء والخبر ، و «إذا» مكررة للتوكيد ، وحذف ما يضاف إليه ، والتقدير : إذا
كان ذلك هم يستبشرون ، فيكون (هم يستبشرون) هو العامل في «إذا» المعنى : إذا كان
كذلك استبشروا .
قال أبو حيان :
هذا يبعد جدا عن الصواب إذا جعل «إذا» مضافة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال و «إذا»
مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف إليه إلى آخر كلامه. (فإذا كانت إذا حذف ما يضاف إليه) فكيف تكون مضافة إلى الإبتداء
والخبر الذي هو (هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذق فيه ، انتهى .
قال شهاب الدين :
وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيه . واختار أبو حيان أن يكون العامل في «إذا» الشرطية الفعل
بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زمانا أم مكانا أما إذا قيل
: إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل. وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء .
والاشمئزاز النفور
والتّقبض ، وقال أبو زيد : هو الذعر ، اشمأزّ فلان أي ذعر ووزنه افعللّ كاقشعرّ ، قال الشاعر :
__________________
٤٣٠٢ ـ إذا عضّ الثّقاف بها اشمأزّت
|
|
وولّته عشوزنة
زبونا
|
قال الزمخشري :
ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن
يمتلىء قلبه سرورا حتى يظهر ذلك السرور في أسرّة وجهه ويتهلّل ، والاشمئزاز أن يعظم (غمّه) وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه
أثر الغبرة والظلمة الأرضية .
قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي
ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
(٥٠) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ
ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)
ولما حكى هذا
الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي
ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) روى أبو سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ صلاته بالليل؟ قالت : كان يقول : «اللهمّ ربّ جبريل
وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك
فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لم اختلف فيه الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
__________________
ولمّا حكى عنهم
هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء :
أولها : أن هؤلاء
الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأمور وملكوا مثله معه جعلوا الكل فدية لأنفسهم من العذاب
الشديد.
وثانيها : قوله : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهرت لهم أنواع من العذاب لم يكن في حسابهم ، وهذا كقوله ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ
في صفة الثواب في الجنة : «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
فكذلك حصل في العقاب مثله وهو قوله: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا
أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات
والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من
الله ما لم يحتسبوا.
وثالثها : قوله
تعالى : (وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي مساوىء أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من جميع الجوانب (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم .
قوله : (سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) يجوز أن يكون «ما» مصدرية أي سيئات كسبهم أو بمعنى الذي أي
سيئات أعمالهم التي اكتسبوها .
قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا
...) الآية. وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم
عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك
البلاء لا يكون إلا منه ، ثم إنه تعالى إذا خوّله أعطاه نعمة يقول : إنما أوتيته
على علم أي علم من الله أني أهل له.
وقيل : إن كان ذلك
سعادة في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدّه واجتهاده ، وإن كان
مالا يقول : إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال : إنما حصل بسبب العلاج الفلاني ،
وهذا تناقض عظيم ، لأنه لما كان عاجزا محتاجا أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة
والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح .
__________________
قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) يجوز أن تكون (ما) مهيئة زائدة على نحو : إنما قام زيد ،
وأن تكون موصولة ، والضمير عائد عليها من : «أوتيته» أي إن الذي أوتيته على علم
مني ، أو على علم من الله في أني أستحق ذلك.
قوله : (بَلْ هِيَ) الضمير للنعمة ذكرها أولا في قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ) لأنها بمعنى الإنعام ، وقيل : تقديره «شيئا». وأنّث هنا
اعتبارا بلفظها ، وقيل : بل الحالة أو الإتيانة ، وإنما عظمت هذه الجملة وهي قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) بالفاء والتي في أول السورة بالواو لأن هذه مسببة عن قوله:
(وَإِذا ذُكِرَ) أي يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس
أحدهم بخلاف الأولى حيث لا تسبب فيها ، فجيء بالواو التي لمطلق العطف وعلى هذا فما
بين السبب والمسبب جمل اعتراضية. قال معناه الزمخشري .
واستبعده أبو حيان
من حيث إن أبا عليّ يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة؟.
ثم قال : «والذي
يظهر في الربط أنه لما قال : (وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ...) الآية كان ذلك إشعارا بما ينال الظالمين من شدة العذاب
وأنه يظهر لهم القيامة من العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا
الله فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه» . وقال ابن الخطيب : إن السبب في عطف هذه الآية بالفاء أنه
تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزّون من سماع التوحيد ، ويستبشرون بسماع
ذكر الشركاء ، ثم ذكر «بفاء» التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضرر والبلاء التجأوا إلى الله وحده ، فكان الفعل الأول مناقضا للفعل الثاني ،
فذكر بفاء التّعقيب ليدل به على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال وأنه
ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني ، فهذا فائدة ذكر فاء
التعقيب ههنا وأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في
الحال فلا جرم ذكره تعالى بحرف الواو لا بحرف الفاء .
__________________
ومعنى قوله : «فتنة»
استدراج من الله تعالى وامتحان.
قوله : (قَدْ قالَهَا) أي قال القولة المذكورة وهي قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) لأنها كلمة أو جملة من القول . وقرىء : قد قاله أي هذا القول أو الكلام . والمراد بالذين من قبلهم قارون وقومه ، حيث قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨]
وقومه راضون به فكأنهم قالوها ، ويجوز أن يكون في الأمم الماضية قائلون مثلها .
قوله : (فَما أَغْنى) يجوز أن يكون «ما» هذه نافية أو استفهامية مؤولة بالنفي . وإذا احتجنا إلى تأويلها بالنفي فلنجعلها نافية استراحة
من المجاز. ومعنى الآية ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئا.
قوله : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي جزاؤها يعني العذاب ، ثم أوعد كفار مكة فقال : (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) ، ثم قال : (وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله ـ عزوجل ـ.
قوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني أو لم يعلموا أن الله هو الذي يبسط الرزق تارة ويقبض
أخرى ، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلا بد لذلك من سبب
وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى
الجاهل الضعيف في أعظم السّعة وليس ذلك أيضا لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في
الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكريم والسّلطان القاهر قد ولد فيها أيضا عالم من الناس وعالم من
الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضا في تلك الساعة عالم من النبات ، فلما شاهدنا
حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة
والشقاوة علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان (العقلي) القاطع صحة قوله تعالى : (اللهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) وقال الشاعر :
٤٣٠٣ ـ فلا السّعد يقضي به المشتري
|
|
ولا النّحس يقضي
علينا زحل
|
ولكنّه حكم ربّ
السّما
|
|
وقاضي القضاة
تعالى وجل
|
قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ
__________________
إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ
أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ
آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ)(٦١)
قوله (تعالى) : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) الآية لما ذكر الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله ، قيل :
في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها
إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب ، في قوله : (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها إعادة
الظاهر بلفظه في قوله : «إنّ الله ، ومنها : إبراز الجملة من قوله (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) مؤكدة ب «إنّ» ، وبالفصل ، وبإعادة الصّفتين اللتين
تضمنتهما الآية السابقة .
فصل
روى سعيد بن جبير
عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن إن كان لما عملنا كفارة فنزلت
هذه الآية ، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وحشيّ قاتل حمزة حين بعث إليه النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت
تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنا (يَلْقَ أَثاماً
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الفرقان : ٦٨ و ٦٩]
وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله : (إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان :
__________________
٧٠] فقال وحشيّ :
هذا شرط شديد لعلّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦]
فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) قال وحشي : نعم هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون : هذا له
خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : بل للمسلمين عامة.
وروي عن ابن عمر
قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد
أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا
أبدا (قوم) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله
هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد
بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب .
فصل
دلت هذه الآية على
أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جار بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال
تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣]
وقال : (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦]
وإذا كان لفظ العبد مذكورا في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا
ثبت هذا ظهر أن قوله : (يا عِبادِيَ) مختص بالمؤمنين ، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد
الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات وعبد العزّى (وعبد المسيح). وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ) عام في جميع المسرفين ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً) وهذا يقتضي كونه غافرا لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين
وهو المطلوب.
فإن قيل : هذه
الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعا وأنتم
لا تقولون به فسقط الاستدلال ، وأيضا فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ...) الآية ؛ ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب
قطعا لما أمر عقيبه بالتوبة ، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون
وأيضا قال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) الآية ؛ وأيضا لو كان المراد ما دل عليه ظاهر الآية لكان
ذلك إغراء بالمعاصي
__________________
وإطلاقا في
الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن
المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن (العاصي) أن لا مخلص له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانط
جميعا أي بالتوبة والإنابة.
فالجواب : (قوله) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعا وأنتم لا تقولون
به قلنا : بلى نحن نقول به لأن صيغة «يغفر» للمضارع وهي الاستقبال وعندنا أن
الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب
الكبيرة مغفور له قطعا إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر
الآية عين مذهبنا وأما قوله : لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة.
فالجواب : أن
عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يقطع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول
لعله يعفو مطلقا ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج
الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم .
وروى مقاتل بن
حيّان عن نافع عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت
: (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ١٠] فلما
نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر والفواحش وكنا
إذا رأينا من أصاب شيئا منها (قلنا : قد هلك فأنزل الله هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا
إذا رأينا أحدا أصاب) منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له ، وأراد
بالإسراف ارتكاب الكبائر. (وروي) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصّ (يقصّ) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكّر لم
تقنّط النا؟ ثمّ قرأ : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ). وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله (إن الله
يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي) ، وروى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله: إذا مات فحرّقوه ثم ذرّوا نصفه في البرّ ونصفه في البحر
__________________
فو الله لئن قدر
الله عليه ليعذبنّه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر
الله البحر فجمع ما فيه وأمر البرّ فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا قال :
من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له. وعن ضمضم بن حوش (ب) قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال : يا يمانيّ
تعال وما أعرفه فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة
قلت : ومن أنت يرحمك الله؟ قال : أبو هريرة قال : فقلت إن هذه الكلمة يقولها أحدنا
لبعض أهله إذا غضب أو زوجه أو لخادمه قال : فإني سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : إنّ رجلين كانا في بني إسرائيل متحابّين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر كأنه يقول : مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال: فيقول خلّني
وربي قال : حتى وجده يوما على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال : خلني وربي أبعثت علي
رقيبا فقال : والله لا يغفر لك الله أبدا ولا يدخلك الجنة أبدا قال : فبعث الله
إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر
: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال : لا يا رب فقال : اذهبوا به إلى النار ،
قال أبو هريرة : والّذي نفسي بيده ل (قد) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته . قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
قوله : (يا عِبادِيَ) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء ،
والباقون وعاصم ـ في بعض الروايات ـ بغير فتح ، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء ؛
لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء .
قوله : (لا تَقْنَطُوا) قرأ أبو عمرو والكسائيّ بكسر النون ، والباقون بفتحها ،
وهما لغتان ، قال الزمخشري : وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود «يغفر
الذنوب جميعا لمن يشاء» .
قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) قال الزمخشري أي توبوا إليه (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي وأخلصوا
__________________
له العمل من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن ، والقرآن كله حسن ، ومعنى الآية ما قال الحسن
: الزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن (في) القرآن ذكر القبيح ليجتنبه وذكر الأدون لئلا نرغب فيه ، وذكر الأحسن لنؤثره ، وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ ، لقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).
ثم قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وهذا تهديد وتخويف . والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه.
واعلم أنه تعالى
لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى
عليهم بثلاثة أنواع من الكلام :
فالأول : (قوله : (أَنْ تَقُولَ)) مفعول من أجله فقدره الزمخشري : كراهة أن تقول ، (وابن عطيه : أنيبوا من أجل أن تقول ، وأبو البقاء والحوفيّ أنذرناكم مخافة أن تقول) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود «أنيبوا». وإنما نكّر نفسا لأنه أراد التكثير كقول
الأعشى :
٤٣٠٤ ـ وربّ بقيع لو هتفت بجوّه
|
|
أتاني كريم ينغض
الرّأس مغضبا
|
يريد أتاني (كرام كثيرون لا كريم فذّ لمنافاته المعنى المقصود ، ويجوز أن
يريد نفسا متميزة عن الأنفس) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم.
قوله : (يا حَسْرَتى) العامة على الألف بدلا من ياء الإضافة ، وعن ابن كثير : يا
__________________
حسرتاه بهاء السكت وقفا وأبو جعفر يا حسرتي على الأصل ، وعنه أيضا : يا حسرتاي بالألف والياء . وفيها وجهان :
أحدهما : الجمع
بين العوض والمعوّض منه .
والثاني : أنه
تثنية «حسرة» مضافة لياء المتكلم ، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال : يا
حسرتيّ ـ بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة ـ وأجيب : بأنه يجوز أن يكون راعى لغة
الحرث بن كعب وغيرهم نحو : رأيت الزّيدان ، وقيل : الألف بدل من الياء والياء (بعدها) مزيدة.
وقيل : الألف
مزيدة بين المتضايفين وكلاهما ضعيف.
قوله : (عَلى ما فَرَّطْتُ) ما مصدرية أي على تفريطي ، وثمّ مضاف أي في جنب طاعة الله ، وقيل : في جنب الله المراد به الأمر والجهة يقال : هو في
جنب فلان وجانبه أي جهته وناحيته ، قال:
٤٣٠٥ ـ النّاس جنب والأمير جنب
وقال آخر :
٤٣٠٦ ـ أفي جنب بكر قطّعتني ملامة
|
|
سليمى لقد كانت
ملامتها ثنى
|
__________________
ثم اتسع فيه فقيل
: فرّط في جنبه أي في حقّه ، قال :
٤٣٠٧ ـ أما تتّقين الله في جنب عاشق
|
|
له كبد حرّى
عليك تقطّع
|
فصل
المعنى : أن تقول
نفس يا حسرتى يعني لأن تقول نفس كقوله : (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] و [لقمان
: ١٠] أي لئلّا تميد بكم ، قال المبرد : أي بادروا واحذروا أن تقول نفس ، قال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا
ندامتنا ، والتحسر الاغتمام على ما فات ، وأراد : يا حسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء
الكناية ألفا في الاستغاثة فتقول : يا ويلتا ، ويا ندامتا ، وربما ألحقوا بها
الياء بعد الألف ليدل على الإضافة كقراءة أبي جعفر المتقدمة ، وقيل : معنى قوله : (يا حَسْرَتى) أي يا أيّتها الحسرة هذا وقتك . (عَلى ما فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللهِ). قال الحسن : قصّرت في طاعة الله ، وقال مجاهد : في أمر
الله ، وقال سعيد بن جبير في حق الله ، وقيل : قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا
الله ، والعرب تسمي الجنب جانبا.
ثم قال : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) المستهزئين بدين الله ، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل السخر بأهل طاعته ، ومحل (وَإِنْ كُنْتُ) النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال
سخرتي.
النوع الثاني من
الكلمات التي حكاها الله تعالى (عنهم) بعد نزول العذاب عليهم قوله : (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي
لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
النوع الثالث : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) عيانا (لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) الموحدين.
فتحسروا أولا :
على التفريط في طاعة الله ، وثانيا : عللوا بفقد الهداية ، وثالثا : تمنوا
الرّجعة.
__________________
قوله : «فأكون» في
نصبه وجهان :
أحدهما : عطفه على
«كرّة» فإنها مصدر ، فعطف مصدرا مؤولا على مصدر مصرّح به كقولها :
٤٣٠٨ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني
|
|
أحبّ إليّ من
لبس الشّفوف
|
وقول الآخر :
٤٣٠٩ ـ فما لك منها غير ذكرى وحسرة
|
|
وتسأل عن
ركبانها أين يمموا
|
والثاني : أنه
منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله : (لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً) والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون متمنّى ويجوز
أن تضمر «أن» وأن تظهر والثاني يكون فيه الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمنّى
ويجب أن تضمر «أن» .
قوله : «بلى» حرف
جواب وفيما وقعت جوابا له وجهان :
أحدهما : هو نفي
مقدر ، قال ابن عطية : وحق «بلى» أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، كأن النفس قالت :
لم يتسع لي النظر أو لم يبين لي الأمر ، قال أبو حيان : ليس حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه
ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى ، وكذا وقع في عبارة سيبويه نفسه.
__________________
والثاني : أن
التمني المذكور وجوابه متضمّنان لنفي الهداية كأنه قال : لم أهتد فرد الله عليه
ذلك.
قال الزجاج : «بلى»
جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأن قوله : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر «بلى» بعده .
قال الزمخشري :
فإن قلت : هلا قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله : لو أن الله
هداني ولم يفصل بينهما قلت : لأنه لا يخلو إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث
فيفرق بينهن ، وإما أن يؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير النظم بالجمع بين القراءتين ، وأما الثاني فلما فيه من نقض
الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنّي الرجعة
فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من
بينها عما اقتضى الجواب .
قوله : «جاءتك»
قرأ العامة بفتح الكاف (فَكَذَّبْتَ بِها
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ) بفتح التاء خطابا للكافرين دون النفس. وقرأ الجحدريّ وأبو
حيوة وابن يعمر والشافعيّ عن ابن كثير وروتها أم سلمة عنه ـ عليه (الصلاة و)
السلام ـ وبها قرأ أبو بكر وابنته عائشة ـ رضي الله عنهما ـ بكسر الكاف والتاء ؛ خطابا للنفس والحسن والأعرج والأعمش «جأتك» بوزن «جعتك» بهمزة دون ألف ؛ فيحتمل أن يكون قصرا كقراءة
قنبل (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٧] وأن
يكون في الكلمة قلب بأن قدّمت اللام على العين فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف
لالتقائهما نحو : رمت وغزت ، ومعنى الآية يقال لهذا القائل : بلى قد جاءتك آياتي يعني
القرآن «فكذبت» وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من
الكافرين.
__________________
قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) العامة على رفع (وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ) وهي جملة من مبتدأ وخبر ، وفي محلها وجهان :
أحدهما : النصب
على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية ، وكذا أعربها الزمخشري ومن مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا
شاذا تابعا في ذلك الفراء ، فهذا رجوع منه عن ذلك.
والثاني : أنها في
محل نصب مفعولا ثانيا ، لأن الرؤية قلبية وهو بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية
بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما ، وقرىء : (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بنصبهما على أن «وجوههم» بدل بعض من «كل» ، و «مسودة» على
ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني.
وقال أبو البقاء :
ولو قرىء وجوههم بالنصب لكان على بدل الاشتمال ، قال شهاب الدين: قد قرىء به والحمد لله ولكن ليس كما قال
: على بدل الاشتمال بل على بدل البعض ، وكأنه سبق لسان أو طغيان قلم . وقرأ أبيّ أجوههم بقلب الواو همزة وهو فصيح نحو : (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] وبابه ، وقوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان.
قوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
بِمَفازَتِهِمْ) قرأ الأخوان وأبو بكر بمفازتهم جمعا لمّا اختلفت أنواع المصدر جمع كقوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠] ،
ولأن لكل متق نوعا آخر من المفازة ، والباقون بالإفراد على الأصل.
__________________
وقيل : ثم مضاف
محذوف أي بدواعي مفازتهم أو بأسبابها. والمفازة المنجاة ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك
، إذ المراد بالمفازة الفلاح . قال البغوي : لأن المفازة بمعنى الفوز أي ينجّيهم بفوزهم
من النار بأعمالهم الحسنة . وقال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز والجمع حسن
كالسّعادة والسّعادات .
قوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما
مفازتهم؟ فقيل : (لا يَمَسُّهُمُ
السُّوءُ) فلا محل لها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من (الَّذِينَ اتَّقَوْا).
ومعنى الكلام لا
يصيبهم مكروه ولا هم يحزنون.
قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
(٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا
الْجاهِلُونَ
(٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٦٦)
قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) الآية تقدم الكلام على هذه الآية في الأنعام وأنها تدل على
أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ، وقال الكعبي هنا : إن الله تعالى مدح نفسه
بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح احتجاج
المخالف به ، وأيضا فلفظة «كل» قد لا توجب العموم لقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها
عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] يريد كل شيء يحتاج الملك إليه وأيضا لو كانت
أعمال العباد من خلق الله لما أضافها إليهم بقوله : (كُفَّاراً حَسَداً
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩]
ولما صح قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ٧٨].
وقال الجبائي الله خالق كل شيء سوى أفعال خلقه التي صح فيها الأمر والنهي ،
واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقا لله لما جاز ذلك فيها كما لا
يجوز في ألوانهم وصورهم ، وقال أبو مسلم : الخلق هو التقدير لا الإيجاد ، فإذا
أخبر الله أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فصح أن يقال : إنه تعالى
خلقه وإن لم يكن موجدا له ، والجواب عن هذه الوجوه تقدم في سورة الأنعام ، وأما
قوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها
من غير مشارك ، وهذا أيضا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل
__________________
العبد لو وقع بخلق
العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى فلم يكن الله وكيلا عليه وذلك
ينافي عموم الآية .
قوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «له مقاليد» جملة
مستأنفة ، والمقاليد جمع مقلاد أو مقليد ، ولا واحد له من لفظه
كأساطير وإخوته ، ويقال أيضا إقليد وأقاليد وهي المفاتيح ، والكلمة فارسية معربة . وفي هذا الكلام استعارة بديعة نحو قولك : بيد فلان مفتاح
هذا الأمر ، وليس ثم مفتاح ، وإنما هو عبارة عن شدة تمكنه من ذلك
الشيء. قال الزمخشري : قيل سأل عثمان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن تفسير قوله : (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله
إلا الله ، والله أكبر وسبحان الله وبحمده (و) أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو الأول والآخر
والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .
وقال قتادة ومقاتل
: مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة ، وقال الكلبي خزائن المطر والنبات.
قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهذا يقتضي أنه لا خاسر إلا الكافر وأن من لم يكن كافرا
فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله. قال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بقوله (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ قلت : إنه اتصل بقوله : (وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم ، والذين كفروا هم الخاسرون
واعترض ما بينهما أنه خالق الأشياء كلها وأنه له مقاليد
السموات والأرض.
قال ابن الخطيب :
وهذا عندي ضعيف من وجهين :
الأول : أن وقوع
الفصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد.
الثاني : أن قوله
: (وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا) (جملة فعلية) ، وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
__________________
بِآياتِ
اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا
يجوز.
قال شهاب الدين :
وهذا الاعتراض معترض إذ لا مانع من ذلك .
ثم قال ابن الخطيب
: بل الأقرب عندي أن يقال : إنه لما وصف الله تعالى بصفات الإلهية والجلالة وهو كونه خالقا للأشياء كلها وكونه مالكا لمقاليد
السموات والأرض بأسرها قال بعده : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ) الظاهرة الباهرة هم الخاسرون.
قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ) فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن «غير» منصوب «بأعبد»
و «أعبد» معمول «لتأمروني»
على إضمار «أن» المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها وهو أحد الوجهين والأصل أفتأمروني
بأن أعبد غير الله ثم قدم مفعول «أعبد» على «تأمروني» العامل في عامله ، وقد ضعف
بعضهم هذا بأنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول ، وذلك أن «غير» منصوب «بأعبد»
و «أعبد» صلة «لأن» وهذا لا يجوز .
وهذا الرد ليس
بشيء لأن الموصول لما حذف لم يراع حكمه فيما ذكر بل إنما يراعى معناه لتصحيح الكلام
.
قال أبو البقاء :
لو حكمنا بذلك لأفضى إلى حذف الموصول وإبقاء صلته وذلك لا يجوز إلّا في
ضرورة شعر .
وهذا الذي ذكر فيه
نظر من حيث إنّ هذا مختصّ «بأن» دون سائر الموصولات وهو أنها تحذف ويبقى صلتها وهو
منقاس عند البصريين في مواضع تحذف ويبقى عملها وفي غيرها إذا حذفت لا يبقى عملها إلا في
ضرورة أو قليل ، وينشد بالوجهين (قوله) :
٤٣١٠ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر
الوغى
|
|
وأن أشهد
اللذّات هل أنت مخلدي
|
__________________
ويدل على إرادة «أن»
في الأصل قراءة بعضهم : «أعبد» بنصب الفعل اعتدادا بأن.
الثاني : أن «غير»
منصوب «بتأمرونّي» و «أعبد» بدل منه بدل اشتمال ، و «أن» مضمرة معه أيضا.
والتقدير : أفغير
الله تأمرونّي في عبادته ، والمعنى : أفتأمروني بعبادة غير الله .
الثالث : أنها
منصوبة بفعل مقدر (تقديره) أفتلزموني غير الله أي عبادة غير الله ، وقدره الزمخشري تعبدون (ي) وتقولون لي أعبده ، والأصل : تأمرونني أن أعبد (فحذفت) أن ، ورفع الفعل ،
ألا ترى أنك تقول : أفغير الله تقولون لي أعبده ، وأ فغير الله تقولون لي أعبد ،
فكذلك ، أفغير الله تقولون لي أن أعبده ، وأ فغير الله تأمرونّي أن أعبد .
والدليل على صحة
هذا الوجه قراءة من قرأ «أعبد» بالنصب ، وأما «أعبد» ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها : أنه مع «أن»
المضمرة في محل نصب على البدل من «غير» ، وقد تقدم.
الثاني : أنه في
محل نصب على الحال.
الثالث : أنه لا
محل له ألبتة .
قوله : «تأمرونّي»
قرأ الجمهور «تأمرونّي» بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وفتح الياء ابن كثير ،
وأرسلها الباقون ، وقرأ نافع «تأمروني» بنون خفيفة وفتح الياء وابن
عامر تأمرونني بالفك وسكون الياء ، وقد تقدم في سورة الأنعام ، والحجر ،
__________________
وغيرهما أنه متى
اجتمع نون الرفع مع نون الوقاية جاز ذلك أوجه وتقدم تحقيق الخلاف في أيتهما
المحذوفة.
قال مقاتل : وذلك
حين قال له المشركون : دع دينك واتبع دين آبائك ونؤمن بإلهك ، ونظير هذه الآية : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤] ،
وتقدم في تلك الآية وجه الحكمة في تقدم المفعول ووصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله
بكونه خالقا للأشياء كلها وبكونه له مقاليد السموات والأرض وكون هذه الأصنام
جمادات لا تضرّ ولا تنفع فمن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات المقدسة
الشريفة واشتغل بعبادة هذه الأصنام الخسيسة فقد بلغ في الجهل مبلغا لا مزيد عليه ،
فلهذا قال : (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ).
قوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الذي عملت قبل الشرك ، واعلم أن الظاهر (أن) قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) هذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل لأنها هي الموحاة وأصول
البصريين تأبى ذلك ، ويقدرون أن القائم مقامه ضمير المصدر لأن الجملة لا تكون
فاعلا عندهم والقائم هنا مقام الفاعل الجار والمجرور وهو «إليك». وقرىء ليحبطنّ ـ بضم
الياء وكسر الباء ـ أي الله ولنحبطنّ بنون العظمة (وليحبطنّ) على البناء للمفعول و «عملك» مفعول به
على القراءتين الأوليين ومرفوع على الثالثة لقيامه مقام الفاعل.
قال ابن الخطيب :
واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب.
فإن قيل : كيف
أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟.
فالجواب : تقرير
الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي أوحي (إليك) وإلى كل أحد منهم لئن أشركت كما تقول : كسانا حلّة : أي كل
واحد منا .
فإن قيل : كيف صحّ
هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟.
__________________
فالجواب : أن قوله
: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم (من) صدقها صدق جزئيها ألا ترى أن قولك : لو كانت الخمسة زوجا
لكانت منقسمة بمتساويين قضية صادقة مع أن كل واحد من جزئيها غير صادق.
قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا ، قال المفسرون : هذا خطاب مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والمراد منه غيره ، وقيل : هذا أدب من الله لنبيه وتهديد
لغيره ، لأن الله تعالى ـ عزوجل ـ عصمه من الشرك ، وقوله : (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) قال ابن الخطيب : كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من
طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله
تعالى : (إِذاً لَأَذَقْناكَ
ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٥]
فكان المعنى أن الشرك الحاصل منه بتقدير حصوله منه يكون تأثيره في غضب الله تعالى
أقوى وأعظم .
قوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) الجلالة منصوبة ب «اعبد». وتقدم الكلام في مثل هذه الفاء
في البقرة ، وجعله الزمخشري جواب شرط مقدر أي إن كنت عاقلا فاعبد الله ، فحذف الشرط ، وجعل تقديم المفعول عوضا
منه ، وردّ أبو حيان عليه بأنه يجوز أن يجيء «زيدا فعمرا اضرب» ، فلو كان التقديم
عوضا لجمع بين العوض والمعوّض عنه. وقرأ عيسى بل الله ـ رفعا ـ على الابتداء ، والعائد
محذوف أي فاعبده .
فصل
لما قال الله
تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) يفيد أنهم أمروه بعبادة غير الله فقال الله تعالى له لا
تعبد إلا الله ، فإن قوله (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) يفيد الحصر (وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بالهداية.
قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
__________________
بِالْحَقِّ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ
لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
وَسِيقَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣)
وَقالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ
مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)
قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قدّروا بتشديد الدال حقّ قدره
بفتح الدال ، وافقهم الأعمش على فتح الدال من «قدره» والمعنى
وما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره.
قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه
موصوف بهذه القدرة الباهرة ، كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] أي (كيف)
تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا. و «جميعا» حال وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا
يحسن إدخاله إلا على الجمع . قال ابن الخطيب : ونظيره قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي
إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٩٣]
وقوله : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) [النور : ٣١]
وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢] ولأن الموضع موضع تفخيم ولعطف الجمع عليها. (والعامل) في هذه الحال ما دل عليه «قبضته» ، (ولا يجوز أن يعمل فيها «قبضته») سواء جعلته مصدرا ؛ لأن المصدر لا
يتقدم عليه معموله أم مرادا به
__________________
المقدار . قال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع «يعني في الأرض» فإنه
أريد به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول
الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها .
وقال أبو البقاء :
و «جميعا» حال من الأرض ، والتقدير : إذا كانت مجتمعة قبضته أي
مقبوضة ، فالعامل في «إذا» المصدر ، لأنه بمعنى المفعول ، وقال أبو علي في الحجة : التقدير : «ذات قبضته». وقد رد عليه ذلك بأن
المضاف إليه لا يعمل فيما قبله ، وهذا لا يصحّ لأنه الآن غير مضاف إليه ، وبعد حذف
المضاف لا يبقى حكمه انتهى. وهو كلام فيه إشكال ؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل
في «إذا» التي لم يلفظ بها .
وقوله : «قبضته»
إن قدّرنا مضافا ـ كما قال الفارسيّ أي ذات قبضته ـ لم يكن فيه وقوع المصدر موقع «مفعول»
وإن لم يقدّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعا موقعه ، وحينئذ يقال : كيف أنّث
المصدر الواقع موقع مفعول وهو غير جائز؟! لا يقال : حلّة نسجة اليمن بل نسج اليمن أي
منسوجه.
والجواب : أن
الممتنع دخول التاء الدال على التحديد ، وهذه لمجرد التأنيث. كذا أجيب. وليس بذاك فإن المعنى على
التحديد لأنه أبلغ في القدرة ، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار (ذلك) (التحديد) .
والقبضة ـ بالفتح
ـ المرّة ، وبالضم اسم المقبوض كالغرفة والغرفة ، قال تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ) [طه : ٩٦].
والعامة على رفع «قبضته».
والحسن ينصبها ، وخرّجها ابن خالويه
__________________
وجماعة على النصب على الظرفية أي «(في) قبضته». ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود «في». وهذا
هو رأي البصريين ، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون : زيد دارك ـ بالنصب ـ أي
في دارك ، وقال الزمخشري : جعلها ظرفا تشبيها للمؤقت بالمبهم ، فوافق الكوفيّين.
قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) العامة على رفع «مطويّات» خبرا ، و «بيمينه» فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق
«بمطويات».
الثاني : أنه حال
من الضمير في : «مطويّات».
الثالث : أنه خبر
ثان ، وعيسى والجحدري نصباها حالا . واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل
فيها حرف جر نحو : زيد قائم في الدار . وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين :
أظهرهما : أن يكون
«السموات» نسقا على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته
ويكون «مطويات» حالا من السموات ، كما كان جميعا حالا من الأرض و «بيمينه» متعلق «بمطويّات»
.
والثاني : أن يكون
«مطويات» منصوبا بفعل مقدر و «بيمينه» الخبر ، و «مطويّات» وعامله جملة معترضة وهو ضعيف.
فصل
لما حكى عن
المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد
قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق
__________________
معرفته لما جعلوا
هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموا الله حقّ عظمته فقال : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، وروى البخاري أن حبرا من الأحبار أتى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع
والأرضين على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ، ويقول : أنا
الملك فضحك النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وروى مسلم قال : والجبال والشجر على إصبع وقال : ثم
يهزّهنّ فيقول : أنا الملك أنا الله . وروى شيبة عن ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر قال : قال
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يطوي الله السّموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده
اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبّارون أين المتكبّرون» . ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)).
فصل
قال ابن الخطيب :
وههنا سؤالات :
الأول : أن العرش
أعظم من السموات السبع ، والأرضين السبع ، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فكيف يجوز
تقرير عظمة الله عزوجل بكونه حاملا للسموات والأرض؟!.
السؤال الثاني :
قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) شرح حالا لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن
كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام
شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في
النبوة فهم ينكرون قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟ السؤال
الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام
العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن
فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟.
والجواب عن الأول
: أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادرا على حفظ هذه الأجسام
العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم ، ثم بعده تقرير عظمته بكونه
قادرا على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
__________________
والجواب عن الثاني
: أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأرضين من وجوه العمارة في هذا
الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على
الإيجاد والإعدام ويدل أيضا على كونه قادرا غنيا على الإطلاق فإنه يدل على أنه إذا
حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
والجواب عن الثالث
: أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في
الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم .
قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) العامة على سكون الواو ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمع
«صورة» . وهذه ترد قول ابن عطية أن الصور هنا يتعين أن يكون القرن
، ولا يجوز أن يكون جمع صورة . وقرىء : فصعق ـ مبنيا للمفعول ـ وهو مأخوذ من قولهم : صعقتهم الصّاعقة ، يقال : صعقة الله
فصعق .
قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (استثناء) متصل ، والمستثنى إما جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وإما
رضوان والحور والزبانية ، وإما البارىء تعالى ، قاله الحسن ، وفيه نظر من حيث قوله (مَنْ فِي السَّماواتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فإنه لا يتحيز فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعا .
قوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) يجوز أن يكون «أخرى» هي القائمة مقام الفاعل وهي في الأصل
صفة لمصدر محذوف أي نفخ فيه نفخة أخرى ويؤيده التصريح بذلك في قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ
واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] فصرح
بإقامة المصدر ويجوز أن يكون القائم مقامه الجارّ ، و «أخرى» منصوبة على ما تقدم.
__________________
قوله : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) العامة على رفع «قيام» خبرا ، وزيد بن عليّ نصبه حالا ، وفيه حينئذ أوجه :
أحدها : أن الخبر «ينظرون»
وهو العامل في هذه الحال أي فإذا هم ينظرون قياما.
والثاني : أن
العامل في الحال ما عمل في «إذا» الفجائية إذا كانت ظرفا. فإن كانت مكانية ـ كما
قال سيبويه ـ فالتقدير فبالحضرة هم قياما ، وإن كان زمانية كقول
الرّمّاني فتقديره : ففي ذلك الزمان هم قياما أي وجودهم ، وإنما
احتيج إلى تقدير مضاف في هذا الوجه لأنه لا يخبر بالزمان عن الجثث.
الثالث : أن الخبر
محذوف هو العامل في الحال أي فإذا هم مبعوثون أو مجموعون قياما ، وإذا جعلنا
الفجائية حرفا كقول بعضهم فالعامل في الحال إما «ينظرون» ، وإمّا الخبر المقدر كما
تقدم تحقيقهما.
فصل
لما ذكر كمال
قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضا على كمال عظمته وهو شرح
مقدمات يوم القيامة ، لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم ، فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) الآية.
اختلفوا في الصعقة
فقيل : إنها غير الموت لقوله تعالى في موسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣]
وهو لم يمت فهذه النفخة تورث الفزع الشديد وعلى هذا فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ
الفزع واحد وهو المذكور في سورة النمل في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
__________________
شاءَ
اللهُ) [النمل : ٧٨] وعلى
هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين. وقيل : الصعقة عبارة عن الموت ، والقائلون
بهذا قالوا : المراد بالفزع أي كادوا يموتون من الفزع وشدة الصوت ، وعلى هذا
التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النّمل ،
والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة ، وقوله
: (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) قال ابن عباس : نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في
الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ويبقى جبريل وملك الموت ، ثم يموت عزرائيل
جبريل ثم يموت ملك الموت ، وقيل : المستثنى هم الشهداء لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
،) وروى أبو هريرة عن ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «هم الشّهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش» ، وقال جابر : هو موسى ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنه صعق ، ولا يصعق.
وقيل : هم الحور
العين وسكان العرش والكرسي ، وقال قتادة : الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار
ما يدل على أنهم من هم.
ثم قال : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ
قِيامٌ يَنْظُرُونَ) وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن
لفظة «ثم» للتراخي . وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «ما بين النّفختين أربعون» ، قالوا : أربعون يوما قال :
أبيت قالوا : أربعون شهرا قال : أبيت قالوا أربعون سنة ، قال : أبيت قال : ثم ينزل
الله من السماء ماء فتنبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلّا عظم
واحد وهو عجب الذّنب ، وفيه يركب الخلق يوم القيامة .
وقوله : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) يعني أن قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في
الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله : (فَإِذا هُمْ) يدلّ على التعقيب ، وقوله «ينظرون» أي يقلبون أبصارهم في
الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم ، وقيل : ينظرون ماذا يفعل بهم ، ويجوز أن
يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم .
قوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) العامة على بنائه للفاعل ، وابن عباس وأبو الجوزاء
__________________
وعبيد بن عمير ، على بنائه للمفعول . وهو منقول بالهمزة من شرقت إذا طلعت ، وليس من أشرقت
بمعنى أضاءت لأن ذلك لازم ، وجعله ابن عطيّة مثل رجع ورجعته ، ووقف ووقفته فيكون
أشرق لازما ومتعديا .
فصل
هذه الأرض عرصة
القيامة وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨]
وقوله : (بِنُورِ رَبِّها) أي خالقها يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه ، وقال الحسن
والسدي : بنور ربها أي بعدل ربها قال عليه (الصلاة و) السلام : «إنكم سترون ربكم»
وقال : «كما لا تضارّون في الشّمس في اليوم الصّحو» ، وقوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتاب الأعمال لقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣] وقوله : (ما لِهذَا الْكِتابِ
لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وقيل
: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
وقوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) قال ابن عباس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ،
وهم أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقال عطاء ومقاتل : يعني الحفظة لقوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ
وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] ، وقيل :
أراد بالشهداء : المستشهدون في سبيل الله.
ثم قال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي بالعدل (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي يزادون في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أن ثواب ما عملت. واعلم أنه تعالى لما بين أنه يوصل إلى كل
أحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات :
أولها : قوله
تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِ)
وثانيها : قوله
تعالى : (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ).
وثالثها : قوله
تعالى : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ).
ورابعها : قوله
تعالى : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ) يعني أنه (إن) لم يكن عالما بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي (إلا) بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالما
__________________
بمقادير أفعالهم
وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ عليه ، والمقصود من الآية المبالغة في تقرير أن كل
مؤمن فإنه يصل إلى حقه ، قال عطاء يريد أنّي عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا
شاهد .
قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى
جَهَنَّمَ زُمَراً) لما شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال وقال : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) بين بعده كيفية أحوال العقاب ثم كيفية أحوال الثواب ، فأما
شرح أحوال العقاب فهو هذه الآية وهذا السّوق يكون بالعنق والدفع بدليل قوله تعالى
: (يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] أي
يدفعون دفعا ، وقوله : (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦].
قوله : «زمرا» حال
، و «زمر» جمع «زمرة» وهي الجماعات في تفرقة بعضها في إثر بعض ، و «تزمّروا»
تجمعوا قال :
٤٣١١ ـ حتّى احزألّت زمر بعد زمر
هذا قول أبي عبيد (ة)
، والأخفش ، وقال الراغب : الزّمرة الجماعة القليلة ، ومنه شاة زمرة
أي قليلة الشعر ، ورجل زمر أي قليل المروءة ، وزمرت النّعامة تزمر زمارا ومنه اشتق
الزّمر. والزّمّارة كناية عن الفاجرة .
قوله : (حَتَّى إِذا) تقدم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا» مرارا ، وجواب «إذا»
__________________
قوله : فتحت.
وتقدم خلاف القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام .
قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ
يَأْتِكُمْ) قرأ ابن هرمز ألم تأتكم بتاء التأنيث لتأنيث الجمع ، و «منكم» صفة «لرسل» أو متعلق بالإتيان و «يتلون» صفة
أخرى ، و «خالدين» في الموضعين حال مقدرة.
فصل
بين تعالى أنهم
يساقون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابها ، وهذا يدل على أن أبواب جهنم تكون
مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنة
جهنم : ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء
يومكم هذا.
فإن قيل : لم أضيف
اليوم إليهم؟.
فالجواب : أراد
لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم (إليهم) والأيام في أوقات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار «بلى»
أتونا وتلوا علينا (وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين وهي قوله عزوجل : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣].
وهذا صريح في أن السعيد (لا ينقلب) شقيا والشقي لا ينقلب سعيدا ، ودلت الآية على أنه لا وجوب
قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنهم ما بقي لهم عذر ولا علة بعد
مجيء الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ ، (ولو) لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب لما بقي في
هذا الكلام فائدة.
ثم إنّ الملائكة
إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا لهم : ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين.
(قالت المعتزلة : لو كان دخولهم النار لأجل أنهم حقت عليهم كلمة العذاب لم
__________________
يبق لقول الملائكة
: (فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) فائدة) ، وأجيبوا بأن (هذا) الكلام إنما يبقى مفيدا إذا قلنا : إنهم إنما دخلوا النار
لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم ،
وذلك يدل على صحة قولنا. والله أعلم.
قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً).
فإن قيل : السّوق
في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا
إليه ، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأيّ حاجة
فيه إلى السّوق؟!.
فالجواب : من وجوه
:
الأول : أن المحبة
والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].
فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبّائي وأصدقائي
فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السّوق إلى الجنة.
والثاني : أن
المتقين قد عبدوا الله لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف
الجلال مانعا لهم من الرغبة في الجنة فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة.
والثالث : أن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «أكثر أهل الجنة البله» فلهذا السبب يساقون إلى
الجنة.
الرابع : أن أهل
النار وأهل الجنة يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان
والشدّة كما يفعل بالأسير الذي يساق إلى الحبس والقتل ، والمراد بسوق أهل الجنة
سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار
الكرامة والرّضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين إلى الملوك فشتان ما بين
السّوقين .
قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ) في جواب «إذا» ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله : (وَفُتِحَتْ) والواو زائدة . وهو رأي الكوفيين والأخفش .
__________________
وإنّما جيء هنا
بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجن تكون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة
فيفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها
تفتح انتظارا لمن يدخلها فعلى ذلك أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول
أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدما على دخولهم إليها كما قال تعالى :
(جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠] فلذلك
جيء بالواو فكأنه قيل : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها .
والثاني : أن
الجواب قوله : (وَقالَ لَهُمْ
خَزَنَتُها) على زيادة الواو أيضا أي حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها .
والثالث : أن
الجواب محذوف قال الزمخشري : وحقه أن يقدر بعد : «خالدين» انتهى يعني لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط وما عطف عليه ، والتقدير
: اطمأنّوا ، وقدره المبرد : سعدوا ، وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله : (وَفُتِحَتْ) في محل نصب على الحال . وقال البغوي : قال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف
تقديره : حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم
فادخلوها خالدين «دخلوها». فحذف «دخلوها» لدلالة الكلام عليه ، وسمى بعضهم الواو في قوله (وَفُتِحَتْ) واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في
قوله : (وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢]. وقيل
: تقديره : حتى إذا جاءوها (جاءوها) وفتحت أبوابها يعني أن الجواب بلفظ الشرط ، ولكنه بزيادة تقييده بالحال
فلذلك صحّ .
__________________
قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ويقولون : طبتم قال ابن
عباس : طاب لكم المقام. وقال قتادة : إنهم إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين
الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعد حتى إذا هذبوا وطيبوا أدخلوا الجنة فيقول لهم
رضوان وأصحابه : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين .
وروي عن علي قال :
سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان
فيغتسل المؤمن من إحديهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم
الملائكة على أبواب الجنة يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) فعند ذلك يقول المتقون : الحمد لله الذي صدقنا وعده
وأورثنا الأرض أي أرض الجنة وهو قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥].
قوله : «نتبوّأ»
جملة حالية و «حيث» مفعول به ، ويجوز أن تكون ظرفا على بابها ، وهو الظاهر ، قال ابن الخطيب : إنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجوه :
الأول : أن الجنة
كانت في أول الأمر لآدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ لأنه تعالى قال : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) [البقرة : ٣٥]
فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سببا للإرث.
الثاني : أن هذا
اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا الذي أورث كذا وهذا العمل أورث كذا. فلما كانت طاعاتهم قد
أفادتهم الجنة لا جرم قالوا : وأورثنا الأرض ، والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة
بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنّة.
الثالث : أن
الوارث يتصرف فيما يرثه كيف يشاء من غير منازع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في
الجنة حين شاءوا وأرادوا.
فإن قيل : هل
يتبوأ أحدهم مكان غيره؟.
فالجواب : يكون
لكل واحد منهم جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره.
ثم قال تعالى : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ثواب المطيعين ، قال مقاتل : هذا ليس من كلام أهل الجنة
بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة
قال بعده : (فَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ).
قوله : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ) حافّين جمع حافّ : وهو المحدق
__________________
بالشيء من حففت
بالشيء إذا أحطت به ، قال :
٤٣١٢ ـ يحفّه جانبا نيق ويتبعه
|
|
مثل الزّجاجة لم
تكحل من الرّمد
|
وهو مأخوذ من
الحفاف وهو الجانب قال :
٤٣١٣ ـ له لحظات عن حفافي سريره
|
|
إذا كرّها فيها
عقاب ونائل
|
وقال الفراء ـ وتبعه
الزمخشري ـ لا واحد لحافّين وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون «حافّا» إذ الحفوف هو الإحداق
بالشيء والإحاطة به وهذا لا يتحقق إلا في جمع
فصل
لما ذكر صفة (الثواب)
ثواب البشر ذكر عقيبه ثواب الملائكة فكما دار ثواب المتقين هو الجنة فكذلك دار
ثواب الملائكة جوانب العرش فقال : (حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين محيطين بالعرش بحفافيه أي جوانبه ، قال الليث
حفّ القوم بسيّدهم يحفّون حفّا إذا طافوا به .
قوله : (مِنْ حَوْلِ) في «من» وجهان :
أحدهما ، وهو قول
الأخفش : أنها مزيدة .
والثاني : أنها
للابتداء .
__________________
وقوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) «يسبحون» حال من
الضمير في «حافين» ، قيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد ، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم. وهذا يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح .
قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) هذا الضمير إما للملائكة ، وإما للعباد (ة) ، وقيل : قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل. (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ). وقيل : إن الملائكة لما قضي بينهم (بالحق) قالوا : الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق.
روى أبو أمامة عن
أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم) : «من قرأ سورة الزّمر لم يقطع الله رجاءه وأعطاه ثواب
الخائفين» . وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقرأ كلّ ليلة بني إسرائيل والزّمر . رواهما الثعلبي في تفسيره. والله (تعالى) أعلم.
(تم الجزء الثاني عشر بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. ويتلوه إن شاء الله أول
سورة غافر).
تمّ الجزء السّادس عشر ، ويليه الجزء السّابع عشر
وأوّله : تفسير سورة غافر
__________________
فهرس محتويات
الجزء السادس عشر
من
اللباب
فهرس المحتويات
سورة سبأ
الآيات
: ١ ـ ٦.................................................................. ٣
فصل في معنى الآية
: (له ما في السماوات
وما في الأرض وله الحمد في الآخرة ..).. ٤
فصل في أنّ قوله : (قل بلى وربي لتأتينكم) رد على منكري الساعة.................. ٦
فصل في معنى قوله : (ولا أصغر من ذلك)........................................ ٩
فصل في أنه تعالى ذكر
منهم أمرين الإيمان والعمل الصالح وذكر لهم أمرين المغفرة والرزق الكريم ١٠
فصل في معنى قوله : (أولئك لهم مغفرة ورزق كريم).............................. ١٠
فصل : اللام في «ليجزي»
للتعليل ومعناه الآخرة للجزاء............................. ١٠
فصل في معنى الآية (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك
من ربك هو الحق ...) ١٣
الآيات : ٧ ـ ٩................................................................ ١٤
فصل في تفسير الآية : (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل
ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق ...) ١٤
فصل في معنى هذه الآية......................................................... ١٦
فصل في معنى قوله : (أفترى على الله كذبا ...).................................. ١٨
فصل في أنه لما ذكر
الدليل بكون عالم الغيب وكونه جازيا على السيئات والحسنات ذكر دليلا آخر فيه
التهديد والتوحيد ١٩
الآيات : ١٠ ـ ١٤............................................................. ١٠
فصل في معنى الآية : (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي
معه والطير ...)..... ٢٢
فصل في معنى قوله : (وألنا له الحديد)......................................... ٢٣
فصل في معنى الآية : (أن اعمل سابغات وقدر في السرد ...).................... ٢٤
فصل في معنى الآية : (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر
...)............. ٢٥
فصل في معنى الآية : (وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل
بين يديه بإذن ربه ...) ٢٦
فصل في معنى الآية : (وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا ...)................. ٢٩
فصل في معنى الآية : (فلما قضينا عليه الموت ...).............................. ٣٠
فصل في معنى قوله : (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون
الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) ٣٦
الآيات : ١٥ ـ ١٩............................................................. ٣٧
فصل في معنى «سبأ»........................................................... ٣٨
فصل في معنى الآية : (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم
وبدلناهم بجنتهم جنتين ...) ٤٤
فصل : في العقوبة
يجازي وفي التوبة يجزي.......................................... ٤٧
الآيات : ٢٠ ـ ٢٣............................................................. ٥٠
فصل في معنى الآية : (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا
فريقا من المؤمنين). ٥٢
فصل : قال ابن الخطيب
: إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم............ ٥٣
فصل في معنى الآية : (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له
...)................ ٥٥
فصل في اختلافهم في
الموصوفين بهذه الصفة....................................... ٥٨
الآيات : ٢٤ ـ ٣٠............................................................. ٥٩
فصل في معنى الآية : (قل أروني الذي ألحقتم به شركاء كلا بل
هو الله العزيز الحكيم) ٦٢
فصل في المقصود بالآية
: (وما أرسلناك إلا كافة
للناس بشيرا ونذيرا ...)........... ٦٥
فصل في معنى الآية : (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة
ولا تستقدمون).... ٦٦
الآيات : ٣١ ـ ٣٣............................................................. ٦٧
فصل في معنى الآية : (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن
...)................ ٦٨
فصل في معنى الآية : (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل
مكر الليل والنهار ...) ٧١
الآيات : ٣٤ ـ ٣٩............................................................. ٧٣
فصل في معنى الآية : (والذين يسعون في آياتنا معاجزين ...)..................... ٧٦
فصل في معنى الآية : (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير
الرازقين).......... ٧٧
الآيات : ٤٠ ـ ٤٥............................................................. ٧٨
فصل في معنى الآية : (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء
إياكم كانوا يعبدون) ٧٨
فصل في معنى الآية : (وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا
إليهم قبلك من نذير) ٨٢
الآيات : ٤٦ ـ ٥٠............................................................. ٨٣
فصل في معنى الآية : (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري
إلا على الله ...).. ٨٧
فصل في معنى الآية : (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ...).................. ٨٩
الآيات : ٥١ ـ ٥٤............................................................. ٨٩
فصل في معنى الآية : (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من
مكان بعيد)............. ٩٣
فصل في معنى الآية : (وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من
مكان بعيد)....... ٩٤
سورة
فاطر
الآيات : ١ ـ ٥................................................................ ٩٧
فصل في معنى الآية : (الحمد لله فاطر السماوات والأرض ...)................... ٩٨
فصل في معنى قوله : (جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى
وثلاث ورباع ...).. ١٠٠
فصل في معنى قوله : (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء
والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) ١٠٢
الآيات : ٦ ـ ٩.............................................................. ١٠٣
فصل فيمن نزلت الآية :
(أفمن زين له سوء عمله
فرآه حسنا ...)............... ١٠٥
فصل في المراد بالآية
: (والله الذي أرسل
الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ...) ١٠٨
الآيات : ١٠ ـ ١٤........................................................... ١٠٩
فصل في معنى قوله : (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ...).................. ١١٠
فصل في معنى قوله : (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه ...)........ ١١٠
فصل في معنى قوله : (والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ...)........... ١١٢
فصل في معنى قوله : (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ...)............... ١١٤
فصل في معنى قوله : (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ...)............... ١١٤
فصل في معنى الآية : (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ
شرابه ...)..... ١١٥
فصل في معنى قوله : (وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا
...).......... ١١٦
فصل في معنى الآية : (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون
من دونه ما يملكون من قطمير) ١١٧
الآيات : ١٥ ـ ٢٣........................................................... ١١٩
فصل في إعراب الآية : (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ...).................. ١٢٠
فصل في معنى قوله : (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه
شيء ...)......... ١٢١
فصل في معنى قوله : (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله
المصير ...)........ ١٢٢
فصل في معنى الآيات : (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات
ولا النور ...). ١٢٥
فصل في تفسير الآيات :
(ولا الظل ولا الحرور
وما يستوي الأحياء ولا الأموات ...) ١٢٦
الآيات : ٢٤ ـ ٢٦........................................................... ١٢٦
الآيات : ٢٧ ـ ٣٨........................................................... ١٢٨
فصل في لطائف هذه
الآية : (ألم تر أن الله أنزل
من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ...) ١٣٢
فصل في معنى قوله : (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن
الله عزيز غفور)....... ١٣٥
فصل في معنى قوله : (إن
الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم ...) ١٣٦
فصل في معنى الآية : (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق
مصدقا لما بين يديه ...) ١٣٧
فصل في معنى قوله : (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم
سابق بالخيرات ...) ١٣٨
فصل في معنى قوله : (سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل
الكبير ، جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور ...)............................................................................ ١٤٠
فصل في المراد
بالداخلين....................................................... ١٤١
فصل في معنى الآية : (الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا
يمسنا فيها نصب ...). ١٤٤
فصل في معنى الآية : (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من
عذابها ...).... ٤٦
فصل في معنى الآية : (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ...).................. ١٤٨
الآيات : ٣٩ ـ ٤٣........................................................... ١٥٠
فصل في معنى الآية : (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون
الله أروني ما ذا خلقوا من الأرض ...) ١٥١
فصل في معنى الآية : (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا).................. ١٥٥
فصل في معنى الآية : (استكبارا في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق
المكر السيىء إلا بأهله ...) ١٥٧
فصل في معنى الآية : (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد
لسنة الله تبديلا ...). ١٥٨
الآيتان : ٤٤ ، ٤٥.......................................................... ١٦٠
سورة
يس
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ١٦٢
فصل في ورود حروف
التهجي.................................................. ١٦٥
فصل في ورود «يس»......................................................... ١٦٦
فصل : أقسم بالقرآن
على أن محمدا من المرسلين.................................. ١٦٧
الآيات : ٧ ـ ١٢............................................................. ١٧٠
فصل في معنى قوله : (فأغشيناهم فهم لا يبصرون).............................. ١٧٥
فصل في المراد بقوله :
(إنا نحن نحيي الموتى
...)............................. ١٧٧
فصل في معنى قوله : (ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه
في إمام مبين). ١٧٨
الآيات : ١٣ ـ ١٩........................................................... ١٨٠
فصل في معنى الآية : (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا
بثالث ...).......... ١٨٢
فصل في المقصود بقوله
: (أئن ذكرتم بل أنتم قوم
مسرفون)...................... ١٨٩
الآيات : ٢٠ ـ ٢٧........................................................... ١٩٠
فصل في معنى قوله : (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون).................. ١٩١
فصل في معنى قوله : (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون)................ ١٩٢
فصل في معنى قوله : (أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمن بضر
لا تغني عني ...) ١٩٣
الآيات : ٢٨ ـ ٣٢........................................................... ١٩٧
فصل في معنى قوله : (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من
السماء وما كنا بمنزلين) ١٩٨
فصل في المراد بالآية
: (يا حسرة على العباد
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) ٢٠٣
فصل في معنى الآية : (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ...)................. ٢٠٣
فصل في معنى قوله : (أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع
لدينا محضرون)... ٢٠٧
فصل : لما بين الإهلاك
بين أن من أهلكه ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب. ٢٠٨
الآيات : ٣٣ ـ ٣٦........................................................... ٢٠٩
فصل في تعلق هذه الآية
: (وآية لهم الأرض
الميتة ...) بما قبلها................. ٢١١
فصل في معنى قوله : (أحييناها وأخرجنا منها حبا ...).......................... ٢١٢
فصل في معنى الآية : (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا
يشكرون).......... ٢١٥
الآيات : ٣٧ ـ ٤٠........................................................... ٢١٥
فصل في المراد ب «المستقر»................................................... ٢١٧
فصل في معنى «فلك»......................................................... ٢٢٢
فصل في معنى قوله «يسبحون»................................................. ٢٢٣
الآيات : ٤١ ـ ٤٤........................................................... ٢٢٤
فصل في المراد بالآية
: (وآية لهم أنا حملنا
ذريتهم في الفلك المشحون).......... ٢٢٥
فصل في الحكمة في قوله
: (وآية لهم)......................................... ٢٢٩
فصل في فائدة قوله : (وإن نشأ نغرقهم)....................................... ٢٣٠
فصل في معنى الآية : (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم
ينقذون)........... ٢٣٠
الآيات : ٤٥ ـ ٤٧........................................................... ٢٣٢
فصل في معنى قوله : (أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا
للذين آمنوا ...)..... ٢٣٣
فصل في ورود «إن».......................................................... ٢٣٤
فصل في المقصود بقوله
: (إن أنتم)........................................... ٢٣٥
فصل في وصف المؤمنين
بأنهم في ضلال مبين..................................... ٢٣٥
الآيات : ٤٨ ـ ٥٤........................................................... ٢٣٦
فصل في معنى «إن» و «متى».................................................. ٢٣٦
فصل في المقصود بقوله
: (متى هذا الوعد إن
كنتم صادقين)..................... ٢٣٦
فصل في ذكر أمور تدل
على عظم الصيحة...................................... ٢٣٧
فصل في معنى قوله : (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم
يرجعون)............. ٢٣٨
فصل في معنى قوله : (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى
ربهم ينسلون)... ٢٤١
الآيات : ٥٥ ـ ٥٩........................................................... ٢٤٣
فصل في اختلافهم في «الشغل»................................................ ٢٤٤
فصل في معنى قوله : (على الأرائك متكئون ، لهم فيها فاكهة
ولهم ما يدعون).... ٢٤٦
فصل في المراد بقوله :
«سلام»................................................. ٢٤٨
فصل في معنى قوله : (سلام قولا من رب رحيم)................................ ٢٤٩
فصل في معنى الآية : (وامتازوا اليوم أيها المجرمون)............................ ٢٤٩
الآيات : ٦٠ ـ ٦٨........................................................... ٢٥٠
فصل في معنى الآية : (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان ..)...... ٢٥٢
فصل في كيفية الإضلال....................................................... ٢٥٣
فصل في ترتيب هذه
الآيات.................................................... ٢٥٥
فصل في معنى قوله : (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا
الصراط فأنى يبصرون) ٢٥٨
فصل في معنى قوله : (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)................ ٢٥٨
الآيتان : ٦٩ ، ٧٠.......................................................... ٢٥٨
فصل في معنى قوله : (لينذر من كان حيا ويحق القول على
الكافرين)............. ٢٦١
الآيات : ٧١ ـ ٧٦........................................................... ٢٦٢
فصل في معنى قوله : (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون).................. ٢٦٣
الآيات : ٧٧ ـ ٨٣........................................................... ٢٦٤
فصل في معنى قوله : (ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم).............. ٢٦٤
فصل : في هذه الآيات
إشارة إلى بيان الحشر..................................... ٢٦٥
فصل في معنى الآية : (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا
أنتم منه توقدون) ٢٦٧
سورة
الصافات
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٢٧٠
فصل في معنى الصافات........................................................ ٢٧٢
فصل : قال أبو مسلم
الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة........... ٢٧٣
فصل : اختلف الناس في
المقسم به على قولين.................................... ٢٧٣
فصل في دلالة قوله
تعالى : (رب السماوات والأرض
وما بينهما) على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد ٢٧٥
الآيات : ٦ ـ ١١............................................................. ٢٧٥
فصل في معنى قوله : (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب)..................... ٢٧٧
فصل في معنى الآية : (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من
كل جانب)..... ٢٨٠
فصل في معنى الآية : (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب)................ ٢٨٣
فصل في وجه النظم في
الآية : (فاستفتهم أهم أشد
خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب) ٢٨٤
الآيات : ١٢ ـ ١٨........................................................... ٢٨٥
فصل في أن القوم كانوا
يستبعدون الحشر والقيامة.................................. ٢٨٧
الآيات : ١٩ ـ ٢٦........................................................... ٢٩٠
فصل في معنى «هي»......................................................... ٢٩٠
فصل في دلالة الآية : (فإنما هي زجرة واحدة) على أحوال القيامة................ ٢٩١
فصل : المراد بالأزواج
أشباههم وأمثالهم وأتباعهم.................................. ٢٨٣
الآيات : ٢٧ ـ ٣٧........................................................... ٢٩٥
الآيات : ٣٨ ـ ٤٩........................................................... ٢٩٧
الآيات : ٥٠ ـ ٦١........................................................... ٣٠٥
فصل في معنى قوله : (قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء
الجحيم)........ ٣٠٦
فصل في معنى الآية : (قال تالله إن كدت لتردين)............................... ٣١١
الآيات : ٦٢ ـ ٧١........................................................... ٣١٢
فصل في معنى قوله : (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ، إنا
جعلناها فتنة للظالمين). ٣١٣
الآيات : ٧٢ ـ ٧٤........................................................... ٣١٧
الآيات : ٧٥ ـ ٨٢........................................................... ٣٢٨
فصل في معنى الآية : (سلام على نوح في العالمين)............................ ٣٢٠
الآيات : ٨٣ ـ ١٠٠......................................................... ٣٢٠
فصل في معنى قوله : (إذ جاء ربه بقلب سليم ، إذ قال لأبيه وقومه ما ذا تعبدون).. ٣٢٢
فصل في دلالة الآية : (والله خلقكم وما تعملون) على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ٣٢٧
الآيات : ١٠١ ـ ١١١........................................................ ٣٢٩
فصل في معنى الآية : (فلما
بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ...) ٣٣٠
فصل في اختلاف الناس
في أن إبراهيم عليهالسلام كان مأمورا بهذا........................ ٣٣٣
فصل في احتجاجهم بهذه
الآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه.............. ٣٣٤
فصل في الحكمة في ورود
هذا التكليف في النوم لا في اليقظة........................ ٣٣٤
فصل في الحكمة في
مشاورة الابن............................................... ٣٣٤
فصل في معنى الآية : (فلما أسلما وتله للجبين)................................ ٣٣٦
الآيتان : ١١٢ ، ١١٣....................................................... ٣٣٧
الآيات : ١١٤ ـ ١٢٢........................................................ ٣٣٨
فصل في معنى قوله : (ونصرناهم فكانوا الغالبين ، وآتيناهما
الكتاب المستبين).... ٣٣٨
الآيات : ١٢٣ ـ ١٣٢........................................................ ٣٣٩
فصل في معنى قوله : (وإن إلياس لمن المرسلين ، إذ قال لقومه
ألا تتقون ...).... ٣٤١
الآيات : ١٣٣ ـ ١٤٨........................................................ ٣٤٣
فصل في معنى قوله : (إذ أبق إلى الفلك المشحون ، فساهم فكان
من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم) ٣٤٤
فصل فير سرد قصة يونس
عليه الصلاة والسلام................................... ٣٥٤
فصل في معنى قوله : (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)....................... ٣٤٨
الآيات : ١٤٩ ـ ١٦٠........................................................ ٣٤٩
الآيات : ١٦١ ـ ١٧٠........................................................ ٣٥٣
فصل في معنى قوله : (فإنكم وما تعبدون ، ما أنتم عليه
بفاتنين ...).............. ٣٥٦
فصل في معنى قوله : (وما منا إلا له مقام معلوم)............................... ٢٥٧
الآيات : ١٧١ ـ ١٨٢........................................................ ٣٥٨
فصل في دلالة : (رب العزة) على كمال القدرة الإلهية........................... ٣٦٠
سورة
ص
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٣٦٢
فصل في تفسير «ص»........................................................ ٣٦٣
فصل في دلالة قوله : (ذي الذكر) على أنه محدث.............................. ٣٦٦
فصل في معنى قوله : (بل الذين كفروا في عزة وشقاق ...)...................... ٣٦٦
الآيات : ٤ ـ ١١............................................................. ٣٦٧
فصل في معنى الآية : (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال
الكافرون هذا ساحر كذاب) ٣٧٧
فصل في معنى الآية : (إن هذا لشيء يراد ، وما سمعنا بهذا في
الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) ٣٧٨
فصل في معنى الآية : (أنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك
من ذكري ...).... ٣٧٩
فصل في معنى الآية : (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب)...................... ٣٨٢
الآيات : ١٢ ـ ١٧........................................................... ٣٨٢
فصل في معنى الآية : (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب)..................... ٣٨٤
فصل في معنى الآية : (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها
من فواق)......... ٣٨٥
فصل في معنى الآية : (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم
الحساب)............... ٣٨٨
الآيات : ١٨ ـ ٢٦........................................................... ٣٩٠
فصل في معنى الآية : (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي
والإشراق).......... ٣٩١
فصل : قال ابن الخطيب
: للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال........................ ٣٩٨
فصل في معنى قوله : (أكفلنيها وعزني في الخطاب ، قال لقد
ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ...) ٤٠٦
فصل في معنى قوله : (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر
راكعا وأناب)........ ٤٠٧
الآيات : ٢٧ ـ ٢٩........................................................... ٤١٠
فصل في معنى الآية : (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما
باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) ٤١١
الآيات : ٣٠ ـ ٤٠........................................................... ٤١٢
فصل في معنى الآية : (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب)................. ٤١٣
فصل في معنى قوله : (ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق)............... ٤١٨
فصل في دلالة الآيات
على أن للشياطين قوة عظيمة.............................. ٤٢٥
فصل في معنى قوله : (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)................. ٤٢٦
الآيات : ٤١ ـ ٤٤........................................................... ٤٢٦
فصل في المراد بالآية
: (واذكر عبدنا أيوب ...)................................ ٤٢٧
فصل في معنى الآية : (إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب
وعذاب).......... ٤٢٨
فصل في معنى الآية : (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا
وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) ٤٣١
الآيات : ٤٥ ـ ٤٨........................................................... ٤٣٢
فصل في معنى قوله : (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وإنهم
عندنا لمن المصطفين الأخيار) ٤٣٥
الآيات : ٤٩ ـ ٥٤........................................................... ٤٣٥
فصل في وصف أحوال أهل
الجنة............................................... ٤٣٨
الآيات : ٥٥ ـ ٦٤........................................................... ٤٣٩
فصل في وصف عقاب
الظالمين بعد وصف ثواب المؤمنين........................... ٤٣٩
فصل في معنى قوله : (فليذوقوه حميم وغساق)................................ ٤٤٢
فصل في معنى الآية : (أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار)................ ٤٤٨
الآيات : ٦٥ ـ ٦٨........................................................... ٤٥٠
الآيات : ٦٩ ـ ٨٥........................................................... ٤٥١
فصل في أن المقصود
بهذه القصة المنع من الحسد والكبر............................ ٤٥٣
فصل في معنى قوله : (أستكبرت أم كنت من العالين ، قال أنا
خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ٤٥٦
فصل في معنى الآية :
(لأملأن جهنم منك وممن
تبعك منهم أجمعين)............ ٤٦٢
الآيات : ٨٦ ـ ٨٨........................................................... ٤٦٢
سورة
الزمر
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٤٦٤
فصل في احتجاج
القائلين بخلق القرآن بأن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا.. ٤٦٦
فصل في أن المراد
بإخلاص الدين : الطاعة....................................... ٤٦٨
فصل في معنى قوله : (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله ...) ٤٧٠
الآيات : ٤ ـ ٩.............................................................. ٤٧٢
فصل في أن الحالة
المشتركة بين الإنسان وبين الأنعام هي كونها مخلوقة في بطون الأمهات ٤٧٦
فصل في دلالة قوله : (له الملك لا إله إلا هو) على كمال قدرته وحكمته......... ٤٧٧
فصل في معنى قوله : (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا ...)..................... ٤٨٤
الآية : ١٠.................................................................. ٤٨٥
فصل في معنى قوله : (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم
للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ...) ٤٨٦
الآيات : ١١ ـ ١٨........................................................... ٤٤٨
فصل في معنى الآية : (وأمرت لأن أكون أول المسلمين)....................... ٤٨٩
فصل في معنى الآية : (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا
إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي) ٤٩٢
الآيتان : ١٩ ، ٢٠.......................................................... ٤٩٤
فصل في معنى الآية : (أفمن حق عليه كلمة العذاب ...)........................ ٤٩٥
فصل في احتجاج أهل
السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال................... ٤٩٥
فصل في احتجاج القاضي
بهذه الآية على أن النبي صلىاللهعليهوسلم لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب ٤٩٦
الآيتان : ٢١ ، ٢٢.......................................................... ٤٩٧
فصل في معنى قوله : (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور
من ربه ...)... ٤٩٨
الآيات : ٢٣ ـ ٢٦........................................................... ٤٩٩
فصل في معنى قوله : (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ...)................ ٥٠٠
فصل في معنى قوله : (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ...)................ ٥٠٣
فصل في معنى قوله : (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ...)............... ٥٠٤
الآيات : ٢٧ ـ ٢٩........................................................... ٥٠٦
فصل في معنى وصف
القرآن في هذه الآية : (قرآنا عربيا غير ذي
عوج لعلهم يتقون) ٥٠٧
فصل في معنى قوله : (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون
...)........... ٥١٠
الآيات : ٣٠ ـ ٣٧........................................................... ٥١١
فصل في معنى قوله : (إنك ميت وإنهم ميتون ، ثم إنكم يوم
القيامة عند ربكم تختصمون) ٥١٢
فصل في معنى قوله : (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم
المتقون)........ ٥١٤
فصل في معنى قوله : (لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء
المحسنين)............ ٥١٥
فصل في معنى قوله : (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من
دونه)......... ٥١٦
فصل في احتجاج أهل
السنة بالآية : (ومن يضلل الله فما له
من هاد)
على مسألة خلق الأعمال ٥١٧
الآية : ٣٨.................................................................. ٥١٧
الآيتان : ٣٩ ، ٤٠.......................................................... ٥١٨
الآيات : ٤١ ـ ٤٥........................................................... ٥١٩
فصل في معنى قوله : (الله يتوفى الأنفس حين موتها ...)........................ ٥٢٠
الآيات : ٤٦ ـ ٥٢........................................................... ٥٢٣
الآيات : ٥٣ ـ ٦١........................................................... ٥٢٧
فصل في سبب نزول الآية
: (قل يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم ...)........ ٥٢٧
فصل في دلالة هذه
الآية على أن الله تعالى يعفو عن الكبائر........................ ٥٢٨
فصل في معنى قوله : (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في
جنب الله ...).. ٥٣٣
الآيات : ٦٢ ـ ٦٦........................................................... ٥٣٧
الآيات : ٦٧ ـ ٧٥........................................................... ٥٤٣
فصل في معنى قوله : (وما قدروا الله حق قدره ...)............................. ٥٤٥
فصل في معنى قوله : (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ...)............ ٥٤٦
فصل في اختلافهم في
الصعقة.................................................. ٥٤٨
فصل في معنى الآية : (وأشرقت الأرض بنور ربها ...).......................... ٥٥٠
فصل في معنى قوله : (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ...).................... ٥٥٢
فصل في معنى قوله : (وترى الملائكة حافين من حول العرش ...)............... ٥٥٦
|